ﰡ
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز العقلي ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أسند الهداية للقرآن وهو من الإِسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله ربُّ العالمين ففيه مجاز عقلي.
٢ - الإِشارة بالبعيد عن القريب ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ للإِيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال، فنُزِّل بُعْد المرتبة منزلة البعد الحسي.
٣ - تكرير الإِشارة ﴿أولئك على هُدًى﴾ ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ للعناية بشأن المتقين، وجيء بالضمير ﴿هُمُ﴾ ليفيد الحصر كأنه قال: هم المفلحون لا غيرهم.
٤ - التيئيس من إيمان الكفار ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فالجملة سيقت للتنبيه على غلوهم في الكفر والطغيان، وعدم استعدادهم للإِيمان، ففيها تيئيس وإِقناط من إِيمانهم.
التفسِير: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي إن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي يتساوى عندهم ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد بن عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن تكذيب قوله له... ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإيمان فقال ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه قال أبو حيان: شبَّه تعالى قلوبهم لتأبيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت - مع صحتها وقوة إدراكها - ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.
اللغَة: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ الخِداع: المكر والاحتيال وإِظهار خلاف الباطن، وأصله الإِخفاء ومنه سُمي الدهرُ خادعاً لما يخفي من غوائله، وسُمي المِخْدع مِخْدعاً لتستر أصحاب المنزل فيه ﴿مَّرَضٌ﴾ المرض: السُّقْم وهو ضد الصحة وقد يكون حسياً كمرض الجسم، أو معنوياً كمرض النفاق ومرض الحسد والرياء، قال ابن فارس: المرضُ كلُّ ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علةٍ، أو نفاق: أو تقصير في أمر ﴿تُفْسِدُواْ﴾ الفساد: العدول عن الاستقامة وهو ضد الصلاح ﴿السفهآء﴾ جمع سفيه وهو الجاهل، الضعيف الرأي، القليل المعرفة، بمواضع المنافع والمضار، وأصل السَّفه، الخِفَّة، والسفيه: الخيف العقل قال علماء اللغة: السَّفه خفةٌ وسخافة رأى يقتضيان نقصان العقل، والحِلْمُ يقابله ﴿طُغْيَانِهِمْ﴾ الطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء ومنه ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء﴾ [الحاقة: ١١] أي ارتفع وعلا وجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد ﴿يَعْمَهُونَ﴾ العَمَة: التحير والتردُّد في الشيء يقال: عَمِه يَعْمَه فهو عَمِه قال رؤبة: «أعمى الهدى بالحائرين العُمَّه» قال الفخر الرازي: العَمَهُ مثل العمى، إِلا أَن العَمَى عام في البصر والرأي، والعَمَه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه ﴿اشتروا﴾ حقيقة الاشتراء: الاستبدال، وأصله بذل الثمن لتحصيل الشيء المطلوب، والعرب تقول لمن استبدل شيئاً بشيء اشتراه قال الشاعر:
فإِن تزعميني كنتُ أجهلُ فيكم | فإِني اشتريتُ الحلمَ بعدِك بالجهل |
إِذا سقط السماء بأرضِ قومٍ | رعيناه وإِن كانوا غِضابا |
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم «عبد الله بن أُبي ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس» كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون: إنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته.
التفسير: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله﴾ أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات ﴿وباليوم الآخر﴾ أي وصدَّقنا بالبعث والنشور ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين، لأنهم يقولون ذلك قولاً دون اعتقاد، وكلاماً دون تصديق قال البيضاوي: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله، لأنّهم موَّهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاء، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم، واستهزأ بهم وتهكَّم بأفعالهم، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان، وضرب لهم الأمثال ﴿يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا﴾ أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما عملوا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية قال ابن كثير: النفاق هو إظهار الخير، وإِسرارُ الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه، وسرُّه علانيته، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم﴾ أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أنفسهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي ولا يُحسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجساً فوق رجسهم، وضلالاً فوق ضلالهم، والجملةُ دعائية قال ابن أسلم: هذا مرضٌ في الدين، وليس مرضاً في الجسد، وهو الشك الذي دخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجساً وشكاً ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن.. ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال {وَإِذَا قِيلَ
أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إلى مصانعتهم ونفاقهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ أي وإِذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق ﴿قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان، قال تعالى رداً عليهم ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣] قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف، وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ومثل ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] فالأول ظلم والثاني عدل ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردّدون حيارى، لا يجدون إِلى ويزيدهم - منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أي استبدلوا الكفر بالإيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها
. فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةً على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير، ولا يعرفون طريق النجاة ﴿صُمٌّ﴾ أي هم كالصم لا يسمعون خيراً ﴿بُكْمٌ﴾ أي كالخرص لا يتكلمون بما ينفعهم ﴿عُمْيٌ﴾ أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يرجعون عما هم فيه من الغي والضلال، ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادة في الكشف والإِيضاح فقال ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي وإذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم.. وفي هذا تصوير لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة وإِذا خفي وفتر لمعانة وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعمارهم وذهب بأبصارهم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء قال ابن جرير: إنما
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
أولاً: المبالغة في التكذيب لهم ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ كان الأصل أن يقول: «وما آمنوا» ليطابق قوله من يقول «آمنا» ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم لإِخراج ذواتهم من عداد المؤمنين وأكده بالباء للمبالغة في نفي الإِيمان عنهم.
ثانياً: الاستعارة التمثيلية ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ شبَّه حالهم مع ربهم في إِظهار الإِيمان وإِخفاء الكفر بحال رعيةٍ تخادع سلطانهم واستعير اسم المشبَّه به للمشبه بطريق الاستعارة.
ثالثاً: صيغة القصر ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وهذا من نوع «قصر الموصوف على الصفة» أي نحن مصلحون ليس إِلاَّ.
رابعاً: الكناية اللطيفة ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ المرضُ في الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فسادٌ للبدن، والنفاق فساد للقلب.
خامساً: تنويع التأكيد ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون﴾ جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات ﴿ألا﴾ التي تفيد التنبيه، و ﴿إِنَّ﴾ التي هي للتأكيد، وضمير الفصل ﴿هُمُ﴾ ثم تعريف الخبر ﴿المفسدون﴾ ومثلها في التأكيد ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء﴾ وهذا ردٌّ من الله تعالى عليهم بأبلغ ردٌّ وأحكمه.
سادساً: المشاكلة ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ سمَّى الجزاء على الاستهزاء استهزاءً بطريق المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى.
سابعاً: الاستعارة التصريحية ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ المراد استبدلوا الغيَّ بالرشاد، والكفر بالإِيمان فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحاً بقوله ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ وهذا هو الترشيح الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا.
ثامنا: التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ وكذلك ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ شبه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإِظهاره الإِيمان بالإِضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وفي المثال الثاني شبَّه الإِسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبَّه شبهات الكفار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد والبرق.. الخ.
عاشراً: المجار المرسل ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم﴾ وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء أي رؤوس أصابعهم لأن دخول الأصبع كلها في الأذن لا يمكن.
الحادي عشر: توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهذا له وقع في الأذن حسن، وأثر في النفس رائع مثل ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية.
الفوَائِد: الأولى: الغاية من ضرب المثل: تقريب البعيد، وتوضيح الغامض حتى يصبح كالأمر المشاهد المحسوس، وللأمثال تأثير عجيب في النفس
﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣].
الثانية: وصف تعالى المنافقين في هذه الآيات بعشرة أوصاف كلها شنيعة وقبيحة تدل على رسوخهم في الضلال وهي (الكذب، الخداع، المكر، السَّفه، الاستهزاء الإِفساد في الأرض، الجهل، الضلال، التذبذب، السخرية بالمؤمنين) أعاذنا الله من صفات المنافقين.
الثالثة: حكمة كفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن قتل المنافقين مع أنهم كفار وعلمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأعيان بعضهم ما أخرجه البخاري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعمر: «أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه) ».
لطيفَة: قال العلامة ابن القيم: تأمل قوله تعالى ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل: «ذهب الله بنارهم» مع أنه مقتضى السياق ليطابق أول الآية ﴿استوقد نَاراً﴾ فإِِن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب الله بما فيها من الإِشراق وهو «النور» وأبقى ما فيها من الإِحراق وهو «النارية» ! ﴿وتأمل كيف قال {بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل بضوئهم، لأن الضوء زيادةٌ في النور، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل} ! وتأمل كيف قال ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ فوحَّد النور ثم قال ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ فجمعها، فإِن الحقَّ واحد هو صراط الله المستقيم، الذي لا صراط يوصل سواه، بخلاف طُرُق الباطل فإِنها متعددة ومتشعبة، ولهذا أفرد سبحانه «الحقَ» وجمع «الباطل» في آيات عديدة مثل قوله تعالى ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور﴾ [المائدة: ١٦] وقوله ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] وقوله ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] فجمع سبل الباطل ووحَّد سبيل الحق.
اللغَة: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ الخلق: الإِيجاد والاختراع بلا مثال، وأصله في اللغة التقدير يقال: خَلَق النعل إذا قدَّرها وسوَّاها بالمقياس، وخلق الأديمَ للسقاء إذا قدَّره قال الحجاج ما خلقتُ إِلا فريتُ، ولا وعدتُ إِلا وفيتُ «أي ما قدرت شيئاً إِلا أمضيته، ولا وعدت بشيء إِلا وفيت به. ﴿فِرَاشاً﴾ الفراش: الوطاءُ والمهاد الذي يقعد عليه الإِنسان وينام ﴿بِنَآءً﴾ البناء: ما يُبنى من قبةٍ أو خباءٍ أو بيت ﴿أَندَاداً﴾ جمع نِدّ وهو الكفء والمثيل والنظير ومنه قول علماء التوحيد» ليس للهِ نِدٌّ ولا ضِدّ «قال حسان:
أتهجوه ولستَ له بندٍّ | فشرُّكهما لخيركما الفِداء |
التفِسير: يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم
ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ أي وإِذا كنتم أيها الناس في شك وارتياب من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله﴾ أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه، والمراد استعينوا بمن شئتم غيره تعالى قال البيضاوي: المعنى أدعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ سُبحانه وتعالى، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي أنه مختلق وأنه من كلام البشر، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء {
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قال مجاهد: حجارةٌ من كبريت أنتن من الجيفة يعذبون بها مع النار ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين، ينالون فيها ألوان العذاب المهين.
ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين، الذين كانوا في الدنيا محسنين، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً﴾ أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا رزقاً من ثمار الجنة ﴿قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي هذا مثلُ الطعام الي قُدِّم إلينا قبل هذه المرة قال المفسرون: إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها، تأتيهم به الملائكة، فإِِذا قُدّم لهم مرة ثانية قالوا: هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة: كلْ يا عبد الله فاللونٌ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ أي متشابهاً في الشكل والمنظر، لا في الطعم والمَخْبر قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأة وليس يشبهه في الطعم قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية قال ابن عباس: مطهَّرة من القذر والأذى وقال مجاهد: مطهَّرة من الحيض والنفاس، والغائط والبول والنخام، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً﴾ [الواقعة: ٣٥ - ٣٧] ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون، وهذا هو تمام السعادة، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع.
٢ - الإِضافة ﴿على عَبْدِنَا﴾ للتشريف والتخصيص، وهذا أشرف وصفٍ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
٣ - التعجيز ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ﴾ خرج الأمر عن صيغته إِلى معنى التعجيز، وتنكيرُ السور لإِرادة العموم والشمول.
٤ - المقابلة اللطيفة ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً﴾ فقد قابل بين الأرض والسماء، والفراش والبناء، وهذا من المحسنات البديعية.
٥ - الجملة الاعتراضية ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ لبيان التحدي في الماضي والمستقبل وبيان العجز التام في جميع العصور والأزمان.
٦ - الإيجاز البديع بذكر الكناية ﴿فاتقوا النار﴾ أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن.
اللغَةَ: ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ الحياء: تغير وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يعاب به ويذم، والمراد به هنا لازمه وهو الترك، قال الزمخشري: أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي
سَبَبُ النزّول: لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.
التفسِير: يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا﴾ أي إن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيُّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيراً ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله ﴿وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ ؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ قال تعالى في الرد عليهم ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به، فيزيد أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته، ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإيمان، وإثارة الشبهات
ثم ذكر تعالى برهاناً على البعث فقال ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ أي ثم وجّه إرادته إلى السماء ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات﴾ أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك - وهي أعظم منكم - قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.
البَلاَغَة: ١ - قوله ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ مجاز من باب إِطلاق الملزوم وإِرادة اللازم، والمعنى: لا يترك فعبّر بالحياء عن الترك، لأن الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه.
٢ - قوله ﴿يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ فيه (استعارة مكنية) حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية.
٣ - قوله ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ هو من باب (الالتفات) للتوبيخ والتقريع، فقد كان الكلام بصيغة الغيبة ثم التفت فخاطبهم بصيغة الحضور، وهو ضرب من ضروب البديع.
٤ - قوله ﴿عَلِيمٌ﴾ من صيغ المبالغة، ومعناه الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء، قال أبو حيان: وصف تعالى نفسه ب (عالم وعليم وعلام) وهذان للمبالغة، وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في (علامة) ولا يجوز وصفه به تعالى.
الفوَائِد: الأولى: قال الزمخشري: التمثيل إِنما يصار إِليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إِلا أمراً تستدعيه حال المتمثل له، ألا ترى إِلى الحق لما كان أبلج واضحاً جلياً، كيف تمثَّل له بالضياء والنور؟ وإِلى الباطل لما كان بضد صفته كيف تمثّل له بالظلمة؟ ولما كان حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى ليس أحقر منها وأقل، لذلك ضرب لها المثل ببيت العنكبوت في الضعف والوهن ﴿كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً﴾ [العنكبوت: ٤١] وجعلت أقل من الذباب وأخسَّ قدراً ﴿لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: ٧٣] والعجبُ منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور، والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم سائرة في حواضرهم وبواديهم.
الثالثة: قال ابن جزي في التسهيل: وهذه الآية ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله تعالى ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما أن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر تكون ﴿ثُمَّ﴾ لترتيب الأخبار.
اللغَة: ﴿وَإِذْ﴾ ظرف زمان منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر حين أو اذكر وقت، وقد يصرح بالمحذوف كقوله تعالى: ﴿واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: ٢٦] قال المبرد: إذا جاء «إِذْ» مع مستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾ [الأنفال: ٣٠] معناه إِذْ مكروا، وإِذا جاء «إِذا» مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى﴾ [النازعات: ٣٤] و ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله﴾ [النصر: ١] أي يجيء. ﴿خَلِيفَةً﴾ الخليفة: من يخلف غيره وينوب منابه، فعيل بمعنى فاعل والتاء للمبالغة، سمي خليفة لأنه مستخلف عن الله عَزَّ وَجَلَّ في إجراء الأحكام وتنفيذ الأوامر الربانية قال تعالى ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ [ص: ٢٦] الآية ﴿وَيَسْفِكُ﴾ السفك: الصب والإِراقة لا يستعمل إِلا في الدم قال في المصباح: وسفك الدم: أراقة وبابه ضرب ﴿نُسَبِّحُ﴾ التسبيح: تنزيه الله وتبرئته
التفِسير: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي ﴿وَيَسْفِكُ الدمآء﴾ أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي نعظم أمرك ونطهرّ ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون ﴿قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ أي أسماء المسمّيات كلها قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة ﴿عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة﴾ أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي﴾ أي أخبروني ﴿بِأَسْمَآءِ هؤلاء﴾ أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في زعمكم أنكم الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ أي ننزهك يا ألله عن النقص ونحن لا علم لنا إلا ما علمتنا إِياه ﴿الحكيم﴾ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ﴿قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها ﴿فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض﴾ أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السماوات والأرض عنكم ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي ما تظهرون ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم، روي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام، رأت الملائكة فطرته العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه منه.
٢ - الأمر في قوله تعالى ﴿أَنْبِئُونِي﴾ خرج عن حقيقته إِلى التعجيز والتبكيت.
٣ - ﴿فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ فيه مجاز بالحذف والتقدير: فأنبأهم بها فلما أنبأهم حذف لفهم المعنى.
٤ - ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ هو من باب التغليب لأن الميم علامة الجمع للعقلاء الذكور، ولو لم يغلّب لقال ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ أو عرضهن.
٥ - إِبراز الفعل في قوله ﴿إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات﴾ ثم قال ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ للإِهتمام بالخبر والتنبيه على إِحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، ويسمى هذا بالإِطناب.
٦ - تضمنت آخر هذه الآية من علم البديع ما يسمى ب «الطباق» وذلك في كلمتي ﴿تُبْدُونَ﴾ و ﴿تَكْتُمُونَ﴾.
الفوَائِد: الأولى: قال بعض العلماء: في إِخبار الله تعالى للملائكة عن خلق آدم واستخلافه في الأرض، تعليمٌ لعباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها.
الثانية: الحكمة من جعل آدم عليه السلام خليفة هي الرحمة بالعباد - لا لافتقار الله - وذلك أن العباد لا طاقة لهم على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة، ولا بواسطة مَلَك، فمن رحمته ولطفه وإِحسانه إِرسال الرسل من البشر.
الثالثة: قال الحافظ ابن كثير: وقول الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ الآية ليس هذا على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، وإِنما هو سؤال استعلام واستكشاف عين الحكمة في ذلك، يقولون: ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض؟ وقال في التسهيل: وإِنما علمت الملائكة أن بني آدم يفسدون بإِعلام الله إِياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنٌ فأفسدوا، فبعث الله إِليهم ملائكة فقتلتهم، فقاس الملائكة بني آدم عليهم.
الرابعة: سئل الشعبي: هل لإِبليس زوجة؟ قال: ذلك عرسٌ لم أشهده؟ قال: ثم قرأتُ قوله تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي﴾ [الكهف: ٥٠] فعلمت أنه لا يكون له ذرية إِلا من زوجة، فقلت: نعم.
اللغَة: ﴿اسجدوا﴾ أصل السجود: الانحناء لمن يُسجد له والتعظيم، وهو في اللغة: التذلل والخضوع، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض ﴿إِبْلِيسَ﴾ اسم للشيطان وهو أعجمي، وقيل إنه مشتق من الإِبلاس وهو الإياس ﴿أبى﴾ امتنع، والإِباء: الامتناع مع التمكن من الفعل ﴿واستكبر﴾ الاستكبار: التكبر والتعاظم في النفس ﴿رَغَداً﴾ واسعاً كثيراً لا عناء فيه، والرغد: سعة العيش، يقال: رغد عيش القوم إِذا كانوا في رزقٍ واسع قال الشاعر:
بينما المرء تراه ناعماً | يأمن الأحداث في عيشٍ رغد |
التفِسير: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة ﴿اسجدوا لأَدَمَ﴾ أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ أي سجدوا جميعاً له غير إبليس ﴿أبى واستكبر﴾ أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم ﴿وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ أي أسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾ أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ أي لا تأكلا من هذه الشجرة قال ابن عباس: هي الكرمة ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ أي فتصيروا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله {
﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٦] ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ﴾ أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم ﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي استقبل آدم دعوات من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الآية: ٢٣] الآية ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ أي قبل ربه توبته ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ أي إِن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد ﴿قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ أي من آمن بي وعمل بطاعتي ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة ﴿والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.
البَلاَغة: أولاً: صيغة الجمع ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ للتعظيم، وهي معطوفة على قوله ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ [البقرة: ٣٠] وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم لتربية وإظهار الجلالة.
ثانياً: أفادت الفاء في قوله ﴿فَسَجَدُواْ﴾ أنهم سارعوا في الامتثال ولم يتثبطوا فيه، وفي الآية إيجاز بالحذف أي فسجدوا له وكذلك ﴿أبى﴾ مفعوله محذوف أي أبى السجود.
ثالثاً: قوله ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ المنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهي بالقرب منها ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ لقصد المبالغة في النهي عن الأكل، إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ كقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٣٢] فنهى عن القرب من الزنى ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه.
رابعاً: التعبير بقوله ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات مما لو قيل: من النعيم أو الجنة، فإن من أساليب البلاغة في الدولة على عظم الشيء أن يعبّر عنه بلفظ مبهم نحو ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ لتذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إِليه.
خامساً: ﴿التواب الرحيم﴾ من صيغ المبالغة أي كثير التوبة واسع الرحمة.
الفوَائِد: الأولى: كيف يصح السجود لغير الله؟ والجواب أن سجود الملائكة لآدم كان للتحية وكان سجود تعظيم وتكريم لا سجود صلاةٍ وعبادة، قال الزمخشري: السجود لله تعالى على سبيل
الثانية: قال بعض العارفين: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحط عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإِخراج من دار الكرامة لم تخرجه عن حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية فقال
﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ﴾ [طه: ١٢٢] وقال الشاعر:
وإِذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ | جاءت محاسنة بألف شفيع |
اللغَة: اسم أعجمي ومعناه: عبد الله وهو اسم ﴿يعقوب﴾ عليه السلام، وقد
التفسير: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي﴾ أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ أي اخشوني دون غيري ﴿وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ﴾ من القرآن العظيم ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة ﴿وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية ﴿وَإِيَّايَ فاتقون﴾ أي خافون دون غيري ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾ أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالهتان الذي تفترونه ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه السلام ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين﴾ أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه السلام.
البَلاَغة: أولاً: في إِضافة النعمة إِليه سبحانه ﴿نِعْمَتِيَ﴾ إِشارة إِلى عظم قدرها، وسعة بِرّها، وحسن موقعها لأن الإِضافة تفيد التشريف كقوله ﴿بَيتُ الله﴾ و ﴿نَاقَةُ الله﴾ [الأعراف: ٧٣].
ثانياً قوله ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي﴾ الشراء هنا ليس حقيقياً بل هو على سبيل الاستعارة كما تقدم في قوله ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ [البقرة: ١٦].
ثالثاً: تكرير الحق في قوله ﴿تَلْبِسُواْ الحق﴾ وقوله ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح ما ليس في الضمير من التأكيد ويسمى هذا الإِطناب أضعف من سواه.
رابعاً: قوله ﴿واركعوا مَعَ الراكعين﴾ هو من باب تسمية الكل باسم الجزء أي صلوا مع المصلين أطلق الركوع وأراد به الصلاة ففيه مجاز مرسل.
خامساً: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ و ﴿وَإِيَّايَ فاتقون﴾ يفيد الاختصاص.
فَائِدَة: قال بعض العارفين: عبيد النّعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إِسرائيل بنعمه عليهم، حتى يعرفوا نعمة المنعم فقال ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ وأما أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إِلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.
سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.
التفِسير: يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر﴾ أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإيمان بمحمد ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب﴾ أي حال كونكم تقرءون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه السلام ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تفطنون وتفقهون أن ذلك قبيح فترجعون عنه؟! ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال {
ثانياً: أتى بالمضارع ﴿أَتَأْمُرُونَ﴾ وإِن كان قد وقع ذلك منهم لأن صيغة المضارع تفيد التجدد والحدوث، وعبّر عن ترك فعلهم بالنسيان ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ مبالغة في الترك فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلقه بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة، ولا يخفى ما في الجملة الحالية ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب﴾ من التبكيت والتقريع والتوبيخ.
ثالثاً: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ هو من باب عطف الخاص على العام لبيان الكمال، لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فلما قال ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] عمَّ جميع النعم فلما عطف ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ كان من باب عطف الخاص على العام.
رابعاً: ﴿واتقوا يَوْماً﴾ التنكير للتهويل أي يوماً شديد الهول، وتنكير النفس ﴿نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ﴾ ليفيد العموم والإقناط الكلي.
الفوَائِدَ: الفائدة الأولى: قال القرطبي: إِنما خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكرها وقد كان عليه السلام إِذ حزبه (أغمّه) أمرٌ فَزَع إلى الصلاة، وكان يقول: «أرحنا بها يا بلال»
الثانية: قال علي كرم الله وجهه: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك» ومن دعا غيره إِلى الهدى ولم يعمل به كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه قال الشاعر:
ابدأُ بنفسك فانهها عن غيّها | فإِذا انتهت عنه فأنت حكيم |
فهناك يقبل إِن وعظتَ ويقتدى | بالرأي منك وينفع التعليم |
وصفتَ التُّقَى حتَّى كأَنَّك ذو تُقَى | وريحُ الخطايا من ثيابك تَسْطَع |
وغيرُ تَقيٍّ يأْمر النَّاسَ | بالتُّقَى طَبيبٌ يداوي النَّاس وهُوَ عليل |
إِن السماحة والمروءة والندى | في قبَّة ضربت على ابن الحشرج |
الفوَائِد: الأولى: حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في الحجر الذي ضربه موسى فجرت منه العيون ما هو؟ وكيف وصفه؟ وقد ضربنا صفحاً عن هذا الأقوال والذي يكفي في فهم معنى الآية أن واقعة انفجار الماء إِنما كان على وجه «المعجزة» وأن الحجر الذي ضربه موسى كان من الصخر الأصم الذي ليس من شأنه الانفجار بالماء، وهنا تكون المعجزة أوضح، والبرهان أسطع قال الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة.
الثانية: فإِن قيل ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً؟ والجواب: أن قوم موسى كانوا كثيرين وكانوا في الصحراء، والناس إِذا اشتدت بهم الحاجة إِلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع، فأكمل الله هذه النعمة بأن عيّن لكل سبط منهم ماءً معيناً على عددهم لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر والله أعلم.
الثالثة: ذهب بعض المفسرين إِلى أن المراد بالفوم في قوله ﴿وَفُومِهَا﴾ الحنطة والأرجح أن المراد به الثوم بدليل قراءة ابن مسعود ﴿وثومها﴾ وبدليل اقتران البصل بعده قال الفخر الرازي:
وأنتم أُناسٌ لئامُ الأصول | طعامكم الفوم والحوقل |
اللغَة: ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ الميثاق: العهد المؤكد بيمين ونحوه، والمراد به هنا العمل بأحكام التوراة ﴿الطور﴾ هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بحزمٍ وعزم ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ التولي: الإِعراض عن الشيء والإِدبار عنه ﴿خَاسِئِينَ﴾ جمع خاسئ وهو الذليل المهين قال أهل اللغة: الخاسئ: الصاغر المبعد المطرود كالكلب إِذا دنا من الناس قيل له: اخسأ أي تباعد وانطرد صاغراً. ﴿نَكَالاً﴾ النكال: العقوبة الشديدة الزاجرة ولا يقال لكل عقوبة نكالٌ حتى تكون زاجرة رادعة.
التفِسير: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ أي نتفناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ أي اعملوا بما في التوراة بجد وعزيمة ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾ أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك﴾ أأعرضتم عن الميثاق بعد أخذه ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي بقبول التوبة ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ بالعفو عن الزلة ﴿لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين﴾ أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت﴾ أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ أي المسخة ﴿نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ أي عقوبة زاجرة لمن يأتي بعدها من الأمم ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ أي جعلنا مسخهم قردة عبرة لمن شهدها
البَلاَغَة: أولاً: ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي قلنا لهم خذوا فهو كما قال الزمخشري على إرادة القول.
ثانياً: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ خرج الأمر عن حقيقته إِلى معنى الإِهانة والتحقير، وقال بعض المفسرين: هذا أمر تسخيرٍ وتكوين، فهو عبارة عن تعلق القدرة بنقلهم من حقيقة البشرية إِلى حقيقة القردة.
ثالثاً: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ كناية عمن أتى قبلها أو أتى بعدها من الأمم والخلائق، أو عبرة لمن تقدم ومن تأخر.
الفوَائِد: الأولى: قال القفال: إِنما قال ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ ولم يقل «مواثيقكم» لأنه أراد ميثاق كل واحدٍ منكم كقوله
﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: ٦٧] أي يخرج كل واحدٍ منكم طفلاً.
الثانية: قال بعض أهل اللطائف: كانت نفوس بني إِسرائيل من ظلمات عصيانها تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر من غلوائها وعلوّها في حلتي كبرٍ وإِعجاب، فلما أُمروا بأخذ التوراة ورأوا ما فيها من أثقال ثارت نفوسهم فرفع الله عليهم الجبل فوجدوه أثقل مما كلِّفوه، فهان عليهم حمل التوراة قال الشاعر:
إِلى الله يُدعَى بالبراهينِ من أَبى فإِن لم يُجبْ نادته بيض الصَّوارم
الثالثة: إِنما خصَّ المتقين بإِضافة الموعظة إِليهم ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ لأنهم هم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير قال تعالى ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ [الذاريات: ٥٥].
اللغَة: ﴿هُزُواً﴾ الهزؤ: السخرية بضم الزاي وقلب الهمزة واواً ﴿هُزُواً﴾ مثل ﴿كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] والمعنى على حذف مضاف أي أأتخذنا موضع هزؤ، أو يحمل المصدر على معنى اسم المفعول أي أتجعلنا مهزوءاً بنا ﴿فَارِضٌ﴾ الفارض: الهزمة المسنة التي كبرت وطعنت في السن كذا في لسان العرب قال الشاعر:
لعمري لقد أعطيتَ ضيفك فارضاً | تُساق إِليه ما تقوم على رجل |
ولم تعطه بكراً فيرضى سمينةً | فكيف تُجازى بالمودة والفضل؟ |
«معجزة إحياء الميت وقصة البقرة»
ذكر القصة: روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال: «كان رجل من بني إِسرائيل عقيماً لا يولد له وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهى: علام يقتل بعضنا بعضاً وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فقال: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ قال: ولو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شدّدوا فشدَّد الله
التفسير: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴿قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى ﴿قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ أي ألتجئ إلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ﴾ أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلقحها الفحل ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ أي وسط بين الكبيرة والصغيرة ﴿فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ﴾ أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا﴾ أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين﴾ أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمور بذبحها ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ أي سنتهدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث﴾ أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع ﴿مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها ﴿قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق﴾ أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس قال تعالى
إِخباراً عنهم ﴿وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة، فقال ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفسا ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ أي تخاصتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي مظهر ما تخفونه ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا﴾ أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى﴾ أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحي الموتى من قبورهم ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.
ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي صلبت قلوبهم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير ﴿مِّن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة ﴿فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد ﴿وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار﴾ أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا
البَلاَغَة: أولاً: قوله تعالى ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ من إِيجاز القرآن أن حذف من صدر هذه الجملة جملتين مفهومتين من نظم الكلام والتقدير: فطلبوا البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها، فلما اهتدوا إِليها ذبحوها وهذا من الإِيجاز بالحذف.
ثانياً: قوله تعالى ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ هذه الجملة اعتراضية بين قوله ﴿فادارأتم﴾ وقوله ﴿فَقُلْنَا اضربوه﴾ والجملة المعترضة بين ما شأنهما الاتصال تجيء تحلية يزداد بها الكلام البليغ حسناً، وفائدة الاعتراض هنا إِشعار المخاطبين بأن الحقيقة ستنجلي لا محالة.
ثالثاً: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وصف القلوب بالصلابة والغلظ يراد منه نبُوُّها عن الاعتبار، وعدم تأثرها بالمواعظ ففيه استعارة تصريحية قال أبو السعود: القسوة عبارة عن الغلظ والجفاء والصلابة كما في الحجر استعيرت لِنُبُوِّ قلوبهم عن التأثر بالعظات والقوارع يالتي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور.
رابعاً: ﴿فَهِيَ كالحجارة﴾ فيه تشبيه يسمى (مرسلاً مجملاً) لأن أداة الشبه المذكورة ووجه الشبه محذوف.
خامساً: ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار﴾ أي ماء الأنهار، والعرب يطلقون اسم المحل كالنهر على الحال فيه كالماء والقرينة ظاهرة لأن التفجر إِنما يكون للماء ويسمى هذا مجازاً مرسلاً.
الفوَائِد: الفائدة الأولى: نبه قوله تعالى ﴿قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ على أن الاستهزاء بأمرٍ من أمورالدين جهل كبير، وقد منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل، وقالوا إِنما أنزل القرآن للتدبر والخشوع لا للتسلي والتفكه والمزاح.
الثانية: الخطاب في قوله ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ لليهود المعاصرين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد جرى على الأسلوب المعروف في مخاطبة الأقوام، إِذ ينسب إِلى الخلف ما فعل السلف إِذا كانوا سائرين على نهجهم، راضين بفعلهم، وفيه توبيخ وتقريع للغابرين والحاضرين.
الثالثة: هذه الواقعة واقعة (قتل النفس) جرت قبل أمرهم بذبح البقرة، وإن وردت في الذكر بعده، والسرُّ في ذلك التشويق إِلى معرفة السبب في ذبح البقرة، والتكرير في التقريع والتوبيخ قال العلامة ابن السعود، وإِنما غُيِّر الترتيب لتكرير التوبيخ وتثنية التقريع، فإن كل واحدٍ من قتل النفس
الرابعة: ذكر تعالى إِحياء الموتى في هذه السورة الكريمة في خمسة مواضع: أ - في قوله ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] ب - وفي هذه القصة ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا﴾ ج - وفي قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] د - وفي قصة عزير ﴿فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة: ٢٥٩] هـ وفي قصة إبراهيم ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
الخامسة: ﴿أوْ﴾ في قوله تعالى ﴿كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ بمعنى «بَلْ» أي بل أشد قسوة كقوله تعالى ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] وقال بعضهم: هي للترديد، أو التخيير فمن عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى كالحديد، ومن لم يعرفها شبهها بالحجارة أو قال: هي أقسى من الحجارة.
السادسة: ذهب بعض المفسرين إلى أن الخشية هنا حقيقية، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار خشية بقدرها كقوله تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] وقال آخرون: بل هو من باب المجاز كقول القائل: قال الحائط للمسمار لم تشقني؟ قال: سل من يدقني والله أعلم؟
اللغَة: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الطمع: تعلق النفس بشيء مطلوب تعلقاً قوياً، فإِذا اشتد فهو طمع، وإِذا ضعف كان رجاءً ورغبةً ﴿فَرِيقٌ﴾ الفريق: الجماعة وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾ التحريف: التبديل والتغيير وأصله من الانحراف عن الشيء ﴿عَقَلُوهُ﴾ عقل الشيء أدركه بعقله والمراد فهموه وعرفوه ﴿أُمِّيُّونَ﴾ جمع أمي وهو الذي لا يحسن القراءة والكتابة، سميَّ بذلك نسبة إِلى الأم، لأنه باقٍ على ما ولدته عليه أمه من عدم المعرفة ﴿أمانيّ﴾ جمع أمنية وهي ما يتمناه الإِنسان ويشتهيه، أو يقدّر في نفسه من مُنى ولذلك تطلق على الكذب قال أعرابي لإِنسان: «أهذا شيء رأيته أم تمنيته» أي اختلقته، وتأتي بمعنى قرأ قال حسان: تمنّى كتاب الله أول ليلة ﴿فَوَيْلٌ﴾ الويل: الهلاك والدماء وقيل: الفضيحة والخزي، وهي كلمة تستعمل في الشر والعذاب قال القاضي: هي نهاية الوعيد والتهديد كقوله ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين: ١] وقال سيبويه: ويلٌ لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها.
سَبَبُ النّزول: ١ - نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ الآية.
٢ - وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾.
التفِسير: يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يسلم اليهود ويدخلوا في دينكم ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله﴾ أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بيناً جلياً ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأ أو نسيان ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال المنافقون من اليهود آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به ﴿وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ أي إذا انفرد واختلى بعضهم ببعض ﴿قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام ﴿لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم في حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم
ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب﴾ أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.
ثم ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي هلاك وعذاب لأولئك الذين حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله﴾ أي يقولون لأتباعهم الأميين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً ﴿لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ أي لن ندخل النار إِلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً﴾ أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ﴾ لأن الله لا يخلف الميعاد ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.
ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهم وأنهم لا يخلدون فيها فقال: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي عمل الكبائر، وكذلك كل من اقترف السيئات ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود ﴿فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
البَلاَغَة: أولاً: قوله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة مفيدة لكمال قبح صنيعهم، فتحريفهم للتوراة كان عن قصد وتصميم لا عن جهل أو نسيان، ومن يرتكب المعصية عن علم يستحق الذم والتوبيخ أكثر ممن يرتكبها وهو جاهل.
ثالثاً: قوله ﴿مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فيه من المحسّنات البديعية ما يسمى ب (الطباق) حيث جمع بين لفظتي «يسرون» و «يعلنون» وهو من نوع طباع الإِيجاب.
رابعاً: التكرير في قوله ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ وقوله ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ للتوبيخ والتقريع ولبيان أن جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى.
خامساً: قوله ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ هو من باب الاستعارة حيث شبّه الخطايا بجيش من الأعداء نزل على قوم من كل جانب فأحاط به إِحاطة السوار بالمعصم، واستعار لفظة الإِحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، فكأنها أحاطت بها من جميع الجهات.
الفَوائِد: الفائدة الأولى: تحريف كلام الله يصدق بتأويله تأويلاً فاسداً، ويصدق بمعنى التغيير وتبديل كلام بكلام، وقد وقع من أحبار اليهود التحريف بالتأويل، وبالتغيير، كما فعلوا في صفته عليه السلام قال العلامة أبو السعود: روي أن أحبار اليهود خافوا زوال رياستهم فعمدوا إِلى صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة وكانت هي فيها «حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، أبيض ربعة» فغيرّوها وكتبوا مكانها «طوال، أزرق، سبط الشعر» فإِذا سألهم العامة عن ذلك قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لما في التوراة فيكذبونه.
الثانية: التحريف بقسمية وقع في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل كما قال تعالى ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦] أما التحريف بمعنى التأويل الباطل فقد وقع في القرآن من الجهلة أو الملاحدة، وأما التحريف بمعنى إِسقاط الآية ووضع كلام بدلها فقد حفظ الله منه كتابه العزيز
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
الثالثة: روى البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال «لما فتحت خيبراً أهديت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجمعوا لي من كان من اليهود هنا، فقال لهم رسول الله: مَنْ أبوكم؟ قالوا: فلان قال: كذبتم بل أبوكم فلان فقالوا: صدقتَ وبررت ثم قال لهم: هل أنتم صادقيَّ عن شيء إِن سألتكم عنه؟ قالوا نعم يا أبا القاسم، وإِن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفنا في أبينا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل أنتم صادقيَّ عن شيء إِن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا نعم قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إِن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإِن كنت نبياً لم يضرك».
اللغَة: ﴿مِيثَاقَ﴾ الميثاق: العهد المؤكد باليمين غاية التأكيد، فإِن لم يكن مؤكداً سمى عهداً ﴿حُسْناً﴾ الحُسْنُ: اسم عام جامعٌ لمعاني الخير، ومنه لين القول، والأدب الجميل، والخلق الكريم، وضده القُبْح والمعنى: قولوا قولاً حُسْناً فهو صفة لمصدر محذوف ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ التولّي عن الشيء: الإِعراضُ عنه ورفضُه وعدم قبوله كقوله ﴿عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا﴾ [النجم: ٢٩] وفرّق بعضهم بين التولي والإِعراض فقال: التولي بالجسم، والإِعراضُ بالقلب ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ تتعاونون وهو مضارع حذف منه أحد التاءين، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره إِلى الآخر، والظهير: المعنى ﴿الإثم﴾ الذنب الذي يستحق صاحبه الملامة وجمعه آثام ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ تجاوز الحد في الظلم ﴿خِزْيٌ﴾ الخزي: الهوان والمقت والعقوبة.
التفِسير: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ بأن لا تعبدوا غير الله ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً ﴿وَذِي القربى واليتامى والمساكين﴾ أي وأن يحسنوا أيضاً إلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء الركنين العظيمين «الصلاة، والزكاة»
تنبه: كانت (بنو قريظة) و (بنو النضير) من اليهود، فحالفت بنو قريظة الأوس، وبنو النضير الخزرج، فكانت الحرب إِذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمتاع والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم وفي نص التوراة، ثم إِذا وضعت الحرب أوزارها افْتكُوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ولهذا قال تعالى ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ خبرٌ في معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي كما قال أبو السعود لما فيه من إِبهام أن المنهيَّ حقه أن يسارع إِلى الانتهاء فكأنه انتهى عنه، فجاء بصيغة الخبر وأراد به النهي.
٣ - التنكير في قوله ﴿خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا﴾ للتفخيم والتهويل.
٤ - ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لأن من أراق دم غيره فكأنما أراق دم نفسه فهو من باب المجاز لأدنى ملابسة.
٥ - ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ الهمزة للإِنكار التوبيخي.
الفَوائِد: الفائدة الأولى: جاء الترتيب في الآية بتقديم الأهم فالأهم، فقدّم حق الله تعالى لأنه المنعم في الحقيقة على العباد، ثم قدم ذكر الوالدين لحقهما الأعظم في تربية الولد، ثم القرابة لأن فيهم صلة الرحم وأجر الإِحسان، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثمّ المساكين لضعفهم ومسكنتهم.
الثانية: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ ولم يقل: وقولوا لإِخوانكم أو قولوا للمؤمنين حسناً ليدل على أنّ الأمر بالإِحسان عامٌ لجميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وفي هذا حضٌ على مكارم الأخلاق، بلين الكلام، وبسط الوجه، والأدب الجميل، والخلق الكريم قال أحد الأدباء.
بُنيَّ إِنَّ البرَّ شيءٌ هيّنُ | وجهٌ طليقٌ ولسانٌ ليّنُ |
فصحوتُ عنْها بعد حبَّ داخلٍ | والحب تُشربُه فؤادَك داءُ |
خليليَّ ما بال الدُّجَى لا يُزَحْزحُ | وما بالُ ضوء الصبح لا يتوضّح |
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنه ليس نبيٌّ من الأنبياء إِلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبُك حتى نتابعك؟ قال: جبريل قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك فأنزل الله ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ الآية.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ فيه استعارة مكنية، شبّه حبَّ عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبه به ورمز بشيء من لوازمه وهو الإِشراب على طريق الاستعارة المكنية، قال في تلخيص البيان: «وهذه استعارة والمراد وصف قلوبهم بالمبالغة في حب العجل فكأنها تشربت حبة فما زجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ».
٢ - ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ إِسناد الأمر إِلى الإِيمان تهكمٌ بهم كقوله ﴿أصلاوتك تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧] وكذلك إِضافة الإِيمان إِليهم، أفاده الزمخشري.
٣ - التنكير في قوله ﴿على حَيَاةٍ﴾ للتنبيه على أن المراد بها حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة التي يعمر فيها الشخص آلاف السنين.
٤ - ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ الجملة واقعة في جواب الشرط وجيء بها إسمية لزيادة التقبيح لأنها تفيد الثبات، ووضع الظاهر موضع الضمير فقال ﴿عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ بدل عدوٌ لهم لتسجيل صفة الكفر عليهم، وأنهم بسبب عداوتهم للملائكة أصبحوا من الكافرين.
٥ - ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ وجاء بعد ذكر الملائكة فهو من باب ذكر الخاص بعد العام للتشريف والتعظيم.
الثانية: خصّ القلب بالذكر ﴿نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف كما قال تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ﴾ [الحج: ٤٦].
الثالثة: الحكمة في الإِتيان هنا ب «لن» ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾ وفي الجمعة ب «لا» ﴿وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً﴾ [الآية: ٧] أن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك، فإِنهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس، فناسب هنا التوكيد بلن المفيدة للنفي في الحاضر والمستقبل، وأما هناك فاكتفى بالنفي.
الرابعة: الآية الكريمة من المعجزات لأنها إِخبار بالغيب وكان الأمر كما أخبر، ويكفي في تحقق هذه المعجزة أن لا يقع تمني الموت من اليهود الذين كانوا في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث الشريف «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار».
اللغَة: ﴿نبذ﴾ النبذ: الطرق والإِلقاء ومنه سمي اللقيط منبوذاً لأنه ينبذ على الطريق قال الشاعر:
إنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا | نبذوا كتابك واستحلوا المَحْرما |
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي والله لقد أنزلنا إِليك يا محمد آيات واضحات دالاّت على نبوتك ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون﴾ أي وما يجحد بهذه الآيات ويكذب إلا الخارجون عن الطاعة الماردون على الكفر ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ أي أيكفرون بالآيات وهي في غاية الوضوح وكلّما أعطوا عهداً نقضه جماعة منهم؟ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإِيمان الصادق لذلك ينقضون العهود والمواثيق ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أي مصدقاً للتوراة وموافقاً لها في أصول الدين ومقرراً لنبوة موسى عليه السلام ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي طرح أحبارهم وعلماؤهم التوراة وأعرضوا عنها بالكلية لأنها تدل على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجحدوا وأصروا على إِنكار نبوته ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي كأنهم لا يعلمون من دلائل نبوته شيئاً ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي اتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ أي وما كان سليمان ساحراً ولا كفر بتعلمه السحر ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾ أي ولكنّ الشياطين هم الذين علموا الناس السحر حتى فشا أمره بين الناس ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ أي وكما اتبع رؤساء اليهود السحر كذلك اتبعوا ما أنزل على الملَكْين وهما هاروت وماروت بمملكة بابل بأرض الكوفة، وقد أنزلهما الله ابتلاءً وامتحاناً للناس ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ أي إن الملَكَيْن لا يعلمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة ويقولا إِن هذا الذي نصفه لك إِنما هو امتحان من الله وابتلاء، فلا تستعمله للإِضرار ولا تكفر بسببه، فمن تعلمه ليدفع ضرره عن الناس
. قال تعالى ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ﴾ أي يتعلمون منهما من علم السحر ما يكون سبباً في التفريق بين الزوجين، فبعد أن كانت المودة والمحبة بينهما يصبح الشقاق والفراق ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي وما هم بما استعملوه من السحر يضرون أحداً إِلا إِذا شاء الله ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ أي والحال أنهم بتعلم السحر يحصلون على الضرر لا على النفع ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ أي ولقد علم اليهود الذين نبذوا كتاب الله واستبدلوا به السحر، أنهم ليس لهم حظ من رحمة الله ولا من الجنة لأنهم آثروا السحر على كتاب الله ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولبئس هذا الشيء الذي باعوا به أنفسهم لو كان لهم علم أو فهم وإِدراك ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا﴾ أي ولو أن أولئك الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله وخافوا عذابه ﴿لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لأثابهم الله ثواباً أفضل مما شغلوا به أنفسهم من السحر، الذي لا يعود عليهم إِلا بالويل والخسار والدمار.
سَبَبُ النّزول: لما ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سليمان في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً!! والله ما كان إِلا ساحراً فنزلت هذه الآية ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ التنكير للتفخيم ووصفُ الرسول بأنه آتٍ من عند الله لإِفادة مزيد التعظيم.
٢ - ﴿وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مثلٌ يُضرب للإِعراض عن الشيء جملةً تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره أي تولى عنه معرضاً، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إِليه، فهو كناية عن الإِعراض عن التوراة بالكلية.
٣ - ﴿لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ هذا جارٍ على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة، من أن العالم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزّل منزلة الجاهل به، وينفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.
٤ - ﴿لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ جيء بالجملة الإِسمية بدل الفعلية للدلالة على الثبوت والاستقرار.
فَائِدَة: الحكمة من تعليم الملكين الناس السحر، أن السحرة كثروا في ذلك العهد واخترعوا فنوناً غريبة من السحر، وربما زعموا أنهم أنبياء، فبعث الله تعالى المَلكْين ليعلما الناس وجوه السحر حتى يتمكنوا من التمييز بينه وبين المعجزة، ويعرفوا أن الذين يدّعون النبوة كذباً إِنما هم سحرة لا أنبياء.
اللغَة: ﴿رَاعِنَا﴾ من المراعاة وهي الإِنظار والإِمهال، وأصلها من الرعاية وهي النظر في مصالح الإِنسان، وقد حرفها اليهود فجعلوها كلمة مسبة مشتقة من الرعونة وهي الحُمْق ولذلك نهي عنها المؤمنون ﴿انظرنا﴾ من النظر والانتظار تقول: نظرتُ الرجل إِذا انتظرته وارتقبته أي انتظرنا وتأنَّ بنا ﴿يَوَدُّ﴾ يتمنى ويحب ﴿نَنسَخْ﴾ النسخ في اللغة: الإِبطال والإِزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته وفي الشرع: رفع حكم شرعي وتبديله بحكم آخر ﴿نُنسِهَا﴾ من أنسى الشيءَ جعله منسياً فهو من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب ﴿وَلِيٍّ﴾ الولي: من يتولى أمور الإِنسان ومصالحه ﴿نَصِير﴾ النصير: المعين مأخوذ من قولهم نصره إِذا أعانه ﴿أَمْ﴾ بمعنى بل وهي تفيد الانتقال من جملة إلى جملة كقوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ [يونس: ٣٨] أي بل يقولون ﴿يَتَبَدَّلِ﴾ يقال: بدّل وتبدل واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر، وتبدل الكفر بالإِيمان معناه أخذه بدل الإِيمان ﴿سَوَآءَ السبيل﴾ أي وسط الطريق، والسواء من كل شيء: الوسط، والسبيل معناه الطريق ﴿فاعفوا﴾ العفو: ترك المؤاخذة على الذنب ﴿واصفحوا﴾ والصفح: ترك التأنيب عنه.
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود قالوا: ألا تعجبون لأمر محمد؟ ﴿يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، فما هذا القرآن إِلا كلام محمد بقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضاً فنزلت {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾.
التفسير: ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه فيقول {لاَ
﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] فتضلوا كما ضلوا ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان﴾ أي يستبدل الضلالة بالهدى ويأخذ الكفر بدل الإِيمان ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ أي فقد حاد عن الجادة وخرج عن الصراط السوي ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ أي تمنى كثير من اليهود والنصارى ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً﴾ أي لو يصيّرونكم كفاراً بعد أن آمنتم ﴿حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي حسداً منهم لكم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق﴾ أي من بعد ما ظهر لهم بالبراهين الساطعة أن دينكم هو الحق ﴿فاعفوا واصفحوا﴾ أي اتركوهم وأعرضوا عنهم فلا تؤخذوهم ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ أي حتى يأذن الله لكم بقتالهم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر على كل شيء فينتقم منهم إِذا حان الأوان ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي حافظوا على عمودي الإِسلام وهما «الصلاة والزكاة» وتقربوا إِليه بالعبادة البدنية والمالية ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله﴾ أي ما تتقربوا إِلى الله من صلاة أو صدقة أو عمل صالح فرضاً كان أو تطوعاً تجدوا ثوابه عند الله ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي رقيب عليكم مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها يوم الدين.
البَلاَغَة: ١ - الإِضافة في قوله ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ للتشريف. وفيها تذكير للعباد بتربيته لهم.
٢ - تصدير الجملتين بلفظ الجلالة ﴿والله يَخْتَصُّ﴾ ﴿والله ذُو الفضل﴾ للإِيذان بفخامة الأمر.
٣ - ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ الاستفهام للتقرير والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته بدليل قوله تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله﴾.
٤ -
٥ - ﴿ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق المستوي، وفي التعبير به نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إِلى الباطل.
الفوَائِد: الأولى: خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن، وهذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإِقبال عليهم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكّرهم بأن الإِيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة والامتثال.
الثانية: نهي المسلمون أن يقولوا في خطاب النبي عليه السلام ﴿رَاعِنَا﴾ وأمروا بأن يقولوا مكانها ﴿انظرنا﴾ وفي ذلك تنبيه لأدبٍ جميل هو أن الإِنسان يتجنب في مخاطبته الألفاظ التي توهم الجفاء أو التنقيص في مقام يقتضي إظهار المودة أو التعظيم.
الثالثة: كانت اليهود تستعمل كلمة ﴿رَاعِنَا﴾ يعنون بها المسبة والشتيمة وروى أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال يا أعداء الله: عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربنَّ عنقه فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا﴾.
اللغَة: ﴿هُوداً﴾ أي يهوداً جمع هائد، والهائد: التائب الراجع مشتق من هاد إذا تاب ﴿إنَّا هدنا إليك﴾، ﴿أَمَانِيُّهُمْ﴾ جمع أمنية وهي ما يتمناه الإِنسان ويشتهيه، ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ البرهان: الدليل والحجة الموصلان إلى اليقين، ﴿أَسْلَمَ﴾ استسلم وخضع، ﴿خَرَابِهَآ﴾ الخراب: الهدم والتدمير وهو حسّيٌ كتخريب بيوت الله، ومعنوي كتعطيل إقامة الشعائر فيها، ﴿خِزْيٌ﴾ هوانٌ وذلة، ﴿ثَمَّ﴾ بفتح الثاء أي هناك ظرفٌ للمكان ﴿وَجْهُ الله﴾ الوجه: الجهة والمراد بوجه الله: الجهة التي ارتضاها وأمربالتوطه إليها.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ أي قال اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقال النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ أي تلك خيالاتهم وأحلامهم ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي قل لهم يا محمد أئتوني بالحجة الساطعة على ما تزعمون إِن كنتم صادقين في دعواكم ﴿بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ أي بلى يدخل الجنة من استسلم وخضع وأخلص نفسه لله ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي وهو مؤمن مصدّقٌ متبعٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي فله ثواب عمله ولا خوف عليهم في الآخرة ولا يعتريهم حزنٌ أو كدر بل هم في نعيم مقيم ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾ أي كفر اليهود بعيسى وقالوا ليس النصارى على دين صحيح معتدٍّ به فدينهم باطل ﴿وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ﴾ أي وقال النصارى في اليهود مثل ذلك وكفروا بموسى ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب﴾ أي والحال أن اليهود يقرءون التوراة والنصارى يقرءون الإِنجيل فقد كفروا عن علمٍ ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أي كذلك قال مشركو العرب مثل قول أهل الكتاب قالوا: ليس محمد على شيء ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي يحكم بين اليهود والنصارى ويفصل بينهم بقضائه العادل فيما اختلفوا فيه من أمر الدين ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ استنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أي لا أحد أظلم ممن منع الناس من عبادة الله في بيوت الله، وعمل لخرابها بالهدم كما فعل الرومان ببيت المقدس، أو بتعطيلها من العبادة كما فعل كفار قريش ﴿أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ أي ما ينبغي لأولئك أن يدخلوها إِلا وهم في خشية وخضوع فضلاً عن التجرؤ على تخريبها أو تعطليها ﴿لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ أي لأولئك المذكورين هوانّ وذلة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ
﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ أي لله مكان شروق الشمس ومكان غروبها والمراد جميع الأرض ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ أي إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته التي رضيها لكم، وقد نزلت الآية فيمن أضاع جهة القبلة ﴿إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي يسع الخلق بالجود والإِفضال، عليم بتدبير شئونهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ الجملة اعتراضية وفائدتها بيان بطلان الدعوى وأنها دعوة كاذبة.
٢ - ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ الأمر هنا للتبكيت والتقريع.
٣ - ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء والوجه هاهنا (استعارة) أي من أقبل على عبادة الله وجعل توجهه إِليه بجملته.
٤ - ﴿عِندَ رَبِّهِ﴾ العندية للتشريف ووضع اسم الرب مضافاً إِلى ضمير من أسلم موضع ضمير الجلالة لإِظهار مزيد اللطف به.
٥ - ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فيه توبيخ عظيم لأهل الكتاب لأنهم نظموا أنفسهم - مع علمهم - في سلك من لا يعلم أصلاً.
٦ - ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم منه.
٧ - ﴿فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ التنكير للتهويل أي خزي هائل فظيع لا يكاد يوصف لهوله.
٨ - ﴿عَلِيمٌ﴾ صيغة فعيل للمبالغة. أي واسع العلم.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: إِسلام الوجه لله يعني إِسلام النفس لطاعة الله وقد يكنى بالوجه عن النفس كما قال تعالى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] وقال زيد بن نفيل.
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرضُ تحمل صخراً ثقالاً | وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ |
اللغَة: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ سبحان مصدر سبّح بمعنى نزّه ومعناه التبرئة والتنزيه عما لا يليق بجلاله تعالى ﴿قَانِتُونَ﴾ مطيعون خاضعون من القنوت وهو الطاعة والخضوع ﴿بَدِيعُ﴾ البديع: المبدع من الإِبداع، والإِبداع: اختراع الشيء على غير مثال سبق ﴿قضى﴾ أراد وقدّر ﴿بَشِيراً﴾ البشير: المبشّر وهو المخبر بالأمر الصادق السار ﴿نَذِيراً﴾ النذير: المنذر وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه ﴿الجحيم﴾ المتأجج من النار ﴿مِلَّتَهُمْ﴾ أي دينهم وجمعها ملل وأصل الملّة: الطريقة المسلوكة ثم جعلت اسماً للشريعة التي أنزلها الله ﴿عَدْلٌ﴾ فداء.
التفِسير: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ هو قول اليهود والنصارى والمشركين فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله فأكذب الله الجميع في دعواهم فقال ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تقدس وتنزّه عما زعموا تنزهاً بليغاً ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ بل للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ أي الكل منقادون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق ﴿وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي إِذا إيجاد شيء حصل من غير امتناع ولا مهلة فمتى أراد شيئاً وجد بلمح البصر، فمراده نافذ وأمره لا يتخلف ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ [القمر: ٥٠] ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ المراد بهم جهلة المشركين وهم كفار قريش ﴿لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله﴾ أي هلأ يكلمنا الله مشافهة أو بإِنزال الوحي علينا بأنك رسوله ﴿أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ﴾ أي تكون برهاناً وحجة على صدق نبوتك، قالوا ذلك استكباراً وعناداً ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أي مثل هذا الباطل الشنيع قال المكذبون من أسلافهم لرسلهم ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتكذيب للأنبياء وفي هذا تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي قد وضحنا الأدلة وأقمنا البراهين لقومٍ يطلبون الحق واليقين، وكلها ناطقة بصدق ما جئت به ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي أرسلناك يا محمد بالشريعة النيّرة والدين القويم بشيراً للمؤمنين بجنات النعيم، ونذيراً للكافرين من عذاب الجحيم ﴿وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ أي أنت لست مسئولاً عمن لم يؤمن منهم بعد أن بذلت الجهد في دعوتهم
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾ [الرعد: ٤٠] ﴿وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ أي لن ترضى عنك الطائفتان «اليهود والنصارى» حتى تترك الإِسلام
البَلاَغَة: ١ - ﴿سُبْحَانَهُ﴾ جملة اعتراضية وفائدتها بيان بطلان دعوى الظالمين الذين زعموا لله الولد قال أبو السعود: وفيه من التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من «السَّبح» ومن جهة النقل إلى التفعيل «التسبيح» ومن جهة العدول إلى المصدر ما لا يخفى والمراد أنزهه تنزيهاً لائقاً به.
٢ - ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ صيغة جمع العقلاء في ﴿قَانِتُونَ﴾ للتغليب أي تغليب العقلاء على غير العقلاء، والتغليب من الفنون المعدودة في محاسن البيان.
٣ - التعبير عن الكافرين والمكذبين بكلمة ﴿أَصْحَابِ الجحيم﴾ إِيذانٌ بأن أولئك المعاندين من المطبوع على قلوبهم فلا يرجى منهم الرجعو عن الكفر والضلال إِلى الإِيمان والإِذعان.
٤ - إِيراد الهدى معرفاً بأل في قوله ﴿هُوَ الهدى﴾ مع اقترانه بضمير الفصل «هو» يفيد قصر الهداية على دين الله فهو من باب قصر الصفة على الموصوف فالإِسلام هو الهدى كله وما عداه فهو هوى وعمى.
٥ - ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ﴾ هذا من باب التهييج والإِلهاب.
تنبيه: قال القرطبي: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حدّ ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إِليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع، وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إِمام وفي البخاري
«نعمت البدعة هذه» يعني قيام رمضان.. ثم قال: وكل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أَن يكون لها أصل في الشرع أولا؟ فإِن كان لها أصل فهي في حيز المدح ويعضده قول عمر «نعمت البدعة هذه» وإِلاّ فهي في حيز الذم
اللغَة: ﴿ابتلى﴾ امتحن والابتلاء: الاختبار ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أتى بهن على التمام والكمال ﴿إِمَاماً﴾ الإِمام: القدوة الذي يؤتم به في الأقوال والأفعال ﴿مَثَابَةً﴾ مرجعاً من ثاب يثوب إذا رجع أي أنهم يترددون إِليه لا يقضون منه وطرهم قال الشاعر:
جُعلَ البيتُ مثاباً لهُمُ | ليس منه الدهرَ يقضون الوطر |
التفِسير: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي اذكر يا محمد حين اختبر الله عبده إِبراهيم الخليل، وكلّفه بجملة من التكاليف الشرعية «أوامر ونواهٍ» فقام بهن خير قيام ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ أي قال له ربه إِني جاعلك قدوة للناس ومناراً يهتدي بك الخلق ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ أي قال إِبراهيم واجعل يا ربّ أيضاً أئمة من ذريتي ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ أي لا ينال هذا الفضل العظيم أحدٌ من الكافرين ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾ أي واذكر حين جعلنا الكعبة المعظمة مرجعاً للناس يقبلون عليه من كل جانب ﴿وَأَمْناً﴾ أي مكان أمن يأمن من لجأ إليه، وذلك لما أودع الله في قلوب العرب من تعظيمه وإِجلاله ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ أي وقلنا للناس اتخذوا من المقام - وهو الحجر الذي كان يقوم عليه إِبراهيم لبناء الكعبة مصلّى أي صلوا عنده ﴿وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ أي أوصينا وأمرنا إِبراهيم وولده إِسماعيل ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود﴾ أي أمرناهما بأن يصونا البيت من الأرجاس والأوثان ليكون معقلاً للطائفين حوله والمعتكفين الملازمين له والمصلين فيه، فالآية جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام: الطائفين، والمعتكفين، والمصلين.
. ثم أخبر تعالى عن دعوة الخليل إِبراهيم فقال ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ أي اجعل هذا المكان - والمراد مكة المكرمة - بلداً ذا أمن يكون أهله في أمنٍ واستقرار ﴿وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر﴾ أي وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه من أنواع الثمرات، ليقبلوا على طاعتك ويتفرغوا لعبادتك وخصَّ بدعوته المؤمنين فقط قال تعالى جواباً له ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ أي قال الله وأرزق من كفر أيضاً كما أرزق المؤمن، أأخلق خلقاً ثم لا أرزقهم؟ أما الكافر فأمتعه في الدنيا متاعاً قليلاً وذلك مدة حياته فيها ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار﴾ أي ثم أُلجئه في الآخرة وأسوقه إِلى عذاب النار فلا يجد عنها محيصاً ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي وبئس المال والمرجع للكافر أن يكون مأواه نار جهنم. قاس الخليل الرزق على الإِمامة فنبهه تعالى على أن الرزق رحمة دنيوية شاملة للبرّ والفاجر بخلاف الإِمامة فإِنها خاصة بالخواص من المؤمنين، ثم قال تعالى حكاية عن قصة بناء البيت العتيق ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ﴾ أي واذكر يا محمد ذلك الأمر الغريب وهو رفع الرسولين العظيمين «إِبراهيم وإِسماعيل» قواعد البيت وقيامهما بوضع أساسه ورفع بنائه وهما يقولان بخضوع وإِجلال ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ أي يبنيان ويدعوان بهذه الدعوات الكريمة قائلين يا ربنا تقبل منا أي أقبل منا عملنا هذا واجعله خالصاً لوجهك الكريم فإِنك أنت السميع لدعائنا العليم بنياتنا ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي اجعلنا خاضعين لك منقادين لحكمك ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ أي واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك ويخضع لعظمتك ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي وعلمنا شرائع عبادتنا ومناسك حجنا ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾ أي تب علينا وارحمنا فإنك عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ أي ابعث في الأمة المسلمة رسولاً من أنفسهم وهذا من جملة دعواتهما المباركة فاستجاب الله الدعاء ببعثة السراج المنير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ أي يقرأ آيات القرآن ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ أي يعلمهم القرآن العظيم والسنة المطهرة ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي
البَلاَغَة: ١ - التعرض لعنوان الربوبية ﴿ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ تشريف له عليه السلام وإِيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير، والمعنى عامله سبحانه معاملة المختبر حيث كلفه بأوامر ونواهي يظهر بها استحقاقه للإِمامة العظمى.
٢ - إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل في قوله ﴿آمِناً﴾ للمبالغة والإِسناد مجازيٌ أي آمناً من دخله كقوله تعالى ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: ٩٨] وخيرُ ما فسرته بالوارد.
٣ - إِضافة البيت إِلى ضمير الجلالة ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: ٢٦] للتشريف والتعظيم.
٤ - قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ﴾ ورد التعبير بصيغة المضارع حكاية عن الماضي ولذلك وجه معروف في محاسن البيان وهو استحضار الصورة الماضية وكأنها مشاهدة بالعيان فكأنَّ السامع ينظر ويرى إِلى البنيان وهو يرتفع والبنّاء هو إِبراهيم وإِسماعيل عليهما السلام قال أبو السعود: وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة.
٥ - ﴿التواب الرحيم﴾ صيغتان من صيغ المبالغة لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.
الفوَائِد: الفائدة الأولى: تقديم المفعول في قوله ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ واجب لاتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول، فلو قُدّم الفاعل لزم عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً قال ابن مالك:
وشاعَ نحو خاف ربَّه عمر وشضّ نحو زان نورهُ الشجر
الثانية: الاختبار في الأصل الامتحان بالشيء ليعلم صدق ذلك الشخص أو كذبه وهو مستحيل على الله لأنه عالم بذلك قبل الاختبار، فالمراد أنه عامله معاملة المختبر ليظهر ذلك للخلق.
الثالثة: اختلف المفسرون في الكلمات التي اختبر الله بها إِبراهيم عليه السلام وأصح هذه الأقوال ما روي عن ابن عباس أنه قال: «الكلمات التي ابتلى الله بهن إِبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجة نمرود في الله، وصبره على قذفهم إِياه في النار ليحرفوه، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم، وما ابتلى به من ذبح ابنه حين أمر بذبحه».
الرابعة: المراد من الإِمامة في الآية الكريمة «الإِمامة في الدين» وهي النبوة التي حرمها الظالمون، ولو كانت الإِمامة الدنيوية لخالف ذلك الواقع إِذ نالها كثير من الظالمين، فظهر أن المراد الإِمامة في الدين خاصة.
الخامسة: ذكر العلامة ابن القيم أن السرَّ في تفضيل البيت العتيق ظاهر في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب ومحبتها له، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهم يثوبون إِليه من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقاً.
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها | حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً |
ولكنّا خُلقنا إِذ خُلقنا | حنيفاً دينُنا عن كل دين |
التفِسير: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾ أي قال اليهود كانوا على ملتنا يهوداً تهتدوا وقال النصارى كونوا نصارى تهتدوا فكلٌ من الفريقين يدعو إِلى دينه المعوج ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ أي قل لهم يا محمد بل نتّبع ملة الحنيفية السمحة وهي ملة إِبراهيم حال كونه مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيم وما كان إِبراهيم من المشركين بل كان مؤمناً موحّداً وفيه تعريض بأهل الكتاب وإِيذان بأنَّ ما هم عليه إِنما هو شرك وضلال. ﴿قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ أي قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أنزل إِلينا من القرآن العظيم ﴿وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ أي وآمنا بما أنزل إِلى إِبراهيم من الصحف والأحكام التي كان الأنبياء متعبديون بها وكذلك حفدة إِبراهيم وإِسحاق وهم الأسباط حيث كانت النبوة فيهم ﴿وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى﴾ أي من التوراة والإِنجيل ﴿وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ﴾ أي ونؤمن بما أنزل على غيرهم من الأنبياء جميعاً ونصدّق بما جاءوا به من عند الله من الآيات البينات والمعجزات الباهرات ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعلت اليهود والنصارى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي منقادون لأمر الله خاضعون لحكمه ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا﴾ أي إِن آمن أهل الكتاب بنفس ما آمنم به معشر المؤمنين فقد اهتدوا إِلى الحق كما اهتديتم {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً﴾ [آل عمران: ٦٧] فكيف تزعمون أنهم على دينكم؟ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ أي لا أحد أظلم ممن أخفى وكتم ما اشتملت عليه آيات التوراة والإِنجيل من البشارة برسول الله، أو لا أحد أظلم ممن كتم ما أخبر الباري عنه من أن الأنبياء الكرام كانوا على الإِسلام {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي قال اليهود كونوا يهوداً وقال النصارى كونوا نصارى، وليس المعنى أن الفريقين قالوا ذلك لأن كل فريق يعدُّ دين الآخر باطلاً.
٢ - ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ﴾ فيه إيجاز ظاهر أن يكفيك الله شرهم، وتصدير الفعل بالسين دون سوف مشعر بأن ظهوره عليهم واقع في زمن قريب.
٣ - ﴿السميع العليم﴾ من صيغ المبالغة ومعناه الذي أحاط سمعه وعلمه بجميع الأشياء.
٤ - ﴿صِبْغَةَ الله﴾ سمي الدين صبغةً بطريق الاستعارة حيث تظهر سمته على المؤمن كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
٥ - ﴿اتجادلوننا في الله﴾ الاستفهام وارد على جهة التوبيخ والتقريع.
الفوَائِد: الفائدة الأولى: تكرر ورود هذه الآية في مواطن من القرآن ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قال أبو حيان: ولا تأتي الجملة إِلا عقب ارتكاب معصية فتجيء متضمنة وعيداً ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى.
الثانية: قال ابن عباس: إِن النصارى كان إِذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام صبغوه في ماءٍ لهم يقال له: المعمودي ليطهروه بذلك، ويقولون هذا طهور مكان الختان فإِذا فعلوا ذلك صار نصرانياً حقاً فأنزل الله هذه الآية.
الثالثة: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الشام فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إِلينا» رواه البخاري.
اللغَة: ﴿السفهآء﴾ جمع سفيه وهو الجاهل ضعيف الرأي، قليل المعرفة بالمنافع والمضار، وأصل السفه الخفة والرقة من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسيج ﴿وَلاَّهُمْ﴾ صرفهم يقال: ولّى عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف ﴿وَسَطاً﴾ قال الطبري: الوسط في كلام العرب: الخيار وقيل: العدل، وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها وأن الغلو والتقصير مذمومان ﴿عَقِبَيْهِ﴾ تثنية عقب وهو مؤخر القدم ﴿كَبِيرَةً﴾ شاقة وثقيلة ﴿شَطْرَ﴾ الشطر في اللغة يأتي بمعنى الجهة كقول الشاعر: تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة، ويأتي بمعى النصف ومنه الحديث «الطهور شطر الإِيمان».
التفسِير: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس﴾ أي سيقول ضعفاء العقول من الناس ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ أي ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يصلون إِليها وهي بيت المقدس، قبلة المرسلين من قبلهم؟ ﴿قُل للَّهِ المشرق والمغرب﴾ أي قل لهم يا محمد الجهات كلها لله له المشرق والمغرب فأينما ولينا وجوهنا فهناك وجه الله ﴿يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي يهدي عباده المؤمنين إِلى الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي كما هديناكم إِلى الإِسلام كذلك جعلناكم يا معشر المؤمنين أمة عدولاً خياراً ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ أي لتشهدوا على الأمم يوم القامة أن رسلهم بلّغتهم، ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ أي وما أمرناك بالتوجه إِلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إِلى الكعبة ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾ أي إِِلا لنختبر إِيمان الناس فنعلم من يصدّق الرسول، ممن يشكّك في الدين ويرجع إِلى الكفر لضعف يقينه ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله﴾ أي وإِن كان هذا التحويل لشاقاً وصعباً إِلاّ على الذين هداهم الله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي ما صحَّ ولا استقام أن يضيع الله صلاتكم إِلى بيت المقدس بل يثيبكم عليها، وذلك حين سألوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمن مات وهو يصلي إِلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة فنزلت، وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ تعليل للحكم أي أنه تعالى عظيم الرحمة بعباده لا يضيع أعمالهم الصالحة التي فعلوها ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾ لأنه كثيراً ما رأينا تردّد بصرك يا محمد جهة السماء تشوقاً لتحويل القبلة ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي فلنوجهنك إِلى قبلةٍ تحبها، - وهي الكعبة - قبلة أبيك إِبراهيم ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ أي توجه في صلاتك نحو الكعبة المعظمة ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة أيضاً ﴿وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أي إِن اليهود والنصارى ليعلمون أن هذا التحويل للقبلة حقٌ من عند الله ولكنهم يفتنون الناس بإِلقاء الشبهات ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها، وفيه وعيد وتهديد لهم.
البَلاَغة: ١ - في قوله ﴿يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾ استعارة تمثيلية حيث مثَّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه أفاده الإِمام الفخر.
٢ - ﴿لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ الرأفة: شدة الرحمة وقدّم الأبلغ مراعاة للفاصلة وهي الميم في قوله ﴿صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وقوله ﴿رَءُوفٌ رَّحِيم﴾ وكلاهما من صيغ المبالغة.
الفوَائِد: الأولى: أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلّغ» فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
الثانية: سمى الله تعالى الصلاة «إيماناً» في قوله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم لأن الإِيمان لا يتمُّ إِلا بها، ولأنها تشتمل على نيةٍ وقولٍ وعمل.
الثالثة: في التعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إِشارة إِلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، لأن في إِصابة عين الكعبة من البعيد حرجاً عظيماً على الناس.
اللغَة: ﴿آيَةٍ﴾ الآية: الحجة والعلامة ﴿أَهْوَاءَهُم﴾ جمع هوى مقصور، وهوى النفس: ما تحبه وتميل إليه ﴿الممترين﴾ الامتراء: الشك، امترى في الشيء شك فيه ومنه المراء والمرْية ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾ [الحج: ٥٥] أي شك ﴿وِجْهَةٌ﴾ قال الفراء: وجهة وجِهَة ووجه بمعنى واحد والمراد بها
التفسِير: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ أي والله لئن جئت اليهود والنصارى بكل معجزة على صدقك في أمر القبلة ما اتبعوك يا محمد ولا صلّوا إلى قبلتك ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أي وليست أنت بمتبع قبلتهم بعد أن حوّلك الله عنها، وهذا لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود: لو ثبتَّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً له عليه السلام ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أي إِن النصارى لا يتبعون قبلة اليهود، كما أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، لما بينهم من العداوة والخلاف الشديد مع أن الكل من بني إسرائيل ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي ولئن فرض وقدّر أنك سايرتهم على أهوائهم، واتبعت ما يهوونه ويحبونه بعد وضوح البرهان الذي جاءك بطريق الوحي ﴿إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين﴾ أي تكون ممن ارتكب أفحش الظلم، والكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير وإِلا فحاشاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أتباع أهواء الكفرة المجرمين، وهو من باب التهييج للثبات على الحق. ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ أي اليهود والنصارى ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ أي يعرفونه محمداً معرفة لا امتراء فيها كما يعرف الواحد منهم ولده معرفة يقين ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي وإن جماعة منهم - وهم رؤساؤهم وأحبارهم - ليخفون الحق ولا يعلنونه ويخفون صفة النبي مع أنه منعوت لديهم بأظهر النعوت ﴿الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] فهم يكتمون أوصافه عن علم وعرفان ﴿الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي ما أوحاه الله إِليك يا محمد من أمر القبلة والدين هو الحق فلا تكوننَّ من الشاكّين، والخطاب للرسول والمراد أمته ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات﴾ أي لكل أمة من الأمم قبلةٌ هو مولّيها وجهه أي مائل إِليها بوجهه فبادروا وسارعوا أيها المؤمنون إِلى فعل الخيرات ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً﴾ أي في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض أو قمم الجبال يجمعكم الله للحساب فيفصل يبن المحق والمبطل ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسامكم وأبدانكم ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ أي من أيّ مكان خرجت إِليه للسفر فتوجه بوجهك في صلاتك جهة الكعبة ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تقدم تفسيره وكرّره لبيان تساوي حكم السفر والحضر ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ هذا أمر ثالث باستقبال الكعبة المشرفة، وفائدة هذا التكرار أن القبلة كان أول ما نسخ من الأحكام الشرعية، فدعت الحاجة إِلى التكرار لأجل والتقرير وإِزالة الشبهة قال تعالى ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي عرّفكم أمر القبلة لئلا يحتج عليكم اليهود فيقولوا: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا فتكون لها حجة عليكم أو كقول المشركين: يدعى محمد ملة إِبراهيم ويخالف قبلته ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني﴾ أي إِلا الظلمة المعاندين الذين لا يقبلون أيّ تعليل فلا تخافوهم وخافوني {وَلأُتِمَّ
البَلاَغَة: ١ - وضع اسم الموصول موضع الضمير في قوله ﴿أُوتُواْ الكتاب﴾ للإِيذان بكمال سوء حالهم من العناد.
٢ - ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم﴾ هذا من باب التهييج والإِلهاب للثبات على الحق.
٣ - ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ هذه الجملة أبلغ في النفي من قوله ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ لأنها جملة اسمية أولاً ولتأكيد نفيها بالباء ثانياً ذكره صاحب الفتوحات الإِلهية.
٤ - ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ فيه تشبيه «مرسل مفصل» أي يعرفون محمداً معرفةً واضحة كمعرفة أبنائهم الذين من أصلابهم.
الفوَائِد: الأولى: روي أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ولست أشك فيه أنه نبيٌّ، وأما ولدي فلا أدري ما كان من أمه فلعلها خانت، فقبّل عمر رأسه.
الثانية: توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم، ولهذا زاد الله في ذم أهل الكتاب بقوله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فإِنه ليس المرتكب ذنباً عن جهلٍ كمن يرتكبه عن علم.
الثالثة: تكرر الأمر باستقبال الكعبة ثلاث مرات قال القرطبي: والحكمة في هذا التكرار أن الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو ببقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
اللغَة: ﴿الكتاب﴾ القرآن العظيم ﴿الحكمة﴾ السنّة النبوية ﴿فاذكروني﴾ أصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور، وسُمّي الذكر باللسان ذكراً لأنه علامة على الذكر القلبي ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أصل البلاء المحنة، ثم قد يكون بالخير أو بالشر ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير﴾ [الأنبياء: ٣٥] ﴿مُّصِيبَةٌ﴾ المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه في نفسه أو ماله أو ولده ﴿صَلَوَاتٌ﴾ الأصل في الصلاة الدعاء وهي من الله بمعنى الرحمة ومن الملائكة بمعنى الاستغفار.
التفسير: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ﴾ الكلام متعلق بما سبق في قوله ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾ [البقرة: ١٥٠] والمعنى كما اتممت عليكم نعمتي كذلك أرسلت فيكم رسولاً منكم ﴿يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ أي يقرأ عليكم القرآن ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي يطهركم من الشرك وقبيح الفعال ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة﴾ أي يعلمكم أحكام الكتاب المجيد، والسنة النبوية المطهرة ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أي يعلمكم من أمور الدنيا والدين الشيء الكثير الذي لم تكونوا تعلمونه ﴿فاذكروني أَذْكُرْكُمْ﴾ أي اذكروني بالعبادة والطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة ﴿واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ أي اشكروا نعمتي عليكم ولا تكفروها بالجحود والعصيان، روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه: «تذكرني ولا تنساني، فإِذا ذكرتني فقد شكرتني، وإِذا نسيتني فقد كفرتني» ثم نادى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بلفظ الإِيمان ليستنهض هممهم إِلى امتثال الأوامر الإِلهية، وهو النداء الثاني الذي جاء في هذه السورة الكريمة فقال ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة﴾ أي استعينوا على أمور دنياكم وآخرتكم بالصبر والصلاة فالبصبر تنالون كل فضيلة، وبالصلاة تنتهون عن كل رذيلة ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ أي معهم بالنصر والمعونة والحفظ والتأييد ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ أي لا تقولوا للشهداء إنهم أموات ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ أي بل هم أحياءً عند ربهم يرزقون ولكن لا تشعرون بذلك لأنهم في حياةٍ برزخية أسمي من هذه الحياة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات﴾ أي ولنختبرنكم بشيءٍ يسير من ألوان البلاء مثل الخوف والجوع، وذهاب بعض الأموال، وموت بعض الأحباب، وضياع بعض الزروع والثمار ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾ أي بشر الصابرين على المصائب والبلايا بجنات النعيم ثم بيّن تعالى تعريف الصابرين بقوله ﴿الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ﴾ أي نزل بهم كرب أو بلاء أو مكروه ﴿قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي استرجعوا وأقروا بأنهم عبيد الله يفعل بهم ما يشاء ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر لهم ثناء وتمجيد ورحمة من الله، وهم المهتدون إِلى طريق السعادة.
البَلاَغَة: ١ - بين كلمتي ﴿أَرْسَلْنَا﴾ و ﴿رَسُولاً﴾ جناس الاشتقاق وهو من المحسنات البديعية.
٣ - ﴿أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ فيه إيجاز بالحذف أي لا تقولوا هم أموات بل هم أحياء (وبينهما طباق).
٤ - التنكير في قوله ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف﴾ للتقليل أي بشيء قليل.
٥ - ﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ التنوين فيهما للتفخيم، والتعرض بعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى ضميرهم ﴿رَّبِّهِمْ﴾ لإِظهار مزيد العناية بهم.
٦ - ﴿هُمُ المهتدون﴾ صيغة قصر وهو من نوع قصر الصفة على الموصوف.
وائِد: الأولى: روي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «ما أصابتني مصيبة إِلا وجدتُ فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير ثم تلا قوله تعالى: ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون﴾ ».
الثانية: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إِذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمِدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيتَ الحمد».
اللغَة: ﴿شَعَآئِرِ الله﴾ جمع شعيرة وهي في اللغة: العلامة ومنه الشِّعار، وأشعر الهَدْي جعل له علامة ليعرف بها، والشعائر: كلُّ ما تعبّدنا الله به من أمور الدين كالطواف والسعي والأذان ونحوه. {
التفِسير: ﴿إِنَّ الصفا والمروة﴾ اسم الجبلين بمقربة من البيت الحرام ﴿مِن شَعَآئِرِ الله﴾ أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبَدنا الله بها ﴿فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر﴾ أي من قصد بيت الله للحج أو قصده للزيارة بأحد النسكين «الحج» أو «العمرة» ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي لا حرج ولا إِثم عليه أن يسعى بينهما، فإِذا كان المشركون يسعون بينهما ويتمسحون بالأصنام، فاسعوا أنتم لله رب العالمين، ولا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ أي من تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته المفروضة عليه، أو فعل خيراً فرضاً كان أو نقلاً ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي إِنه سبحانه شاكرٌ له طاعته ومجازيه عليها خير الجزاء، لأنه عليم بكل ما يصدر من عباده من الأعمال فلا يضيع عنده أجر المحسنين ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى﴾ أي يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب﴾ أي من بعد توضيحه لهم في التوراة أو في الكتب السماوية كقوله تعالى ﴿الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] ﴿أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ أي أولئك الموصوفون بقبيح الأعمال، الكاتمون لأوصاف الرسول، المحرّفون لأحكام التوراة يلعنهم الله فيبعدهم من رحمته، وتلعنهم الملائكة والمؤمنون ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أي إِلا الذين ندموا على ما صنعوا، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان، وبينوا للناس حقيقة ما أنزل الله فأولئك يقبل الله توبتهم ويشملهم برحمته ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي كثير التوبة على عبادي، واسع الرحمة بهم، أصفح عما فرط منهم من السيئات ﴿إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي كفروا بالله واستمرّوا على الكفر حتى داهمهم الموت وهم على تلك الحالة ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ أي يلعنهم الله وملائكته وأهل الأرض جميعاً، حتى الكفار فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي خالدين في النار - وفي إِضمارها تفخيم لشأنها - ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب﴾ أي إن عذابهم في جهنم دائم لا ينقطع لا يخف عنهم طرفة عين
﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: ٧٥] ﴿وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي ولا يمهلون أو يؤجلون بل يلاقيهم العذاب حال مفارقة الحياة الدنيا.
سَبَبُ النّزول: عن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإِسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله ﴿إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿مِن شَعَآئِرِ الله﴾ أي من شعائر دين الله ففيه إِيجاز بالحذف.
٣ - ﴿يَلعَنُهُمُ الله﴾ فيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة إذ الأصل «نلعنهم» ولكن في إظهار الاسم الجليل ﴿يَلعَنُهُمُ الله﴾ إِلقاء الروعة والمهابة في القلب.
٤ - ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ فيه جناس الاشتقاق. وهو من المحسنات البديعية.
٥ - ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في اللعنة أو في النار وأضمرت النار تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرها.
٦ - ﴿وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ إيثار الجملة الإِسمية لإِفادة دوام النفي واستمراره.
الفوَائِد: الأولى: كان على الصفا صنم يقال له «إِساف» وعلى المروة صنم يقال له «نائلة» فكان المشركون إِذا طافوا تمسحوا بهما فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية ولذلك تخرجوا من الطواف لهذا السبب فنزلة الآية تبّين أنهما من شعائر الله وأنه لا حرج عليهم في السعي بينهما فالمسلمون يسعون لله لا للأصنام.
الثانية: الشكر معناه مقابلة النعمة والإِحسان بالثناء والعرفان، وهذا المعنى محالٌ على الله إِذ ليس لأحد عنده يدٌ ونعمة حتى يشكره عليها ولهذا حملة العلماء على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين أقول: والصحيح ما عليه السلف من إثبات الصفات كما وردت، فهو شكر يليق بجلاله وكماله.
اللغَة: ﴿وإلهكم﴾ الإِله: المعبود بحقٍ أو باطل والمراد به هنا المعبود بحق وهو الله رب العالمين ﴿الفلك﴾ ما عظم من السفن وهو اسم يطلق على المفرد والجمع ﴿وَبَثَّ﴾ فرَّق ونشر ومنه ﴿كالفراش المبثوث﴾ [القارعة: ٤] ﴿دَآبَّةٍ﴾ الدابة في اللغة: كل ما يدب على الأرض من إِنسانٍ ويحوان مأخوذ من الدبيب وهو المشي رويداً وقد خصّه العرف بالحيوان، ويدل على المعنى اللغوي قوله تعالى ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥] فجمع بين الزواحف والإِنسان والحيوان ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ الريّاح: جمع ريح وهي نسيم الهواء، وتصريفُها تقليبها في الجهات ونقلها من حال إِلى حال، فتهب حارة وباردة، وعاصفة ولينة، وملقحة للنبات وعقيماً ﴿المسخر﴾ من التسخير وهو التذليل والتيسير ﴿أَندَاداً﴾ جمع نِدّ وهو المماثل والمراد بها الأوثان والأصنام ﴿الأسباب﴾ جمع سبب وأصله الحبل والمراد به ما يكون بين الناس من روابط كالنسب والصداقة ﴿كَرَّةً﴾ الكرَّة: الرَّجعة والعودة إِلى الحالة التي كان فيها ﴿حَسَرَاتٍ﴾ جمع حسْرة وهي أشد الندم على شيء فائت وفي التنزيل ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ [الزمر: ٥٦].
سَبَبُ النّزول: عن عطاء قال: أنزلة بالمدينة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وإلهكم﴾ فقالت كفار قريش بمكة كيف يسعُ الناس إِلهٌ واحد؟ فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض... إِلى قوله لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
التفسِير: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ أي إِلهكم المستحق للعبادة إِلهٌ واحد، لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم﴾ أي لا معبود بحق إِلا هو جلّ وعلا مُولي النعم ومصدر الإِحسان ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ أي إِن في إِبداع السماوات والأرض بما فيهما ن عجائب الصنعة ودلائل القدرة ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي تعاقبهما بنظام محكم، يأتي الليل فيعقبه النهار، وينسلخ النهار فيعقبه الليل، ويطول النهار ويقصر الليل والعكس ﴿والفلك التي تَجْرِي فِي البحر﴾ أي السفن الضخمة الكبيرة التي تسير في البحر على وجه الماء وهي موقرةٌ بالأثقال ﴿بِمَا يَنفَعُ الناس﴾ أي بما فيه مصالح الناس من أنواع المتاجر والبضائع ﴿وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ﴾ أي وما أنزل الله من السحاب من المطر الذي جاء به حياة البلاد والعباد ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي أحيا بهذا الماء الزروع والأشجار، بعد أن كانت يابسة مجدبة ليس فيها حبوب ولا ثمار ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ أي نشر وفرّق في الأرض ن كل ما يدب عليها من أنواع الدواب، المختلفة في أحجامها وأشكالها وألوانها وأصواتها ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ أي تقليب الرياح في هبوبها جنوباً وشمالاً، حارة وباردة، وليّنة وعاصفة ﴿والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض﴾ أي السحاب المذلّل بقدرة الله، يسير حيث شاء الله وهو يحمل الماء الغزير ثم يصبُّه على الأرض قطرات
. قال تعالى ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أي أنه تعالى كما أراهم شدة عذابه كذلك ربهم أعمالهم القبيحة ندامات شديدة وحسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾ أي ليس لهم سبيل إِلى الخروج من النار، بل هم في عذاب سرمدي وشقاء أبدي.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ ورد الخبر حالياً من التأكيد تنزيلاً للمنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن بين أيديهم من البراهين الساطعة والحجج القاطعة ما لو تأملوه لوجدوا فيه غاية الإِقناع.
٢ - ﴿لآيَاتٍ﴾ التنكير في آيات للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على قدرة قاهرة وحكمة باهرة.
٣ - ﴿كَحُبِّ الله﴾ فيه تشبيه (مرسل مجمل) حيث ذكرت الأداة وحذف وجه التشبيه.
٤ - ﴿أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ التصريح بالأشدّية أبلغ من أن يقال «أحبُّ لله» كقوله ﴿فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] مع صحة أن يقال: أو أقسى.
٥ - ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا﴾ وضع الظاهر موضع الضمير ﴿ولو يرون﴾ لإِحضار الصورة في ذهن السامع وتسجيل السبب في العذاب الشديد وهو الظلم الفادح.
٦ - في قوله ﴿وَرَأَوُاْ العذاب﴾ و ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ من علم البديع ما يسمى ب «الترصيع» وهو أن يكون الكلام مسجوعاً.
٧ - ﴿بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾ الجملة إِسمية وإِيرادها بهذه الصيغة لإِفادة دوام الخلود.
الثانية: ورد لفظ الرياح مفردة ومجموعة، فجاءت مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب كقوله ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] وقوله ﴿وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الفرقان: ٤٨] وقوله ﴿الريح العقيم﴾ [الذاريات: ٤١] وروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول إِذا هبت الريح «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً».
اللغَة: ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾ جمع خُطوة وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي وتستعمل مجازاً في تتبع الآثار ﴿السواء﴾ أصل السُّوء ما يسوء الإِنسان أي يحزنه ويطلق على المعصية قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً لأنها تسوء صاحبها أي تحزنه في الحال أو المآل ﴿الفحشآء﴾ ما يستعظم ويستفحش من المعاصي فهي أقبح أنواع المعاصي ﴿أَلْفَيْنَا﴾ وجدنا ومنه ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾ [يوسف: ٢٥] ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ [الصافات: ٦٩] أي وجدوا ﴿يَنْعِقُ﴾ يصيح يقال: نعق الراعي بغنمه ينعِق نعيقاً إِذا صاح بها وزجرها قال الأخطل:
فانعِقْ بضأنك يا جريرُ فإِنما مَنَّتك نفسُك في الخلاء ضلالاً
﴿أُهِلَّ﴾ الإِهلال: رفع الصوت يقال: أهلَّ المحرم إِذا رفع صوته بالتلبية ومنه إِهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وكان المشركون إِذا ذبحوا ذكروا اللات والعزَّى ورفعوا بذلك أصواتهم ﴿اضطر﴾ أُلجئ أي ألجأته الضرورة إلى الأكل من المحرمات ﴿بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ الباغي من البغي والعادي من العدوان، وهما بمعنى الظلم وتجاوز الحدّ ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من التزكية وهي التطهير ﴿شِقَاقٍ﴾ الشقاق: الخلاف والعداوة.
التفسِير: ﴿ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً﴾ الخطاب عام لجميع البشر أي كلوا ممّا أحله الله لكم من الطيبات حال كونه مستطاباً في نفسه غير ضار بالأبدان والعقول ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي لا تقتدوا بآثار الشيطان فيما يزينه لكم من المعاصي والفواحش ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي إِنه عظيم العداوة لكم وعداوته ظاهرة لا تخفى على عاقل ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء﴾ أي لا يأمركم الشيطان بما فيه خير إِنما يأمركم بالمعاصي والمنكرات وما تناهي في القبح من الرذائل ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي وأن تفتروا على الله بتحريم ما أحل لكم وتحليل ما حرّم عليكم فتحلوا وتحرّموا من تلقاء أنفسكم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله﴾ أي وإِذا قيل للمشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي والقرآن واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل ﴿قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ﴾ أي بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، قال تعالى في الردّ عليهم ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي أيتبّعون آباءهم ولو كانوا سفهاء أغبياء ليس لهم عقل يردعهم عن الشر ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من حالهم في تقليدهم الأعمى للآباء، ثم ضرب تعالى مثلاً للكافرين في غاية الوضوح والجلاء فقال تعالى ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ أي ومثل الكفار في عدم انتفاعهم بالقرآن وحججه الساطعة ومثل من يدعوهم إِلى الهدى كمثل الراعي الذي يصيح بغنمه ويزجرها فهي تسمع الصوت والنداء دون أن تفهم الكلام والمراد، أو تدرك المعنى الذي يقال لها، فهؤلاء الكفار كالدواب السارحة لا يفهمون ما تدعوهم إِليه ولا يفقهون، يسمعون القرآن ويصمّون عنه الآذان
﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: ٤٤] ولهذا قال تعالى ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي صمٌّ عن
﴿التوراة﴾ [آل عمران: ٣] ببيان الحق فكتموا وحرّفوا ما فيه ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب﴾ أي اختلفوا في تأويله وتحريفه ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي في خلاف بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشدّ العذاب.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمر محمد وأمر شرائعه فنزلت ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب﴾ الآية.
البَلاَغَة: ١ - ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾ استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره قال في تلخيص البيان: وهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعته فيما يأمر به وقبول قوله فيما يدعو إِلى فعله.
٣ - ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ﴾ فيه تشبيه (مرسل ومجمل) مرسل لذكر الأداة ومجمل لحذف وجه الشبه فقد شبه الكفار بالبهائم التي تسمع صوت المنادي دون أن تفقه كلامه وتعرف مراده.
٤ - ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ حذفت أداة الشبه ووجه الشبه فهو «تشبيه بليغ» أي هم كالصم في عدم سماع الحق وكالعمي وكالبكم في عدم الانتفاع بنور القرآن.
٥ - ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار﴾ مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إِليه أي إِنما يأكلون المال الحرام الذي يفضي بهم إِلى النار وقوله ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم وتصويرهم بمن يتناول رضف جهنم، وذلك أفظع سماعاً وأشد إيجاعاً.
٦ - ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ استعارة والمراد استبدلوا الكفر بالإِيمان وقد تقدّم في أول السورة إِجراء هذه الاستعارة.
الفوَائِد: الأولى: عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ﴾ فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله: أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال يا سعد: أطبْ مطعمَك تكنْ مستجابَ الدعوة، والذي نفس محمد بيده إِن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبَّلُ منه أربعين يوماً، وأيمّا عبدٍ نبت لحمة من السُّحتِ والربا فالنارُ أولى به.
الثانية: قال بعض السلف: «يدخل في اتباع خطواتٍ الشيطان كلُّ معصية لله، وكل نذرٍ في المعاصي قال الشعبي: نذر رجلٌ أن ينحر ابنه فأقناه مسروقٌ بذبح كبش وقال: هذا من خطوات الشيطان».
الثالثة: قال ابن القيم في أعلام الموقعين عن قوله تعالى ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ قال: لك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرّق، فإِن جعلته من المركب كان تشبيهاً للكفار - في عدم فقههم وانتفاعهم - بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئاً غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء، وإِن جعلته من التشبيه المفرّق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إِلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إِلى الهدى بمنزلة النعق، وإِدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإِدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم.
اللغَة: ﴿البر﴾ اسم جامع للطاعت واعمال الخير ﴿الرقاب﴾ جمع رقبة وهي في الأصل العُنقُ، وتطلق على البدن كله كما تطل العين على الجاسوس والمراد في الآية الأسرى والأرقاء ﴿البأسآء﴾ الفقر ﴿الضراء﴾ السقُّم والوجع ﴿البأس﴾ القتال وأصل البأس في اللغة: الشدّة ﴿كُتِبَ﴾ فرض ﴿القصاص﴾ العقوبة بالمثل من قتل أو جرح مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١] اتبعى أثره ﴿القتلى﴾ جمع قتيل يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل ﴿الألباب﴾ العقول جمع لب مأخوذ من لبّ النخلة ﴿إِثْماً﴾ الإِثم: الذنب ﴿جَنَفاً﴾ الجنف: العدول عن الحق على وجه الخطأ.
سَبَبُ النّزول: عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشيطان، وكان الحيُّ منهم إِذا كان فيهم منعة فقتل عبدُهم عبد آخرين قالوا لن نقتل به إِلا حراً، وإِذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا لن نقتل بها إِلا رجلاً فأنزل الله ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾.
التفِسير: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب﴾ أي ليس فعلُ الخير وعملُ الصالح محصوراً في أن يتوجه الإِنسان في صلاته جهة المشرق والمغرب ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ أي ولكنَّ البِرَّ الصحيح هو الإِيمان بالله واليوم الآخر ﴿والملائكة والكتاب والنبيين﴾
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ أي فرض عليكم أن تقتصوا للمقتول من قاتله بالمساواة دون بغي أو عدوان ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ أي اقتصوا من الجاني فقط فإِذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوه به، وإِذا قتل العبد العبد فاقتلوه به، وكذلك الأنثى إِذا قتلت الأنثى، مثلاً بمثلٍ ولا تعتدوا فتقتلوا غير الجاني، فإِن أخذ غير الجاني ليس بقصاص بل هو ظلم واعتداء ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي فمن تُرك له من دم أخيه المقتول شيء، بأن ترك وليُّه القود وأسقط القصاص راضياً بقبول الدية ﴿فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي فعلى العافي اتباعٌ للقاتل بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنفٍ ولا إِرهاق، وعلى القاتل أداءٌ للدية إِلى العافي - ولي المقتول - بلا مطل ولا بخس ﴿ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي ما شرعته لكم من العفو إِلى الدية تخفيف من ربكم عليكم ورحمة منه بكم، ففي الدية تخفيف على القاتل ونفع لأولياء القتيل، وقد جمع الإِسلام في عقوبة القتل بين العدل والرحمة، فجعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إِذا طالبوا به وذلك عدل، وشرع لديه إِذا أسقطوا القصاص غير القاتل وذلك رحمة ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي فمن اعتدى على القاتل بعد قبول الدية فله عذاب أليم في الآخرة ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب﴾ أي ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت من القصاص حياةٌ وأيُّ حياة لأنه من علم أنه إِذا قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله وبذلك تُصان الدماء وتحفُظ حياة الناس ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لعلكم تنزجرون وتتقون محارم الله ومآثمه ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ أي فرض عليكم إِذا أشرف أحدكم على الموت وقد ترك مالاً كثيراً ﴿الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين﴾ أي وجب عليه الإِيصاء للوالدين والأقربين ﴿بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين﴾ أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث وألا يوصي للأغنياء ويترك الفقراء، حقاً لازماً على المتقين لله وقد كان هذا واجباً قبل نزول آية المواريث ثم نسخ بآية المواريث ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ أي من غيَّر هذه الوصية بعد ما علمها من وصيّ أو شاهد ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ﴾ أي إِثم هذا التبديل على الذين بدّلوه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فيه وعيد شديد للمبدِّلين ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً﴾ أي فمن علم أو ظنَّ من الموصي ميلاً عن الحق بالخطأ ﴿أَوْ إِثْماً﴾ أي ميلاً عن الحق عمداً ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي أصلح بين الموصي والموصَى
البَلاَغَة: ١ - ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ جعل البرُّ نفس من آمن على طريق المبالغة وهذا معهود في كلام البلغاء إِذ تجدهم يقولون: السخاء حاتم، والشعر زهيرٌ أي أن السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير، وعلى هذا خرّجه سيبويه حيث قال في كتابه قال جلّ وعزّ: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ وإِنما هو ولكنَّ البر برُّ من آمن بالله انتهى ونظير ذلك أن تقول: ليس الكرم أن تبذل درهماً ولكنَّ الكرم بذل الآلاف فلا يناسب ولكنَّ الكريم من يبذل الآلاف.
٢ - ﴿وَفِي الرقاب﴾ إِيجاز بالحذف أي وفي فك الرقاب يعني فداء الأسرى، وفي لفظ الرقاب «مجاز مرسل» حيث أطلق الرقبة وأراد به النفس وهو من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
٣ - ﴿والصابرين فِي البأسآء﴾ الأصل أن يأتي مرفوعاً كقوله ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ﴾ وإِنما نصب على الاختصاص أي وأخصُّ بالذكر الصابرين وهذا الأسلوب معروف بين البلغاء فإِذا ذُكرت صفاتٌ للمدح أو الذم وخولف الإِعراب في بعضها فذلك تفننٌ ويسمى قطعاً لأن تغيير المألوف يدل على مزيد اهتمام بشأنه وتشويق لسماعه.
٥ - ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ﴾ الجملة جاء الخبر فيها فعلاً ماضياً «صدقوا» لإِفادة التحقيق وأن ذلك وقع منهم واستقر، وأتى بخبر الثانية في جملة اسمية ﴿وأولئك هُمُ المتقون﴾ ليدل على الثبوت وأنه ليس متجدداً بل صار كالسجية لهم ومراعاة للفاصلة أيضاً.
٦ - ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ ذكر المتقين من باب الإِلهاب والتهييج.
٧ - الطباق بين ﴿اتباع﴾ و ﴿وَأَدَآءٌ﴾ وبين ﴿الحر﴾ و ﴿العبد﴾.
الفوَائِد: الأولى: في ذكر الأخوة تعطفُ داع إِلى العفو فقد سمّى الله القاتل أخاً لولي المقتول ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ تذكيراً بالأخوَّة الدينية والبشرية حتى يهزّ عطف كل واحد منهما إِلى الآخر فيقع بينهم الفعو والاتباع بالمعروف والأداء بالإِحسان.
الثانية: كان في بني إِسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، وكان في النصارى الدية ولم يكن فيهم القصاص، فأكرم الله هذه الأمة المحمدية وخيرّها بين القصاص والدية والعفو، وهذا من يسر الشريعة الغراء التي جاء بها سيَّد الأنبياء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالثة: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة﴾ بالغة أعلى درجات البلاغة، ونقل عن العرب في هذا المعنى قولهم: القتل أنفى للقتل، ولكنْ لورود الحكمة في القرآن فضلٌ من ناحية حسن البيان، وإِذا شئتَ أن تزداد خبرة بفضل بلاغة القرآن وسمو مرتبته على مرتبة ما نطق به بلغاء البشر فانظر إِلى العبارتين فإِنك تجد من نفحات الإِعجاز ما ينبهك لأن تشهد الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق، أما الحكمة القرآنية فقد جعلت سبب الحياة القصاصُ وهو القتل عقوبةً
اللغَة: ﴿الصيام﴾ في اللغة: الإِمساك عن الشيء قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم قال الشاعر:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ | تحت العَجاج وأخرى تعلك اللُّجما |
ويُرَيْن من أُنس الحديثِ زوانياً | وبهنَّ عن رفَث الرجال نِفَار |
سَبَبُ النّزول: روي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمد أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله {وَإِذَا سَأَلَكَ
التفسير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ ناداهم بلفظ الإِيمان ليحرك فيهم مشاعر الطاعة ويُذْكي فيهم جَذْوة الإِيمان ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ أي فرض عليكم صيام شهر رمضان ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي كما فرض على الأمم قبلكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لتكونوا من المتقين لله المجتنبين لمحارمه ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ أي والصيام أيامه معدودات وهي أيام قلائل، فلم يفرض عليكم الدهر كله تخفيفاً ورحمةً بكم ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي من كان به مرضٌ أو كان مسافراً فأفطر فعليه قضاء عدة ما أفطر من أيام غيرها ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ أي وعلى الذين يستطيعون صيامه مع المشقة لشيخوخةٍ أو ضعفٍ إِذا أفطروا عليهم فدية بقدر طعام مسكين لكل يوم ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ أي فمن زاد على القدر المذكور في الفدية ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ ثم قال تعالى ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي والصوم خير لكم من الفطر والفدية إِن كنتم تعلمون ما في الصوم من أجر وفضيلة، ثم بيّن تعالى وقت الصيام فقال ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان﴾ أي والأيام المعدودات التي فرضتها عليكم أيها المؤمنون هي شهر رمضان الذي أبتدأ فيه نزول القرآن حال كونه هداية للناس لما فيه من إِرشاد وإِعجاز وآيات واضحات تفرق بين الحق والباطل ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أي من حضر منكم الشهر فليصمه ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي ومن كان مريضاً أو مسافراً فأفطر فعليه صيام أيام أخر، وكرّر لئلا يتوهم نسخه بعموم لفظ شهود الشهر ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ أي يريد الله بهذا الترخيص التيسير عليكم لا التعسير ﴿وَلِتُكْمِلُواْ العدة﴾ أي ولتكملوا عدة شهر رمضان بقضاء ما أفطرتم ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ أي ولتحمدوا الله على ما أرشدكم إِليه من معالم الدين ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي ولكي تشكروا الله على فضله وإِحسانه.
. ثم بيّن تعالى أنه قريب يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين فقال ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أي أنا معهم أسمع دعاءهم، وأرى تضرعهم وأعلم حالهم كقوله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦] ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ﴾ أي أجيب دعوة من دعاني إِذا كان عن إِيمان وخشوع قلب ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي إِذا كنت أنا ربكم الغني عنكم أجيب دعاءكم فاستجيبوا أنتم لدعوتي بالإِيمان بي وطاعتي ودوموا على الإِيمان لتكونوا من السعداء الراشدين.. ثم شرع تعالى في بيان تتمة أحكام الصيام بعد أن ذكر آية القرب والدعاء فقال ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ أي أبيحٍ لكم أيها الصائمون غشيان النساء في ليالي الصوم ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ قال ابن عباس: هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تخونونها بمقارفة الجماع ليلة الصيام وكان هذا محرماً في صدر الإِسلام ثم نسخ، روى البخاري عن البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ أي فقبل توبتكم وعفا عنكم لما فعلتموه قبل النسخ ﴿فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾ أي جامعوهن في ليالي الصوم واطلبوا بنكاحهن الولد ولا تباشروهن لقضاء الشهوة فقط ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾ أي كلوا واشربوا إِلى طلوع الفجر ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ أي أمسكوا عن الطعام والشراب والنكاح إِلى غروب الشمس ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾ أي لا تقربوهن ليلاً أو نهاراً ما دمتم معتكفين في المساجد ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ أي تلك أوامر الله وزواجره وأحكامه التي شرعها لكم فلا تخالفوها ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي يتقون المحارم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ التشبيه في الفرضية لا في الكيفية أي فرض الصيام عليكم كما فرض على الأمم قبلكم وهذا التشبيه يسمى «مرسلاً مجملاً».
٢ - ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي من كان مريضاً فأفطر، أو على سفرٍ فأفطر فعليه قضاء أيام بعدد ما أفطر.
٣ - ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ في تفسير الجلالين قدّره بحذف «لا» أي لا يطيقونه، ولا ضرورة لهذا الحذف لأن معنى الآية يطيقونه بجهدٍ شديد وذلك كالشيخ الهرم والحامل والمرضع فهم يستطيعونه لكن مع المشقة الزائدة، والطاقةُ اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة.
٤ - ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى ب «طباق السلف».
٥ - ﴿الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ الرفث كناية عن الجماع وعدّي ب «إِلى» لتضمنه معنى الإِفضاء وهو من الكنايات الحسنة كقوله ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩] وقوله ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] وقوله ﴿فالآن بَاشِرُوهُنَّ﴾ قال ابن عباس: إِن الله عَزَّ وَجَلَّ كريم حليمٌ يكني.
٧ - ﴿الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود﴾ قال الشريف الرضي: وهذه استعارة عجيبة والمراد بها بياض الصبح وسواد الليل والخيطان هاهنا مجاز وإِنما شبههما بذلك لأن بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً، ويكون سواد الليل منقضياً مولّياً، فهما جميعاً ضعيفان إِلا أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً، وذهب الزمخشري إِلى أنه من التشبيه البليغ.
الفوَائِد: الأولى: روي عن الحسن أنه قال: إِن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أما اليهود فإِنها تركت هذا الشهر وصامت يوماً من السنة زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وأما النصارى فإِنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إِلى وقت لا يتغير ثم قالوا عند ذلك نزيد فيه فزادوا عشراً، ثم بعد زمانٍ اشتكى ملكهم فنذر سبعاً فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوماً وهذا معنى قوله تعالى ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً﴾ [التوبة: ٣١].
الثانية: قال الحافظ ابن كثير: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ إِرشادٌ إِلى الاجتهاد في الدعاء عند إِكمال العدة بل وعند كل فطر لحديث
«إِنّ للصائم عند فطره دعوة ما تُرد» وكان عبد الله بن عمرو يقول إِذا أفطر: اللهم إِني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي.
الثالثة: ظاهر نظم الجملة ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ أنهم سألوا عن الله، والسؤال لا يكون عن الذات وإِنما يكون عن شأن من شئونها فقوله في الجواب ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ يدل على أنهم سألوا عن جهة القرب أو البعد، ولم يصدر الجواب ب «قل» أو فقل كما وقع في أجوبه مسائلهم الواردة في آيات أخرى نحو ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: ١٠٥] بل تولّى جوابهم بنفسه إِشعاراً بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل بحيث لا تتوقف إِجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوي الحاجات.
الرابعة: قال الإِمام ابن تيمية «وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطّلعٌ إليهم فدخل في ذلك الإِيمان بأنه قريب من خلقه» وفي الصحيح «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوّه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء.
الخامسة: عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سام
اللغَة: ﴿الباطل﴾ في اللغة: الزائل الذاهب يقال: بطل الشيء بطولاً فهو باطل وفي الشرع هو المال الحرام كالغصب والسرقة والقمار والربا ﴿وَتُدْلُواْ﴾ الإِدلاء في الأصل: إِرسال الدلو في البئر ثم جعل كل إِلقاء أو دفع لقول أو فعل إِدلاءً يقال: أدلى بحجته أي أرسلها والمراد بالإِدلاء هنا الدفع إِلى الحاكم بطريق الرشوة ﴿الأهلة﴾ جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس ثم يصبح قمراً ثم بدراً حين يتكامل نوره ﴿مَوَاقِيتُ﴾ جمع ميقات وهو الوقت كالميعاد بمعنى الوعد وقيل: الميقات منتهى الوقت ﴿ثَقِفْتُمُوهُم﴾ ثقِفَ الشيءَ إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة، ورجل ثَقِفٌ سريع الأخذ لأقرانه قال الشاعر:
فإِمّا تثقفوني فاقتلوني | فمنْ أَثْقفْ فليس إِلى خلود |
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل
التفسير: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله ﴿وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام﴾ أي تدفعوها إِلى الحكام رشوة ﴿لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم﴾ أي ليعينوكم على أخذ طائفة من أموال الناس بالباطل ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم مبطلون تأكلون الحرام ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ أي يسألونك يا محمد عن الهلاك لم يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يعظم ويستدير ثم ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ أي فقل لهم إِنها أوقات لعبادتكم ومعالم تعرفون بها مواعيد الصوم والحج والزكاة ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾ أي ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها كما كنتم تفعلون في الجاهلية ﴿ولكن البر مَنِ اتقى﴾ أي ولكنَّ العمل الصالح الذي يقرّبكم من الله في اجتناب محارم الله ﴿وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ادخلوها كعادة الناس من الأبواب ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي اتقوا الله لتسعدوا وتظفروا برضاه ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي قاتلوا لإِعلاء دين الله من قاتلكم من الكفار ﴿وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي لا تبدءوا بقتالهم فإِنه تعالى لا يحب من ظلم أو اعتدى، وكان هذا في بدء أمر الدعوة ثم نسخ بآية براءة
﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ [الآية: ٣٦] وقيل نسخ بالآية التي بعدها وهي قوله ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ أي اقتلوهم حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي شرّدوهم من أوطانهم وأخرجوهم منها كما أخرجوكم من مكة ﴿والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل﴾ أي فتنة المؤمن عن دينه أشدُّ من قتله، أو كفر الكفار أشد وأبلغ من قتلكم لهم في الحرم، فإِذا استعظموا القتال فيه فكفرهم أعظم ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي لا نبدءوهم بالقتال في الحرم حتى يبدءوا هم بقتالكم فيه ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم﴾ أي إِن بدءوكم بالقتال فلكم حينئذٍ قتالهم لأنهم انتهكوا حرمته والبادي بالشر أظلم ﴿كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين﴾ أي هذا الحكم جزاء كل من كفر بالله ﴿فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فإن انتهوا عن الشرك وأسلموا فكفّوا عنهم فإِن الله يغفر لمن تاب وأناب ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ﴾ أي قاتلوا المحاربين حتى تكسروا شوكتهم ولا يبقى شرك على وجه الأرض ويصبح دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان ﴿فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ أي فإِن انتهوا عن قتالكم فكفوا عن قتلهم فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إِلا على الظالمين، أو فإِن انتهوا عن الشرك فلا تعتدوا عليهم ثم بيّن تعالى أن قتال المشركين في الشهر الحرام يبيح للمؤمنين دفع العدوان فيه فقال ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ﴾ أي إِذا قاتلوكم
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ هذا النوع من البديع يسمى «الأسلوب الحكيم» فقد سألوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الهلال لمَ يبدوا صغيراً ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟ فصرفهم إِلى بيان الحكمة من الأهلة وكأنه يقول: كان الأولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهلة لا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره، وهذا ما يسميه علماء البلاغة «الأسلوب الحكيم».
٢ - ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ فيه إِيجاز بالحذف تقديره: هتكُ حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام ويسمى حذف الإِيجاز.
٣ - ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ سمّي جزاء العدوان عدواناً من قبيل «المشاكلة» وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقوله ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] قال الزجاج: العرب تقول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه.
فَائِدَة: لا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال أو الجهاد إِلا ويقرن بكلمة «سبيل الله» وفي ذلك دلالة واضحة على أن الغاية من القتال غاية شريفة نبيلة هي إِعلاء كلمة الله لا السيطرة أو المغنم أو الاستعلاء في الأرض أو غيرها من الغايات الدنيئة.
تنبيه: كل ما ورد في القرآن بصيغة السؤال أجيب عنه ب «قل» بلا فاء إلا في طه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [الآية: ١٠٥] فقد وردت بالفاء، والحكمة أن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال وفي طه كان قبله إذ تقديره إن سئلت عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً.
فَائِدَة: روي أن رجلاً من المسلمين حمل على جيش الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيديه إِلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري إِنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار حين أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه فقلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فنزلت ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ فكانت التهلكة الإِقامة على الأموال وإِصلاحها وترك
اللغَة: ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾ الإِحصار: معناه المنع والحبس يقال حَصرَه عن السفر وأحصره إِذا حبسه ومنعه قال الأزهري: حُصر الرجلُ في الحبس، وأُحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاعٍ به ﴿الهدي﴾ هو ما يُهدى إِلى بيت الله من أنواع النعم كالإِبل والبقر والغنم وأقله شاة ﴿مَحِلَّهُ﴾ المحِلُّ: الموضع
سبب النزول: أولاً: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون فإِذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾.
ثانياً: وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحُمْس وسائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإِسلام أمر الله تعالى نبيّه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، وكانت قريش تفيض من جمع من المشعر الحرام فأنزل الله تعالى ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾.
التفسِير: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ﴾ أي أدوهما تامين بأركانهما وشروطهما لوجه الله تعالى ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ أي إذا منعتم عن إتمام الحج أو العمرة بمرضٍ أو عدوٍ وأردتم التحلل فعليكم أن تذبحوا ما تيسر من بدنة أو بقرةٍ أو شاة ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ أي لا تتحللوا من إحرامكم بالحلق أو التقصير حتى يصل الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه وهو الحرم أو مكان الإِحصار ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أي فمن كان منكم معشر المحرمين مريضاً مرضاً يتضرر معه بالشعر فحلق، أو كان به أذى من رأسه كقملٍ وصداعٍ فحلق في الإِحرام، فعليه فدية وهي إما صيام ثلاثة أيام أو يتصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين أو يذبح ذبيحة وأقلها شاة ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ أي كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ أي من اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها، فعليه ما تيسّر من الهدي وهو شاة يذبحها شكراً لله تعالى ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أي من لم يجد ثمن الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أي عشرة أيام كاملة تجزئ عن الذبح، وثوابها كثوابه من غير نقصان ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ أي ذلك التمتع أو الهَدْي خاص بغير أهل الحرام، أما سكّان الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي خافوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه واعلموا أن عقابه شديد لمن خالف أمره.
ثم بيّن تعالى وقت الحج فقال: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ أي وقت الحج هو تلك الأشهر المعروفة بين الناس وهي: شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ أي من ألزم نفسه الحجَّ بالإحرام والتلبية ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ أي لا يقرب
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ كناية عن ذبحه في مكان الإحصار.
٢ - ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً﴾ فيه إيجاز بالحذف أي كان مريضاً فحلق أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية.
٣ - ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ فيه التفات من الغائب إلى المخاطب وهو من المحسنات البديعية.
٤ - ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فيه إجمال بعد التفصيل وهذا من باب «الإطناب» وفائدته زيادة التأكيد والمبالغة في المحافظة على صيامها وعدم التهاون بها أو تنقيص عددها.
٥ - ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله﴾ إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة.
٦ - ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ صيغته نفيٌ وحقيقته نهيٌ أي لا يرفثْ ولا يفسقْ وهو أبلغ من النهي الصريح لأنه يفيد أن هذا الأمر ممّا لا ينبغي أن يقع أصلاً فإنَّ ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه ففي أشهر الحج يكون أقبح وأشنع ففي الإتيان بصيغة وإرادة النهي مبالغة واضحة.
٧ - ﴿فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ فيه تشبيه تمثيلي يسمى (مرسلاً مجملاً).
٨ - المقابلة اللطيفة بين ﴿فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا﴾ وبين ﴿وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً... ﴾ الآية.
فائِدة: أصل النسك: العبادة، وسميت ذبيحة الأنعام نسكاً لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى.
فائدة ثانية: زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة ولهذا ذكر تعالى زاد الآخرة وهو الزاد النافع وفي هذا المعنى يقول الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى... ولاقيتَ بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله... وأنك لم تُرْصِدْ كما كان أرصدا
اللغة: ﴿أَلَدُّ﴾ اللَّدَدُ: شدة الخصومة قال الطبري: الألدُّ: الشديد الخصومة وفي الحديث: «إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلى الله الألدُّ الخَصِم» ﴿الحرث﴾ : الزرع لأنه يزرع ثم يحرث ﴿النسل﴾ الذريّة والولد، وأصله الخروج بسرعة ومنه ﴿إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ [يس: ٥١] وسمي نسلاً لأنه ينسل - يسقط - من بطن أمه بسرعة. ﴿العزة﴾ الأنفة والحميَّة. ﴿حَسْبُهُ﴾ حسب اسم فعل بمعنى كافيه. ﴿المهاد﴾ : الفراش الممهَّد للنوم. ﴿يَشْرِي﴾ : يبيع. ﴿ابتغآء﴾ طلب. ﴿السلم﴾ بكسر السين بمعنى الإسلام وبفتحها بمعنى الصلح، وأصله من الاستسلام وهو الخضوع والانقياد قال الشاعر:
دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ حتى... رأيْتهُم تَوَلَّوْا مُدْبرينا
﴿زَلَلْتُمْ﴾ الزّلل: الانحراف عن الطريق المستقيم وأصله في القدم ثم استعمل في الأمور المعنوية، ﴿ظُلَلٍ﴾ جمع ظلّة وهي ما يستر الشمس ويحجب أشعتها عن الرؤية.
سَبَبُ النّزول: ١ - روي أن الأخنس بن شريق أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأظهر له الإسلام وحلف أنه يحبه، وكان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمرَّ يزرع لقوم من المسلمين وحُمُر فأحرق الزرع وقتل الحُمُر فأنزل الله تعالى فيه الآيات ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ... ﴾ الآية وإلى قوله: ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل... ﴾ الآية.
٢ - وروي أن صهيباً الرومي لما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة لحقه نفر من قريش من المشركين ليردوه فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأهذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم
التفسِير: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ أي ومن الناس فريق يروقك كلامه يا محمد ويثير إِعجابَك بخلابة لسانه وقوة بيانه، ولكنه منافق كذّاب ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ أي في هذه الحياة فقط أما الآخرة فالحاكم فيها علام الغيوب الذي يطّلع على القلوب والسرائر ﴿وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي يظهر لك الإِيمان ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ أي شديد الصخومة يجادل بالباطل ويتظاهر بالدين والصلاح بكلامه المعسول ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا﴾ أي وإذا انصرف عنك عاث في الأرض فساداً، وقد نزلت في الأخنس ولكنها عامة في كل منافق يقول بلسانه ما لي في قلبه [كقوله] :
يعطيك من طرف اللسان حلاوة... ويروغ فيك كما يروغُ الثعلب
﴿وَيُهْلِكَ الحرث والنسل﴾ أي يهلك الزرع وما تناسل من الإِنسان، والحيوان ومعناه أن فساده عام يشمل الحاضر والباد، فالحرث محل نماء الزروع والثمار، والنسل وهو نتاج الحيوانات التي لا قوام للناس إلا بهما، فإفسادهما تدمير للإنسانية ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾ أي يبغض الفساد ولا يحب المفسدين ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم﴾ أي إذا وُعظ هذا الفاجر وذكِّر وقيل له انزع عن قولك وفعلك القبيح، حملته الأنفة وحميَّةُ الجاهلية على الفعل بالإثم والتكبر عن قبول الحق، فأغرق في الإفساد وأمعن في العناد ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد﴾ أي يكفيه أن تكون له جهنم فراشاً ومهاداً، وبئس هذا الفراش والمهاد ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ هذا هو النوع الثاني وهم الأخيار الأبرار، فبعد أن ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أتبعه بذكر صفات المؤمنين الحميدة والمعنى ومن الناس فريق من أهل الخير والصلاح باع نفسه لله، طلباً لمرضاته ورغبةً في ثوابه لا يتحرى بعمله إلا وجه الله ﴿والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾ أي عظيم الرحمة بالعباد يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات ولا يعجل العقوبة لمن عصاه.. ثم أمر تعالى المؤمنين بالانقياد لحكمه والاستسلام لأمره والدخول في الإِسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه فقال: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً﴾ أي ادخلوا في الإِسلام بكليته في جميع أحكامه وشرائعه، فلا تأخذوا حكماً وتتركوا حكماً، لا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة مثلاً فالإسلام كل لا يتجزأ ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي لا تتبعوا طرق الشيطان وإغواءه فإنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات﴾ أي إن انحرفتم عن الدخول في الإسلام من بعد مجيء الحجج الباهرة والبراهين القاطعة على أنه حق ﴿فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي اعلموا أن الله غالب لا يعجزه الانتقام ممن عصاه حكيم في خلقه وصنعه ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة﴾ أي ما
والمقصود تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وبيان أن الحاكم فيها هو ملك الملوك جل وعلا الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو أحكم الحاكمين.. ثم قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ أي سلْ يا محمد بني إسرائيل - توبيخاً لهم وتقريعاً - كم شاهدوا مع موسى من معجزات باهرات وحجج قاطعات تدل على صدقه ومع ذلك كفروا ولم يؤمنوا ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي من يبدل نعم الله بالكفر والجحود بها فإِن عقاب الله له أليم وشديد ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا﴾ أي زينت لهم شهوات الدنيا ونعيمها حتى نسوا الآخرة وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهافتوا عليها وأعرضوا عن دار الخلود. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ أي وهم مع ذلك يهزؤون ويسخرون بالمؤمنين يرمونهم بقلة العقل لتركهم الدنيا وإقبالهم على الآخرة كقوله: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٢٩] قال تعالى رداً عليهم: ﴿والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي والمؤمنون المتقون لله فوق أولئك الكافرين منزلةً ومكانة، فهم في أعلى علّيين وأولئك في أسفل سافلين، والمؤمنون في الآخرة في أوج العز والكرامة والكافرون في حضيض الذل والمهانة ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي والله يرزق أولياءه رزقاً واسعاً رغداً، لا فناء له ولا انقطاع كقوله: ﴿يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: ٤٠] أو يرزق في الدنيا من شاء من خلقه ويوسع على من شاء مؤمناً كان أو كافراً، براً أو فاجراً على حسب الحكمة والمشيئة دون أن يكون له محاسب سبحانه وتعالى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَخَذَتْهُ العزة بالإثم﴾ ذكر لفظ الإثم بعد قوله العزة يسمى عند علماء البديع ب «التميم» لأنه ربما يتوهم أن المراد عزة الممدوح فذكر بالإِثم ليشير إلى أنها عزة مذمومة.
٢ - ﴿وَلَبِئْسَ المهاد﴾ هذا من باب التهكم أي جعلت لهم جهنم غطاءً ووطاءً فأكرم بذلك كما تكرم الأم ولدها بالغطاء والوطاء اللّينين.
٣ - ﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ استفهام إنكاري في معنى النفي بدليل مجيء إلاّ بعدها أي ما ينتظرون.
٥ - ﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة.
٦ - ﴿زُيِّنَ... وَيَسْخَرُونَ﴾ أورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه مركوزاً في طبيعتهم وعطف عليه بالفعل المضارع ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ للدلالة على استمرار السخرية منهم لأن صيغة المضارع تفيد الدوام والاستمرار.
تنبيه: قال ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في رسالته التدميرية: «وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صحَّ عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقول في جميع ذلك من جنس واحد وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكييفٍ ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه؟ فليقل له: كما لا تعلم كيفية ذاته كذلك لا تعلم كيفية صفاته».
اللغة: ﴿بَغْياً﴾ البغيُ: العدوان والطغيان. ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ مأخوذ من زلزلة الأرض وهو اضطرابها والزلزلة: التحريك الشديد. ﴿كُرْهٌ﴾ مكروهٌ تكرهه نفوسكم قال ابن قتيبة: الكرهُ بالضم المشقة وبالفتح الإكراه والقهر. ﴿صَدٌّ﴾ الصدُّ: المنع يقال: صدّه عن الشيء أي منعه عنه. ﴿يَرْتَدِد﴾ يرجع والردةُ الرجوع من الإِيمان إلى الكفر قال الراغب: الارتداد والردة: الرجوع في الطريق الذي جاء به منه لكن الردَّة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى: ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤] ﴿حَبِطَتْ﴾ بطلت وذهبت قال في اللسان: حبط عمل عملاً ثم أفسده وفي التنزيل ﴿فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٩] أي أبطل ثوابهم ﴿يَرْجُونَ﴾ الرجاء: الأمل والطمع في حصول ما فيه نفعٌ ومصلحة.
سبب النّزول: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عبد الله بن جحش على سرية ليترصدوا عيرا لقريش فيها «عمرو بن الحضرمي» وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف ويتفرق فيه الناس إلى معايشهم وعظم ذلك على المسلمين فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ....﴾ الآية.
التفسِير: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي كانوا على الإِيمان والفطرة المستقيمة فاختلفوا وتنازعوا ﴿فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أي بعث الأنبياء لهداية الناس مبشرين للمؤمنين بجنات النعيم ومنذرين للكافرين بعذاب الجحيم ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾ أي وأنزل معهم الكتب السماوية لهداية البشرية حال كونها منزلة بين الناس في أمر الدين الذي اختلفوا فيه ﴿وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾ أي وما اختلف في الكتاب الهادي المنير المنزل لإِزالة الاختلاف إلا ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾ أي من بعد ظهور الحجج الواضحة والدلائل القاطعة على صدق الكتاب فقد كان خلافهم عن بيّنة وعلم لا عن غفلةٍ وجهل ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي حسداً من الكافرين للمؤمنين ﴿فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ﴾ أي هدى الله المؤمنين للحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة بتيسيره ولطفه ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي هيدي من يشاء هدايته إِلى طريق الحق الموصل إِلى جنات النعيم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ أي بل ظننتم يا معشر المؤمنين أن تدخلو الجنة بدون ابتلاءٍ وامتحان واختبار ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم﴾ أي والحال لم ينكلم مثل ما نال من سبقكم من المؤمنين من المحن الشديدة، ولم تُبتلوا بمثل ما ابتلوا به من النكبات ﴿مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء﴾ أي أصابتهم الشدائد والمصائب والنوائب ﴿وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله﴾ ؟ أي أزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزة حتى وصل بهم
﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٤٠] ثم قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي يسألونك يا محمد ماذا ينفقون وعلى من ينفقون؟ وقد نزلت لمّا قال بعض الصحابة يا رسول الله: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ أي قل لهم يا محمد اصرفوها في هذه الوجوه ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي وكل معروف تفعلونه يعلمه الله وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء، ثم قال تعالى مبيناً حكمة مشروعية القتال في الإِسلام ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ أي فرض عليكم قتال الكفار أيها المؤمنون وهو شاق ومكروه على نفوسكم لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير ﴿وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ أي وقد تحب نفوسكم شيئاً وفيه كل الخطر والضرر عليكم، فلعل لكم في القتال - وإن كرهتموه - خيراً لأن فيه إما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر، ولعل لكم في تركه - وإِن أحببتموه - شراً لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي الله أعلم بعواقب الأمور منكم وأدرى بما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم فبادروا إِلى ما يأمركم به ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي يسألك أصحابك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام أيحل لهم القتال فيه؟ ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي قل لهم القتال فيه أمره كبير ووزره عظيم ولكن هناك ما هو أعظم وأخطر وهو ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله﴾ أي ومنع المؤمنين عن دين الله وكفرهُم بالله وصدُّهم عن المسجد الحرام - يعني مكة - وإِخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته، كلُّ ذلك أعظم وزراً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين، فإِذا استعظموا قتالكم لهم في الشهر الحرام فليعلموا أنَّ ما ارتكبوه في حق النبي والمؤمنين أعظم وأشنع ﴿والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل﴾ أي فتنة المسلم عن دينه حتى يردوه إِلى الكفر بعد إِيمانه أكبر عند الله من القتل ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ﴾ أي ولا يزالون جاهدين في قتالكم حتى يعيدوكم إِلى الكفر والضلال إِن قدروا فهم غير نازعين عن كفرهم وعدوانهم ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه ويرتد عن الإِسلام ثم يموت على الكفر فقد بطل عمله الصالح في الدارين وذهب ثوابه ﴿وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي وهم مخلدون في جهنم لا يخرجون منها أبداً ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي إِن المؤمنين الذين فارقوا الأهل والأوطان وجاهدوا الأعداء لإِعلاء دين الله ﴿أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الجديرون بأن ينالوا رحمة الله والله عظيم المغفرة، واسع الرحمة.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي كانوا أمة واحدة على الإِيمان
٢ - ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أم منقطعة والهمزة فيها للإِنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم ففيه استفهام إِنكاري.
٣ - ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ لمّا تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي كما قال الزمخشري والمعنى: لمّا ينزل بكم مثل ما نزل بمن قبلكم وسينزل فإِن نزل فاصبروا قال المبرد: إِذا قال القائل: لم يأتني زيد فهو نفي لقولك أتاك زيد؟ وإِذا قال: لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه وعلى هذا يكون إِتيان الشدائد على المؤمنين متوقعاً منتظراً.
٤ - ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ في هذه الجملة عدة مؤكدات تدل على تحقق النصر أولاً: بدء الجملة بأداة الاستفتاح «ألا» التي تفيد التأكيد. ثانياً: ذكر «إِنَّ» الدالة على التوكيد أيضاً. ثالثاً: إيثار الجملة الاسمية على الفعلية فلم يقل «ستنصرون» والتعبير بالجملة الاسمية يفيد التأكيد. رابعاً: إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء.
٥ - ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ وضع المصدر موضع اسم المفعول «كرهٌ» مكان «مكروه» للمبالغة كقول الخنساء:
فإِنما هي إِقبال وإِدبار...
- ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً... وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً﴾ بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى ب «المقابلة» فقد قابل بين الكراهية والحب، وبين الخير والشر.
٧ - ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ طباق بالسلب.
فَائدَة: عبّر تعالى بصيغة الواحد عن كتب النبيّين ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب﴾ للإِشارة إِلى أن كتب النبيّين وإِن تعددت هي في لبّها وجوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ... ﴾ [الشورى: ١٣] الآية.
تنبيه: روى البخاري عن خباب بن الأرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «شكونا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو متوسد بردةً في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إِلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»
اللغَة: ﴿الخمر﴾ المسكر من الأشربة سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه ومنه خمّرتُ الإِناء أي غطيته. ﴿الميسر﴾ القمار وأصله من اليسر لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب، وقيل من اليسار لأنه سبب الغنى. ﴿إِثْمٌ﴾ الإِثم: الذنب وجمعه آثام وتسمى الخمر ب «الإِثم» لأن شربها سبب في الإِثم قال الشاعر:
شربت الإِثم حتى ضلَّ عقلي كذاك الإِثم تذهب بالعقول... ﴿العفو﴾ الفضل والزيادة على الحاجة. ﴿أَعْنَتَكُمْ﴾ أوقعكم في الحرج والمشقة، وأصل العنت: المشقة. ﴿أَمَةٌ﴾ الأَمَةُ: المملوكة بملك اليمين وهي تقابل الحرة وجمعها إماء. ﴿المحيض﴾ مصدر بمعنى الحيض كالمعيش بمعنى العيش، وأصل الحيض: السيلان يقال: حاض السيل وفاض وحاضت الشجرة أي سألت ويقال للمرأة حائض وحائضة وأنشد الفراء:
كحائضةٍ يُزنى بها غيرَ طاهر... ﴿حَرْثٌ﴾ الحرث: إِلقاء البذر في الأرض قاله الراغب، وقال الجوهري: الحرث: الزرع، والحارث الزارع ومعنى حرث أي مزرعٌ ومنبتٌ للولد على سبيل التشبيه. ﴿عُرْضَةً﴾ مانعاً وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء فهو عُرضة ولهذا يقال للسحاب: عارض لأنه يمنع رؤية الشمس. ﴿اللغو﴾ الساقط الذي لا يعتد به سواءً كان كلاماً أو غيره ولغو الطائر: تصويته.
سَبَبُ النّزول: أ - جاء جماعة من الأنصار فيهم عمر بن الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا:
ب - عن ابن عباس قال: لمّا أنزل الله ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] انطلق من كان عنده مال يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد واشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ... ﴾ الآية.
ج - عن أنس أن اليهود كانت إِذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت، فسئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ أي يسألونك يا محمد عن حكم الخمر وحكم القمار ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي قل لهم إنِ في تعاطي والميسر ضرراً عظيماً وإِثماً كبيراً ومنافع مادية ضئيلة ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ أي وضررهما أعظم من نفعهما فإِن ضياع العقل وذهاب المال وتعريض البدن للمرض في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت ودمار الأسر وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كلُّ ذلك محسوس مشاهد وإِذا قيس الضرر الفادح بالنفع التافه ظهر خطر المنكر الخبيث ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ أي ويسألونك ماذا ينفقون وماذا يتركون من أموالهم؟ قل لهم: أنفوقا الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إِليه وتضيعوا أنفسكم ﴿كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ أي كما يبّين لكم الأحكام يبيّن لكم المنافع والمضار والحلال والحرام ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة فتعلموا أن الأولى فانية والآخرة باقية فتعملوا لما هو أصلح، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ أي ويسألونك يا محمد عن مخالطة اليتامى في أموالهم أيخالطونهم أم يعتزلونهم؟ فقل لهم: مداخلتهم على وجه الإِصلاح خير من اعتزالهم ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي إِذا خلطتم أموالهم بأموالكم على وجه المصلحة لهم فهم إِخوانكم في الدين، وأخوة الدين أقوى من أخوّة النسب، ومن حقوق هذه الأخوّة المخالطة بالإِصلاح والنفع ﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ أي والله تعالى أعلم وأدرى بمن يقصد بمخالطتهم الخيانة والإِفساد لأموالهم، ويعلم كذلك من يقصد لهم الإِصلاح فيجازي كلاًّ بعمله ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾ أي لو شاء تعالى لأوقعكم في الحرج والمشقة وشدَّد عليكم ولكنه يسّر عليكم الدين وسهّله رحمة بكم ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي هو تعالى الغالب الذي لا يمتنع عليه شيء الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام ثم قال تعالى محذراً من زواج المشركات اللواتي ليس لهن دين سماوي ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ أي لا تتزوجوا أيها المسلمون بالمشركات من غير أهل الكتاب حتى يؤمنَّ بالله واليوم الآخر ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي ولأمة مؤمنة خير وأفضل من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة بجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب أو جاه أو سلطان ﴿وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ﴾ أي ولا تزوجوا بناتكم من المشركين -
. ثم بيّن تعالى أحكام الحيض فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى﴾ ويسألونك يا محمد عن إتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ فقل لهم: إِنه شيء مستقذر ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى للزوجين ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ أي اجتنبوا معاشرة النساء في حالة الحيض ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ أي لا تجامعونن حتى ينقطع عنهم دم الحيض ويغتسلن. والمرادُ التنبيه على أن الغرض عدم المعاشرة لا عدم القرب منهن وعدم مؤاكلتهن ومجالستهن كما كان يفعل اليهود إِذا حاضت عندهم المرأة ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ أي فإِذا تطهَّرن بالماء فأتوهنَّ في المكان الذي أحله الله لكم، وهو مكان النسل والولد القُبُل لا الدبر ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين﴾ أي يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزهين عن الفواحش والأقذار ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ أي نساؤكم مكان زرعكم وموضع نسلكم وفي أرحامهن يتكوّن الولد، فأتوهن في موضع النسل والذرية ولا تتعدوه إِلى غيره قال ابن عباس: اسق نباتك من حيث ينبت. ومعنى ﴿أنى شِئْتُمْ﴾ أي كيف شئتم قائمةً وقاعدةً ومضطجعة بعد أن يكون في مكان الحرث «الفرج» وهو ردٌّ لقول اليهود: إِذا أَتى الرجل امرأته في قُبُلها من دبرها جاء الولد أحول ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أي قدموا صالح الأعمال التي تكون لكم ذخراً في الآخرة ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ﴾ أي خافوا الله باجتناب معاصيه وأيقنوا بأن مصيركم إِليه فيجازيكم بأعمالكم ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي بشرهم بالفوز العظيم في جنات النعيم ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً عن فعل الخير فتتعللوا باليمين بأن يقول أحدكم: قد حلفتُ بالله ألاّ أفعله وأريد أن أبرّ بيميني بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم قال ابن عباس: لا تجعلنَّ الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير ﴿أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس﴾ أي لا تجعلوه تعالى سبباً مانعاً عن البر والتقوى والإِصلاح بين الناس وقد نزلت في «عبد الله بن رواحة» حين حلف ألا يكلّم ختنه «النعمان بن بشير» ولا يصلح بينه وبين أخته ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم.. ثم قال تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا يؤاخذكم بما جرى على لسانكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف كقول أحدكم: بلى والله، ولا والله لا يقصد به اليمين ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي يؤاخذكم بما قصدتم إِليه وعقدتم
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي عن شرب الخمر وتعاطي الميسر.
٢ - ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ هذا من باب التفصيل بعد الإِجمال وهو ما يسمى في البلاغة ب «الإِطناب».
٣ - ﴿كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ فيه تشبيه مرسلٌ مجملٌ.
٤ - ﴿المفسد مِنَ المصلح﴾ في الآية طباقٌ بين كلمة «المفسد» و «المصلح» وهو من المحسنات البديعية.
٥ - ﴿يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة﴾ كذلك يوجد طباق بين كلمة «النار» وكلمة «الجنة.
٦ - ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ فيه تشبيه بليغ حيث حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً وأصله الحيض شيء مستقذر كالأذى فحذف ذلك مبالغة على حد قولهم: عليٌ أسد.
٧ - ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ﴾ كناية عن الجماع.
٨ - ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ﴾ على حذف مضاف أي موضع حرث أو على سبيل التشبيه فالمرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، فالحرث بمعناى المحترث سمي به على سبيل المبالغة.
الفوَائِد الأولاى: تسمى الخمر أم الخبائث لأنها سبب في كل فعل قبيح، روى النسائي عن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال» اجتنبوا الخمر فإِنها أم الخبائث، إِنه كان رجل ممن قبلكم متعبد فعلقته امرأة غوية حتى أفضى إِلى امرأة وضيئة، عندها غلامٌ وباطية خمر فقالت: إِني ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمر كأساً أو تقتل هذا الغلام، قال فاسقيني من هذه الخمر كأساً فسقته كأساً فقال: زيدوني فزادوه فلم يبرح حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإِنها والله لا يجتمع الإِيمان وإِدمان الخمر إِلا ليوشك أن يُخرج أحدهما صاحبه «.
الثانية: كيف يكون في الخمر مناقع مع أنها تذهب بالعقل والمال؟ والجواب أنّ المراد بالمنافع في الآية» المنافع المادية «حيث كانوا يتاجرون بها فيربحون منها الربح الفاحش ويحتمل أن يراد بالنفع تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبّر عنها الشاعر بقوله:
ونشربها فتتركنا ملوكاً | وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاء |
الثالثة: قال الزمخشري: ﴿فاعتزلوا النسآء﴾ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.
اللغَة: ﴿يُؤْلُونَ﴾ الإِيلاء لغة: الحلف يقال: آلى يؤالي إِيلاءً قال الشاعر:
فآلبيت لا أنفك أحدو قصيدةً | تكون وإِياها بها مثلاً بعدي |
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له | ومن حاجة الإِنسان ما ليس قاضيا |
سَبَبُ النّزول: كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ما شاء من الطلاق ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ولو طلقها ألف مرة كان له الحق في مراجعتها، فعمد رجل لامرأته فقال لها: لا آويك ولا أدعك تحلّين قالت: وكيف؟ قال أطلّقك فإِذا دنا مضِيُّ عدتك راجعتك، فشكت المرأة أمرها للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أي للذين يحلفون ألاّ يجامعوا نساءهم للإِضرار بهن انتظار أربعة أشهر ﴿فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إِن رجعوا إِلى عشرة أزواجهن بالمعروف - وهو كناية عن الجماع - أي رجعوا عن اليمين إِلى الوطء فإِن الله يغفر ما صدر منهم من إِساءة ويرحمهم ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي وإِن صمّموا على عدم المعاشرة والامتناع عن الوطء فإِن الله سميعٌ لأقوالهم عليم بنيّاتهم، والمراد من الآية أنّ الزوج إِذا حلف ألا يقرب زوجته تنتظره الزوجة مدة أربعة أشهر فإِن عاشرها في المدة فبها ونعمت ويكون قد حنث في يمينه وعليه الكفارة، وإِن لم يعاشرها وقعت الفرقة والطلاق بمضي تلك المدة عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: ترفع أمره إِلى الحاكم فيأمره إِما بالفيئة أو الطلاق فإِن امتنع عنهما طلّق عليه الحاكم هذا هو خلاصة حكم الإِيلاء.
. ثم قال تعالاى مبيناً أحكام العدّة والطلاق الشرعي ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ أي الواجب على المطلقات المدخول بهن أن ينتظرن مدة ثلاثة أطهار - على قول الشافعي ومالك - أو ثلاث حِيَض على قول أبي حنيفة وأحمد ثم تتزوج إِن شاءت بعد انتهاء عدتها، وهذا في المدخول بها أما غير المدخول بها فلا عدة عليها لقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ [الأحزاب: ٤٩] ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾ أي لا يباح للمطلقات أن يخفين ما في أرحامهن من حبلٍ أو حيض استعجالاً في العدة وإِبطالاً لحق الزوج في الرجعة ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِن كنَّ حقاً مؤمنات بالله
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ خرج الخبر عن ظاهره إِلى معنى الوعيد والتهديد.
٢ - ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ خبرٌ في معنى الأمر وأصل الكلام وليتربصْ الملطقاتُ، قال الزمخشري: وإِخراج الأمر في صيغة الخبر تأكيدٌ للأمر وإِشعارٌ بأنه ممّأ يجب أن يُتلقى بالمسارعة إِلى
٣ - ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله﴾ ليس الغرض منه التقييد بالإِيمان بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن.
٤ - ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ﴾ فيه إٍيجاز وإِبداع لا يخفى على المتمكن من علوم البيان، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأولى والمعنى: لهنّ على الرجال من الحقوق مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق، وفيه من المحسنات البديعية أيضاً الطباق بين «لهنَّ» و «عليهنَّ» وهو طباقٌ بين حرفين.
٥ - ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ بين لفظ «إِمساك» ولفظ «تسريح» طباقٌ أيضاً.
٦ - ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ وضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في النفوس، وتعقيبُ النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.
٧ - ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾ قصر صفة على موصوف.
فَائِدَة: أول خلع كان في الإِسلام في امرأة (ثابت بن قيس) «أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله: لا يجمع الله رأسي ورأسه شيءٌ أبداً، والله ما أعيب عليه في خلقٍ ولا دين ولكن أكره الكر بعد الإِسلام فقال لها عليه السلام:» أَتَرُدِّينَ عَلَيهِ حَدِيقَتَهُ؟ «قالت: نعم ففرّق بينهما».
لطيفَة: روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: إِني لا أحب أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾.
اللغَة: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن من الانتهاء من العدة. ﴿ضِرَاراً﴾ أي بقصد الإِضرار، قال القفال: الضرّار هو المضارّة كقوله: ﴿مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ [التوبة: ١٠٧] أي ليضاروا المؤمنين. ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ العضل:
سَبَبُ النّزول: روي أنّ «معقل بن يسار» زوَّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له: يا لُكَع، أي «يا لئيم» أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها!! والله لا ترجع إِليك أبداً فعلم الله حاجته إِليها وحاجتها إِلى بعلها فأنزل الله ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ..﴾ الآية فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك.
التفسِير: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي إِذا طلقتم يا معشر الرجال النساء طلاقاً رجعياً وقاربن انقضاء العدة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي فراجعوهنّ من غير ضرار ولا أذى أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بإِحسان من غير تطويل العدّة عليهن ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ﴾ أي لا تراجعوهن إِرادة الإِضرار بهنّ لتظلموهن بالإِلجاء إِلى الافتداء، وفيه زجرٌ لما كان عليه الناس حيث كان الزوج يترك المعتدة حتى إِذا شارفت انقضاء العدّة يراجعها للإِضرار بها ليطوّل عليها العدّة لا للرغبة فيها ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي من يمسكها للإِضرار بها أو ليكرهها على الافتداء فقد ظلم بذلك العمل نفسه لأنه عرّضها لعذاب الله ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً﴾ أي لا تهزءوا بأحكام الله وأوامره ونواهيه فتجعلوا شريعته مهزوءاً بها بمخالفتكم لها ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة﴾ أي اذكروا فضل الله عليكم بهدايتكم للإِسلام وما أنعم به عليكم من القرآن العظيم والسنّة المطهّرة ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي يرشدكم ويذكّركم وهدي رسوله إِلى سعادتكم في الدارين ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي خافوا الله وراقبوه في أعمالكم واعلموا أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالكم ثم أمر تعالى الأولياء بعدم عضل النساء الراغبات في العودة إِلى أزواجهن فقال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي إِذا طلقتم النساء وانقضت عدتهن ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف﴾ أي فلا تمنعوهن يا معشر الأولياء من العودة لأزواجهن إِذا صلحت الأحوال بين الزوجين وظهرت أمارات الندم ورضي كل منهما إِلى العودة لصاحبه والسير بما يرضي الله ﴿ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي ما نهيتكم عنه من الإِضرار والعضل يُنصح به ويوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لأنه هو المنتفع بالمواعظ الشرعية ﴿ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أي الاتعاظ بما ذكر والتمسك بأوامر الله خير وأنفع لكم وأطهر من الآثام وأوضار الذنوب ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي والله يعلم ما هو أصلح لكم من الأحكام والشرائع وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا أمره تعالى ونهيه في
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن انقضاء عدتهن أُطلق اسم الكل على الأكثر فهو مجاز مرسل لأنه لو انقضت العدّة لما جاز له إِمساكها والله تعالى يقول: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
٢ - ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة﴾ هو من باب عطف الخاص على العام لأن النعمة يراد بها نعم الله والكتاب والسنّة من أفراد هذه النعم.
٣ - ﴿واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بين كلمة «اعلموا» و «عليم» من المحسنات البديعية ما يسمى بجناس الاشتقاق.
٤ - ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ يراد بأزواجهن «المطلقين» لهن فهو من باب المجاز المرسل والعلاقة اعتبار ما كان.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: الحكمة في إِثبات حق الرجعة أنّ الإِنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشقُّ عليه المفارقة أو لا؟ فإِذا فارقة فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعةً من الرجوع لعظمت المشقة على الإِنسان إِذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما ان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
اللغَة: ﴿فِصَالاً﴾ الفِصال والفَصْل: الفطام سمي به لأن الولد ينفصل عن لبن أمه إِلى غيره من الأقوات، قال المبرّد: الفِصال أحسن من الفصل لأنه إِذا انفصل عن أمه فقد انفصلت عنه فبينهما فِصال كالقِتال والضراب ﴿تَشَاوُرٍ﴾ التشاور: استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشَّوْر وهو استخراج العسل. ﴿يَذَرُونَ﴾ يتركون وهذا الفعل لا يستعمل منه الماضي ولا المصدر. ﴿عَرَّضْتُمْ﴾ التعريض: الإِيماء والتلويح من غير كشفٍ وإظهار، مأخوذ من عرض الشيء أي جانبه كقول الفقير للمحسن: جئت لأنظر إِلى وجهك الكريم ﴿خِطْبَةِ﴾ بكسر الخاء طلب النكاح وبالضم الموعظة كخُطبة الجمعة والعيدين. ﴿أَكْنَنتُمْ﴾ سترتم وأضمرتم والإِكنان: السرُّ والخفاء. ﴿عُقْدَةَ النكاح﴾ من العقد وهو الشدُّ وفي المثل «يا عاقد اذكر حلاً» قال الراغب: العُقدة اسم لما يعقد من نكاح أو يمين أو غيرهما. ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل العقوبة فلا يعجّل بها للعاصي. ﴿المقتر﴾ الفقير يقال: أقتر الرجل إذا افتقر.
سَبَبُ النّزول: روي «أن رجلاً من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها مهراً ثم طلّقها قبل أن يمسَّها فنزلت الآية ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ فقال له النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» متِّعْها وَلوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ «.
التفسِير: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ أي الواجب على الأمهات أن يرضعن أولادهن لمدة سنتين كاملتين ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ أي إِذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ولا زيادة عليه ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف﴾ أي وعلى الأب نفقة الوالدات المطلقات وكسوتهن بما هو متعارف بدون إِسراف ولا تقتير لتقوم بخدمته حق القيام ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي تكون النفقة بقدر الطاقة لأنه تعالى لا يكلّف نفساً إِلا وسعها ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي لا يضرَّ الوالدان بالولد فيفرِّطا في تعهده ويقصّرا في ما ينبغي له، وأو يضارَّ أحدهما الآخر بسبب الولد فترفض الأم إرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، وينتزع الأب الولد منها إِضراراً بها
﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ أي فإِذا انقضت عدتهن فلا إِثم عليكم أَيها الأولياء في الإذن لهنّ بالزواج وفعل ما أباحه لهنّ الشرع من الزينة والتعرض للخطّاب ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عليم بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء﴾ أي لا إِثم عليكم أيها الرجال في التعريض بخطبة النساء المتوفّى عنهن أزواجهن في العدّة، بطريق التلميح لا التصريح، قال ابن عباس: كقول الرجل: وددتُ أنّ الله يسَّر لي امرأةً صالحة، وإِن النساء لمن حاجتي ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾ أي ولا إِثم عليكم أيضاً فيما أخفيتموه في أنفسكم من رغبة الزواج بهنّ ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ أي قد علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم ولا تصبرون عنهن فرفع عنكم الحرج، فاذكروهنَّ ولكنْ لا تواعدوهنَّ بالنكاح سرّاً إِلا بطريق التعريض والتلويح وبالمعروف الذي أقرّه لكم الشرع ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾ أي ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدّة ﴿واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه﴾ أي احذروا عقابه في مخالفتكم أمره ﴿واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي يمحو ذنب من أناب ولا يعاجل العقوبة لمن عصاه. ثم ذكر تعالى حكم المطلقة قبل المساس فقال: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي لا إِثم عليكم أيها الرجال إِن طلقتم النساء قبل المسيس «الجماع» وقبل أن تفرضوا لهنَّ مهراً، فالطلاق في مثل هذه الحالة غير محظور إِذا كان لمصلحة أو ضرورة ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين﴾ أي فإِذا طلقتموهن فادفعوا لهنَّ المتعة تطييباً لخاطرهن وجبراً لوحشة الفراق، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، الموسر بقدر يساره، والمعسر بقدر إِعساره، تمتيعاً بالمعروف حقّاً على المؤمنين المحسنين ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي وإِذا طلقتموهن قبل الجماع وقد كنتم ذكرتم لهنَّ مهراً معيناً فالواجب عليكم أن تدفعوا نصف المهر المسمّى لهن لأنه طلاقٌ قبل المسيس {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ
البَلاَغَة: ١ - ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ﴾ أمر أُخرج مخرج الخبر مبالغة في الحمل على تحقيقه أي ليرضعن كالآية السابقة ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨].
٢ - ﴿تسترضعوا﴾ فيه إٍِيجاز بالحذف أي يسترضعوا المراضع لأولادكم، كما أنّ فيه الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب لأنّ ما قبله ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً﴾ وفائدة هذا الالتفات هز مشاعر الآباء نحو الأبناء.
٣ - ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح﴾ ذكر العزْم للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح، فإِذا نهي عنه كان النهي عن الفعل من باب أولى.
٤ - ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ كنّى تعالى بالمسّ عن الجماع تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به.
٥ - ﴿وَأَن تعفوا﴾ و ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل﴾ الخطاب عام للرجال والنساء ولكنه ورد بطريق التغليب.
٦ - ﴿واعلموا أَنَّ الله﴾ إِظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لتربية المهابة والروعة.
الفَوائِد الأولى: التعبير بلفظ «الوالدات» دون قوله «والمطلقات» أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد، فحصول الطلاق لهنَّ لا ينبغي أن يحرمهنَّ عاطفة الأمومة.
الثانية: أضاف تعالى الولد في الآية الكريمة إِلى كلٍّ من الأبوين في قوله: ﴿وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ و ﴿مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ وذلك لطلب الاستعطاف والإِشفاق عليه، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين هذه أمه وذاك أيوه فمن حقهما أن يشفقا عليه ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإِضرار به.
الثالثة: الحكمة في إِيجاب المتعة للمطلقة هي جبر إِيحاش الطلاق قال ابن عباس: إِن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب، وإِن كان موسراً متعّها بخادم.
الرابعة: روي أنّ الحسن بن علي متّع زوجته بعشرة آلاف درهم فقالت المرأة: «متاعٌ قليلٌ من
اللغَة: ﴿حَافِظُواْ﴾ المحافظة: المداومة على الشيء والمواظبة عليه. ﴿الوسطى﴾ مؤنث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله قال أعرابي يمدح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم | وأكرم الناس أمّاً برّةً وأباً |
التفسِير: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ أي واظبوا أيها المؤمنون وداوموا على أداء الصلوات في أوقاتها وخاصة صلاة العصر فإِن الملائكة تشهدها ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي داوموا على العبادة والطاعة بالخشوع والخضوع أي قوموا لله في صلاتكم خاشعين {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ
البَلاَغَة: ١ - ﴿الصلاة الوسطى﴾ عطف خاص على عام؛ لبيان مزيد فضلها.
٢ - ﴿فَإنْ خِفْتُمْ﴾ ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ بين لفظ خفتم وأمنتم طباق وهو من المحسنات البديعية، قال أبو السعود: وفي إِيراد الشرطية بكلمة «إِن» المنبئة عن عدم تحقق وقوع الخوف، وإِيراد الثانية بكلمة «إِذا» المنبئة عن تحقق وقوع الامن وكثرته مع الإِيجاز في جواب الأولى والإِطناب في جواب الثانية من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولي الأبصار.
تنبيه: الصلاة الوسطى على الراجح من الأقوال هي صلاة العصر لأنها وسط بين الفجر والظهر والمغرب والعشاء ويقوي هذا ما ورد في الصحيحين: «شَغَلُونَا عن الصَّلاةِ الوُسْطَى صَلاَةِ العَصْرِ مَلأَ الله قُلُوبَهُم وَبُيُوتَهُم نَاراً» وفي الحديث: «الّذِي تَفُوتُه صَلاةُ العَصْرِ فَكَأَنَمَا وَتِر أَهْلُهُ وَمَالُهُ» أخرجه الشيخان وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
اللغَة: ﴿أُلُوفٌ﴾ جمع ألف جمع كثرة وفي القلة آلاف، ومعناه كثرة كاثرة وألوف مؤلفة. ﴿حَذَرَ﴾ خشية وخوف ﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ القبض: ضم الشيء والجمع عليه والمراد به التقتير والبسط ضدَّه والمراد به التوسيع قال أبو تمام:
تعوَّد بسطَ الكفِّ حتى لو أنه | دعاها لقبضٍ لم تُجْبه أناملُه |
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ أي ألم يصل إِلى سمعك يا محمد أو أيها المخاطب حال أولئك القوم الذين خرجوا من وطنهم وهم ألف مؤلفة ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي خوفاً من الموت وفراراً منه، والغرض من الاستفهام التعجيب والتشويق إِلى سماع قصتهم وكانوا سبعين ألفاً ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ أي أماتهم الله ثم أحياهم، وهم قوم من بني إِسرائيل دعاهم ملكهم إِلى الجهاد فهربوا خوفاً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم بدعوة نبيهم «حزقيل» فعاشوا بعد ذلك دهراً، وقيل: هربوا من الطاعون فأماتهم الله قال ابن كثير: وفي هذه القصة عبرةٌ على أنه لا يغني تحذرٌ من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إِلا إِليه ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ أي ذو إِنعام وإِحسان على الناس حيث يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة ما يبصّرهم بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي لا يشكرون الله على نعمه بل ينكرون ويجحدون ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي قاتلوا الكفار لإِعلاء دين الله، لا لحظوظ النفس وأهوائها واعلموا أنّ الله سميع لأقوالكم، عليم بنيّاتكم وأحوالكم فيجازيكم عليها، وكما أنّ الحذر لا يغني من القدر فكذلك الفرار من الجهاد لا يقرّب أجلاً ولا يبعده ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ أي من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله، ولإِعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير، فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافاً كثيرة؟ لأنه قرضٌ لأغنى الأغنياء ربّ العالمين جلّ جلاله وفي الحديث
«مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيم وَلاَ ظَلُومٍ» ﴿والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أي يقتّر على من يشاء ويوسّع على من يشاء ابتلاءً وامتحاناً ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى﴾ أي ألم يصل خبر القوم إليك؟ وهو تعجيب وتشويق للسامع كما تقدم وكانوا من بني إسرائيل وبعد وفاة موسى عليه السلام كما دلت عليه الآية ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي حين قالوا لنبيِّهم «شمعون» - وهو من نسل هارون أقم لنا أميراً واجعله قائداً لنا لنقاتل معه الأعداء في سبيل الله ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ﴾ أي قال لهم نبيّهم: أخشى أن يُفرض عليكم القتال ثم لا تقاتلوا عدوكم وتجبنوا عن لقائه ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ أي أيُّ سببٍ لنا في ألاّ نقاتل عدونا وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ قال تعالى بياناً لما انطوت عليه نفوسهم من الهلع والجبن ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ أي لما فرض عليهم القتال نكل أكثرهم عن
. ولمّا طلبوا آية تدل على اصطفاء الله لطالوت أجابهم إِلى ذلك ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي علامة ملكه واصطفائه عليكم ﴿أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت﴾ أي يردَّ الله إِليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو كما قال الزمخشري: صندوق التوراة الذي كان موسى عليه السلام إِذا قاتل قدَّمه فكانت تسكن نفوس بني إِسرائيل ولا يفرون ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الملائكة﴾ أي في التابوت السكون والطمأنينة والوقار وفيه أيضاً بقية من آثار آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وثيابه وبعض الألواح التي كتبت فيها التوراة تحمله الملائكة، قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعه بين يدي طالوت والناس ينظرون ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إِن في نزول التابوت لعلامة واضحة أنّ الله اختاره ليكون ملكاً عليكم إِن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود﴾ أي خرج بالجيش وانفصل عن بيت المقدس وجاوزه وكانوا ثمانين أخذ بهم في أرض قفرة فأصابهم حرٌّ وعطشٌ شديد ﴿قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي مختبركم بنهر وهو نهر الشريعة المشهور بين الأردن وفلسطين ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي من شرب منه فلا يصحبني - وأراد بذلك أن يختبر إِرادتهم وطاعتهم قبل أن يخوض بهم غمار الحرب - ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ أي من لم يشرب منه ولم يذقه فإِنه من جندي الذين يقاتلون معي ﴿إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أي لكن من اغترف قليلاً من الماء ليبلَّ عطشه وينقع غلته فلا بأس بذلك، فأذن لهم برشفةٍ من الماء تذهب بالعطش ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ أي شرب الجيش منه إِلا فئة قليلة صبرت على العطش، قال السدي: شرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقّى معه أربعة آلاف ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ أي
البَلاَغَة: ١ - قال أبو حيان: تضمنت الآية الكريمة من ضروب البلاغة وصنوف البيان أموراً كثيرة منها الاستفهام الذي أُجري مجرى التعجب في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين﴾ والحذف بين ﴿مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ أي فماتوا ثم أحياهم، والطباق في قوله: ﴿مُوتُواْ﴾ و ﴿أَحْيَاهُمْ﴾ كذلك في قوله: ﴿يَقْبِضُ﴾ و ﴿وَيَبْسُطُ﴾ والتكرار في قوله: ﴿فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ و ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس﴾ والالتفات في ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والتشبيه بدون الأداة في قوله: ﴿قَرْضاً حَسَناً﴾ شبّه قبوله تعالى إِنفاق العبد في سبيله بالقرض الحقيقي فأطلق اسم القرض عليه، والتجنيس المغاير في قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ وقوله: ﴿أَضْعَافاً﴾.
الفوَائِد: الأولى: أسند الاستقراض إِلى الله في قوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله﴾ وهو المنزه عن الحاجات ترغيباً في الصدقة كما أضاف الإِحسان إِلى المريض والجائع والعطشان إِلى نفسه تعالى في قوله جلّ وعلا في الحديث القدسي: «ابن آدم مرضتُ فلم تعدني» و «اسعطعمتك فلم تطعمني» و «استسقيتك فلم تسقني» الحديث الذي رواه الشيخان.
الثانية: روي أنه لمّا نزلت الآية الكريمة «جاء أبو الدحداح الأنصاري إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: وإِنّ الله ليريد منّا القرض؟ قال:» نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاح! «قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده قال: فإِين قد أقرضتُ ربي حائطي - أي بستاني وكان فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها - فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أُمَّ الدحداح قالت: لبّيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزَّ وجلَّ»، وفي رواية قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح وخرجت منه مع عيالها.
الثالثة: قال البقاعي: ولعلّ ختام بني إِسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من واضح الدلالة على صحة رسالته لأنها مما لا يعلمه إِلا القليل من حذاق علماء بني إِسرائيل.
اللغَة: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ جمع درجة وهي المنزلة الرفيعة السامية. ﴿البينات﴾ المعجزات. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه من التأييد بمعنى التقوية. ﴿رُوحِ القدس﴾ القدس: الطهارة وروح القدس جبريل عليه السلام
التفسِير: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي أولئك الرسل الكرام الذين قصصنا عليك من أنبائهم يا محمد هم رسل الله حقاً، وقد فضّلنا بعضهم على بعض في الرفعة والمنزلة والمراتب العالية ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ أي منهم من خصّه الله بالتكليم بلا واسطة كموسى عليه السلام ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ أي ومنهم من خصّه اله بالمرتبة الرفيعة السامية كخاتم المرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو سيد الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وكأبي الأنبياء إِبراهيم الخليل ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾ أي ومنهم من أعطاه الله العجزات الباهرات كإِحياء الموتى وإِبراء الأكمة والأبرص والإِخبار عن المغيبات ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ أي قويناه بجبريل الأمين وهو عيسى ابن مريم ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾ أي لو أراد الله ما اقتتل الأمم الذين جاؤوا بعد الرسل من بعد الحجج الباهرة والبراهين الساطعة التي جاءتهم بها رسلهم، فلو شاء الله ما تنازعوا ولا اختلفوا ولا تقاتلوا، ولجعلهم متفقين على اتباع الرسل كما أنّ الرسل متفقون على كلمة الحق ﴿ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ أي ولكنَّ الله لم يشأ هدايتهم بسبب اختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وأهوائهم، فمنهم من ثبت على الإِيمان ومنهم من حاد وكفر ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ أي لو شاء الله لجعل البشر على طبيعة الملائكة لا يتنازعون ولا يقتتلون ولكنّ الله حكيم يفعل ما فيه المصلحة، وكلُّ ذلك عن قضاء الله وقدره فهو الفعال لما يريد ﴿ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾ أي أنفقوا في سبيل الله من مال الله الذي منحكم إِيّأه، ادفعوا الزكاة وأنفقوا في وجوه الخير والبر والصالحات ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ أي من قبل مجيء ذلك اليوم الرهيب الذي لا تستطيعون أن تقتدوا نفوسكم بمالٍ تقدمونه فيكون كالبيع، ولا تجدون صديقاً يدفع عنكم العذاب، ولا شفيعاً يشفع لكم ليحط عنكم من سيئاتكم إِلا أن يأذن الله ربّ العالمين ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ أي لا أحد أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافراً، والكافر بالله هو الظالم المعتدي الذي يستحق العقاب.
البَلاَغة: ﴿تِلْكَ الرسل﴾ الإِشارة بالعبيد لبعد مرتبتهم في الكمال.
٢ - ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله... ﴾ الآية تفصيلٌ لذلك التفضيل ويسمى هذا في البلاغة: التقسيم وكذلك فيب قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ وبين لفظ «آمن» و «كفر» طباقٌ.
٣ - الإِطناب وذلك في قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾ حيث كرر جملة ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾.
٤ - ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ قصر صفة على الموصوف، وقد أكدت بالجملة الاسمية وبضمير الفصل.
فَائِدَة: روي عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ ولم
تنبيه: يحتمل أن يراد بالكفر المعنى الحقيقي أو المجازي فيكون المراد بالكافر تارك الزكاة كما ذهب إِليه الزمخشري حيث قال: أراد والتاركون للزكاة هم الظالمون، وإِيثاره عليه للتغليظ والتهديد كما في آية الحج ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] مكان «ومن لم يحج» ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ [فصلت: ٦ - ٧].
اللغَة: ﴿الحي﴾ ذو الحياة الكاملة ومعناه الباقي الدائم الذي لا سبيل للفناء عليه ﴿القيوم﴾ القائم بتدبير الخلق ﴿سِنَةٌ﴾ بكسر السين النعاس وهو ما يسبق النوم من فتور قال الشاعر:
وسنان أقصده النعاس فرنَّقت | في عينه سِنةٌ وليس بنائم |
سَبَبُ النّزول: كان لرجلٍ من الأنصار ابنان تنصّرا قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قدما المدينة في نفرٍ من التجار يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما فنزلت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين
التفسير: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ أي هو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد، ذو الحياة الكاملة، الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شئون الخلق بالرعاية والحفظ والتدبير ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ أي لا يأخذه نعاسٌ ولا نوم كما ورد في الحديث «إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه»، ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي جميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده وتحت قهره وسلطانه ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي لا أحد يستطيع أن يشفع لأحد إِلا إِذا أذن له الله تعالى قال ابن كثير: وهذا بيان لعظمته وجلاله وكبريائه بحيث لا يتجاسر أحد على الشفاعة إِلا بإذن المولى ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي يعلم ما هو حاضر مشاهد لهم وهو الدنيا وما خلفهم أي أمامهم وهو الآخرة فقد أحاط علمه بالكائنات والعوالم ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ﴾ أي لا يعلمون شيئاً من معلوماته إِلا بما أعلمهم إِيّاه على ألسنة الرسل ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ أي أحاط كرسيّه بالسماوات والأرض لبسطته وسعته، والسماواتُ السبع والأرضون بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاة، وروي عن ابن عباس ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ قال: علمه بدلالة قوله تعالى
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ [غافر: ٧] فأخبر أن علمه وسع كل شيء وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش قال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش وأن العرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم﴾ أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما وهو العلي فوق خلقه ذو العظمة والجلال كقوله ﴿الكبير المتعال﴾ [الرعد: ٩] ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ أي لا إِجبار ولا إِكراه لأحد على الدخول في دين الإِسلام، فقد بان ووضح الحق من الباطل والهدى من الضلال ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ أي من كفر بما يعبد من غير الله كالشيطان والأوثان وآمن بالله تمسك من الدين بأقوى سبب ﴿لاَ انفصام لَهَا﴾ أي لا انقطاع لها ولا زوال ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي الله ناصر المؤمنين وحافظهم ومتولي أمورهم، يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إِلى نور الإِيمان والهداية ﴿والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات﴾ أي وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور الإِيمان إِلى ظلمات الشك والضلال ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون في نار جهنم لا يخرجون منها أبداً.
البَلاَغَة: ١ - في آية الكرسي أنواعٌ من الفصاحة وعلم البيان منها حسنُ الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء اللله تعالى، وتكرار اسمه ظاهراً ومضمراً في ثمانية عشر موضعاً، والإِطناب بتكرير
٢ - ﴿استمسك بالعروة الوثقى﴾ استعارة تمثيلية حيث شبه المستمسك بدين الإِسلام بالمستمسك بالحبل المحكم، وعدم الانفصام ترشيح.
٣ - ﴿مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ استعارة تصريحية حيث شبه الكفر بالظلمات والإِيمان بالنور قال في تلخيص البيان: وذلك من أحسن التشبيهات لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد، والإِيمان كالنور الذي يؤمه الجائر ويهتدي به الحائر، وعاقبة الإِيمان مضيئة بالنعيم والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب.
الفَائِدَة: أفرد النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد لا يتعدد وأما طرق الضلال فكثيرة ومتشعبة.
تنبيه: آية الكرسي لها شأن عظيم وقد صحّ الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنها أفضل آية في كتاب الله وفيها اسم الله الأعظم كما جاء في الحديث الشريف: «اسم الله الأعظم الذي إِذا دُعى به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه» وقال هشام: أما البقرة فقوله ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ وفي آل عمران: ﴿الم الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ [الآيات: ١ - ٢] وفي طه ﴿وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم﴾ [الآية: ١١١] قال ابن كثير: وقد اشتملت على عشر جملٍ مستقلة، متعلقة بالذات الإِلهية وفيها تمجيد الواحد الأحد.
اللغَة: ﴿حَآجَّ﴾ المحاجّة: المغالبة يقال: حججته فحججته، وحاجّه أي بادله الحجة ﴿فَبُهِتَ﴾ انقطع وسكت متحيراً قال العذري:
فما هو إِلا أن أَراها فَجاءةً | فأبهتُ حتى ما أكاد أجيب |
التفِسير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ تعجيب للسامع من أمر هذا الكافر، المجادل في قدرة الله أي ألم ينته علمك إِلى ذلك المارد وهو «النمر وذو بن كنعان» الذي دادل إِبراهيم في وجود الله؟ ﴿أَنْ آتَاهُ الله الملك﴾ أي لأن آتاه الله الملك حيث حمله بطره بنعم الله على إِنكار وجود الله، فقابل الجود والإِحسان بالكفر والطغيان ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي حين قال له إِبراهيم مستدلاً على وجود الله إِن ربي هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهو وحده ربُّ العالمين ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ أي قال ذلك الطاغية وأنا أيضاً أحيي وأميت، روي أنه دعا برجلين حكم عليهما بالإِعدام فأمر بقتل أحدهما فقال: هذا قتلتُه، وأمر بإِطلاق الآخر وقال: هذا أحييتُه، ولما رأى الخليل حماقته ومشاغبته في الدليل عدل إِلى دليل آخر أجدى وأروع وأشد إِفحاماً ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ أي إِذا كنت تدعي الألوهية وأنك تحيي وتميت كما يفعل رب العالمين جل جلاله فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق بأمر الله ومشيئته فأطلعها من المغرب بقدرتك وسلطانك ولو مرة واحدة ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ أي أُخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً دهشاً لا يستطيع الجواب ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة والبرهان بخلاف أوليائه المتقين ﴿أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾ وهذه هي القصة الثانية وهي مثل لمن أراد الله هدايته والمعنى ألم ينته إلى علمك كذلك مثل الذي مرَّ على قرية وقد سقطت جدرانها على سقوفها وهي قرية بيت المقدس لما خرَّ بها بختنصر ﴿قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي قال ذلك الرجل الصالح واسمه «عزير» على الرأي الأشهر: كيف يحيي الله هذه البلدة بعد حرابها ودمارها؟ قال ذلك استعظاماً لقدرة الله تعالى وتعجباً من حال تلك المدينة وما هي عليه من الخراب والدمار، وكان راكباً على حماره حينما مرَّ عليها ﴿فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أي أمات الله ذلك السائل واستمر ميتاً مائة سنة ثم أحياه الله ليريه كمال قدرته ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ أي قال له ربه بواسطة الملك كم مكثت في هذه الحال؟ قال يوماً ثم نظر حوله فرأى الشمس باقية لم تغب فقال: أو
قال المفسرون: ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بعضهن ببعض حتى اختلط ريشها ودماؤها ولحومها ثم أمسك برءوسها عنده وجزأها أجزاءً على الجبال ثم دعاهن كما أمره تعالى فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم حتى عادت طيراً كما كانت وأتينه يمشين سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية لما سأل.
ذكره ابن كثير.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ الرؤية قلبية والاستفهام للتعجيب.
٢ - ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ التعبير بالمضارع يفيد التجدد والاستمرار، والصيغة تفيد القصر ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ لأن المبتدأ والخبر وردا معرفتين والمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وبين كلمتي «يحيي» و «يميت» طباقٌ وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين لفظ «المشرق» و «المغرب».
٣ - ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ التعبير بالنص السامي يشعر بالعلة وأن سبب الحيرة هو كفره ولو قال فبهت الكافرُ لما أفاد ذلك المعنى الدقيق.
٤ - ﴿أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ موت القرية هو موتُ السكان فهو من قبيل إِطلاق المحل وإِرادة الحال ويسمى المجاز المرسل.
٥ - ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾ نسترها به كما يستر باللباس قال أبو حيان: الكسوةُ حقيقةً هي
الفوَائِد: الأولى: قال مجاهد: ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان، وكافران فالمؤمنان «سليمان بن داود» و «ذو القرنين» والكافران «النمرود» و «بختنصّر» الذي خرّب بيت المقدس.
الثانية: لما رأى الخليل تجاهل الطاغية معنى الحياة والموت وسلوكه مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوابه من الجلاء بحيث لا يخفى على أحد، انتقل إِبراهيم إِلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمكابرة أو مشاغبة فقال ﴿إِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ فلوى خليل الله عنقه حتى أراه عجزه وأخرس لسانه.
الثالثة: سؤال الخليل ربه بقوله ﴿كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ ليس في شك في قدرة الله ولكنه سؤال عن كيفية الإِحياء ويدل عليه وروده بصيغة ﴿كَيْفَ﴾ وموضوعها السؤال عن الحال ويؤيد المعنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ومعناه: ونحن لم نشك فلأن لا يشك إِبراهيم أحرى وأولى.
اللغَة: ﴿المن﴾ أن يعتد بإِحسانه على من أحسن إِليه، وأن يذكّره النعمة على سبيل التطاول والتفضل قال الشاعر:
أفسدتَ بالمنِّ ما أسديتَ من حَسَن... ليس الكريمُ إِذا أسدى بمنّان
﴿رِئَآءَ الناس﴾ لا يريد بإِنفاقه رضى الله وإنما يريد ثناء الناس وأصله من الرؤية وهو أن يرى الناسَ ما يفعله حتى يثنوا عليه ويعظموه ﴿صَفْوَانٍ﴾ الصفوان: الحجر الأملس الكبير قال الأخفش: وهو جمع واحده صفوانه وقيل: هو اسم جنس كالحجر ﴿وَابِلٌ﴾ الوابل: المطر الشديد ﴿صَلْداً﴾ الصَّلْد: الأملس من الحجارة وهو كل ما لا ينبت شيئاً ومنه جبينٌ أصلد ﴿بِرَبْوَةٍ﴾ الربوة: المكان المرتفع من الأرض يقال: ربوة ورابية وأصله من ربا الشيء إِذا زاد وارتفع ﴿طَلٌّ﴾ الطلُّ: المطر الخفيف الذي تكون قطراته صغيرة وقال قوم منهم مجاهد: الطلُّ الندى ﴿إِعْصَارٌ﴾ الإِعصار: الريح الشديدة التي تهبُّ من الأرض وترتفع إِلى السماء كالعمود ويقال لها: الزوبعة ﴿تَيَمَّمُواْ﴾ تقصدوا ﴿تُغْمِضُواْ﴾ من أغمض الرجل في أمر كذا إِذا تساهل فيه وهذا كالإِغضاء عند المكروه.
سَبَبُ النّزول: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك، حيث جهزّ عثمان ألف بعير بأحلاسها وأقتابها ووضع بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألف دينار، فصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقلّبها ويقول: ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم، وأتى عبد الرحمن بن عوف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأربعة آلاف درهم فقال يا رسول الله: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتُها ربي، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»، فنزلت فيهما الآية ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾ الآية.
التفسير: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ قال ابن كثير: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إِلى سبعمائة ضعف أي مثل نفقتهم كمثل حبة زُرعت فأنبتت سبع سنابل ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ أي كل سنبلةٍ منها تحتوي على مائة حبة فتكون الحبة قد أغلَّتْ سبعمائة حبة، وهذا تمثيل لمضاعفة الأجر لمن أخلص في صدقته ولهذا قال تعالى ﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ أي
. ثم أخبر تعالى عما يبطل الصدقة ويضيع ثوابها فقال ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ أي لا تحبطوا أجرها بالمنِّ والأذى ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس﴾ أي كالمرائي الذي يبطل إِنفاقه بالرياء ﴿وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي لا يصدّق بلقاء الله ليرجو ثواباً أو يخشى عقاباً ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ أي مثل ذلك المرائي بإِنفاقه كمثل الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب يظنه الظانُّ أرضاً طيبةً منبتةً ﴿فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ أي فإِذا أصابه مطر شديد أذهب عنه التراب فيبقى صلداً أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلاً كذلك هذا المنافق يظن أن له أعمالاً صالحة فإِذا كان يوم القيامة اضمحلت وذهبت ولهذا قال تعالى ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ أي لا يجدون له ثواباً في الآخرة فلا ينتفع بشيءٍ منها أصلاً ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي لا يهديهم إِلى طريق الخير والرشاد.. ثم ضرب تعالى مثلاً آخر للمؤمن المنفق ماله ابتغاء مرضاة الله فقال ﴿وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي ينفقونها طلباً لمرضاته وتصديقاً بلقائه تحقيقاً للثواب عليه ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ أي كمثل بستان كثير الشجر بمكانٍ مرتفع من الأرض، وخُصَّت بالربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها ﴿أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ أي أصابها مطر غزير فأخرجت ثمارها جنيَّة مضاعفة، ضعفي ثمر غيرها من الأرض ﴿فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ أي فإِن لم ينزل عليها المطر الغزير فيكفيها المطر الخفيف أو يكفيها الندى لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها فهي تنتج على كل حال ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أي أيحب أحدكم أن تكون له حديقة غناء فيها من أنواع النخيل والأعناب والثمار الشيء الكثير ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي تمر الأنهار من تحت أشجارها ﴿لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات﴾ أي ينبت له فيها جميع الثمار ومن كل زوج بهيج ﴿وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ﴾ أي أصابته الشيخوخة فضعف عن الكسب وله أولاد صغار لا يقدرون على الكسب ﴿فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت﴾ أي أصاب تلك الحديقة رريح عاصفة شديدة معها نار فأحرقت الثمار والأشجار أحوج ما يكون الإِنسان إِليها ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي مثل هذا البيان الواضح في هذا المثل الرائع المحكم يبيّن الله لكم آياته في كتابه الحكيم لكي تتفكروا وتتدبروا بما فيها من العبر والعظات ﴿ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي أنفقوا من الحلال الطيب من المال الذي كسبتموه {وَمِمَّآ
. ثم حذّر تعالى من وسوسة الشيطان فقال ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ أي الشيطان يخوفكم من الفقر إِن تصدقتم ويغريكم بالبخل ومنع الزكاة ﴿والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً﴾ أي وهو سبحانه يعدكم على إِنفاقكم في سبيله مغفرةً للذنوب وخلفاً لما أنفقتموه زائداً عن الأصل ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الفضل والعطاء عليم بمن يستحق الثناء ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ﴾ أي يعطي العلم النافع المؤدي إِلى العمل الصالح من شاء من عباده ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ أي من أعطي الحكمة فقد أعطي الخير الكثير لمصير صاحبها إلى السعادة الأبدية ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي ما يتعظ بأمثال القرآن وحكمة إِلا أصحاب العقول النيرة الخالصة من الهوى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ شبّه سبحانه الصدقة التي تُنفق في سبيله بحبة زرعت وباركها المولى فأصبحت سبعمائة حبة، ففيه تشبيه «مرسل مجمل» لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه قال أبو حيان: وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر.
٢ - ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ إِسناد الإِنبات إِلى الحبة إِسنادٌ مجازي ويسمى «المجاز العقلي» لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى.
٣ - ﴿مَنّاً وَلاَ أَذًى﴾ من باب ذكر العام بعد الخاص لإِفادة الشمول لأن الأذى يشمل المنَّ.
٤ - ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ فيه تشبيه يسمى «تشبيهاً تمثيلياً» لأن وجه الشبه منتزع من متعدد وكذلك يوجد تشبيه تمثيلي في قوله ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾.
٥ - ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ... ﴾ الآية، لم يذكر المشبه ولا أداة التشبيه وهذا النوع يسميه علماء البلاغة «استعارة تمثيلية» وهي تشبيه بحال لم يذكر فيه سوى المشبّه به فقط وقامت قرائن تدل على إِرادة التشبيه، والهمزة للاستفهام والمعنى على التبعيد والني أي ما يود أحدٌ ذلك.
٦ - ﴿تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ المراد به هنا التجاوز والمساهلة لأن الإِنسان إِذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ففي الكلام مجاز مرسل أو استعارة.
الفوَائِد: الأولى قال الزمخشري: المنُّ أن يعتد على من أحسن إِليه بإِحسانه، وفي نوابغ الكلم «صنوان من منح سائلة ومنَّ، ومن منع نائله وضنّ» و «طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرُّ من الألاء مع المنِّ» وقال الشاعر:
وإِن امرءً أسدى إِليَّ صنيعةً... وذكّر فيها مرةً للئيم
الثالثة: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فيمن ترون هذه الآية نزلت ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ قالوا: الله أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس ضربت مثلاً بعمل لرجلٍ غني يعمل بطاعة الله ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله» أخرجه البخاري.
الرابعة: قال الحسن البصري: هذا مثل قلَّ والله من يعقله: شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه أفقر ما كان إِلى جنته فجاءها الإِعصار فأحرقها، وإِن أحدكم والله أفقر ما يكون إِلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
اللغَة: ﴿فَنِعِمَّا﴾ أصلها «نعم ما» أدغمت الميان فصارت نعمّا قال الزجاج: أي نعم الشيء هو ﴿أُحصِرُواْ﴾ الحصر: الحبس أي حبسوا أنفسهم على الجهاد وقد تقدم معنى الحصر ﴿التعفف﴾ من العفة يقال: عفّ عن الشيء أمسك عنه وتنزّه عن طلبه والمراد التعفف عن السؤال ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ السِّيما: العلامة التي يعرف بها الشيء ويقال: سيمياء كالكيمياء وأصلها من السّمة بمعنى العلامة قال تعالى ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ [الفتح: ٢٩] ﴿إِلْحَافاً﴾ الإِلحاف: الإِلحاح في السؤال يقال: ألحف: إِذا ألحَّ ولجًّ في السؤال والطلب.
التفِسير: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ﴾ أي ما بذلتم أيها المؤمنون من مال أو نذرتم من شيء في سبيل الله فإِن الله يعلمه ويجازيكم عليه ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي وليس لمن منع الزكاة أو صرف المال في معاصي الله، من معين أو نصير ينصرهم من عذاب الله ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ﴾ أي إِن تظهروا صدقاتكم فنعم هذا الشيء الذي تفعلونه ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي وإِن تخفوها وتدفعوها للفقراء فهو أفضل لكم لأن ذلك أبعد عن الرياء ﴿وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي يزيل بجميل أعمالكم سيء آثامكم ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي هو سبحانه مطلع على أعمالكم يعلم خفاياكم، والآية ترغيب في الإِسرار ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي ليس عليك يا محمد أن تهدي الناس فإِنك لست بمؤاخذ بجزيرة من لم يهتد، إِنما أنت ملزم بتبليغهم فحسب، والله يهدي من شاء من عباده إِلى الإِسلام ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ أي أيّ شيء تنفقونه من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم لأن ثوابه لكم ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله﴾ خيرٌ بمعنى النهي أي لا تجعلوا إِنفاقكم إِلا لوجه الله لا لغرضٍ دنيوي ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي فإِن أجره وثوابه أضعافاً مضاعفة تنالونه أنتم ولا تنقصون شيئاص من حسناتكم ﴿لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ اي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم للجهاد والغزو في سبيل الله ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض﴾ أي لا يستطيعون بسبب الجهاد السفر في الأرض للتجارة والكسب ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف﴾ أي يظنهم الذي لا يعرف حالهم أغنياء موسرين من شدة تعففهم ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ أي تعرف حالهم أيها المخاطب بعلامتهم من التواضع وأثر الجهد، وهم مع ذلك لا يسألونك الناس شيئاً أصلاً فلا يقع منهم إِلحاح وقيل معناه: إِن سألوا سألوا بلطفٍ ولم يلحّوا ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي ما أنفقتموه في وجوه الخير فإِن الله يجازيكم عليه أحسن الجزاء ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ أي الذين ينفقون في سبيل الله ابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهر ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لهم ثواب ما أنفقوا ولا خوف عليهم يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ﴾ بين أنفقتم ونفقة جناس الاشتقاق وكذلك بين نذرتم ونذر.
٢ - ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات﴾ في الإِبداء والإِخفاء طباقٌ لفظي، وكذلك بين لفظ «الليل والنهار» و «السر والعلانية» وهو من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: قال بعض الحكماء: إِذا اصطنعت المعروف فاستره، وإِذا اصطُنع إِليك فانشره وأنشدوا:
يُخفي صنائعه والله يُظهرها | إِن الجميل إِذا أخفيتَه ظهرا |