ﰡ
قال الزمخشري : ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي الصريح في أماكن، وجاء منها على حرف واحد مثل ﴿ ص ﴾ وحرفين مثل ﴿ حم﴾ وثلاثة مثل ﴿ الم ﴾ وأربعة مثل ﴿ المص ﴾ وخمسة مثل ﴿ كهيعص ﴾ لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.
قال ابن كثير : ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الإنتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل :﴿ الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ﴿ الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ [ آل عمران : ١-٣ ] ﴿ المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١-٢ ] ﴿ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ﴾ [ إبراهيم : ١ ] ﴿ الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ السجدة : ١-٢ ] ﴿ حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم ﴾ [ فصلت : ١-٢ ] وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أَمعن النظر.
﴿ ذَلِكَ الكتاب ﴾ قال ابن عباس : أي هذا الكتاب. والعربُ تعارض بين أسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر وهذا معروفٌ في كلامهم. والكتابُ : القرآنُ، ومن قال : إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فقد أبعدَ النُجعة، وأغرق في النزع، وتكلّف ما لا علم له به. والريبُ : الشك، أي لا شك فيه، روي ذلك عن أُناسٍ من أصحاب رسول الله ﷺ وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافاً.
وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل :
بثينة قالت : يا جميلُ أربتني... فقلتُ : كلانا يا بثينُ مريب
واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم :
قضينا من تهامة كل ريبٍ | وخيبر ثم أجممنا السيوفا |
لها حارسٌ لا يبرح الدهرَ بيتَها | وإن ذبحت صلَّى عليها وزمزما |
عليك مثل الذي صليتِ فاغتمضي | نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً |
﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ قال ابن عباس : زكاة أموالهم. وقال ناس من أصحاب رسول الله ﷺ : نفقةُ الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال قتادة : فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٍ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات. قال ابن كثير : كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكيل عليه، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكلٌ من النفقات الواجبه والزكاة المفروضة داخلٌ في قوله تعالى :﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾.
أحدها : أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمنٍ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب.
والثاني : هم مؤمنو أهل الكتاب وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفاتٍ على صفات كما قال تعالى :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى * الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ١-٣ ] فعطف الصفات بعضها على بعض.
والثالث : أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفون ثانياً بقوله :﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ هم مؤمنو أهل الكتاب، واختاره ابن جرير ويستشهد بقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] وبقوله تعالى :﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ [ القصص : ٥٢-٥٣ ]، وبما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجل أدّب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ».
قلت : والظاهر قول مجاهد : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسيّ وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأُخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأُخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول، وما جاء به من قبله من الرسل، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] وقال تعالى :﴿ وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ]. وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] الآية.
وعن ابن عباس في قوله :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ... ﴾ الآية قال : كان رسول الله ﷺ يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول.
وقوله تعالى :﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين.
قال ابن جرير : وقال بعضهم : إن معنى قوله تعالى :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ﴾ إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال : فلان أصمُّ عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً، قال : وهذا لا يصح لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم. قلت : وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردّه ابن جرير هاهنا، وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً، وما جرّأه على ذلك إلاّ اعتزاله، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده. ولو فهم قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ]، وقوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسنٌ وليس بقبيح - فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال.
قال ابن جرير : والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبرُ عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى :﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٤ ] » فأخبر ﷺ أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره الله في قوله :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ ﴾ نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعيه والظروف.
والنفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع : اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي : وهو من أكبر الذنوب، لأن المنافق يخالف قولُه فعله، وسرُّه علانيَتَه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة المدنية، لأن مكّة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه، ولهذا نبّه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفّار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظنَّ بأهل الفجور خيراً، فقال تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر ﴾ أي يقولون ذلك قولاً كما قال تعالى :﴿ إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ [ المنافقون : ١ ] أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم بقوله :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ ﴾ [ المنافقون : ١ ] وفي اعتقادهم بقوله :﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا ﴾ أي بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله :﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إلاّ أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى :﴿ إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ] ومن القراء من قرأ :﴿ وما يخادعون ﴾ وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد.
قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، وغرَّهم بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله تعالى :﴿ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ يقول : ألا إن هذا الذي يزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.
والسفيه : هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بالمصالح والمضار، ولهذا سمي الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ﴾ [ النساء : ٥ ] وقد تولى سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال :﴿ ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ﴾ فأكد وحصر السفاهة فيهم ﴿ ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم : أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، ولهذا قال تعالى :﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك. وقال ابن جرير عن قتادة :﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وقال الرازي : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال تعالى :﴿ مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾ [ الجمعة : ٥ ]. وقال بعضهم : تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾، وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام.
وقوله تعالى :﴿ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ ﴾ أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان، ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. ﴿ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ﴿ صُمٌّ ﴾ لا يسمعون خيراً، ﴿ بُكْمٌ ﴾ لا يتكلمون بما ينفعهم، ﴿ عُمْيٌ ﴾ في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ]، فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً ﴾ إلى آخر الآية... قال : هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما إضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ قال : لما تركوا من الحق بعد معرفته، ﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ : أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير.
( قلت ) : وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات، كما ذكرها الله تعالى في سورة ( براءة ) - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشدُّ مطابقة لأحوالهم وصفاتهم والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة ( النور ) لصنفي الكفّار الدعاة والمقلدين، وفي قوله تعالى :﴿ والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ [ النور : ٣٩ ] إلى أن قال :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾ [ النور : ٤٠ ] الآية. فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب.
قال ابن عباس، قال الله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ ﴾ للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. وعنه أيضاً ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول ﷺ من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. قال أبو العالية :﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ أي عدلاء شركاء، وقال مجاهد ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ قال : تعلمون أنه آلاه واحد في التوراة والإنجيل.
( ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة ).
روى الإمام أحمد بسنده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ الله ﷺ قال :» إن الله تعالى أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطىء بها فقال له عيسى عليه السلام إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإمّا أن تبلغهن وإمّا أن أبلغهن؟ فقال : يا أخي أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخْسف بي. قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشُّرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن. أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً فإن مَثَل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بوَرِقٍ أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلّته إلى غير سيده، فأيكم يسّره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام فإن مَثَل ذلك كمثل رجل معه صره من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مَثَل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ فشدُّوا يديه إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه فقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيراً وإن مَثَل ذلك كمثل رجل طلبه العدوّ سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصَّن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله «
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عِلم قدرةَ خالقها وحكمته، وعلمه وإتقانه، وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال : يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج! ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟.
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات، والأصوات، والنغمات. وعن أبي حنيفة أن ( بعض الزنادقة ) سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد.
تأملْ في نبات الأرض وانظر... إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجين شاخصاتٌ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضيب الزبرجد شاهدات... بأنَّ الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وقال آخرون : من تأمّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظرَ إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى :﴿ وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [ فاطر : ٢٧ ]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان، مع اتحاد طبيعة التربة والماء، استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم، لا إله غيره ولا ربَّ سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
قال ابن عباس ﴿ شُهَدَآءَكُم ﴾ : أعوانكم، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقد تحدّاهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ القصص : ٤٩ ]. وقال في سورة سبحان :﴿ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ]، وقال في سورة هود :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ هود : ١٣ ] وقال في سورة يونس :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وكل هذه الآيات مكية. ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ أي شك ﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ يعني محمداً ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة. ورجح ذلك بوجوه من أحسنها : أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى :﴿ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ هود : ١٣ ] وقوله :﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] وقال بعضهم : من مثل محمد ﷺ يعني من رجل أُمّيٌّ مثله، والصحيحُ الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكّة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ و ( لن ) لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أُخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال تعالى :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وأجمالاً، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرَّر حلا وعلا، لا يخلُق عن كثرة الرد، ولا يملُّ منه العلماء. وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟ وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوَّق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ السجدة : ١٧ ] وقال :﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧١ ]، وقال في الترهيب :﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر ﴾ [ الإسراء : ٦٨ ]، ﴿ أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [ الملك : ١٦-١٧ ]، وقال في الزجر :﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ] وقال في الوعظ :﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠٥-٢٠٧ ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة.
وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : يا أيها الذين آمنوا فأَرْعها سمعك فإنها خيرٌ يأمر به أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى :﴿ يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾
وقوله تعالى :﴿ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أما الوقود فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى :﴿ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٥ ] وقال تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] والمراد بالحجارة هاهنا هي حجارة الكبريت، العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرّاً إذا حميت أجارنا الله منها، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود ﴿ اتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة ﴾ : أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار، وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة. وقيل : المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قالت تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآية.
وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها، قال : ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها.
وقوله تعالى :﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ الأظهر أن الضمير عائد إلى النار ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان. و ﴿ أُعِدَّتْ ﴾ أي أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، وقد استدل كثير من أئمة السنّة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى :﴿ أُعِدَّتْ ﴾ أي أرصدت وهيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها :« تحاجت الجنة والنار » ومنها :« استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف »
( تنبيه ينبغي الوقوف عليه ).
قوله تعالى :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ وقوله في سورة يونس :﴿ بِسُورَةٍ مِّثْلِه ﴾ [ ٣٨ ] يعم كل سورة في القرآن، طويلة كانت أو قصيرة، لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً. وقد قال الرازي في تفسيره : فإن قيل قوله تعالى :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، وقل يا أيها الكافرون، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين :( قلنا ) : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز. هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم :﴿ والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر ﴾ [ العصر : ١-٤ ]
قال السدي في تفسيره : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. وقال عكرمة :﴿ قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ﴾ معناه مثل الذي كان بالأمس، وقال آخرون :﴿ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ﴾ من ثمار الجنة لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى :﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ وعن يحيى بن أبي كثير قال : يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة : كُلْ فاللون واحد، والطعم مختلف.
وقال ابن جرير بإسناده في قوله تعالى :﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ يعني في اللون والمرأى وليس يشبه في الطعم. وهذا اختيار ابن جرير، وقال عكرمة ﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ قال : يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، وعن ابن عباس « لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء »، وفي رواية « ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ».
وقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ قال ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى. وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم، وعن أبي سعيد عن النبي ﷺ في قوله تعالى ﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ قال : من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق. وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، من الموت والانقطاع فلا آخر له، ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام... والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم، برٌّ رحيم.
ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف، وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أيّ مثلٍ كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً و ( ما ) هاهنا للتقليل، وتكون بعوضة منصوبة على البدل، كما تقول : لأضربنَّ ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ( ما ) نكرة موصوفة ببعوضة، ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام :« إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها » وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء.
وقوله تعالى :﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ فيه قولان : أحدهما : فما دونها في الصغر والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر المحققين، وفي الحديث :« لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء »، والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال :« ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، فكما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله :﴿ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب ﴾ [ الحج : ٧٣ ].
وقال :﴿ مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ] وقال تعالى :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ ﴾
قال بعض السلف : إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ] قال قتادة :﴿ فأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ ﴾ أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله. وقال أبو العالية :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني هذا المثل، ﴿ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ﴾ كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ المدثر : ٣١ ]، وكذلك قال هاهنا :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين ﴾.
قال ابن عباس : يضل به كثيرا يعني به ( المنافقين )، ويهدي به كثيرا يعني به ( المؤمنين ) فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله، ويهدي به يعني المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين ﴾، قال أبو العالية : هم أهل النفاق، وقال مجاهد عن ابن عباس ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين ﴾ قال : يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة :﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين ﴾ فسقوا فأضلهم الله على فسقهم.
والفاسقُ في اللغة : هو الخارج عن الطاعة. تقول العرب : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة ( فويسقة ) لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغرابُ والحدأةُ والعقرب والفأرة والكلب العقور » فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الآية الفاسقُ الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى :﴿ الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك هُمُ الخاسرون ﴾، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب * الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق ﴾ [ الرعد : ١٩-٢٠ ] الآيات، إلى أن قال :﴿ والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار ﴾
وقال آخرون : بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها وأتباع محمد ﷺ إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهدهُ إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهد لهم على صدقهم. قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري. فإنه قال :( فإن قلت ) فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصّاهم به ووثَّقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ]، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله :﴿ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] وقال آخرون : العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] الآيتين. ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضا. حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره. وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى :﴿ الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ قال : ما عهد إليهم من القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله :﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٢٢ ]، ورجحه ابن جرير. وقيل : المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل :﴿ أولئك هُمُ الخاسرون ﴾ قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى :﴿ أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ [ الرعد : ٢٥ ] وقال ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم، مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر. وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الخاسرون ﴾ : الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته.
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السماوات سبعاً، وهذا شان البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره. فأما قوله تعالى :﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧-٣٠ ] فقد قيل : إن ( ثمَّ ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه | ثم قد ساد قبل ذلك جده |
وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ قال : خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ قال : بعضُهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض. وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في آية السجدة :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ٩ ] فهذه وهذه دالتان على أن الارض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * والجبال أَرْسَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠-٣٢ ] قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً وقد حررنا ذلك في سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى :﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * والجبال أَرْسَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣١-٣٢ ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضيه ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء ﴾ ؟ الآية. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعُبَّاد والزهاد، والأولياء والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
وقيل : معنى قوله تعالى :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل : إنه جواب ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ فقال :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل : بل تضمن قولهم :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾، طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى ذلك :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم.
( ذكر أقوال المفسرين ).
قال السدي في تفسيره : إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا : ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويقتل بعضهم بعضاً : قال ابن جرير : وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرناً. والخليفة الفعلية من قولك : خلف فلان فلاناً في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ١٤ ]. ومن ذلك قبل للسلطان الأعظم خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً.
قال ابن جرير عن ابن عباس : إن أول من سكن الأرض الجن، فافسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال : فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ﴾. وقال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون، فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال قتادة في قوله :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء ﴾ ؟.
قال ابن جرير : وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء ﴾ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم ﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ يعني أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا، قال، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا - مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى :﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾، قال قتادة : التسبيح والتقديس الصلاة وقال السدي عن ابن عباس ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ : نصلي لك. وقال مجاهد ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾، قال : نعظمك ونكبرك. وقال ابن جرير : التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم : سبوح قدوس، يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له، وكذلك قيل للأرض : أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة، فمعنى قوله الملائكة إذن ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ : ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليقة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنّة في أبي بكر. أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصدّيق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، عدلاً، مجتهداً، بصيراً، سليم الأعضاء، خبيراً بالحروب والآراء، قرشياً على الصحيح؛ ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة والروافض. ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله ﷺ :« إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان »، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله ﷺ :« من جاءكم وأمْرُكم جَميعٌ يريد أن يفرِّق بينكم فاقتلوه كائناً من كان » وهذا قول الجمهور.
وقال ابن جرير عن الحسن وقتادة قالا : علَّمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. وقال السدي ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم ﴾ هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم ﴾ أي العليمُ بكل شيء، الحكيمُ في خلقك وأمرك، وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام. عن ابن عباس ﴿ سُبْحَانَ الله ﴾ قال : تنزيه الله نفسه عن السوء.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر.
قال طاووس عن ابن عباس : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه ( عزازيل ) وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيٍّ يسمون جناً. وقال سعيد بن المسيب : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير عن الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن. وقال شهر ابن حوشب : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير، وعن سعد بن مسعود قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] وقال أبو جعفر :﴿ وَكَانَ مِنَ الكافرين ﴾ يعني من العاصين. قال قتادة في قوله تعالى ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ ﴾ : فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، وقال بعض الناس : كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى :﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا.
قال معاذ :« قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقال :» لا، لو كنت آمرا بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها « ورجحه الرازي. وقال بعضهم : بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها، والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم كانت إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة لله عزّ وجلّ لأنها امتثال لأمره تعالى وقد قوّاه الرازي في تفسيره وضعَّف ما عداه من القولين الآخرين، وهما : كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال.
بتيهاء قفر والمطي كأنها | قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها |
قلت : وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال : هو الدخ، حين خبأ له رسول ﷺ الله :﴿ فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الدخان : ١٠ ]، وبما كان يصدر عنه، أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما تثبتت به الأحاديث الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة، من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر. والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وكان الليث بن سعد يقول : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وأما قوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ﴾ فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم. وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي؟ فقال السدي عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال ابن جرير بسنده : حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم، والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة. وقال سفيان الثوري عن أبي مالك ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ﴾ : النخلة، وقال ابن جرير عن مجاهد ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ﴾ : التينة.
قال الإمام العلاّمة أبو جعفر بن جرير رحمه الله : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله عزّ وجلّ ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنّة الصحيحة. وقد قيل : كانت شجرة البر، وقيل : كانت شجرة العنب، وقيل : كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا ﴾ يصح أن يكون الضمير في قوله :﴿ عَنْهَا ﴾ عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما، ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام ﴿ أَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا ﴾ أي بسببها، كما قال تعالى :
فإن قيل : فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك؟ وأجاب الجمهور بأجوبة، وأحدها أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع. ولهذا قال بعضهم - كما في التوراة - إنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء. ذكرهما الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن، وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد.
وذكرُ هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم، وقال آخرون : بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجّاهم من عبودية آل فرعون. وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم :﴿ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين ﴾ [ المائدة : ٢٠ ] يعني في زمانهم. وقال محمد ابن إسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجّاهم من فرعون وقومه، ﴿ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾، قال : بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي ﷺ إذا جاءكم، أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم. وقال الحسن البصري : هو قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ [ المائدة : ١٢ ] الآية. وقال آخرون : هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد ﷺ، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد ﷺ.
وقال أبو العالية ﴿ وَأَوْفُواْ بعهدي ﴾ قال : عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه. وقال الضحّاك ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ : أرض عنكم و أدخلكم الجنة، وقوله تعالى :﴿ وَإِيَّايَ فارهبون ﴾ أي فاخشون، وقال ابن عباس : في قوله تعالى :﴿ وَإِيَّايَ فارهبون ﴾ أي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول ﷺ والإتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال :﴿ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ يعني به القرآن الذي أنزل على محمدٍ ﷺ النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً، لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
وقوله :﴿ وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ قال ابن عباس : ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية : ولا تكونوا أول من كفر بمحمد ﷺ بعد سماعكم بمبعثه، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله ( به ) عائد على القرآن الذي تقدّم ذكره في قوله :﴿ بِمَآ أَنزَلْتُ ﴾، وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد ﷺ، ومن كفر بمحمد ﷺ فقد كفر بالقرآن، وأما قوله :﴿ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أول من كفر به من جنسهم.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ يقول : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، سئل الحسن البصري عن قوله تعالى :﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ قال : الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وعن سعيد بن جبير : إن آياته : كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل : الدنيا وشهواتها؛ وقيل : معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس، لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة » فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند ( مالك والشافعي وأحمد ) وجمهور العلماء كما في قصة اللديغ :
وقوله :﴿ وَإِيَّايَ فاتقون ﴾ عن طلق بن حبيب قال : التقوى أن تعمل بطاعة الله، رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، ومعنى قوله :﴿ وَإِيَّايَ فاتقون ﴾ أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتاً، وقال عبد الرحمن بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى :﴿ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟ والغرضُ أن الله تعالى ذمَّهم على هذا الصنيع، ونبَّههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت ﴾ [ هود : ٨٨ ].
فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر.
( قلت ) : لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها مخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال رسول الله ﷺ :
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عباس : إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أبلغْتَ ذلك؟ قال : أرجو قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال : وما هن؟ قال : قوله تعالى :﴿ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أحكمت هذه؟ قال : لا، قال : فالحرف الثاني قال : قوله تعالى :﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [ الصف : ٢-٣ ] أحكمت هذه؟ قال : لا قال : فالحرف الثالث قال : قول العبد الصالح شعيب عليه السلام :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح ﴾ [ هود : ٨٨ ] أحمكت هذه الآية؟ قال : لا، قال : فابدأ بنفسك. وقال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى :﴿ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وقوله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [ الصف : ٢ ] وقوله إخبارا عن شعيب :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [ هود : ٨٨ ].
قال القرطبي : ولهذه يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث :« الصوم نصف الصبر » وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ولهذا قرنه بأداء العبادات، وأعلاها فعل الصلاة. قال عمر بن الخطّاب : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله. وقال أبو العالية :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله. وأما قوله :﴿ والصلاة ﴾ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى :﴿ وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] الآية.
وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وعن علي رضي الله عنه قال : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله ﷺ يصلّي ويدعو حتى أصبح. وروي أن ابن عباس نعي إليه أخوة قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ﴾، والضمير في قوله :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ عائد إلى الصلاة ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون :﴿ وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون ﴾ [ القصص : ٨٠ ] وقال تعالى :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٥ ] أي وما يلقَّى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين، قال ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد : المؤمنين حقا وقال أبو العالية : الخائفين، وقال مقاتل : المتواضعين، وقال الضحّاك ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده. وقال ابن جرير معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها ﴿ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ﴾ أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ هذا من تمام الكلام الذي قبله أي أن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء، سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى :﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ﴾ [ آل عمران : ٩١ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ﴾ [ المائدة : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ ﴾ [ الأنعام : ٧٠ ]، وقال :﴿ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الحديد : ١٥ ] الآية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ [ ابراهيم : ٣١ ] قال ابن عباس ﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ قال : بدل والبدل الفدية.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال :﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ﴾ [ الطارق : ١٠ ] أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد كما قال تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [ الفجر : ٢٥-٢٦ ]، وقال :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾، [ الصافات : ٢٥-٢٦ ] وقال :﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٨ ] الآية. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ ما لكم اليوم لا تمانعون منا، هيهات ليس ذلك لكم اليوم، قال ابن جرير : وتأويل قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ يعني أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله تعالى :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤-٢٦ ].
إذ ما الملك سام الناس خسفا | أبينا أن نقر الخسف فينا |
وقيل المراد بقوله :﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء ﴾ إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي : وهذا قول الجمهور والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى : وفي الذبح مكروه وامتحان.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر، ﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ ﴾ أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، لما روي عن ابن عباس قال :« قدم رسول الله ﷺ المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال :» ما هذا اليوم الذي تصومون؟ « قالوا : هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله تعالى فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى عليه السلام فقال رسول الله » أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله وأمر بصومه «.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب ﴾ يعني التوراة، ﴿ والفرقان ﴾ وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾، وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن ﴾ اختلفت عبارات المفسِّرين في المن ما هو؟ فقال ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا، وقال السُّدي : قالوا : يا موسى كيف لنا بما هاهنا، أين الطعام؟ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرة الزنجبيل. وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلّهم سقوط الثلج، أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك. وقال عبد الرحمن بن أسلم : إنه العسل.
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن. فمنهم من فسَّره بالطعام، ومنهم من فسَّره بالشراب، والظاهر - والله أعلم - أنه كل ما امتنَّ الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مُزج مع الماء صار شراباً طيبّاً، وإن ركِّب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول النبي ﷺ :« الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين » وقال رسول الله ﷺ :« العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ».
وأما السلوى فقال ابن عباس : السلوى طائر يشبه السماني كانوا ياكلون منه. وقال قتادة : السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه. وقال السُّدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام : كيف لنا بما هاهنا، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن. فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه، فقالوا : هذا الطعام فاين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا : هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى :﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى :﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال :﴿ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ ﴾ [ سبأ : ١٥ ] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم. هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد ﷺ ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء، في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحرّ الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي ﷺ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدْر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر.
وقوله تعالى :﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ قال ابن عباس : مغفرة استغفروا، وقال الضحّاك عن ابن عباس ﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ قال : قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا ﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين ﴾. وقال : هذا جواب الأمر، أي إذا فعلتم ما أمرناكم، غفرنا لكم الخطيئات، وضاعفنا لكم الحسنات، وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، ولهذا كان ﷺ يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح ( فتح مكة ) داخلاً إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكرا لله على ذلك.
وقوله تعالى :﴿ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ ﴾ روى البخاري عن النبي ﷺ :« قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا حبة في شعرة » وقال الثوري عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وادخلوا الباب سُجَّداً ﴾ قال : ركعاً من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى :﴿ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ ﴾.
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم، قال الحسن البصري : فبطروا وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا :﴿ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، وأما الفوم فقال ابن عباس : الثوم، وقال آخرون : الفوم : الحنطةُ وهو البُرُّ الذي يعمل منه الخبز، روي أن ابن عباس سئل عن قول الله، ﴿ وَفُومِهَا ﴾ ما فومها؟ قال : الحنطة. قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً | ورد المدينة عن زراعة فوم |
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾.
يقول تعالى :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة ﴾ أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي لا يزالون مستذلين من وَجَدهم استذلهم وأهانهم وضربَ عليهم الصغارَ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الضحّاك :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة ﴾ قال : الذل، وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجيبهم الجزية، وقال أبو العالية والسُّدي : المسكنةُ الفاقةُ، وقوله تعالى :﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ﴾ استحقوا الغضب من الله، وقال ابن جرير : يعني بقوله ﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ﴾ : انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به، ومنه قوله تعالى :
وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ﴾، يقول الله تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حَمَلة الشرع وهم ( الأنبياء ) وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله ﷺ قال :« الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناس » يعني رد الحق وانتقاص الناس والازدراء بهم والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرد وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاءً وفاقاً. عن عبد الله بن مسعود قال :« كانت بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار ». وعن عبد الله بن مسعود : أن رسول الله ﷺ قال :« أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتله نبي أو قَتَل نبياً، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين »، وقوله تعالى :﴿ ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ وهذه علة أُخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداءُ المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم.
( قلت ) : وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس ﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ ﴾ الآية قال : فأنزل الله بعد ذلك :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقه ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد ﷺ بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام :﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] أي تبنا فكأنَّهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل : لنسبتهم إلى ( يهودا ) أكبر أولاد يعقوب، فلما بعث عيسى ﷺ وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى عليه السلام :
فلما بعث الله محمداً خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً. وسمِّيت أُمّة محمد ﷺ مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية.
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم فقال مجاهد : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دي، وقال أبو العالية والضحّاك : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة، وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال : الذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة يعمل بها، ولم يُحْدث كفراً، وقال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون :« لا إله إلا الله » وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبيٌّ إلا قول : لا إله إلا الله، قال : ولم يمنوا برسول. فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي ﷺ وأصحابه : هؤلاء الصابئون يشبِّهونهم بهم يعني في قول :« لا إله إلا الله ». وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، قال القرطبي : والذي تحصَّل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم، واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعباد والدعاء أو بمعنى أن الله فوّض تدبير أمر هذا العالم إليها. وأظهرُ الأقوال - والله أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه، ولهذا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الارض إذ ذاك، وقال بعض العلماء : الصابئون الذي لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى :﴿ وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [ ١٦٣ ] القصة بكمالها. وقال السدي : أهل هذه القرية هم أهل أيلة، وقوله تعالى :﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ قال مجاهد : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مَثَلٌ ضربه الله ﴿ كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾ [ الجمعة : ٥ ] وهذا سند جيّد عن مجاهد، وقولٌ غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام، وفي غيره قال الله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت ﴾ [ المائدة : ٦٠ ] الآية، وقال ابن عباس ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ : فجعل الله منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير. وقال شيبان عن قتادة ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعدما كانوا رجالاً ونساء، وقال عطاء الخُراساني : نودوا يا أهل القرية ﴿ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فُلان، يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم أي بلى، وقال الضحّاك عن ابن عباس : فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول : إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال : ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة وكذلك يفعل بمن يشاء، ويحوله كما يشاء ﴿ خَاسِئِينَ ﴾ يعني أذلة صاغرين.
وقال السُّدي في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ قال : هم أهل أيلة؛ وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحِيتان إذا كان يوم السبت وقد حرّم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً، لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لَزِمْنَ سُفْلَ البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت فذلك قوله تعالى :
وقوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً ﴾ قال بعضهم : الضمير في ﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ عائد إلى القردة، وقيل على ( الحِيتان ) وقيل على ( العقوبة )، وقيل على ( القرية ) حكاها ابن جرير. والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم ( نكالاً ) أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون :﴿ فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى ﴾ [ النازعات : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ أي من القرى، قال ابن عباس : يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرةً لما حولها من القرى كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية :﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد :﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ من ذنوب القوم ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال أحدها : أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني : المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأُمم. والثالث : أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن. ( قلت ) : وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى ﴾ [ الأحقاف : ٢٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ [ الرعد : ٣١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ ﴾ [ الأنبياء : ٤٤ ] فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال :﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ الذين من بعدهم إلى يوم القيامة، قال الحسن : فيتقون نقمة الله ويحذرونها، وقال السُّدي :﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ أُمّة محمد ﷺ. ( قلت ) المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما روي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل » وهذا إسناد جيّد، والله أعلم.
( ذكر بسط القصة )
عن عبيدة السلماني، قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهَى : علام يقتل بعضكم بعضاً وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾. قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أُمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] يعني لا هرمه، ﴿ وَلاَ بِكْرٌ ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] يعني ولا صغيرة، ﴿ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] أي نَصَفٌ بين البكر والهرمة. ﴿ قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾ [ البقرة : ٦٩ ] أي صاف لونها ﴿ تَسُرُّ الناظرين ﴾ [ البقرة : ٦٩ ] أي تعجب الناظرين، ﴿ قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ [ البقرة : ٧٠-٧١ ] أي لم يذللها العمل، ﴿ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث ﴾ [ البقرة : ٧١ ] يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] يعني مسلَّمة من العيوب ﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ [ البقرة : ٧١ ] يقول لا بياض فيها ﴿ قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] ولو أن القوم حين أُمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا :﴿ وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٠ ] لما هُدوا إليها أبداً.
وقال السُّدي ﴿ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته ولآكلن ديّته، فأتاه الفتى - وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل - فقال : يا عم انطلِق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلّي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلاً، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمّه كأنه لا يدري أين هو فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم، وقال : قتلتم عمي فأدّوا إليَّ دَيته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي : واعمّاه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية.
وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ﴾ أي فضربوه فحييَ، ونبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٥٦ ] وهذ القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبّه تعالى بإحياء الارض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو رزين العقيلي رضي الله عنه، قال : قلت يا رسول الله : كيف يحيي الله الموتى؟ قال :« أما مررت بوادٍ ممحل ثم مررت به خضراً »؟ قال : بلى، قال :﴿ كَذَلِكَ النشور ﴾ [ فاطر : ٩ ]، أو قال :﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ﴾ وشاهد هذا قوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٣٣ ].
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله :﴿ يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ [ الكهف : ٧٧ ]. قال الرازي والقرطبي : ولا حاجة إلى هذا، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى :﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] وقال :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] الآية، وقال :﴿ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ ﴾ [ الرحمن : ٦ ] وقال :﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ] وفي الصحيح :« هذا جبل يحبنا ونحبه »، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم :« إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن »، وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما في معناه.
( تنبيه ) اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى :﴿ فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ بعد الإجماع على استحالة كونها للشك فقال بعضهم ( أو ) هاهنا بمعنى الواو تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] وقوله :﴿ عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ [ المرسلات : ٦ ]، وكما قال جرير بن عطية :
نال الخلافة أو كانت له قدراً | كما أتى ربَّه موسى على قَدَرَ |
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا ﴾، قال ابن عباس ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا ﴾ : أي قالوا : إنَّ صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة. ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ ﴾ قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى :﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ ؟ وقال الضحاك : يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد ﷺ قالوا آمنا، وقال السدي : هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون، ليعلموا خبر رسول الله ﷺ وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر، فلما أخبر الله نبيّه ﷺ قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون : أليس قد قال الله لكم كذا وكذا، فيقولون : بلى، قال أبو العالية :﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد ﷺ، وقال قتادة :﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ كانوا يقولون سيكون نبيّ فخلا بعضهم ببعض فقالوا :﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ ﴾.
تمنَّى كتاب الله أول ليله | وآخره لاقى حِمَام المقادر |
كما روي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :« لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق » يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان ( الفعلي ) و ( القولي ) ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة فقال :﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ﴾ وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد، بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله :﴿ واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين ﴾ [ النساء : ٣٦ ] الآية.
والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما قال البخاري : عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول الله ﷺ وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :« اللهم أيد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيك » وفي بعض الروايات أن رسول الله ﷺ قال لحسّان :« أهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك »، وفي شعر حسّان قوله :
وجبريل رسول الله فينا | وروح القدس ليس به خفاء |
وقوله تعالى :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] أي صاغرين حقيرين ذليلين. وعن النبي ﷺ قال :« يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلو سجناً في جهنم يقال له ( بولس ) تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ».
وقوله :﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله، ومخالفتكم الأنبياء، ثم كفركم بمحمد ﷺ وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل من دون الله؟.
والمعنى إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة، لما يعلمون من كذبهم وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول ﷺ ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : سمع ( عبد الله بن سلاّم ) بمقدم رسول الله ﷺ وهو في أرض يخترف فأتى النبي ﷺ فقال :« إني سائِلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال :» أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً «. قال : جبريل؟ قال :» نعم «. قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ ﴾. » وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت؛ وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت «، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله ﷺ :» أيّ رجل عبد الله ابن سلام فيكم؟ « قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال :» أرأتيم إن أسلم « قالوا : أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا : هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ».
وقال ابن جرير : انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به، فقال لهم عمر : أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبرائيل، فقالوا : ذاك عدوّنا من أهل السماء، يُطلع محمداً على سرّنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر : هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً ﷺ، ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي ﷺ ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله ﴾ الآيات.
وقال ابن جرير عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ( ميكائيل ) كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن ( جبرائيل ) ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا، قال : فنزلت هذه الآية.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله ﴾ أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكيٌّ ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ [ مريم : ٦٤ ] وقال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين * نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :» من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب « ولهذا غضب الله لجبرائيل على ما عاداه، فقال تعالى :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المتقدمة ﴿ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلاّ للمؤمنين كما قال تعالى :
لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ | سبق الموتُ ذا الغنى والفقيرا |
نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه | كنبذك نعلاً أخلقتْ من نعالكا |
وروي أنه لما مات سليمان عليه السلام قام إبليس - لعنه الله - خطيباً فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحراً، هذا سحرهُ بهذا تعبَّدنا وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون : بل كان نبياً مؤمناً. فلما بعث الله النبي محمداً ﷺ وذكر داود وسليمان، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح، فأنزل الله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ الآية. فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام.
وقوله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله ﷺ ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعدّاه بعلى لأنه تضمن ﴿ تَتْلُواْ ﴾ تكذب، وقال ابن جرير :﴿ على ﴾ هاهنا بمعنى في، أي تتلو في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق ( قلت ) : والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه الله :- وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيحٌ لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ [ البقرة : ٢٤٦ ] الآية ثم ذكر القصة بعدها، وفيها :﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ]. وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام - لنبيهم صالح إنما ﴿ أَنتَ مِنَ المسحرين ﴾ [ الشعراء : ١٥٣ ] أي المسحورين على المشهور، وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ ﴾ اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن « ما » نافية أعني التي في قوله :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين ﴾.
وقد روي في قصة ( هاروت ) و ( ماروت ) عن جماعة من التابعين كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم وقصَّها خلق من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقد فتن الناس في دينهم | وخلى ابن عفان شراً طويلاً |
وقوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله، وقال الحسن البصري : من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله.
وقد استدل بقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا ﴾ من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل وطائفة من السلف، وقيل : بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول؛ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال : فقتلنا ثلاث سواحر. وصح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد ابن حنبل : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ في قتل الساحر، وروى الترمذي عن جندب الأزدي أنه قال : قال رسول الله ﷺ :« حد الساحر ضربه بالسيف » وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عُقْبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس : سبحان الله يحيي الموتى!! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال : إنْ كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى :﴿ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣ ] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم. وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم.
فصل
حكى الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال : وربما كفَّروا من اعتقد وجوده، وأما أهل السنّة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا : إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استُدل على وقوع السحر، وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾.
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية ( الأول ) : سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل ﷺ مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم.
( والنوع الثاني ) : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام، وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق لما ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ». ( والنوع الثالث ) من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين : مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، قال : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الإتصال بهذه الأرواح الأرضيه يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
( النوع الرابع ) من السحر : التخيلات والأخذ بالعيون، والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذٍ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه، فيتعجبون منه جداً، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
( قلت ) وقد قال بعض المفسِّرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب بالشعبذة ولهذا قال تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ]، وقال تعالى :﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾ [ طه : ٦٦ ] قالوا : ولم تكن تسعى في نفس الأمر، والله أعلم.
( النوع الخامس ) من السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال : وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل، ( قلت ) يعني ما قاله بعض المفسرين : إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها، ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطعام منهم، وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم.
( النوع السابع ) من السحر : التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخالفة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذٍ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. ( قلت ) : هذا النمط يقال له التَنْبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم، وفي عِلْم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
( النوع الثامن ) من السحر : السعي بالنميمة من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس ( قلت ) : النميمة على قسمين : تارةً تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين، أو على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث :« الحرب خدعة »، وإنما يحذوا على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.
ثم قال الرازي فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، ( قلت ) : وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث :« إن من البيان لسحراً »، وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسَّحْرُ : الرئة، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سَحْره، أي انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله ﷺ بين سَحْري ونحري.
فصل
واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له : صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر. فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند ( مالك والشافعي وأحمد ) وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصاً، قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأُخرى تقبل، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل لقصة ( لبيد بن الأعصم )، واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل والله أعلم.
مسألة
وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجازه سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله هلا تنشرت، فقال :« أمَّا الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً ». وحكى القرطبي عن وهب : أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر، فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء، ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته. ( قلت ) : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث :« لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما » وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان.
وقال ابن جرير عن الحسن في قوله :﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ قال : إن نبيكم ﷺ قرأ قرآناً ثم نسيه، وعن ابن عباس : قال :« كان مما ينزل على النبي ﷺ الوحي بالليل وينساه بالنهار » وقال عمر : أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي، وإنَّا لندع من قول أبيّ، وذلك أن أبيّاً يقول : لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله ﷺ.
وقوله :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر، وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى إستحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه ﷺ على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غيَّر الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
( قلت ) : الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حلَّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه.
والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسِّر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيفٌ مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول ﷺ وغير ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ ﴾ أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو ( إنكاري ) وهو يعم المؤمنين والكافرين، كما قال تعالى :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء ﴾ [ النساء : ١٥٣ ]. عن ابن عباس قال : قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد : يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾.
وقال مجاهد : سألت قريش محمداً ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً قال :« نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل » فأبوا ورجعوا والمراد أن الله ذم من سأل الرسول ﷺ عن شيء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً. قال الله تعالى :﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان ﴾ أي ومن يشتر الكفر بالإيمان ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾ أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار ﴾ [ إبراهيم : ٢٨-٢٩ ].
قال ابن عباس في قوله ﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾ : نسخ ذلك قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ]، وقوله :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ]، وكذا قال أبو العالية وقتادة والسدي : إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى :﴿ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله ﴾ يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكَّن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال ابن جرير في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سراً وعلانية فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيراً وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج فإن فيه وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته إذ كان مذخوراً لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى :﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله ﴾ وليحذروا معصيته. قال وأما قوله ﴿ بَصِيرٌ ﴾ فإنه ( مبصر ) صرف إلى بصر كما صرف ( مبدع ) إلى بديع و ( مؤلم ) إلى أليم، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿ بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى :﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ] الآية. وقال سعيد بن جبير :﴿ بلى مَنْ أَسْلَمَ ﴾ أخلص ﴿ وَجْهَهُ ﴾ قال : دينه ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ أي اتبع فيه الرسول ﷺ، فإنَّ للعمل المتقبل شرطين : أحدهما : أن يكون خالصاً لله وحده، والآخر أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل، ولهذا قال رسول الله ﷺ :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول ﷺ المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ] وقال تعالى :﴿ والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ [ النور : ٣٩ ] وقال تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تصلى نَاراً حَامِيَةً * تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ [ الغاشية : ٢-٥ ]. وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي، وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضاً مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، وقال تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الذين هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الماعون ﴾ [ الماعون : ٤-٧ ] ولهذا قال تعالى :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾ [ الكهف : ١١٠ ] وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾، وقوله :﴿ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ فيما يستقبلونه، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما مضى مما يتركونه.
وقوله تعالى :﴿ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [ الآية : ١٧ ] وكما قال تعالى :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم ﴾ [ سبأ : ٢٦ ].
وفي قوله :﴿ وسعى فِي خَرَابِهَآ ﴾ عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي ﷺ الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه ﴾، ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس. ( قلت ) : والذي يظهر - والله أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذي أخرجوا الرسول ﷺ وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله ﷺ وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ].
وقال تعالى :﴿ هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وفي إقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى :﴿ أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية، ولهذا لما فتح رسول الله ﷺ مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادي برحاب مِنى :« ألا لا يحجنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفنَّ بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته »، وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها.
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ إذناً من الله أن يصلي ( المتطوع ) حيث توجه من شرق أو غرب في سفره لما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾.
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآي في قوم عميت عليه القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلُّوا على أنحاء مختلفة، فقال الله تعالى : لي المشارق والمغارب، فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية، لما روي عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلىغير القبلة، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله تعالى :﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ الآية.
قال ابن جرير : ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. قال مجاهد : لما نزلت ﴿ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] قالوا : إلى أين؟ فنزلت ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾. ومعنى قوله :﴿ إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله :﴿ عَلِيمٌ ﴾ فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.
وقوله ﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ مقرّون له بالعبودية. وقال السدي : أي مطيعون يوم القيامة، وقال مجاهد :﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ مطيعون. قال : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره، وهذا القول - وهو اختيار ابن جرير - يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت الطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال تعالى :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال ﴾ [ الرعد : ١٥ ].
وقوله تعالى :﴿ بَدِيعُ السماوات والأرض ﴾ أي خالقهما على غير مثال سبق وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم « فإن كل محدثة بدعة » والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية، كقوله :« فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة »، وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم :« نعمت البدعة هذه ».
قال ابن جرير : فمعنى الكلام : سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلامٌ من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك ( المسيح ) الذي أضافوا إلى الله بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته، وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة.
وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ يبيّن بذلك كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدّر أمراً وأراد كونه فإنما يقول له ﴿ كُنْ ﴾ أي مرة واحدة ﴿ فَيَكُونُ ﴾ أي فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ]، وقال الشاعر :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما | يقول له كن قولة فيكون |
جعل البيت مثاباً لهم | ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر |
ومضمون هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله :﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] إلى أن قال :﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٠ ]، ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً. فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له. وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمن كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ [ الحج : ٢٦ ].
وقال تعالى :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٦-٩٧ ]. وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾. وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال مجاهد عن ابن عباس : مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل : مقام إبراهيم الحج كله ( منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة )، وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ قال : الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. عن جعفر بن محمد عن أبيه : سمع جابراً يحدث عن حجة النبي ﷺ قال : لما طاف النبي ﷺ قال له عمر : هذا مقام أبينا؟ قال :« نعم »، قال : أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقال البخاري : باب قوله ﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ مثابة يثوبون : يرجعون. قال عمر بن الخطّاب : وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت ﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب.
وقال أنس : قال عمر رضي الله عنه : وافقت ربي عزّ وجلّ في ثلاث، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾، وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيرا منكن فنزلت كذلك. ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.
وروى ابن جريج عن جابر : أن رسول الله ﷺ رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقال ابن جرير عن جابر قال : استلم رسول الله ﷺ الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه. فهذا كلهم مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة | على قدميه حافياً غير ناعل |
عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله ﷺ وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وعن مجاهد قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام، فأنزل ﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ فكان المقام عند البيت فحوَّله رسول الله ﷺ إلى موضعه هذا. وهو مخالف لما تقدم أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.
﴿... وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم ﴾.
قال الحسن البصري : قوله تعالى ﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ : أمرهما الله أن يطهرهاه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء. وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا، قوله :﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين ﴾ أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال مجاهد وعطاء وقتادة :﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ أي بلا إله إلا الله من الشرك، وأما قوله تعالى :﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال :﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ يعني من أتاه من غربة ﴿ والعاكفين ﴾ المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه. وعن ابن عباس قال : إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وعن ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون.
قال ابن جرير رحمه الله فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ فالجواب من وجهين :( أحدهما ) : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به. ( قلت ) : وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد ﷺ. ( الثاني ) : أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه :﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [ التوبة : ١٠٩ ] ؟ قال فكذلك قوله :﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود ﴾ [ الحج : ٢٦ ] الآيات.
وقد اختلف الفقهاء أَيَّمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله : الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين، الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة ( قيامها وركوعها وسجودها ) ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم ﴿ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام، وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين ( اليهود والنصارى ) لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى
وتقدير الكلام إذن :﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود ﴾ أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ [ النور : ٣٦ ]، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام :« إنما بنيت المساجد لما بنيت له »، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة ولله الحمد والمنة. وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة؟ فقيل : الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها. وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر ﴾ قال ابن جرير عن جابر بن عبد الله : قال رسول الله ﷺ :« إن إبراهيم حرَّم بيت الله وأَمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله ﷺ، فإذا أخذه رسول الله ﷺ قال :« اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه » ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله ﷺ لأبي طلحة :« التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني »، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله ﷺ كلما نزل.
وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن الله تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة :« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها »، فقال العباس : يا رسول الله الإذخر فإنه لقَيْنهم ولبيوتهم، فقال :« إلا الإذخر » وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله ﷺ الغد من يوم الفتح، سمعْته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال :« إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا : إنَّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب »
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلّغ عن الله حكمه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله ﷺ مكتوباً عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام :﴿ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٩ ] وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل :﴿ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ﴾ أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً كقوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله ﷺ يقول :« لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح »، وقال في هذه السورة :﴿ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ﴾ أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هذا لأنه هذا هناك لأنه - والله أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا في آخر الدعاء :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء ﴾ [ إبراهيم : ٣٩ ].
وقوله تعالى :﴿ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾. قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب ﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ ﴾ الآية هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله، قال : وقرأ آخرون :﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾ فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم. قال ابن عباس :« كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير » ثم قرأ ابن عباس :
وأما قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين : الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته إم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم، قالت : إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال :﴿ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] حتى بلغ ﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنُّها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس : قال النبي ﷺ :
قال : فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيّع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في اسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال : وأُم إسماعيل عند الماء، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، قالوا : نعم، قال ابن عباس قال النبي ﷺ :« فألقى ذلك أُم إسماعيل وهي تحب الأنس »، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم.
وماتت ( أُم إسماعيل ) فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتعي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال : إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غيِّرْ عتبة بابك، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وتزوج منهم بأُخرى. فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا، قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت : نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عزّ وجلّ، قال : ما طعامكم؟ قالت : اللحم، قال : فما شرابكم؟ قالت : الماء، قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي ﷺ :
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال : إلى الله، قالت : رضيت بالله. قال : فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها على صبيها حتى لما فني الماء. قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت هل تحس أحداً؟ فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها، فقالت : لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت : أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال : فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض، قال : فانبثق الماء.
فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة. قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ﷺ فقال لأهله : إني مطلع تركتي، قال : فجاءهم فسلّم فقال : أين إسماعيل؟ قالت امرأته : ذهب يصيد، قال : قولي له إذا جاء غيِّرْ عتبةَ بابك، فلما أخبرته قال : أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال : ثم إنه بدا لإبراهيم فقال : إني مطلع تركتي، قال فجاء فقال : أين إسماعيل؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد، فقالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال : ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال : فقال أبو القاسم ﷺ :« بركة بدعوة إبراهيم » قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ﷺ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي فجاء فوفق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال : يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً، فقال : أطع ربك عزّ وجلّ، قال : إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال : إذن افعل - أو كما قال - فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ قال : حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾.
قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم : إن الله بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أُمرتُ يا جبريل؟ فيقول جبريل : امضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه ( سلم وسمر ) وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذٍ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر ( هاجر ) أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً فقال :
وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ الآية : القواعد أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة، عن عائشة زوج النبي ﷺ، أن رسول الله ﷺ قال :« ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ » فقلت : يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال :« لولا حدثان قومك بالكفر »، فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله ﷺ ما أرى رسول الله ﷺ ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواع إبراهيم عليه السلام. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي ﷺ قال :« لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر ».
( ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول الله ﷺ بخمس سنين )
وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق في السيرة : ولما بلغ رسول الله ﷺ خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزأَلَّت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش : إنّا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني ( الحجر الأسود ) فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا إيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا « لَعَقةَ الدم »، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة - وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلهم - قال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله ﷺ فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا... هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال ﷺ :« هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ثم قال :» لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ﷺ، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله ﷺ قبل أن ينزل عليه الوحي ( الأمين ) «.
وقد كانت السُنَّة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي ودّه رسول الله ﷺ، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السنة على ( عبد الملك بن مروان ) ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله ﷺ قال :» وددنا أنا تركناه وما تولى. فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير فلو ترك لكان جيداً.
ولكن بعدما رجع الامر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغيَّر عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها!! فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي. ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ( ذو السُّويقتين ) من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال :« كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً » وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها. حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله ».
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحجيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج ».
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام :﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ قال ابن جرير : يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة :﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ قال الله : قد فعلت ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ قال الله : قد فعلت. وقال السدي :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ يعنيان العرب. قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى :
( قلت ) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده :﴿ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٩ ] الآية. والمراد بذلك محمد ﷺ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ [ الجمعة : ٢ ]، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله :﴿ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ]. وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده. لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام :﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] قال :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وهو قوله :﴿ واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ] وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال :« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له ».
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ قال عطاء : أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد :﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال :« إن إبراهيم لما أُري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به ( منى ) فقال : هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى ( جمرة العقبة ) تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى ( الجمرة الوسطى ) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى ( الجمرة القصوى ) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعاً فقال : هذا المشعر، ثم أتى به عرفة فقال : هذه عرفة، فقال له جبريل : أعرفت؟ ».
وقال أبو أمامة قلت : يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال :« دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام » والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً، حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسباً وهو ( عيسى بن مريم ) عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيباً، وقال :﴿ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ]، ولهذا قال في هذا الحديث : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم. وقوله :« ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام »، قيل : كان مناماً رأته حين حملت به وقصَّته على قومها، فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة! وتخصيصُ الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل ( عيسى ابن مريم ) إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين :« لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك » وفي صحيح البخاري « وهم بالشأم ».
قوله :﴿ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ يعني أُمّة محمد ﷺ فقيل له : قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان، وقوله تعالى :﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب ﴾ يعني القرآن، ﴿ والحكمة ﴾ يعني السنة، قاله الحسن وقتادة، وقيل : الفهم في الدين، ولا منافاة. ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ قال ابن عباس : يعني طاعة الله والإخلاص، وقال محمد بن إسحاق :﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة ﴾ : يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته، وقوله :﴿ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ أي العزيز الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين ﴾ أي أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً. وقوله :﴿ ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾ أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله :﴿ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين ﴾ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم من بعدهم، كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾ [ الزخرف : ٢٨ ]. والظاهر - والله أعلم - أن إسحاق ولد له ( يعقوب ) في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ]، وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ [ الآية : ٢٧ ]. وقال في الآية الأخرى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾ [ الأنبياء : ٧٢ ]، وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت :
وقوله :﴿ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أي أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفِّق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح :» إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها «، لأنه قد جاء في بعض الروايات هذا الحديث : ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وقد قال الله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾ [ الليل : ٥ ].
وقال أبو العالية وقتادة :( الأسباط ) بنو يعقوب أثنا عشر رجلاً، ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط. وقال الخليل بن أحمد : الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل وقال الزمخشري : الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الإثني عشر، وقد نقله الرازي عنه وقرره ولم يعارضه، وقال البخاري : الأسباط قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم :﴿ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ [ المائدة : ٢٠ ] الآية. وقال تعالى :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً ﴾ [ الأعراف : ١٦٠ ]، قال القرطبي : وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة، وقيل : أصله من السَبَط بالتحريك وهو الشجر أي في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدةُ سبطة. قال الزجاج : ويبين لك هذا ما روي عن ابن عباس قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة :( نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمد ) عليهم الصلاة والسلام. قال القرطبي : والسبط الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد، وقال قتادة : أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله.
﴿ صِبْغَةَ الله ﴾ قال الضحاك عن ابن عباس : دين الله وقد ورد عن ابن عباس أن نبيَّ الله قال ﷺ :« إن بني إسرائيل قالوا يا رسول الله هل يصبغ ربك؟ فقال اتقوا الله، فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل نعم : أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي »، كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعاً وهو في رواية ابن ابي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم.
وقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله ﴾ قال الحسن البصري : كانوا يقرأون في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الإسلام، وإن محمداً رسول الله، وإن إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عنهم من ذلك. وقوله :﴿ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ تهديد ووعيد شديد : أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه، ثم قال تعالى :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي قد مضت ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾ أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ وليس بغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله، واتباع رسله الذي بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
وعن البراء قال : كان رسول الله ﷺ يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ]. فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب - ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس ﴾ إلى آخر الآية. وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً. وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله :﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة. وحاصل الأمر : أنه قد كان رسول الله ﷺ أُمِر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور.
والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه ﷺ المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يُوَجَّه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول الله ﷺ الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدّم في الصحيحين.
عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ، يعني في أهل الكتاب :« إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ».
وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾، يقول تعالى إنما حولناكم على قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأُمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأُمم، لان الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسطُ هاهنا : الخيار والأجود، كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول الله وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه ( الصلاة الوسطى ) وهي العصر، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى :﴿ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ الحج : ٧٨ ].
وقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله ﴾، يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي مرتداً عن دينه ﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾ أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديق، كما قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ] وقال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]. وقال تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] ولهذا كان - من ثبت على تصديق الرسول ﷺ واتباعه في ذلك، وتوجّه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب - من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقوله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس : ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي بالقبلة الأُولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأُخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً ﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وقال الحسن البصري : وما كان ليضيع إيمانكم : أي ما كان الله ليضيع محمداً ﷺ وانصرافكم معه حيث انصرف ﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول الله ﷺ :« أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه »؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال :« فواللَّهِ، للَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها ».
وقال عبد الرزاق عن البراء قال : لما قدم رسول الله ﷺ المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول الله ﷺ يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء ﴾ فصرف إلى الكعبة. وعن أبي سعيد بن المعلى قال :« كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله ﷺ فنصلي فيه، فمررنا يوماً ورسول الله ﷺ قاعد على المنبر، فقلت لقد حدث أمر فجلست، فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله ﷺ، فنكون أول من صلى فتوارينا فصليناهما، ثم نزل النبي ﷺ وصلى للناس الظهر يومئذ »
مسألة
وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الإنحناء وهو ينافي كمال القيام، وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه إلى صدره، وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حِجْره.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ ﴾ أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس، يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله ﷺ وأمته، وما خصه الله تعالى به وشرَّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكنَّ أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً، ولهذا تهددهم تعالى بقوله :﴿ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾.
وقوله :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾ أي أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجّه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس وهذا أظهر، قال أبو العالية :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾ يعني به أهل الكتاب حين قالوا : صرف محمد إلى الكعبة، وقالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. وكان حجتهم على النبي ﷺ انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا : سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا. قوله :﴿ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ يعني مشركي قريش، ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا : إنَّ هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم، فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم يرجع عنه؟ والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً، لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة، فامتثل أمر الله في ذلك أيضاً.
وقوله :﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني ﴾ أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه، وقوله :﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾ عطف على ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾، أي لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ إي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
قال زيد بن أسلم : إن موسى عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه :« تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذ نسيتني فقد كفرتني » قال الحسن البصري : إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره، وقال بعض السلف في قوله تعالى :﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] هو « أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنْسى، ويُشْكَر فلا يُكْفر » وقال الحسن البصري في قوله :﴿ فاذكروني أَذْكُرْكُمْ ﴾ اذكروني فيما افترضت عليكم اذكركم في أوجبت لكم على نفسي، وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، وفي رواية برحمتي. وفي الحديث الصحيح :« يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » وعن أَنَس قال : قال قال رسول الله ﷺ :« قال الله عزّ وجلّ يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال في ملأ خير منه - وإن دنوت مني شبراً دنوتُ منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولةً » قال قتادة : الله أقرب بالرحمة وقوله :﴿ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ أمر الله تعالى بشكره، ووعد على شكره بمزيد الخير، فقال :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [ إبراهيم : ٧ ]. روى أبو رجاء العطاردي قال : خرج علينا ( عمران بن حصين ) وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال : إن رسول الله ﷺ قال :« من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه » وروي : على عبده.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم :« أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تبغون؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالو : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أُخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جلّ جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون » وقال رسول الله ﷺ :« نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً لهم وتكريماً وتعظيماً.
ثم بين تعالى مَنِ الصابرون الذين شكرهم فقال :﴿ الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ أي تسلوا بقولهم هذا عمّا أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي ثناء من الله عليهم ﴿ وأولئك هُمُ المهتدون ﴾. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العِدْلان ونعمت العِلاوة ﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ فهذا العدلان ﴿ وأولئك هُمُ المهتدون ﴾ فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع عند المصائب أحاديث كثيرة، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله ﷺ فقال : لقد سمعت من رسول الله ﷺ قولا سررت به، قال :« لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا فعل ذلك به » قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي استأذن عليَّ رسول الله ﷺ وأنا أدبغ إهاباً لي، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة فيَّ غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال، فقال :
وعن النبي ﷺ قال :« ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وعن أبي سنان قال : دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة ( يعني الخولاني ) فأخرجني وقال لي : ألا أبشِّرك؟ قلت : بلى، قال : قال رسول الله ﷺ :« قال الله : يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال : نعم، قال : فما قال؟ قال : حمدك واسترجع، قال : ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد ».
وفي صحيح مسلم :« أن رسول الله ﷺ لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول :﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ﴾، ثم قال :» أبدأ بما بدأ الله به « وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت :» رأيت رسول الله ﷺ يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول :« اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي »، وقد استدل بهذا الحديث من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك، وقيل : إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم وهو رواية عن أحمد. وقيل : بل مستحب. واحتجوا بقوله تعالى :﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾، والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال :« خذوا عني مناسككم » بيَّن تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة ﴿ مِن شَعَآئِرِ الله ﴾ أي مما شرع الله تعالى لأبراهيم في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر، وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لمّا نفد ماؤهما وزادهما، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين ( الصفا والمروة ) متذللة خائفة وجلة حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرَّج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها « طعام طعم، وشفاء سقم » فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجىء إلى الله عزّ وجلّ لتفريج ما هو به.
فصل
لا خلاف في جواز لعن الكفار، فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له. وقالت طائفة أُخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين، واختاره ابن العربي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله عليه السلام :« لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله » فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره، واستدل بعضهم بالآية ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ والله أعلم.
عن عطاء قال : نزلت على النبي ﷺ بالمدينة :﴿ وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ] فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس ﴾ إلى قوله :﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء. وقال أبو الضحى : لما نزلت ﴿ وإلهكم إله وَاحِدٌ ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ] قال المشركون : إن كان هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ﴾ إلى قوله :﴿ يَعْقِلُونَ ﴾.
ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال :﴿ وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً ﴾. قال بعضهم : تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذٍ أن القوة لله جميعاً، أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، ﴿ وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب ﴾، كما قال :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [ الفجر : ٢٥-٢٦ ]. يقول : لو يعلمون ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع، المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عمّا هم فيه من الضلال. ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم، وتبري المتبوعين من التابعين فقال :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا ﴾، تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة :﴿ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ [ القصص : ٦٣ ]، ويقولون :﴿ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٤١ ]. والجن أيضاً تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ] وقال تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ].
وقوله :﴿ وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب ﴾ أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلاً ولا مصرفاً، قال ابن عباس :﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب ﴾ المودة، وقوله :﴿ وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ﴾ أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا، حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم بل نوحّد الله وحده بالعبادة، وهم كاذبون في هذا بل لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال :﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ أي تذهب وتضمحل، كما قال تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] الآية. وقال تعالى :﴿ والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً ﴾ [ النور : ٣٩ ] الآية. ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ تنفير عنه وتحذير منه، كما قال :﴿ إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً ﴾ [ فاطر : ٦ ]. وقال تعالى :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] قال قتادة والسُّدي : كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان. وقال مسروق : أُتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم، فقال : لا أريده، فقال : أصائم أنت؟ قال : لا، قال : فما شأنك؟ قال : حرمت أن آكل ضرعاً أبداً، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان، فاطعم وكفّر عن يمينك. وعن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارتُه كفارة يمين. وقوله :﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظُ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً.
ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ أي من غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد ﴿ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي في أكل ذلك. ﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. قال مجاهد :﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ من خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وقال مقاتل بن حيان :﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ يعني غير مستحله، وقال السُّدي :﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ يبتغي فيه شهواته، وعن ابن عباس : لا يشبع منها وعنه :﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ قال :﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ في الميتة، ولا عادٍ في أكله، وقال قتادة :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ قال : غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام هو يجد عنه مندوحة، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله :﴿ فَمَنِ اضطر ﴾ أي أكره على ذلك بغير اختياره.
مسألة
إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير، بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف لحديث عباد بن شرحيل العنزي قال : أصابتنا عاماً مخمصةٌ فأتيت المدينة، فأتيت حائطاً، فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته، فقال للرجل :« ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً، ولا علَّمته إذ كان جاهلاً » فأمره فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق طعام أو نصف وسق.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر » ثم قال تعالى مخبراً عنهم :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾، أي اعتاضوا عن الهدى - وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه - استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم ﴿ والعذاب بالمغفرة ﴾ أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة.
وقوله تعالى :﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار ﴾ يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذاً بالله من ذلك، وقيل : معنى قوله :﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار ﴾ أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار.
وقوله تعالى :﴿ ذَوِي القربى ﴾ وهم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث :« الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة، فهم أولى الناس بك وبِبرَّك وإعطائك » وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز ﴿ واليتامى ﴾ هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ، والقدرة على التكسب، وقد قال رسول الله ﷺ :
وقوله تعالى :﴿ وَأَقَامَ الصلاة ﴾ أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها، على الوجه الشرعي المرضي، وقوله :﴿ وَآتَى الزكاة ﴾ كقوله :﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة ﴾ [ فصلت : ٦-٧ ] والمراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين، إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ كقوله :﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق ﴾ [ الرعد : ٢٠ ] وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث :« آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان »، وفي الحديث الآخر :« وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر »، وقوله تعالى :﴿ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ﴾ أي في حال الفقر وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء، ﴿ وَحِينَ البأس ﴾ أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس. وإنما نصب ﴿ الصابرين ﴾ على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم. وقوله :﴿ أولئك الذين صَدَقُواْ ﴾ أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا ﴿ وأولئك هُمُ المتقون ﴾ لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
مسألة
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وهو مروي عن ( عليّ ) و ( ابن مسعود ) قال البخاري : يقتل السيد بعبده لعموم حديث :« من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه »، وخالفهم الجمهور فقالوا : لا يقتل الحر بالعبد، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وذهب الجمهور إلى ان المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله ﷺ :« لا يقتل مسلم بكافر »، ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة
قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام :« المسلمون تتكافأ دماؤهم »، وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال :( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم )، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة.
وقوله تعالى :﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يقول تعالى فمن قَتَل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله، أليم : موجع شديد، لحديث :« من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها ».
وقوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾، يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم :« القتل أنفى للقتل » فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز ﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾ قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل، ﴿ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه. والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
وقوله تعالى :﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يقول تعالى : فمن بدل الوصية وحرَّفها فغيَّر حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى ﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ ﴾، قال ابن عباس : وقع أجر الميت على الله، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك. ﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصَى إليهم. وقوله تعالى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ﴾ قال ابن عباس : الجنف : الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئاً غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت، إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به، جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم. وفي الحديث :» الجنف في الوصية من الكبائر « وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :» إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى جاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة « قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم ﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] الآية.
وقال عطاء عن ابن عباس :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ يعني بذلك أهل الكتاب، ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام، فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود وابن عباس، ولهذا قال تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
روي أن رسول الله ﷺ قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله عزّ وجلّ أنزل الآية الأُخرى :
وروي البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وروي عن ابن عمر قال : هي منسوخة، وقال السُّدي : لما نزلت هذه الآية :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً فكانوا كذلك حتى نسختها :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]. وقال ابن عباس : ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً. وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على ( عطاء ) في رمضان وهو يأكل فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر.
فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصيام عليه بقوله :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليس له حال يصير إليه يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان، أحدهما : لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه، فلم يجب عليه فدية كالصبي، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي. والثاني : وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، وهو اختيار البخاري، فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أَنَسٌ بعد ما كبر عاماً أو عامين، عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر، ومما يلتحق بهذا المعنى ( الحامل ) و ( المرضع ) إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل : يفديان فقط ولا قضاء، وقيل : يجب القضاء بلا فدية، وقيل : يفطران ولا فدية ولا قضاء.
وقوله تعالى :﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ﴾ هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدّقه واتبعه، ﴿ وَبَيِّنَاتٍ ﴾ أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال :( رمضان ) ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت، وقد انتصر البخاري لهذا فقال : باب - يقال رمضان - وساق أحاديث في ذلك، منها :« من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » ونحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه. ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال :﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ معناه : ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر أي في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال :﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾ أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح السليم تيسيراً عليكم ورحمة بكم.
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« قال الله تعالى : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه » ( قلت ) : وهذا كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [ النحل : ١٢٨ ]، وقوله لموسى وهارون عليهما السلام :﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى ﴾ [ طه : ٤٦ ] والمراد من هذا أنه تعالى لا يجيب دعاء داع، ولا يشغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيبٌ في الدعاء وأنه لا يضيع لديه تعالى، كما قال ﷺ :« إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين » وعن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال :« ما من مسلم يدعو الله عزّ وجلّ بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها »، قالوا : إذن نكثر، قال :« الله أكثر » وعن النبي ﷺ قال :« ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزّ وجلّ بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كفَّ عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :« » لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل «. قيل : يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال :» يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي يستجاب عند ذلك ويدع الدعاء « ».
وكان السبب في نزول هذه الآية ما روي أن أصحاب النبي ﷺ إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وإن ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ولكنْ أنطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار؟ غشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ - إلى قوله - وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ﴾ ففرحوا بها فرحاً شديداً، ولفظ البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله :﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾. وعن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلُّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى :﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ ﴾ الآية.
وعن أبي هريرة في قول الله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلُّوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وإن ( صرمة بن قيس ) الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام، ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله ﷺ العشاء فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك فأنزل الله عند ذلك :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ يعني بالرفث مجامعة النساء، ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء، ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ ﴾ يعني جامعوهن ﴿ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾ يعني : الولد ﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ فكان ذلك عفواً من الله ورحمة، وقال ابن جرير : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي ﷺ ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت : إني قد نمت، فقال : ما نمت، ثم وقع بها.
وقوله تعالى :﴿ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : يعني الولد، وقال عبد الرحمن ابن زيد بن اسلم :﴿ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾ يعني الجماع، وقال قتادة : ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم، يقول ما أحل الله لكم. واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله.
قوله تعالى :﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾، أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع، في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله :﴿ مِنَ الفجر ﴾، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ ﴿ مِنَ الفجر ﴾ فعلموا أنما يعني الليل والنهار. وعن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود ﴾ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، قال : فجعلتهما تحت وسادتي، قال : فجعلت أنظر إليهما فلما تبيَّن لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بالذي صنعت فقال :« إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل » وجاء في بعض الألفاظ :« إنك لعريض القفا » ففسره بعضهم بالبلادة، ويفسره رواية البخاري أيضاً قال :« إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال : لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار ».
فصل
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر، دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ولهذا وردت السنّة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالحث على السحور. ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ :« تسحروا فإن في السحور بركة »، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور »، وقال رسول الله ﷺ :« السحور أكلة بركة فلا تَدَعوه ولو أن أحدكم تجرَّع جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين » ويستحب تأخيره كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال : تسحرنا مع رسول الله ﷺ ثم قمنا إلى الصلاة، فقال أنس قلت لزيدٍ : كم كان بين الأذان والسحور؟ قال : قدر خمسين آية. وقال رسول الله ﷺ :« لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور ».
وحكى ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. ( قلت ) : وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله :﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾، وقد ورد في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر » وقال رسول الله ﷺ :« لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير » وعن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب، وقال عطاء : فأما إذا سطع سطوعاً في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله.
مسألة
ومن جعْله تعالى الفجرَ غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام، يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأُم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا : كان رسول الله ﷺ يصبح جنباً من جماع من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم، وفي حديث ( أُم سلمة ) عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها | عن الشراب وتلهيها عن الزاد |
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ﴾، قال ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه، وقال الضحّاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامَع إن شاء، فقال الله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ﴾، أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره.
وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام، إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام، كما ثبت في السنّة عن رسول الله ﷺ أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عزّ وجلّ، ثم اعتكف أزواجه من بعده. وفي الصحيحين : أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي ﷺ وهو معتكف في المسجد، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها، وكان ذلك ليلاً، فقام النبي ﷺ يمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبيَّ ﷺ أسرعا ( وفي رواية ) تواريا - أي حياءً من النبي ﷺ لكون أهله معه - فقال لهما ﷺ :« » على رسلكما إنها صفية بنت حيي « ( أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي ) فقالا : سبحان الله يا رسول الله! فقال ﷺ :» إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً «، قال الشافعي رحمه الله : أراد عليه السلام أن يعلِّم أمته التبري من التهمة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي ﷺ شيئاً والله أعلم. ثم المراد ( بالمباشرة ) إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله ﷺ يدني إليَّ رأسه فأرجّله وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة.
وقوله تعالى :﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي هذا الذي بيّناه وفرضناه وحدّدناه من الصيام وأحكامه، وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه ﴿ حُدُودُ الله ﴾ أي شرعها الله وبيَّنها بنفسه ﴿ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾ أي لا تجاوزوها وتتعدوها. وقيل في قوله :﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي المباشرة في الاعتكاف، ﴿ كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ﴾ أي كما بيَّن الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد ﷺ، ﴿ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الحديد : ٩ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾، قال البخاري عن البراء : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله :﴿ وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾. وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً، وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوره من قبل ظهره، فقال الله تعالى :﴿ وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ﴾ الآية. وقوله :﴿ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ غداً إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾ أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله ﷺ كان يقول :« اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع » وعن ابن عباس قال : كان رسول الله ﷺ إذا بعث جيوشه قال :« اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع » وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة في بعض مغازي النبي ﷺ مقتولة فأنكر رسول الله ﷺ قتل النساء والصبان.
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبّه تعالى على ان ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغُ وأشدُّ وأعظم وأطم من القتل، ولهذا قال :﴿ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل ﴾. قال ابو العالية ومجاهد وعكرمة : الشرك أشد من القتل، وقوله :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام ﴾ كما جاء في الصحيحين :« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل إلا ساعة من نهار - وإنها ساعتي هذه - فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم » يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل : صلحاً لقوله :« من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » وقوله :﴿ حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين ﴾ يقول تعالى : ولا تقاتلوهم عن المسجد الحرام إلا ان يبدأوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كما بايع النبي ﷺ أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله القتال بينهم فقال :
وقوله تعالى :﴿ فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه، ثم أمر الله بقتال الكفار ﴿ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي شرك قاله ابن عباس والسدي ﴿ وَيَكُونَ الدين للَّهِ ﴾، أي : يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال :« من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
وقوله تعالى :﴿ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾، يقول تعالى : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول ( مجاهد ) أن لا يقاتل إلا من قاتل، أو يكون تقديره ﴿ فَإِنِ انتهوا ﴾ فقد تخلصوا من الظلم والشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة كقوله :﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] وقوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] قال عكرمة وقتادة : الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله، وقال البخاري قوله :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾. عن ابن عمر قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي ﷺ فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا : ألم يقل الله :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله. وعن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال : يا ابن أخي بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت.
وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾، قال : ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة. وقال الحسن البصري :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾، قال : هو البخل، وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في قوله :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾ أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يُغْفر لي فأنزل الله :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين ﴾. وقيل : إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة، أي يستكثر من الذنوب فيهلك. وقيل : إن رجالاً كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله ﷺ بغير نفقة، فأما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكةُ أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي، وقال لمن بيده فضل ﴿ وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين ﴾ ومضمون الآية الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدّوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال :﴿ وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين ﴾.
وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه :« من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة »، وقال في الصحيح أيضاً :« دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ».
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله ﷺ وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظاراً للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصَّر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال ﷺ :
وقد اختلف العلماء - هل يختص الحصر بالعدو؟ فلا يتحلل إلا من حصره عدو، لا مرض ولا غيره - على قولين : عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ فليس الأمن حصراً. والقول الثاني : أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق لحديث :» من كسر أو وجع أو عرج فقد حلَّ وعليه حجة أُخرى « وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أنهم قالوا : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال :» حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني «.
وقوله تعالى :﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾، عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول :﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ شاة، والهدي من الأزواج الثمانية من ( الإبل، والبقر، والمعز، والضأن ) وهو مذهب الأئمة الأربعة. وروي عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر، وروي مثله عن سعيد بن جبير.
( قلت ) : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسول الله ﷺ أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة، وعن ابن عباس في قوله :﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ قال : بقدر يسارته، وقال العوفي عن ابن عباس : إن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهديُ من بهيمة الأنعام وهي ( الإبل والبقر والغنم ) كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله ﷺ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أهدى النبي ﷺ مرة غنماً.
وقوله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾. روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال :« قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فسألته عن فدية من صيام فقال : حُملتُ إلى النبي ﷺ والقملُ يتناثر على وجهي فقال :» ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ « قلت : لا، قال :» صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك «، فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة »، وعن كعب بن عجرة قال :« أتى عليّ النبي ﷺ وأنا أوقد تحت قدر، والقملُ يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال :» يؤذيك هوام رأسك «؟ قلتُ : نعم، قال :» فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة «، قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ.
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله :﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾، قال : إذا كان ( أو ) فأية أخذت أجزأ عنك. وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاووس نحو ذلك. ( قلت ) : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء، أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أيَّ ذلك فعل أجزأه، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل ﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ ولما أمر النبي ﷺ ( كعب ابن عجرة ) بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال :
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ : أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح. ﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة وله أن يذبح البقر، لأن رسول الله ﷺ ذبح عن نسائه البقر، وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران ابن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله ﷺ، ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري : يقال إنه عمر، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول : إنْ نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله :﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾، وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرماً لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه.
وقوله تعالى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾، يقول تعالى : فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك.
وقوله تعالى :﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ فيه قولان :( أحدهما ) : إذا رجعتم إلى رحالكم و ( الثاني ) : إذا رجعتم إلى أوطانكم. وقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، فأهلَّ بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله ﷺ، وبدأ رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي ﷺ مكة قال للناس :« من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصِّرْ وليحلِّل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله » وقوله :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ قيل : تأكيد، كما تقول العرب : رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي. وقال الله تعالى :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، وقال :﴿ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ]، وقال :﴿ وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ]. وقيل : معنى ﴿ كَامِلَةٌ ﴾ الأمر بإكمالها وإتمامها واختاره ابن جرير. وقيل : معنى ﴿ كَامِلَةٌ ﴾ أي مجزئة عن الهدي.
وقوله تعالى :﴿ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾، قال ابن جرير : واختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله :﴿ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم فقال بعضهم عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
عن ابن عباس أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى :﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾، وعنه أنه قال : من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيراً للقرآن وهو ترجمانه.
وقوله تعالى :﴿ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ قل البخاري : قال ابن عمر : هي ( شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، واختار هذا القول ابن جرير، قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب : رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم، وقال الإمام مالك والشافعي في القديم : هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر أيضاً. وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر، وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ﴾ أي وأجب بإحرامه حجاً، قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام، وقال ابن عباس :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ﴾ من أحرم بحج أو عمرة، وقال عطاء : الفرض الإحرام، وقوله :﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ أي من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء.
وقال ابن عباس : إنما الرفث ما قيل عند النساء، وقال طاووس : سألت ابن عباس عن قول الله عزّ وجلّ :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ قال : الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام العرب وهو أدنى الرفث، وقال عطاء : الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش، وقال أبو العالية عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز، وأن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾، عن ابن عباس : هي المعاصي، وعن ابن عمر قال : الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيداً أو غيره، وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح :« سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »، وقال الضحّاك : الفسوق التنابز بالألقاب. والذين قالوا : هو جميع المعاصي الصواب معهم، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهياً عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد - ولهذا قال :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] - وقال في الحرم :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظفار، ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر، وما ذكرناه أولى، وقد ثبت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ فيه قولان :( أحدهما ) : ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه، وقد بيّنه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح ( والقول الثاني ) : أن المراد بالجدال هاهنا المخاصمة. قال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود في قوله :﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وقال ابن عباس :﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ المراء والملاحاة حتى تُغْضب أخاك وصاحبك. وعن نافع أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب والمراء والخصومات. قال رسول الله ﷺ :« من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله ﴾ : لما نهاهم عن إيتان القبيح قولاً وفعلاً، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. وقوله :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾، عن عكرمة أن أناساً كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾، وعن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام ﴾ إنما صرف عرفات - وإن كان علماً على مؤنث - لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات، سُمِّيَ به بقعةٌ معينة فروعي فيه الأصل فصرف، اختاره ابن جرير، وعرفة موضع الوقوف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج، ولهذا روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه « ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي ﷺ وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال :» لتأخذوا عني مناسككم « وقال في هذا الحديث :» فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك «، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة واحتج بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال : أتيت رسول الله ﷺ بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت : يا رسول الله : إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلى وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله ﷺ :
وتسمى عرفات ( المشعر الحرام ) والمشعر الأقصى و ( إلال ) على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل الرحمة، قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له | إلال إلى تلك الشراج القوابل |
وقوله تعالى :﴿ واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان، والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه من الهداية لإبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال :﴿ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين ﴾ قيل : من قبل هذا الهدي، وقيل : القرآن، وقيل : الرسول، والكل متقارب ومتلازم وصحيح.
وقوله تعالى :﴿ واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ كثيراً ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثاً، وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وقد روى ابن جرير استغفاره ﷺ لأُمته عشية عرفة. وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله ﷺ :« سيِّد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة » وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن أبا بكر قال :« يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال :» قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم «، والأحاديث في الاستغفار كثيرة.
ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال :﴿ فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ ﴾ أي من نصيب ولا حظ، وتضمن هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك، قال ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً فانزل الله فيهم :﴿ فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ ﴾ ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأُخرى، فقال :﴿ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار ﴾، فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام، وقال القاسم أبو عبد الرحمن : من أعطي قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابراً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار. ولهذا وردت السنّة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري عن أنس بن مالك : كان النبي ﷺ يقول :« اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار »، وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وعن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول الله ﷺ :« هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال : نعم، كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجَّله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، فهلا قلت ﴿ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار ﴾، قال : فدعا الله فشفاه ».
وأما قوله تعالى :﴿ وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ فمعناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى :﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله ﴾ [ النساء : ١٠٨ ] الآية. وقيل : معناه : أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام ﴾ الألد في اللغة : الأعوج، ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ] أي عوجاً، وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« آية المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر » وفي الحديث :« إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ».
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد ﴾ أي هو أعوج المقال سيء الفعال، فذلك قوله وهذا فعله. كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. والسعي هاهنا هو القصد كما قال إخباراً عن فرعون :﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى * فَحَشَرَ فنادى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٢-٢٤ ] وقال تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذِكْرِ الله ﴾ [ الجمعة : ٩ ] أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية :« إذا أتتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار »
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم ﴾ أي إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له : اتق الله وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير ﴾ [ الحج : ٧٢ ] ولهذا قال في هذه الآية :﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد ﴾ أي هي كافيته عقوبة في ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ﴾ لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ﴾، قال ابن عباس وجماعة : نزلت في ( صهيب الرومي ) وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا : ربح البيع، فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية، ويروى أن رسول الله ﷺ قال له :« ربح البيع صهيب » وروي عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي ﷺ قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلُّون عني؟ قالوا : نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال :« ربح صهيب ربح صهيب » مرتين. وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ [ التوبة : ١١١ ]، ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس فرد عليهم عمر بن الخطاب وابو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد ﴾.
ومن المفسرين من يجعل قوله تعالى ﴿ كَآفَّةً ﴾ حالاً من الداخلين، أي ادخلوا الإسلام كلكم، والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرة جداً ما استطاعوا منها، كما قال عكرمة عن ابن عباس :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً ﴾ يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أُمور التوراة والشرائع التي أُنزلت فيهم، فقال الله :﴿ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً ﴾ يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد ﷺ ولا تدعوا منها شيئاً وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ أي اعملوا بالطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٩ ]، و ﴿ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير ﴾ [ فاطر : ٦ ]، ولهذا قال :﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ وقوله :﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات ﴾ أي عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله ﴿ عَزِيزٌ ﴾ أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أحكامه ونقضه وإبرامه، ولهذا قال أبو العالية وقتادة : عزيز في نقمته، حكيم في أمره. وقال محمد بن إسحاق : العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه : إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات، تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحداً واحداً من آدم فمن بعده، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد ﷺ فإذا جاءوا إليه قال :« أنا لها، أنا لها » فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشّق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة، وينزل حملة العرش والكروبيون. قال : وينزل الجبار عزّ وجلّ في ظلل من الغمام والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه سبحانه، أبداً أبداً.
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين، الذين رضوا بها واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أُمروا بها، مما يBهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها طاعة ربهم، وبذلوه ابتغاء وجه الله، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين؛ ولهذا قال تعالى :﴿ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث :« ابن آدم أَنفقْ أُنفقْ عليك »، وقال النبي ﷺ :« أَنفقْ بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً »، وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [ سبأ : ٣٩ ]. وفي الصحيح :« أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً » وفي الصحيح :« يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس »، وفي مسند الإمام أحمد : عن النبي ﷺ أنه قال :« الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له ».
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله :﴿ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ ﴾ فاختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ﷺ ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود : كان يهودياً، وقالت النصارى : كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلها وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك.
وقوله تعالى :﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي بعلمه بهم وبما هداهم له قاله ابن جرير ﴿ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ أي من خلقه ﴿ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي وله الحكمة والحجة البالغة، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يصلي يقول :« اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » وفي الدعاء المأثور :« اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا، فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً ».
وقال تعالى :﴿ الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين ﴾ [ العنكبوت : ١-٣ ] وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا * هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ [ الأحزاب : ١٠-١١ ]. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال : نعم، قال : فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال : سجالاً يدال علينا وندال عليه، قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.
وقوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ﴾ أي سنتهم كما قال تعالى :﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ومضى مَثَلُ الأولين ﴾ [ الزخرف : ٨ ]، وقوله :﴿ وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ﴾ أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى :﴿ ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ ﴾، كما قال :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْرا ﴾ [ الشرح : ٥-٦ ]، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال :﴿ ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ ﴾.
وقال العوفي عن ابن عباس :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله ﷺ وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال : ففتح الله على نبيّه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله ﷺ القتال في شهر حرام، فقال الله تعالى :﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله ﴾ من القتال فيه، وأن محمداً ﷺ بعث سرية فلقوا ( عمرو بن الحضرمي ) وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب، وأن أصحاب محمد ﷺ كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيِّرونه بذلك، فقال الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ﴾ إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحابُ محمد ﷺ، والشرك أشد منه.
وقال ابن هشام في كتاب ( السيرة ) : وبعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش في رجب مقفلة من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي في هذا فامض حتى تنزل ( نخلة ) بين مكة والطائف ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.
قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال :« ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام » فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. فلما قال ذلك رسول الله ﷺ أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله ﷺ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل ﴾ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكُم منه وأنتم أهله ﴿ أَكْبَرُ عِندَ الله ﴾ من قتل من قتلتم منهم ﴿ والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل ﴾ أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ ﴾ أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين.
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة | وأعظم منه لو يرى الرشد راشد |
صدودكم عما يقول محمد | وكفر به والله راء وشاهد |
وإخراجكم من مسجد الله أهله | لئلا يرى لله في البيت ساجد |
ونشربها فتتركنا ملوكاً | وأُسْداً لا يُنَهنهنا اللقاء |
وقوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ﴾، روي أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله ﷺ فقالا : يا رسول الله : إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾، وعن ابن عباس :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ﴾ قال : ما يفضل عن أهلك، ﴿ قُلِ العفو ﴾ يعني الفضل، وعن طاووس : اليسير من كل شيء، وعن الربيع : أفضل مالك وأطيبه، والكل يرجع إلى الفضل، ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير عن أبي هريرة قال
وقال رسول الله ﷺ :» خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وأبدأ بمن تعول «، وفي الحديث أيضاً :» ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف «، ثم قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل : مبينة بآية الزكاة وهو أوجه.
وقوله تعالى :﴿ كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة ﴾ أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. وقال الحسن : هي والله لمن تفكر فيها، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء.
وقوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ ﴾ الآية. قال ابن عباس : لما نزلت ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ]، و ﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم وبشرابهم. وقالت عائشة رضي الله عنها : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي فقوله :﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ أي على حدة، ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ أي وأن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنهم أخوانكم في الدين ولهذا قال :﴿ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح ﴾ أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسّع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] بل جوّز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجاناً كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله وبه الثقة.
وعن ابن عمر أنه كره نكاح أهل الكتاب وتأول :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شِركاً أعظم من أن تقول : ربها عيسى، وقوله :﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ قال السدي :« نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها، ثم فزع فأتى رسول الله ﷺ فأخبره خبرها، فقال له :» ما هي «؟ قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال :» يا أبا عبد الله هذه مؤمنة «، فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها »، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمته، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ويُنْكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل الله :﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾، ﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾. وعن النبي ﷺ قال :« لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل » وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك » وعن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ ﴾ أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى :﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ أي لرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير من مشرك، وإن كان رئيساً سرياً، ﴿ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار ﴾ أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة، ﴿ والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ ﴾ أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه ﴿ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
وعن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت : كل شيء إلا الجماع، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن. وروي ابن جرير عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار ( قلت ) : ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف. قالت عائشة : كان رسول الله ﷺ يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن، وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي ﷺ فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه. وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة قالت : كان النبي ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله ﷺ :« ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال :» ما فوق الإزار « ولأبي داود عن معاذ بن جبل قال :» سألت رسول الله ﷺ عما يحل لي من أمرأتي وهي حائض قال :« ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل » «.
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم، ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عزّ وجلّ، الذي أجمع العلماء على تحريمه، وهو المباشرة في الفرج، ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر الله ويتوب إليه، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان، ( أحدهما ) : نعم، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض، يتصدق بدينار أو نصف دينار.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾ فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الإغتسال، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله :﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾، وليس له في ذلك مستند لأن هذا أمر بعد الحظر، وقد اتفق العلماء على ان المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم. إن تعذر ذلك عليها بشرطه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض هو عشرة ايام عنده إنها تحل بمجرد الانقطاع، ولا تفتقر إلى غسل والله أعلم. وقال ابن عباس :﴿ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ أي من الدم ﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾ أي بالماء، وكذا قال مجاهد وعكرمة.
وقوله تعالى :﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾ قال ابن عباس : في الفرج ولا تَعَدُّوه إلى غيره، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة :﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾ أي أن تعتزلوهن، وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي قريباً إن شاء الله، وقال الضحاك :﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾ يعني طاهرات غير حيّض، ولهذا قال :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين ﴾ أي من الذنب وإن تكرر غشيان، ﴿ وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى.
وقوله تعالى ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ قال ابن عباس : الحرث موضع الولد، ﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث.
قال الإمام أحمد : عن عبد الله بن سابط قال : دخلت على ( حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ) فقلت : إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت : فلا تستحي يا ابن أخي، قال : عن إتيان النساء في أدبارهن، قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يُحْبُون النساء وكانت اليهود تقول : إنه من أحبى امرأته كان ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار، فأَحْبَوْهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله ﷺ، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله ﷺ، فلما جاء رسول الله ﷺ استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله ﷺ فخرجت فسألته أم سلمة فقال : ادعي « الأنصارية » فدعتها، فتلا عليها هذه الآية :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ « صماماً واحداً ». وعن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله هلكت! قال :« ما الذي أهلكك؟ » قال : حولت رحلي البارحة، قال فلم يرد عليه شيئاً قال : فأوحى الله إلى رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ :« أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ».
وعن نافع قال : قرأت ذات يوم ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ فقال ابن عمر : أتدري فيما نزلت؟ قالت : لا، قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وهذا الحديث محمول - على ما تقدم - وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها لما روى كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ فقال : يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت : لا، قال إنا كنا معشر قريش نحبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد، فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾، وهذا إسناد صحيح وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر، وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله، وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة، بالزجر عن فعله وتعاطيه، فقال رسول الله ﷺ :
وقال أبو بكر النيسابوري بسنده عن إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال : ما أنتم إلى قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدوا الفرج، قلت : يا أبا عبد الله إنهم يقولون إنك تقول ذلك، قال : يكذبون عليَّ يكذبون عليَّ.
وقوله تعالى :﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال :﴿ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ ﴾ أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها ﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾ أي المطيعين لله فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم، وقال ابن جرير عن ابن عباس ﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ قال : تقول باسم الله التسمية عند الجماع، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً ».
وقوله تعالى :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾ أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله » فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ولهذا قال تعالى :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ الآية وفي الآية الأخرى :﴿ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان ﴾ [ المائدة : ٨٩ ]. عن عروة عن عائشة في قوله :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾ قالت : هم القوم يتدارأون في الأمر فيقول هذا : لا والله، وبلى والله، وكلا والله، يتدارأون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم. عن عروة قال : كانت عائشة تقول : إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل : لا الله، وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله.
وقال أبو داود ( باب اليمين في الغضب ) : عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك، كفِّر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ عزّ وجلّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك » وقوله :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب. قال مجاهد وغيره : وهي كقوله تعالى :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] الآية، ﴿ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ أي غفور لعباده ﴿ حَلِيمٌ ﴾ عليهم.
﴿ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾، أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق، ولهذا قال :﴿ فَإِنْ فَآءُو ﴾ أي رجعوا إلى ما كانوا عليه - وهو كناية عن الجماع - قاله ابن عباس ﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين. وقوله :﴿ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فيه دلالة لأحد قولي العلماء وهو القديم عن الشافعي، أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ويعتضد بما تقدم في الحديث :« من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فتركُها كفارتُها » كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي : أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف، كما تقدم أيضاً في الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق ﴾ فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقةٌ وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وابن عباس، ثم قيل : إنها تطلق الأربعة أشهر طلقة رجعية قال سعيد بن المسيب، وقيل : إنها تطلق طلقة بائنة روي عن علي وابن مسعود وإليه ذهب أو حنيفة.
فكل من قال إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء إنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها وهو قول الشافعي، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب : إما بهذا، وإما بهذا، ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق، وإما أن يفيء، وقال الشافعي رحمه الله بسنده إلى سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي ﷺ كلهم يوقف المولي.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه | وأرقني أن لا خليل ألاعبه |
فوالله لولا الله أني أراقبه | لحرك من هذا السرير جوانبه |
وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ولأن هذا أمر جلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء، حكي هذا القول عن بعض أهل الظاهر. وروي عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طلقت على عهد رسول الله ﷺ ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عزّ وجلّ حين طلِّقت ( أسماءُ ) العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين، ( أحدهما ) : أن المراد بها ( الأطهار ) وقال مالك في الموطأ عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت : صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه :﴿ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾، فقالت عائشة : صدقتم وتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار. وعن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا عليه بقوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] أي في الأطهار، ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسباً، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها، ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة، واستشهد أبو عبيدة وغيره على ذلك بقول الأعشى :
مورثة مالاً وفي الأصل رفعة | لما ضاع فيها من قروء نسائكا |
وقال ابن جرير : أصل القرء في كلام العرب الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركاً بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض الأصوليين والله أعلم، وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت، وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض قرءاً، وتسمي الطهر قرءاً، وتسمي الطهر والحيض جميعاً قرءاً، وقال ابن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء أن القرء يراد به الحيض، ويراد به الطهر، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ﴾ أي من حبل أو حيض، قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقوله :﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر ﴾ تهديد لهن على خلاف الحق، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان.
وقوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً ﴾ أي زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات، فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية، فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات، صار للناس مطلقة بائن وغير بائن.
وقوله تعالى :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف ﴾ أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت عن جابر أن رسول الله ﷺ قال في خطبته في حجة الوداع :« فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف »، وفي حديث عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا؟ قال :« أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت » وقال ابن عباس : إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف ﴾، وقوله :﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ أي في الفضيلة في الخلق والخلق، والمنزلة وطاعة الأمر، والإنفاق والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :﴿ الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [ النساء : ٣٤ ].
وقوله تعالى :﴿ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره.
وعن ( هشام بن عروة ) عن أبيه أن رجلاً قال لامرأته : لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً، قالت : وكيف ذلك؟ قال : أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾.
وعن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس قال :« والله لأتركنك لا أيِّماً ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مراراً فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ فوقَّت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره، وقوله :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تُضارَّ بها. وعن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك، أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً، وعن أنس ابن مالك قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله : ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ [ النساء : ١٩ ] فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها فقد قال تعالى :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ [ النساء : ٤ ] وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ ﴾ الآية، فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال رسول الله ﷺ :
قال البخاري : عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي ﷺ فقالت : يا رسول الله : ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ :« » أتردين عليه حديقته «؟ قالت : نعم، قال رسول الله ﷺ :» أقبل الحديقة وطلقها تطليقة «، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرقه عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت : لا أطيقه يعني بغضاً. وفي رواية عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي ﷺ فقالت : والله ما أعتب على ( ثابت بن قيس ) في دين ولا خلق، ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً، فقال لها النبي ﷺ :
وأول خلع كان في الإسلام في أخت ( عبد الله بن أُبي ) أنها أتت رسول الله ﷺ فقالت :« يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال زوجها : يارسول الله، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليَّ حديقتي، قال :» ماذا تقولين «؟ قالت : نعم وإن شاء زدته، قال : ففرق بينهما ».
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ ﴾. وعن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت؟ فقالت : ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني، فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها وقال البخاري : وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها لحديث الربيع بنت معوذ قالت : كان لي زوج يُقلُّ عليَّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني، قالت : فكانت مني زلة يوماً فقلت : أختلع منك بكل شيء أملكه، قال : نعم، قالت : ففعلت فخاصم عمي ( معاذ بن عفراء ) إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت : ما دون عقاص الرأس. ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد، وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره ابن جرير.
وقال أصحاب أبي حنيفة : إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً فإن أخذ جاز في القضاء، وقال الإمام أحمد : لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء، وقال معمر : كان علي يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها.
فصل
قال الشافعي : اختلف أصحابنا في الخلع، فعن عكرمة قال : كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، وروي عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال : رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال : نعم ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء، ثم قرأ :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان وابن عمر وبه يقول أحمد وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة، والقول الثاني في الخلع إنه ( طلاق بائن ) إلا أن ينوي أكثر من ذلك وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخلع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس بشيء بالكلية.
مسألة
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء، وقال سفيان الثوري : إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها؟ وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود الظاهري، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة، وحكى ابن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود.
مسألة
وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء. ( أحدها ) : ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل. ( والثاني ) : قال مالك : إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر : وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي الله عنه. ( والثالث ) أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح، فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، لحديث ابن عمر عن النبي ﷺ « في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ قال :» لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها « عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ » سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله ﷺ :« لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته » قال مسلم في صحيحه عن عائشه أن رسول الله ﷺ « سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلاً آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول قال :» لا حتى يذوق عسيلتها « وعن عائشة » أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي ﷺ فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال :« لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » «.
وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت :» دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي ﷺ فقالت : إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها - وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له - فقال : يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول بالله ﷺ ؟ فما زاد رسول الله ﷺ عن التبسم فقال رسول الله ﷺ :« كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » «.
فصل
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، فلو وطئها وهي مُحْرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء، أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف، لم تحل للأول بهذا الوطء، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو ( المحلل ) الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :« لعن رسول الله ﷺ : الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله ».
الحديث الثاني : عن علي رضي الله عنه قال :« لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له، وكان ينهى عن النوح ».
الحديث الثالث : عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« لعن الله المحلل والمحلل له »
الحديث الرابع : عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« » ألا أخبركم بالتيس المستعار «، قالوا : بلى يا رسول الله، قال :» هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له « ».
الحديث الخامس : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله ﷺ عن نكاح المحلل قال :« لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عسيلتها ».
الحديث السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :« لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له ».
الحديث السابع : عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله ﷺ.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً ﴾، قال مسروق : هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة، وقال الحسن وقتادة : هو الرجل يطلق ويقول : كنت لاعباً، أو يعتق أو ينكح ويقول : كنت لاعباً، فأنزل الله :﴿ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً ﴾ وعن ابن عباس قال : طلق رجل امرأته وهو يلعب ولا يريد الطلاق، فأنزل الله :﴿ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً ﴾ فألزمه رسول الله ﷺ الطلاق. وقال رسول الله ﷺ :« ثلاث جدهنَّ جد، وهزلهن جد : النكاح، والطلاق، والرجعة ».
وقوله تعالى :﴿ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ أي في رسالة الرسول بالهدى والبينات إليكم ﴿ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة ﴾ أي السنّة ﴿ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم ﴿ واتقوا الله ﴾ أي فيما تأتون وفيما تذرون ﴿ واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في ( معقل بن يسار المزني ) وأُخته. روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقال له : يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾، إلى قوله :﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك.
وقوله تعالى :﴿ ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ﴾ أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويتعظ به وينفعل له ﴿ مَن كَانَ مِنكُمْ ﴾ أيها الناس ﴿ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ﴾ أي يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء ﴿ ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ أي اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحَميَّة في ذلك ﴿ أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ لقلوبكم ﴿ والله يَعْلَمُ ﴾ أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.
وقال الطيالسي عن جابر قال : قال رسول الله ﷺ :« لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام »، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي ﴾ [ لقمان : ١٤ ] وقال :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن عليّ وابن عباس وابن مسعود وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر. وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا : لا رضاع بعد فصال، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم، ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك والله أعلم.
وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء والليث بن سعد، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث ( سالم مولى أبي حذيفة ) حيث أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي ﷺ ورأين ذلك من الخصائص، وهو قول الجمهور، وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« انظرن من إخوانكُنَّ! فإنما الرضاعة من المجاعة ». وقوله تعالى :﴿ وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف ﴾ أي وعلى والد الطفل، نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾
وقوله تعالى :﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال :﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضراراً بها قاله مجاهد وقتادة.
وقوله تعالى :﴿ وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك ﴾ قيل : في عدم الضرار لقريبه، قاله مجاهد والضحاك، وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الانفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف، ويرجح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً :« من ملك ذا رحم محرم عتق عليه » وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ أي فإن اتفق والد الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاوراً في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق :﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى ﴾ [ الآية : ٦ ].
وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف ﴾ أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد، إما لعذر منها أو لعذر منه، فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف، وقوله :﴿ واتقوا الله ﴾ أي في جميع أحوالكم ﴿ واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ٤ ]، وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين : من الوضع، أو اربعة أشهر وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنّة في حديث ( سبيعة الأسلمية ) المخرج في الصحيحين من غير وجه، أنها توفي عنها زوجها ( سعد بن خولة ) وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها ( أبو السنابل بن بعكك ) فقال لها : مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله ﷺ فسألته عن ذلك فأفتاني بإني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة، يعني لما احتج عليه به، قال : ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة، وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة على قول الجمهور، لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك في العدة، ومن العلماء من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجِبِليَّة، التي تستوي فيها الخليقة. وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشراً، احتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين :
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف ﴾ يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً »، وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة « أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال :» لا « كل ذلك يقول - لا - مرتين أو ثلاثاً، ثم قال :» إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة « قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات، ومن هاهنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] الآية كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره، والغرض من الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان : ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة، والأمة، والمسلمة، والكافرة، لعموم الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا حداد على الكافرة وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك، وحجة قائل هذه المقالة قوله ﷺ :» لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً «، قالوا : فجعله تعبداً، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الصغيرة بها لعدم التكليف، وألحق أبو حنيفة الأمة المسلمة لنقصها، ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي انقضت عدتهن ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، قال الزهري : أي على أوليائها ﴿ فِيمَا فَعَلْنَ ﴾ يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها، فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف. وقد روي عن مقاتل، وقال مجاهد :﴿ بالمعروف ﴾ النكاح الحلال الطيب، وهو قول الحسن والزهري، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [ القصص : ٦٩ ] وكقوله :﴿ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ]، ولهذا قال :﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ أي في أنفسكم فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال :﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ واختاره ابن جرير، وقال ابن عباس :﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ لا تقل لها : إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، ونحو هذا. وكذا روي عن سعيد بن جبير والضحاك، وعن مجاهد هو قول الرجل للمرأة : لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، فنهى الله عن ذلك وشدَّد فيه وأحل الخطبة والقول بالمعروف، وقال ابن زيد :﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ هو أن يتزوجها في العدة سراً فإذا حلت أظهر ذلك، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ولهذا قال :﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾، قال ابن عباس : يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله : إني فيك لراغب ونحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ﴾ يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس :﴿ حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ﴾ يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة، واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها فإنه يفرق بينهما وهل تحرم عليه أبداً؟ على قولين : الجمهور على أنها لا تحرم عليه بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد، ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أجل الله، عوقب بنقيض قصده فحرمت عليه من التأبيد كالقاتل يحرم الميراث.
وقوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه ﴾ توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤَنِّسْهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال :﴿ واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾.
( أحدها ) : أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ [ البقرة : ٢٤١ ]، ولقوله تعالى :﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٢٨ ] وقد كن مفروضاً لهن ومدخولاً بهن، وهذا قول سعيد ابن جبير وهو أحد قولي الشافعي.
( والقول الثاني ) : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ]، قال سعيد بن المسيب : نسخت الآية التي في الأحزاب، الآية التي في البقرة، وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسيد أنهما قالا : تزوج رسول الله ﷺ ( أُميمة بنت شرحبيل )، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين.
( القول الثالث ) : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضاً لها عن المتعة، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها وهذا قول ابن عمر ومجاهد، ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة، ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب، ولهذا قال تعالى :﴿ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين ﴾. وقال تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ [ البقرة : ٢٤١ ] ومن العلماء من يقول إنها مستحبة مطلقاً.
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ أي النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شيء، قال ابن عباس في قوله ﴿ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ : إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح ﴾ المراد به ( الزوج ) عن عيسى بن عاصم قال : سمعت شريحاً يقول : سألني علي بن أبي طالب عن ﴿ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح ﴾ فقلت له : هو ولي المرأة، فقال علي : لا، بل هو الزوج، وهذا هو الجديد من قول الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه واختاره ابن جرير، ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوجُ فإن بيده عقدة وإبرامها، ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئاً من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق. الوجه الثاني : أنه أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه، وروي عن الحسن وعطاء وطاووس : أنه ( الولي ) وهذا مذهب مالك وقول الشافعي في القديم، ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها، وقال عكرمة : أذن الله في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها.
وقوله تعالى :﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾ خوطب به الرجال والنساء، قال ابن عباس : أقربهما للتقوى الذي يعفو، ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ﴾ المعروف يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ قال :« ليأتين على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل وقد قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ﴾ » شرار يبايعون كل مضطر «، وقد نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر وعن بيع الغرر فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يخرمه ﴿ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم وسيجزى كل عامل بعمله.
قال الإمام أحمد بسنده عن علي قال : قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب :» شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً « ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعِشاء ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها قوله ﷺ في الحديث الصحيح :» من فاتته صلاة العصر فكأنهما وُتِرَ أهله وماله « وفي الصحيح أيضاً عن النبي ﷺ قال :» بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله « وعن أبي يونس مولى عائشة قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً قالت : إذا بلغت هذه الآية ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ فآذني، فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين ﴾ قالت : سمعتها من رسول الله ﷺ وقيل : إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب.
وقيل : بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس. وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها، وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعيَّن المصير إليها.
وقوله تعالى :﴿ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ ﴾ أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، ولهذا لما امتنع النبي ﷺ من الرد على ( ابن مسعود ) حين سلم عليه وهو في الصلاة قال :
وقوله تعالى :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال والتحام الحرب فقال :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ أي فصلُّوا على أي حال كان رجالاً أو ركباناً، يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما قال مالك عن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال نافع : لا أرى أبن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ، وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم، وقد روي عن ابن عباس قال : في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه. وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، واختار هذا القول ابن جرير، وقال البخاري :( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو )، وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرىء لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلُّوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا، وقال أَنس ابن مالك : حضرت مناهضة ( حصن تستر ) عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا، قال أنَس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول، والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله ﴾ أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها ﴿ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان، وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف :﴿ فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]، وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى :﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة ﴾ [ الآية : ١٠٢ ] إن شاء الله تعالى.
وروي عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ]، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال :﴿ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم ﴾ [ النساء : ١٢ ]، فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
وقال عطاء، قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى :﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾، قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ ﴾، قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها، ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشر وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يُمكِّن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك ولهذا قال تعالى :﴿ وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ ﴾ أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله :﴿ يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ ﴾ [ النساء : ١١ ] الآية. ﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله :﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾، وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإمام ابن تيمية، ورده آخرون منهم الشيخ ابن عبد البر، وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلِّم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت، فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه الله.
وقوله تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين ﴾، لما نزل قوله تعالى :﴿ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] قال رجل : إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل فأنزل الله هذه الآية :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ وقد استدل بهذه الأية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة أو مفروضاً لها أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولاً بها، وهو قول عن الشافعي رحمه الله، واختاره ابن جرير ومن لم يوجبها مطلقاً يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ].
وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾ أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه، بيَّنه ووضحه وفسَّره، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي تفهمون وتتدبرون.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، وقوله ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلاً ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى :﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٨ ]، وقال تعالى :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [ النساء : ٧٨ ]، وروينا عن أمير الجيوش وسيف الله المسلول على أعدائه خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال وهو في سياق الموت :( لقد شهدت كذا وكذا موقفاً وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء ) يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
وقوله تعالى :﴿ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ ﴾، عن ابن عباس قال : عصاه ورضاض الألواح، وكذا قال قتادة والسدي، وقال عطية بن سعد : عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح، وقال عبد الرزاق : سألت الثوري عن قوله :﴿ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ ﴾ فقال : منهم من يقول قفيز من منّ ورضاض الألواح، ومنهم من يقول العصا والنعلان.
وقوله تعالى :﴿ تَحْمِلُهُ الملائكة ﴾، قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون وقال السدي : أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت ﴿ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي بالله واليوم الآخر.
قال الله تعالى :﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله ﴾ أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم ﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَآتَاهُ الله الملك ﴾ الذي كان بيد طالوت، ﴿ والحكمة ﴾ أي النبوة بعد شمويل، ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ﴾ أي مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به ﷺ، ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ﴾، أي لولا أن الله يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً ﴾ [ الحج : ٤٠ ] الآية. وعن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ :« إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت جيرانه البلاء »، ثم قرأ ابن عمر :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ﴾. وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ﷺ :« الأبدال في أمتي ثلاثون : بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصرون »، قال قتادة : إني لأرجوا أن يكون الحسن منهم.
وقوله تعالى :﴿ ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين ﴾ أي ذو منّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين ﴾ أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق، الذي يعلمه علماء بني إسرائيل ﴿ وَإِنَّكَ ﴾ يا محمد ﴿ لَمِنَ المرسلين ﴾، وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
وقوله تعالى :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات ﴾ أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد الله ورسوله إليهم ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس ﴾ يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام، ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ﴾ أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره، ولهذا قال :﴿ ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ والكافرون هُمُ الظالمون ﴾ مبتدأ محصور في خبره، أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافراً. وقد روي عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال :﴿ والكافرون هُمُ الظالمون ﴾ ولم يقل والظالمون هم الكافرون.
( حديث آخر ) : عن أنس أن رسول الله ﷺ سأل رجلاً من صحابته فقال :« » أي فلان هل تزوجت؟ « قال : لا، وليس عندي ما أتزوج به قال :» أوليس معك : قل هو الله أحد؟ « قال : بلى، قال :» ربع القرآن « قال :» أليس معك : قل أيها الكافرون «؟ قال : بلى، قال :» ربع القرآن «، قال :» أليس معك : إذا زلزلت «؟ قال : بلى، قال :» ربع القرآن «، قال :» أليس معك : إذا جاء نصر الله «؟ قال : بلى، قال :» ربع القرآن « قال :» أليس معك آية الكرسي : الله لا إله إلى هو «؟ قال : بلى، قال :» ربع القرآن « ».
حديث آخر : عن أبي ذر رضي الله عنه قال :« أتيت النبي ﷺ وهو في المسجد فجلست فقال :» يا أبا ذر هل صلّيت؟ « قلت : لا، قال :» قم فصل «، قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال :» يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن « قال، قلت : يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال :» نعم «، قال : قلت : يا رسول الله الصلاة! قال :» خير موضوع من شاء أقلَّ ومن شاء أكثر « قال، قلت : يا رسول الله فالصوم؟ قال :» فرض مجزي وعند الله مزيد «، قلت : يا رسول الله فالصدقة قال :» أضعاف مضاعفة «، قلت : يا رسول الله فأيها أفضل قال :» جهد من مقل، أو سرٌّ إلى فقير «، قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول، قال :» آدم «، قلت : يا رسول الله ونبي كان، قال :» نعم نبي مكلم «، قلت : يا رسول الله كم المرسلون، قال :» ثلثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً « وقال مرة :» وخمسة عشر «، قلت : يا رسول الله أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال :» آية الكرسي :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ «.
فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت : وما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ﷺ :» ما فعل أسيرك البارحة «؟ قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال :» ما هي «؟ قال قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾، وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي ﷺ :» أما إنه صدقك وهو كذوب. تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ « قلت : لا قال :» ذاك شيطان « ».
حديث آخر : عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« سورة البقرة فيها آيةٌ سيدةُ آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي » وقد رواه الترمذي ولفظه :« لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي ».
حديث آخر : في اشتماله على اسم الله الأعظم، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت :« سمعت رسول الله ﷺ يقول في هاتين الآيتين :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ و ﴿ الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ [ آل عمران : ١-٢ ] :» إن فيهما اسم الله الأعظم « ».
حديث آخر : عن أبي أمامة يرفعه قال :« اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه »، وقال هشام أما البقرة ف ﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ وفي آل عمران ﴿ الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ [ آل عمران : ١-٢ ] وفي طه ﴿ وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم ﴾ [ طه : ١١١ ].
حديث آخر : عن أبي أمامة قال قال رسول الله ﷺ :« من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ».
حديث آخر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« من قرا حم المؤمن إلى ﴿ إِلَيْهِ المصير ﴾ وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظ بهما حتى يصبح ».
وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها.
وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة
فقوله تعالى :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، ﴿ الحي القيوم ﴾ أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره، وكان عمر يقرأ ﴿ القيَّام ﴾ فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، كقوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ﴾ [ الروم : ٢٥ ] وقوله :﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم. فقوله :﴿ لاَ تَأْخُذُهُ ﴾ أي لا تغلبه ﴿ سِنَةٌ ﴾ وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال :﴿ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ لأنه أقوى من السِّنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال :« إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يُرْفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه »
وقوله تعالى :﴿ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً ﴾ [ مريم : ٩٣ ]. وقوله تعالى :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾، كقوله :﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى ﴾ [ النجم : ٢٦ ]، وكقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ]، وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزّ وجلّ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة :« آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع، واشفَع تشفع - قال - فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ».
وقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٤ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عزّ وجلّ وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ].
وقوله تعالى :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض ﴾، عن ابن عباس قال : علمه، وقال آخرون : الكرسي موضع القدمين. عن ابن عباس قال : سئل النبي ﷺ عن قول الله عزّ وجلّ :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض ﴾ قال :« كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ » وقال السدي : الكرسي تحت العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. قال رسول الله ﷺ :« ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس »
وعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي ﷺ عن الكرسي، فقال رسول الله ﷺ :« والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة »، وعن عمر رضي الله عنه قال : أتت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة. قال : فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال :« إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله »، وعن الحسن البصري، أنه كان يقول : الكرسي هو العرش، والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ أي لا يثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعّال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسالون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه. فقوله :﴿ وَهُوَ العلي العظيم ﴾، كقوله :﴿ الكبير المتعال ﴾ [ الرعد : ٩ ] وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمرارها كما جاءت من غير تكيف ولا تشبيه.
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال، وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف ( دين الإسلام ) فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له، أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه. قال الله تعالى :﴿ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [ الفتح : ١٦ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣، التحريم : ٩ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ]. وفي الصحيح :« عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل »، يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ قال لرجل :« » أسلم «، قال : إني أجدني كارهاً، قال :» وإن كنت كارهاً «، فإنه ثلاثي صحيح، لكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي ﷺ على الإسلام بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له أسلم وإن كنت كارهاً، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص.
وقوله تعالى :﴿ فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا ﴾، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال :﴿ فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا ﴾ الآية، قال مجاهد : العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي : هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني ﴿ لاَ إله إِلاَّ الله ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]. وعن أنس بن مالك : العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ابن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.
وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له : إن القوم لما دخلت المسجد قالوا كذا وكذا، قال سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ؟ إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله ﷺ فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي : اصعد عليه، فقلت لا أستطيع، فجاءني منصف - قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي، فقال : اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال : استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله ﷺ فقصصتها عليه فقال :« أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي ( العروة الوثقى ) أنت على الإسلام حتى تموت »، قال : وهو عبد الله بن سلام.
ومعنى قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ أي بقلبك يا محمد ﴿ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ أي وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ]، وما حمله على هذا الطغيان والكفر والغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه، قال :﴿ أَنْ آتَاهُ الله الملك ﴾ وكان طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم :﴿ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار، ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له.
فعند ذلك قال المحاج - وهو النمرود - :﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾، قال قتادة : وذلك أني أوتي بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة، والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ] ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة :﴿ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب ﴾ أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدوا كل يوم من المشرق فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت، أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة، قال الله تعالى :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة، وروى زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه، وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء فأتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت طعاماً، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال : أنى لكم هذا؟ قالت : من الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى :﴿ على عُرُوشِهَا ﴾ أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال :﴿ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ ؟، وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كنت عليه. قال الله تعالى :﴿ فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾. قال : وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنوا إسرائيل إليها، فلما بعثه الله بعد موته، كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه، كيف يحيي بدنه فلما استقل سوياً ﴿ قَالَ ﴾ الله له، أي بواسطة الملك :﴿ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾. قال : وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال :﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾، وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص :﴿ وانظر إلى حِمَارِكَ ﴾ أي كيف يحييه الله عزّ وجلّ وأنت تنظر، ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ أي دليلاً على المعاد ﴿ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾ أي نرفعها فيركب بعضها على بعض، وقرىء ﴿ ننشرها ﴾ أي نحييها قاله مجاهد، ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ﴾.
قال السدي : تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً، وبعث الله ملكاً فنفخ في منخري الحمار فنهق بإذن الله عزّ وجلّ، وذلك كله بمرأى من العزير. فعند ذلك لما تبيّن له هذا كله :﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي أنا عالم بهذا، وقد رأيته عياناً فأنا أعلم أهل زماني بذلك، وقرأ آخرون :« قال إعْلَمْ » على أنه أمر له بالعلم.
وقوله تعالى :﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾، اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال : أخذ وزاً ورألاً وهو ( فرخ النعام ) وديكاً وطاووساً، وقال مجاهد : كانت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً، وقوله :﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ أي وقطعهن. وعن ابن عباس ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ أوثقهن فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءاً، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم أمره الله عزّ وجلّ أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عزّ وجلّ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين، سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها.
ولهذا قال :﴿ واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع من شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
كما روي الإمام أحمد عن عياض بن غطيف قال : دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه، وامرأته قاعدة عن رأسه قلنا : كيف بات أبو عبيدة؟ قالت : والله لقد بات بأجر، قال أبو عبيدة : ما بت بأجر، وكان مقبلاً بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه، وقال ألا تسألوني عما قلت! قالوا : ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة مالم يخرقها، ومن ابتلاه الله عزّ وجلّ ببلاء في جسده فهو له حِطَّة » أي كفارة لذنوبه.
حديث آخر : عن ابن مسعود أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول الله ﷺ :« لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة ». حديث آخر : عن ابن عبد الله ابن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره، وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ».
حديث آخر : عن ابن عمر « لما نزلت هذه الآية ﴿ مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ قال النبي ﷺ :» رب زد أمتي «، قال : فأنزل الله :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ]، قال :» رب زد أمتي «، فقال فأنزل الله :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ] » وقوله :﴿ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ أي بحسب إخلاصه في عمله ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق سبحانه وبحمده.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ أَذًى ﴾ أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال :﴿ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي على ما خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها، لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم، ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي، ﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾، ﴿ والله غَنِيٌّ ﴾ عن خلقه، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي يحلم ويغفر، ويصفح ويتجاوز عنهم، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب » وعن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال :« لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر » ولهذا قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ﴾، فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذىن ثم قال تعالى :﴿ كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس ﴾، أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن الأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ولهذا قال :﴿ وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ﴾.
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه، فقال :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾ وهو الصخر الأملس ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾ وهو المطر الشديد، ﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ أي فترك الوابلُ ذلك الصفوانَ صلداً : أي أملس يابساً، أي لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال :﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴾ أي كمثل بستان بربوة، وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار.
وقوله تعالى :﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ وهو المطر الشديد كما تقدم، ﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ﴾ أي ثمرتها، ﴿ ضِعْفَيْنِ ﴾ أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان، ﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾، قال الضحاك : هو الرذاذ وهو اللين من المطر، أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأياً ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً بل يتقبله الله ويكثره وينمِّيه، كل عامل بحسبه، ولهذا قال :﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ضرب الله مثلاً حسناً - وكل أمثاله حسن - قال :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات ﴾ يقول : صنعه في شيبته، ﴿ وَأَصَابَهُ الكبر ﴾ وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رُدَّ إلى الله عزّ وجلَّ ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وكان رسول الله ﷺ يقول في دعائه :« اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني وانقضاء عمري »، ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها المراد منها، كما قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ].
قال ابن جرير رحمه الله : عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قول الله :﴿ ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ الآية، قال نزلت في الأنصار؛ كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله ﷺ فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز، فانزل الله فيمن فعل ذلك :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾، وقال ابن أبي حاتم : عن البراء رضي الله عنه ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ قال : نزلت فينا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر، فيأكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذ إلا على إغماض وحياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
وقوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذلك إلا أن يساوي الغني الفقير، كقوله :﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ] وهو غني عن جميع خلقه، وجميعُ خلقه فقراء إليه. وهو واسع الفضل لا ينفذ ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم؛ جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة، من يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد : أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى :﴿ الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾، قال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ :» إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك بإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان « ثم قرأ :﴿ الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ﴾ الآية. ومعنى قوله تعالى :﴿ الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر ﴾ أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، ﴿ وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء ﴾ : أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاّق، قال تعالى :﴿ والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ ﴾ أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء، ﴿ وَفَضْلاً ﴾ أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ﴾، قال ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخرة وحلاله وحرامه وأمثاله.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل، يعي به الخطاب ومعنى الكلام.
وقوله تعالى :﴿ إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله تعالى :﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية. وقال رسول الله ﷺ :« الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة » والأصل : أن الإسرار أفضل لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ».
وفي الحديث المروي :« صدقة السر تطفىء غضب الرب عزّ وجلّ »، وقال ابن أبي حاتم في قوله :﴿ إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ قال :« أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ :» ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؟ « قال : خلَّفتُ لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ :» ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ « فقال : عدة الله وعدة رسوله، فبكى عمر رضي الله عنه وقال :( بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقاً ) » ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة. ولكن روى ابن جرير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً.
وقوله تعالى :﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سراً يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات، وقوله :﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ﴾ كقوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ [ فصلت : ٤٦، الجاثية : ١٥ ] ونظائرها في القرآن كثيرة، وقوله :﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله ﴾، قال الحسن البصري : نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله. وقال عطاء الخراساني : يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان من عمله، وهذا معنى حسن، وحاصله : أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب : أَلبِرّ أو فاجر، أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾، والحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون : تُصُدِّق على زانية، فقال : اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون : تُصدق على غني، قال : اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على سارق فقال : اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأُتي فقيل له : أما صدقتك فقد قُبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته ».
وقوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم، و ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض ﴾ يعني سفراً للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الارض : هو السفر. قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠١ ]، وقال تعالى :﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف ﴾ أي الجاهل بأمرهم وحالهم، يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :
وقوله تعالى :﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ : أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ]، وقال :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ]. وفي الحديث :« اتقو فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله »، ثم قرأ :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٥ ].
وقوله تعالى ﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ أي لا يلحون في المسألة، ويكلفون الناس مال لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة. قال رسول الله ﷺ :« ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف. اقرأوا إن شئتم : يعني قوله :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ » وقال الإمام أحمد عن رجل من مزينة، أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله ﷺ كما يسأله الناس، فانطلقت أسأله فوجدته قائماً يخطب، وهو يقول :« ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافاً »، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأل. وعن عبد الله بن مسعود قال :« قال رسول الله ﷺ :» من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه «. قالوا : يا رسول الله وما غناه؟ قال :» خمسون درهما أو حسابها من الذهب « » وقوله :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ ﴾ أي لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزى عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
وقوله تعالى :﴿ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهر، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً كما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله ﷺ قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع :« وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في في امرأتك » وعن النبي ﷺ أنه قال :« إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة » ؟. وقال ابن جبير عن أبيه : كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهماً ليلاً ودرهماً نهاراً، ودرهماً سراً ودرهماً علانية، فنزلت :﴿ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾. وقوله :﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ تقدم تفسيره.
وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا ﴾ أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع، لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا :﴿ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا ﴾ أي هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا. وقوله : تعالى :﴿ وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا ﴾ يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم يحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة، ولهذا قال :﴿ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وقد قال أبو داود، عن جابر قال : لما نزلت :﴿ الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ﴾ قال رسول الله ﷺ :« من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله »، وإنما حرمت ( المخابرة ) وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، و ( المزابنة ) وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، و ( المحاقلة ) وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٧٦ ].
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :( ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه : الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا )، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا، والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي روي عن عائشة، قالت :( لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله ﷺ على الناس ثم حرم التجارة في الخمر ) قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه :« لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها » وقوله ﷺ :« لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه » قالوا : وما يُشْهد عليه ويُكْتب. إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسداً، فالاعتبار بمعناه لا بصورته، لأن الأعمال بالنيات. وفي الصحيح :« إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »، وقد صنف الإمام العلاّمة أبو العباس ( ابن تيمية ) كتاباً في إبطال التحليل، تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى، فرحمه الله ورضي عنه.
وقوله تعالى :﴿ وَيُرْبِي الصدقات ﴾ قرىء بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو أي كثّره ونمّاه وقرىء ( يربي ) بالضم والتشديد من التربية. قال البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمنيه ثم يربّيها لصاحبها كما يربّي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل ». وقال رسول الله ﷺ :« إن الله عزّ وجلّ يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد » وتصديق ذلك في كتاب الله :﴿ يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات ﴾.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه، فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربوا في يد الله، أو قال : في كف الله، حتى تكون مثل أحد فتصدقوا »، وعن عائشة، أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله يربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد »، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه ».
وقوله تعالى :﴿ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ أي لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل. ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبراً عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القياة من التبعات آمنون، فقال :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ أي بأخذ الزيادة ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ أي بوضع رؤوس الأموال أيضاً بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه، خطب رسول الله ﷺ في حجة الوداع فقال :« ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله ».
وقوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ﴾ لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي، ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال :﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين.
فالحديث الأول عن أبي أمامة أسعد بن زرارة، قال قال رسول الله ﷺ :« من سرّه أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه » حديث آخر : عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبىء منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال : نعم هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه فقال : يا فلان اخرج فقد اخبرت أنك ها هنا، فخرج إليه فقال : ما يُغَيبك عني؟ فقال : إني معسر وليس عندي، قال : آلله إنك معسر؟ قال : نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة » حديث آخر : عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله ﷺ :« أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها - قالها ثلاث مرات - قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنتُ رجلاً أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال فيقول الله عزّ وجلّ : أنا أحق من ييسر، أدخل الجنة » ولفظ البخاري عن النبي ﷺ قال :« كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه » حديث آخر : عن عبد الله بن سهل بن حنيف أن سهلاً حدثه أن رسول الله ﷺ قال :« من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غازياً أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ».
حديث آخر : أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا ( أبا اليسر ) صاحب رسول الله ﷺ ومعه غلام له، معه ضَمامة ( مجموعة ) من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري، فقال له أبي : يا عم، إني أرى في وجهك سَعْفة من غضب، قال : أجل كان لي على فلان بن فلان الرامي مال، فأتيت أهله فسلمت فقلت أثَمَّ هو؟ قالوا : لا، فخرج علي ابن له جَفْر فقلت : أين ابوك؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقلت : اخرج إليَّ فقد علمت أين أنت، فخرج فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله ﷺ وكنت والله معسراً.
حديث آخر : عن ابن عباس قال : خرج رسول الله ﷺ إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا - وأومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض - :« من أنظر معسراً أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْن بربوة - ثلاثاً - ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً ».
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم وزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته فقال :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾. وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم، فقال سعيد بن جبير : آخر ما نزل من القرآن كله :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾، وعاش النبي بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وعن عبد الله بن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ وقال ابن جريج، قال ابن عباس : آخر آية نزلت :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ﴾ الآية. قال ابن جريج : يقولون إن النبي ﷺ عاش بعدها تسع ليال وبدىء يوم السبت ومات يوم الاثنين.
فقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه ﴾، هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبّه على هذا في آخر الآية حيث قال :﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا ﴾، وقال مجاهد عن ابن عباس في قوله :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه ﴾، قال : أنزلت في السلم إلى أجل معلوم، وقال قتادة عن ابن عباس : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه، ثم قرأ :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ رواه البخاري. وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي ﷺ المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال رسول الله ﷺ :« من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم »، وقوله :﴿ فاكتبوه ﴾ أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ :« إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب أن الدِّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلاً، لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس، والسنن أيضاً محفوظة عن رسول الله ﷺ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، كما ذهب إليه بعضهم. قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ومن ابتاع فليُشْهد، وقال قتادة : ذكر لنا أن ( أبا سليمان المرعشي ) كان رجلاً صحب كعباً فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا : وكيف يكون ذلك؟ قال : رجل باع بيعاً إلى أجل فلم يُشْهد ولم يكتب، فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه، وقال الحسن وابن جريج : كان ذلك واجباً ثم نسخ بقوله :« فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ » [ البقرة : ٢٨٣ ]. والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد.
قال الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ : أنه ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم؟ قال : كفى بالله شهيداً.
وقوله تعالى :﴿ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل ﴾ أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. وقوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ ﴾ أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علَّمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة، وليكتب كما جاء في الحديث :« إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق »، وفي الحديث الآخر :« من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار »، وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب، وقوله :﴿ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ ﴾، أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك، ﴿ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ أي لا يكتم منه شيئاً، ﴿ فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً ﴾ محجوراً عليه بتبذيره ونحوه ﴿ أَوْ ضَعِيفاً ﴾ أي صغيراً أو مجنوناً ﴿ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ﴾ إما لعيّ أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه ﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل ﴾.
وقوله تعالى :﴿ واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ أمر بالاستشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة، ﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان ﴾، وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :
وقوله تعالى :﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ﴾ فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود، وهذا مقيَّد حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط، وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً. وقوله :﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ﴾ أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾، قيل : معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة والربيع، وهذا كقوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ ﴾ ومن هاهنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية، قيل : هو مذهب الجمهور والمراد بقوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ للأداء لحقيقة قوله :﴿ الشهدآء ﴾ والشاهد حقيقة فيمن تحمل فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت، وإلا فهو فرض كفاية والله أعلم، وقال مجاهد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال :« ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي ياتي بشهادته قبل أن يُسْألها »، فأما الحديث الآخر في الصحيحين :« ألا أخبركم بشر الشهداء؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا »، وكذا قوله :« ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم »، وفي رواية :« ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون » فهؤلاء شهود الزور.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ﴾ هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً، فقال :﴿ وَلاَ تسأموا ﴾ أي لا تملوا أن تكبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله. وقوله :﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا ﴾ أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً، هو ﴿ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ أي أعدل، ﴿ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه كما هو الواقع غالباً، ﴿ وأدنى أَلاَّ ترتابوا ﴾ وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة.
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى :﴿ وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ يعني أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل، فأشهدوا على حقكم على كل حال، وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري « أن النبي ﷺ ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي ﷺ ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي ﷺ وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي ﷺ ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي ﷺ، فنادى الأعربي النبي ﷺ فقال : إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته، فقام النبي ﷺ حين سمع نداء الأعرابي قال : أوليس قد ابتعته منك؟ قال الأعرابي : لا والله ما بعتك، فقال النبي ﷺ :» بل قد ابتعته منك « فطفق الناس يلوذون بالنبي ﷺ والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيداً يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك إن النبي ﷺ لم يكن يقول إلا حقاً، حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي ﷺ ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي ﷺ على خزيمة فقال » بم تشهد «؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله ﷺ شهادة خزيمة بشهادة رجلين » ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ ابن مردويه والحاكم في مستدركه عن النبي ﷺ قال :« ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ، ورجل أقرض رجلا مالاً فلم يشهد ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ قيل : معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد فيكتب هذا خلاف ما يُمْلَى، ويشهد هذا بخلاف ما سمع، أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة، وقيل : معناه لا يُضِرُّ بهما.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ ﴾، روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها، وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا، وقوله :﴿ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ ﴾ يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن سمرة أن رسول الله ﷺ قال :« على اليد ما أخذت حتى تؤديه ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة ﴾ أي لا تخفوها وتغلُّوها ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك، ولهذا قال :﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ قال السُّدي : يعن فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى :﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ] وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] وهكذا قال هاهنا :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله ﷺ :﴿ للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فأتوا رسول الله ﷺ ثم جثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله ﷺ :« أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »، فلما أقرَّ بها القوم وذلَّت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل قوله :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] إلى آخره، ورواه مسلم عن أبي هريرة ولفظه : فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] قال : نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، قال : نعم ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، قال : نعم ﴿ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] قال : نعم.
طريق أخرى : قال ابن جرير عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية :﴿ للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ الآية، فقال : والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه، قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس، فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله بعدها :
طريق أخرى : عن سالم أن أباه قرأ :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ﴾ فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله ﷺ حين أنزلت فنسختها الآية التي بعدها :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :« إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل ».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« قال الله إذا همَّ عبيد بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً » وقال رسول الله ﷺ :« إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عزّ وجلّ » وقال مسلم عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ فيما يروي عن ربه تعالى قال :« إن الله كتب الحسنات والسيئات - ثم بيَّن ذلك - فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنهد سيئة واحدة » وروي عن أبي هريرة قال :« جاء ناس من أصحاب رسول الله ﷺ فسألوه فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال :» وقد وجدتموه؟ « قالوا : نعم، قال :» ذاك صريح الإيمان «. وسئل رسول الله عن الوسوسة، قال :» تلك صريح الإيمان «.
وروي ابن جرير عن مجاهد والضحّاك أنه قال : هي محكمة لم تنسخ، واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب، بالحديث الذي رواه قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال : يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
الحديث الأول : قال البخاري عن ابن مسعود، قال : قال رسول الله ﷺ :« من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ».
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي ».
الحديث الثالث : قال مسلم عن الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله قال :« لما أسري برسول الله ﷺ انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال :﴿ إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى ﴾ [ النجم : ١٦ ] قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله ﷺ ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات ».
الحديث الرابع : قال أحمد عن عقبة بن عامر الجهني، قال : قال رسول الله ﷺ :« اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش ».
الحديث الخامس : قال ابن مردويه عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ :« فضلنا على الناس بثلاث : أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ولا يعطاها أحد بعدي »، الحديث.
الحديث السادس : قال ابن مردويه عن الحارث عن علي قال : لا أرى أحداً عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز أعطيه نبيكم ﷺ من تحت العرش.
الحديث السابع : قال الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ قال :« إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان »، ثم قال : هذا حديث غريب.
الحديث الثامن : قال ابن مردويه عن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال :» إنهما من كنز الرحمن تحت العرش « وإذا قرأ :﴿ مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ ﴾ [ النساء : ١٢٣ ]، ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى ﴾ [ النجم : ٣٩-٤١ ] استرجع واستكان ».
الحديث التاسع : قال ابن مردويه عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله ﷺ :
الحديث العاشر : قد تقدم في فضائل الفاتحة عن ابن عباس قال :« بينا رسول الله ﷺ وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال فنزل منه ملك فأتى النبي ﷺ فقال له : ابشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلأ أوتيته » رواه مسلم والنسائي.
فقوله تعالى :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ إخبار عن النبي ﷺ بذلك. روى الحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية على النبي ﷺ :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ قال النبي ﷺ :« حق له أن يؤمن » ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقوله تعالى :﴿ والمؤمنون ﴾ عطف على الرسول، ثم أخبر عن الجميع، فقال :﴿ كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارُّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، وقوله :﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه، ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ سؤال للمغفرة والرحمة واللطف.
قال ابن جرير : لما نزلت على رسول الله ﷺ :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير ﴾ قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ إلى آخر الآية، وقوله :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ]، أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان، وقوله :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ أي من خير، ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ﴾ أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف.
وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به، وقد قال مكحول في قوله :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قال : العزبة والغلمة.
وقوله تعالى :﴿ واعف عَنَّا ﴾ أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا، ﴿ واغفر لَنَا ﴾ أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة، ﴿ وارحمنآ ﴾ أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره.
وقوله تعالى :﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا، وأنت المستعان وعليك التكلان، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك ﴿ فانصرنا عَلَى القوم الكافرين ﴾ أي الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم.
قال ابن جرير عن أبي إسحاق : إن معاذاً رضي الله عنه كان إذا فرغ من هذه السورة ﴿ فانصرنا عَلَى القوم الكافرين ﴾ قال : آمين.
سورة البقرة
سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.
ترتيبها المصحفي
2نوعها
مدنيةألفاظها
6140ترتيب نزولها
87العد المدني الأول
285العد المدني الأخير
285العد البصري
287العد الكوفي
286العد الشامي
285
* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).
* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:
عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).
* قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.
قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].
قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».
قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.
فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).
* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:
جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).
* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ اْلْمَشْرِقُ وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].
وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.
واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).
* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]، فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).
* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].
ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).
* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].
جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).
* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).
* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).
«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).
وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:
كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).
* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:
فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).
* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:
فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).
* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).
* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:
فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).
* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).
* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:
فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).
* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).
حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:
هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).
هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).
أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).
بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).
ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).
وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).
دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).
انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).
مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).
الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).
تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).
نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).
تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).
قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).
الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).
حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).
دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).
جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).