بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرة مدنيةروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أُعْطِيتُ البَقَرَةَ مِنَ الذِكْرِ الأَوَّلِ وأعْطِيْتُ( ١ ) طَهَ وَالطَّوَاسِينَ من أَلْوَاح مُوسى. وأعْطِيْتُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ وَخَواتيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وأُعْطِيْتُ المُفضَّلَ نَافِلَةً " ( ٢ ).
وروي عنه أنه قال : " تَجيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيايَتَانِ( ٣ ) ". والغياية والغمامة واحد.
فبهذا الحديث وأمثاله، استجاز الناس أن يقولوا : سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا( ٤ ).
وهذا إضافة لفظ، لا إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وهو بمنزلة قولك( ٥ ). " باب الدار وسرج الدابة " ومثله قوله تعالى :( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) ( ٦ ).
فأضاف القول إليه لأنه هو ينزل به، وهو( ٧ ) جبريل عليه السلام. وهذا من اتساع لغة العرب.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم( ٨ ) قال : " لِكُلِّ شَيْءٍ( ٩ ) سَنَامٌ، وَسَنَامُ الْقرآنِ سُورةُ الْبَقَرَةِ، فيهَا آية سَيِّدَةٌ آي القُرْآنِ/ لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلاَّ خَرَجَ( ١٠ ) مِنْهُ وهي آيَةُ الكُرْسِي( ١١ ) ".
ومعنى سيدة آي القُرآن( ١٢ )، عظيمة آي القرآن. وكل آي القرآن عظيم جليل، لا يفضل بعضه بعضاً لكن يعطي الله من الأجر والثواب على بعض ما لا يعطي على بعض، يفعل ما يشاء.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلاً : " مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ ؟ فَقالَ : سُورَةُ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : وأي الخَيْرِ أَبْقَتْ( ١٣ ) سُورَةُ البَقَرَةِ( ١٤ ) ؟ ".
وقال الحسن : قال رسول الله [ عليه السلام( ١٥ ) ] : أيُّ القُرْآنِ أَعْظَمُ ؟ قَالُوا : اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ/ قَالَ : سُورَةُ البَقَرَةِ. قَالَ فَأَيُّهَا( ١٦ ) أعْظَمُ ؟، قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال : آيَةُ الْكُرْسِي( ١٧ ) ".
٢ - انظر: مستدرك الحاكم ١/٢٥٩، وكنز العمال ١/٥٦١..
٣ - انظر: صحيح مسلم ١/٥٥٣، وسنن الترمذي ٥/١٦٠ ومستدرك الحاكم ١/٥٦٠، ومجمع الفوائد ٦/٣١٣..
٤ - قوله: "وسورة كذا" سقط من ق..
٥ - في ح: قوله. وهو تحريف..
٦ - الحاقة آية ٤٠..
٧ - سقط من ع٣..
٨ - قوله "وسلم" ساقط من ع٣..
٩ - سقط من ع٣..
١٠ - سقط من ح، ع٣..
١١ - انظر: سنن الترمذي ٥/١٥٧، ومستدرك الحاكم ١/٢٥٩، وسنن الدارمي ٢/٤٤٧..
١٢ - في ع٢: القرآن أي..
١٣ - في ع٣: أبقيت. وهو خطأ..
١٤ - انظر: سنن الترمذي ٥/١٥٦-١٥٧..
١٥ - في ع٣: صلى الله عليه وسلم. في ق: عليه..
١٦ - في ق: فأيتها..
١٧ - انظر: سنن الترمذي ٥/١٥٦-١٥٧..
ﰡ
فالألف: يؤدي عن " أنا "، واللام: يؤدي عن اسم الله. والميم: تؤدي عن " أعلم "، والراء: يؤدي عن " أرى ".
وعنه [أن] أوائل السور مأخوذة من أسماء الله. فيقول في ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]: " إن الكاف: من كاف، والهاء: من هاد ".
وعنه أيضاً " أنها أقسام، أقسم الله بها، وهي من أسماء الله جل ذكره ".
وقد قال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من العلماء.
وروى عنه عطاء أنه قال في ﴿الم﴾: " الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد ﷺ "
[ وكذلك] روى الضحاك عنه.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: " هي فواتح السور ".
وقال أبو عبيدة والأخفش: " هي افتتاح كلام ".
وقال زيد بن أسلم: " هي أسماء السور ".
وروى ابن جبير عن ابن عباس: " ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]: كبير، هاد، عزيز، صادق ".
وقال محمد بن كعب: ﴿حم* عسق﴾: الحاء والميم: من الرحمان، والعين: من العليم، والسين: من القدوس، والقاف: من القهار ".
وقال في ﴿المص﴾: " الألف واللام: الله، والصاد: من الصمد ".
وقال بعض أهل النظر: " هي تنبيه ".
وعن قطرب أيضاً أنه قال: " هي حروف ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة ".
وقال أبو العالية: " هي الحروف من التسعة وعشرين حرفاً دارت بها الألسن كلها، ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه ونعمائه، وليس منها (حرف) إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. الألف: مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح / اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد. الألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: مجده. الألف: سنة، واللام: ثلاثون سنة، والميم: أربعون سنة ".
وقيل: هي اسم الله الأعظم. رواه السدي عن ابن عباس.
ويروى أن اليهود لما سمعت / ﴿الم﴾، قالوا: " الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، وهي مدة ملك محمد. أفتدخلون في دين، إنما مدة ملكه إحدى وسبعون سنة. فلما سمعوا ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] قالوا: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون والصاد ستون فذلك إحدى وثلاثون ومائة سنة، فلما سمعوا ﴿الر﴾ [يونس: ١] و ﴿المر﴾ [الرعد: ١] و ﴿حم* عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢]، قالوا: قد لبس علينا الأمر، فما
فهذا الذي اشتبه عليهم في هذا التأويل والله أعلم.
وهذه الحروف تسمى حروف المعجم، وإنما سميت بذلك لأنها مبينة للكلام فاشتق لها هذا الاسم من قولهم: " أعجَمْتُ الِكتَابَ " إذا بَيَّنْتَهُ.
وقيل: إنما اشتق لها هذا من قولهم: " عَجَمْتُ الْعُودَ " إذا عَضَضْتَهُ لِتَخْتَبِرَهُ.
فيكون " المعجم " من هذا أتى على توهم زيادة الهمزة، كما أتى " لواقع " على توهم حذف الهمزة من " ألْقَحْتُ "، وكان الأصل " ملاقح ". كذلك كان الأصل " المعجوم "، إذا جعلته من " عَجَمْت ". وقد قالوا: / " مسعود "، على تقدير حذف الهمزة من " أسعده الله "، وقرئ: ﴿وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ﴾ [هود: ١٠٨]- بضم السين - على ذلك التقدير. فكذلك المعجم من " عجمت " على تقدير حذف الهمزة من " أعجمت "، فيكون معناه حروف الاختبار، وهي موقوفة مبنية على السكون أبداً، إلا أن تخبر عن شيء منها، أو تعطف بعضها على بعض، فتعربها، تقول: هذه جاء وياء ". وهي تؤنث وتذكر.
أكثر أهل التفسير على أن " ذلك " بمعنى " هذا ".
كما تقول للرجل وهو يحدثك: " ذلك، والله الحق "، أي هذا والله الحق.
قال الله جل ذكره: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: ١٩]. أي هذا ما كنت منه تحيد. وقال: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦]، أي هذه عشرة كاملة. وقال: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٩٦]. أي هذا الحكم لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
وقال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ [ص: ٦٤] أي إن هذا وهو كثير في كلام العرب والقرآن.
وقيل: إن ﴿ذلك﴾ / على بابها للإشارة إلى شيء / معلوم. واختلف في ذلك المشار إليه. ما هو؟
فقيل: إن ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل سورة البقرة.
وقيل: إشارة إلى اللوح المحفوظ.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: " ﴿ذلك﴾: إشارة إلى التوراة والإنجيل ". وقيل: ﴿ذلك﴾: إشارة إلى ما وعد به النبي ﷺ من أنه سينزل عليه كتاب فوقعت الإشارة على ما تقدم من الوعد.
وجيء باللام في ﴿ذلك﴾ للتأكيد في بعد الإشارة.
وقال الكسائي: " جيء بها لئلا يتوهم أن ﴿ذلك﴾ مضاف إلى الكاف ".
وقيل: جيء بها عوضاً عن المحذوف من " ذا "، لأن أصل " ذا " أن يكون على ثلاثة أحرف، لأن أقل الأسماء ما يأتي على ثلاثة أحرف.
وقال علي بن سليمان: " جيء باللام لتدل على شدة التراخي، وكسرت لئلا تشبه لام الملك.
وقيل: كسرت لأنها بدل من همزة مكسورة لأن أصل " ذا " " ذاء " على ثلاثة
كان أصل ذا / أن يكون بألفين ليكون على ثلاثة أحرف إذ هي أقل أصول الأسماء فأبدلت الألف الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون الألف قبلها. وقد قال الكسائي: " إنما أبدلوا من الهمزة لاماً لئلا تشبه المضاف "
وقيل: إنما كسرت اللام لالتقاء الساكنين لأنها اجتلبت ساكنة، وقبلها الألف من " ذا " ساكنة، وكسرت اللام لالتقاء الساكنين.
والاسم من " ذلك "، ذا وقيل: الاسم الذال، وزيدت الألف للتقوية.
و" ذا " لا يضاف في شيء من كلام العرب، لأنه معرفة، ولأن اللام تفصل بينهما، ولأن المعنى على غير معنى الإضافة.
والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الخيل المجتمعة، يقال: " تَكتَّب القَوْمُ " إذا اجتمعوا. فسمي المكتوب كتاباً لاجتماع بعض الحروف إلى بعض. ومنه قول العرب: " كُتِبَتْ القِرْبَة " إذا جُمِعَتْ خُرَزاً إلى خُرَز، وكَتَبْتُ البَغلَةَ " إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَيْهَا بِحَلْقَة.
قوله تعالى: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
الهاء تعود على (الكتاب) /. وقيل على ﴿ذلك﴾.
وقيل: على ﴿الم﴾ على أن تكون ﴿الم﴾ إسماً من أسماء القرآن.
والكتاب القرآن هو نفي عام نفى الله جل ذكره / أن يكون فيه شك عند من وفقه الله، وقد ارتاب فيه من خذله الله ولم يوفقه، ولذلك قال: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣]. معناه: وإن كنتم على زعمكم في شك من ذلك فأتوا ببرهان على ذلك، فقد أتيناكم بما لا ريب فيه لمن وفق.
والريب مصدر " رَابَني الأَمْرُ رَيْباً ".
وحكى المبرد: " رَابَني الشيء تبينت فيه الريبة، وأَرَابَنِي إذا لم أتبينها فيه ".
وحكى غيره: " أَرَابَ الرجل في نفسه، ورَابَ غيره ".
وقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
الهدى الرشد والبيان.
وقوله: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ الآية.
" الذين ": اسم مبهم ناقص لا بد له من صلة وعائد، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف، ولأنه بعض اسم، فإن ثَنَّيْتَهُ أَعْربتَه، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف إذ الحروف لا تثنى.
فإن قيل: فأعربه في الجمع إذ الحروف لا تجمع.
فالجواب: إن الجمع مشبه بالواحد، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد، فجرى مجرى الواحد في البناء، والتثنية لا تختلف
ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ الحروف لا تجمع، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض. فلما دخلته الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين، وكتب " الذي " بلام واحدة، وأصلها لامان، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال.
وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة / المتقدمة الذكر، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء إلا على نظام واحد. فلما جرت على أصلها، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط. وأصل الإيمان: التصديق، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه، فالله جل ذكره مؤمن، ولا يقال: بكذا، والعبد مؤمن بكذا.
وقد قيل: إن المؤمن مأخوذ من الأمان، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب الله بإيمانه. والله مُؤَمِّن: أي: يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه.
والهمز في " يؤمن " الأصل، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن
والغيب: كل ما استتر عنك. وهو في هذه الآية البعث، والحساب، والجنة، والنار، وشبهه. قاله سفيان وغيره.
وقيل: معنى ﴿بالغيب﴾: بالقدر.
وقال عطاء: " ﴿بالغيب﴾: بالله جل ذكره ". وقيل: بالقرآن. وقال بعض المتصوفة: " الغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لأن المنافق يؤمن بلسانه لا بقلبه ".
فالإيمان الصحيح / النافع ما اعتقده القلب.
وقال بعض العلماء: ﴿يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾، أي: يؤمنون إذا غابوا عن الناس، كما يؤمنون إذا حضروا، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة، ويكفر بالغيب.
وقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾.
وقال الضحاك: " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها ".
وأصل " يُقيمُونَ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
كما قالوا: ميزانٌ وميعادٌ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها. والعرب تسمي الشيء باسم [ما لابَسَه وقاربه].
والصلاة من الله: الرحمة لعباده، ومن الملائكة. والأنبياء: الدعاء، وكذلك هي من الناس.
وروى أبو هريرة أن النبي [ ﷺ] قال: " إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وإنْ كَانَ صَائِمَاً فَلْيُصَلِّ " أي: فليدع.
............ | " يا ربِّ جَنِّب أَبي الأوصَابَ والْوَجَعَا. |
عليك مثل / الذي صليت فاغتمضي | نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً. |
وقيل: إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف، ينحنيان في الصلاة.
وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها، لأن أصل الألف الواو، وأصلها صلوة. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت في اللفظ ألفاً؛ دليله قولهم في الجمع: " صَلَواتٌ ". وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا: إن أصل " ماء ": مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو، والهمزة بدل من الهاء. ودل على ذلك قولهم في الجمع: أمْوَاءٌ، فرد إلى أصله.
وقيل: إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو.
وقيل: [بل الأربع] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب.
وقيل: بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام. إذ لم يؤمن [أحد به] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي ﷺ والكتاب.
واختار الطبري القول الأول.
وقال مجاهد: " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و [ثلاث عشر] آية بعد ذلك في المنافقين ".
وقوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
معناه: يتصدقون ويزكون.
وأصل " ما " في قوله: ﴿وَممَّا﴾ أن تكتب منفصلة، لأنها بمعنى " الذي ". والهاء محذوفة من ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه. فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم. فإن كانت " ما " بغير معنى " الذي "، وإنما هي صلة، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله:
﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١]، ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الحج: ٤٩] وشبهه. وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط، وهي بمعنى " الذي "، وأصلها الانفصال، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد، وذلك نحو " مما " و " عما ".
وأيضاً فإنه / لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار بالمجرور مع كثرة الاستعمال.
وقيل: إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ / لم يثبت في الخط في مواضع وثبت في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ.
واعلم أن " كل ما "، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى "، وصلتها مع " ما "، فإن
وأصل " إذا " الانفصال مما قبلها، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز.
وقوله: ﴿بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي: بالقرآن. ﴿وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾. أي: بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وبجميع ما أنزله الله على أنبيائه.
وقوله: ﴿وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
أي: بالبعث والحشر والجنة والنار يصدقون. وسميت الآخرة آخرة لأنها بعد الأولى وهي الدنيا. وقيل: سميت بذلك لتأخرها عن الناس.
وقوله: ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أي على هداية ورشد وبيان.
قال محمد بن إسحاق: " على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم ".
و" أولاء " جمع " ذا " المبهم من غير لفظه، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين. وعلة بنائه مشابهته للحروف، وإنما شابه الحروف لمخالفته لجميع الأسماء إذ لا يستقر على مسمى، فلما خالف جميع الأسماء والحروف أيضاً مخالفة لجميع الأسماء إذ لا تفيد معنى في نفسها، إنما تفيده في غيرها، والأسماء تفيد المعاني بأنفسها، فاتفقا في مخالفة الأسماء فبنيت هذه الأسماء لذلك. وحق البناء السكون، لكن اجتمع في آخر " أولاء " ألفان فأبدل من الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون ما قبلها والكاف لا موضع لها، إنما هي للمخاطب ككاف " ذلك ".
وقوله: ﴿هُمُ المفلحون﴾.
﴿هُمُ﴾: مبتدأ و ﴿المفلحون﴾: الخبر، والجملة: خبر عن ﴿أولئك﴾ ويجوز أن تكون ﴿هُمُ﴾: فاصلة لا موضع لها من الإعراب وهي وأخواتها يدخلن فواصل
فهذا أصل الفاصلة فاعرفه، وهي تكون فاصلة على أحد ثلاثة أوجه:
- إما أن تكون فصلاً بين المعرفة والنكرة، فيكون دخولها يدل على أن الخبر معرفة أو ما قرب من المعرفة.
- والثاني: أن تدخل فصلاً بين النعت والخبر، فدخولها فاصلة يدل على أن ما بعدها خبر لما قبلها، وليس بنعت لما / قبلها، فإذا قلت: " إن زيداً هو الظريف " علم بدخول " هو " أن " الظريف " خبر، وليس بنعت لزيد.
- والثالث: أن تدل بدخولها مع " كان "، على أن " كان " هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر، وليست بـ " كان " التامة التي لا تحتاج إلى خبر، ولا تكون الفاصلة إلا وهي الأولى.
في المعنى تقول: " كان زيد هو العاقل ". " فهو ": هو / زيد في المعنى، ولو قلت: " كان زيد أنت الضارب إياه "، لم تكن " أنت " فاصلة، لأنها ليست هي الأولى في المعنى، ولا تكون هنا إلا مبتدأة.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ﴾.
هذه الآية نزلت في قوم سبق في علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون، فأعلم الله نبيه ﷺ أن الإنذار لا ينفعهم لما سبق لهم في علمه، وَثَمَّ كفار أُخَر نفعهم الإنذار فآمنوا لما سبق لهم في علم الله سبحانه من الإيمان به، فالآية عامة في ظاهر اللفظ يراد به الخصوص، فهي في من تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن خاصة، ومثله ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٣].
وذلك أن رسول الله ﷺ كان حريصاً على إيمان جميع الخلق، فأعلمه الله تعالى في هذه الآية أن من سبق له في علم الله [سبحانه الكفر والثبات عليه] إلى الموت لا يؤمن ولا ينفعه الإنذار، وأن الإنذار وتركه سواء عليه. وهذا مما يدل على ثبات
وقال ابن عباس: " نزلت في اليهود الذين جحدوا بمحمد ﷺ استكباراً وحسداً مع معرفتهم أنه نبي ﷺ ".
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مع أصحابهما من رؤساء اليهود الذين دخلوا على النبي [عليه السلام] وسألوه عن ﴿الم * ذَلِكَ الكتاب﴾ ".
وقيل: هي عامة في كل كافر تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن.
وأصل الكفر التغطية. ومنه قيل لِلّيل: كافر، لأنه يستر بظلمته ما فيه.
ومعنى لفظ الاستفهام في / {ءَأَنذَرْتَهُمْ﴾ للتسوية، وهو في المعنى خبر، لكن التسوية تجري في اللفظ مجرى لفظ الاستفهام، والمعنى [على الخبر]، تقول: " سواء عليَّ أقمت أم قعدت. وإنما صار لفظ التسوية مثل لفظ الاستفهام للمضارعة التي بينهما، وذلك أنك إذا قلت: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو "، فقد سويت علم المخاطب فيهما، فلا يدري أيهما في الدار، وقد اسْتَوَى علمك في ذلك، وتدري
ويجوز أن يكون المخاطب مثل المتكلم في ذلك، ويجوز أن يكون عنده يقين ما سئل عنه. فاعرف الفرق بينهما.
وقوله: ﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ﴾، فيه عشرة أوجه.
- الأول: تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف. وهي لغة قريش وكنانة، وهي قراءة ورش عن نافع وابن كثير.
- والثالث: تحقيق الهمزيين وهي قراءة أهل الكوفة، وابن ذكوان عن ابن عامر.
- والرابع: حذف الهمزة الأولى وتحقيق الثانية. وهو مروي عن الزهري، وهي قراءة ابن محيصن، وذلك لأن " أم " تدل على الألف المحذوفة.
- والسادس: تحقيق الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف، وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ أبو عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وهشام بن عمار عن ابن عامر.
- والثامن: ذكره الأخفش قال: " يجوز أن تخفف الأولى منهما وتحقق الثانية "، ولم يقرأ بهذا أحد، وهو بعيد ضعيف لأن الاستثقال لا يقع في أول الكلام، ولأن الهمزة المخففة بين بين، لا يبتدأ بها إلا أن تريد أن تصل الهمزة بما قبلها وتلقي حركتها على الميم الساكنة قبلها، فهو قياس، وليس عليه عمل.
- والتاسع: ذكره أبو حاتم أيضاً قال: " يجوز أن تخفف الهمزتين ". وهو بعيد، ولم يقرأ به أحد، وله قياس إذا وصلت كلامك، فتلقي / حركة الأولى على الميم الساكنة قبلها، وتخفف الثانية بين بين، وهو بعيد جداً.
- والعاشر: ذكره الأخفش أيضاً؛ قال: " يجوز أن تبدل من الأولى هاء، فتقول: " هانْذَرْتَهُمْ ". ولم يقرأ به أحد ومخالف للخط، وقياسه في العربية جيد. ويجوز مع
قوله: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾.
معناه طبع الله عليها مجازاة لهم بكفرهم.
وقيل: معناه: حكم الله عليهم بذلك لما سبق في / علمه من أنهم لا يؤمنون.
وقيل: معناه: أنهم [لما تجاهلوا عن] قبول أمر الله تعالى وفهمه، وَصَمُّوا عن أمر الله سبحانه، جعل الله تعالى ذلك منسوباً إليهم عن فعلهم، كما يقال: " أهلكه المال " أي هلك به.
وقيل: معناه: أن الله تعالى جعل ذلك علامة تعرفهم بها الملائكة.
وأصل الختم الطبع. والرين على القلب دون الطبع، والقفل أشد من الختم.
قال مجاهد: " القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد قبض عليه - وأشار بقبض الخنصر تمثيلاً - ثم إذا أذنب قبض عليه، ومثل بقبض البنصر هكذا حتى ضَمَّ
وقال ابن عباس: " إنما سمي القلب قلباً لأنه يتقلب ".
وروى أبو موسى الأشعري أن النبي [عليه السلام] قال: " الْقَلْبُ مِثْلُ رِيشَةٍ فِي فَلاَةٍ يُقَلّبُهَا الرّيحُ ".
وعنه في حديث آخر: " تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ بِأرضِ " فضاءِ ظَهْر البَطْنٍ ".
قوله: ﴿على قُلُوبِهمْ﴾. تكتب " على " " وإلى " و " لدى " بالياء دون سائر الحروف مثلها لأنها أخف من الأفعال، وكثر استعمالها، ولأن ألفها يرجع إلى الياء مع المضمر دون سائر الحروف فكتبت مع المظهر بالياء لذلك.
وتقع " على " بمعنى الباء، تقول: " آركب على اسم الله " أي باسم الله.
وتقع بمعنى " مع " نحو قولك: " جئت على زيد " أي معه. وتقع بمعنى " من " نحو قوله: ﴿عَلَى الناس / يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين: ٢] أي من الناس. وتقع أيضاً في مواضع
وقوله: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾.
إنما وُحِّد السمع لأنه مصدر يقع على القليل والكثير.
وقيل: وُحِّد لأنه يؤدي عن الجمع.
وقيل: التقدير: " وعلى مواضع سمعهم "، ثم حذف المضاف وإنما أعيدت " على " في قوله: " ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم﴾ للتأكيد في الوعيد.
وقيل: أعيدت لأجل مخالفة السمع للقلوب في أنه أتى / بلفظ التوحيد، وأتت القلوب بالجمع.
وقيل: أعيدت لأن الفعل مضمر مع الحرف تقديره: " وختم على سمعهم ". فأما إعادة الحرف في ﴿وعلى أبصارهم﴾، فلِلعِلَلِ التي ذكرنا، ولأنه حرف متصل بفعل مضمر غير الأول فقويت فيه الإعادة، والتقدير: " وجعل على أبصارهم غشاوة ". وهذا، إنما هو على قراءة من نصب غشاوة، وهو مروي عن عاصم.
فأما من رفع، فإنما أعيد الحرف لأنه مخالف للأول، لأنه خبر ابتداء.
وفي ﴿غِشَاوَةٌ﴾، لغات قرئ بها، وهي فتح الغين؛ وبه قرأ أبو حيوة، وضم الغين؛ وبه قرأ الحسن. وقرأ الأعمش " غَشْوَة " على فعلة.
وقوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ﴾ الآية.
أصل نون " مِنْ " أن تكسر لالتقاء الساكنين كنون " عَنْ " إذا لقيها ساكن، لكنها فتحت استثقالاً لاجتماع كسرتين / في حرف على حرفين.
والهاءات من قوله: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ تعود على الكفار كلهم على من سبق في علم الله منهم أنه لا يؤمن.
وقيل: عني بهذه الآية المنافقون؛ يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر.
قوله: ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾.
الخداع: إظهار خلاف الاعتقاد.
وقوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم﴾.
أي وباله يرجع عليهم. واختار جماعة من العلماء: (وَمَا يَخْدَعُون) - بفتح الياء وسكون الخاء - من غير ألف، وهي قراءة ابن عامر وأهل الكوفة، وإنما اختاروا ذلك لأن الله جل ذكره أخبر عنهم أولاً أنهم ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾.
ولفظ قوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم﴾، نفي ذلك، فيصير في ظاهر اللفظ قد أوجب شيئاً ثم نفاه بعينه، فوجب أن يختاروا ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾
[فأما وجه] قراءة من قرأ الثاني " ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ بألف فهو على معنى: وما يخادعون تلك المخادعة المذكورة عنهم إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم.
و" خادع " في اللغة، يجوز أي يكون معناه / معنى " خدع " من واحد. ومعنى " خدع " بلغ مراده. فلذلك أجمع القراء على ﴿يُخَادِعُونَ﴾ في الأول لأنه ليس بواقع، وفي الثاني ﴿يُخَادِعُونَ﴾ بغير ألف لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم وراجع عليهم.
وذكر القتبي أن معنى الأول: يخادعون بالله الذين آمنوا / وهو قولهم إذا لقوا المؤمنين: آمنا ".
وأصل المفاعلة أن تكون من اثنين، لكن قد أتت من واحد، قالوا: " عَاقَبْتُ اللِّصَّ "، " وَطارَقْتُ النَّعْلَ " و " جَازَيْتُ فُلاناً وَحَادَيْتُهُ وََوَادَعْتُهُ وَدارَيْتُهُ ".
والمخادعة في هذا المعنى إنما هي للنبي / ﷺ وأصحابه، أي يخادعون نبي الله وأولياءه. و " خدع " فعل واقع، و " خادع " فعل يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع،
وقوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
أي ليس يشعرون، أي يعلمون أن ضر مخادعتهم راجع عليهم.
وقوله: ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أي مؤلم.
وجمع " أليم " فيه ثلاثة أوجه:
إن شئت: " إلام " كَكَريم وكِرَامٍ، وإن شئت: أُلَماء كَظَريفٍ وَظُرَفَاء وإن شئت " أَلاْمٌ " كَشَرِيف وأَشْرافٍ.
و" فعيل " يأتي على ضربين: اسم وصفة؛ فإذا كان اسماً، فجمعه في أقل العدد على " أَفْعِلة "، وفي أكثره على " فَعُل " كَرَغِيفٍ وأَرْغِفَةٍ ورُغفٍ. وقد يأتي في الكثير على " فُعْلانٍ "، قالوا: " رُغْفَانٌ وقُضْبَانٌ وكُثْبَانٌ "، وقد أتى على " أفْعِلاَء "، نصيبٌ وأنصباءٌ، وخميسٌ وأخْمِساءٌ ".
- فالسالم يجمع على " فُعَلاء " نحو " كرماء "، و " عُلَماء " وقد قالوا: كِرامٌ وشِرافٌ.
- والمعتل يجمع على أفعلاء نحو " أَوْلِياء " و " أَصْفِياءَ ".
وكذلك المضاعف نحو " أَشِدَّاء " و " أَشِحَّاء "، وقد قالوا: أَنبياءٌ يجمع على أفعلاء على تقدير لزوم تخفيف الهمزة فيصير " كَتَقي وأَتْقِياء ". ومن همز قال: نَبِئاء على " فُعلاَءَ " ويجوز على مذهب من همز أنبياء [بجعله نادراً] " كخميس وأخمساء ". وقد قالوا: [في جمع] جليل: جلّة، وهو نادر استغنوا به عن " أَجِلاّء ".
وقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾. أي: شك ونفاق.
الزيادة هنا هي نزول القرآن بالفروض فلا يتبعونها، فيزدادون شكاً، ويزداد المؤمنون بعمل الفرائض إيماناً كما قال: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً﴾ [التوبة: ١٢٤ - ١٢٥].
وقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾. أي بتكذيبهم الرسل.
وقيل: بتكذيبهم محمداً ﷺ. وهذا التفسير يدل على صحة قراءة من قرأ ﴿يَكْذِبُونَ﴾ بالتشديد، ويدل على قوة التشديد أن الكذب لا يوجب العذاب الأليم، إنما يوجبه التكذيب. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عنهم بالشك في أول الكلام، ومن شك في شيء فقد كذب به، فالتكذيب أولى بآخر الآية على هذا القول.
ومما استدل به من قرأه ﴿يَكْذِبُونَ﴾ / بالتخفيف؛ أن الله جل ذكره أخبر أنهم يقولون: ﴿آمَنَّا﴾ وقال: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾. فأخبر عنهم بالكذب في قولهم: ﴿آمَنَّا﴾. وتوعَّدهم عليه بالعذاب الأليم، وهو من الكذب أولى من أن يكون من التكذيب إذ لم يتقدم في صدر الآية إلا الإخبار عنهم بالكذب، لا بالتكذيب.
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾.
كل النحويين على أن " إذا " ظرف زمان مستقبل.
وقال المبرد: " هي في المفاجأة ظرف مكان إذا قلت: " خرجت فإذا زيد ". واستدل على ذلك بأنها قد تضمنت الجثة، وظروف الزمان لا تتضمن الجثة، لو قلت " اليوم زيد " لم يجز إلا على حذف مضاف تقديره /: اليوم حدوث زيد.
وقال أكثر النحويين: " إذا ": في المفاجأة ظرف زمان على أصلها والتقدير: " خرجت فإذا حدوث زيد وظروف الزمان تتضمن المصادر كظروف المكان.
وأصل " قيل ": " قول " فألقيت حركة الواو على القاف وانقلبت الواو ياء لسكونها / وانكسار ما قبلها. وكذلك " بِيعْ " أصله " بِيِعَ "، فألقيت حركة الياء
ولك في غير القرآن أن تقول: " قُوْل ": فتسكن الواو استثقالاً للكسر عليها، وتترك القاف على ضمتها، وكذلك يجوز لك فيما كان عينه ياء، نحو: " بُوع المتاع "، فيصير ذوات الواو والباء بلفظ واحد، كما صار في اللغة الأولى المستعملة بالياء فيهما.
قوله: ﴿لاَ تُفْسِدُواْ﴾.
أي: لا تعبدوا إلا الله، وعبادة غير الله من أعظم الفساد.
وحكى الكسائي " اللَّرض " بتشديد اللام وعوض من الهمزة لاماً، وإدغامها في لام التعريف. وقال الفراء في هذه اللغة: " إن لام التعريف لما ألقي عليها حركة الهمزة استكره ذلك فيها إذ أصلها السكون، فزيد بعدها لام أخرى وأسكن الأولى فردها إلى أصلها وأدغمها في اللام المزيدة، فرجعت لام التعريف إلى
قوله: ﴿قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾.
هذا قولهم على دعواهم وليسوا كذلك، لأن من أبطن الكفر وأظهر الإيمان فهو من أعظم المفسدين. وهذا كله خبر عن المنافقين.
قال مجاهد وغيره: " أربع آيات من أول سورة البقرة / نزلت في نعت المؤمنين وآيتان بعد ذلك في نعت الكافرين، [وثلاث عشرة] آية بعد ذلك في نعت المنافقين.
وقال مقاتل بن سليمان: " الآيتان الأوليان من سورة البقرة اللتان آخرهما ﴿يُنْفِقُونَ﴾ نزلتا في المؤمنين من أصحاب رسول الله ﷺ المهاجرين. والآيتان اللتان آخرهما ﴿المفلحون﴾ نزلتا في المؤمنين من أهل التوراة، والآيتان اللتان بعدهما، اللتان آخرهما ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ نزلتا في الكفار. [وثلاث عشرة] آية بعدهما نزلن في
قوله: ﴿نَحْنُ﴾.
هو اسم مضمر يقع للواحد الجليل القدر، وللاثنين وللجماعة.
وحقه البناء على السكون لأنه مضمر، والمضمرات كلها مبنية؛ وإنما بنيت لأنها مشابهة للحروف، إذ لا تخص شيئاً بعينه، ولأنها تكون على حرف واحد، وحرف واحد لا يعرب. وإنما حرك " نحن " وحقه السكون لأن قبل آخره ساكن يحرك الآخر لالتقاء الساكنين. واختير لها الضم في قول المبرد لأنها مشبهة بِ " قَبْلُ " و " بَعْدُ "، وذلك لأنها تتعلق بالإخبار عن اثنين فأكثر.
وقال هشام الكوفي: " أصل " نَحْنُ ": نَحُن، فردت حركة الحاء على النون بعدها ".
وقيل: إنما ضمت لتضمنها تثنية وجمعاً، فصارت مشبهة بـ " حيث " لانها تضمنت مكائن.
وقال الزجاج: " لما كانت الواو من علامات الجماعة واحتيج إلى حركة النون من " نحن " لسكونها وسكون ما قبلها، حركت بما يشبه الواو وما هو منها، وهي الضمة. ولهذا ضموا واو الجمع إذا احتاجوا إلى حركتها في نحو قوله: ﴿اشتروا الضلالة﴾ [البقرة: ١٦].
وقال علي بن سليمان: " نحن " من علامات المضمر المرفوع فلما احتيج إلى
ومعنى قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي هذا الذي تسمونه / فساداً هو صلاح عندنا.
وقيل: إن معناه: [أنهم قالوا]: نريد الإصلاح بين المؤمنين وأهل الكتاب.
وعن سلمان الفارسي أنه قال: " لم يجىء هؤلاء بعد ".
وأكثر المفسرين على أن هذا نزل في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ.
وقيل: معنى قول سلمان: " لم يجئ هؤلاء بعد " أي لا يأتون لأنهم قد انقرضوا.
والهاءات من: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ إلى ﴿يَشْعُرُونَ﴾ يعدن على " من " في قوله: ﴿مَن يَقُولُ آمَنَّا﴾ وهم المنافقون. وعلى هذا أكثر الناس.
ودخلت الألف واللام في (المُفْسِدينَ)، لأنه جواب كلام سبق منهم إذ قالوا: محمد وأصحابه مفسدون في الأرض.
فأخبر الله أنهم هم المفسدون، ولو كان على غير جواب لم يدخله الألف واللام. ألا ترى لو أنك قال لك قائل: " أنت ظالم "، فأردت أن ترميه بغير الظلم لقلت: " أنت كاذب أنت فاسق "، ولا تقوله بالألف واللام، لأنه غير جواب قوله.
فإن أردت أن ترميه بمثل ما رماك به، قلت له: " أنت الظالم "، ولو أضمرت / لقلت: " أنت هو ". ولو رميته بمثل ما رماك به لم يجز الإضمار في جوابك،
قوله: ﴿كَمَآ آمَنَ السفهآء﴾.
أصل السفه قلة الحلم، فقيل للجاهل سفيه لقلة حلمه يقال: ثوب سفيه، أي بال رقيق.
قول: ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء﴾.
ردَّ الله عليهم قولهم وأعلم المؤمنين أنهم أحق بهذا الاسم، ولا عذر لهم فيما وصفهم الله به من السفه لأنهم إنما لحقهم ذلك إذ عَابوا الحق وخالفوه، وسفهوا المؤمنين واستحقوا هذا الاسم لفعلهم، وكانوا به أولى من المؤمنين.
قوله: ﴿ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.
معناه [أنهم لا يعلمون] أنهم أولى بهذا الاسم وهو السفه، وأن الله يطلع المؤمنين على ما يبطنون.
قوله: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ﴾ الآية.
قوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾.
يعني أصحابهم، وقيل: رؤساؤهم في الكفر قال الله: ﴿شياطين الإنس﴾ [الأنعام: ١١٢] فسمى أهل الفسق من الإنس شياطين.
وقيل: الشياطين هنا الكهان.
وقيل: هم الكفار والمنافقون إذا لقوهم قالوا: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أي على دينكم.
و" إلى " بمعنى " مع "، كما قال: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]، أي مع أموالكم.
[والعرب] تقول: " خلوت به "، و " خلوت إليه ومعه "، لكن الباء يجوز أن تدل على أن معنى " خلوت به " من السخرية و " إلى " لا تدل إلا على " خلوت إليه " في أمر ما. والآية ليست / على معنى السخرية، فلذلك لم يأت بالباء لما فيها من الإشكال إذ هي تحتمل معنى " إلى "، وتحتمل السخرية. وأيضاً فإن معنى " إلى " أنه على معنى: [وإذا صرفوا] إلى شياطينهم / قالوا: إنا معكم، أي على دينكم [فالجالب لِ إلى "] الانصراف الذي دل عليه الكلام، والباء لا تدخل مع الانصراف الذي دل عليه الكلام، فلذلك أيضاً لم تدخل مع " خلوا ".
وفي اشتقاق " شيطان " قولان:
- قيل: هو فعلان من " شيط " فلا ينصرف إذا سميت به في المعرفة للتعريف
- وقيل: هو (فَيْعَال) من الشطن وهو الحبل، فيكون معناه أنه ممتد في الشر، ومنه " بِئْر شَطُونٌ "، إذا كانت بعيدة الاستقاء. وهو عند القتبي فَيْعال " من شطن " أي بَعُدَ من الخير يقال: " شطنت داره "، أي بعدت.
فهو ينصرف على هذين القولين في المعرفة والنكرة. وتصغيره على القول الأول في المعرفة شيطان، ولا يجمع على شياطين إلا أن تجعله نكرة فيجمع على شياطين. " كسرحان، وسراحين، ووزنه فعالين على مذهب من جعله مِنْ " شَيَّطَ " ووزنه (فياعيل) على مذهب من جعله من " شطن " وتصغيره على القولين الآخرين " شييطين " في المعرفة والنكرة.
قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾.
أي نستهزئ بالمؤمنين في قولنا / لهم: " آمنا ". وهمزة " مستهزئون " يجوز في تخفيفها وجهان: أحدهما: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والواو
والوجه الثاني: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والياء الساكنة لأجل انكسار ما قبلها وهو قول الأخفش. وحكى بدلها بياء مضمومة وليس بقياس.
قوله: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾.
معناه: الله يجازيهم على قولهم. والعرب تسمي جزاء الذنب باسمه. قال الله جل ذكره: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]. وقال: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤].
فالأول من هذا استهزاء وسيئة، وعدوان، والثاني: جزاء عليه، فسمي باسمه اتساعاً لأن المعنى قد علم.
وقيل: معنى ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾: أي يقطع عنهم نورهم يوم القيامة إذا أخلوا على الصراط [ويديم نور] المؤمنين وهو قوله: ﴿فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ [الحديد: ١٣]، فهو يعطيهم يوم القيامة نوراً لا يتم لهم، ولا
وقال الحسن: " إن جهنم تجمد كما تجمد الإهالة في القدر، فيقال لهم: هذا طريق، فيمضون فيه فيخسف بهم إلى الدرك الأسفل من النار.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " يقال لأهل النار يوم القيامة: أخرجوا من النار. وتفتح لهم أبواب النار فإذا رأوا الأبواب قد فتحت أقبلوا إليها، يريدون الخروج منها، والمؤمنون ينظرون إليهم من الجنة - وهم على الأرائك - فإذا انتهى أهل النار إلى أبوابها يريدون الخروج منها غلقت [أبوابها دونهم]، فذلك قوله: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾، قال: ويضحك المؤمنون عند ذلك، وهو قوله: ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٣٤].
وقيل معنى: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي يظهر لهم من أحكامه في الدنيا في حقن دمائهم وسلامة أموالهم خلاف ما يظهر لهم من عذابه يوم القيامة جزاء على إظهارهم للمؤمنين في الدنيا خلاف ما يبطنون.
وقيل: معناه: يُمْلي لهم، كما قال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: ٤٤].
أي يطيل لهم في الأجل المكتوب لهم، وهم في طغيانهم يتحيرون. والطغيان والعتو والعلو بغير الحق، والعمه التحير.
وقيل: معنى ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون رشدهم كما قال: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ﴾ [الملك: ٢٢] وهذا كله من صفات المنافقين عند أكثر المفسرين.
وقال الضحاك: " هو في اليهود ".
قوله: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ الآية.
أي هؤلاء الذين تقدمت صفاتهم هم الذين باعوا الهدى بالضلالة لأنهم لَمَّا مَالُوا إلى الضلالة وتركوا الهدى، كانوا بمنزلة من باع شيئاً بشيء، فوصفوا بذلك.
وأصل الضلالة الحيرة، ويسمى الهالك التالف ضالاً نحو قوله: ﴿أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ [السجدة: ١٠] أي هلكنا وتلفنا. ومنه قوله: ﴿أَضَلَّ أعمالهم﴾ [محمد: ١]، أي أتلفها
فكأن هؤلاء لما أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى كانوا بمنزلة من لم يربح في تجارته، وأضاف الربح إلى التجارة لأن المعنى مفهوم وهو من اتساع العرب ومجازه. وهو كثير في القرآن أي في كتاب الله، إذ هو من كلام العرب، والقرآن نزل بكلامهم فلا ينكر أن يأتي القرآن بما هو في كلام العرب معروف مشهور إلا من عدم حسه وفارق فطنته، ومثله قولهم: " نَهَارُكَ صَائِمٌ وَلَيْلُكَ قَائِمٌ "، / ومنه قوله: ﴿بَلْ مَكْرُ اليل والنهار﴾ [سبأ: ٣٣]. وهو كثير في الكلام والقرآن.
وحركت الواو في " اشْتَرُوا " لسكونها، وسكون لام التعريف بعدها، وكان الضم أولى بها لأنها واو جمع، ولأن الضمة عليها أخف من الكسرة، ولأن لام الفعل المحذوفة قبلها كانت مضمومة. وأصله " اشتريوا " فقلبت / الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحذفت الألف لسكونها وسكون الواو بعدها. وبقيت الفتحة تدل على الألف، ولم ترد الألف عند حركة الواو لأن حركتها عارضة ليست بلازمة.
ويجوز في الواو الكسر والفتح. ويجوز الهمز، وهو بعيد جداً.
أي لم يكونوا في علم الله السابق ممن يهتدي فيؤثر الهدى على الضلالة.
قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ الآية.
معناه مثل هؤلاء المنافقين في حقنهم دماءهم بما أظهروا من الإيمان وَسِتْرِهم على غير ذلك، كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنورهم. فضياء ما حولهم هو ما حقن إقرارهم من دمائهم ومنع من أموالهم في الدنيا.
وقوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾.
هو ما يجدون يوم القيامة من عدم نورهم لأنهم لا ينتفعون بما أظهروا من الإيمان إذ كان باطنهم خلاف [ما أظهروا].
وقوله: ﴿استوقد نَاراً﴾. أي استوقدها من غيره.
وقيل: معناه: أوقد، أي أوقدها هو.
واستفعل في كلام العرب يأتي على وجهين:
- يكون بمعنى استدعى الفعل من غيره نحو قوله:
- ويكون بمعنى فعل، نحو قوله: ﴿واستغنى الله﴾ [التغابن: ٦] فلم يستدع غني من واحد، وبعده: ﴿والله غَنِيٌّ﴾ [التغابن: ٦] يدل على ذلك.
و" ما " في قوله: ﴿أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ في موضع نصب بِ " أَضَاءَتْ ".
وقيل: هي زائدة / لا موضع لها من الإعراب. والمعنى: " فلما أضاءت النار، الموضع الذي بحوله. " فما " غير زائدة.
قال قتادة: " هي لا إله إلا الله، قالوها بأفواههم فَسَلِمُوا بها من القتل حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم ".
قال مجاهد: " هو إقبالهم على المؤمنين والهدى. وذهاب النور، هو إقبالهم على الكفار.
وقيل: ذهب الله بنورهم، أي أظهر المؤمنين على ما أبطنوا من الكفر والنفاق.
والقول الأول عليه أكثر المفسرين؛ أن ذهاب نورهم إنما يكون يوم القيامة وهو الذي ذكره الله في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ [الحديد: ١٣].
والهاء والميم تعود على " الذي " لأنه بمعنى " الذين كما قال: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون﴾ [الزمر: ٣٣]. وفي هذا اختلاف ستراه في موضعه إن شاء الله.
ومنه قول الشاعر:
إنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ | هُمُ الْقَوْمُ كُلَّ الْقَوْمِ يَا وأُمَّ خَالِدِ |
وجواب " لما " محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ذهب الله بنورهم.
قوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ﴾.
هذا تمثيل للكفر الذي هم فيه يسيرون.
فظلمات جمع ظلمة، ويجوز إسكان اللام من " ظلمات " استخفافاً، ومن العرب من يبدل من الضمة فتحة، فيقول ظُلَمَات.
وقال الكسائي: " من قال: ظُلَمَات بفتح اللام فهو جمع " ظُلَم "، و " ظُلَم " جمع " ظُلْمَة ". ولا يجوز الفتح في مثل هذا في الحرف الثاني مما لامه واو ونحو خطوات. إنما / يجوز الإسكان لا غير. فإن كان اللام ياء لم يجز فيه إلا الإسكان نحو [كُلْيَةٍ وَكُلْيَاتٍ].
قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾.
أي هم صم عن الحق وسماعه، وهم بكم عن قول الإيمان وهم عمي عن النظر / إلى الآيات الدالات على الإيمان بالله ورسوله. وإنما وصفوا بذلك، ولم يكونوا صماً ولا بكماً وعمياً، لأنهم لَمَّا لم ينتفعوا بهذه الجوارح كانوا بمنزلة من عُدِمها، / فلم ينتفع بها.
وقوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يرجعون عن ضلالتهم.
الصَّيِّب: المطر، وأصله " صَيْوِبٌ " عند البصريين من " صابَ " يَصُوبُ "، والصَّوْبُ: نزول المطر. يقال: " صَابَ المطر " إذا نزل.
وقال الكوفيون: " أصله صَوِيب على فعيلٍ كَرَغِيفٍ، ويلزمهم ألا يعلوه كما لم يعلوا " طويلاً ". واعتل عند البصريين لأن الياء إذا أسكنت وأتت بعدها واو، قلب من الواو ياء وأدغمت الأولى في الثانية " كَمَيِّتٍ " و " هَيِّنٍ ".
وقيل: الصَّيِب: السحاب الذي فيه المطر، لا المطر، روي عن ابن عباس.
ومعنى: صاب: نزل وقصد. والمعنى أن الله جل ذكره أباح للمؤمنين
والرعد: مختلف فيه، فقال مجاهد: " هو ملك يزجر السحاب بصوته، فالمسموع صوته ".
وقال شهر بن حوشب: " الرعد ملك يتوكل بالسحاب / يسوقه كما يسوق الحادي الإبل يسبح كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه فهي الصواعق ".
وقال ابن عباس: " الرعد ريح "، قيل: إنها تختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منه ذلك الصوت.
وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: " الرعد اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره بالسحاب، اضطرم السحاب من خوفه فيحتك، فتخرج الصواعق
ومعنى الآية عند ابن عباس أنه مثل ضربه الله في المنافقين، فالظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على ما أبطنوا.
ومعنى: ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم﴾ أي يكاد الحق الذي دعوا إليه فخالفوه أن يهلكهم.
وقوله: ﴿مُحِيطٌ بالكافرين﴾ أي جامعهم بقوة.
قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾.
هو مثل لما أظهروا من الإيمان الذي حقن دماءهم ومنع من أموالهم. ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾: أي ثبتوا على ما أبطنوا من كفرهم.
وقال ابن مسعود: " كان رجلان من المنافقين هربا من النبي ﷺ إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، واشتد عليهم البرق والصواعق وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً ﷺ، نضع بأيدينا في يده،
ودل على ذلك قوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ﴾ [التوبة: ٦٤].
وعن ابن مسعود أيضاً في الآية أن قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ معناه: إذا كثرت أموالهم وغنموا ودامت سلامتهم قالوا: إن دين محمد ﷺ دين صدق وتمادوا على إظهار الإيمان وهو قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي تمادَوْا على حالهم، فإذا أحربوا وهلكت أموالهم، قالوا: هذا من أجل دين محمد ﷺ، وهو قوله: ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم.
وقيل: هي مثل في اليهود إذ في كتابهم ذكر محمد [عليه السلام] وصفته، فرأوه وعلموه فلم ينفعهم ذلك وكفروا به على علم منهم أنه نبي حق ".
وعلى أن الأمثال ضربها الله في المنافقين أكثر أهل التفسير.
قال الربيع بن أنس: معنى ذلك مثلهم كمثل قوم صاروا في ليلة مظلمة فيها رعد ومطر وبرق على جادة ظلماء، فإذا [أبرق أبصروا] ومشوا، / وإذا أظلم
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم﴾ الآية.
خص الله جل ذكره ذكر السمع والبصر [لتقدم ذكرهما] قبل ذلك، ووحَّد السمع لأنه مصدر يدل على القليل والكثير من جنسه.
وقيل: معنى الآية: " لو شاء الله لأطلع نبيه ﷺ على نفاقهم وكفرهم فيستحلَّ دماءهم وأموالهم وأولادهم، وفيه تهديد ووعيد.
واختلف في البرق؛ فروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " هو مخاريق الملائكة ".
وعنه أنه قال: " يحدث من ضرب الملك السحاب بمخراق من حديد "
وقال " الرعد صوت الملك ".
وقال مجاهد: " البرق مصع الملك " والمصع الضرب، والمصاع عند العرب المجالدة بالسيوف والمخاريق السياط، واحدها مخراق وهو السوط.
وروى مجاهد عن ابن عباس " أن البرق ملك يتراءى ".
وفي يَخْطَفُ " أوجه وقراءات أفصحها " يخطف " بفتح الطاء مخففاً. ولغة أخرى بكسر الطاء مخففاً، وبه قرأ علي بن الحسين وابن وثاب، فدل ذلك على أنه يقال: خَطَفَ، يَخْطَفُ، وَخَطِفَ يَخْطِف لغتان فيه.
- ووجه رابع: وهو فتح الخاء وكسر الطاء مشدداً وأصله أيضاً " يَخْتَطِفُ "، ثم ألقى حركة التاء [على الخاء]، وأدغم التاء في الطاء، وهو مروي أيضاً / عن الحسن.
وحكى الفراء إسكان الخاء، والتشديد عن بعض أهل المدينة. كأنه أدغم التاء في الطاء، وترك الخاء على سكونها في " يختطف "، وهو بعيد، لأنه جمع بين ساكنين ليس أحدهما حرف لين.
- ووجه سادس: ذكره الأخفش والكسائي والفراء، وهو كسر الياء والخاء والتشديد، وهو كالوجه الثالث إلا أنه كسر الياء للاتباع.
- ووجه سابع: قرأ به أُبَيٌّ، وهو " يَتَخَطَّفُ " على " يَتَفَعَّلُ " مثل
ومعنى يخطف يأخذ بسرعة.
وفي " أضاء " لغتان: ضاء وأضاء بمعنى حكاهما الفراء.
قوله: ﴿يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ الآية.
قال ابن مسعود: " كل شيء في القرآن، ﴿يا أيها الناس﴾ فهو مكي، وكل شيء في القرآن: ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ فهو مدني ". وقاله عروة بن الزبير والضحاك.
قال أبو محمد: وهذا القول إنما هو على الأكثر وليس بعام، لأن البقرة والنساء مدنيتان وفيهما ﴿يا أيها الناس﴾. وفي كثير من السور المكية ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ [البقرة: ١٠٤] ومعنى الآية يا أيها الناس، أخلصوا العبادة لربكم الذي خلقكم، وخلق الذين كانوا من قبلكم، وإنما خاطب الله الكفار بهذا لأنهم كانوا مقرين بأن الله
وقيل: هو التقدير، تقول: " خلقت الأديم " إذا دبرته وقدرته.
والخلق الذي هو الاختراع والابتداع على أربعة أوجه:
- الأول: خلق ما لم يكن كخلق الله العالم من غير شيء.
- والثاني: قلب عين إلى عين، كقلب الله النطفة علقة والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً / فالثاني غير الأول.
- والخلق الثالث: تغيير العين وهي موجودة كرد الله الصغير كبيراً، والأبيض أصفر، فالعين قائمة والصفة تغيرت.
- والرابع: تغير الحال والعين كما هو، نحو كون القائم قاعداً، والعاجز قادراً، فلم تتغير العين ولا الصفة، إنما تغيرت الحال.
أي تتقون ما نهاكم الله عنه.
وقيل: معناه لعلكم تتقون " الذي جعل ". " فالذي " في موضع نصب بـ ﴿تَتَّقُونَ﴾. و " لعل " مردودة إلى المخاطبين. والمعنى اعبدوه واتقوه على رجائكم وطمعكم.
وحكى الزجاج: أن " لعل " بمعنى " كي " في هذا الموضع، وهو بعيد.
قوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فراشا﴾.
أي بساطاً، وإنما سميت الأرض أرضاً لارتعادها عند الزلازل. يقال: " رجل ما روض " إذا / كانت به رعدة، " وأرض ماروضة " إذا كانت كثيرة الزلازل.
وقوله: (مهاداً) هو خصوص مهد الله من الأرض ما بالناس إليه حاجة ومنفعة. وإلا ففيها السهل والوعر والجبال والأودية والهبوط والصعود.
قوله: ﴿والسماء بِنَآءً﴾.
أي مرتفعة عليكم. والسماء تذكر وتؤنث.
وقال المبرد: " السماء هنا جمع [سماوة] (*) [كتمرة وتمر]، ودليله قوله:
قال أبو مالك العوضي: ما في المتن الخطأ والصواب ما في الهامش.. من الواضح هنا أن السماء لا يمكن أن تكون جمع السماوات، والتمثيل المذكور بعد ذلك واضح في المراد.. (ذكره في ملتقى أهل التفسير)
وتجمع السماء / إذا كانت واحدة على ستة أبنية:
- جمعان مسلمان، تقول: سماوات وسماءات.
- وجمعان مكسران لأقل العدد، تقول: سماء واسم وأسمية.
- وجمعان مكسران لأكثر العدد، تقول سماء وسمايا وسمي، وإن شئت كسرت السين في " سمي ". وقد جاء في الشعر " سَمَاءِيَا ". وفيه اتساعات ثلاثة. قال: / الشاعر:
سَمَاءُ الإلهِ فوقَ سَبْعِ سَمَاءِيَا.... فعلى هذا يجوز أن تجمع سماء على سماء كصحار. فالشاعر شبه سماء برسالة لأن السَّمَاءَ فَعَالٌ، ورِسَالَةٌ فِعَالَةٌ، وهما أختان في عدد الحروف والحركات.
- والثالث فيها ألف بعدها كسرة، فكان يجب أن تقول " سمايا "، كما تقول: " رَسائِلٌ " و " خطايا "، فأتى به على الأصل، فقال " سمائي "، ثم لحقته ضرورة أخرى
وفي الوقف على السماء المنصوبة خمسة أوجه:
-[أولها: أن تَقِفَ] على همزة ساكنة بعد مدة.
- والثاني: أن تروم حركة الهمزة وتمد.
- والثالث: أن تجعل الهمزة بين بين، وتروم الحركة وتمد.
- والرابع: أن تبدل من الهمزة أيضاً ثم تحذفها لسكونها وسكون الألف التي قبلها ولا تمد.
- والخامس: أن تبدل أيضاً وتحذف وتمد لتدل المدة على الأصل لأن الحذف عارض. وفي الوقف على بناء المنصوب أوجه:
- " بناء " بهمزة مفتوحة بعدها ألف، وقبلها ألف، فتمد قبل الهمزة مداً مشبعاً، وبعدها مداً ممكناً، وعليه أكثر القراء.
- والثاني: أن تجعل الهمزة بين بين، وتمد. وهو مذهب حمزة في الوقف.
- والثالث: أن تحذف الهمزة، وتحذف الألف لالتقاء ألفين، ولا تمد، فيصير بلفظ المقصور لغة للعرب، لم يقرأ به أحد.
- والرابع: أن تحذف الهمزة والألف على ما ذكرنا، وتمد لتدل على أن أصله المد.
وقد قال ابن كيسان: " لا يكتب هذا المثال إلا بألفين، وإن شئت بثلاث ألفات وهو الأصل فيها. وكتب في المصاحف بألف واحدة اختصاراً ".
وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض فراشا﴾.
أي مهاداً، لا حزنة كلها، ولا جبال كلها.
وقال بعض الصحابة في قوله: ﴿والسماء بِنَآءً﴾، " بني السماء على الأرض / كهيئة القبة، فهي سقف على الأرض ".
في الوقف على " السماء " المخفوض و " ماء ". كالذي في الأول. " وبناء " مثل " ماء " في النصب.
وقوله: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات﴾.
" مِنْ " للتبعيض. و " السماء " في هذا الموضع يراد بها السحاب، لأن الماء منها ينزل كما قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً﴾ [النبأ: ١٤]. والمعصرات السحائب وكل ما علا فوقك فهو سماء. وسقف البيت سماؤه، وهو سماء لمن تحته.
وقوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾.
أي أمثالاً. ونِدُّ الشيء مثله، والند خلاف الضد.
وقيل: شركاء. وقيل: أشباها. وقيل: أكفاء.
وروى ابن مسعود " أنه سأل النبي [عليه السلام] أي الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: [أنْ تجعلَ] للهِ نِداً وَهُوَ خَلَقَكَ " الحديث.
وقال أبو عبيدة: " الند الضد ".
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض.
وقيل: معناه: وأنتم تعلمون أن الله لا شبيه له في التوراة والإنجيل، فيكون الكلام مخاطبة لأهل الكتاب على هذا التأويل. وعلى القول الأول هو مخاطبة لجميع الكفار.
ومعنى العلم الذي نسبه إليهم أنه علم تقوم به عليهم الحجة، وليس بالعلم الذي هو ضد الجهل؛ دليله قوله: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون﴾ [الزمر: ٦٤]. فثبت جهلهم لأنهم علموا أن الله خالقهم، وجعلوا له أنداداً. فأما قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ [فاطر: ٢٨]. فهذا هو العلم الذي هو ضد الجهل.
قوله: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ الآية.
أي إن كنتم أيها الناس في شك من القرآن أنه ليس من عند الله فأتوا بسورة
وقيل: من مثل محمد ﷺ في صدقه وأمانته. وقال ابن كيسان: " معناه أنهم زعموا أن محمداً شاعر وأنه ساحر، فقيل: إيتوا بسورة من مفترٍ أو من شاعر أو من ساحر.
وقيل: معنى: " من مثله " من مثل التوراة والإنجيل.
والاختيار / عند الطبري أن يكون معناه من مثل القرآن في بيانه، دليله قوله تعالى في موضع آخر: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨]. ولا يحسن هنا إلا مثل القرآن. فحمل الآيتين على معنى واحد أولى. ولم يعن بقوله: ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ إذا جعلت / الهاء للقرآن في التأليف والمعاني لأنه لا مثل للقرآن إنما عني ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ في البيان لأن الله أنزله
وفي اشتقاق السورة أربعة أقاويل:
- قيل: / سميت سورة لأنها يرتفع بها من منزلة إلى منزلة، ويشرف فيها / قارئها وحافظها على ما لم يكن عنده من العلم كإشرافه على سور البناء، فهي [منزلة رفعة].
كما قال:
ألَمْ تَرَ أنَّ الله أعْطَاكَ سورة.
أي منزلة في الشرف.
- والثاني: إنما قيل لها سورة: لتمامها وكَمَالِهَا. يقال للناقة التامة: السورة.
- والثالث: إنما سميت سورة لشرفها وارتفاعها في القَدْرِ، كما يقال لما ارتفع من البناء على هيئة سور.
قوله: ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم﴾.
أي ادعوا آلهتكم للمعونة على الإتيان بسورة من مثل القرآن.
وقيل: شهداءكم. معناه: أعوانكم على ما أنتم عليه.
وقيل: معناه: ادعوا شهداءكم إذا أتيتم بالسورة يشهدون لكم أنها مثل القرآن. ومعنى ادعوهم: استعينوا بهم.
وقيل: الشهداء / العلماء، أي استعينوا بهم على ذلك، وواحد الشهداء شهيد، وواحد الشهود شاهد، وواحد الأشهاد شهيد وشاهد أيضاً، وهو من نوادر الجموع.
فإن قيل لك: قد قال الله تعالى لهم في موضع آخر: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾ [هود: ١٣]
- فالجواب عن ذلك أن قوله تعالى:
﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾ [هود: ١٣]، نزل قبل: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ﴾ لأن الأول مكي وهذا مدني، فلما عجزوا عن عشر سور، قيل لهم: فأتوا بسورة.
وقيل: إنما طولبوا في البقرة بسورة من مثله غير محدودة / في مدح و [لا] ذم ولا تعظيم ولا غيره، بل تجمع معاني كما تجمع ذلك سور القرآن، وكلفوا في العشر السور أن تكون مفتريات، ومن كلف معنى واحداً أخف ممن كلف معاني لا تحصى ولا تدرك.
فالتكليف في سورة البقرة أثقل وأضعف، وإن كانت سورة واحدة،
قوله: ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾.
أعلمهم الله أنهم لا يقدرون على ذلك، فهو رد ونفي لما كلفوا، أي إن كنتم صادقين. ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ أي لن تطيقوا ذلك أبداً. فعلى هذا التأويل لا يحسن الوقف على " صادقين ".
قوله: ﴿التي وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾.
و" الوقود " بفتح الواو: الحطب، وبضم الواو: التوقد.
وحكى الأخفش عن بعض العرب أن الفتح والضم معاً بمعنى الحطب.
وقال الكسائي: " الفتح هو الحطب، والضم هو الفعل "، يعني المصدر.
فعلى هذا لا تحسن القراءة إلا بفتح الواو لأنه تعالى أخبر أن الذي تتوقد
وقيل: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض.
وعن النبي [عليه السلام] أنه قال: " هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ فِي النَّارِ ".
وروى أصبغ بن الفرج " أن عيسى بن مريم عليه السلام بينما هو في سياحته إذ سمع أنيناً فمضى إليه يؤمه حتى انتهى إليه، فإذا هو حجر يبكي، فقال له عيسى: ألا أراك تبكي وأنت حجر؟ قال: نعم يا روح الله إني أسمع الله يقول:
وعلى ذلك أكثر أهل اللغة أن " الوَقُود " بالفتح الحطب، وبالضم التلهب.
وقد روي عن الحسن وطلحة بن مصرف ومجاهد أنهم قرأوا بالضم فيكون ذلك على اللغة التي حكاها الأخفش أن الفتح والضم بمعنى الحطب.
قوله: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ﴾.
البشارة والبشرى في اللغة من البشرة؛ فإذا قيل: استبشر فلان، فمعناه ظهر أمر في بشرته. وسميت الجنة جنة لأنها تجن من دخلها، أي تستره أشجارها وثمارها.
والجنة عند العرب البستان ذو النخل والشجر.
وقوله: ﴿مِن تَحْتِهَا﴾.
قوله: ﴿قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾.
معناه: أنهم لما أتوا بِثِمارِ الجنة شبهوها بثمار الدنيا في المنظر، وهي مخالفة لها في الطعم والرائحة، فمعنى ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي في الدنيا.
وقيل: المعنى: قالوا: هذا الذي رزقنا وعدنا به في الدنيا.
وقيل: معناه: إنهم أتوا بثمار في الجنة فأكلوا، ثم أتوا بمثلها في المنظر ومخالفاً في الطعم، فقالوا عند نظرهم إلى الثانية: هذا الذي أكلنا من قبل، أي من قبل هذا الوقت في الجنة. فيخبرون أن الطعم مختلف.
قوله: ﴿وَأُتُواْ بِهِ متشابها﴾.
أي يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في الطعم والرائحة، وذلك
وقيل: معنى ﴿متشابها﴾ أي أنه خيار حسن لا رذل فيه؛ يشبه بعضه بعضاً في الطيب والحسن. وهو قول الحسن. واحتج بأن ثمار الدنيا فيها الحسن والرذل والوسط، وثمار الجنة خيار كله.
وقيل: معنى ﴿متشابها﴾: أي يشبه اسمه اسم ثمار الدنيا، إلا أنه لا يشبهه في الطعم ولا في اللون ولا في الرائحة، وهو قول مروي عن عبد الرحمن بن زيد وعن ابن عباس.
قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أزواج مُّطَهَّرَةٌ﴾.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾.
حكى الطبري أن " يستحيي " بمعنى " يخشى "، كما وقع " يخشى " بمعنى " يستحيي " في قوله: ﴿وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧]. أي وتستحيي من الناس.
و" تستحيي " فعل عينه ولامه حرفا علة صحت عينه واعتلت لامه، فتقول في الاسم: " هو مُسْتَحِي " بحذف لام الفعل في الرفع والخفض كقاض، وإثبات عينه. وتثبت اللام مع الغين في النصب، وتقول في التثنية: " رأيتهما مسْتَحْيِيَيْن " بثلاث ياءات فإن جمعت قلت: " هَؤُلاَءِ مُسْتَحْيُونَ "، بياء واحدة في الرفع. وفي
ومن العرب من يحذف إحدى الياءين في الفعل / فيقول: " يَسْتَحِي "، فيلقي حركة الياء الأولى على الحاء، فيكسرها ويحذف الياء لالتقاء الساكنين.
وقوله: ﴿أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾.
معناه: إن الله جَلَّ ذكره لما ضرب المثل بالصيب وبالذي استوقد ناراً، قال المنافقون: " الله أعظم من أن يضرب مثلاً بهذا "، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ الآية.
قال الربيع: " هو مثل ضربه الله للدنيا، وذلك أن البعوضة تَحْيَا ما جاعت، فإذا شبعت ماتت، فكذلك الكافر إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله، كما قال: {فَلَمَّا نَسُواْ
وقال قتادة: " معناه إن الله لا يستحيي أن يذكر شيئاً من الحق قَلَّ أوْ كَثُرَ ".
وقيل: إن هذا المثل مردود على " ما " في غير هذه السورة، وذلك أن الله جَلَّ ذكره لما ضرب المثل بالعنكبوت والذباب تكلموا وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلاً، كما حكى الله تعالى عنهم فأنزل الله ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ الآية.
واختار الطبري أن يكون مردوداً على إنكارهم للأمثال في هذه السورة دون غيرها.
وقوله: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾.
" ما " و " ذا " اسم واحد للاستفهام في موضع نصب بـ " أراد " تقديره: أي شيء أراد الله.
﴿مَثَلاً﴾: نصب على التفسير.
ويجوز أن [تكون " ما "] استفهاماً في موضع رفع بالابتداء.
و" ذا " بمعنى " الذي "، " وهو " الخبر وصلته ما بعده. وأراد " واقع على هاء محذوفة، أي
ومعنى ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي دونها في الصغر.
وقيل: معناه: فما أكبر منها، وهو اختيار الطبري، لأن البعوضة متناهية في الصغر، وإن كان ثم ما هو أصغر منها.
قوله: ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾.
أي يعلمون أن هذا المثل حق.
قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾.
أي يضل بهذا المثل خلقاً كثيراً، وهذا من قول المنافقين.
وقيل: هو من قول الله جَلَّ ذكره، ودَلَّ عليه قوله: ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾، وهذا لا يكون من قول المنافقين لأنهم لا يقرون أن هذا المثل / يهدى به أحد، فهو من قول الله بلا اختلاف. وكذلك قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ هو من قول الله؛ إذ لا يجوز أن يكون من قول المنافقين، لأنهم قد ضلوا به، ولا يقرون على أنفسهم بالفسق. فكذلك يجب أن يكون الذي قبله. / ويدل على أنه كله من قول الله تعالى / قوله في
فقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ يعني به مثل ما قالوا في سورة البقرة، كذلك قالوا في هذا.
وقال القتبي: " لما ضرب الله المثل بالعنكبوت والذبابة، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق بالله، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾ / الآية، فقالت اليهود: ماذا أراد الله بمثل ينكره الناس، فيضل به فريقاً، ويهدي به فريقاً، فقال الله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾.
فذكر الضلال والهدى في هذا القول من قول اليهود حكاه الله لنا عنهم. وأصل الفسق الخروج عن الشيء؛ يقال: " فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ " إذا خرجت عن قشرها.
وقوله: ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه﴾.
العهد هاهنا، هو ما أخذه الله عليهم إذ أخرجهم من ظهر آدم وبنيه
وقيل: العهد هاهنا هو ما أخذه الله على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بمحمد ﷺ ودليله قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: ٨١].
قوله: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾.
معناه: يقطعون أمر دينه لئلا يتبع فيوصل الإيمان به.
وقيل: معناه: يقطعون الرحم والقرابة التي بينهم وبين النبي ﷺ وأصحابه، لأنهم إذا كذبوه فقد قطعوه. فَ " أَنْ " في موضع خفض على البدل من الهاء في " به " أو في موضع نصب على البدل من " ما " أو على أنه مفعول من أجله.
قوله: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾.
الفساد في الأرض في هذا الموضع عبادة غير الله تعالى: [وهي أعظم الفساد].
وقوله: ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾.
وقيل: معنى " الخاسرين " الهالكون.
قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ الآية.
أي من أين يتجه لكم الكفر بالله مع نعمه عليكم إذ كنتم أمواتاً فأحياكم. أي لم تكونوا شيئاً فأوجدكم.
وفي " كيْفَ " معنى التعجب من فعلهم وليست باستفهام، ولكنها توبيخ / وتعجب.
والعرب تسمي الشيء الممتنع ميتاً؛ يقولون: " هَذَا أَمْرٌ مَيِّتٌ " إذا كان ممتنعاً.
وقيل: معناه كنتم تراباً، يعني به آدم ﷺ فجعلكم ذوي حياة.
وقيل: معناه فأحياكم يعني في القبر للمساءلة ثم يميتكم في القبر بعد
ويكون " تكفرون " بمعنى في موضع " كفرتم " وفيه بعد. و " قد " مضمرة مع " كنتم " لأنه حال مما قبله.
وقيل: المعنى أنهم كانوا أمواتاً في أصلاب الآباء ثم أحياهم في الأرحام، ثم يميتهم في الدنيا عند انقضاء آجالهم، ثم يحييهم يوم القيامة.
وقيل: المعنى أنه أحياهم إذ أخرجهم من ظهر آدم لأخذ الميثاق، وقد كانوا أمواتاً لا حياة فيهم.
وقيل: أيضاً: الموتة الأولى هي موتة النطفة في وقت خروجها من الرجل إلى الرحم لأن كل ما في الحي فهو حي حتى [يفارقه فيكون] في عداد الأموات،
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " أماته ثم أحياه في قبره - يعني لِلْمُسَاءَلَةِ - ثم أماته، ثم أحياه يوم القيامة ". وهذا قول قد تقدم نظيره.
وقال ابن مسعود: " هي مثل قوله: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين﴾ [غافر: ١١] ".
وسترى تفسير هذا في موضعه.
وقد قيل: إن معنى الآية: وكنتم أمواتَ الذِّكْرِ، فأحياكم حتى ذكرتم، ثم يميتكم، أي يردكم رفاتاً لا تذكرون، ثم يحييكم للحساب والجزاء فتذكرون.
وهو مروي / عن ابن عباس. وهو اختيار الطبري.
والهاء في ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ تعود على الله تعالى.
وقيل: تعود على الأحياء للخلود في الجنة، أو في النار، أي ثم إلى الأحياء
قوله: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾.
معناه: أقبل عليها. تقول العرب: " فلان مقبل على فلان، ثم استوى إليَّ يمشي "، أي أقبل إليّ.
وقيل: معناه / تحول أمره وفعله إلى السماء.
وقال القتبي: " استوى، عمد إليها ".
وقال ابن كيسان: " استوى قصد ".
قال غيره: " معناه قصد إلى خلقها بالإرادة لا بالانتقال ".
يقال: " لما استويت إلى موضع كذا، ظهر لي كذا "، / أي لما قصدت بإرادتي إلى أمر كذا، ظهر لي كذا.
وقيل: استوى: استولى. تقول العرب: " استوى فلان على المملكة ". أي استولى عليها واحتوى عليها.
فإنما دخلت " ثمَّ " في قوله: ﴿ثُمَّ استوى﴾ بمعنى القصد لخلق ما أراد أن يخلق على ما تقدم في علمه قبل، بلا أمد.
والهاء في ﴿فسواهن﴾ تعود على السماء لأنها جمع سماوة.
وقيل: السماء تدل على الجمع.
وقيل: لما كانت السماء واسعة الأقطار، يقع على كل قطر منها اسم سماء جمع على هذا المعنى. والمعنى فَسَوَّى منهن سبع سماوات.
﴿خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ [فصلت: ٩ - ١٠]- يعني اليومين الأولين والآخرين -، ثم قال:
وقال مجاهد: " خلق الله الأرض قبل السماء، فثار منها دخان، فخلق منه السماوات ". وقد ذكر الله خلق الأرض قبل السماء في سورة السجدة، ثم ذكر في " والنازعات " دحو الأرض بعد السماء، فقال: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠]، فقال ابن عباس في معنى ذلك: " إنه تعالى خلق الأرض بأقواتها قبل السماء غير أنه لم يدحها، ثم خلق السماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك ".
وقال ابن سلام: " بدأ الله الخلق يوم الأحد /، فخلق الأرضين يوم الأحد
قال أبو محمد: ولو شاء تعالى ذكره لخلق ذلك كله في أقل من طرف عين، يفعل ما يشاء لا إله إلا هو، لا معقب لحكمه.
قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ /.
أي عليم بكل شيء قبل خلقه له، وقبل حدوثه، لا أنه علم محدث مع حدوث المعلومات تعالى عن ذلك، قد علم المعلومات كلها قبل حدوثها وكونها.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة﴾.
معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك.
وقيل: معناه: ابتدأ خلقكم ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة﴾ لأنه ذكر معنى ذلك قبل / هذا فقال: ﴿الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] أي خلقكم إذ قال ربك. ودخلت الواو في " إذ " عطفاً على ما قبلها لأنه تعالى ذكر خلقه نعمه في إحيائهم بعد الموت، وأنه [خلق لهم] ما في الأرض جميعاً، وسوى لهم السماوات وغير ذلك من نعمه فعدد على خلقه نعمه. ثم قال: واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة اسجدوا له
وقوله: ﴿للملائكة﴾، اختلف في اشتقاق " ملك " وتقديره ومعناه.
فقيل: واحدها مَلَكٌ، وأصله " ملأك " على وزن " مَفْعَل "، والهمزة بعد اللام وهي عين الفعل فجمع على الأصل على مفاعل، فقيل: " مَلائِكٌ " وزيدت الهاء للمبالغة. وقيل لتأنيت الصيغة.
وقال ابن كيسان: " هو مشتق من " ملكت "، والهمزة في " مَلأْك " زائدة كزيادتها في شَمْأَلٍ، إذ هو من " شملت الريح " أي عمت ".
وقيل: هو مشتق من المَلأَكَةِ وهي الرسالة أيضاً حكاها أبو عبيد، يقال: " لأَكَ إِليهِ يَلأَكُ مَلأَكَةً " إذا أرسل إليه رسالة.
ويقال في لغة أخرى: " أَلَكَْتُ إِلَيْهِ أَألْكُ مَأْلَكَةً " إذا أرسلت.
فعلى / القول الأول من هذين القولين يكون " مَلَكٌ " مخفف الهمزة، ألقيت حركة الهمزة على اللام وأصله " مَلأَكٌ "، وجمعه " مَلاَئِكَةٌ ". والهمزة عين الفعل ولا قلب فيه، إنما فيه في الواحد تخفيف الهمزة [بنقل
وعلى القول الثاني يكون " مَلأَكٌ " مقلوباً وأصله: " مَأْلَكٌ "، والهمزة فاء الفعل، ثم قلبت الهمزة، فصارت بعد اللام، ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام قبلها كالأول فصار ملكاً، فجمع على قلبه، ولم يرده الجمع إلى أصله لقلة استعماله بالهمز في الواحد. ولو جمع على أصله لقال: " مَآلِكَة "، ولكن لم يسمع جمعه على الأصل.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾.
معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم.
وقيل: معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلفون من كان فيها ممن هلك، وذلك أن أهل التفسير ذكروا أنه روي أن الأرض كان فيها خلق من الجن فأفسدوا فيها فأهلكهم الله. والهاء في " خليفة " للمبالغة.
وقيل: دخلت لأنه بمعنى داهية في المدح والذم، بمعنى بهيمة. قاله الفراء.
وقيل: الهاء / [لتأنيث الصيغة]، وهي بمعنى فاعلة على هذا القول كرحيم بمعنى راحم. وعلى القول الأول يكون خليفة: فعيلة، بمعنى مفعولة أي مخلوقة؛
ومعنى " جاعل " خالق ومستخلف.
قال ابن عباس: " أخرج الله آدم ﷺ من الجنة قبل أن يخلقه، وقرأ ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾. يريد أنه [قدَّر ذلك وعلمه وشاءه] قبل أن يخلق آدم.
قوله: ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ الآية.
روى كثير من المفسرين أن الملائكة علمت بفساد من سكن الأرض من الجن وسفكهم للدماء، فقالوا على طريق الاسترشاد وطلب الفائدة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ﴾؛ أي أيكونون مثل أولئك الذين أفسدوا؟، فسألوا مسترشدين لا منكرين، إذ لا علم عندهم بما يكون من أمر الخليفة التي أعلمهم الله أنه خالقها.
وقيل: إنهم قالوا ذلك / على طريق التعجب كما تقول العرب " أتحسن إلى فلان وهو يسيء إليك! ".
[قيل: قالوا] ذلك على التعجب مما أعلمهم الله به من إفساد ذرية الخليفة في الأرض وسفكهم للدماء.
والله أعلم بأي ذلك كان.
فالألف في ﴿أَتَجْعَلُ﴾ لفظها لفظ الاستفهام ومعناها الاسترشاد أو التعجب على قول من رأى ذلك على ما ذكرنا.
وعن ابن عباس أنه قال: " كان إبليس من / حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن وهم من الملائكة. خلق الله ذلك الحي من نار السموم، وخلق سائر الملائكة غير هذا الحي
فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة. فقالت الملائكة غير إبليس وحيه: أتجعل فيها من يفسد فيها كأولئك، على طريق الاسترشاد. أي هل يكونون مثل أولئك المفسدين أو يكونون مصلحين ".
وقيل: " قالوا ذلك على طريق التعجب، فقال الله لهم: ﴿إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، أي إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا أنتم عليه. فخلق آدم ﷺ من طين لازب، واللازب اللزج الملتصق من الحمأ المسنون، والمسنون ذو الرائحة صار حمأ
قال المفسرون: عَلَّمه اسم كل شيء حتى الضرطة. وقال الله للملائكة - جند إبليس -: أنبئوني بأسماء هؤلاء: فقالوا لا علم لنا. فقال يا آدم: أنبئهم بأسمائهم، فأنبأهم آدم بأسمائهم.
وقيل: إنما عني بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة﴾ الملائكة الذين كانوا في الأرض بعد هلاك من كان فيها دون غيرهم من ملائكة السماوات. والله أعلم بأي ذلك كان، واللفظ على عمومه حتى [يأتي دليل تخصيصه].
قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٣].
معناه: أعلم ما أسر إبليس في نفسه من الكِبَرِ والعزة. وهذا التأويل يدل على أن الخطاب الذي تقدم في قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ إنما كان من هذا / النوع من الملائكة الذين حضروا مع إبليس قتال المفسدين في الأرض دون غيرهم من الملائكة. وهو قول الطبري.
وهو من الاستجنان؛ وهو الاستتار. وإنما سميت الجنة جنة لأنها تَجن مَنْ دَخَلَها؛ أي تستره بشجرها وثمارها وعروشها.
وروي عنه أيضاً أنه قال: " إن إبليس كان ملك سماء الدنيا، وكان خازناً للجنة مع ذلك. فلما تمكن دخله العجب والكبر، وقال: لم أُعط هذا إلا ولي مزية على الملائكة. فاطلع الله على ما في سرِّه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، فسألت الملائكة عن الخليفة فقال: تفسد ذريته في الأرض فتعجبوا وقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء﴾. فبعث الله جبريل ليأخذ من طين الأرض، فاستعاذت منه فرجع ولم يأخذ شيئاً إجلالاً لحق من استعاذت به، ثم بعث الله ميكائيل فاستعاذت، فرجع ولم يأخذ شيئاً. فبعث الله ملك الموت فاستعاذت منه، فاستعاذ هو منها، وأخذ ما أراد من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك بنو آدم مختلفو الألوان ".
وهذه الرواية تدل على أن المخاطبين المأمورين بالسجود لآدم ﷺ هم الملائكة كلهم، وهو ظاهر القرآن.
وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: ﴿إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أعلم أنه سيكون من ذرية آدم أنبياء ورسل وصالحون وعباد وأخيار وساكنو الجنة.
قوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾.
معناه: نعظمك بالحمد والشكر.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِنَّ للهِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْع / مَلاَئِكَةً يُصَلُّونَ، وإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله: مَا صَلاتُهُمْ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئاً، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: يا نَبيَّ الله: سَأَلَكَ عُمَرُ عَنْ صَلاَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ. قَالَ: نَعَمْ، فَقال لهُ: أَقْرِئْ عَلَى عُمَرَ السَّلامَ وأخْبِرْهُ أنَّ أَهْلَ السَّماءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ. وإنَّ أهْلَ السَّماءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذي العِزَّةِ وَالجَبَرُوتِ، وأَهْلِ السَّماءِ الثَّالثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ".
وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه والتبرئة له سبحانه من إضافة ما ليس من
وقوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾.
أصل التقديس التطهير. ومعناه نطهر أنفسنا لك.
وقيل: التقديس الصلاة.
وروي ذلك عن قتادة. وروي عن أبي صالح: " ونقدس لك، نعظمك ونمجدك.
قوله: ﴿إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾. قد تقدم بيانه.
وقد قيل فيه: إن معناه إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه، إني علمت ما أضمر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم ﷺ [ ومن] عداوته له ولذريته.
وقيل: معناه إني عليم من آدم المعصية ثم التوبة عليه / وإهباطه إلى
وروي أن إبليس اللعين لما رأى صورة آدم وحسنها قال للملائكة: إني أرى صورة مخلوق يكون له نبأ. أرأيتكم إن فضل عليكم ماذا تفعلون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا، ونفعل الذي يأمرنا به. فهذا قوله: ﴿مَا تُبْدُونَ﴾.
وقال إبليس في نفسه: " لئن فُضِّل علَيّ لا أطيعه، ولئن فُضِّلتُ عليه لأهلكنَّه، وهذا قوله: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، فلما نفخ الله تعالى / في آدم ﷺ الروح جلس فعطس، فقال آدم: الحمد لله رب العالمين فكان ذلك أول ما تكلم به آدم / عليه السلام فردَّ الله عليه: يرحمك الله لهذا خلقتك "، فهو قوله: ﴿ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ [هود: ١١٩]، أي للرحمة خلقهم.
وقال مجاهد: " علم الله من إبليس المعصية وخلقه لها ".
تم الجزء [الأول]
اختلف في اشتقاق آدم؛ فقال فيه ابن عباس: " سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ".
وقال قطرب: " آدم أفعل من الأدمة ". وقيل هو أفعل من " أدمت بين الشيئين " أي خلطتهما.
وقال الطبري: " هو فعل ماض رباعي سمي به الشخص ".
وقال قطرب: " من قال هو من أديم الأرض، يلزمه صرفه لأنه فاعل ".
وذكر النحاس أنه أفعل من أديم الأرض وأدمتها، وهو ظاهر وجهها، ومنه سمي الإدام لأنه وجه الطعام وأعلاه والعرب تسمي الجلد الظاهر أدمة، والباطن بشرة.
وحكي عن الأصمعي أن باطنه الأدمة وظاهره البشرة، وهو أولى من
قوله: ﴿الأسمآء﴾. قيل: " وعلمه أسماء كل شيء حتى القصعة والفسوة ". قاله قتادة.
وقيل: " علمه أسماء الملائكة خاصة " قاله الربيع بن خثيم.
قال مجاهد: " علمه الله اسم كل شيء: هذا جبل، هذا بحر، هذا كذا، هذا كذا، لكل الأشياء ".
قال ابن جبير: " علمه اسم كل شيء حتى البعير والبقرة والشاة ".
قال عكرمة: " علمه اسم الغراب والحمامة وكل شيء ".
وقال غيرهم: " علمه أسماء الأجناس والأنواع ".
واختار الطبري أن يكون علمه أسماء ذريته والملائكة لقوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ ولم يقل " عرضها " ولا " عرضهن " / الذي هو لما لا يعقل.
وقيل: علمه اسم كل شيء ومنفعته ولماذا يصلح.
وقال القتبي: " علمه أسماء ما خلق في الأرض ".
وفي قراءة أُبي: " ثُمَّ عَرَضَها "، " يريد عرض الأسماء ".
وقوله " عَرَضَها " ولم يقل " عرضهم " يدل على أن الاسم هو المسمى، وهو مذهب أهل السنة. وفي قراءة عبد الله " ثُمّ عَرَضَهُنَّ " على التأنيث لما لا يعقل من الموات والأجناس.
وقال ابن عباس: " إنما عرض الأسماء على الملائكة ".
وعن ابن مسعود: " أنه إنما عرض الخلق ".
قال مجاهد: " عرض أصحاب الأسماء على الملائكة ".
وقال ابن زيد: " عرض أسماء ذريته كلها، أخذهم من ظهره، ثم عرضهم على الملائكة ".
وقال ابن الأنباري: الهاء في " كلها " تعود على / الأسماء، والهاء في " عَرَضَهم " تعود على الأشخاص.
والهاء في " أنبِئهم " وفي " بأسمائهم "، وفي " أنبأهم " وفي " بأسمائهم " كلها تعود على الملائكة على قول من قال: إن الله تعالى علمه أسماء الملائكة، ويعود على الأشخاص على القول الآخر.
قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ صادقين﴾.
جوابه عند المبرد محذوف، معناه: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في
قوله: ﴿إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات﴾.
هو ما غاب عن الملائكة مما سبق في علمه مما ذَكَرَهُ في كتابه: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣].
قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾. هو قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾.
و ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾: هو ما أضْمَر إبليس في نفسه من الكبر والعز. روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة والتابعين.
وقال سفيان: " ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ هو ما أسر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم [والكبر] ".
وقال قتادة: " كتمانهم هو قولهم فيما بينهم: يخلق الله ما يشاء، فلن يخلق خلقاً إلا ونحن أكرم منه ".
وعن ابن عباس " أنه عام فيما يظهرون وما يكتمون ".
وإبليس إفعيل من " أبلس " إذا يئس كأنه يئس من الرحمة، لم يصرف لقلة.
وقيل: هو أعجمي، ولذلك لم يصرف في المعرفة.
قال أبو عبيد: " لم يصرف لأنه لا نظير له في الأسماء "، وهو عنده " فِعْلِيل " أو " إِفْعِيل ".
قوله: (أَبَى): أتى مستقبله على " يفعل " على التشبيه بِ " قرأ، يقرأ "، لأن الهمزة تبدل منها الألف، وهي من حروف الحلق / مثلها.
وقالوا: " جبى، يجبي " من الجباية بالفتح، " وقلى يقلى " بالفتح على التشبيه أيضاً.
وإبليس [في قول] ابن عباس: كان من حي من أحياء يقال لهم الجن، خلقوا
وروي عنه أيضاً أنه قال: " كان إبليس من الملائكة واسمه عزرائيل، وكان من سكان الأرض وكان شديد العبادة وواسع العلم، فدعاه ذلك إلى الكبر ".
وإنما سمي من الجن لأنه كان خازناً للجنة، فكأنه منسوب إليها، كما تقول: مكي وبصري وشامي.
وقيل: سمي من الجن لأنه لا يرى، كما سمى الله الملائكة جناً، فقال: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ [الصافات: ١٥٨]. وأصله كله الاستتار.
وقال شهر بن حوشب: " كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض / حين أفسدوا فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء ". وهذا
وقال / سعد بن مسعود: " سما إبليس من الأرض وهو صغير، فكان مع الملائكة فتعبد، فلما أمر بالسجود لآدم امتنع فذلك قوله
﴿كَانَ مِنَ الجن﴾ [الكهف: ٥٠].
وقال ابن زيد: " إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس ".
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله خلق خلقاً فقال: " اسجدوا لآدم فأبوا فأحرقهم، ثم [خلقَ خَلقاً] آخر فأبوا فأحرقهم ثم خلق هؤلاء فسجدوا إلا إبليس كان من أولئك الذين أبو السجود لآدم ".
والسجود الذي أمروا به إنما هو على جهة التحية، لا على جهة العبادة.
وقيل: أمروا بذلك إكراماً له.
وقيل: معناه: اسجدوا إليه كما يسجد إلى الكعبة فجعل قبلة إكراماً له.
قوله: ﴿رَغَداً﴾ إلى قوله: ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾.
قوله: ﴿رَغَداً﴾ أي واسعاً. وقيل: هنيئاً.
وقال مجاهد: " رغداً لا حساب عليهما فيه "، وهو من السعة في المعيشة.
قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه: " الشجرة شجرة العلم، فيها أنواع
وعن ابن جريج أنه قال: " هي التينة ".
وعن ابن عباس أيضاً وأبي مالك: " الشجرة السنبلة لكن الحبة منها ككلى البقر ألين من الزبد وأحلى من العسل ".
وروى عن ابن مسعود أنها الكرمة. وذكر ذلك أيضاً عن ابن عباس، وعليه أكثر المفسرين، ولذلك حرم الله الخمر في قول بعضهم.
قال / أبو هريرة: " هي العنبة نهي آدم عنها، وجعلت فتنة لولده من بعده ".
قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾.
أي استزلهما، ومن قرأ: (فَأَزَالَهُمَا) وهو حمزة فمعناه نحّاهُما.
والهاء في " عَنْها " تعود على الشجرة، يعني حسدهما إبليس اللعين على ما كانا فيه، فاستزلهما وتكبر عن السجود لآدم ﷺ.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: " بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح: حسد إبليس وتكبر على آدم، وشح آدم، فقيل له: كُلْ من شجر الجنة إلا التي نهى / عنها فشح فأكل منها ".
قال وهب بن منبه: " لما أراد إبليس من آدم عليه السلام ما أراد دخل في جوف الحية، وكان لها أربع قوائم كالبختية، فدخلت الجنة، وخرج إبليس إلى الشجرة وأخذ منها، وجاء إلى حواء فقال لها: انظري ما أطيب هذه الشجرة وأحلاها وأحسن ريحها.
وقال ابن عباس: " أتى إبليس اللعين ليدخل على آدم ﷺ / فمنعته الخزنة فقال للحية وهي كأحسن الدواب: أدخليني في فقمك، أي في جانب فمك، حتى أدخل الجنة ففعلت ومرت بالملائكة وهم لا يعلمون ما صنعت، فخرج إلى آدم /
وروي أنهما لما أكلا من الشجرة سقط عنهما لباسهما وهو النور الذي كان ألبسهما الله إياهما، فهرب آدم من ربه تعالى مستتراً بورق الجنة، فناداه ربه: أفراراً مني يا آدم؟ قال: بل حياء منك يا رب. ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً، فقال له الله جل ذكره: أما خلقتك بيدي؟ أما أسجدت لك ملائكتي؟ أما نفخت فيك من روحي؟ أما أسكنتك في جواري؟ فَلِمَ عصيتني؟ أخرج من جواري، فلا يجاورني من عصاني، فقال آدم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله أنت رب، عملتُ
قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " لَمْ يَحْزَنْ حُزْنَ آدَمَ أَحَدٌ قَطْ؛ بَكَى أرْبَعينَ عاماً، وسَجَدَ أرْبَعينَ عاماً تائِباً حَتَّى قَبِل اللهُ مِنْهُ ".
وقال الحسن: " بكى آدم عليه السلام على الجنة ثلاثمائة ".
وقال ابن زيد: " لو أن بكاء داود وبكاء جميع أهل الأرض عدل ببكاء آدم على الجنة ما عدله ".
وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل،
وقال جماعة من أهل التأويل: " لم يدخل إبليس الجنة وإنما وسوس إليه شيطانه الذي جعله الله ليبتلي به آدم وذريته ويأتي ابن آدم في يقظته ونومه، وعلى كل حال. وقد قال تعالى:
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان﴾ [الأعراف: ٢٠]، وقال: ﴿يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة﴾ [الأعراف: ٢٧] فأخبرنا أن الذي أخرج أبانا هو الذي يوسوس في صدورنا ".
وعن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إنّ الشّيْطانَ يَجْري مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم ".
قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾.
يعني آدم وحواء / والحية / وإبليس. فنزل إبليس أولاً نحو الأبُلَّة في المشرق،
وروي أنه لما خرج آدم إلى شقاء الدنيا أتاه جبريل عليه السلام فعلمه كيف يحرث فحرث، ثم زرع، ثم حصد، ثم درس، ثم خبز ثم أكل، فلما عرض له الخلاء جاء وذهب وتردد، وهو لا يدري ما حدث به ولا ما يصنع، فقعد وتعصر فخرج منه الحدَث مُنتِنا، فقال: يا رب ما هذا النتن؟ فقال: هذه ريح خطيئتك ".
قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ﴾.
أي قرار إلى حين، وقيل: / القرار في القبور، وروي ذلك عن ابن عباس. قوله: ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾، أي إلى الموت.
وقيل: إلى قيام الساعة فتخرجون من القبور.
وقيل ﴿إلى حِينٍ﴾: إلى أجل قد علمه تعالى.
وقال أبو موسى الأشعري: " إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، علمه صنعة كل شيء، وزوَّده من ثمار الجنة، فثمركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه
قوله: ﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات﴾. أي أخذها وقبلها.
وقيل: ألهمها فانتفع بها إذا رفعت، ومَن نصب " آدم " فمعناه أن الكلمات رحمة من ربه أدركتْه قاستنقذته.
فالكلمات فيما روي عن ابن عباس [قول آدم]: أي رب: ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، ثم قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. ثم قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ / قال: بلى، ثم قال: أي رب. أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. فذلك تَلَقّيه ".
وزاد قتادة أنه قال: " وسبقت رحمتك إلي قبل غضبك، قيل له: بلى. قال: رب هل كتبت هذا علي قبل أن تخلقني؟ قيل له: نعم. قال / رب إن تبت
وقال الحسن: " هو قولهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ الآية ".
وقال قتادة: " هي قول آدم عليه السلام: يا رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذاً أدخلك الجنة ".
وقال عبيد بن عمير: " قال آدم: يا رب خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني؟ [أو شيء أنا ابتدعته] من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفرْهُ لي، فذلك الذي تلقى آدم ".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن معاوية: " قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فذلك
وروي عنه أنه قال: " هو قول آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ الآية ".
وروى عنه ابن جريج أنه قال: " هي قول آدم: رب أتتوب عَلَيَّ إن تبت؟ قال: نعم. فتاب عليه ربه ".
روي أن آدم رأى كَلِماً في الجنة مكتوب: لا إله إلا الله محمد عبدي ورسولي، فعلم آدم أن محمداً ﷺ أكرم الخلق عليه، فقال حين أخطأ: اللهم بحق
وكانت كنيته أبا محمد، وقيل: أبا البشر. فذلك قوله: ﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات﴾.
قال ابن عباس: / " تاب الله على آدم يوم عاشوراء ".
قوله: ﴿قُلْنَا اهبطوا﴾.
يريد آدم وإبليس وذرية آدم.
وقيل: آدم وإبليس وحواء والحية.
وقيل: آدم وحواء فقط، وجمعا كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع لشرفه.
قال مجاهد: " أهبط آدم بأرض الهند فحج البيت على قدميه أربعين حجة، فقيل له: ولم تكن معه دابة تحمله؟ فقال: وأي دابة تطيقه؟ كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام، وموضع قدميه كالقرية ".
روى ابن وهب عن مالك أنه قال: " إن آدم لما أهبط إلى الأرض بالسند والهند، قال: يا رب أهذه أحب الأرض إليك أن نعبدك فيها؟ فقال: بل مكة، فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيْت، ويعبدون الله،
قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾.
أي رسل وأنبياء مخاطبة لذرية آدم.
وقيل: هُدى بيان من أمري.
وقيل: الهدى محمد ﷺ.
﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ أي من أطاعه وآمن به فلا خوف عليه في الآخرة.
وبنو إسرائيل هم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ﷺ. و " إسرا ": بمعنى عبد. و " إيل ": هو الله [ تعالى] بالعبرانية، وهو مخاطبة لبني قريظة والنضير ثم عام في جميع بني إسرائيل.
قوله: ﴿نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾.
" هو أن جعلت منكم الرسل / والأنبياء، وأنزلت عليكم الكتاب ". قال ذلك أبو العالية.
وقال ابن زيد: " نعمته الإسلام، ولا نعمة أعظم منها، وما سِواها تبع لها ".
قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾.
العهد هنا عن قتادة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً﴾ [المائدة: ١٢]. من كل سبط شاهد على سبطه، إلى قوله: ﴿الأنهار﴾ [المائدة: ١٢].
وعن ابن عباس: " هو ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل من التصديق بمحمد ﷺ وطاعته واتباع أمره ".
﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾: الجنة والتجاوز عن الصغائر.
واختيار الطبري أن يكون هو ما أخذ عليهم في التوراة من أن
وروي أن في التوراة: " هو أحمد الضحوك القتول يركب البعير ويلبس الشمْلة ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه ".
ومعنى ﴿فارهبون﴾ أي خافون واخشوني أن أنزل بكم ما أنزلت بمن / كان قبلكم من النقمات.
قوله: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾.
أي هذا القرآن يصدق التوراة والإنجيل لأن فيها الأمر باتباع / محمد ﷺ، وكذلك في القرآن. فمن لم يتبعه فقد كفر بالجميع؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وكذلك حكى الله عنهم، فإذا جحدوا به فقد جحدوا ما هو مكتوب عندهم، ومَن جحَد حرفاً واحداً من كتاب الله فهو جاحد للجميع.
قوله: ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾.
أي أول من كفر. وقيل: أول فريق كافر.
وقيل: معناه: [ولا تكونوا] أول من كفر به من أهل الكتاب؛ يريد قريظة والنضير خاصة، لأنه قد كفر به المشركون قبل ذلك / بمكة، وليس نهيه أن تكونوا أول كافر يبيح لهم أن يكونوا ثانياً أو ثالثاً فما بعده، لأن النهي عن الشيء لا يكون دليلاً على إباحة أضداده. وذلك في الأمر جائز، يكون الأمر بالشيء دليلاً عن النهي عن أضداده.
والهاء في " به " تعود على محمد ﷺ.
وقيل: على كتابهم لأنهم إذا كفروا بمحمد ﷺ، فقد كفروا بكتابهم.
وقيل: الهاء تعود على القرآن لأنه جرى ذكره في أول الآية، ولم يجر ذكر محمد ﷺ ولا التوراة والإنجيل باللفظ، ولكن جرى ذلك بالمعنى في قوله: ﴿لِّمَا مَعَكُمْ﴾.
قوله: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
كان لأشراف اليهود مأكلة يأكلونها من أموال الناس كل عام على الدين فخشوا أن يؤمنوا فتذهب مأكلتهم.
قوله: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾.
أي: [لا تخلطوا الحق بالباطل، وهو إظهار] المنافق الإيمان بلسانه وجحوده بقلبه. وقيل: هو قول بعض اليهود: " محمد نبي مرسل مبعوث إلا أنه لم يبعث إلينا "، / فيقرون ثم يجحدون.
وقال مجاهد: " لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ".
وقال ابن زيد: " الحق التوراة، والباطل [ما كتبوه وغيروه] بأيديهم ".
أي تكتمون أمر محمد وأنتم تعلمون أنه نبي مبعوث ﷺ إلى الخلق كافة، تجدونه مكتوباً عندكم كذلك في التوراة والإنجيل.
قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾.
إنما أمروا بهذا لأنهم كانوا يأمرون الناس به ولا يفعلونه، دل عليه قوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تتركون أنفسكم ".
والزكاة النماء والزيادة. سميت بذلك لأنها تنمي المال وتثمره.
وروى أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رجالاً تُقْرضُ شِفاهُهُمْ بِمَقَاريضَ مِنْ نارٍ، فَقُلْتُ: يا جِبْريلَ مَنْ هَؤُلاءِ؟ فقالَ: هؤلاءِ خُطَباءٌ يأْمرونَ النّاسَ بالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ".
وقيل: كانوا ينهون الناس عن الكفر بشيء من التوراة والإنجيل ويقولون: تمسكوا بما فيهما، وهم يكفرون بما يجدونه فيهما من أمر محمد ﷺ وينقضون ما
وقيل: إنهم كانوا يخبرون الأنصار بصفة محمد ﷺ، ويأمرونهم بالإيمان به، وهم يؤمنون به قبل مبعثه، فلما بعث آمنت به الأنصار، وكفرت به اليهود.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
أي أفلا تعقلون / أن وبال ذلك راجع عليكم.
وأصل العقل المنع. يقال: " عَقَلْتُ نَفْسي عَنْ كَذا " أي مَنَعْتُها، " وَعَقَلْتُ البَعيرَ " إذا ربَطْتَهُ "، وعَقَلْتُ عَنِ الرّجُلِ " إذا لَزِمَتْهُ دِيَّةً فَأَعْطَيْتَها عَنْهُ. فهذا فرق بين عَقَلْتُهُ و " عَقَلْتُ عَنْهُ ".
قوله: ﴿بالصبر والصلاة﴾.
الصبر الصيام. وأصل الصيام الحبس.
وقيل: معناه اصبروا على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل.
وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: " معناه بالصبر على أداء الفرائض،
وقال مقاتل: " معناه استعينوا بهما على طلب الآخرة ".
وقال مجاهد وغيره: " الصبر الصوم ".
وقيل: معناه: أصبروا أنفسكم عن المعاصي، أي أحبسوها.
وذكر الصلاة ها هنا لما فيها من الذكر والخشوع. وكان رسول الله [ ﷺ] " إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَزَعَ إِلى الصَّلاةِ " وقال الله: ﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥] فهي مما / يستعان بها على / ترك المعاصي وفعل الخير / كله.
وكان ابن عباس إذا أصيب بمصيبة توضأ، وصلى ركعتين ثم قال: " اللهم قد فعلنا ما أمرتَنا فأنجز لنا ما وعدتَنا ".
وقال أبو العالية: " معناه واستعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، فإنهما من
قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾.
إنما وُحِّد، وأتى بضمير الصلاة لأن المعنى قد عرف، وكانت الصلاة أولى لقربها و " لجمعها الخير "، ولأنها أقرب إلى الضمير.
وقيل: المعنى: وإن إجابة محمد ﷺ لكبيرة، فالهاء تعود على إجابته / لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ويأمر به.
ومعنى " كبيرة " ثقيلة شديدة، إلا على الخاشعين وإلا على الذين هدى الله.
والخاشع الخائف من الله. وأصله التواضع، والتذلل، والاستكانة.
وقيل: الهاء في " إنها " تعود على تولية الكعبة.
وقيل: تعود على الاستعانة ودل عليه " استعينوا ".
قوله: ﴿عَلَى العالمين﴾.
قوله: ﴿يَظُنُّونَ﴾. معناه: يوقنون.
والهاء في " إليه " تعود على اللقاء.
وقيل: على الله جل ذكره.
قوله: ﴿لاَّ تَجْزِي﴾.
أي لا تقضي، " جزى عني الشيء "، قضى، و " أجزأني، كفاني، مهموز.
وقيل: هما بمعنى واحد. وأصل الجزاء القضاء والتعويض.
قوله: ﴿نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ﴾.
أي لا تقضي ولا تغني. وهي خاصة لقول النبي [عليه السلام]: " شَفاعَتي لأَهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتِي ".
ولقوله: " لَيْسَ مِنْ نَبِيّ، إلاّ وقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وإِنّي اخْتَبأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً
فألفاظ الآية عامة، ومعناها الخصوص، هي في الكفار خاصة، وفي هذه الآية رد على اليهود لأنهم زعموا أنهم لا يعذبون يوم القيامة لأنهم أبناء الأنبياء، وأن آباءهم يشفعون لهم عند الله، فرد الله ذلك عليهم في هذه الآية.
قوله: ﴿مِنْهَا عَدْلٌ﴾.
أي: فداء.
وعن ابن عباس: " عدل: بدل ".
وعن النبي ﷺ: " العَدْلُ: الفِدْيَةُ ".
وقولهم: " لا يقبل منه، صرف ولا عدل ".
وقيل: العدل: الفدية، والصرف: الحيلة. قاله ابن السكيت.
وقال المازني: " العدل: الفريضة، والصرف: النافلة ".
وروي في " العدل " الذي بمعنى الفدية كسر العين لغة.
والضمير في " ولاَّهُمْ " يعود على الكفار لأن النَّفْسَين [المذكورتين تدلان] على ذلك.
وقيل: تعود على النفسين لأنهما بمعنى الجمع لم يقصد بهما قصد نفسين بأعيانهما ولأن التثنية أول الجمع، فهي جمع.
أصله: أهله، وترجع الهاء في التصغير. وجمعه آلون.
وجمع " آل " الذي هو السراب " أَأْوالٌ " كمالٍ وأمْوالٍ.
و" آل " المختار فيه ألا يضاف إلا إلى الأسماء المشهورة نحو آل هشام وآل محمد ﷺ فإن أضفته إلى البلدان والأرضين لم يجز عند جماعة من أهل العربية واللغة / لا يقال: آل المدينة ولا آل مصر، وإنما يقال بالهاء، حكاها الكسائي.
وسمع الأخفش آل المدينة وآل مكة نادران لا يقاس عليهما.
واسم فرعون الوليد بن مصعب.
وقيل: مصعب بن الريان، وهو اسم كانت ملوك العمالقة تتسمى به. وكانت ملوك الروم تتسمى قيصراً وهِرقلاً، وملوك فارس تتسمى كسرى،
قال مجاهد: " فرعون موسى فارسي من أهل اصطخر قدم مصر فكان بها ".
قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ أي: يوردونكم. وقيل: يذيقونكم.
وقيل: يولونكم. وقيل: يصرفونكم في العذاب مرة كذا، مرة كذا.
والعذاب هنا هو استخدام القبط الرجال من بني إسرائيل وقتل الأبناء؛ روي عن ابن عباس أنه قال: " ذكر فرعون ما وعد الله خليله إبراهيم ﷺ أنه يجعل من ذريته / أنبياء ملوكاً، فأجمع رأيه مع أصحابه على أن يذبح / كل مولود ولد في بني إسرائيل ففعل ثم رأى أن الكبار يموتون بآجالهم والصغار يذبحون فخاف أن يضطر إلى أن يتولى الخدمة بنفسه ويغني الناس فأمر أن يقتل الصغار سنة ويدعوهم سنة، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا ذبح فيه، فولدته علانية، [وحملت] في العام المقبل بموسى ﷺ.
وقال السدي: " كان ذلك من فرعون لرؤيا رآها، فعُبِّرت له أن يكون من بيت المقدس مولود يكون خراب مصر على يديه. فأمر بذبح الغلمان / واستخدام الآباء تحت أيدي القبط، فأسرع الموت في مشيخة / بني إسرائيل، فدخل كبراء القبط على فرعون فقالوا له: إن هؤلاء القوم يسرع فيهم الموت فيوشك أن تبقى بغير خدمة، فأمر بذبح الذكور سنة وبتركهم سنة ".
قوله: ﴿بلاء مِّن رَّبِّكُمْ﴾.
أي نعمة إذ نجاكم مما كنتم فيه.
وقيل: معناه اختبار لكم من ربكم.
أي جعلناه اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط. ولما أتى موسى ﷺ البحر كناه أبا خالد وضربه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل العظيم.
﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾. قيل: إنهم كانوا ينظرون إلى آل فرعون يغرقون وهم ينجون.
وقيل: أخرجوا لهم حتى رأوهم.
وقيل: كانوا ينظرون انفلاق البحر لهم.
وقال الفراء: " تنظرون: تعلمون "، واستبعد أن ينظروا إليهم في ذلك الوقت لأنهم كانوا في شغل عن ذلك.
وكان فرعون قد خرج في طلب موسى ﷺ في سبعين ألفاً من دُهْم الخيل خاصة، وموسى ﷺ بين يديه حتى قابله البحر، فقال أصحاب موسى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١]. قال
وروي عن ابن عباس أن موسى ﷺ سرى ليلاً كما قال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً﴾
وموسى اسم أعجمي، أصله فيما ذكر السدي: ماء وشجر، فهو ماء. وسمي بذلك لأن أمه / حين ألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون فوجده جواري آسية امرأة فرعون، فسمي باسم ذلك المكان الذي
فأما موسى فمؤنثة عربية، مشتقة من أسوت إذا أصلحت، ويكون أصله الهمز.
وقيل: هي من " أَوْسَوْتُ " إذا حلقت. وهذا أشبه بها، وكلاهما قريب من الآخر. و [الأصل] للواو في الهمز على هذا.
قوله: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾. أي: تمام أربعين ليلة. وقيل: معناه أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون داخلة في الميعاد.
قوله: ﴿اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ﴾.
أي إلهاً، والأصل، اتَّخَذَ، يَتَّخِذُ، وهو " افْتَعَل " من الأخذ، وكثر في كلامهم فجعلوه بمنزلة ذوات الواو والياء التي تكون في موضع الفاء من الفعل. وهي تكون تاء في " افتعل " وما تصرف منه، وتدغم في تاء " افتعل ". فأصل التاء الأولى همزة
وقال الأخفش: " أصلها همزة حملت على ذوات الواو. لأن الهمزة قد تدخل على الواو فيبدل كل واحدة من الأخرى ".
وقد قيل في لغة: " أخَذْتُهُ وأَخَذَهُ الله بذلك، وَوَاخَذَهُ ". فصارت " اتخذ " مثل " اتعد ".
قال ابن عباس: " لما امتنع فرس فرعون أن يدخل به البحر، تمثل له جبريل عليه السلام على فرس أنثى فتقحم خلفها ودخل بفرعون، وكان السامري قد عرف جبريل لأن أمه خافت عليه الذبح، فخلَّفته في غار فانطبقت عليه الغار. فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغدوه بأصابعه، فيجد في إحدى أصابعه لبناً وفي الأخرى / عسلاً وفي الأخرى سمناً. فلم يزل يغدوه حتى نشأ، فلما رأى جبريل عليه السلام عرفه، / فأخذ من أثر فرسه قبضة من تراب، ورفعها عنده، وكان موسى ﷺ إذ أمر بني إسرائيل
وقيل: إنه كان يمشي ويخور.
قال ابن عباس: " إن موسى ﷺ لما قطع البحر وأغرق الله آل فرعون، قالت بنو إسرائيل لموسى: إئتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر. فاختار موسى سبعين رجلاً لينطلقوا معه، فلما تجهزوا، قال الله لموسى: أخبِر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين تمت بعشر، وهي عشر من ذي الحجة مع ذي القعدة.
والهاء [في] من " بعده " تعود على موسى ﷺ. وقيل: تعود على انطلاق موسى إلى الجبل.
" ذلك " إشارة إلى اتخاذهم العجل إلهاً.
قيل: إنهم عبدوا العجل، فلذلك قال: اتخذتم العجل يعني إلهاً. وعن قتادة: " إن السامري هو الذي اتخذ العجل إلهاً، ورضي بذلك بنو إسرائيل، فلذلك نسبه إليهم ".
قوله: ﴿الكتاب والفرقان﴾.
الكتاب: التوراة، والفرقان: انفراق البحر، قاله ابن زيد. و " يوم الفرقان: يوم التقى الجمعان " هو يوم بدر فرق الله بين الأمرين بين الحق والباطل.
وقيل: الفرقان: الفرق بين الحق والباطل / من الكتاب.
وقيل: الفرقان القرآن، والتقدير على هذا: وآتينا محمداً الفرقان. قاله الفراء وقطرب، وهو بعيد في العربية، لا يجوز مثل هذا الإضمار، وقد ردَّه جماعة.
وقال الزجاج: " الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره بغير لفظه للتأكيد، وسمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل ".
قوله: ﴿فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ﴾ الآية.
قال السدي: " لما رجع موسى ﷺ إلى قومه قال: ﴿ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾ [طه: ٨٦] إلى قوله: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري﴾ [طه: ٨٧]، ثم أخذ العجل فحرقه [فأبرده] بالمبرد فذراه في اليم، ثم أمرهم موسى ﷺ أن يشربوا من اليم فشربوا. فمن كان في قلبه محبة من العجل خرج على / شاربه الذهب، وهو قوله: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣]. فلما / علموا أنهم قد ضلوا ندموا، فلم يقبل الله توبتهم إلا أن يقتل بعضهم بعضاً، فذلك قوله: ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ إلى ﴿التواب الرحيم﴾. فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف والخناجر، فكان من قتل شهيداً.
قال علي بن أبي طالب: " كان الرجل يقتل أباه وأخاه حتى قتل منهم سبعون
وروي أنهم قالوا لموسى ﷺ: كيف يَقْتُلُ الرجل أخاه وقريبه؟ فقال موسى: إن الله [تعالى يأمر الذين عبدوا] العجل أن يجثوا، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل السيوف. وقال الله جل ذكره لموسى عليه السلام: إني سأنزل سحابة سوداء حتى لا يبصر بعضهم بعضاً، ثم أمر الذين لم يعبدوا العجل أن يضربوا بالسيوف ففعلوا فقتلوهم أجمعين /. فلما ارتفعت السحابة اشتد على موسى وعليهم ما صنعوا، فقال الله جل ذكره: يا موسى أما يرضيك أني أدخلت القاتل والمقتول الجنة؟ قال: بلى يا رب ".
وقال ابن شهاب: " لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف والخناجر، وموسى ﷺ رافع يديه يدعو، حتى إذا فتر أتاه بعضهم فقال: با نبي الله: ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى قبل الله توبتهم وقبض أيديهم / فألقوا السلاح. وأحزن
قوله: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾ الآية.
قوله: ﴿جَهْرَةً﴾: يجوز أن يكون حالاً من قولهم، على معنى: أرنا الله علانية. ويجوز أن يكون حالاً منهم؛ أي قالوا ذلك مجاهرين به أي: معلنين.
والصاعقة الموت. وقيل: الفزع.
وقيل: [العذاب الذي] يموتون منه.
وأصل الصاعقة كل شيء هائل من عذاب أو زلزلة أو رجفة؛ قال الله تعالى: ﴿وَخَرَّ موسى صَعِقاً﴾ [الأعراف: ١٤٣]، أي مغشياً عليه ولم يمت. والرجفة التي أخذت من معه كانت موتاً وأنتم تنظرون إلى الصاعقة.
أي: أحييناكم. وأصل البعث إثارة الشيء من محله؛ تقول العرب: " بَعَثْتُ ناقتي " أثرتها. " وبَعَثْتُ فلانا في كذا "، أي: أثرتُه للتوجه فيه. ويوم القيامة يوم البعث لأنه [يثار فيه الناس] للحساب. ومعنى ذلك أن موسى ﷺ لما أحرق العجل وذراه في اليم اختار من قومه سبعين / رجلاً وقال: انطلقوا إلى الله تعالى، وتوبوا إليه مما صنعتم وتطهروا وطهروا ثيابكم، وكان ذلك عن أمر الله له، فخرجوا معه فقالوا لموسى: اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلامه فقال: أفعل. فلما دنا موسى ﷺ من الجبل وقع عليه عمود من نور حتى تغشى الجبل كله فدخل فيه. وقال للقوم: ادنوا وكان موسى ﷺ إذا كلمه ربه تعالى وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم حتى إذا
وقال ابن زيد: " لما أتاهم موسى ﷺ بكتاب الله تعالى، وقال لهم: خذوه، قالوا: لا نأخذه حتى نرى الله جهرة، فيقول: خذوه. فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقوا أجمعين، ثم أحياهم الله بعد موتهم. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله تعالى فأبوا أن يأخذوه. فرفع فوقهم الجبل فأخذوا الكتاب، وأخذ موسى عليهم الميثاق، وهو قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٨٣] الآية.
قوله: ﴿[وَ] ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾.
قيل: الغمام سحاب.
وقال مجاهد: " هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة وليس بسحاب ". وروي ذلك عن ابن عباس، وهو الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر،
وسمي الغمام غماماً لأنه يَعُمّ ما حل به، أي يستره، وسمي السحاب غماماً، لأنه يغم السماء، أي يسترها.
وقيل / للسحاب سحاب لأنه ينسحب بمسيره.
والمن عن مجاهد: " صمغة ".
وقال قتادة: " كان ينزل، عليهم مثل الثلج ".
وقال الربيع. بن أنس: " المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ".
وقال ابن زيد: " المن عسل كان ينزل عليهم من السماء ". ورواه ابن وهب عنه.
وقال السدي: " المن الزنجبيل ".
وقيل: " هو الترنجبين ".
وعن ابن عباس: " المن هو الذي " يسقط من الشجر، فيأكله الناس ".
وقال قتادة: " كان يسقط عليهم في مجلسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كسقوط الثلج فيؤخذ منه بقدر ما يكفي ذلك اليوم / فإن تعدى إلى أكثر فسد، إلا يوم الجمعة فإنه يؤخذ ما يكفي فيه للجمعة وللسبت، لأن يوم السبت عندهم
وقال النبي [عليه السلام]: " الكَمْأَةُ مِنَ المَنّ وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ " قال أهل المعاني: " معنى: " مِنَ المَنّ " أي مما منَّ الله به على خلقه بلا زرع ولا تكلف سقي ".
والسلوى: طائر يشبه السُّمانَى كانت الجنوب تحشره عليهم.
والسلوى والسمانى واحِدُه وجمعه بلفظ واحد. والمن: جمع لا واحد له مثل الخير والشر. / وكان من قصة المن والسلوى أن الله تعالى أمر
قوله: ﴿مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
أي من مشتهيات رزقنا وقيل: من حلاله.
أي ركعاً. والباب باب حطة، معروف في بيت المقدس.
ومعنى حطة عند الحسن وقتادة وأكثر المفسرين: " احطط عنا ذنوبنا / وحط عنا خطايانا ".
وعن ابن عباس وعكرمة قالا: " حطة: لا إله إلا الله. وسميت بذلك لأنها تحط الذنوب ".
وقيل: كلمة أمروا بما تحط بها عنهم ذنوبهم.
وقيل معناه: قولوا قولاً تحط به عنكم ذنوبكم.
وقيل: حطة بمعنى الاستغفار. وهو مثل الأول.
قوله: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ﴾.
وقال ابن عباس عن النبي [عليه السلام] إنهم قالوا: " حنطة في شعير ".
وقيل: إنهم تكلموا بكلام بالنبطية على جهة الاستهزاء والخلاف. وقال ابن مسعود: " قالوا حنطة حمراء فيها شعير ".
وعن ابن عباس أنه قال: " إنهم دخلوا الباب من قِبلِ أستاههم، وكان باباً صغيراً ويقولون حنطة ".
قال الفراء: " قال ابن عباس: " أمروا أن [يستغفروا الله فخالفوا] الكلام بالنبطية.
وقال أبو العالية: " الرجز الغضب ".
وذلك أنهم لما بدلوا نعمة الله، نزل عليهم الطاعون فلم يبق أحداً، فهو الرجز. قاله ابن زيد.
وقال الأخفش: " الرجز هو الرجس ". كأن الزاي عنده بدل من السين كما يقال: " السَّرْعُ والزَّرْعُ، والزِّرَاطُ والصِّرَاطُ، وليس مثله في القياس.
والرُّجْزُ - بالضم - صَنَم كانوا يعبدونه.
وذكر يحيى أن الرجز: الطاعون، نزل بهم حين بدلوا، فمات منهم سبعون ألفاً، وقال قوم منهم: لا إله إلا الله، فهم المحسنون الذين ذكرهم الله في
وروي أن الذين بدلوا إنما قالوا بالعبرانية: " حبة سمراء "، يعنون الحبة.
وقال ابن عباس: " لما بدلوا، نزل بهم طاعون فمات منهم أربعة وعشرون ألفاً ".
قال مقاتل: " هلك منهم / بفعلهم سبعون ألفاً ".
قوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾.
أي لا يشتد فسادكم وهو أشد الفساد. يقال: عَثَا يَعْثُو عُثُوّاً. وعَثِيَ يَعْثَى عَثّاً. وعَاثَ يَعِيثُ عيثاً وعِياثاً. ولغة القرآن عَثِيَ يَِعْثَى.
قوله: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر﴾.
لما اشتكوا إلى موسى ﷺ الظمأ في التيه، / وكانوا يحفرون الآبار حيثما نزلوا، فشق ذلك عليهم، فأتى موسى [بحجر مربع] من الطور، وأمر موسى ﷺ أن يضربه بعصاه، فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه / موسى ﷺ فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً من كل ناحية [ثلاث عيون]، لكل سبط عين
قال ابن زيد: " سقوا من حجر مثل رأس الشاة يلقونه في جانب [الجَوالق/ إذ] ارتحلوا بعد أن يستمسك ماؤه عند رحلتهم فإذا نزلوا قرعه موسى بعصَاه، فعادت العيون بحسبها ".
قال مقاتل والكلبي: " انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً على عدد الأسباط، وكانوا إذا أخذوا حاجتهم زالت العيون وانسدت مواضعها. فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت العيون ".
قوله: ﴿مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا﴾ الآية.
ومن قال إن المن [خُبْز الحُوّارَى]، كان قوله: " أدنى " بمعنى أقرب. وقال عطاء ومجاهد: " الفوم: الخبز ".
وقال قتادة والحسن: " الفوم: الحب الذي يختبز الناس ".
وعن ابن عباس قال: " الفوم: الحنطة والخبز ".
وروي عن مجاهد قال: " هو الثوم ". وهو اختيار ابن قتيبة، وهو في مصحف ابن مسعود: " وثُومِهَا " بالثاء. فهذا يدل على أنها الثوم. وذكر ابن قتيبة: " أن الفوم: الحبوب ".
والعرب تبدل الثاء [من الفاء] يقولون: جَدَفٌ وجَدَثٌ، ومَغَافِيرٌ
وروي أن الفوم: القمح والعدس وسائر الحبوب؛ وذلك أنهم لما سلكوا التيه مع موسى شكوا الحر، فظلل الله عليهم الغمام يقيهم الحر، وجعل لهم عموداً من نار بالليل يضيء لهم مكان القمر، وأنزل الله عليهم المن والسلوى، فيأخذون منه قوتهم للغذاء والعشاء، فمن زاد على ذلك فسدت عليه الزيادة. وكانوا يأخذون يوم الجمعة للجمعة والسبت إذ لا يأتيهم يوم السبت، وكانوا يخبزون المن قرصاً، فيأكلون طعاماً مثل الشهد المعجون بالسمن.
وروي أنهم نزل عليهم المن أولاً، فملوه لحلاوته، وسألوا لحماً فأنزل الله عليهم طيراً تجلبه عليهم ريح الجنوب، وأمر ألا يدخروا من لحمه فخالفوا فادخروا، فخنز عليهم وفسد.
فيروى أنه لولا ذنوب بني إسرائيل ما فسد الطعام المدخر.
وقيل: كانت السلوى تقع في مجالسهم كهيئة السماني، فملوا ذلك وسألوا القمح
قوله: / ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾.
هو من قول موسى ﷺ. و " أدنى " بمعنى أقرب أي أقل قيمة.
وقال علي / بن سليمان: " أدنى من ذوات الهمز من قولهم: " دَنِيءٌ بَيِّنُ الدَّنَاءَةِ "، أبدل من الهمزة ألفاً ".
وقيل: معنى " أدنى ": أقرب لكم في الدنيا مما هو لكم في الآخرة، فيكون
وقال مجاهد: " أدنى بمعنى: " أَرْدَأَ ".
وقيل: أصله " أدون " من الدون [ثم قلبت] اللام في موضع العين، وانقلب الواو ألفا لتطرفها.
قوله: ﴿اهبطوا مِصْراً﴾.
قال مجاهد وقتادة وغيرهما: " مصراً من الأمصار ".
وقال أبو العالية: " مصر هي التي كان بها فرعون ". وقاله الكسائي، وفي قراءة أُبَيّ وابن مسعود: " اهْبِطُوا مصر " بغير صرف معرفة. وقيل: هي الشام.
قوله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾.
أي فرضت ووضعت من قولهم: " ضَرَبْتُ عَلَى عَبْدِي الخَرَاجَ، وَضَرَبَ عَلَيَّ الأَمِيرُ الخَرَاجَ " أي [فَرَضَهُ وَوَضَعَهُ] عَلَيَّ. وَضَرْبُ الذلةِ عليهم هو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون.
والمسكنة الخشوع والذلة. وقيل: الحاجة.
وقيل: الفاقة والفقر. فلست ترى يهودياً إلا وعليه الذلة والمسكنة، وإن كان معه قناطير الذهب والفضة.
قوله: ﴿وَبَآءُو بِغَضَبٍ﴾. أي: رجعوا به.
قال أبو عبيدة: " يقال بُؤْتُ بالذنب أي: احتملته ولزمني، وتَبَوَّأتُ الدار لزمتها، وبُؤْتُ بالشي اعترفت به، وبَوَّأْتُ القوم منزلاً إذا أنزلتهم إلى سند جبل أو عند نهر. فالاسم المباءة ".
قوله: ﴿بِآيَاتِ الله﴾.
الآية طائفة من القرآن وجماعة /، يقال: " جئنا بآيتِنَا " أي: بجماعتنا.
وقيل: سميت آية لأنها علامة الانفصال مما قبلها.
ووزن آية عند الخليل / وسيبويه: " فَعْلَةٌ "، وأصلها " أيِيَةٌ، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وهو نادر، لأن أصله أن تعتل اللام وتسلم العين، فاعتلت العين وسلمت اللام.
وقال الكسائي فيما حكى أبو بكر: " أصلها " آيِيَةٌ " مثل " مَاضِيَة "، فكان يلزم
وقال الفراء: " أصلها فعلة، وأصلها " آيَّة " استثقلوا التضعيف فأبدلوا الياء ألفاً كما أبدلوا في التضعيف من " دِوَّانِ " و " قِرَّاطٍ " ياءً ومثله دِنَّار ".
وقد حكى غير أبي بكر عن بعض الكوفيين أن أصلها فعلة فاستثقل التضعيف فأعلت الأولى لانكسارها، وتحرك ما قبلها فقلبت ألفاً.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ﴾ الآية.
قال سفيان: " الذين آمنوا / هنا هم المنافقون الذين آمنوا في الظاهر، يدل على ذلك قوله: ﴿مَنْ آمَنَ / مِنْهُمْ بالله﴾؛ أي مَن صدق منهم بقلبه ووافق ظاهره باطنه ".
وقال غيره: " بل هم المؤمنون، وإنما أراد " بمن آمن "، من ثبت على الإيمان كما قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ [آمَنُواْ]﴾ [النساء: ١٣٥] أي اثبتوا على تصديقكم.
قوله: ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾.
أي جمع مع إيمانه المتقدم إيمانه / بمحمد ﷺ وبما جاء به. روي ذلك عن السدي.
وقال السدي: " نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي ". وذكر قصة طويلة معناها أن سلمان كان قد تنسك مع قوم من الرهبان قبل مبعث النبي ﷺ فأخبروه أنه سيبعث نبي، فإذا لحقته فصدق به. فلما بعث النبي ﷺ وأتى المدينة أتاه سلمان فنظر إلى الخاتم الذي هو علامة النبوة، وقد كانوا قالوا له: علامته خاتم بين كتفيه وهو لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية. فلما رأى سلمان الخاتم مضى واشترى لحماً وخبزاً، وشوى اللحم وأتى به النبي ﷺ، فقال له: ما هذا؟ فقال له: صدقة. قال: لا آخذه، أعطه للمسلمين. ثم مضى [فاشترى شيئاً آخر فأتى] به النبي ﷺ، فقال
وروي عن ابن عباس، وسعيد بن عبد العزيز أنها منسوخة نسختها: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥]. أي من لحق بمبعث محمد ﷺ فليس يقبل منه غير الإيمان.
وسميت اليهود يهوداً لقولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] أي تبنا ورجعنا.
والنصارى: جمع نصران ونصرانة. وقيل: سموا نصارى لأنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة.
وقيل: سموا نصارى لقوله تعالى: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ [آل عمران: ٥٢].
وقيل: سموا نصارى، لأن قرية عيسى [عليه السلام] كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصرين، وكان يقال لعيسى ﷺ الناصري.
وقيل: سموا بذلك لأنهم نزلوا موضعاً يسمى ناصرة.
والصابئين: قوم خرجوا من دين إلى دين. وقيل: هم قوم لا دين لهم.
وقيل: الصابئين: قوم بين المجوس واليهود.
ومعنى: ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾. أي آمن بمحمد [عليه السلام].
قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ الآية.
وقال ابن زيد: " لما رجع موسى ﷺ من عند ربه بالألواح، أمرهم باتباع ما فيها وقبوله والعمل به. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت، لا والله حتى نرى الله جهرة وحتى يطلع علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه. قال: فجاءته غضبة من الله فصعقوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله من بعد ذلك. فقال لهم موسى ﷺ: خذوا كتاب الله قالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أُمتنا ثم حُيينا. فقال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم فهو تأويل. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ فلما صار فوقهم، قيل لهم: خذوا، وإلا طرح عليكم. فأخذوه بالميثاق /،
وقيل: هو اسم جبل بعينه معروف كلم الله سبحانه عليه / موسى ﷺ.
وقيل: هو ما أنبت دون ما لم ينبت من الجبال.
وقال السدي: " لما نظروا إلى الجبل فوقهم خروا سجّداً على شق، ونظروا إليه [بالشق الآخر فرحمهم] الله وكشف عنهم فهم يسجدون لذلك على شق ".
فقوله: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧١] وقوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ واحد.
وروي أنهم قالوا: لا نقبل التوراة، فرفع الله فوقهم الطور كأنه ظلة، فأيقنوا أنه واقع عليهم، وبعث الله ناراً من قِبلِ وجوههم، وأتاهم بالبحر من خلفهم، فقال لهم موسى ﷺ: " إن أنتم لم تقبلوا التوراة بما فيها أحرقكم الله بهذه النار، وغرقكم في هذا البحر، وأطبق عليكم هذا الجبل ". فأخذوها كارهين، وعاهدوا الله ليعملن بما فيها وسجدوا لله وهم ينظرون إلى الجبل بعين واحد مخافة أن يقع عليهم فصارت سنة فيهم لا يُصَلّون إلا هكذا. ثم عصوا بعد ذلك وخالفوا العهد، فهو قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ لعاجلهم بالعقوبة، فيخسرون دنياهم وآخراهم.
قوله: ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾.
أي أتلوه. وقيل: معناه: اذكروا ما فيه من أمر الآخرة وهو الثواب والعقاب لعلكم تتقون ما تعاقبون عليه.
قال ابن عباس: " لم يبعث الله قط نبياً إلا عرفه فضل الجمعة وعظمها في السماوات وأن الساعة / تقوم فيها، وتشريف الملائكة لها. وبلغت الرسل أممها ذلك، فسمع أكثرهم وأطاع وعرف فضلها. فلما كان موسى أخبر بني إسرائيل بفضلها على الأيام فقالوا: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام، والسبت أفضل لأن كل شيء سبت لله مطيعاً يوم السبت، وخلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة. ويوم السبت كمل الأمر؟ وقالت النصارى لعيسى ﷺ إذ أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والله واحد، والواحد الأول، والأحد أول؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى ﷺ أن دَعْهُم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا فلم يفعلوا. وقال لموسى ﷺ كذلك في السبت. وأمرهم أن لا يصيدوا فيه سمكاً ولا غيره، ولا يعملوا فيه عملاً. فكان يوم السبت تظهر فيه الحيتان على وجه الماء فهو قوله: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٣] ثم إنهم تناولوها في السبت فلم ينكر بعضهم على بعض، ثم كفوا فلما رأوا العقوبة لا تنزل بهم عادوا وأخذوا. وكان موسى قد حذرهم
قال ابن عباس: " لم يعش مسخ قط أكثر من ثلاثة أيام ولا يأكل ولا يشرب ولا ينسل. وكان الله تعالى قد خلق القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة [الأيام التي ذكر، فمسخ أولئك في صور] القردة ".
قال الحسن: " كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت / فتبطح بأفنيتهم كأنها المخاض ثم تذهب فلا ترى ".
قال ابن عباس: " لما طال عليهم أمر الحيتان وإتيانها يوم السبت ولا تأتي في غيره، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً يوم السبت فحزمه بخيط وأرسله في الماء وتّدَ له وتداً في الساحل فأوثقه، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله، فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك، فوجد الناس ريح الحيتان، ثم علموا بما فعل ذلك الرجل ففعلوا مثل
[الأعراف: ١٦٤]، فنجى الله الذين ينهون عن السوء ومسخ الفاعلين ".
واختلف في الذين / لم يعملوا ولم ينهوا وقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ الآية.
قيل: إنهم نجوا مع الناجين. وقيل: مُسِخُوا مع مَن مسخ. [والسبت أصله] الراحة والهدوء. والسبت ضرب من السير. والسبت [الحلق؛ / يقال سَبَتَ رَأسَهُ] حَلَقَهُ. والسبت القطع. وجمعه: " أَسْبُتٌ " و " سَبَتَاتٌ " بالتحريك لأنه اسم. وفي الكثير السبوت والسبات.
وقال السدي: / " كان الرجل منهم من شهوة الحوت يحفر الحفرة ويجعل نهراً إلى البحر، فيدخله الماء يوم السبت بالحوت، ثم لا يقدر الحوت أن يرجع إلى
وروي عن مجاهد أنه قال: " مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفاراً ".
وجميع أهل التفسير على خلاف ذلك لأنهم مسخوا قردة حقيقة.
وقوله: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾.
هو أمر، وتأويله الخبر. أي: فكوناهم قردة، وهذا هو الأمر الذي يكون به الخلق، فحولهم من خلقة إلى خلقة أخرى، فهو مثل قوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]. ﴿خَاسِئِينَ﴾. أي: مبعدين، أي مطرودين. هذا قول أهل اللغة.
وقال مجاهد وقتادة: " خاسئين: صاغرين ".
وروي عن ابن عباس: " خاسئاً ذليلاً ".
قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً﴾.
أي: فجعلنا العقوبة نكالاً وهي المسخة، وعليه أكثر أهل التفسير. وقيل: الهاء للقردة.
وقيل: للأمة الذين اعتدوا.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ﴿جَعَلْنَاهَا﴾ [الحج: ٣٦]. أي: جعلنا الحيتان نَكَالاً لأن العقوبة من أجلها كانت. فدل الكلام عليها نكالاً لا عقوبة " عن ابن عباس.
ومعنى " نَكَّلْتُ به " عند أهل اللغة: فعلت به ما ينكل غيره أن يفعل مثله فيصيبه مثل ما أصابه.
قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ أي: من بعدهم ليحذر ويتقي.
وقال الربيع: " لما خلا من ذنوبهم: أي عوقبوا [من أجل ما] خلا من ذنوبهم، ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾: أي: عبرة لمن بقي من الناس ".
وروى عكرمة عن ابن عباس: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾: من / القرى ".
وقال قتادة: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾: مِن ذنوبها التي مضت، ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾: تعديهم في السبت وأخذهم الحيتان ". وكذلك قال / مجاهد.
وقال السدي: " ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ ما سلف من ذنوبها، ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾: للأمم التي بعدها ألا يعصوا فيصنع بهم مثل ذلك ".
قوله: ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
أمة محمد ﷺ أن لا ينتهكوا ما حرم الله عليهم فيصيبهم مثل ذلك.
قوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾.
قالوا: إنما جاء الجواب بغير فاء لأنه تعالى إنما أذكرهم هذا الذي كان، فجعل
قوله: ﴿قَالَ أَعُوذُ بالله﴾.
ذكر السدي أنه كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال وله ابنة، وله ابن أخ فقير من المال، فخطب إليه، فأبى أن يزوجه، فعمل على قتله، وقال: والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته. فلما قتله ليلاً جعله في بعض السكك وأصبح يطلب عمه، فوجد أهل ذلك الموضع قياماً عليه فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا ديته وجعل يبكي [فرفعهم إلى موسى ﷺ] فقضى عليهم بالدية، فقالوا: يا نبي الله ادع لنا ربك يبين لنا مَن صاحبه. فقال: اذبحوا بقرة. فقالوا: نحن نسألك عن القتيل، وأنت تأمرنا بذبح البقرة أتهزأ بنا؟ فقال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ".
وقيل: [إنه أخو المقتول كان].
وقيل: كانوا جماعة ورثة استبطوا موته ليرثوه فقتلوه.
وقال مقاتل: " كان القاتلان اثنين قتلا ابن عم لهما وطرحاه بين قريتين، فطولب أهل القريتين بالدية فحلفوا أنهم ما قتلوه ".
قوله: ﴿لاَّ فَارِضٌ﴾: أي: لا هرمة.
﴿وَلاَ بِكْرٌ﴾: أي: لا صغيرة.
﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾: أي: هي بين الصغيرة والكبيرة.
﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾: أي: صاف تعجب من ينظر إليها.
و" ذلك " موحد يراد به بين ذلك الوصف الذي / ذكرنا.
وقال ابن زيد: " هي صفراء كلها ".
وقال / القتبي: " لا يقال صفراء بمعنى سوداء في البقر. إنما يقال ذلك في نعوت الإبل ".
قوله: ﴿فَاقِعٌ﴾ يدل على أنها غير سوداء لأنه لا يقال أسود فاقع ويقال أصفر فاقع.
وقيل: كانت صفراء كلها حتى الظلف والقرن ".
قال الأصمعي : " الباقر جمع باقرة "، قال : " ويجمع بقر على باقورة " ( ٣ ). وقيل : كانت صفراء كلها حتى/ القرن والظلف( ٤ ).
٢ - نسب الأخفش هذه القراءة إلى مجاهد. انظر: معانيه ١/١٠٥..
٣ - انظر: تفسير القرطبي ١/٤٥١..
٤ - في ع١، ع٢: الطلف. وهو تصحيف..
قال الأصمعي: " الباقر جمع باقرة "، قال: " ويجمع بقر على باقورة ". وقيل: كانت صفراء كلها حتى / القرن والظلف.
﴿لاَّ ذَلُولٌ﴾ لم يذللها العمل فتثير الأرض، ولا تعمل في الحرث.
﴿مُسَلَّمَةٌ﴾: أي: من العيوب.
﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾: أي: لا بياض.
ولولا قولهم: ﴿إِن شَآءَ الله﴾ ما اهتدوا إليها أبداً، فوجدوا البقرة عند عجوز عندها يتامى فأضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى ﷺ فأخبروه. فقال لهم: أعطوها / رضاها، ففعلوا وذبحوها. وأمرهم موسى ﷺ بعضو منها يضربوا به القتيل ففعلوا. فرجع إليه روحه وسمَّى قاتله ومات فقُتل قاتله، وهو الذي أتى إلى موسى ﷺ يشتكي ويطلب الدية.
وروي أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ابن صغير وله عجلة فأتى
وعن ابن عباس قال: ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾: لا بياض فيها ولا سواد، ولا حمرة " أي: لونها واحد لا لمعة فيها تخالف لونها وهو الصفرة. قيل: كانت صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران.
قال: " وطلبوها فلم يقدروا عليها، وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وأن رجلاً مر به ومعه لؤلؤ. يبيعه، وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح. فقال الرجل المار للولد البار: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً؟ قال له الفتى: كما أنت، حتى يستيقظ والدي، وأنا آخذه بثمانين ألفاً.
وقيل: ضرب بفخذ البقرة الأيمن.
وقيل: ضرب بعظم من عظامها.
وقيل: بذنبها.
وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى﴾.
في الكلام حذف واختصار، والتقدير: فضربوه فحيي فقيل لهم: كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته فاعتبروا.
واستدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على تصحيح الحكم بالقسامة [بهذا القتيل المذكور / ضربوه] ببعضها فحيي وقال: " فلان قتلني "، فَقُتِلَ، بقوله.
قال مالك: " فهذا مما يبين القسامة وأن يقبل قول الميت فيقسم عليه ".
وهذه الآية عند مالك تدل على القسامة وعلى قبول قول المقتول: " فلان قتلني "، ويقسم على قوله الأولياء.
قوله: ﴿الآن جِئْتَ بالحق﴾: أي: بينت لنا.
وقيل: إنهم عرفوا عند من البقرة لما وصفها، وعلموا أنه ليس يجدون ما وصف لهم إلا في موضع بعينه، فقالوا: الآن جئت بالحق. ولم يريدوا أنك لم تأت بالحق من أول كلامك إلا الساعة، إنما معناه: الآن جئتنا بغاية البيان، لأنهم كانوا مذعنين للذبح ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
أي: كادوا أن يضيعوا فرض الله تعالى لغلائها وكثرة قيمتها.
وقيل: أرادوا / أن لا يفعلوا خوف الفضيحة وهم قاتلوا المقتول على قول من قال: كانوا ورثة.
وقيل: لعزة وجودها على تلك الصفة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: " مكثوا في طلب البقرة أربعين سنة " وقال طلحة بن مصرف: " لم تخلق تلك البقرة من نتاج، إنما نزلت من السماء ".
قوله: ﴿فادارأتم فِيهَا﴾. أي: اختلفتم وتدافعتم في الحكومة.
وقيل: في النفس. وقيل: في القتلة. ورجوعها على النفس أولى لتقدم
قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك﴾.
روي عن ابن عباس أنه قال: " لما أخبر / المقتول بمن قتله مات، فأنكروا أنهم فعلوا بعد إخباره عنهم، فكذبوا ما رأوا. فذلك قساوة قلوبهم ".
قوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾.
" أَوْ " [للتخيير أي: شبهوهم بقساوة] الحجارة / أو بأشد منها، لأنهم جحدوا بعدما عاينوا، فأنتم مخيّرون في تشبيههم.
وقيل: معنى ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، أي: هو أقسى من الحجارة لأن الحجارة ليس لها ثواب ولا عليها عقاب، وهي تخاف الله تعالى.
روي أن عيسى ابن مريم مر بجبل فسمع منه أنيناً فقال: " يا رب ائذن لهذا الجبل حتى يكلمني ". فأذن الله للجبل فكلمه، فسأله عيسى [ ﷺ] عن أنينه فقال: سمعت الله يقول: ﴿فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ [البقرة: ٢٤] فخفت أن
وقيل: معناه: فقلوبهم مثل الحجارة أو أشد أي: منها ما هو مثل الحجارة، ومنها ما هو أشد كأنها لا تخرج من هذين القسمين.
وقيل: " أو " بمعنى الواو. وقيل: بمعنى: " بل ".
قوله: ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار﴾.
هو حجر موسى ﷺ الذي [انفجرت منه] [اثنتا عشرة] عيناً.
قوله: ﴿لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله﴾.
هو الجبل الذي جعله الله دكاً إذ تجلى إليه، خرَّ لَهُ.
قوله: ﴿لَمَا يَشَّقَّقُ﴾.
هو العيون التي تخرج من سائر الجبال.
قوله: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾.
يعني ما أراهم من إحياء الميت ومن العصا والحجر والغمام والمن والسلوى
قوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾.
يخاطب المؤمنين بمحمد. والذين لا يؤمنون هم اليهود أعداء [الله. وهو استفهام فيه معنى الإنكار فأيأسهم من إيمان] اليهود ثم أخبر عن أسلافهم وما كانوا يفعلون كأنه يقول تعالى: إن كفر هؤلاء فلهم سابقة في ذلك؛ وهو أن فريقاً منهم كانوا ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ الآية. يريد به أسلافهم وما فعلوا على عهد موسى ﷺ.
قال السدي: " هي التوراة حرفوها فيجعلون الحلال حراماً، والحرام حلالاً برشوة ".
وقال الربيع: " كانوا يسمعون من الوحي ما يسمع النبي ﷺ ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ".
وروى محمد بن إسحاق أنهم خرجوا مع موسى ﷺ يسمعون كلام الله، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى ﷺ بالسجود فسجدوا، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم وعقلوا ما سمعوا، فلما رجعوا حرف فريق منهم ما سمع ".
وقال مقاتل: " هم السبعون الذين اختارهم موسى ﷺ.
قوله: ﴿قالوا آمَنَّا﴾.
أي: بأن صاحبكم نبي إليكم خاصة.
وروي عن ابن عباس: " أي: إذا لقوا محمداً. قالوا: آمنا، وإذا خلوا كفروا، وهم المنافقون من اليهود ".
قوله: ﴿بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾.
كانوا يستفتحون بمحمد / ﷺ، فقالوا: لا تقروا بأنه نبي، وقد كنتم تستفتحون به، أي: تنظرون إذ سألتم الله به نصركم على عدوكم فقد علمتم أنه نبي، فإذا أقررتم لهم بنبوته حاجوكم بذلك عند ربكم.
وقال أبو العالية: ﴿بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ يعني ما أنزل عليكم في التوراة من ذكر
وقال قتادة: " بما مَنّ الله عليكم في التوراة من ذكر محمد ﷺ فيحتجون عليكم بذلك ".
" وروي أن النبي [عليه السلام قال لهم: يا إخْوَةَ القِرَدَةِ] والخَنَازِيرِ، فقالوا: مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا مُحَمَّداً؟ مَا جَرَى هَذَا إلاّ مِنْكُمْ. أَفَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ؟ ".
وقال السدي: " كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين بما مر على أسلافهم من العذاب، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به. أي: يقولون لكم: نحن أحب إلى الله منكم وأكرم منكم؟ ".
وعن ابن زيد قال: " كانوا إذا قيل لهم: أتعلمون أن في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: نعم. فيقول لهم رؤساؤهم: لا تخبروهم بالذي أنزل عليكم، فيحاجوكم به عند
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾.
أي: ومن هؤلاء أميون. فهم أبعد من الإيمان من غيرهم.
وقال ابن عباس: " هم قوم لم يصدقوا رسولاً ولا آمنوا بكتاب، فكتبوا كتاباً وقالوا للعوام: هذا من عند الله ".
وإنما سماهم أميين لجحودهم الكتاب إذ صاروا بمنزلة من لا يحسن شيئاً.
وقيل: / الأميون / في هذا الموضع نصارى العرب. قاله عكرمة والضحاك.
وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب أحدثوها فصاروا أميين [لا كتاب] لهم.
وهم المجوس فيما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وقيل: هم طائفة من اليهود.
قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب﴾.
أي: التوراة أي هم مثل البهائم.
قوله: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾.
وعن ابن عباس: " إلاَّ أمَانِيَّ: إلا أحاديث].
وقال مجاهد: " هم ناس كانوا لا يعلمون شيئاً، يقولون على التوراة ما ليس فيها، كأنهم يتمنون أن يكون ما قالوا فيها ". وقال ابن زيد: " يقولون نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم تمنياً " وقال الفراء وأبو عبيدة: [إلا أماني]: إلا تلاوة ". ومنه قوله: ﴿إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] أي إذا تلا ألقى في تلاوته. فهم لا يعلمون منه إلا التلاوة ولا يفهمونه ولا يعملون به.
وقال جماعة: [إلاّ أمَانِيَّ]: إلاَّ كذباً ". ومنه قول عثمان رضي الله عنهـ: " ما تمنيت منذ أسلمت " أي: ما كذبت.
أي: يجحدون نبوتك، وما جئتم به ظناً لا يقيناً.
وقيل: معناه: لا يعلمون الكتاب إلا تخرصاً وإن هم إلا يشكون فيه.
قوله: ﴿فَوَيْلٌ﴾.
قال سفيان وأبو عياض: " ويل ماء يسيل من صديد في أسفل جهنم ".
وروى عثمان بن عفان " عن النبي [عليه السلام أنه قال /: الوَيْلُ] جَبَلٌ في النَّار ".
وروى عنه عليه السلام أبو سعيد الخدري أنه قال: " ويلٌ وَاد في جهنَّمَ يَهْوِي فِيهِ
ومعنى " ويل " عند أهل اللغة: قبوح. وويح ترحم، وويس تصغير.
وهذه مصادر لا أفعال لها. والاختيار فيها الرفع على كل حال بالابتداء. ويجوز فيها النصب على معنى: ألزمه الله ويلاً. فإن كانت مضافة [حسن فيها] النصب، قال الله تعالى: ﴿وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ﴾ [طه: ٦١].
فأما ما كان من المصادر جارياً على الفعل، فالاختيار / فيه الرفع إذا كان معرفة على الابتداء نحو: الحمد. ويجوز النصب على المصدر. فإن كان نكرة، فالاختيار في النصب على المصدر ويجوز الرفع على الابتداء، أو على معنى ثبت ذلك له. فإن كان مضافاً لم يجز إلا النصب كالأول.
قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾.
هم اليهود الذين غيروا التوراة وبدلوا اسم محمد ﷺ فيها وصفته لئلا يؤمن به
وقال ابن عباس: " بل فعل ذلك قوم أميون لم يصدقوا رسولاً، ولا آمنوا بكتاب فكتبوا بأيديهم للجهال كتاباً ليشتروا به ثمناً قليلاً ".
قال ابن اسحاق: " كانت صفة محمد ﷺ في التوراة أسمر ربعة فبدلوا وكتبوا آدم طويلاً ".
وقوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾.
تأكيد ليعلم أنهم تولوا ذلك بأيديهم ولم يأمروا به غيرهم. ففي الإتيان بلفظ " الأيدي " زوال الاحتمال، إذ لو قال: " يكتبون الكتاب " لجاز أن يأمروا بكتابته وأن يتولوا ذلك بأنفسهم لأن العرب تقول: " كَتَبْتُ إلى فلان "، وإنما أمر من كتبه له " وكتب السلطانُ كتاباً إلى عامله " ولم يكتبه بيده، وإنما أمر من كتبه له.
وقال ابن عباس: " هذا، كما تقول: حملتُ إلى بلد كذا قمحاً، وإنما أمرت من حمله ".
وقال تعالى في التابوت: ﴿تَحْمِلُهُ الملائكة﴾ [البقرة: ٢٤٨] وإنما حمل بأمر الملائكة، ولم تحمله الملائكة [بأنفسها ولا ظهرت] للقوم في ذلك الوقت. ومن هذا قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: ١٦٧]. إنما أكد بذكر الأفواه لأن القول قد يترجم به عن الإشارة وعن الكتاب. تقول العرب: " قال الأمير كذا " للفظ سمعه من كتاب أمر بكتابته الأمير. وقريب منه قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين﴾ [الصافات: ٩٣] لأن اليمين تدل في كلام العرب على الشدة والقوة والبطش، فدل بذكر اليمين على شدة الضرب. ولو لم يذكر اليمين لجاز أن يكون ضرباً شديداً أو غير شديد فذكر اليمين يرفع الاحتمال ويدل على الشدة.
وقوله: ﴿إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾.
أي قالوا: " لن نعذب إلا الأربعين ليلة التي عبدنا فيها العجل ثم لا نعذب ". قاله قتادة.
وقال السدي: " قالوا: نمكث في النار أربعين ليلة حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقينا، نادى / مناد: أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، ولذلك أمرنا أن نختتن ".
وقال أبو العالية: " قالت اليهود: أقسم ربنا ليعذبنا أربعين ليلة ثم يخرجنا، فأكذبهم الله ".
وقال ابن عباس: " قالت اليهود: وجدنا في التوراة أن ما بين طرفي جهنم مسيرة
وروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس " أن اليهود قالت: إنما عُمْر الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس يوم القيامة سبعة أيام، لكل ألف سنة يوم ". ولم يُحَدِّدْ / الله تعالى الأيام لأنها عندهم معلومة على قولهم، فترك ذكر عددها وبيانه لما تقدم عندهم.
قوله: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً﴾.
أي: هل تقدم لكم عند الله ميثاق وعهد / بهذا التحديد الذي قد حددتم، فإن الله لا يخلف وعده، فأتوا بما تدعون، أم قلتم ما قلتم تخرصاً وكذباً. هذا تأويل أكثر الناس.
وروى الضحاك عن ابن عباس: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً﴾. أي: هل قلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا ولم تبدلوا ولم تغيروا، فيكون ذلك ذخراً لكم عند
وروى ابن أبي فروة " أن النبي [ ﷺ] قال [لناس من اليهود]: مَن أصْحَابُ النَّارِ غَداً؟ قالوا: نَحْنُ، سَبْعَةُ أيَّامٍ، ثُمَّ تَخْلِفُونَنَا فِيهَا، فَنَزَلَ: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار﴾ إلى ﴿خَالِدُونَ﴾ "، من حديث ابن وهب.
وقوله: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ﴾.
وزنه " افتعلتم " فيجوز / أن يكون من " تخذ يتخذ "، ويجوز أن يكون من "
وقيل: فعل ذلك لما يلزم من تغيير الياء وكونها ألفاً في المستقبل في " يأتخذ " وكونها واواً في المفتعل تقول: " موتخذ " فأبدلوا من الياء حرفاً جلداً لا يتغير في جميع الأحوال، وكانت التاء أولى بذلك، لأنها قد تبدل من الواو، فالواو أخت التاء.
وقيل: كانت أولى لأن بعدها تاء فأبدلت للتجانس وليصح الإدغام، والمدغم أخف من المظهر.
قوله: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ الآية.
أي: من عمل بمثل ما عملتم، وكفر بمثل ما كفرتم وقال ما قلتم، ﴿فأولئك أَصْحَابُ النار﴾ قاله ابن عباس.
وقال مجاهد وقتادة: " السيئة هنا الشرك ". وهو قول ابن جريج وعطاء
وقد قال الله: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾ [النمل: ٩٠]. وهي الشرك بلا اختلاف في ذلك.
وقال الربيع بن خثيم: (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ): مات على كفره ".
وعنه: " مات على معصيته ".
وقال السدي: " هي الذنوب ". أي الكبائر.
والأول أولى لأن الله لم يتوعد في النار بالتخليد إلا أهل الشرك.
وقال النبي [عليه السلام]: " أهْلُ الإيمَانِ لاَ يُخَلَّدُونَ في النَّارِ، وَيُخَلَّدُ الكُفَّارُ ".
و" خَطِيئاتُهُ ": الذنوب، أي مات ولم يتب منها ولا أسلم.
وقال قتادة: " الخطيئة هنا الكبيرة الموجبة للنار ".
وقال عطاء: " الخطيئة الشرك ".
وهذا القول يدل على أن السيئة الذنوب، فيصح أن يتوعد الله مَن أذنب الكبائر أو الصغائر ثم أضاف إلى ذلك الشركِ /، وهي الخطيئة بالتخليد في النار. ومن قرأ ﴿خطيائته﴾ بالجمع فهي الكبائر بلا اختلاف، والسيئة الشرك. وهذا الخطاب لليهود / مرتبط بما قبله.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية.
أي: آمنوا بمحمد ﷺ وعملوا بما جاء به، فهي عامة في جميع أمة محمد ﷺ. قاله ابن عباس وغيره.
وقال ابن زيد: هي خاصة في محمد عليه السلام وأصحابه.
مَن قرأه بالضم، فمعناه عند الزجاج قولاً ذا حسن.
وقال الأخفش: " الضم والفتح بمعنى واحد بمنزلة البُخْلُ والبَخَلُ والسُّقْمُ والسَّقَمُ ".
وقيل: إن مَن قرأ بالفتح فهو نعت لمصدر محذوف. واستقبح المبرد: " مَرَرْتُ بِحَسَنٍ " على إقامة الصفة مقام الموصوف. وقد جاء هذا في القرآن بإجماع، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [فصلت: ١٠]، ولم يقل جِبَالاً رَوَاسِيَ. وقال ﴿أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ﴾ [سبأ: ١١]، ولم يقل: " دُرُوعاً سَابِغاتٍ ".
واختار بعض المتعقبين الضم لأن " الحُسْنَ " الاسم الذي يحوي ما تحته ويعمه، و " الحَسَنُ " إنما هو الشيء الحَسَنُ لا يعم غير ما هو نعت له، والعموم أكمل في المعنى هنا، لأنها وصية بالخير. فَفِعلُه كله، والأمر به أولى مِن فِعل بعضه،
وحكى / الأخفش: " حُسْنَى "، بغير تنوين. وهو لحن لا يجوز لأنه لا يقال إلا بالألف واللام.
وقوله: ﴿وبالوالدين﴾.
معطوف على المعنى لأن المعنى: " بأن لا تعبدون " ثم حذفت " أن " مع الحرف، ودل على ذلك إعادة الباء فيما بعده. وهذا الميثاق هو الذي أخذ عليهم إذ أخرجهم كالذر.
واليُتْم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم، قاله الأصمعي.
﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ﴾: معطوف على المعنى في ﴿لاَ تَعْبُدُونَ﴾، فلذلك أتى بلفظ الأمر لأن صدر الكلام مبني على النهي.
ومعنى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾: " مروهم بقول لا إله إلا الله ". رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقال سفيان الثوري: " مرورهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ".
وقال قتادة وغيره: " قولوا لهم حسناً من القول ".
وقال أبو عبيدة: " قولوا حسناً من القول للمسلم والكافر ".
وقال قتادة: " هي منسوخة بآية السيف ".
ولا يجوز أن تكون منسوخة إلا على قول مَن قال: إن المعنى: قولوا للجميع حُسْناً من القول. وباقي الأقوال لا يمكن أن تكون فيه منسوخة لأن الأمر بالمعروف لا ينسخ /، والأمر بإظهار / الصدق في النبي عليه السلام لا ينسخ.
قوله: ﴿وَآتُواْ الزكاة﴾.
هي زكاة كانت عليهم تأكلها نار من السماءِ ومن لم تأكل النار زكاته فهو غير مقبول.
قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ﴾.
وقيل: هو إخبار عن أسلافهم، فمعناه: ثم تولى أسلافكم إلا قليلاً منهم، وأنتم الآن معرضون خطاب لمن بالحضرة أي: وأنتم مثل أولئك الذين تولوا من أسلافكم. ودل على هذا التاويل ما بعده من ذكر سفك الدماء أنه إخبار عن أسلافهم ومخاطبة لمن بالحضرة، ولم يسفك من بالحضرة الدماء، ولا أخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، إنما ذلك فعل أسلافهم، فكون الكلام كله على سياق واحد أولى وأحسن.
ومعنى: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ / الآية أي يقتل بعضكم بعضاً، ويخرج بعضكم بعضاً.
﴿مِّن دِيَارِهِمْ﴾ يريد به أسلافهم.
وقيل: المعنى: لا تقتلوا فيجب عليكم القصاص فتُقتلوا فتكونوا سبباً لقتل أنفسكم. ولا تفسدوا فيجب عليكم النفي فتكونوا سبباً لإخراجكم من دياركم.
قوله: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾.
أي: اعترفتم أن هذا قد أخذ عليكم.
ومعناه: أقَرَّ أوائلُكم بذلك. وأنتم يا هؤلاء تشهدون على إقرارهم لأن في
وقيل: الخطاب من أوله لهم وهم المقرون، وذلك من بالحضرة من اليهود.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾.
لأوائلهم، وأوائلكم يشهدون بأخذي للميثاق عليهم ودل على ذلك قوله ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء﴾، فَوَبَّخَ من بالحضرة، وأشار إليهم بهاء التشبيه بعد أن مضى ذكر أسلافهم، ورجع إلى ذكرهم. ومخاطبتهم بقوله لهم: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ هو أنهم كانوا قد افترقوا فرقتين: فرقة مع الأوس وفرقة مع الخَزْرَجِ. فإذا جرى بين الأوس والخزرج قِتَال أعانت كل فرقة منهم أصحابهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويجلي بعضهم بعضاً في الحمية وهم في أيديهم التوراة يعرفون ما عليهم، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك لا كتاب لهم يعبدون الأوثان، فإذا وضعت الحرب فَدَوْا أسراهم تصديقاً لما
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، يستحلون دماء بعضهم بعضاً، فذلك كفرهم. ويتحَرجون أن يبقى الأسرى في أيديهم فيتفادوا؛ فذلك البعض الذي يؤمنون به، وكان فرض عليهم أن لا يستعبدوا أحداً من بني إسرائيل / وفرض عليهم ألا يقتلوا أحداً، ولا يخرجوا أحداً من ديارهم، فحللوا القتل والإخراج، ولم يحلوا ترك الفداء والإخراج من الديار، ويؤمنون بالفداء وترك الاستعباد. يعني بذلك كله بني [قينقاع وأعدائهم قريظة وبني] النضير وكانت الخزرج حلفاء بني قينقاع، والأوس حلفاء قريظة والنضير. وكان بين الأوس والخزرج عداوات وحروب، وهم مشركون، وبين بني قينقاع وقريظة والنضير عداوات وحروب، فيعاون كل قوم حلفاءهم إذا تحاربوا.
قوله: ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى﴾.
في موضع الحال، والأكثر أن يكون على " أَسْرى " كقراءة حمزة، كقتيل
ومن قال: ﴿أسارى﴾ شبهه بـ " سكارى "، كما قالوا " سكرى " على التشبيه " بأسرى "، فكل واحد مشبه بالآخر في بابه، ولم يُجِز أبو حاتم " أسارى ".
وإنما يقال " فَعْلاَن " فيما كان آفة تدخل على العقل كما قال سيبويه.
والفتح في " سُكَارَى " الأصل، والضم داخل عليه كأنه لغة، ويقال أُسَرَاءُ كَظُرفَاءَ. وَفَرَّقَ أبو عمرو / بين أَسْرَى وأُسَارَى:
فقال: " ما صار في أيديهم فهو أسارى كأنه آفة دخلت عليهم " كسَكْرَانَ "، وما أتى مستأسراً فهم الأسرى.
وواحد " الأسرى " و " الأسارى " أسير؛ بمعنى مأسور، كجريح وقتيل. / قوله: ﴿مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾.
هو راجع إلى الإخراج، دل عليه: " تَخْرُجونَ ".
وقال بعض الكوفيين: " هو فاصلة "، وذلك لا يجوز لأن حذفها يخل بالكلام، والفاصلة يجوز / حذفها.
قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾.
كفرهم هو قتل بعضهم بعضاً ومعاونة الأوس والخزرج لهم، وهم يعلمون أن ذلك محرم عليهم. وإيمانهم هو أنهم افترض عليهم ألا يستعبدوا أحداً من بني إسرائيل وأن يفدوهم. وكانوا إذا فرغوا من الحرب فدوا من أسر منهم بعضهم [من بعض].
قوله: ﴿إِلاَّ خِزْيٌ﴾.
هو أخذ الجزية عن يد.
وقيل: هو أخذ القاتل بمن قتل.
وقيل: هو قتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم.
وأصل الخزي الذل والصغار.
وروي أن بني قينقاع من اليهود كانوا أعداء قريظة والنضير من اليهود، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء قريظة والنضير. وقريظة / والنضير كانا أخوين من أهل الكتاب، والأوس والخزرج أخوان افترقا، وافترق أيضاً قريظة والنضير. فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس، فإذا اقتتل الأوس والخزرج [أعانت النضير الخزرج / وقريظة الأوس]، فقتل بعضهم بعضاً فعيرهم الله بذلك.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب﴾.
لام (لَقَدْ) حيث وقعت لام تأكيد، وقد تقع جواباً للقسم، وعيسى لا
وقيل: هو عربي من " عَاسَهُ يَعُوسُهُ " إذا ساسه وقام عليه ولا ينصرف على هذا للتعريف والتأنيث.
(القُدُسُ) أصله الطهر. وفيه لغة نادرة وهي فتح القاف والدال. والكتاب هو التوراة.
﴿وَقَفَّيْنَا﴾: أردفنا وأتبعنا بعضهم بعضاً على منهاج واحد، وشريعة واحدة، لأن كل من بعث بعد موسى ﷺ إلى زمان عيسى ﷺ فإنما يأمر بني إسرائل بلزوم التوراة والعمل بما فيها، فلذلك قال: ﴿مِن بَعْدِهِ بالرسل﴾. أي: على منهاجه وطريقته.
ثم قال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾.
ابتداء كلام آخر.
وأصل " قَفَوْت " من القَفَا " يقال: " قَفَوْتُ فُلاناً " إذا صرت خلف قفاه. " ودَبَرْتُهُ " إذا صرت خلف دبره.
والبينات التي أوتيها عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه وخلق
﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾: قويناه وأعناه ونصرناه [والأيد والأد] القوة.
وقرأ ابن محيصن: " وأيدناه " بالمد.
و" روح القدس ": جبريل. قاله قتادة والسدي والضحاك والربيع بن أنس. وروي ذلك عن النبي [عليه السلام]. وقاله ابن عباس.
وقال ابن زيد: " هو الإنجيل سمي روحاً كما سمي القرآن روحاً، فقال تعالى: ﴿أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢].
ويرد هذا القولَ قولُه تعالى: ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس﴾ [المائدة: ١١٠]، ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ ﴿المائدة: ١١٠]. فدل هذا [على] أن روح القدس غير الإنجيل /. فإن حُمل على أنه أعيد للتأكيد كما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨]، وقال:
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: " روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى ﷺ الموتى ".
وقال مجاهد: " القدس: الله جل ذكره، وسمي جبريل روحاً لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة كما سمي عيسى ﷺ / روحاً، فقال: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء: ١٧١].
وقال السدي: " القدس هنا البركة ".
وقال الربيع: القدس هو الله، ويدل عليه قوله: ﴿الملك القدوس﴾ [الحشر: ٢٣]. والقدوس والقدس واحد ". ورواه ابن وهب عن مجاهد أيضاً.
قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا﴾.
معناه: التقرير والخبر، ولفظه لفظ الاستفهام.
قوله: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾.
وقال قتادة: " معناه قلوبنا لا تفقه ".
وقال ابن عباس وغيره: " معناه: قلوبنا في غطاء وغلاف فليس نفهم ما تقول كما قال: ﴿قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا﴾ [فصلت: ٥].
ويجوز أن يكون " غُلْفٌ " جمع " غلاف "، لكن أسكن تخفيفاً. ومعناه: قلوبنا أوعية للعلم لا تحتاج إلى / علم محمد ﷺ.
وعلى ذلك قراءة من قرأ بِضَمِّ اللام، وهي قراءة الأعرجِ / وابن محيصن ورويت عن أبي عمرو وابن عباس.
قوله: ﴿بَل لَّعَنَهُمُ الله﴾.
أي أبعدهم الله وطردهم وأخزاهم. وأصل اللعن الطرد والإبعاد والإقصاء.
وقيل: هو منصوب بـ " يؤمِنُونَ "، و " ما " زائدة.
ومعناه أنهم يقرون بالله ويوحدونه، ويكفرون بالنبي [عليه السلام] كما قال ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦].
ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم يؤمنوا البتة، تقول العرب " قَلّ الشَّيء " إذا لم يوجد.
ويُقال: " قَلَّما رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا " أي: ما رأيت مثله.
وحكى الكسائي عن العرب: " مَرَرْتُ بِبِلاَدٍ قَلَّ مَا تُنْبِتُ إلاَّ الكُرَّاثَ والبَصَلَ " أي: ما تنبت سواهما.
وحكى سيبويه: " قلّ رجلٌ يقُولُ ذَلكَ إلاّ زَيْداً ".
وقال أهل التفسير: " معناه: فقليلاً منهم من يؤمن، لأن الذين آمنوا من
وقيل: المعنى: ليس يؤمنون مما في أيديهم إلا بقليل ".
والاختيار عند أكثرهم قول من قال: " إنهم قليلوا الإيمان بما أنزل على النبي [عليه السلام].
قوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ الآية.
جواب " لما " محذوف، كأنه قال: كفروا، أو نحوه، كما قال: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ﴾ [الإسراء: ٧]. أي: خليناكم وإياهم، فحذف، ومثله قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ [يس: ٤٥] أي: أعرضوا، ثم حذف جميعه لعلم السامع، وهو كثير في القرآن.
والكتاب هنا؛ القرآن، أي: يصدق التوراة والإنجيل.
قال ابن عباس: " كانت العرب في الجاهلية يمرون على اليهود / فيؤذونهم، واليهود يجدون صفة محمد ﷺ في التوراة فيسألون الله أن يعجل ببعثه فينصروا به على العرب لِما وصل إليهم من أذى العرب /. فلما جاءهم محمد ﷺ الذي قد عرفوه وسألوا الله في بعثه كفروا به ".
وقال مجاهد: " كانوا يقولون: " اللهم ابعث لنا هذا النبي يفصل بيننا وبين الناس، فلما بعث كفروا به ".
وقيل: إنهم كانوا يرغبون إلى الله في النصر عند حروبهم / بمحمد [عليه السلام] ويستشفعون به فينصرون فلما جاءهم بنفسه كفروا به حسداً وبغياً وهم يعلمون أنه رسول. وبمثل هذا القول قال السدي وعطاء وأبو العالية.
وهذا من أدل ما يكون [على أنهم جحدوا نبوة] محمد ﷺ على علم به وصحة أنه نبي مبعوث إلى الخلق حسداً وبغياً.
قوله: ﴿بِئْسَمَا اشتروا﴾.
والعرب تقول: " شَرَيْتُ " و " اشْتَرَيْتُ " بمعنى بعت. والأكثر " شريت " بمعنى " بعت "، و " اشتريت " بمعنى " ابتعت ". وربما استعمل كل واحد في موضع صاحبه.
قوله: ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ﴾.
أي: لجحودهم بما قد تيقنوا أمره، وعلموا صحة نبوته فحسدوه وبغوه إذ لم يكن من ولد إسرائيل، وكان من ولد إسماعيل.
﴿على غَضَبٍ﴾ متقدم، وهو بعبادتهم العجل [وكفرهم بعيسى عليه السلام].
وقال ابن عباس: " الغضب الأول [لتضييعهم لما] في التوراة، والثاني بجحودهم بمحمد ﷺ ".
وقال مجاهد: " الأول بكفرهم بعيسى [ ﷺ] والإنجيل. والثاني بكفرهم بمحمد ﷺ والقرآن ".
قوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
أي وللجاحدين بمحمد ﷺ عذاب مهين. وسُمي مهيناً لأنه يذل الكافر فلا يخرج من ذلته أبداً.
فأما العذاب الذي يعذب به أهل الكبائر فليس بمهين لأنه يتخلص منه برحمة الله وشفاعة النبي ﷺ.
ووصف الله العذاب بالمهين يدل على أن ثم عذاباً غير مهين، وهو ما ذكرنا.
قوله: ﴿نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ﴾.
[" ووراء " هنا بمعنى: " سِوَى "]. وقيل: هي بمعنى " بعد ".
﴿وَهُوَ الحق﴾. أي والذي بعد التوراة الحق مصدقاً للتوراة، وهو القرآن [لأن] كُتُب الله يصدق بعضها بعضاً، وفي كل واحد منها الأمر / بالتصديق بغيره من الكتب.
قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله﴾.
أي: إن كنتم تؤمنون بالتوراة كما زعمتم، فَلِمَ قتلتم الأنبياء؟.
قال كعب: " كانت بنو إسرائيل يقتلون سبعين نبياً في يومهم، وتقوم
فقال: فلم تقتلون أنبياء الله، وهو محرم عليكم في التوراة إن كنتم في / ادعائكم أنكم تؤمنون بالتوراة صادقين.
والمراد بهذا آباؤهم، كل ذلك تكذيب لهم وتعيير.
" وتَقْتُلُونَ " بمعنى " قتلتم "، أي: فلم قتل أسلافكم ودل على ذلك قوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥].
وقال في موضع آخر: ﴿قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ / إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ١٨٣]. فأتى بلفظ الماضي على معنى: فلم قتلتم أسلافكم إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله كما زعمتم.
وقيل: إنَّ " إنْ " بمعنى " ما " والمعنى ما كنتم مؤمنين إذ فعلكم هذا ورضاكم به مُتماد. وإنما جاز أن يخاطبوا بذلك وهم لم يفعلوا لأنهم
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات﴾ أي بالآيات الواضحات.
﴿ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ﴾ أي إلها.
والهاء في ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ تعود على موسى ﷺ. وقيل على المجيء.
قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ الآية.
أخذ الله ميثاق بني إسرائيل بأن يعملوا بما في التوراة بقوة أي: بجد وعزم ونشاط وكان ذلك إذ رفع فوقهم الطور.
﴿قَالُواْ سَمِعْنَا﴾: أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك.
وخرج في هذا من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة كما قال: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]. وقد يخرج من الغيبة إلى الخطاب كما قال تعالى: ﴿الحمد للَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢]، ثم قال بعد ذلك: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥].
قوله: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ﴾. أي: حب العجل من أجل كفرهم.
وقيل: المعنى إنهم سقوا من الماء الذي ذري فيه براية العجل.
وقال السدي: " إنهم شربوا من الماء الذي ذري فيه سحالة العجل بأمر موسى ﷺ / لهم. فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك قوله: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾.
وأولى هذه الأقوال قول من قال: حب العجل. لأن الماء لا يقال فيه: أشربته بمعنى " سقيته ".
وروي أنهم قالوا لموسى ﷺ: " إن عبادة العجل أسهل علينا من عبادة الرحمن، لأن العجل إن عصيناه لم يعذبنا، والرحمن إن عصيناه / عذبنا ". فأنزل الله: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾.
معناه أي: قل يا محمد: بئس الإيمان إيمان يأمركم بالكفر بمحمد ﷺ، لأن التوراة تنهى عن الجحود بمحمد ﷺ، وتنهى عن القتل وعن تبديل ما أنزل الله وأنتم على ذلك مصرون.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾: أي: في قولكم إن كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم.
وقيل: معناه: ما كنتم مؤمنين.
قوله: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت﴾.
معناه: إن كانت لكم الجنة على قولكم وأنتم إليها صائرون، فتمنوا الموت فإن ذلك لا يضركم. ففضحهم الله تعالى في كذبهم ودعواهم، وَعَلِم الناس أن تأخرهم عن التمني يدل على كذبهم، وكذلك امتنع النصارى إذ دعاهم النبي [عليه السلام] إلى المباهلة في عيسى ﷺ فافتضحوا، وعلم أنهم كاذبون في دعواهم.
قال ابن عباس: " [قيل لهم]: ادعوا بالموت على أي: الفريقين أكذب فأبوا ".
وقوله: ﴿مِّن دُونِ الناس﴾.
أي: من دون جميع الناس. وقيل: من دون محمد ﷺ وأصحابه.
قوله: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾.
أي: لا يتمنونه لما يعلمون من ظلمهم وكذبهم وإنكارهم [لنبوة محمد] عليه السلام.
قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾.
أي: من تكذيبهم للنبي ﷺ [ وتبديلهم للتوراة وعبادتهم للعجل] وغير ذلك مما سلف لهم، فأضيفت الجناية إلى اليد، وإن كانت تكون بغير اليد من لسان واعتقاد لأن معظم الجنايات باليد تكون، فجرت الإضافة في كلام العرب إلى اليد في جميع ذلك من أجل أن بها يكون أعظم الجنايات.
قوله: ﴿عَلِيمٌ بالظالمين﴾.
أي: عليم بمجازاتهم / على ما فعلوا.
تم الجزء [الثاني]
أي لتعلمنّهم يا محمد حريصين على الحياة لما يعلمون ما لهم في الآخرة من الخزي، لأنهم يعلمون أنك نبي ويجحدون ذلك.
قوله: ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ الآية.
أي: وأحرص من الذين / أشركوا وهم المجوس.
وقيل: هم قوم يعبدون النور والظلمة.
﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾: إخبار عن أحد الذين أشركوا لو يعمّر ألف سنة، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تَحِيَّتَهُمْ: " عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ "، حرصاً على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون أن لهم الجنة خالصة، هم أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء الذين أدّاهم [حرصهم على الحياة أن جعلوا تحيتهم]: عِشْ ألف سنة " وذلك لما قد علموا من سوء ما قدموا لأنفسهم.
وقيل: " إن [معنى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾: أي: أحد اليهود] الذين قيل لهم تمنوا الموت.
قال قتادة: " حببت إليهم الخطيئة طول العمر ".
قوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ﴾ الآية.
أي: وما أحدهم بمباعده. ومنجيه من العذاب التعمير.
وقيل: المعنى وما التعمير بمباعده من العذاب (وَأَنْ يُعَمَّرَ)، بدل من التعمير.
وقيل: " التقدير: وما الحديث، أو ما الأمر بمزحزحه من العذاب أن يعمر ". وهو مذهب الكوفيين من النحويين. ولا يجيزه البصريون، لأن الباء لا تدخل على الجملة التي تفسر المجهول وهو الأمر أو الحديث أو الخبر ونحوه.
قوله: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ الآية.
قال ابن عباس: " جبرائيل وميكائيل مثل عبد الله وعبد الرحمان ".
ومعنى الآية فيما قال ابن عباس: " إن عصابة من اليهود سألوا النبي [عليه السلام] عن مسائل، منها أن قالوا: أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه، وعن ماء الرجل وماء المرأة، وعن الذكر والأنثى، وقالوا أخبرنا من هذا النبي الأمي في التوراة؟ ومن وليُّه من الملائكة؟ فأخذ [عليهم النبي عليه السلام عهوداً] أنهم يؤمنون إن أخبرهم وناشدهم الله على ذلك فأخبرهم أن إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً فَنَذَرَ إِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحُومَ الإِبِلِ، وأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " اللَّهُمّ اشْهَدْ، ثُمَّ نَاشَدَهُمْ اللهَ وَقالَ: " هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُل أَبْيَضٌ غَلِيظٌ، وَمَاءُ المَرْأَةِ أَصْفَرٌ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ / الله تعالى، وَإذَا عَلاَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ / الوَلَدُ ذَكَراً، وَإِِنْ عَلاَ مَاءُ المَرْأَةِ / كَانَ أُنْثَى؟ قَالُوا: اللُّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ نَاشَدَهُمْ اللهَ، وَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ [هَذَا النَّبِيَّ الأُمِّيَّ
قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ: [قَالُوا: وَأَنْتَ] الآنَ، فَحَدِثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ وَنُجَامِعُكَ. / فَقَالَ: إِنَّ وَليِّي جِبْرِيل وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيّاً قَطْ إِلاَّ وَهُوَ وَلِيُّهُ. قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ؛ لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ تَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ إلى ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ".
وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب جرت بينه وبين اليهود مناظرة طويلة، فأقسم عليهم: هل تعلمون أن محمداً نبي فأقروا به. فقال: ولمَ أهلكتم أنفسكم، وأنتم تعلمون أنه نبي؟ فقالوا: إنه قَرَن بنبوته عدونا من الملائكة وهو
فقال عمر: وَالذي بعثك بالحق، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، فأسمع اللطيف الخبير سبقني إليك بالخبر ".
ومعنى ما في هذا الحديث من ذكر اليمين واليسار، إنما يراد به القرب في المنزلة من الله تعالى على التمثيل فلا يحل لأحد أن يتمثل في هذا، وفيما شابهه جارحة إذ ليس كمثله شيء.
قوله: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ الآية.
أي: نزل الفرقان من عند الله على قلب محمد، ولو قال قلبي لكان جيداً، والعرب / تقول: " قل يا زيد للقوم عندي الخبر " " وقل لهم عندك الخبر ". كل ذلك حسن جيد. ولا يقرأ إلا بما في المصحف.
ثم قال: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته﴾ الآية.
روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: " لقي يهودياً عمر رضي الله عنهـ فقال له اليهودي: إن الذي يذكره صاحبك هو عدو لنا. فقال له عمر: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ الآية، قال: ونزلت على لسان عمر. وكُرّر ذكر جبريل وميكائيل على معنى التأكيد.
وقيل: لمعنى التفضيل والتخصيص.
وقيل: كرر لأن من أجلهما نزلت الآيات، فكرر ذكرهما للإفهام، ولئلا يقولوا: إنهما غير داخلين في الملائكة المذكورين.
وكرر إظهار اسم " الله " لما في الإضمار من الاحتمال إذ لو قال: (فإنه عدوٌ للكافرين) لجاز لكافر أن يقول: إن المعنى الذي يعادي هؤلاء عدو
وميكائل بالسريانية، وهو بالعربية عبيد الله، وإسرافيل بالسريانية واسمه بالعربية عبد الرحمن، وجبريل بالسريانية واسمه بالعربية عبد الله. هكذا وقع في كثير من التفاسير، والله أعلم بذلك.
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾.
روي عن ابن عباس " ان رجلاً من اليهود قال للنبي ﷺ: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي: علامات واضحات، ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون﴾.
عهدهم هاهنا ما عقدوا على أنفسهم من اتباع التوراة، والعمل بما فيها، وإظهار أمر محمد ﷺ والإيمان به. ثم نقض ذلك فريق منهم، وهم الأكثر بدلالة قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
وفي قراءة عبد الله: " نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ".
قوله: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ الآية.
معناه: لما جاءهم محمد ﷺ يصدق التوراة / وتصدقه.
﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله﴾.
نبذوا التوراة إذ جحدوا ما فيها من صفة النبي والأمر باتباعه، لأن من جحد آية من كتاب الله فقد جحد الجميع.
وقيل: إنهم نبذوه مرة واحدة، واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر.
﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
أي: لا يعلمون أنه نبي صادق في قوله، فهم / يعلمون ذلك، ولكنهم جحدوا به عن علم وكفروا بذلك عن قصد.
قوله: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين﴾.
يجو أن تكون " ما " نافية فيحسن الابتداء بها. وأن تكون بمعنى " الذي " أي: واتبعوا الذي أنزل على الملكين، فلا يبتدأ بها.
وقيل: " ما " في موضع نصب بـ " يعلمونَ "، أي: ويعلمون ما أنزل على الملكين فيتعلمون أي فهم يتعلمون.
وقال الفراء: هو معطوف على ﴿يُعَلِّمُونَ الناس / السحر﴾ ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ وأجاز أن يكون مردوداً على قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ على إضمار تقديره. " فيأتون فيتعلمون ". ويجوز أن يكون مردوداً على ﴿فَلاَ تَكْفُرْ﴾ لأن معناه: " فلا تتعلم السحر ". فيكون تقديره: " فلا تتعلم فيأتون فيتعلمون ".
قوله: ﴿على مُلْكِ سليمان﴾.
أي: في حين ملكه، " فعلى " بمعنى " في " كما وقعت " في " بمعنى " على " في قوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١] أي على: جذوع النخل.
قوله: ﴿لَمَنِ اشتراه﴾.
" من " بمعنى " الذي "، وأجاز الفراء أن تكون للشرط ولا يجوز ذلك عند البصريين. والضمير في ﴿واتبعوا﴾ يعود على اليهود الذين وصفهم الله قبل، بنبذ الكتاب والكفر والجحود وغير ذلك، وهم اليهود الذين هم بحضرة رسول الله [عليه السلام] لأنهم تركوا كتابهم واتبعوا السحر.
﴿على مُلْكِ سليمان﴾: أي: على عهده.
قال السدي: " كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتسمع ما أُخْبِرَ به الملائكة مما يحدث في الأرض / من موت أو جدب أو غير ذلك فيخبرون به الكهنة، فتحدث الكهنة الناس ويزيدون فيه مع كل كلمة سبعين كلمة من الكذب. فاكتتب الناس ذلك في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فجمع سليمان تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين
وقال الربيع في خبر رفعه إلى النبي ﷺ:
" أن اليهود سألوا النبي ﷺ عن السحر فقال لهم النبي [عليه السلام]: إِنِّما عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ إِلَى السِّحْرِ وَالكَهَانَةِ فَوَضَعَتْهُ فِي كُتُبٍ وَدَفَنَتْه تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجُوا الكُتُبَ وَخَدَعُوا بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعوهَا ".
وقال ابن إسحاق: " إنما كتبت الشياطين ما كتبت حين علمت بموت سليمان ﷺ؛ / كتبت: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا. فكتبوا أصنافاً وختموا عليه وعنونوا: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصِّديق للملك سليمان بن داود. ثم دفنوه تحت الكرسي. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل واتبعته، / وقالوا: ما ملك سليمان إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس، فليس السحر في أحد أكثر منه في اليهود. وقد سحروا النبي ﷺ ".
وبابل: موضع يقال الملكان فيه في سرب من الأرض معلقين في ضوء كضوء النهار.
وقيل: إنما سمي بابلاً لأن الألسنة فيه تبلبلت، وافترقت الأمم من ذلك المكان في الآفاق لاختلاف ألسنتها.
وقال ابن عباس: " إن سليمان لما ذهب ملكه ارتد فئام من الناس من الجن والإنس وأحدثوا سحراً، واتبعوا الشهوات. فلما رجع سليمان إلى ملكه، أخذ تلك الكتب ودفنها. فلما مات ظهرت الإنس والجن على تلك الكتب، وقالوا: هذا كتاب من عند الله أخفاه عنا سليمان فجعلوه ديناً ".
ومعنى ﴿تَتْلُواْ﴾: تحدث وتروي وتتكلم.
وقيل: معناه تتبع.
قوله: ﴿على مُلْكِ سليمان﴾.
أي: في ملكه وعهده.
قال ابن عباس: " كان سبب محنة سليمان ﷺ أن أهل امرأة له يقال لها جرادة اختصموا إليه مع خصماء لهم / فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً. وكان سليمان ﷺ إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يقضي حاجة أعطى خاتمه لجرادة، فلما أراد الله منه ما أراد جاء الشيطان يوماً في
قوله: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين﴾.
" ما " في موضع نصب عطفاً على " ما " في قوله: ﴿واتبعوا مَا﴾.
وإن شئت عطفاً على السحر أي: ﴿يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين﴾.
وقيل: ما جحد قاله ابن عباس /. أي لم ينزل على الملكين السحر.
ومعنى ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ أي يخبرانه بالسحر ليتجنبه ولئلا يقع فيه وهو لا يدري فيقولان: " السحر هو كذا وكذا، فاجتنبه فإنه كفر ".
وقيل: يعني بالملكين هنا: جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود تزعم أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله بذلك وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأن تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذي يعلمه رجلان اسمهما هاروت وماروت. فهو رد على الشياطين.
وقيل: الذي يتعلمه من الناس هاروت وماروت. فهو رد على الناس.
وقال قتادة والزهري عن عبد الله: " كانا ملكين أهبطا إلى الأرض للحكم
وذكر ابن الأعرابي في " الياقوتة " أن معنى " يُعَلِّمَان ": " يُعْلِمانِ " مخففاً. قال: والعرب تقول: " تعلم مني " أي: اعلم. قال: ومعناه: أن الساحر يأتي الملكين فيقول: أخبراني عما نهى الله عنه [فننتهي عنه]، فيقولان: نهى عن الزنا، فيقول: وما الزنا؟ فيصفانه له. ويقولان: نهى عن اللواط ويصفانه. ونهى عن السحر ويصفانه له / لينتهي عنه، فينصرف ويخالف ويكفر.
وروي عن ابن عباس في قصة الملكين: " أن الله تعالى أطلع الملائكة على أعمال بني آدم، فقالوا: يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، و [أسجدت له] ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء يعملون بالخطايا. فقال الرب لهم: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك، ما كان ينبغي لنا. قال: فأمروا أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأحل لهما كل شيء إلا الشرك والسرقة والزنا وشرب الخمر، وقتل النفس. قال: فما أشهرا حتى عرض لهما بامرأة، قد قسم لها / بنصف الحسن، فلما أبصراها تعرضا لها، قالت: لا، إلا أن تشركا بالله شيئاً /، وتشربا الخمر وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم.
قالا: ما كنا لنشرك بالله شيئاً. فقال
وروي عن ابن عباس أنه قال: " نزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكانت الملائكة من قبل يستغفرون للذين آمنوا: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ [غافر: ٧] فلما وقع الملكان في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض ".
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس، فلما أراداها قالت: لا، إلا أن تعلماني الكلام الذي إذا تكلم به عرج إلى السماء. فعلماها فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً ".
وقال السدي /: " إن هاروت وماروت طعنا في بني آدم وأحكامهم. فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات فيها يعصون. فقالا: لو أعطينا تلك الشهوات ونزلنا لحكمنا بالعدل. فأعطيا ذلك، ونزلا ببابل. فكانا يحكمان إلى المساء، ثم يصعدان، فإذا أصبحا نزلا. فأتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها [فكلماها في نفسها]، فقالت: لا، حتى تقضيا لي على زوجي، فحكما لها عليه، ووعدتهما قرية خربة فأتياها. فلما أرادا منها الحاجة، قالت: لا، حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان، فأخبراها، [فتكلمت فصعدت وأنساها الله] الاسم الذي تنزل
وكان ابن عمر يلعن الزهرة. رواه نافع عنه.
وكل هذه الأخبار تدل على أن " ما " في قوله: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين﴾ ليست بنفي.
وروى ابن وهب أن خالد بن أبي عمران ذُكر عنده هاروت وماروت أنهما يعلمان السحر، فقال: " ننزههما عن هذا ". فقرأ بعض القوم ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين﴾
قال السدي: " إذا أتى الملكين أَحَدٌ يتعلم السحر يقولان له: " لا تكفر إنما نحن فتنة ". فإذا أبى قالا له: " إئت هذا الرماد فبل فيه.
فإذا بال عليه خرج منه نور ساطع فيسطع حتى يدخل السماء، فذلك الإيمان. ثم أقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بما رأى وبما / فعل علماه ".
ومعنى ﴿إِنَّمَا نَحْنُ [فِتْنَةٌ]﴾: أي اختبار وابتلاء.
وروي أن الله جل ذكره أخذ على هاروت وماروت الميثاق ألا [يعلما
وهذا يدل على قتل الساحر إذا سحر وظفر به من غير استتابة، لأنه شيء يخفيه فلا يُعلم بصحة توبته منه لو تاب.
ويقال: إنهم كانا يعلمان من السحر ما يفرق به بين الزوجين خاصة كما ذكر الله.
وقوله: ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾.
أي: بعلمه وقضائه لا بأمره لأن الله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، فلا تقع الفحشاء من فاعلها، إلا بعلم الله وقضائه وقدره. هذا مذهب أهل السنة والجماعة. وتعليمهم السحر هو فتنة أختبر بها الخلق.
وقيل: هو تعليم إنذار منه وتحذير منه، لا تعليم دعاء له ورغبة في العمل به.
أي: بقضائه المتقدم أنهم يفعلونه ويضرون به.
وقيل: معناه بعلم الله.
وقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ﴾.
قوله: ﴿لَمَنِ اشتراه﴾.
أي: لمن استحبه وقبله وعمل به، ما له في الآخرة من خلاق.
أي: علمت يهود في التوراة أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق.
أي: من نصيب وحظ.
وقيل: من دين.
وقيل: من قوام.
وقيل: إن (علموا) يراد به الشياطين لأنه لو رد إلى اليهود لكان قوله:
وقيل: علموا هو للمَلَكَين لأنهم يقولون: لا تكفر، فقد علموا أنه لا خلاق لمن اشتراه في الآخرة، وثُني كما يقال: " الزَّيدان قاموا ".
وقال الزجاج: " علموا ": هم علماء اليهود ".
وقوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾.
قيل لهم ذلك لأنهم صاروا في محل من لا علم عنده إذ لم ينتفعوا بعلمهم، فصاروا بمنزلة الجاهل بهذا الأمر، فنفى عنهم العلم بعد أن أخبر أنهم علموا من أجل ذلك. وهذا مشابه لقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] لأنهم لما لم ينتفعوا بهذه الأعضاء كانوا بمنزلة من عَدِمَها، فوصفوا بذلك وهم غير صم ولا بكم ولا عمي.
﴿وَشَرَوْاْ﴾ هنا بمعنى باعوا. وتقدير الكلام عند الطبري: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "، أي: يَعْلَمون أنه يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم. يريد به الذين
ثم قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه﴾.
يريد به علماء اليهود. فإيجاب العلم لعلماء اليهود ونفيه هو عن الذين يتعلمونه للتفريق.
وقتل الساحر عند مالك واجب بهذه الآية إذا سحر بنفسه لأنه كفر لقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَكْفُرْ﴾. والكافر إذا ستر كفره [قتل إلا أن] يأتي قبل أن يُعرف به، فيخبر بما كان سَتَر، فإن توبته تقبل. ومثله الزنديق عند مالك يقتل إذا قدر عليه ولا يستتاب. فإن أَظْهَره قبل أن يُظهر عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل. وهو والزنديق سواء.
والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويُسِر الكفر، فلا تقبل توبته لأنا لا ندري ما في ضميره، وقد قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥]. فلا تنفع الساحر، [و] الزنديق توبتهما إذا ظفر بهما، وتنفعهما إذا أتيا قبل أن يُقدر عليهما، كما كان هؤلاء تنفعهم توبتهم قبل / إتيان العذاب، ولا ينفعهم ذلك عند رؤية العذاب. وهو قول عثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة، وجماعة من الصحابة
ولا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك، ولكن يعاقب إلا أن يقتل بسحره فيقتل أو يُحدِث حَدثاً فيؤخذ منه بقدر ذلك.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: " لا يقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضرراً لم يعاهد عليه على مسلم ".
وكذلك روى ابن القاسم: قال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها. قال: " ينكل بها ولا تقتل ".
وقال الشافعي: " لا يقتل الساحر ولكن يسأل عن سحره، فإن كان كفراً / استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله فيئاً ".
أي: لو أن الذين [يتعلمون السحر آمنوا أي: بمحمد ﷺ، وما أنزل الله، ﴿واتقوا﴾] أي اتقوا الكفر وعمل السحر - لوجب لهم عند الله الثواب على ذلك. فهو خير لهم لو كانوا يعلمون قدر ذلك.
وقيل: ﴿لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾: أي لو علموا مبلغ ثواب الله / ورضاه ومقدار ذلك.
وقيل: معنى: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾: لرجعة إلى الله خير.
وقيل معنى ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾: أي: لأثيبوا على ذلك، فَاسْتُغْنِيَ بالمثوبة عن الثواب، لأن المثوبة مصدر يشتمل على الماضي وغيره. " ولو " تحتاج إلى جواب يكون ماضياً، ودلت المثوبة على الماضي.
وقال ابن إسحاق: " معنى ﴿لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾، أي: يعملون بعلمهم.
قوله: ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا﴾. أي: خلافاً.
وقيل: معناه أرعنا سمعك، أي: اسمع منا ونسمع منك.
قال الضحاك: " كان الرجل من المشركين يقول: " أرعني سمعك " ".
قال قتادة: " هي كلمة كانت اليهود تقولها على الاستهزاء، فنهى الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم ".
وقيل: إنها لغة كانت في الأنصار فنهوا عن قولها تعظيماً للنبي ﷺ وتبجيلاً له، لأن معناها: " أرعنا نرعك "، فكأنهم لا يرعونه حتى يرعاهم، بل يرعى ﷺ على كل حال. ولا يعرف أهل اللغة: " راعيت " بمعنى " خالفت " كما روى مجاهد.
وقرأ الحسن " راعنا " من " الرعونة " منوناً ونصبها على المصدر: كأنه قال:
وقرأ الأعمش: " أنظِرنا - بقطع الألف وكسر الظاء - أي: أخرنا، وذلك بعيد لأنهم لم يؤمروا بالتأخير /، إنما أمروا بالقرب منه والتلطف في الخطاب.
وقيل: معنى قراءة الأعمش: أمهلنا.
وقوله: ﴿واسمعوا﴾ أي: واستمعوا ما يقال لكم، وَعُوه.
ثم قال: ﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب﴾ الآية.
يعني بها اليهود والنصارى أنهم لا يحبون أن ينزل على المؤمنين خير من الله.
﴿والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾.
أي: بنبوته ورسالته فيرسلها إلى من يشاء، ويهدي من يشاء.
قوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾.
أي: من حكم آية، قرأ ابن عامر: ما نُنسِخْ - بضم النون الأولى وكسر السين، بمعنى: " ننسخك ".
قوله: ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾.
من ضم / النون الأولى وَكَسَر السين، فمعناه: نتركها لا نبدلها. وهو مروي عن ابن عباس على معنى: نأمرك بتركها.
ويلزم على هذا المعنى فتح النون ليصح معنى الترك إذ هو غير معروف في اللغة: أَنْسَيْتُ الشيء تركته، إنما يقال: " نسيت "، كما قال ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]، أي: تركوه فتركهم. / وهذا إنما يصح على قراءة من قرأ " نَنْسِهَا " بالفتح.
وعن ابن عباس أن في الآية: [تقديماً وتأخيراً]، والتقدير: ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها أي بأنفع منها لكم أو مثلها.
ثم قال: ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ أي نؤخرها فلا ننسخها ولا نبدلها.
وقيل: معناه: نأمرك بتركها كأنه: " أو ننسكها "، أي: نجعلك تتركها.
وقيل: معناه: ننسكها من النسيان أي: نزيل ذكرها من قلبك فلا تذكرها.
فأما قراءة من قرأ " نَنْسَأَهَا " بالهمز، فمعناه أو نؤخرها فلا ننزلها البتة.
وقيل: معناه نؤخرها بعد إنزالها وتلاوتها فلا تتلى.
وقيل: معناه نؤخر العمل بها [وننسخه ويبقى لفظه متلواً غير معمول] به. ولكل واحد من هذه المعاني أمثلة في كتاب الله تعالى قد بيناها في كتاب:
فالنسخ يكون فيما نزل، والنَّسْءُ فيما لم ينزل فيؤخر. يقال: " نسَّأَ الله في أجلك وأَنسأَ " أي: أخر فيه.
وقيل: معنى هذا القول: ما ننسخ من آية من اللوح المحفوظ فننزلها على محمد ﷺ " أو ننسأها " أي نؤخرها في اللوح فلا ننزلها، فالمنسوخ جميع القرآن، والمنسوء ما أخر، فلم ينزل هذا على هذا التأويل.
وفيها قول ثان: وهو أن يكون معناه: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ أي: نرفعها، " أو ننسأها ": أي نؤخرها فلا نرفعها.
وفيها قول ثالث: وهو أن يكون " ننسأها " [معناه نؤخرها عن] التلاوة ويبقى الحكم بها نحو آية الرجم.
وفيها قول رابع: وهو أن يكون " ننسأها " معناه نؤخره إلى وقت ما، نحو ما
وقرأ الضحاك بن مزاحم " أو تُنْسَها " - بالتاء مضمومة وفتح السين - على ما لم يُسَمَّ فاعله، أي: " ينسكها الله أو الشيطان " بدلالة قوله: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان﴾ [الأنعام: ٦٨].
وقوله: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾.
معناه عند أبي إسحاق وقطرب: / " نأت منها بخير " وهو غلط عند النحويين. لأن من حقها أن تكون بعد " أفعل " لا قبله " وخير " أفعل فإن جعلت " خيرا " فعلاً الذي هو ضد الشر، ولم تجعله أفعل، جاز ذلك.
وقيل: المعنى: نأت بخير منها لكم، إما في تخفيف وإما في زيادة أجر في الآخرة.
وقيل: معنى ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾ أي: بأنفع لكم منها في زيادة الأجر إذا صح من الأصل إذا [عملتم بها].
وقوله: ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾.
أي: مثلها في الآخرة، لكنها أحب إليكم من المنسوخة نحو نسخ القبلة إلى بيت المقدس، نسخت بالتوجه إلى الكعبة فهي مثلها، وهو أحب إليهم من بيت المقدس
وقيل: المعنى نأت بأنفع لكم منها في الوقت الثاني، وأصلح لِحَالِكُم في النفع وصلاح الحال.
وقال السدي وغيره: " ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾ أي: من التي نسخنا، ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾: أي: مثل التي تركنا فلم ننزلها ".
وقيل: بخير من هذه أو هذه.
ولا يجوز لذي علم ودين أن يتأول بهذا النص تفضيل بعض القرآن على بعض لأن القرآن كلام الله جل ذكره / ليس بمخلوق وإنما يقع التفضيل بين المخلوقات فاعلمه.
قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾.
معناه أن النبي [عليه السلام] قد كان عالماً بذلك فضلاً من الله عليه، فخرج هذا الكلام مخرج التقرير على عادة العرب. تقول العرب للرجل: " ألم أكرمك، ألم أفضل عليك " يخبره بذلك، وينبهه عليه، وهو عالم به. ومعناه: قد علمت ذلك، فكذلك هذا.
وقال الطبري: " حرف الاستفهام في هذا داخل لمعنى الاستثبات والتنبيه لأصحاب النبي [عليه السلام] الذين قيل لهم: لا تقولوا راعنا. ويدل على صحة ذلك قوله بعد ذلك: ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله﴾، فأتى بلفظ / الجماعة. وقد قال تعالى:
﴿يا أيها النبي﴾ [الطلاق: ١]، ثم قال: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ [الطلاق: ١]. وقال: ﴿يا أيها النبي اتق الله﴾ [الأحزاب: ١]. ثم قال: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [الأحزاب: ١].
ومعنى ذلك: " أَلَمْ تعلموا أن الله قادر على تعويض ما ينسخ من أحكامه وفرائضه للتخفيف عليكم أو لزيادة أجر لكم ". وهذا كله إنما هو تنبيه لليهود على أن أحكام التوراة جائز أن [تُنسخ على يدي] نبي، أو بكتاب آخر لأنهم أنكروا ما
معناه أن النبي [ عليه السلام ]( ١ ) قد كان عالماً بذلك فضلاً من الله عليه، فخرج هذا الكلام مخرج التقرير على عادة( ٢ ) العرب. تقول العرب للرجل : " ألم أكرمك، ألم أفضل عليك " يخبره( ٣ ) بذلك، وينبهه عليه، وهو عالم به. قد علمت ذلك، فكذلك هذا.
ومعناه : قد علمت يا محمد أن الله على كل شيء قدير وعلمت أن الله له ملك السماوات والأرض( ٤ ).
وقال الطبري( ٥ ) : " حرف الاستفهام في هذا داخل لمعنى( ٦ ) الاستثبات( ٧ ) والتنبيه لأصحاب النبي [ عليه السلام ]( ٨ ) الذين قيل لهم : لا تقولوا راعنا( ٩ ). ويدل على صحة ذلك قوله بعد ذلك :( وَمَالَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ )، فأتى بلفظ( ١٠ )/ الجماعة. وقد قال تعالى( ١١ ) :( يَأَيُّهَا النَّبِي )، ثم قال( ١٢ ) :( إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ )( ١٣ ). وقال :( يَأَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ )( ١٤ ). ثم قال :( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً )( ١٥ )( ١٦ )( ١٧ ).
ومعنى ذلك : " أَلَمْ تعلموا أن الله قادر على تعويض ما ينسخ من أحكامه وفرائضه للتخفيف( ١٨ ) عليكم أو لزيادة أجر لكم ". وهذا كله إنما هو تنبيه لليهود على أن أحكام التوراة جائز أن [ تُنسخ على يدي ]( ١٩ ) نبي، أو بكتاب آخر لأنهم أنكروا ما أتى به صلى الله عليه وسلم مما ليس في التوراة، فنبهوا على أن التوراة( ٢٠ ) يجوز نسخها( ٢١ ) على لسان نبي/ غير موسى كما كانت التوراة ناسخة( ٢٢ ) لما تقدمها من الكتب( ٢٣ ). ومعنى " يَنسخ( ٢٤ ) بعض كتب( ٢٥ ) الله بعضاً " : أنه إنما ينسخ بعضها بعضاً في الشرائع لا غير، كما قال :( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )( ٢٦ ). فالدين( ٢٧ ) في الكتب كلها واحد وهو التوحيد، وهو دين الإسلام. والشرائع/ مختلفة يتعبد/ الله جل ذكره أهل كل كتاب بما شاء وبما أراد لا معقب لحكمه لا إله إلا هو.
٢ - في ع٣: عادات..
٣ - في ع٣: بخيره. وهوتصحيف..
٤ - انظر: هذا التوجيه في جامع البيان ٢/٤٨٤-٤٨٥..
٥ - سقط من ع٣..
٦ - في ق: بمعنى. وفي ع٣: المعنى..
٧ - في ع٢ الاستتابة. وهو تحريف..
٨ - في ع٣: صلى الله عليه وسلم..
٩ - سقط من ع٣..
١٠ - في ع٢، ع٣: بخطاب..
١١ - في ع٢: تعالى ثم قال..
١٢ - سقط من ع٣..
١٣ - الطلاق آية ١..
١٤ - الأحزاب آية ١..
١٥ - الأحزاب آية ١..
١٦ - في ع٢: خبير. وهو خطأ..
١٧ - انظر: جامع البيان ٢/٤٨٥..
١٨ - في ع١، ح: لتخفيف. وفي ع٢، ع٣: بخفيف..
١٩ - في ع٣: ينتسخ على يد..
٢٠ - قوله: "فنبهوا على أن التوراة" ساقط من ق..
٢١ - في ق: ننسخها. وهو تحريف..
٢٢ - في ع٣: ناسخه. وهو تحريف..
٢٣ - انظر: هذا التوجيه في جامع البيان ٢/٤٤٨..
٢٤ - في ع١، ع٢، ح: تنسخ، وفي ع٣: نتسخ..
٢٥ - في ع٣: كتاب. وهو تحريف..
٢٦ - المائدة آية ٥٠..
٢٧ - في ع٢، ع٣: فالذين. وهو تصحيف..
قوله: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ﴾.
" أم " تقع منقطعة بعد الخبر والاستفهام تقول: " جاءني زيد " ثم تقول: " أم جاءني عمرو "، وتقول: " هل عندك زيد أم [عندك عمرو]، " و - أزيد عندك أم لا؟ " كأنه في هذا كله أدركه الشك، بعد أن مضى صدر الكلام فاستدرك بـ " أم ".
فالتسوية تُجري هذا على حروف الاستفهام، كما أجرى الاختصاص ما ليس بمنادى على حروف النداء.
قال بعض النحويين في ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾: " معناه: أتريدون ".
وقيل: هي منقطعة مما قبلها بمنزلة قول العرب: " إنها لإبل أم شاء ". وهذا القول بعيد لأنه لا يصح في أكثر كلام العرب إلا على حدوث شك دخل المتكلم، وذلك لا يليق بالقرآن.
قوله: ﴿كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ﴾.
قال ابن عباس: " [أتى رجلان من] اليهود إلى النبي [عليه السلام] فقالا له: إئتنا بكتاب نقرأه، وفَجِّر لنا أنهاراً نتبعك. فأنزل الله تعالى: ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ﴾ الآية.
ومعنى ﴿سُئِلَ موسى﴾، هو قولهم: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾.
وقال مجاهد: " سألت قريش [النبي عليه السلام] أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: نعم، هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل. فأبوا ورجعوا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ الآية ".
وقال أبو العالية: " جاء رجل إلى النبي / [عليه السلام] فقال: لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل. فقال النبي [عليه السلام لا نبغيها]: مَا أَعْطَاكُمُ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى
قوله: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان﴾.
قال أبو العالية: " الشدة بالرخاء ".
وقيل: الجحود بالإيمان، وهو أولى.
قوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾.
أي: ذهب عنه وزاغ.
قوله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾.
قيل: " كثير " هنا واحد، وهو كعب بن الأشرف /. قاله الزهري.
وقيل: هما ابنا أخطب. قاله ابن عباس.
وقيل: هو عام في أكثرهم.
وفي الآية تقديم وتأخير، معناها: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً ".
ومعنى: ﴿مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: لم يؤمروا به، ولا وجدوه في كتاب إنما اخترقوه واخترعوه من قبل أنفسهم.
﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق﴾ أي: من بعد ما ظهر لهم أمر محمد ﷺ في التوراة
ثم قال: ﴿فاعفوا واصفحوا﴾.
أمر الله تعالى المؤمنين بالعفو عنهم إلى وقت يأتي فيه أمر الله تعالى بترك العفو. فالآية منسوخة بالأمر بقتالهم وقتلهم وهو قوله: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ [التوبة: ٥] وقوله: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] الآيتان.
وقوله: ﴿واقتلوهم﴾ [البقرة: ١٩١].
وقوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾.
إقامة الصلاة هو أداؤها بفروضها لوقتها وهي الخمس الصلوات المفروضة.
قال أنس بن مالك: " فرضت الصلاة على النبي ﷺ ليلة الإسراء خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً تخفيفاً من الله، ثم نودي يا مُحَمَّدُ: إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ القَْولُ لَدَيَّ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذَه الخَمْسِ خَمْسِين ".
وروي عن ابن عباس: " دلوكها زوالها ". وقاله ابن عمر وأبو هريرة. ﴿وَقُرْآنَ الفجر﴾ [الإسراء: ٧٨] صلاة الصبح.
وقال قتادة: " ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس﴾ [طه: ١٣٠]: هي صلاة الفجر ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: ١٣٠] صلاة العصر. ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ [طه: ١٣٠] صلاة المغرب والعشاء الآخرة.
وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر الزوال.
وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور.
وقال عطاء: " لا تفريط في الظهر حتى تصفرّ الشمس ".
وقال طاوس: " لا تفوت حتى الليل ".
وقال النعمان: " آخر وقتها ما لم يصر الظل قامتين " وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ". هذا قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وأبي / ثور.
وقال النعمان: " أول وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال، ولا تجزئ الصلاة قبل ذلك ".
وقال أحمد وأبو ثور: " آخر وقتها ما لم تصفرّ الشمس على وجه الأرض ".
وقال إسحاق: " آخر وقتها أن يصلي منها ركعة قبل غروب الشمس لقول النبي عليه السلام " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ العَصْرِ رَكْعَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا ".
وهذا عند الشافعي وغيره إنما هو لأهل العذر.
وروي عن ابن عباس: " أن آخر وقتها غروب الشمس ". " ووقت المغرب غروب الشمس وقتاً واحداً "، وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي.
وقال الثوري وأحمد وإسحاق: " وقتها إلى أن يغيب الشفق ".
ووقت العشاء مغيب الشفق. وهو الحُمرة في قول ابن عمر وابن عباس ومالك وسفيان وابن أبي ليلى والشافعي.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ وأبي هريرة، وعمر بن عبد العزيز " إلى ثلث الليل " وهو قول مالك. وقال الثوري وابن المبارك وإسحاق " إلى نصف الليل ". وروي ذلك عن عمر أيضاً. ووقت صلاة الصبح انصداع الفجر إلى طلوع الشمس، ووقت الجمعة بعد الزوال، ومن صلى الجمعة قبل الزوال لم تجزه عند الجميع إلا أحمد بن حنبل فإنه أجازه قبل الزوال.
ومعنى قولهم في التشهد: " التحيات "، قال أبو عبيد " التحيات الملك،
قوله: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾.
معناه / قالت اليهود ذلك، وقالت النصارى ذلك، فأخبرنا الله أن ذلك هما يتمنون، فقيل لهم: هاتوا برهانكم على ذلك، أي حجتكم وبيّنتكم إن كنتم صادقين. وقد [أكذب الله تمنيهم وقولهم] ذلك بقوله: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤]، إي إن كنتم من أهل الجنة كما زعمتم، فتمنوا الموت لأنكم تنتقلون إلى ما هو خير لكم. فلما / لم يفعلوا عُلم أن قولهم / ذلك شيء لا حقيقة له وكذب وبهتان.
ثم قال: ﴿بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾. أي: أخلص عمله ونيته بالطاعة والإيمان. وخص الوجه بالذكر دون سائر الأعضاء لأنه أشرف أعضاء بني آدم وأعظمها حُرمة. فإذا خَضَّع وجهه الذي هو أكرم الأعضاء كان ما سواه أحرى أن يخضع.
قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾. نزلت في قوم من أهل الكتابين تخاصموا عند النبي [عليه السلام] فكفر بعضهم بعضاً، فأخبرنا الله أنه قد فعل هذا من كان قبلهم ممن لا يعلم، وأنهم فعلوا ذلك وهم يجدون في كتبهم كذبهم فيما يقولون لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً، فلذلك قال تعالى:
وقيل: عني بذلك الجاهلية في العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.
وقيل: قالوا: ليست اليهود على شيء ولا النصارى على شيء.
وقيل: إنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فالذين من قبلهم قالوه وهم غير عالمين، وهؤلاء / قالوا عن علم لأن ما قالوا كذب.
ومعنى قولهم: ﴿لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾، ﴿لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ﴾: إنما أرادوا أنهم ليسوا على شيء [مذ دانوا]، ولم يريدوا ليسوا على شيء الساعة لأنهم لو أرادوا ذلك لكانوا صادقين في قولهم، إذ كل فريق منهم قد جحد / نبوة محمد ﷺ وهو يعلم أنه نبي ويجده في كتابه، فهو في ذلك الوقت ليس على شيء لأن
قوله: ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾: أي: يفصل.
وسميت الآخرة القيامة لأن فيها يقوم الخلق كلهم من قبورهم.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله﴾ الآية.
عني بذلك النصارى منعوا الناس من بيت المقدس وكانوا يطرحون فيه الأوساخ قاله ابن عباس وغيره.
وقال قتادة: " حمل بُغض النصارى لليهود أن أعانوا عدو الله بُخْتُنصر المجوسي البابلي على تخريب بيت المقدس ".
وقال السدي: " أعانت الروم بختنصر على خراب بيت المقدس عداوة منهم لليهود إذ قتلوا يحيى بن زكريا ".
وقوله: ﴿أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾.
قال قتادة: " هم اليوم لا يوجد أحد منهم في بيت المقدس إلا عوقب ".
وقال السدي: " لا يدخل رومي بيت المقدس إلا خائف أن تضرب عنقه مع أنهم / أخيفوا بأداء الجزية ".
وقال ابن زيد: " معناه أن رسول الله ﷺ نادى: أَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، فخاف المشركون وانْتَهَوُا ".
وقيل: هو خلاؤها أي: المنع من ذكر الله فيها من الصلاة وذكر الله فيها.
وقال / ابن زيد: " هو منع المشركين المسلمين من الحج والعمرة ".
والخزي أخذ الجزية منهم وهم صاغرون، أي: من اليهود والنصارى.
وقال السدي: " الخزي هو قتل الروم عند قيام المهدي وفتح القسطنطينية ورومية ".
قوله: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾.
معناه: إنَّ له / ما بين مشرقها / كل يوم، ومغربها كل يوم، وإنما خص الله تعالى ذكره ذا أنه له وإن كان كل الأشياء له لأنه نزل في أمر معين، وذلك أن اليهود كانت تصلي نحو بيت المقدس، وصلى النبي ﷺ معهم إليها ستة عشر شهراً، ثم رجع إلى الكعبة. فاستعظم اليهود ذلك، وقالوا: ما ولاّهم عن قبلتهم
وقال قتادة: " هذا منسوخ، وذلك أن الله تعالى أباح لهم أولاً التوجه حيث شاءوا، وأخبرهم أنه أينما تولوا وجوهكم فثمَّ وجه الله، لأن له المشارق والمغارب، ثُمَّ نسخ ذلك بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
وقال ابن زيد: " لما أنزل على النبي ﷺ ﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ وأباح له التوجه أين
وقال ابن عمر: " الآية نزلت في التطوع، وكان يصلي حيثما توجهت به الراحلة ويقول: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ ".
وقيل: " نزلت في قوم عميت عليهم القبلة، فصلوا إلى جهات مختلفة، فأعلموا أن صلاتهم ماضية ".
وروى عامر بن ربيعة عن أبيه أنه قال: " كنا مع رسول الله [ ﷺ] في سفر فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة. قال: فصلينا وعَلِمْنَا، فلما طلعت
وقيل: إنها نزلت في أمر النجاشي؛ قال قتادة: قال النبي ﷺ لأصحابه: " إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِي قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ. فَقَالُوا: نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. فَأَنْزَلَ الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾. فقالوا: وإنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ الآية "
. وقد أفردنا كتاباً للناسخ والمنسوخ مبسوطاً / بأشبع من هذا.
ومعنى: ﴿وَجْهُ الله﴾. أي جهته التي أمرتم باستقبالها.
وقيل: معناه فثمَّ قبلة الله.
وقوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ﴾. أي: تستقبلوا بوجوهكم.
وقيل: معناه: تستدبروا من " وَلَّيْتُ عَنْهُ ". وهو قول غريب.
وقوله: ﴿وَاسِعٌ﴾ أي واسع الرحمة، ﴿عَلِيمٌ﴾ بكم / وبما في قلب النجاشي من الإيمان.
ثم قال: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾.
أي: وقال الذين منعوا الذكر في مساجد الله وسعوا في خرابها: اتخذ الله ولداً.
﴿سبحانه﴾: أي: براءة له من ذلك وتنزيهاً له.
قال أبو إسحاق: " يريد به النصارى واليهود والمشركين من العرب، لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله ".
وروي عن ابن عباس " أن النبي ﷺ قال: قَال اللهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ
قوله: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾. أي: مطيعون.
وقيل: مطيعون يوم القيامة.
وقيل: مقرون بالعبودية.
وقال الفراء: " هو خصوص يراد به أهل الطاعة ".
وأصل القنوت في اللغة الطاعة، والقنوت القيام الطويل.
وقال الحسن: " يعني اليهود والنصارى ومشركي العرب؛ كل [له قائم] بالشهادة بأنه عبد له ".
وقال في آية أخرى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧]. من تفسير ابن سلام. قوله: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ١١٧]. ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ [الأنعام: ١٠١].
أي: كيف يكون له ولد وهو خلق السماوات والأرض بمن فيهما وابتدعهما من غير مثال.
والمبدع المخترع للشيء، وبديع /: بمعنى مبدع.
ثم قال: ﴿وَإِذَا قضى أَمْراً﴾.
أي: إذا حتم أمراً، أو أحكم أمراً. ومنه قيل للقاضي: حاكم، لأن أصل كل قضاء الإحكام له، والفراغ منه.
زعم [قوم أن] هذا مخصوص في إحياء الميت ومسخ الكافر ونحوه لأن الأمر لا يكون إلا لموجود ولا يكون لمعدوم. وهذا قول مرغوب عنه.
ومعنى الآية: أنه تعالى عالم بالأشياء التي ستكون وكانت فقوله لها: " كن " إنما هو قول لموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا.
وقد قيل: إن المعنى: فإنما يقول من أجله كن. ف " لَهُ " بمعنى من أجله. وهذا أيضاً قول لا يمتنع وهو عام، لا يقتضي الأمر لموجود، لأن القول من أجله وقع لا له.
وقال الطبري: " أمره للشيء " يكن "، لا يتقدم الموجود ولا يتأخر عن الموجود، بل هو في حال يكون ذلك، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر. ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ".
قال: " ونظير ذلك قيام الأموات من قبورهم لا يتقدم / دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه، وقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ٢٥]. فمعنى الآية أن الله
والهاء في " له " تعود على الأمر، و " له " بمعنى من أجله.
وقيل: تعود على القضاء الذي دل عليه " قضى ".
وقيل تعود على المراد الذي عليه الكلام.
قوله: ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله﴾ الآية.
قال مجاهد: " عني بذلك النصارى ".
وعن ابن عباس قال: " قال رافع [بن حريملة] من اليهود لرسول الله صلى الله عليه سلم: إن كنت رسولاً من عند الله، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله﴾، أي: هلا يكلمنا.
وقال السدي والربيع وقتادة: " هم مشركو العرب، قالوا ذلك ".
قال مجاهد: " الذين من قبلهم هم اليهود لأنهم سألوا موسى ﷺ مثل ذلك من كلام الله ورؤيته سبحانه، فدل على أنهم النصارى ".
وقال قتادة: " الذين من قبلهم اليهود والنصارى ".
فعلى هذا يكون الذين عنوا بالآية مشركي العرب، وعلى هذا الاختيار يقع الاختلاف في ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
قيل: هم اليهود والنصارى.
وقيل: هم العرب واليهود والنصارى.
وقيل: ﴿الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ و ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾: هم قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وجميع الأمم الماضية المكذبة الكافرة.
قوله: ﴿وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾.
معناه التعظيم لما هم فيه كما تقول: " لا تسال عن فلان " أي قد بلغ فوق ما تظن.
وقيل: هو نهي نهى الله تعالى نبيه ﷺ عن ذلك لما روي أن النبي [ ﷺ]. قال: " لَيْتَ شِعْري مَا فَعَلَ أَبَوَايَ "، فأنزل الله تعالى، ﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ / فما سأل
ومن قرأ بالرفع، فهو في موضع الحال، تقديره: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ وغير مسؤول عن أصحاب الجحيم ".
وقيل: هو نفي، ولا " بمعنى " ليس كأنه قال: " ولست تسأل " كأنه أخبره أنه لا يسْأَلُ عن ذلك.
واختار جماعة الرفع لأن الكلام المتقدم يدل عليه، لأنه تعالى قال بعد الذكر اليهود والنصارى وما صنعوا:
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾.
أي: بشيراً لمن اتبعك، ونذيراً لمن كفر بك، " غير مسؤول عمن كفر بك. ولم يجر ما يوجب النهي. فجري الكلام على أوله أولى من جريه على خبر آحاد يقطعه
وقال المحتج للجزم: إن الجزم إذا حمل على التعظيم لأمر من تقدم كان مردوداً على ما قبله فيصير مثل الرفع، ويزيد الجزم مزية، وهو أن يحمل على الخبر. فالجزم محتمل لمعنى الرفع وزيادة.
قوله: ﴿وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى﴾ الآية.
دعت كل فرقة منهم النبي ﷺ إلى ما هم عليه فأخبر الله تعالى أنهم لا يرضون عنه إلا أن يتبع ملتهم.
ثم قال له: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ﴾.
هذا خطاب للنبي ﷺ يراد به أمته.
قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ﴾.
قال ابن مسعود: " ومعنى ﴿حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾، أي: يحل حلاله ويحرم حرامه، ويضعه على مواضعه. فمن قرأ منه شيئاً كان له بكل حرف عشر حسنات ".
وعني بذلك من آمن بالنبي [عليه السلام]، فيكون " يتلون " الخبر. وإن شئت " أولئك " الخبر، و " يتلون " حال.
وقيل: عني بذلك من آمن بالنبي [عليه السلام] من بني إسرائيل والنصارى، فيكون " يتلون " الخبر، وهو اختيار الطبري. فيكون مردوداً على ما قبله
وأجاز ابن كيسان أن يكون: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ خبراً عن " الذين " على أن يكون " الذين " يراد بهم المرسلون والأنبياء صلوات الله عليهم. وأجاز أن يراد " بالذين " العاملون بالكتاب خاصة منهم؛ فيكون " يتلون " الخبر أيضاً. ويجوز وجوه أخرى أيضاً.
وروي أنها مخصصة نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران بعضهم، ومن الحبشة بعضهم، ومن الروم منهم ثمانية؛ وهم الملاحون أصحاب السفينة الذين أقبلوا إلى النبي ﷺ مع جعفر بن أبي طالب أثنى الله تعالى عليهم إذ آمنوا بكتابهم
قوله: ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
أي: بمحمد ﷺ لأنهم إذا تلوا / التوراة حق تلاوتها وجدوه مكتوباً فيها. فهم يؤمنون بمحمد ﷺ ضرورة / إذا أنصفوا في التلاوة.
ومعنى ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ أي: يتبعونه حق اتباعه. كذلك رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ قاله. أي: يتبعون ما فيه حق اتباعه. وقيل: معناه: يقرأونه حق قراءته.
وقد قيل: إن الهاء في " به " عائدة على الكتاب كالهاء في " يتلونه " والهاء في " ومن يكفر به ".
قوله: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾. أي: على عالم زمانكم، وقد تقدم / ذكر النعم وما فضلوا به، ومن أجَلّ نعمة أنعم بها عليهم أن موسى [عليه السلام] أخبرهم بعيسى وبمحمد ﷺ وأمرهم باتباعهما، فلم يحتاجوا إلى آية لو كانوا موفقين لأنهم قد سبق عندهم خبر / الصادق بذلك، ففضلوا على سائر الخلق بما عندهم من العلم في أمر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ولم يتبعوهما، واتبعهما من لم يكن عنده مقدمة ولا خبر عنهما. كل ذلك بخذلان الله تعالى لهم وتوفيقه لغيرهم.
قوله: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾.
قيل: فاعل " أتمهن ": الله تعالى، أي أكملهن الله له.
وقيل: الفاعل إبراهيم ﷺ أخبره الله تعالى بما سبق في علمه فيه ليكون الامتحان موجوداً معقولاً فتقع عليه المجازاة والثواب، إذ لا يقع جزاء على ما في علم الله تعالى
واختلف في الكلمات؛ فقال ابن عباس: " هي ثلاثون سهماً، عشر منها في براءة ﴿التائبون العابدون﴾ [التوبة: ١١٢]. وعشر في الأحزاب. ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ [الأحزاب: ٣٥]. في (المؤمنين) إلى قوله: ﴿يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٩] وعشر في ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ [المعارج: ١] إلى ﴿حَافِظُونَ﴾ [المعارج: ٢٩]. أيضاً. وقيل: هي عشر خمس في الرأس، وخمس في البدن، فالتي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الشعر.
وروي في موضع الفرق: إعفاء اللحية.
وفي الجسد تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، وغسل المخرجين بالماء، والختان.
وعن ابن عباس أيضاً قال: " هي عشرة: ستة في الإنسان وهي: حلق العانة،
وعن مجاهد قال: " هي أن الله تعالى قال لإبراهيم ﷺ. إني مبتليك بأمر، فما هو؟ قال: / تجعلني للناس إماماً؟، قال الله: نعم. قال إبراهيم: ومن ذريتي؟ قال الله [ تعالى] /: لا ينال عهدي الظالمين. قال إبراهيم: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وأمنا؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: [تجعلنا مسلمين لك] ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وترينا مناسكنا وتتوب علينا؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال الله: نعم ".
وقال الحسن: " الكلمات هي الخلال الست التي ابتلي بها، وهي: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، ابتلي بهن فصبر عليهن ولم يزغ ".
وقيل: من ذلك الذبح.
وقال السدي: " الكلمات: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾، ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً﴾.
وروي عن النبي [ ﷺ] أنه قال: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ [النجم: ٣٧] " عَمَلُ يَوْمِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ ".
ورُوي عنه ﷺ أنه قال: " أَلاَ أُخْبِرُكُم لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ ﴿الذي وفى﴾ الآية. قال: كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ، وَكُلَّمَا أَمْسَى:
وروي أن الله جلَّ ذكره أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أوحى الله / إليه أن تطهر فاستنشق. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فاستاك. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فأخذ شاربه. ثم أوحى الله إليه أن تطهر ففرق شعره، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فاستنجى. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فحلق عانته، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فنتف إبطه، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فأقبل بوجهه على جسده ينظر ما يصنع، فردد البصر، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة، فأوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماماً؛ أي: يقتدي بك
قوله: ﴿لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾.
أي يقتدي بك من في عصرك ومن يأتي بعدك.
قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾.
قال ابن عباس: " عهدي. نبوتي ".
وقال مجاهد: " العهد هنا: الإمامة، / لا يستحق الظالم الإمامة ".
وقيل: " معناه. لا عهد لظالم عليك أن تطيعه في ظلم، وإن عاهدته فانقضه ".
وقيل: " العهد الأمان. أي: لا أُؤَمِّنُ الظالم من الانتقام منه "، قاله قتادة.
قال: " ذلك يوم القيامة، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم ".
وقيل: العهد هنا الطاعة. أي: لا ينال طاعتي ظالم.
والظالم هنا المشرك عن مجاهد. وقد أخبر الله تعالى بذلك فقال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: ١١٣] يريد إبراهيم وإسحاق.
وقال الضحاك: " معناه: طاعتي لا ينالها [عدو لي] ولا أَنْحَلُهَا إلا وَلِيّاً لي يطيعني ".
وقوله: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت﴾.
" إذ " في موضع نصب عطف على " إذ " في قوله: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ﴾. و " إذ " في: ﴿وَإِذِ ابتلى﴾ معطوفة على النعمة في قوله ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ أي واذكروا إذ ابتلى، واذكروا إذ جعلنا.
والهاء في " مثابة " دخلت للمبالغة عند الأخفش مثل نسَّابة وعلاَّمة.
ومعنى: ﴿مَثَابَةً﴾: " لا يقضون منه وطراً ". قاله مجاهد:
وقال السدي: " إذا أتاه مرة لا يدعه حتى يعود إليه ".
وقيل: معناه: لا ينصرف عنه منصرف إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً.
قوله: ﴿وَأَمْناً﴾. هذا كان في الجاهلية لأنهم كانوا إذا لقي أحدهم قاتل أبيه وأخيه في الحرم لم يؤذه حتى يخرج منه، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧].
ويروىَ أن عمر قال: " قلت يا رسول الله، لو اتّخذت المقام مصلى، فأنزل الله
فأما مَن فتح فهو خبر معطوف على النعمة عند الأخفش كأنه قال: اُذكروا نعمتي، واذكروا إذ اتخذوا ".
وقال غيره: " هو معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾ ".
والمقام هو الذي يصلى إليه اليوم. وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ﷺ حين ارتفع بناؤه / وضعف عن حمل الحجارة، فكان إسماعيل ﷺ يُناوِله الحجارة ويقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾. قاله ابن / عباس.
وروي عن ابن عباس أيضاً أن المقام هو الحج كله. وكذلك قال مجاهد وعلماء.
وقيل: هو عرفة والمزدلفة، والجمار. روي ذلك عن عطاء.
وعن مجاهد أنّ " مقامه الحرمُ كله ".
وقال الربيع بن أنس: " المقام هو الحجر الذي وضعت زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحَجَر، فوضعته تحت الشق الآخر / فغابت رجله أيضاً فيه ".
وقال عمر بن الخطاب: " وافقني ربي في ثلاثة، قلت يا رسول الله، لو اُتخذت [مقام] إبراهيم مصلى. فأنزل الله تعالى: ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وأشرت على النبي ﷺ بالحجاب، فأنزل الله سبحانه آية الحجاب، ووعظت نساء النبي فقلت لهن: لئن لم تنتهين ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله تعالى:
﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾ [التحريم: ٥].
وقال قتادة: " مصلى يصلون إليه ".
قوله: ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾.
أي: من الشرك والأوثان.
وقيل له بيت ولم يكن ثَمَّ بيت، لأنه كان بيتاً في عهد نوح ﷺ فأمره أن يطهره قبل بنيانه من الأوساخ؛ من الأصنام وغيرها.
وقيل: معناه أنهما أمرا ببنيانه مطهراً من الشرك. و ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ هم الغرباء.
وقيل: هم كل من يطوف حوله، وهو أبين.
و ﴿والعاكفين﴾؛ قال عطاء: " هم الجالسون من غير طواف ".
وقال سعيد بن جبير: " العاكفون هم أهل البلد ".
وقال ابن عباس: " العاكفون المصلون ".
وقوله: ﴿والركع السجود﴾ يمنع من هذا القول.
والاختيار عند جماعة أن يكون العاكف المجاور للبيت بغير / صلاة ولا طواف. وهو قول عطاء وغيره.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾.
قيل: إِنّ إِبراهيم ﷺ سأل الله أن يحرم مكة فحرمها، واحتج من قال ذلك بقول النبي ﷺ: " إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدُ اللهِ وَخَلِيلُهُ وإني عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا ".
وكان الطبري يجمع بين الخبرين، ويقول: " إن الله تعالى حرّم مكة وقضى ذلك، ولم يتعبد الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم / أن يتعبد الخلق بذلك فأجابه. فإبراهيم كان سبب تعبد الخلق بتحريمها والتعبد بذلك، والله تعالى قد حرّمها يوم خلق السماوات والأرض ".
وقوله: ﴿عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ [إبراهيم: ٣٧]. معناه الذي حرمته عندك، ولم تتعبد الخلق به. وروي أن إبراهيم ﷺ / لما دعا فقال: ﴿وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات﴾ أجاب الله تعالى دعاءه: فبعث جبريل عليه السلام إلى الشام، فاقتلع منها الطائف من موضع الأردن ثم
قوله: ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾.
ذلك إخبار من الله تعالى لنبيه ﷺ قاله أبي بن كعب. أي: أنا أرزق البر والفاجر فأمتع الفاجر قليلاً.
وقال ابن عباس: " هو من قول إبراهيم ﷺ سأل ربه تعالى أن يرزق من كفر فيمتعه قليلاً ".
ومعنى: ﴿أَضْطَرُّهُ﴾ أكرهه وألجئه إلى ذلك.
قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت﴾.
القواعد أساس البيت.
قال عطاء: هي قواعد آدم ﷺ كانت قد اندرست وخفي أثرها فبوأها الله [إبراهيم. قال عطاء: قال آدم] حين أهبط: ربي إني لأسمع أصوات الملائكة. قال: بخطيئتك، ولكن اُهبط إلى الأرض فابْنِ لي بيتاً، ثم احفُف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فبناه من خمسة أجبل، من حراء، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وأبي قبيس ".
وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " أهبط الله مع آدم ﷺ من السماء إلى الأرض بيتاً يطاف به كما يطاف بعرشه في السماء. ثم رفعه أيام الطوفان، فرفع إبراهيم
وقال عطاء: لمَّا أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض، وأهبط طوله أي: نقص، شكا أنه استوحش لِفَقْدِ أصوات الملائكة، فَوُجه إلى مكة / فكان موضع قدمه قَرْية، وما بين / القدمين مفازة، فأنزل الله تعالى عليه ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت في موضع البيت. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الطوفان، فرفعت إلى أن بعث الله إبراهيم ﷺ فبناه ".
وقال مجاهد: " لما أراد الله خلق الأرض علا الماءَ زبدةٌ حمراء أو بيضاء كهيئة القبة، ثم دحا الأرض من تحتها، وبقيت تلك الزبدة ربوة حتى بوأها الله إبراهيم ﷺ فبناه على أساسه، وأساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة ".
وقال ابن عباس: " وضع البيت على أركان الماء؛ أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ".
قال ابن عباس، " كان إبراهيم يبني، وإسماعيل ينقل الحجارة، فلما انتهى إلى موضع الحجر قال لإسماعيل: جئني بحجر حسن يكون عَلَماً للناس. فذهب إسماعيل فأتى بحجر فقال له: جئني بأحسن من هذا. فمضى إسماعيل ﷺ يطلب فنادى أبو قبيس: " يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فَخُذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان قد نزل به آدم عليه السلام من الجنة ".
وروي أن أبا قبيس جبل هاجر من خراسان إلى مكة. وقال النبي [عليه السلام]
" الحَجَرَ يَاقُوتَةٌ / مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ [بَيْضَاءٌ، وَلَولاَ مَا لاَمَسَهُ] مِنْ أَجْنَاسِ المُشْرِكينَ وَأَرْجَاسِهِمْ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلاَّ شَفَاهُ اللهُ تعالى ".
وذكر السدي أن إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لما أرادا البناء لم يدريا أين البيت. فبعث الله تعالى ريحاً يقال لها الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، فوضعا المعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك قوله: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ [الحج: ٢٦]، فلما بلغا في البناء إلى الركن قال إبراهيم لإسماعيل: اطلب لي حجراً حسناً أضعه هنا. قال: يا أبت. إني كسلان تعب. قال: على ذلك. فانطلق يطلب [حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا، فانطلق [يطلب حجراً] وجاء
وقال عبيد بن عمير الليثي: أتى إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام / يَبْرَى نبلاً قريباً من زمزم، فلما رآه [قام إليه]، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله [جل وعز] أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني / هاهنا بيتاً - وأشار إلى الكعبة مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت،
فمعنى الآية: أنها خبر من الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل صلى الله على محمد و [عليهما وسلم] وما كانا يفعلان في بناء البيت، وما كانا يقولان وهما يبنيان.
وقوله: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾.
أي: خاضعين لأمرك، مستسلمين لك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً، فالمسلم الذي قد استسلم لأمر الله [ تعالى]. والمؤمن هو الذي أظهر القبول لأمر الله سبحانه فأضمر مثل ذلك.
فأما قوله: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]. فمعناه ولكن
وقوله في الدعاء: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾.
دخول " مِنْ " يدل على التخصيص لبعض الذرية، لأن الله تعالى قد أعلم إبراهيم ﷺ أن من ذريته من لا يناله عهده لظلمه وفجوره. فخص إبراهيم عليه السلام بدعوته، ولم يعم لما تقدم عنده من الخبر عن الله تعالى.
والأمة هنا عني بها الجماعة.
وتكون الأمة الإمام كقوله في إبراهيم ﷺ ﴿ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠]، أي: إماما يقتدى به.
وتكون الأمة السنين كقوله: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ﴾ [هود: ٨]، أي: إلى سنين.
وتكون الأمة الملة كقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]. أي: على ملة ودين.
[ قوله] / ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾.
يعني [محمداً عليه السلام].
وقول إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ يدل على أن الإسلام والإيمان سواء، إذ لم يسألا إلا أعلى الرتب وأشرف المنازل، وهو الإيمان الذي هو الإسلام.
[قال] مالك: " لما وقف إبراهيم على المقام أوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك وهو قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾ إلى قوله: ﴿لَمِنَ الصالحين﴾. معناه أظهر لأعيننا مكان المناسك ان جعلته من رؤية العين.
وقيل: معناه عَلِّمناها وعَرِّفناها.
والمناسك: مناسك الحج ومعالمه.
وقال قتادة: " فأراهما / الله مناسكهما بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات، ومن جمع، ورمي الجمار حتى أكمل لهما الدين ".
وأمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات، ونعتها الله له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار اللعين فوقع على الجمرة الثانية [أيضاً فصده]، فرماه وكبّر فطار اللعين فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر. فلما رأى أنه لا يطيقه
وقيل: المناسك المذابح. فالمعنى على هذا: وأرنا كيف ننسك لك يا رب نسائكنا، فنذبحها لك.
قال عطاء: " مناسكنا ذبحنا ". وعنه: " مذابحنا ". وكذلك قال مجاهد.
وقيل: مناسكنا متعبداتنا. ومنه قيل للعابد ناسك.
قال ابن عباس: " لما قال إبراهيم ﷺ: " ﴿ رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، أتاه [جبريل ﷺ]
وواحد المناسك منسك مثل " مسجد ".
وقيل: منسك وكان يجب أن يكون على " مَنْسُك " بالضم لأنه من " فَعَلَ يَفْعُلُ " إلا أنه ليس في الكلام " مَفْعُلُ ".
وقيل: المنسك الموضع الذي ينسك فيه لله تعالى، ويتقرب فيه إليه سبحانه بما يرضيه من الأعمال الصالحة.
وأصله الموضع الذي يعتاده الإنسان يفعل فيه الخير، ولذلك [قيل: مناسك الحج لأنها مواضع] قد اعتادها الناس لفعل الخير.
ثم قال: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾.
التوبة الرجوع من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد / إلى ربه رجوعه مما هو عليه من المكروه بالندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ترك العمود فيه.
- فإن قيل: وهل كانت لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟.
- فالجواب: أنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه تعالى ما يجب عليه الإنابة [منه والتوبة، فخصا] الموضع الذي كانا فيه بالدعاء ليستجاب لهما على طريق التبرك به، وليكون دعاؤهما في ذلك المكان سُنة لمن بعدهما، وليتخذ الناس بعدهما تلك البقعة موضع تنصل من الذنوب ورجوع عن المكروه.
وقيل: عَنَيا بقولهما: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾: وتب على الظلمة من ذريتنا الذين أعلمتنا أن منهم ظالماً.
وقوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾.
معناه إنك أنت العائد في الفضل على عبادك، المتفضل بالغفران لذنوبهم، الرحيم بهم.
ثم قال: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ﴾.
وكان النبي [عليه السلام يقول]: " أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْراهيمَ وَبُشْرَى عِيسَى ".
قال قتادة: " [فأجاب] الله دعوتهما، فبعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو محمد ﷺ " قال الربيع: / " فقيل لإبراهيم: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان ".
وقوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك﴾.
من نعت الرسول. أي: يقرأ عليهم كتابك، وكذلك ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، كله من نعت الرسول ﷺ.
والكتاب القرآن.
قال قتادة: " الحكمة: السنة ".
وقال ابن زيد: " الحكمة. العقل في الدين ".
ومعنى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾: ويطهرهم من الشرك بك ويكثرهم بطاعتهم لك.
ثم قال: ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾.
أي: أنت القوي الذي لا يعجزه شيء المنيع الغالب. وأصل العزة المنع والغلبة، والعرب / تقول: " مَنْ [عزّ بَزّ] "، أي: من غلب استلب.
وقولهم: " أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ "، أي: غلبتك وظفرك.
والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال الطبري: " الحكيم ذو الحكمة ".
وقيل: " الحكيم الحاكم ".
وقال ابن عباس: " العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ".
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾.
أي: ومن يزهد في دين إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه ورغب عن ملته. واتخاذ اليهودية والنصرانية بدعة ليست من عند الله، هذا معنى قول قتادة والربيع.
وقيل: المعنى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها.
قال ابن زيد: " ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾: معناه من أخطأ حظّه ".
قال: وهو من المعرفة كالنكرة، ولا يجوز أن يكون التمييز / معرفة عند البصريين ومثلها عنده: ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: ٥٨]. ولا يجوز عند الفراء التقديم.
وقال الكسائي وهو أحد قولي الأخفش - / المعنى: إلا من سفه في نفسه، فلما حذف الحرف نصب. ويُجيزان التقديم.
ومذهب أهل التأويل أن معناه: سفه نفسه. فهو مفعول به.
وقال أبو عبيدة: " معناه: [أهلك نفسه ".
ومذهب] البصريين أنه مثل: " ضرب فلان الظهر والبطن " أي: في الظهر [والبطن] فلا حذف في نصبه. كذلك معناه: سفه في نفسه، ثم نصب لما حذف " في ".
" وقال الزجاج ": معناه: جهل نفسه ". فهو مفعول به عنده بجهل " أي: لم يفكر في نفسه. فالسفه والجهل سواء.
وقيل: التقدير، إلا من جهل قولُه نفسه، ثم حذف المؤكد وأقام التوكيد مقامه.
ثم قال ﴿وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا﴾.
أي اخترناه للخلة والإمامة.
[ثم قال]. ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾.
أي: وإن إبراهيم ﷺ لمن المؤدين حقوق الله. وتقدير تعلق حرف الجر: " وإنه صالح، في الآخرة، لمن الصالحين "، ثم حذف.
وقيل: إنه متعلق بالصالحين، والألف واللام ليستا بمعنى " الذي "، ولكنه اسم على حدته كالرجل والغلام.
قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ إلى قوله ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾.
﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾: أي قال إبراهيم ﷺ [ و] على محمد مجيباً لربه تعالى: خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لِمالِك جميع الخلق. ومدبرهم.
ويجوز أن يكون العامل في: ﴿وَلَقَدِ اصطفيناه﴾ أي ولقد اخترناه في الدنيا إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت، وهذا كان منه حين قال: ﴿ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً﴾ [الأنعام: ٧٨ - ٧٩].
قال الطبري: " وذلك في الوقت الذي قال له ربه فيه: أسلم، من بعد ما امتحنه بالكوكب والقمر والشمس ".
ثم قال تعالى: ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾.
أي: وأوصى بقوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ إبراهيم - ﷺ [ و] على محمد - بنيه، وأوصى بها يعقوب ﷺ [ و] على محمد [بنيه].
وقيل: تعود على الملة، وكلمة الإسلام أقرب إليها.
[وقيل: بل] أوصاهم باتباع الملة، ف " يعقوب " على هذا معطوف على " إبراهيم ".
وقيل: إن يعقوب مرفوع بإضمار فعل. والتقدير " وقال يعقوب: يا بني إن الله ".
والمعنى في " أَوْصَى " عهد إليهم بذلك، وأمرهم به.
قال ابن عباس: " وصّاهم بالإسلام ".
وفي التشديد في " وصَّى " معنى تكرير الوصية.
وقوله: ﴿إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين﴾.
معناه: اختاره لكم. ودخلت الألف واللام في " الدين " لتقدم علمهم به
ثم قال: ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
أي: فاتقوا الله أن تموتوا إلا على الإسلام.
والمعنى: لا تفارقن هذا الدين أيام حياتكم لأن أحداً لا يدري متى تأتيه منيته، فلذلك قال لهم: لا تموتن إلا وأنتم مسلمون، لأنكم لا تدرون متى يأتيكم الموت، ولم ينههم عن الموت / لأن ذلك ليس إليهم.
وقيل: المعنى: الزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين.
وعرف المعنى كما عرف في قول العرب / " لا أَرَيَنَّكَ هَا هُنَا ". فالنهي في اللفظ للمتكلم، وفي المعنى للمتكلم أي: لا تكن ها هنا، فإنه من يكن ها هنا أراه.
قال الأخفش: " ﴿بَنِيهِ﴾، قطع، ثم يبتدئ: ﴿وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ﴾، أي: وقال يعقوب: يا بني ".
وقال أبو حاتم وغيره: " الوقف ﴿وَيَعْقُوبُ﴾، ثم يبتدئ ﴿يَابَنِيَّ﴾ ". أي:
ثم قال: " تعالى ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت﴾.
﴿أَمْ﴾ بمعنى الألف، أي: أكنتم حاضرين يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد ﷺ / إذ نزل بيعقوب الموت حين قال لبنيه: ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وهو جده - وإسماعيل - وهو عمه - وإسحاق - وهو أبوه - صلوات الله عليهم [و] على محمد.
وقدم إسماعيل لأنه أكبر من إسحاق.
﴿إلها وَاحِداً﴾؛ أي: معبوداً واحداً، لا نشرك به شيئاً.
﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾: أي: خاضعون متذللون بالعبادة له.
وروي أنه لم يقبض الله نبياً قط حتى يخيّره بين الموت والحياة، فلما
فمعنى الكلام: إنكم يا أهل الكتابين لم تحضروا ذلك - ولا شاهدتموه فكفرتم بغير علم ولا يقين فادَّعَيْتُمْ على أنبياء الله الأباطيل ونحلتموهم إلى اليهودية والنصرانية، وإنما بعثهم الله [بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصّوا بنيهم] فلو حضرتم ذلك وسمعتموه لعلمتم أنهم على غير ما تنحلونهم من الدين.
وهذه الآيات نزلت تكذيباً من الله لليهود والنصارى في دعواهم إبراهيم / ويعقوب أنهما كانا على ملتهم.
وجمع " إبراهيم " وإسماعيل " عند سيبويه والخليل: " بَرَاهيمُ " و " سَمَاعِيلُ ".
وحكى الكوفيون " بَرَاهِمَةٌ " و " سَمَاعِلَةٌ "، فالهاء بدل من الياء كزنادقة وزناديق.
وجمعهما عند المبرد: " أَبَارِهٌ " و " أَسَامِعٌ " و " أَبَارِيهٌ " و " أَسَامِيعٌ ". قال: لأن الهمزة ليس هذا موضوع زيادتها.
وجمع إسحاق أَسَاحِيقٌ. وحكى الكوفيون أَسَاحِقَةٌ وأَسَاحِيقٌ وَيَعْقُوبٌ وَيَعَاقِيبٌ، وَيَعَاقِبَةٌ وَيَعَاقِبٌ ".
ولا يجوز عند أحد حذف الهمزة من " إسرائيل "، ويقال في جمعه: " أساريل ".
وحكى الكوفيون " أَسَارِلَةٌ " و " أَسَارِلٌ "، وجمعه كله مسلماً أحسن.
وقوله: ﴿إلها وَاحِداً﴾.
نصب على الحال أو على البدل من " إله " الأول.
فإذا كان حالاً كان تقديره: نعبد إلهك في حال انفراده ووحدانيته.
وأجاز يعقوب الوقف على ﴿آبَائِكَ﴾ ويبتدئ: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾، ينصب
ومن قرأ (أَبِيكَ) بالتوحيد وقف على (إِسْحَاقَ).
ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾.
أي: قد مضت، أي: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم وعلى محمد، وولدهم / قد مضوا، فَدَعُوا ذكرهم والكذب عليهم يا معشر اليهود والنصارى، ولا تنحلوهم الكفر واليهودية والنصرانية. والأمة الجماعة هاهنا.
وإنما قيل لمن مضى وانقرض: " قد خلا " لتخليه من الدنيا وانفراده من الإنس والبشر. وأصله: من " خَلاَ الرَّجُلُ " إذا صار بالمكان الذي لا أنيس به.
ثم قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أي: عملت.
﴿وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
أي: لا تؤاخذون بذنوبهم ولا يؤاخذون بذنوبكم، فدعوا ما تنحلونهم من الأديان.
وقال أبو حاتم: " ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ هذا الوقف الكافي الحسن ".
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾.
أي: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا.
وقال بعض العلماء: " أو " هذه [يقال لها المصنفة] ليست التي للتخيير ولا للإباحة ولا للشك ".
والمعنى: " وقال صنف: كونوا هوداً، وقال صنف: كونوا نصارى. وروي أن ابن صوريا الأعور قال لرسول الله [عليه السلام] ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتّبِعنا يا محمد تهتدي. وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم قال
وقال أبو عبيدة: " هو نصب على الإغراء، و ﴿حَنِيفاً﴾ نصب على الحال ".
وقيل: على " أعني "، لأن الحال لا يكون من المضاف إليه.
وقوله: ﴿هُوداً﴾ جمع هائد كحالٍ وحُولٍ.
وقيل: هو مصدر يؤدي عن الجمع كقولك: " قوم صُومٌ "، و " قوم عدلٌ "، فيكون / المعنى ذوي هود.
وقيل: الأصل يهود ثم حذفت الياء.
ومعنى ﴿حَنِيفاً﴾ / مائلاً عن الكفر إلى الإيمان.
وقيل: الحنيف الحاج.
وقيل: الحنيف المخلص.
ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾.
قال ابن / مسعود: " سميت اليهود يهوداً لقول موسى ﷺ ﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦].
وسميت النصارى نصارى لقول عيسى ﷺ: ﴿ مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ [آل عمران: ٥٢].
تم الجزء [الثالث]
والسبط في اللغة الشجرة. أي: هم في الكثرة مثل الشجر.
قال ابن عباس: " كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح ولوط وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد ﷺ وعيسى صلى الله عليهم / أجمعين ".
ثم قال: ﴿وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى﴾.
أي: وصدقنا بما أوتي موسى وعيسى، يعني: التوراة والإنجيل، وصدقنا بما أوتي النبيون من ربهم يعني: من [الكتب، كل ذلك حق] ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ أي: لا نفرق بين أحد من النبيين فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن
وقال ابن عباس ووهب بن منبه: " الأنبياء كلهم مائة وأربعة وعشرون ألف / نبي كلهم من بني إسرائيل إلا عشرين نبياً. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم أجمعين. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم من بني يعقوب إلا عشرين رسولاً ".
وقال غير ابن عباس مثل قوله وزاد، فقال: " عدد الأنبياء صلوات الله عليهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، أولهم آدم وآخرهم محمد ﷺ وعليهم أجمعين. والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، ذكر الله منهم في القرآن ستة وعشرين وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون والأسباط واليسع وإلياس ويونس / وأيوب وداود وسليمان وزكرياء وعزير ويحيى وعيسى ومحمد ﷺ وعليهم أجمعين. ومنهم خمسة لم تذكر أسماؤهم وذكروا بغير أسمائهم وهم:
الذي مرّ على القرية قيل هو أرميا، وصاحب موسى وهو الخضر، وقيل
ثم قال ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
أي: خاضعون بالطاعة لله.
وروى ابن عباس أن النبي [عليه السلام] سأله نفر من اليهود: بمن تؤمن من الرسل؟ فقرأ عليهم الآية. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن بعيسى، فأنزل الله جل ذكره: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله﴾
[المائدة: ٥٩] إلى ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩].
[ثم قال]: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا﴾.
إي: إن صدقوا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب التي أنزلها الله كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الحق، يعني به اليهود والنصارى.
﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾: أي: إن لم يؤمنوا بذلك وأعرضوا، ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾: أي: في مشاقة ومباعدة من الحق وفراق له ومحاربة له.
والمماثلة في الآية إنما وقعت بين التصديقين، أي: إن صدقوا بمثل تصديقكم وأقروا بمثل إقراركم. ولم يقع التمثيل بين المؤمن به وهو الله تعالى وسبحانه وتعالى؛ هذا كفر لا يجوز.
فإن قيل: وهل للإيمان مثل، هو غير الإيمان فتصح المماثلة به؟
فالجواب: أنه محمول على المعنى، والتقدير: فإن أتوا بتصديق مثل تصديقكم فقد اهتدوا: أي: صاروا مسلمين. وهذا من كلام العرب، يقول الرجل لمن يتلقاه: " بشر استقبل مثلي بهذا ". وقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]. وتقول: " ليس كربنا شيء "، " وليس كمثل ربنا شيء ". والمعنى سواء. هذا قول أبي حاتم وغيره.
ثم قال تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ /.
أي: فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء المخالفين لك من اليهود والنصارى إما بقتل وإما بجلاء عن جوارك.
ثم قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله﴾. " صبغة " منصوب على البدل من ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ / فيكون المعنى: " بل صبغة الله "، وذلك / أن النصارى إذا أرادت / أن تنصر أطفالها جعلتهم في ماء لهم يزعمون أن ذلك تقديس " لهم بمنزلة الختانة لأهل الإسلام، ويقولون: إن ذلك صبغة لهم في النصرانية. فلما قالوا للمسلمين: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾ قال الله لنبيه ﷺ: قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ وهي الحنيفية المسلمة، لا ما تغمسون فيه أبناءكم.
وأجاز الكسائي نصبه على الإغراء والتقدير: الزموا تطهير الله بالإسلام لا ما تفعله اليهود والنصارى.
وقيل: هو محمول على المعنى لأن معنى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ونحن متبعون صبغة الله.
قال قتادة: " إن اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام / ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً والأنبياء بعده صلوات الله عليهم ".
وقال مجاهد: " صبغة الله: فطرة الله؛ وهي فطرة الإسلام التي فطر الناس عليها ". والفطرة ابتداء ما خلق عليه الخلق وهو الإسلام، ثم غيّروا دين أنبيائهم بدين آخر.
وأصل الصبغ حدوث شيء فكأنهم أحدثوا ديناً غير ما خلقوا عليه. وقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾، أي: خاضعون في اتباع أمره وتصديق كتبه ورسله.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾، أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتخاصموننا في دين الله وهو معبودنا ومعبودكم وإلهنا وإلهكم واحد،
ثم قال: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ نصارى﴾.
أي: أتقول اليهود: إن هؤلاء الأنبياء كانوا هوداً؟ أو أتقول النصارى: إن هؤلاء الأنبياء كانوا نصارى؟ قل لهم يا محمد: أنتم أعلم أم الله؟ فإن الله قد أعلمنا أنهم على الملة الحنيفية المسلمة. ومن قرأ بالتاء، جعله خطاباً لهم. ومن قرأه بالياء أجراه على الإخبار عنهم.
ثم قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾.
أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة / عنده من الله. أي: لا أحد أظلم منه.
وقيل: إنما كتموا ما في كتبهم من اتباع ملة إبراهيم ﷺ ومن ذُكِرَ معه، وقد علموا أنهم كانوا حنفاء مسلمين فكتموا ذلك. وادّعت اليهود أنهم كانوا يهوداً، وادّعت النصارى أنهم كانوا نصارى، وهم مع ذلك قد علموا أن اليهودية والنصرانية إنما حدثت بعد موت [هؤلاء] الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
والهاء في ﴿عِندَهُ﴾ تعود على الظالم ودل عليه ﴿أَظْلَمُ﴾.
والأسباط من ولد يعقوب كالقبائل من ولد إسماعيل ﷺ وهم اثنا عشر سبطاً من اثني عشر ولداً ليعقوب عليه السلام.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
أي: ليس الله بغافل عن فعلكم وكتمانكم / ما قد علمتموه، بل يحصيه عليكم ويجازيكم به.
ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾.
﴿وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: أي: لا يسأل أحد عن ذنب أحد.
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس﴾ إلى قوله: ﴿لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
أي: سيقول الجهّال / من الناس وهم اليهود والمنافقون: ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ما حملهم على [ترك التوجه إلى بيت المقدس وما صرفهم] عن ذلك، وذلك حين ترك النبي عليه السلام التوجه نحو بيت المقدس وتوجه إلى الكعبة.
وقيل: هم كفار أهل مكة أعلم الله تعالى نبيه ﷺ ما هم قائلون عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وأعلمه ما يقول لهم وما يجاوبهم به، فقال: قل يا محمد [إذا قالوا ذلك]: ﴿للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وذلك أن النبي ﷺ صلّى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وكان يتمنى أن يصرف إلى الكعبة ثم أراد الله
وقيل: إنه صلّى إلى بيت / المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة قبل بدر بشهرين. قاله ابن المسيب.
وكان أول صلاة صرف فيها إلى الكعبة العصر، فلما صلاها إلى الكعبة خرج من عنده رجل، فمرّ بقوم يصلون فقال: أشهد، لقد صليت مع رسول الله ﷺ قِِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت.
وروى أنس بن مالك " أن النبي [عليه السلام] صلّى نحو بيت المقدس تسعة أشهر وعشرة أيام بعد هجرته. قال: فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى
وقال معاذ بن جبل: " صلّى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهراً ".
وروي / عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: " صلّى النبي ﷺ بعد هجرته نحو بيت المقدس اختياراً منه من غير أن يفرض ذلك عليه طمعاً من أن يستميل اليهود إذ هي قبلتهم، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥].
وقال أبو العالية: " ان [نبي الله عليه السلام] خُيِّر أن يُوجِّه وجهه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتابيين [وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء، ثم وجّهه الله تعالى إلى البيت] الحرام ".
وروي أنه صرف في رجب بعد مقدمه المدينة لسبعة عشر شهراً وكان بمكة والمدينة يصلي نحو بيت المقدس.
فلما رجع سأله اليهود أن يرجع إلى قبلتهم يريدون فتنته، وقال كفار مكة: قد برد / أمر محمد وهو راجع إلى دينكم عاجلاً. فأنزل الله في
وقال ابن عباس: " لما هاجر [النبي عليه السلام إلى المدينة وكان أكثر أهلها] اليهود، أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهراً. وكان ﷺ يحب قبلة إبراهيم ﷺ، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله جلّ ذكره: ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾ الآية. ورجع النبي ﷺ يصلي إلى الكعبة فارتاب [من ذلك اليهود]. وقالوا: ﴿مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾، فأنزل الله تعالى: ﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ الآية.
وقال ابن جريج: / كان النبي عليه السلام يصلي إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس، وصلّت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث سنين، وصلّى
ثم قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾. أي: عدلاً.
أي: كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد ﷺ وبما جاءكم به من الحق وفضلناكم بذلك، كذلك خصصناكم فجعلناكم أمة عدلاً خياراً. والأمة القرن من الناس.
﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾.
أي: تشهدون / للأنبياء الذين أخبر الله بخبرهم محمداً ﷺ. فهو عام معناه الخصوص، إذ لم يطلع الله تعالى نبيه ﷺ على [جميع النبيين وأخبارهم] بدلالة قوله: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨] فإنما تشهد أمة محمد ﷺ على الأمم الذين أخبر الله نبيه بهم وبكفرهم وجحودهم دون من لم يطلع الله نبيه على خبرهم من أمم الأنبياء صلوات الله عليهم الذين لم يطلع الله نبيه عنهم، ولا أخبره
﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
بإيمانكم وبما جاءكم به من عند الله.
وقيل: " عليكم " بمعنى " لكم " مثل قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] أي: للنصب.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال:
" يُدْعَى بِنُوحٍ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ ".
وفي حديث آخر رواه أبو هريرة: " فَيَقولُ قَوْمُ نُوحٍ ﷺ: كَيْفَ يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَوَّلُ الأُمَمِ وَهُمْ آخِرُ الأُمَمِ؟ فَيَقولونَ: نَشْهَدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولاً وَأَنْزَلَ عَلَينَا كِتَاباً وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا خَبَرَكُمْ ".
وروي أن أمة محمد [عليه السلام] تقول لهم: " كان فيما أنزل علينا: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ / المرسلين﴾ [الشعراء: ١٠٥] إلى قوله: ﴿العالمين﴾ [الشعراء: ١٠٩]، فكذلك نشهد أنكم كذبتم الرسل. فتشهد للرسل أمة محمد ﷺ بالتبليغ.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِذَا جَمَعَ اللهُ عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَانَ أَوّلُ مَنْ يُدْعَى إسْرَافِيلُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا فَعَلْتَ فِي عَهْدِي؟، هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبّ، قَدْ بَلَّغْتُ جِبْرِيلُ، فَيُدْعَى / جِبْريلُ فَيَقُولُ: قَدْ بَلَّغْتُ الرَّسُلَ. فَتُدْعَى الرُّسلُ، فَيَقُولونَ: قَدْ بَلَّغْنَا الأُمَمَ، فَتُدْعَى الأُمَمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ، فَيَشْهَدُ لِلّرُّسُلِ أمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ / بِالتَّبْلِيغ ".
وروى أشهب عن مالك أنه قال: " ينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله تعالى. فإن عُصِيَ كان شهيداً على من عصاه ".
قال الله تعالى: ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
وروى أبو عامر " أن أول مَنْ يسأل يوم القيامة من الرسل عن البلاغ
ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾.
وقيل: المعنى: إلا لنُعْلِم / رسولي وأوليائي ذلك.
ومن شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس وحزبه إليه، يقولون: " جبى الأمير الخراج وهزم العدو، وإنما فعله حزبه وأنصاره.
ومثله في المعنى قول النبي ﷺ عن الله تعالى: " مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي " يريد به عباده.
وقيل: " علم " هنا بمعنى " رأى "، فالمعنى: إلا لنرى من يتبع.
وقيل: إنهم خوطبوا على ما كانوا يسرون؛ كان اليهود والمنافقون والكفار ينكرون أن يعلم الله تعالى الشيء قبل كونه، فيكون المعنى /: إلا لنبين لكم أنّا نعلم
وقيل: إنما قال: " لنعلم " على طريق الرفق بعباده، واستمالتهم إلى الطاعة كما قال: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى﴾ [سبأ: ٢٤]. وقد علم أن محمداً ﷺ على هدى /، وأن الكفار على ضلال.
فالمعنى: إلا لتعلموا أنتم إذ أنتم جهال به، فأضاف الفعل إلى نفسه، والمراد خلافه رفقاً به.
وقال الضحاك: " قالت اليهود للنبي [عليه السلام]: إن كنت نبياً كما تزعم، فإن الأنبياء والرسل كانت قبلتهم نحو بيت المقدس، فإن صلّيت إلى بيت المقدس، اتبعناك، فابتلاهم الله بذلك. وأمره أن يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه سبعة عشر شهراً، فلم يتّبعوه، ثم صرفه الله تعالى إلى البيت الحرام فذلك قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ يعني بيت المقدس. ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول﴾: إلى أي ناحية شاء. ﴿مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾: أي: لنعلم من يؤمن بالرسول من اليهود ومن لا يؤمن.
وقيل: المعنى: وما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن، وهي الكعبة، إلا لنعلم من يتبع الرسول عليها. فكُنْتَ " بمعنى " أنت "، مثل ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: ١١٠] أي: أنتم خير
وقيل: إن اليهود قالت للنبي [عليه السلام: إن كنت في القبلة] على هدى، فقد حوّلت عنه، وإن كنت على ضلالة، فقد مات أصحابك على ذلك.
فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي: صلاة من مات منكم وهو يصلي إلى بيت المقدس. وقال المشركون من أهل مكة؛ تحيّر محمد في دينه. فكان ذلك فتنة للناس واختباراً وتمحيصاً للمؤمنين.
قال قتادة: " صلّت الأنصار حولين نحو بيت المقدس قبل هجرة النبي عليه السلام، ثم هاجر النبي ﷺ فصلّى نحوها ستة عشر شهراً. ثم وجّهه الله / نحو الكعبة، فقال قائلون من الناس: ﴿مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾، وقالوا: لقد اشتاق الرجل إلى
قال ابن جريج: " بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا عن الإسلام حين استقبل النبي الكعبة، وقالوا مرة ها هنا ومرة ها هنا. فأظهر الله لخلقه من يرتد فينافق ويخالف الرسول في القبلة ممن اتبعه وآمن بما جاء به "
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله﴾ أي وإن كانت التولية لكبيرة.
وقيل: المعنى: وإن كانت القبلة لكبيرة: وإن كانت التحويلة لكبيرة.
وقيل: المعنى: وإن كانت الصلاة إلى بيت المقدس لكبيرة، أي: لعظيمة في صدور الناس حين قالوا: ما لهم صلّوا إلى هاهنا ستة عشر / شهراً ثم انحرفوا،
وقوله: ﴿إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله﴾.
أي الذين وفق الله إلى الحق، فإنهم ثبتوا على إيمانهم، وقبلوا ما جاءهم به الرسول ﷺ.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾.
قال ابن عباس: " لما توجّه النبي ﷺ إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نحو بيت المقدس؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾. وهذا معنى قول قتادة وغيره.
وإنما أتى الجواب على الخطاب لهم دون الأموات، لأن الأموات غُيَّبٌ والسائلون عن ذلك مخاطبون. والعرب تغلب المخاطب على الغائب، فلذلك قال: ﴿لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾. ولم يقل إيمانهم.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنه قال في قول الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾: " هي الصلاة إلى بيت المقدس قبل أن تصرف القبلة إلى
ثم قال: ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
أي: إن الله بجميع عباده لذو رأفة ورحمة، فكيف يضيع أعمالهم التي عملوها فلا يثيبهم عليها وكيف يؤاخذهم على ما لم يفترض عليهم.
والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة. وتسمية الله [جل ذكره الصلاة إيماناً في هذه الآية] ردّ على المرجئة الذين يقولون إن الصلاة ليست من الإيمان.
وقال أشهب: " وإني لأذكر بهذه الآية الرد على المرجئة وعلى أن الإيمان في هذه الآية يراد به الصلاة نحو بيت المقدس ". وقاله البراء بن عازب، رفعه إلى
قوله: ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾.
إلى قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
أي: قد نرى يا محمد تصرف نظرك نحو السماء.
روي أنه ﷺ كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله الأمر بالتحويل إلى الكعبة.
قال قتادة: " كان النبي [ ﷺ] يقلّب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله تعالى إلى الكعبة حتى صرفه الله تعالى إليها ".
وهذا يدل على أنه لم يصلِّ إلى بيت المقدس إلا بوحي، فكان ينتظر متى يؤمر
وقال بعض العلماء: " إنما أحب النبي [عليه السلام] أن يُرَدَّ إلى الكعبة لأن اليهود كانوا يقولون: يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا! / فلما ردّه الله إلى الكعبة انقطع قول اليهود ".
وقال ابن زيد: " قال الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ فقال النبي [عليه السلام] " هَؤُلاَءِ قَوْمٌ يَهُودٌ يَسْتَقبلُونَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِ الله تعالى، فَلَوْ أَنَّا اسْتَقْبَلْنَاهَا " فَاسْتَقْبَلَ النبي [عليه السلام] معهم بيت المقدس ستة عشر شهراً، فبلغه أن اليهود تقول: والله / ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. فكره ذلك النبي ﷺ، ورفع وجهه إلى السماء. فأنزل الله عليه ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ الآية ".
وقال ابن عباس: " كان النبي عليه السلام لما هاجر إلى المدينة - وكان أكثر أهلها اليهود - أمره الله [جلَّ وعزَّ] أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً. فكان رسول الله ﷺ يحب قبلة أبيه إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى: ﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾ إلى ﴿صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾. فهذا يدل على أن الله سبحانه أمره باستقبال بيت المقدس ثم نسخها بالكعبة.
" وروي أن النبي [عليه السلام] كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس مع استقباله
وقال إبراهيم بن اسحاق: " أول أَمْر الصلاة أنها فرضت ركعتين بمكة في أول النهار، وركعتين في آخره. فلما كانت ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، أسري به ﷺ وفرض عليه خمسون صلاة، ثم نقصت إلى خمس صلوات، فأتاه جبريل ﷺ فأمَّهُ عند البيت، فأول ما صلّى به الظهر نحو بيت المقدس مع استقبال الكعبة. ثم قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فصلى إلى بيت
وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى.
وقال الواقدي: " في النصف من شعبان صرفت ". فوقع الاختلاف على مقدار اختلافهم في عدة الأشهر التي صلى في المدينة إلى بيت المقدس.
وقيل: إنما نسخ الله باستقبال الكعبة قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥]. فأباح له أن يستقبل إلى أي ناحية شاء. ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
قال الله تعالى لنبيه: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾. فصلى نبيه عليه السلام نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق فقال: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ /.
ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: " بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال لهم: إن رسول الله ﷺ قد نزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم / إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
وحدث مالك عن ابن المسيب أنه كان يقول: " صلى النبي ﷺ بعد أن قدم
وذكر البراء في ذلك كله نحوه.
وقال أنس: " مرّ بهم رجل وهم ركوع نحو بيت المقدس، فنادى: " ألا إن القبلة قد صرفت إلى الكعبة ". فمالوا كما هم ركوعاً ".
قال الواقدي: " صرفت / يوم الثلاثاء للنصف من شعبان سنة اثنتين ".
وقال ابن شعبان: " صرفت إلى الكعبة في رجب ".
وقال: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢].
يعنون بيت المقدس، فأنزل الله: ﴿قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إن الصلاة أول ما فرضت، إنما فرضت ركعتين، ثم أتمّ الله صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاة
قال أبو عبيد: تأول عثمان في إتمام الصلاة بمعنى ثلاثة أوجه: فيقال: إنه اتخذ أهلاً بمكة. ويقال: إنه تأول: إني الخليفة فحيثما كنت فهو عملي. والوجه الثالث: أنه بلغه أن أعرابياً صلّى معه ركعتين فظن أن الفريضة ركعتان فانصرف إلى منزله فلم يزل يصلي ركعتين السنة كلها، فلما بلغه ذلك أتم الصلاة. / وأما عائشة رضي الله عنها. فتأولت أنها أم المؤمنين فحيثما كانت فكأنها مع ولدها مقيمة ".
" وروي أن أول من صلى إلى الكعبة من المسلمين بالمدينة البراء بن
وهو الذي أكل من الشاة التي سمّت للنبي ﷺ ومن ذلك مات يوم خيبر.
وقوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾: أي: فلنصرفنك إلى قبلة ترضاها وهي الكعبة. ومعنى ترضاها: تهواها وتحبها.
ثم قال: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾.
أي: نحوه وقصده وتلقاءه.
قال عبد الله بن عمر: " صرفت قبلته حيال ميزاب الكعبة ". وكان يجلس في المسجد الحرام حيال الميزاب، فإذا سئل عن ذلك تلا هذه الآية.
وقال ابن عباس: ولّى وجهه نحن [البيت] كله "، وهو قول أكثر
" وروي عنه ﷺ أنه صلى ركعتين مستقبلاً باب الكعبة وقال: " هَذِهِ القِبْلَةُ "، مرتين. "
ثم قال: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
أي: وأينما كنتم أيها المؤمنون فولّوا وجوهكم بصلاتكم نحو المسجد الحرام.
فالهاء في " شَطْرِهِ " عائدة على المسجد الحرام.
فأوجب الله بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث ما كانوا من الأرض.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾.
أي: وإن أحبار اليهود وعلماء النصارى ليعلمون أن التوجه نحو المسجد
قال قتادة والضحاك: " يعرفون أن القبلة هي الكعبة ".
قال الضحاك: " كمعرفتهم أبناءهم ".
والهاء في " أنه " تعود على التولية إلى الكعبة، ودل على التولية قوله: ﴿فَوَلِّ﴾.
وعن الكسائي أنه قال: " الهاء تعود على الشطر ".
ثم قال: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.
من قرأ بالتاء رده على الخطاب في قوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾. ومن قرأه بالياء رده على الإخبار / عن الذين أوتوا الكتاب لتقدم ذكرهم.
ثم قال: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾.
وقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾.
أي: ما لك من سبيل يا محمد إلى / اتباع قبلتهم لأن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، والنصارى تستقبل / المشرق. فمن أين يكون لك يا محمد السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها، فالزم ما أمرت به من استقبال المسجد الحرام.
ثم قال: ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾.
أي: وما اليهود بتابعين قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعين قبلة اليهود. قاله السدي وغيره.
وقيل: معناه: وما الذين اتبعوك من اليهود بتابعين قبلة من لم يتبعك، ولا الذين لم يتبعوك بتابعين قبلة من اتبعك منهم. وقال السدي: " أنزل الله تعالى هذه الآية من أجل أن النبي ﷺ لما حوّل إلى الكعبة قالت اليهود: إن محمداً اشتاق إلى قبلة إبراهيم ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو / صاحبنا الذي ننتظره، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
ثم قال: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين﴾.
أي: ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: ﴿كَانَ / هُوداً أَوْ نصارى﴾، فاتبعت قبلتهم من بعد ما جاءك من العلم أنهم على باطل وعلى عناد للحق، وأنهم يعرفون أن الحق ما أنت عليه إنك إذاً لمن الظالمين لنفسك.
وهذا خطاب للنبي [عليه السلام] ولسائر أمته.
وقيل: المراد به أمته.
ثم قال: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾. يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى.
﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ أي: يعرفون أن البيت الحرام هو قبلة إبراهيم ﷺ ومَن قبله مِن الأنبياء كما يعرفون أبناءهم.
هذا قول قتادة وهو قول ابن عباس والربيع والسدي وابن زيد وابن جريج.
وعن قتادة أيضاً: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: يعرفون محمداً ﷺ أنه نبي كما يعرفون
والهاء في ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ على القول الأول تعود على الشطر أو على التولية. وعلى القول الثاني تعود على محمد ﷺ ويكون التأويل: " يعرفونك يا محمد ". لكن صرف الكلام من المخاطبة إلى الغيبة على مذهب العرب.
وقال مقاتل: " الهاء في (يَعْرِفُونَهُ) تعود على البيت الحرام ".
ثم قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
أي وإن / طائفة من اليهود والنصارى ليكتمون أن القبلة هي المسجد الحرام وهم يعلمون أنها حق.
وقال قتادة وغيره: " يكتمون أمر محمد ﷺ وهم يعلمون أنه حق يجدونه في التوراة والإنجيل ".
قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ إلى قوله: ﴿وأولئك هُمُ المهتدون﴾.
أي: هذا الحق من ربك.
﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي: لا تكونن من الشاكين أن القبلة التي وجهت إليها هي الحق وهي قبلة إبراهيم والأنبياء غيره صلوات الله عليهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾.
" هو " يرجع إلى " كُلٍّ ". والهاء في " مُوَلِّيها " ترجع إلى القبلة. وقيل: " هُوَ " يرجع إلى الله جل ذكره.
فأما من قرأ " هو مُوَلاَّها "، فهو يرجع إلى " كُلٍّ " لا غير.
قال مجاهد: " معناه: ولكل صاحب ملة قبلة ". يعني لليهود قبلة وللنصارى قبلة.
قال ابن عباس: " يعني بذلك أهل الأديان؛ لكل أهل دين قبلة يرضونها. ووجهة الله تعالى حيث توجه المؤمنون ".
وقال السدي: " المعنى ولكل قوم قبلة قد ولّوها ".
والمعنى عند أهل العربية، هو موليها نفسه / أو وجهه.
فأما من قرأ: " مُوَلاَّهَا " فالضمير على هذه القراءة لواحد، أي: ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها، أي: مصروف إليها.
وقال الأخفش: " المعنى: موليها الله إياه على ما يزعمون " / يريد على قراءة موليها.
وقال علي بن سليمان: " المعنى هو متوليها، والوجهة والجهة والوجه واحد ".
وعن قتادة في قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، قال: " هي صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة ".
ومعنى " مولِّيها " مول وجهه إليها ومستقبلها.
وقال الطبري: " التولية في الآية للكل، ووُجدت للفظ " كل "، قال: " فمعنى الكلام: ولكل أهل ملة وجهة، الكل موليها وجوههم. قال: وأما قراءة ابن عامر فمعناه: هو موجَّه نحوها، ويكون الكل حينئذ غير مسمى فاعله، ولو سمي فاعله لكان الكلام: ولكل ذي ملة وجهة، الله موليها إياه بمعنى موجهه إليها.
ورويت قراءة شاذة بإضافة " كل " إلى " وجهة "، وهي قراءة / لا تجوز لأنه لا فائدة في الكلام إذا لم يتم الخبر ".
ولو ثَنيتَ على قراءة الجماعة لقلت: " هُمَا مُوَلِّياهَا "، وفي الجمع [هُمْ مَوَلُّوهَا]
وفي الجمع [هُمْ مُوَلَّوْهَا]. فإن جئت بالمفعول الثاني في قراءة الجماعة، قلت في التثنية: " هُمَا [مُوَلِّياهَا هُمَا] وفي الجمع: " هُمْ مُوَلُّوهَا هُمْ ".
ثم قال تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾.
أي: بادروا إلى عمل الصالحات واستقبال ما أمركم الله تعالى باستقباله وهو المسجد الحرام.
ثم قال: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً﴾.
أي: في أي مكان تكونون بعد موتكم يأت بكم الله جميعاً يوم القيامة.
﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. أي: على جمعكم بعد مماتكم وغير ذلك قدير.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ الآية.
وقد تقدم شرحه ووقع التكرير للإفهام، ولئلا يصل ذلك إلى بعض دون بعض فكرر الله التأكيد ليصل إلى الجميع.
ثم قال: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.
الناس هنا: مشركو العرب. والمعنى: عرفناكم أن لكل وجهة موليها لئلا
وقال قتادة: " هم مشركوا العرب، قالوا لمشركي قريش حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم ".
قال الله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني﴾.
وعن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب النبي [عليه السلام] أنه لما صرفت القبلة نحو الكعبة قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلاً، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله فيهم: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني﴾.
وهو قول عطاء والسدي وغيرهما. فهو على هذا التاويل استثناء صحيح،
وقال بعض النحويين: " هو استثناء ليس من الأول، / و " إلا " بمعنى " لكن ".
قال أبو عبيدة: / " " إلا " بمعنى الواو ".
وهو قول بعيد من الصواب لأنه يفسد المعاني ويغير ما بني عليه الكلام. و " إلا " إذا كانت بمعنى " لكن "، فإنما هي إيجاب لشيء بعدما تؤكده.
وقوله: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني﴾.
أي: لا تخشوا هؤلاء الذين سفهوا عليكم بالحجج الباطلة، واخشوا عقابي
وقال السدي: " معناه: فلا تخشوا أن أردكم إلى دينهم ".
ثم قال: ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾.
قال الأخفش: " هو معطوف على ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ﴾ أي: لئلا يكون، ولأتم نعمتي عليكم. فالمعنى: / ولّوا وجوهكم حيث كنتم من الأرض إلى نحو المسجد الحرام كي لا يكون لأحد من الناس عليكم حجة سوى مشركي قريش، فإن لهم حجة باطلة، وكي أتم نعمتي عليكم بإتمام شرائح الملة الحنيفية.
وقال ابن جبير: " ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾: " أي: ولأدخلكم الجنة ". قال: " ولن تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة ".
وقال الزجاج: " اللام متعلقة بمحذوف والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتكم، وأنه لا حجة لأحد عليكم إلا الذين ظلموا فإنهم [سيحتجون
وقيل: التقدير: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾. ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير. وهو قول الأخفش المتقدم الذكر.
ثم قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ﴾.
تقديره: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا إليكم رسولاً منكم تالياً عليكم الكتاب ومطهراً لكم من الذنوب ومعلماً لكم ما لم تكونوا تعلمون.
فكل ما بعد " رسول " نعوت له مكررة.
وقال الزجاج: " الكاف متعلقة بما بعدها، أي: فاذكروني كما أرسلت فيكم رسولاً منكم ".
وهذا قول مردود لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه؛ تقول: " كما أحسنتُ إليك فأكرمني ". فتكون الكاف من " كما " متعلقة بـ " أكرمني " إذ لا جواب له. فإن قلت: " كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك "، لم تتعلق الكاف من " كما " بـ " أكرمني " بأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر أو
وقيل: هي متعلقة بقوله: ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ أي: " ولأتم نعمتي عليكم إتماماً كما أرسلنا ".
وقيل: الكاف في موضع / نصب على الحال، أي: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال.
وقيل: المعنى: ولأتم نعمتي عليكم بإتمام شرائع دين الحنيفية ملة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم تالياً عليكم آياتي، ومطهراً لكم ومعلماً لكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون. وكل ذلك بدعاء إبراهيم ﷺ [ في قوله]: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] وقوله: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة/ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾
[البقرة: ١٢٩].
ومعنى " يزكيكم " / يطهركم من دنس الذنوب.
﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب﴾ أي: القرآن، والحكمة والسنن والفقه في الدين. ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي أخبار الأنبياء والأمم قبلكم، وما هو كائن من الأمور.
ومعنى ﴿فاذكروني أَذْكُرْكُمْ﴾.
قال ابن عباس: " إذا ذكر الله العبدُ وهو على طاعته ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو على معصيته ذكره بلعنته ".
وقال عكرمة: " يقول الرب: يا ابن آدم اذكرني بعد صلاة الصبح ساعة وبعد صلاة العصر ساعة، وأنا أكفيك ما بينهما ".
وقال ابن جبير: " اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة ".
وقال الربيع في الآية: " إن الله ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره ".
وقيل: المعنى: اذكروني واذكروا نعمتي عليكم شكراً لها، أذكركم برحمتي والزيادة من النعمة.
وقال السدي: " ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله جل وعز، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب ". والذكر فيما روي عن عمر رضي الله عنهـ ذكران. أحدهما أفضل من الآخر وهما: / ذكر الله عند أوامره ونواهيه، وذكر الله بلسانه بالثناء عليه. فالأول أفضل، وكلاهما فيه فضل وأجر وثواب، إلا أن ذِكْر الله عند أمره ونهيه - فيفعل ما أمر به وينتهي عما نهى عنه - أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه. والفضل كله والشرف والأجر والثواب في اجتماعهما من الإنسان. وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره فيأتمر، وعند نهيه فينتهي، ولا ينساه من ذكره بلسانه.
وكذلك الصبر صبران. وهما: الصبر على الطاعة وعن المعصية، / والصبر على المصيبة. والأول أفضل.
أي اشكروه على نعمة الإسلام والهدى ولا تجحدوا إحسانه إليكم ونعمه عندكم.
والشكر معناه الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة.
ومعنى الكفر التغطية للشي.
ثم قال: ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة﴾.
هذه الآية حض من الله تعالى للمؤمنين على طاعته، واحتمال المكروه في الله تعالى. فالمعنى: استعينوا على طاعة الله بالصبر والتسليم لأمره في جميع ما يأمركم به، واستعينوا على ذلك أيضاً بالصلاة لأن بها تتقربون إلى الله سبحانه، فيجيب دعاءكم ويقضي حوائجكم.
قال قتادة: " احتجوا على رسول الله ﷺ في انصرافه إلى الكعبة: [وقالوا: سيرجع محمد] إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا بالصبر
وقيل: الصبر هنا الصوم، لأنه يقطع عن اللذات.
وقيل: الصبر هنا الصبر عن المعاصي.
﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾: أي: ناصرهم وراض بفعلهم يظهر دينه على سائر الأديان لأن من كان الله معه فهو الغالب.
ثم قال / تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾.
هذا يدل على أنه لا يقال للشهيد ميت، إنما يقال: شهيد وقتيل. فالمعنى: هم أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. قاله مجاهد.
قال قتادة: " كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارَف في طير [خضر تأكل من ثمار] الجنة، وأن مساكنهم السدرة، وأن للمجاهد في سبيل الله تعالى ثلاث خصلات: من قتل في سبيل الله تعالى منهم صار حياً مرزوقاً، ومن غلب آتاه الله أجراً
قال الربيع: " هم أحياء في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا. منها يأكلون، من حيث شاءوا ".
وقال عكرمة: " أرواح الشهداء في طير بيض في الجنة ".
وروى ابن عباس عن النبي [ ﷺ] أنه قال: " الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ".
ويُرْوى أنهم بباب الجنة في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً. [فنهى الله المسلمين أن يسموهم] أمواتاً وأمرهم أن يسموهم شهداء.
وقيل: المعنى: لا تقولوا: " هم أموات في دينهم، بل هم أحياء في دينهم ". والقول الأول عليه أهل العلم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات﴾.
أي: لنختبرنكم ولنمتحننكم بشدائد الأمور فيظهر من هو في الصبر والاحتساب على اتباع الرسول ﷺ باقٍ، ممن ينقلب على عقبيه كما ابْتَلَيْتُكُمْ بتحويل القبلة. وقد عدهم الله بذلك الامتحان في آية أخرى فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين / خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم﴾ [البقرة: ٢١٤] الآية إلى ﴿قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤]. قال ابن عباس: " أخبر الله تعالى المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشّرهم، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾. وأخبر في الآية الأخرى أنه هكذا فعل بأوليائه قبلهم لتطيب أنفسهم فقال: ﴿مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ﴾ [البقرة: ٢١٤].
﴿والجوع﴾: يعني القحط.
ثم قال: ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾: أي: الصابرين على الامتحان، ثم بيّنهم فقال:
﴿الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
أي نحن وأموالنا له، ونحن إليه راجعون.
وقيل: معناه: ونحن مقرون بأن نبعث ونعطى الثواب على تصديقنا والصبر على ما ابتلينا به.
ثم قال: ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾.
أي: مغفرة من ربهم.
وقيل: ترحم من ربهم ورحمة. ﴿وأولئك هُمُ المهتدون﴾.
قال الليث في قوله: ﴿إِنَّا للَّهِ﴾ الآية " معناها: نحن والذي أصبنا به لله ونحن وإياه إلى الله راجعون ".
وقال عكرمة: " انطفأ مصباح / النبي [عليه السلام] ليلة فقال: ﴿إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. فَقِيلَ: يَا نَبِيَّ اللهِ: أَمُصِيبَةٌ هَذِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُلُّ شَيْءٍ آذَى المُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ، / وَلَهُ فِيهِ أَجْرُ المُصِيبَةِ ".
وروي أن النبي [ ﷺ] قال: " مَا مِنْ أَحَدٍ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَاسْتَرْجَعَ إِلاَّ اسْتَوْجَبَ مِنَ الله ثَلاثَ خِصَالٍ؛ كُلُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".
قَال أبو عبيد: يعني قوله: ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون﴾.
قوله: ﴿إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله﴾.
الصفا والمروة جبلان متحاذيان بمكة معروفان، ولذلك دخلت الألف واللام فيهما للتعريف.
وجمع الصَّفَا أَصْفَاء كَرَحَا وأَرْحَاء. ويجوز في جمعه: صُفِيٌّ وصِفِيٌّ، كَعَصَا وَعُصِيُّ وعِصِيٌّ.
وجمع مَرْوَة مَرْو [كَتَمْرَةٍ وَثَمْرٍ]، وإن شئت مَرَوَاتٍ كَتَمَراتٍ.
والصفا في اللغة الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً.
والمروة الحصاة الصغيرة.
وقوله: ﴿مِن شَعَآئِرِ الله﴾.
أي: من معالم الله التي جعلها لعباده مشعراً يعبدونه عندها إما بالدعاء وإما بالصلاة، وإما بأداء ما افترض عليهم من العمل عندهما.
وقيل: شعائر الله من أعلام الله التي تدل على طاعته من موقف ومشعر ومذبح، والواحدة شعيرة من " شَعَرْتُ بِهِ ".
ثم قال: ﴿فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
هذه الآية نزلت في سبب أقوام من المؤمنين قالوا في سبب أصنام كانوا يطوفون بها في الجاهلية قبل الإسلام تعظيماً لها: كيف [نطوف بها، وقد] علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى / شرك بالله سبحانه؟ فلا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله تعالى. فأنزل الله تعالى في ذلك ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ من أول الآية.
قال السدي: " ليس عليه إثم، ولكن له أجر ".
قال الشعبي: " كان على الصفا في الجاهلية صَنَم يسمى " إِسافٌ "، وعلى المروة وثن يسمى " نَائِلَةٌ "، فكانوا في الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوَثَنيْن. فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام امتنع المسلمون من الطواف بالصفا / والمروة لأجل الصنمين، فأنزل الله تعالى ﴿ إِنَّ الصفا والمروة﴾ الآية.
وذُكر الصفا لأن الصنم / الذي كان عليه مذكر - يعني إسافاً - وأُنِثَ المروة
وقال أنس بن مالك: " كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت هذه الآية ".
وقال عروة: " قلت لعائشة رضي الله عنها - وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، فما أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما ". قالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " إنما نزلت هذه الآية في الأنصار؛ كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا [رسول الله] ﷺ عن ذلك فأنزل الله [جل ذكره]: ﴿إِنَّ الصفا والمروة﴾ الآية. وهو قول مجاهد وابن زيد.
وقال قتادة: " كان حي تهامة في الجاهلية لا يسعون بين الصفا والمروة، فأخبرهم الله تعالى أن الصفا والمروة من شعائر الله ".
والحج في اللغة القصد. يقال: " حججت إليه " بمعنى قصدت / إليه. وقيل: الحج التكرر في الإتيان مرة بعد مرة. فمن أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج. فعلى هذا إنما قيل للحجاج حاج لإنه يتكرر إلى البيت وقت الدخول ووقت الإفاضة وفي غير ذلك.
وقيل للمعتمر متعمر، لأنه إذا طاف انصرف بعد زيارته. فمعنى الاعتمار الزيارة، وكل من زار إنساناً فهو له معتمر، يقال: " اعْتَمرْتُ فُلاَناً "، أي: قصدته.
والطواف بين الصفا والمروة عند مالك والشافعي فرض، فمن نسي ذلك رجع
وقال عطاء: " هو تطوع ولا شيء عليه إذا نسي ذلك ". واحتج بأن في قراءة ابن عباس: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. وكذلك هي في مصحف ابن مسعود.
وكذلك روي عن أنس بن مالك أنه قال: " هو تطوع ". وروي ذلك عن مجاهد.
وإيجابها عن ابن عباس أشهر وأوضح. والإسناد عن أنس ضعيف.
وجميع من قرأ على مجاهد من الأئمة المشهورين لم ينقل عنه إلا بغير " لا ". وقد روى جابر عن النبي [ ﷺ] أنه: " لَمّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ قَالَ: " إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ "، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ ".
ثم قال: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾. أي: شاكر له على تطوعه، عليم بما تطوع.
وقال ابن زيد: " معناه: فمن تطوع خيراً فاعتمر، فإن الله شاكر عليم، والعمرة / تطوع، والحج فرض ".
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى﴾.
وذكر عن ابن عباس أن معاذ بن جبل سأل بعض أحبار اليهود عن ما في التوراة من ذكر النبي عليه السلام فكتموه إياه، فأنزل الله ﷺ: ﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ﴾. إلى: ﴿اللاعنون﴾. وهو قول مجاهد.
وقال قتادة: " هم أهل الكتاب كتموا الإسلام، وهو دين الله سبحانه وكتموا محمداً وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ".
وقوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب﴾.
يعني بالكتاب هنا: التوراة والإنجيل. وهذه الآية وإن كانت خاصة لبعض الناس فإنها عامة لكل من سئل عن علم يعلمه فكتمه.
وقال النبي [ ﷺ] " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجَامٍ
ثم قال: ﴿أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾.
أي: أولئك الذين كتموا أمر محمد ﷺ يلعنهم الله تعالى بكتمانهم، أي: يبعدهم الله من رحمته ويطردهم.
وقوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾.
قيل: معناه: ويسأل ربَّهم اللاعنون أن يلعنهم لأن كل لاعن إنما يقول: " اللهم العن هذا ".
وقيل: اللاعنون البهائم؛ إذا أسْنَتَتِ السَّنَةُ، قالت البهائم: " هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم ".
وقال عكرمة: " يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب / يقولون: منعنا
وإنما جُمِعَ جَمْعَ السلامة على هذا القول، وهو ما لا يعقل لأنه لما أخبر عنهم بمثل ما يخبر عن بني آدم جمعهم كما يجمع بني آدم.
وقال قتادة: " اللاعنون هنا: " الملائكة والمؤمنون ". وقاله الربيع.
قال مقاتل " اللاعنون كل ما على وجه الأرض إلا الثقلين: الجن والإنس، وذلك أن الكافر إذا أدخل قبره ضربته / الملائكة بمقمعة حين تقول له: من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيصيح صيحة يسمعها كل ما على وجه الأرض من غير الجن والإنس، فلا تَقِر تلك الصيحة في سمع شيء إلا لعنه ".
قال مجاهد: " اللاعنون البهائم ".
ولما وصفت باللعنة: جاز جمعها بالواو والنون، وإن كانت لا تعقل. وله نظائر كثيرة.
وقيل: / اللاعنون الملائكة الذين يسوقون أهل الكفر إلى النار. والهاء في ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ تعود على اللعنة.
قال مقاتل: " اللعنة النار ". وحسن ذلك عنده لما كانت عاقبة اللعنة المصير إلى النار.
وقال السدي: " اللاعنون ما عدا بني آدم والجن ".
وروي عن البراء بن عازب: " أن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته إلا الثقلين: الجن والإنس ". / وهو قول الضحاك.
ويروى عن ابن مسعود أنه قال: " اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا ألحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود ".
وقيل: هذه اللعنة إنما تكون يوم / القيامة كما قال تعالى:
ثم قال تعالى: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ﴾.
أي تابوا من الكفر وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى، وبيّنوا للناس أمر النبي ﷺ الذي هو عندهم في كتابهم موصوف.
وقيل: المعنى: وبيّنوا التوبة بإخلاص العمل.
ثم قال: ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾: أي: أقبل توبتهم. ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ﴾: أي على من تاب.
﴿الرَّحِيمُ﴾ أي رحيم بالخلق أن أعذبهم بعد توبتهم من كفرهم.
ثم قال: ﴿إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾.
أي: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته.
﴿والملائكة﴾: أي ولعنة الملائكة.
وعن أبي العالية أن ذلك يكون يوم القيامة، قال: " إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون ". وهو اختيار الطبري واحتج بقوله تعالى: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [هود: ١٨].
وقال السدي في قوله: ﴿والناس أَجْمَعِينَ﴾: " أنه لا يتلاعن إثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: " لعن الله الظالم " إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنه ظالم، فكل واحد من الخلق يلعنه ".
ثم قال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾.
أي: خالدين في جهنم باللعنة، لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ولا هم ينظرون لمعتذرة يعتذرون بها كما قال:
﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥] ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦].
[و] إنما جاء لفظ ﴿والناس أَجْمَعِينَ﴾ بلفظ العموم، وقد علم أن أهل دينهم لا يلعنونهم لأنهم وإن كانوا لا يقصدون باللعنة أهل دينهم فلا بد لهم أن يقولوا: " لعن الله الظالم " أو " الظالمين " فيدخل في ذلك كل كافر كائناً من كان.
ثم قال: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾. أي: معبودكم أيها الناس واحد، لا معبود غيره يستحق العبادة.
﴿الرحمن الرحيم﴾ / أي: الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بأوليائه.
ومعنى " واحد " في صفته ونعته وأنه لا شبيه له ولا نظير. وليس معناه واحداً في العدد لأن كل مفرد من المخلوقات واحد في العدد، فالمعنى أنه من فرد واحد في الألوهية والقدرة والصفات [لا ثاني] له.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار﴾ الآية.
هذه الآية فيها تنبيه من الله تعالى لخلقه على قدرته ونعمه. والآية دالة على
والمعنى: إن في رتبة هذه الأشياء وحدوثها وإحكام صنعتها لعلامات بينة، ودلالة واضحة على توحيد خالقها وإيجاب العبادة له دون غيره لقوم يعقلون.
وروي أن قوله: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ الآية، لما نزلت، قال المشركون: " ما البرهان على ذلك ونحن ننكر ذلك، ونزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ الآية، احتجاجاً عليهم فيما ادّعوا. هذا قول عطاء.
والمعنى بهذه القدرة والآيات تعلمون أن الإله إله واحد لا تجب العبادة إلا له.
وقال أبو الضحى: " لما نزلت: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ الآية، قال المشركون: إن كان هذه هكذا، فليأتنا بآية. فأنزل الله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ الآية.
وروى ابن جبير " أن قريشاً سألت / اليهود عما جاءهم به موسى / من الآيات
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً﴾ إلى قوله: ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: ومن الناس من يعبد آلهة / وأصناماً من دون الله، يحبون الأصنام كحبهم لله. أي يُسوّون بين الله وبين الأصنام في المحبة، والمؤمنون أشد حباً لله من الكفار لآلهتهم.
وجاءت الهاء والميم للأصنام وهي لا تعقل لأنها كانت عندهم ممن يعقل ويفهم، فخوطبوا على ما كان في ظنهم فأجريت مجرى من يعقل بالهاء والميم.
وقيل: المعنى: يحبون الأصنام كحبكم أنتم الله، وأنتم أشد حباً لله من الكفار لآلهتهم.
وقيل: جاء ضمير الأصنام بالهاء والميم، وهي لا تعقل لأنهم لما عبدوها أنزلوها منزلة من يعقل.
وقال السدي: " الأنداد هنا ساداتهم الذين كانوا يطيعونهم كما يطيعون الله.
ثم قال: ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب﴾.
أي: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وظلموا أنفسهم حين يرون عذاب الله لرأيت أمراً عظيماً، ولعلمت أن القوة لله جميعاً.
وقيل: إن " أنْ " فتحت بـ " تَرَى ". وهو قول المبرد والأخفش.
و" ترى " بمعنى تعلم، التقدير: " ولو يعلم الذين ظلموا جميعاً لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة دون الله ". وهذا إنما يكون على قراءة من قرأ بالياء.
وقيل: معنى: " ترى " تنظر، وأن التقدير: ولو تنظر يا محمد الذين ظلموا حين يرون العذاب لأقروا أن القوة لله.
وقيل: فتحت " إن " على تقدير اللام أي: لأن القوة لله، والجواب أيضاً محذوف تقديره: لعلموا مبلغ عذاب الله ونحوه.
ومن كسر " إِنّ " كسرها على الابتداء، وجواب " لو " محذوف أيضاً.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا﴾.
والمعنى: وإِن الله شديد العذاب حين تبرأ الذين اتُّبعوا - وهم سادات الكفار وأهل الرأي منهم الجبابرة - من الذين اتَّبعوا - وهم أتباع السادات.
﴿وَرَأَوُاْ العذاب﴾: أي: ورأى الجميع / عذاب الله وذلك كله في القيامة.
﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾.
يعني القرابات التي كانت بينهم في الدنيا والصداقات فلم ينتفعوا. هذا قول قتادة وعطاء والربيع.
والهاء في " بِهِمْ " ترجع على التابعين والمتبوعين.
وكذلك الهاء في " يُرِيهِمْ " و " أعْمالِهمْ ".
وقال السدي: " الذين اتبعوا هم / الشياطين تبرأُوا في القيامة ممن اتبعهم من الإنس ".
وقيل: الآية عامة في كل من اتبع على شرك تبرأوا في الآخرة ممن اتبعهم.
قال مجاهد: " الأسباب: الوصايل والمودة ". وقاله ابن عباس.
قال تعالى ذكره: ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [العنكبوت: ٢٥].
وقال: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
وعن ابن عباس أيضاً: " أن الأسباب هي المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا ". وعنه أيضاً: " الأسباب: الأرحام ".
وقال السدي: " الأسباب الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا ". وقاله ابن زيد.
﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾: أعمال أهل التقوى.
وقيل: أعطوا [أسباب أعمالهم السيئة، وتقطعت بهم أسباب] أعمال أهل التقوى. وأصل " السبب " الحبل يتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾.
أي: وقال الأتباع: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنبرأ من هؤلاء القادة الجبابرة الذين اتبعناهم في الدنيا على الشرك كما تبرأوا منا الآن.
ثم قال ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ /.
أي: كما أراهم الله العذاب وتبرأ بعضهم من بعض كذلك يريهم / أعمالهم حسرات عليهم: أي ندامات.
والمعنى: كذلك يريهم الله عذاب أعمالهم السيئة ليتحسروا على عملها. قاله الربيع وابن زيد. وهو اختيار الطبري.
وقيل: المعنى: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم التي افترضها الله عليهم في / الدنيا فضيعوها، ولم يعملوا بها ليتحسروا على تركها.
قال السدي: " يرفع الله لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فيريهم الله
فالمعنى على هذا: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم التي كانت / تلزمهم في الدنيا فتركوها وضيعوها حسرات عليهم.
والحسرة في اللغة: أشد الندامة.
ثم قال: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾.
أي: ليسوا يخرجون من النار أبداً، يعني به القوم الذين تقدمت صفتهم وتبرأ بعضهم من بعض، وتمنى بعضهم الرجعة إلى الدنيا.
وهذه الآية تدل على فساد قول من زعم أن عذاب الله تعالى للكفار له نهاية.
وقوله: ﴿يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً﴾.
أي: كلوا مما أحل الله لكم من الأطعمة على لسان محمد ﷺ.
قال ابن عباس: " خطواته: عمله ".
وقال مجاهد: " خطاياه ". وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد. أي: خطاياه التي يأمر بها ويدعو إليها.
وقال السدي: " خطوات الشيطان: طاعته ".
وقال أبو مجلز: " هي النذور في المعاصي ".
قوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.
أي: ظاهر العداوة، فالمعنى: النهي عن اتباع ما يدعو إليه الشيطان مما هو خلاف لطاعة الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسوء﴾.
أي بما يسوؤكم، ولا تسركم عاقبته.
﴿والفحشآء﴾: أي: ما فحش ذكره مثل الزنا والكفر.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾. أي ويأمركم أن تقولوا ذلك، وهو تحريم البحائر والسوائب والوصائل والحوام التي كانت أهل الجاهلية تحرمه، ولم يأمر الله بذلك.
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله﴾.
إلى قوله: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
الهاء والميم في " لهُمُ " تعودان على " من " في قوله ﴿مَن يَتَّخِذُ﴾. وقيل: تعودان على " الناس " من قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ﴾. وهو اختيار الطبري.
وذكر ابن عباس أن النبي [عليه السلام] دعا نفراً من اليهود إلى الإسلام، ورغبهم وحذرهم عذاب الله. فقالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ﴾ أي: وجدنا.
والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتبعوا ما أنزل الله؛ أي: اتبعوا ما حرم الله عليكم فحرموه وما [أحل الله] لكم فحللوه، ولا تحدثوا تحريم ما أحل الله لكم مثل البحائر والوصايل والسوائب والحوام التي قد حرمتم من عند أنفسكم، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأبوا إلا الكفر واتباع الكفر.
قال الله تعالى: / ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾.
أي: لا يعقلون شيئاً من الدين، ولا يهتدون إلى شيء من الخير تتبعونهم. فالمعنى: كيف تتركون ما أمركم به الله تعالى وتتبعون طريق من لا يهتدي للحق ولا يعقل الخير.
ثم قال: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ﴾.
أي: مثل الكافر في قلة فهمه لما يتلى عليه من عند الله تعالى وما يدعى إليه ويوعظ به، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها، ولا تعقل ما يقال لها.
قال عكرمة: " معناه: مثلهم كمثل البعير أو الحمار تدعوه فيسمع الصوت، ولا
قال ابن عباس: " معناه: مثل الكافر كمثل البعير أو الحمار أو الشاة، إذا قلت لبعضها: كُلْ، لم تعلم ما تقول، غير أنها تسمع الصوت. كذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك ".
قال مجاهد: " هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر يسمع / ما يقال له، ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النهيق ولا تعقل ".
وعلى هذا المعنى فسره كل المفسرين.
وقوله: / ﴿إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾.
أي: لا تعقل البهيمة ما يقال لها، إنما تسمع دعاء ونداء، كذلك الكافر. والذي ينعق هو الراعي للغنم، فكما أن الغنم تسمع صوت الراعي إذا دعا بها ولا تفقهه، كذلك الكفار يسمعون ما يقول / لهم محمد ﷺ وما
أي: حالهم حال الأصم الأبكم الأعمى، إذ لا ينتفعون بذلك فيما يدعون إليه.
فالمعنى: صم عن سماع الحق [بكم عن قول الحق، عمي عن النظر إلى الحق]. وإنما قدم " صُمّ " في هذا الموضع وفي أول السورة على ما بعده لأنه أشد بلاء مما بعده لأنه يذهب به السمع والعقل. ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ٤٢] فذكر ذهاب السمع [مع الصّمّ]، وذكر بعده ذهاب البصر مع العمي لا غير.
وعن ابن عباس أن التقدير: " مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم، كمثل الناعق بالغنم، والمنعوق بهم ".
فأضيف المثل إلى الذين كفروا، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام عليه. وقيل: التقدير: ومثل الذين كفروا في تخلف فهمهم عن الله تعالى ورسوله / كمثل / المنعوق بهم من البهائم.
وقيل: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وهي لا تفهم عنهم، كمثل الناعق بالغنم ينعق بما لا يفهم عنه قوله. فكما لا ينتفع الناعق بالغنم بأن تفهم عنه، كذلك الكافر مع آلهته.
قال سيبويه: " تقديره: " مثلكم ومثل [الذين] كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. قال: فلم يشبهوا بما ينعق، إنما شبهوا بالمنعوق به ". وكذا قال أبو عبيدة.
وقال قطرب: " معناها: مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يعقل ولا يسمع، كمثل الراعي إذا [نعق بغنمه، وهو أن يصوت] بها، وهو لا يدري أين هي ".
وهذه الآية عند الطبري نزلت في اليهود. وهو قول عطاء. ومعنى
ثم قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
أي من حلال الرزق الذي أحله الله لكم، وذروا ما حرم عليكم. ﴿واشكروا للَّهِ﴾. أي: اثنوا عليه بما هو أهله على نعمه عندكم.
﴿إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾: أي: إن كنتم منقادين لأمره سامعين له مطيعين.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾.
أي: لم يحرم عليكم شيئاً مما حرمتموه على أنفسكم من البحائر والوصائل والسوائب والحوام التي حرمتموها على أنفسكم، إنما حرم عليكم أكل لحم الميتة ولحم الخنزير وأكل الدم وأكل ما ذبح لغير الله مثل ما يذبح للأصنام والأوثان، وما ترك ذكر اسم الله عليه متعمداً، فإنْ تَرَكَه ناسياً فلا شيء عليه.
وهذا المحرم لفظه عام وفيه تخصيص لأن الميتة من الجراد وصيد البحر والدم المخالط للحم الذي هو غير جار وما نسي عليه التسمية كله حلال أكله.
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
ف " ما " للأصنام... وقيل: هي للذبائح، للأصنام.
وقيل: للصياح؛ النداءُ الذي ينادى به لغير الله على الذبائح. وأصل الإهلال رفع الصوت.
وقيل: المعنى ما ذكر عليه غير اسم الله.
ثم قال: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾.
أي / فمن لحقته ضرورة من جوع وجهد وخوف على نفسه من الهلاك، ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على المسلمين، ولا متعمد للأكل، ﴿وَلاَ عَادٍ﴾، أي متعد على الناس.
وقيل: ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ معناه: ولا عائد لأكْلة أخرى لغير ضرورة فيكون / من المقلوب، أخرت الياء فصار كقاض.
قوله: ﴿فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾. أي: لا حرج عليه في أكل ما يرد به روحه.
وقال ابن عباس: " من أكل شيئاً من هذا وهو مضطر فلا حرج عليه، ومن أكله غير مضطر فقد بغى واعتدى ".
قال ابن جبير في قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾، قال: " هو أن يقطع الطريق فلا رخصة له إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشرب الخمر ".
وهو قول قتادة وعكرمة.
وقال ابن زيد: " لا يأكل ذلك بغياً ولا تعدياً من الحلال إلى الحرام ". وقال النخعي: " غير باغ على المسلمين ".
قال مجاهد: ﴿وَلاَ عَادٍ﴾: ولا متعد عليهم: من خرج يقطع السبل ويقطع الرحم فلا يحل له شيء من ذلك وإن اضطر ".
فذهب إلى أن الباغي قاطع الطريق. والعادي قاطع الرحم.
وقيل: المعنى: غير باغ ما حرم الله، ولا عاد. وله في تركها وجه.
وأجاز بكر القاضي لقاطع الطريق أن يأكل منها إذا اضطر، لأن قتله لنفسه معصية أخرى / فلا يأمره بها.
قال مسروق: " ومن اضطر إلى الميتة فأبى أن يأكل حتى مات، دخل النار ".
وقال مالك: " من اضطُر، أَكَل شِبَعه منها ".
وقيل: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾: غير خارج على المسلمين بسيفه باغياً عليهم ولا عادياً عليهم بحرب ظلماً.
﴿فلا إِثْمَ﴾ أي: فلا حرج، إن الله غفور رحيم.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب﴾. [إلى قوله: ﴿المتقون﴾.
هذه الآية عند قتادة وغيره نزلت في أهل الكتاب. كتموا ما أنزل الله تعالى في كتابهم من أمر محمد ﷺ.
قال ابن عباس: " هم اليهود كتموا اسم محمد ﷺ وأخذوا عليه طمعاً قليلاً ". وهو قول السدي والربيع.
وقال عكرمة في هذه الآية وفي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [آل عمران: ٧٧]: نزلت جميعاً في يهود ".
ومعنى ﴿يَشْتَرُونَ﴾ يبتاعون به.
والهاء في: " به " تعود على الكتمان، أي: وابتاعوا بكتمانهم ما أنزل الله تعالى في كتابهم / من ذكر محمد ﷺ.
﴿ ثَمَناً قَلِيلاً﴾: أي: أخذوا عليه طمعاً قليلاً، أي: أخذوا الرشوة وكتموا ما أنزل الله تعالى وبدلوه وحرفوه.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار﴾.
أي: ما يأكلون في بطونهم من الرشا إلا ما يؤديهم إلى النار، ومثله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء: ١٠] أي: ما يوردهم النار. فاستغنى في الآيتين بذكر
وقوله: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة﴾.
أي: لا يكلمهم بما يحبون ولا بما يشتهون، ويكلمهم بما يكرهون لأنه قد أخبر بأنه يقول لهم ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] وقيل: معنى ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾: يغضب عليهم. يقال: " فُلانٌ لا يُكَلِّمُ فُلاناً " إذا غضب عليه.
وقيل: المعنى: لا يسمعهم كلامه لأن الأبرار يسمعون كلامه.
وقيل: معناه: لا يرسل لهم الملائكة بالتحية.
وقوله: ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾: أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي موجع.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾.
قال ابن عباس: " معناه: ما الذي صبرهم على النار ".
وقال أبو عبيدة: " معناه: ما الذي أصبرهم على النار، ودعاهم إليها، وليس بتعجب ". وهو قول السدي.
فَ " ما " استفهام في القولين جميعاً.
وقال مجاهد والحسن وقتادة: " هو تعجب ".
ومعنى التعجب في هذا أن الله جل ذكره يعجب خلقه منهم، ومن جرأتهم على عمل يوردهم النار.
وقال مجاهد: " معناه: / ما أعملهم بأعمال أهل النار ". أي: ما أشد جرأتهم
وقيل: معناه: ما أبقاهم في عذاب الله.
وقيل: معناه: ما أصبرهم على الأعمال التي توجب لهم النار.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق﴾.
أي: بالواجب. وحيثما ذكر الحق فمعناه الواجب. أي: ذلك فعلهم، لأن الله نزل الكتاب بالحق.
وقيل: المعنى: ذلك العذاب المذكور لهم، لأن الله نزل الكتاب بالحق. فَ " ذلك " في موضع رفع في القولين.
وقيل: المعنى: فعلنا ذلك لأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به، فَ " ذَلِكَ " في موضع نصب في هذا القول.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
يعني به اليهود والنصارى؛ اختلفوا في الكتاب فكفرت اليهود بما قص الله فيه من قصص عيسى ﷺ وأمه، وصدقت النصارى ببعض ذلك. [و] كفروا جميعاً بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق / محمد ﷺ.
قال السدي: " ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾: لفي عداوة بعيدة ".
ثم قال تعالى: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب﴾.
أي: ليس البر الصلاة وحدها، ولكن البر الجمع لفعل هذه الخلال المذكورة بعده.
قال ابن عباس: " هذا حين نزلت الفرائض وحدت الحدود ". وقاله الضحاك وغيره. وهو اختيار الطبري، وهو قول الربيع بن أنس.
وقال قتادة: " كانت اليهود / تصلي قبل المغرب، والنصارى تصلي قبل المشرق، فأعلموا أن البر ليس هو كله ما يصنعون، ولكن البر عمل هذه الخصال التي بيَّنها بعد ".
وقد قيل: إن هذه الآية خصوص في الأنبياء وحدهم صلوات الله عليهم، لأن هذه الأشياء التي وصفت في الآية لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا
وقوله: ﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ﴾.
أي: على محبته إياه وشحه عليه.
فالهاء في " حبه " تعود على المؤمن، أي: على حبه إياه، يعني المال. وقيل: هي راجعة على المال، أي: على حب الرجل المال. فأضيف الحب إلى المال فهو المفعول به.
كما تقول: " أَعجبني أكلُ الخبز وشربُ الماء "، أي: أكلُ الرجلِ الخبزَ وشربُ الرجلِ الماءَ.
وقيل: الهاء ترجع على الإيتاء، ودل عليه: " وَآتَى "، والتقدير: على حب الإيتاء أي: على حب الرجل الإيتاء.
وقيل: / الهاء تعود على المؤمن، وتنصب " ذَوِي الْقُرْبَى " في هذا الوجه بالحب، أي: على حب المؤمن ذوي القربى. وتنصب " ذَوِي " في الوجوه المتقدمة بـ " آتَى ".
قال ابن مسعود: " هُوَ أنْ يُؤْتِيَهُ وَهُوَ صَحيحٌ شَحِيحٌ يَأْمَلُ العَيْشَ وَيَخَافُ الْفَقْرَ ". ورواه ابن مسعود عن النبي [عليه السلام].
وروي عنه ﷺ أنه قال: " فِي المالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكاةِ " وتلا هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿ذَوِي القربى﴾: أي ذوي الأرحام.
وسئل النبي [عليه السلام] عن أفضل الصدقة فقال: " جُهْدُ المُقِلِّ عَلَى ذِي القَرَابَةِ الكاشِحِ ".
وقيل: " هو المسلم يمر عليك من بلد إلى بلد ". قاله مجاهد وقتادة.
وقيل للمسافر: " ابن السبيل "، لملازمته السبيل وهي الطريق، كما يقال لطير الماء: ابن الماء لملازمته الماء. ويقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: هو ابن الأيام والليالي.
وعلى هذا يُتأول حديث النبي [عليه السلام] في قوله: " لا يَدْخُلْ الجَنَّةَ وَلَدُ زِنا "، معناه اللازم للزنا، جعل ابن زنا لملازمته له، كما قيل: ابن السبيل، وابن ماء، وابن الأيام.
وقوله: ﴿والسآئلين﴾. يعني به المعترضين الطالبين للصدقة.
وقوله: ﴿وَفِي الرقاب﴾.
وقوله: ﴿وَأَقَامَ الصلاة﴾. أي: أدام العمل بها بحدودها في أوقاتها.
قوله: ﴿وَآتَى الزكاة﴾. أي أعطاها على ما فرضها الله تعالى عليه.
وقوله: ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾.
رفعت ﴿والموفون﴾ على العطف على " مَنْ " في قوله: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾، أي: " ولكن البارُّ من آمن " على قراءة من خفف أو شدد.
وبعده: ﴿والصابرين﴾ هو نصب على المدح.
وقيل: ﴿والموفون﴾ رفع على إضمار مبتدأ " وهم الموفون "، تجعله مدحاً للمضمرين داخلاً في صلة " من ".
وتنصب " الصابرينَ " على العطف على ﴿ذَوِي القربى﴾ أو على " أعني ". وأجاز الكسائي رفع ﴿والموفون﴾ / على العطف على " مَنْ " في قوله: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾
وتنصب ﴿والصابرين﴾ على العطف على ﴿ذَوِي القربى﴾. وهو خطأ لأنه يفرق بين الصلة والموصول، فيعطف على الموصول، ثم / يعطف بعده على ما في الصلة، فيفرق بين الصلة وهي: ﴿والصابرين﴾ والموصول وهو: " مَنْ "، بِ " المُوفُونَ ": وليس بداخل في الصلة.
إنما هو معطوف على الموصول.
وقيل: إن " المُوفُونَ " عطف على المضمر في " آمَنَ "، و " الصَّابِرِينَ " عطف على " ذَوِي القُرْبَى " أو على " أَعْنِي " على المدح.
وقيل: إن " الصَّابِرِينَ " عطف على " السَّائِلِينَ "، ومعنى الكلام: والذين لا ينقضون عهد [الله] بعد المعاهدة، ولكن يوفون به.
أصل الصبر الحبس عن الشيء.
فالمعنى: والحابسين أنفسهم عن ما يكرهه الله تعالى في البأساء وفي الفقر، والضراء وهي السقم. قاله ابن مسعود.
وعنه: " أن البأساء: الجوع، والضراء: المرض ". وعنه: " البأساء: الحاجة ". وقال قتادة: " كنا نحدث أن البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم " / وهو قول الربيع.
وقال قتادة أيضاً: " البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد ".
قال الضحاك: " البأساء: الفقر، والضراء: المرض ".
وقوله: ﴿وَحِينَ البأس﴾.
والضُّراء - بالضم - في اللغة الزمانة والمرض. والضَّراء بالفتح ضد النفع. و " البأْساءُ " و " الضَّرَّاءُ " جاءا على " فَعْلاءَ " وليس لهما " أفْعَلُ " لأنه اسم وليس بصفة، كما جاء " أَفْعَلُ " في الكلام وليس له " فَعْلاءُ " نحو " أَحْمَدَ ". وقد قالوا في الصفة: " أَفعَلَ "، ولم يأت منه " فَعْلاءُ "؛ قالوا: " أنْتَ مِنْ ذَلِكَ أوْجَلُ "، ولم يقولوا: " وَجْلاءَ ".
وقد قيل: البأساء والضراء اسمان للفعل بمعنى المصدر، فهما بمعنى البؤس والضر، يقعان " لمؤنث ولمذكر ".
ثم قال: ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ﴾.
أي: صدقوا الله في إيمانهم به وحققوا قولهم بفعلهم، لا مَن ولى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف أمره ويكتم وحيه ويُكذِّب رسله.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾. إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
معناه: فرض عليكم القصاص في قتلاكم.
ف " كتب " بمعنى " فرض "، ومنه قوله: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ [النساء: ٧٧] أي: فرضته.
وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
ويكون " كَتَبَ " بمعنى " قَضَى ". من قوله: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ [التوبة: ٥١]. / أي: قضى علينا.
ويكون " كتب " بمعنى جعل كقوله: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان﴾ [المجادلة: ٢٢].
وكقوله: ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٥٣]. و ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦].
ويكون " كَتَبَ " بمعنى " أَمَرَ " كقوله: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٢١].
والمعنى: فرض عليكم أن تقتصوا ممن قتل أولياءكم إن شئتم ذلك، وليس
قال ابن عباس: " كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، ثم بين تعالى كيف القصاص، فقال: ﴿الحر / بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾، أي: يقتل هذا بهذا.
ولا يقتل حر في عبد عند مالك والشافعي.
وهذه الآية عند ابن عباس / منسوخة بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس﴾ [المادة: ٤٥]، لأن آية البقرة توجب ألا تقتل امرأة قتلت رجلاً، ولا رجل قتل امرأة، ولا عبد قتل حراً، وآية المائدة توجب قتل النفس بالنفس، فيلزم منها يقتل الحر بالعبد. لكن فيها تخصيص.
قال ابن عباس: " كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فأنزل الله ﴿النفس بالنفس﴾ فجعل الله الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد، - رجالَهم ونساءَهم - في النفس وفيما دون النفس ".
وقال الشعبي: " نزلت آية البقرة في قوم اقتتلوا فقتل بينهم خلق كثير، فقالت الغالبة العزيزة من القبيلتين المتقاتلتين: " لا نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم ولا بالأنثى منا إلا الذكر منهم " فأنزل الله: ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾. وقال السدي: " نزلت في فريقين وقعت بينهما قتلى، فأمر النبي [عليه السلام] أن يقاص بينهما، ديات النساء بديات النساء، والرجال بالرجال ".
فالآية على هذا محكمة مخصوصة.
وقال الحسن: " الآية على التراجع: إذا قتل رجل امرأة، كان أولياء المرأة
وإذا قتلت امرأة رجلاً؛ فإن شاء أولياء الرجل قتلوا المرأة وأخذوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا الدية كاملة. وإذا قتل حر عبداً؛ فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية الدية بعد قيمة العبد.
وإذا قتل عبد رجلاً حراً، فإن شاء أولياء الرجل قتلوا العبد، ويأخذون بقية الدية ".
وقال مالك: " أحسن ما سمعت في هذه الآية يراد بها الجنس: الذكر والأنثى
ولا يقتل الحر بالعبد عنده، ولكن عليه قيمته.
ولا يقتل المسلم بالذمي، وعليه الدية في العمد والخطأ. وبذلك قال عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة وابن دينار والشافعي. ودليل ذلك إجماعهم أنه لا يقتص للعبد من الحر / فيما دون النفس، فكانت النفس كذلك.
فأما قوله: ﴿النفس بالنفس﴾ فإنما هو إخبار عما فَرَضهُ الله على بني إسرائيل. وقد أجمع على القصاص بين الأحرار، فدخل في ذلك قتل الأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى من الأحرار.
وقد قال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي: " يقتل الحر بالعبد بدليل قوله: ﴿أَنَّ النفس بالنفس﴾ [المائدة: ٤٥]، ولقول النبي [عليه السلام]: " المُؤْمِنونُ تَتَكافَأُ دِماءُهُمْ وَلِيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْناهُمْ "، والعبد المؤمن كالحر، وقالوا: لما لم يكن قوله: (الأُنْثَى بالأُنْثَى) بمانع من قتل الأنثى بالذكر والذكر
ثم قال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾.
أي فمن ترك له ولي المقتول من الدية شيئاً.
﴿فاتباع بالمعروف﴾ أي فليتبع العافي القاتل بالمعروف.
وقوله: ﴿وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾.
أي: وليؤد القاتل إلى الولي ما قَبِله من الدية بإحسان. وهذا قول مروي عن ابن عباس.
[فَالهاءُ في " لَهُ " تعود على هذا القول] للقاتل.
والهاء في " أخيه " للقاتل أيضاً.
والهاء في " إِلَيْهِ " لولي المقتول العافي.
و" مَنْ " اسم القاتل، و " الأخ " ولي الدم.
قال ابن عباس: " كان القصاص في بني إسرائيل، ولم تكن الدية، فأباح الله
وقيل: المعنى: " فمن قبل منه ولي المقتول في العمد الدية فلْيَتْبعْ الولي أخذَ الدية بمعروف، وليؤد القاتل إلى الولي الدية بإحسان إذا قبلها منه في العمد، ولم يُطالبه بالقصاص ".
وهو أيضاً مروي عن ابن عباس، وعن جابر بن زيد، وهو أبين في نص الآية، والهاءات على حالها.
قال مجاهد: " هو أن يعفو الولي عن الدم ويأخذ الدية ". وهو القول الذي قبله.
وقال الحسن: " على هذا الطالب أن يطلب بمعروف، وعلى المطلوب أن يؤدي بإحسان ". وهو قول الشعبي وقتادة وعطاء وغيرهم، وقالوا كلهم: " العفو أن يأخذ الدية في العمد ".
فالهاء في " لَهُ " على هذا القول تعود على ولي المقتول، والهاء في " أَخيهِ " للولي. و " مَن " اسم ولي الدم، و " الأخ " اسم القاتل.
وفي هذه الآية نظر يطول تقصيه. وجملة الاختلاف فيها أن المعفو له عند مالك وغيره ولي الدم، والعافي القاتل، وعفى عنده بمعنى يسر، والمعفو له [عند غير مالك القاتل، والعافي ولي] الدم. وعفا بمعنى ترك.
هذا اختصار معنى الاختلاف في الآية فافهمه.
و" الأخ " عند مالك القاتل، وهو عند غيره ولي الدم.
و" مَنْ " على قول مالك اسم ولي الدم. وعند غيره اسم القاتل.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾.
أي: ذلك الذي حكمنا به في هذه الآية من إباحتي الدية في العمد ولم أبح ذلك لغيركم من الأمم تخفيفٌ من ربكم عليكم، خصصتُكم به دون غيركم من الأمم، ورحمة من ربكم لكم.
وذكر ابن بكير أن العافي هو القاتل، وأن أولياء المقتول مخيرون في قبول الدية أو القتل. قال: " ألا تراه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة﴾.
وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير دية.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أي: مَن قتل بعد أخذ الدِّية فله / عذاب مؤلم في الآخرة، وحكمه أن يقتل
وقيل: العذاب الأليم هنا القتل.
وقيل: هو شيء إلى السلطان يعاقبه بما شاء.
وقال الحسن: " تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يقتل ".
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " نُقْسِمُ أَلاّ يُعْفَى عَنْ رَجُلٍ عَفَا عَنِ الدَّمِ، وأَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَدَا فَقَتَلَ ".
وقيل: أمره إلى الإمام يفعل به ما رأى.
ثم قال: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة يا أولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
أي إذا عَلِم من يريد أن يقتل أنه يقاصَص فيُقتل، أَمْسَك عن القتل فصارت معرفته بالقصاص فيها حياته، وحياة من أراد قتله.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. أي: تتقون القتل فلا تتعدون إليه لعلمكم بالقصاص.
قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقيل: هي محكمة واجبة لمن لا يرث من الوالدين والأقربين. وهو اختيار الطبري.
وروي عن الضحاك أنه قال: " من مات ولم [يوص لذي] قرابته فقد ختم عمله بمعصية ".
وقال الحسن: " إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثلث الثلث وباقي الثلث لقرابته ". وقاله طاوس.
وعن قتادة والحسن أنه " إنما نسخ منها الوالدان، وبقي الأقربون الذين لا يرثون بالوصية لهم فرض ".
وقال ابن زيد: " نسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض ". وهو قول ابن عمر وعكرمة ومجاهد والسدي.
واختلفوا في نسخها فقال أكثرهم: " نسختها آيات النساء في المواريث.
وقال بعضهم: " نسخها قول النبي [عليه السلام]: " لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".
وجواب الشرط عند الأخفش فاء محذوفة، والتقدير: " فالوصية ". فعلى هذا
وكلهم على أن ﴿خَيْراً﴾ في الآية: المال.
قال قتادة: " الخير: ألف دينار فما فوقه ".
وروى هشام بن عروة عن عروة، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ دخل على ابن عم له يعوده فقال: إني أريد أن أوصي، فقال: لا توص، فإنك لم تترك خيراً فتوصي. قال: فكان ما ترك من السبعمائة إلى التسعمائة ".
وقال النخعي: " هو ما بين الخمسمائة درهم إلى الألف ".
وقال الزهري: " الوصية حق مما قل أو كثُر ". وهو اختيار الطبري.
ويروى عن علي أنه قال: " أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ".
ومعنى ﴿بالمعروف﴾: أي لا يضار الورثة مما يوصي فيما يوصي، فيوصي بأكثر من الثلث.
وقوله: ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾: أي: على من اتقى الله فاتبع ما أمره.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾.
أي: فمن بدل الإيصاء ولمن أوصى به بعدما سمعه من الميت فإنما إثمه / على [من بدله].
﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
عليم بما تعملون وما تبدلُون وغير ذلك.
" والهاء " في " بدَّلَهُ " تعود على الإيصاء والموصى له، وإن لم يجر له ذكر. لكن الكلام الأول يدل عليه ويتضمنه لأن الوصية تدل على الإيصاء والإيصاء يتضمن موصياً وموصى له.
والوصية عند أكثر أهل العلم غير واجبة، إنما هي مندوب إليها إلا الزهري فإنه قال: " هي واجبة على من ترك خيراً ". وكلهم أجمعوا على أن مَنْ قِبَلُه أماناتٌ وودائعٌ وديون ونحو ذلك الوصية فرض.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾.
أي: فمن حضر مريضاً يوصي بوصية لا تجوز له في الدين، فلا حرج عليه أن يصلح بينه وبين ورثته ويأمره بالعدل في وصيته، وينهاه عن منعه مما أذن الله له فيه
وقيل: المعنى: فمن خاف جنفاً من الموصي فأصلح بين الورثة والموصى لهم فرد الوصية إلى العدل والحق فلا حرج عليه.
قال ابن عباس: " إذا أخطأ الميت في وصيته وخاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب ". وهو معنى قول قتادة والنخعي.
وقال عطاء: " معناها: من خاف من موص جنفاً في عطيته عند موته بعض ورثته / دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين الورثة ".
وقيل: معناه: من خاف من موص جنفاً في وصيته لمن لا يرثه بما يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه.
وهو معنى قول طاوس، قال: " جنفه توليجه بوصيته لبني ابنه ليكون
وقال السدي: " نزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين ".
فمعناها: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض فأصلح بين الآباء والأقربين، فلا إثم عليه.
واختيار الطبري أن يكون معناها: من خاف من موص جنفاً أن يحيف في وصيته / فيوصي بأكثر مما يجب له في وصيته، فلا حرج على الذي حضر أن يصلح بين الموصي والورثة بأن يأمر الميت / بالمعروف والحق.
والضمير في " بَيْنَهُمْ " يعود على الورثة والموصى لهم. أو على الورثة والموصى على الاختلاف المتقدم.
قال ابن عباس: " جنفاً: خطأ ". وقال عطاء: " ميلاً ".
وقال الضحاك: " الجنف: الخطأ، والإثم: العمد " وهو قول النخعي.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
أي: " غفور " للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والإثم العمد إذا ترك ذلك ورجع إلى الحق، " رحيم " بالمصلح.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: فرض عليكم أن تصوموا أياماً معدودات كما كتب على الذين من قبلكم الصيام، يعني / النصارى.
وقال السدي: " ﴿الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ هم النصارى كتب عليهم رمضان وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء في شهر رمضان، فاشتد عليهم شهر رمضان وجعل يصعب / عليهم في الصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا على صيام في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: " نزيد عشرين يوماً. نكفر بِهَا ما صنعنا ". فجعلوا صيامهم خمسين يوماً، فلم يزل
وقال قتادة: " كان قد كتب الله تعالى على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر ثم فرض شهر رمضان ".
وقال جابر بن سمرة: " نسخ صوم رمضان صوم يوم عاشوراء، لأن النبي [عليه السلام] كان أمر بصومه قبل أن يفرض رمضان. فمن شاء الآن صامه ومن شاء أفطره. ".
وروى [أبو] قتادة أن النبي [عليه السلام] قال: " صَوْمُ يَوْمِ عاشوراءَ يُكَفِّرُ سَنَةٌ
قالت عائشة رضي الله عنها: " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية. وكان رسول الله يصومه.. فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه فنزل صوم رمضان /، فكان رمضان هو الفريضة فمن شاء صام عاشوراء، ومن شاء ترك ".
وقال تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ قال: " كان كتب عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ".
والآية ناسخة لصيام ثلاثة أيام من كل شهر على هذا القول.
وقال أبو العالية والسدي: " هذه الآية منسوخة لأن الله تعالى كتب على من كان قبلنا إذا نام بعد المغرب لم يأكل ولم يقرب النساء، ثم كتب علينا ذلك في هذه الآية " فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ ثم نسخه بقوله:
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] الآية ".
واختار الطبري قول من قال: " فرض على من كان قبلنا من أهل الكتاب صوم شهر رمضان ففرضه علينا ". وقال: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾. واستدل على ذلك أن مَنْ بعدَ إبراهيم - عليه السلام - من الأنبياء / كانوا مأمورين بالاتباع له؛ وذلك أنَّ الله تعالى جعله [إماماً للناس] وأخبرنا أن دينه كان [الحنيفة المسلمة]، وأمر نبينا عليه السلام باتباعه فدل على أن إبراهيم ﷺ ومن كان بعده من الأنبياء صلوات الله عليهم فرض / عليهم صوم شهر / رمضان كما فرضه / الله تعالى علينا الآن، فوقع التشبيه على الوقت.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
أي تتقون أكل الطعام وشرب الشراب، وجماع النساء فيه. وهو معنى قول السدي وغيره.
وقيل: معناه: إن الصيام وصلة إلى التقى. فكأنه " صوموا ليقوى رجاؤكم في التقوى ".
ثم قال تعالى: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾.
قال عطاء: " كان على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض الله على المسلمين صوم شهر رمضان ".
فهذا القول يدل على أن أياماً منصوبة بـ " كُتِبَ "، وهو قول الفراء. قال ابن عباس: " كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخه الله بصوم شهر
وقيل: [الأيام المعدودات] هي أيام رمضان بعينها. فيكون نصبٌ: " أيام " بالصيام على هذا القول، وهو قول الأخفش، فتكون ظرفاً. ولا يكون نصبها على المفعول لأنك تفرق بين الصلة والموصول بالنعت وهو الكاف. وحسن ذلك في الظرف لأن الظرف تعمل فيها المعاني إلا أن تجعل الكاف مفعولاً للصيام، فيحسن أن تنصب " الأيام " على أنها مفعول بها.
والكاف من " كما يجوز أن تكون نعتاً لمصدر محذوف أي: [كَتْباً كَمَا]، ويجوز أن يكون " صَوْماً كَمَا "، فلا يدخل في الصلة على القول الأول، ويدخل على القول الثاني.
ويجوز أن تكون الكاف نصباً على الحال من الصيام، أي: مشبهاً لصيام من
ويجوز أن يكون في موضع رفع نعتاً للصيام.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾. أي: فمن لم يقدر على الصوم لمرض به أو لسفر فليفطر، وعليه أن يصوم مثل ما أفطر من أيام أخر.
فمن الفقهاء من يرى أن الصوم في رمضان في السفر أفضل، ومنهم من يرى الإفطار.
وكان أنس بن مالك يرى الصوم في السفر في رمضان، فقيل له: أين هذه الآية: ﴿أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فقال: " إنها نزلت يوم نزلت، ونحن نرتحل جياعاً، وننزل على غير شبع، واليوم نرتحل شباعاً، وننزل على شبع ".
وقيل: منع من الصرف لأنه على وزن " جُمَع "، والعرب لا تقول " يوم أُخْرَى "، إنما تقول: " يوم أُخَر "، وإنما جاء " أَيَّامٍ أُخَر " لأن نعت " الأيام " مؤنث، فلذلك نعت بأخرى.
وقيل: " أُخَر " جمع " أُخْرَى "، كأنه قال " أيام أُخْرَى "، ثم كثرت الأيام فجمع " أُخْرَى " على " أُخَرَ ".
ثم قال تعالى: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾. قال معاذ بن جبل:
وقال علقمة: " نسخها: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ﴾ ".
وكذلك روى نافع عن ابن عمر. وهذه الآية في رواية ابن وهب عن مالك محكمة.
قال ابن وهب: " قال لي مالك: " إنما ذلك في الرجل يمرض فيفطر ثم يبرأ فلا يقضي ما أفطر حتى يدركه رمضان آخر من قابل، فعليه أن يبدأ برمضان الذي
ولو اتصل به المرض إلى أن دخل عليه رمضان آخر، فليس عليه إطعام إذ لم يفرط ".
فالمعنى على هذا القول: وعلى الذين يطيقونه القضاء لما عليهم فلا يقضون حتى يأتي رمضان آخر فدية طعام مساكين مع القضاء. يعني يطعم مداً لمسكين عن كل يوم فرط في قضائه.
وقال ابن أبي ليلى: " دخلت على عطاء وهو يأكل في رمضان فقال: إني شيخ كبير، وإن الصوم نزل فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً حتى نزلت هذه الآية: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ﴾ الآية، قال: فوجب الصوم على كل أحد إلا مريضاً أو مسافراً أو شيخاً كبيراً مثلي يفتدي ". وهو قول ابن شهاب.
[وقال ابن عباس]: " جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مساكين، فمن شاء [من مسافر أو مقيم أن يفطر ويطعم مسكيناً] كان ذلك رخصة لهم، ثم أنزل الله في
وروى / ابن سيرين عن عبيدة أنه قال في قوله: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، قال: " نسختها التي تليها: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ﴾ الآية ".
وقال الضحاك: " فرض الله الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة؛ [وإذا صلى الرجل العتمة، حرم عليه] الطعام والشراب والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخر بإحلال الطعام والشراب والجماع في الليل كله، وهو قوله: ﴿وَكُلُواْ واشربوا﴾ الآية، وأحل الجماع بقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ الآية. وكان في الصوم الأول فدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكيناً
وقال ابن جبير: " كانت الفدية للشيخ الكبير والعجوز إذا أفطر وهما يطيقان الصوم ثم نسختها الآية التي بعدها قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ﴾، فنسخت الإطعام عن الكبيرَيْن إذا كانا يطيقان الصوم وأوجب عليهما الصوم، وثبت للشيخ والعجوز الفدية إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا. وكذلك قال عكرمة والربيع.
وقال السدي: " الآية محكمة ومعناها: " وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم في صحتهم إذا مرضوا أو كبروا أو عرض لهم مانع من المقدرة على الصوم كالحامل والمرضع، الفدية إطعام مسكين لكل يوم، وإن تكلف الصيام على ضره فصام / فهو خير له ". قال ابن عباس: " إذا خافت الحامل والمرضع [أفطرتا
وقرأ ابن جبير وعطاء وعكرمة: " يُطَوَّقُونَهُ " بواو مشددة، أي: يكلفون صومه ولا يقدرون. يعني الشيخ والعجوز والحامل.
وهي قراءة تروى عن عائشة. وكان إسماعيل القاضي يضعف هذه القراءة ويقول: كيف [يقرأ: " يُطَوَّقُونَهُ " على معنى " يُكَلَّفُونَهُ "]، وهم لا يقدرون على صومه وبعده: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وكيف يقال لمن لا يقدر على الصوم: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾؟ هذا معنى كلامه. وقد قرأ مجاهد به، أعني بالتشديد للواو. وروي أيضاً عن عكرمة: ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ بالتشديد في الياء والطاء على معنى:
وعن ابن عباس أنه قرأ: " يُطَيَّقُونَهُ " بضم الياء الأولى وتشديد الثانية.
قال ابن [الأنباري: في هاتين القراءتين] لحن، لأن الفعل من الواو مأخوذ من الطوق، فلا معنى لقلب الواو ياء بغير علة / ولا أصل ". وروي أيضاَ عن مجاهد: " يَطَوَّقُونَهُ " بفتح الياء وتشديد الطاء والواو بمعنى " يَتَكَلَّفُونَهُ ". يعني الشيخ الكبير والعجوز لا يقدران على ذلك، فتكون الآية على هاتين القراءتين محكمة في الشيخ والعجوز والحامل ومن لا يقدر على الصوم لعذر يعرض له، وتكون الآية الثانية لجميع الأصحاء، فهما محكمتان.
قال مالك: " إذا خافت الحامل على نفسها أفطرت ولا إطعام عليها لأنه مرض،
وروي عنه أنه قال: " تفطر وتطعم لكل يوم مداً بمد النبي عليه السلام. وذكره عن ابن عمر.
وتفطر المرضع إذا خافت على ولدها ولم تجد من يرضعه لها وتطعم وتقضي.
فمالك يفرق بين الحامل والمرضع، فيلزم المرضع الإطعام ولا يلزمه الحامل، لأنها مريضة.
وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما. وقيل: بل يفطران ويقضيان، [ولا إطعام] عليهما، وهو قول الحسن وعطاء / والضحاك والزهري وربيعة والأوزاعي وأهل العراق. وقيل: بل يفطران / ويطعمان
وأجمع أهل العلم على أن الشيخ الكبير والعجوز يفطران إذا لم يقدرا على الصوم. ولا إطعام عليهما عند مالك. وهو قول ربيعة ومكحول وأبي ثور.
وقال ابن جبير وطاوس والأوزاعي والشافعي وأهل الرأي: " يطعم كل واحد منهما عن كل يوم أفطره مسكيناً واحداً ".
والهاء في " يُطِيقُونَهُ " تعود على الصيام.
وقال بعضهم: " تعود على الإطعام "، وليس بشيء.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾.
أي: فمن زاد فأطعم عن كل يوم أكثر من مسكين فهو خير وأجر
وعن مجاهد أن معناه: " فمن أطعم المسكين أكثر من مد، فهو أجر مدخر له، إنما عليه مد ".
وقال ابن شهاب: " معناه من صام مع الفدية فهو خير له في أخراه ".
ثم قال: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي: والصيام خير لكم من أن تفطروا وتفتدوا.
قال السدي: " معناه: من تكلف الصيام فصام، فهو خير له من الفدية والإفطار ".
وقال من جعل الآية الأولى غير منسوخة: هذا للشيخ الكبير / والعجوز: اعلموا أن التكلف في الصيام خير لهم من الإفطار والفدية ".
ثم قال: ﴿إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: إن علمتم أنكم تقدرون / على الصوم، فالصوم خير لكم.
وقيل: معناه: إن كنتم تعلمون أيها المؤمنون خير الأمرين.
قوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ إلى قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
قال ابن عباس: " أنزل الله القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان فجعل في بيت العزة ".
وروى واثلة عن النبي ﷺ أنه قال: " نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَنَزَلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ. [وَنَزَلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاَثِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ. وَنَزَلَ الزَّبُورْ لِثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَنَزَلَ القُرْآنُ لأَرْبَعٍ
وقيل: معناه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن بفرضه على الناس. فأما إعرابه على هذا المعنى، فيكون فيه معدّى إليه الفعل بحرف جر، لا ظرفاً. وعلى القول الأول، يكون فيه ظرفاً للنزول.
وروى جابر بن عبد الله أن النبي [عليه السلام] قال: " أَنْزَلَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُحُفَ [إبْرَاهِيمَ، وأنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَى مُوسَى] لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الزَّبورَ عَلَى داوُدَ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الإنْجِيلَ عَلى عِيسَى لِثمَانِي عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِنْ رَمَضانَ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين
وأكثر الناس على أن القرآن أنزل] ليلة القدر من رمضان، والله أعلم أي ليلة كانت، وذلك كله إلى سماء الدنيا، ثم نزل متفرقاً على ما ذكرنا.
فأما إعراب ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾؛ فيجوز أن يكون " شَهْرُ " رفع بالابتداء، و (الَّذِي أُنْزِلَ) الخبر.
ويجوز أن يكون التقدير: الأيام التي تصام شهر رمضان وشبهه.
وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب: " شَهْرَ. " بالنصب. ورويت عن عاصم ونصبه عند البصريين على الإغراء، وعند الكوفيين بالصيام، وهو قبيح للتفرقة بين الصلة والموصول.
وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته ودخوله وخروجه، ومنه " شَهَرَ فُلانٌ سَيْفَهُ "
فمن قال: " شَهْرُ رمضان " قال في التثنية " شهرَا رمضان " / وفي الجمع " أَشْهُرَ رمضان "، و " شَهْرَات رمضان ".
ومن قال: " رمضان " بغير شهر قال في الجميع " رَمَضَاناتٍ ". وحكى الكوفيون " رماضين "، وحكوا " أَرْمِضَة "، وحكي " رُمَاضٌ ". ولم ينصرف لأن فيه ألفا ونوناً زائدتان، وهو معرفة.
قال قطرب: " سمي رمضان رمضان لأنهم كانوا يصومونه في الحر.
فهو مشتق من الرمضاء، والرمضاء الرمل الحامي من الشمس ".
وكره مجاهد أن يقال رمضان للشهر، ولا يقال إلا " شهر رمضان "، كما قال الله. وقال: " لعل رمضان اسم من أسماء الله ". / وقاله عطاء. / وقد أتت الآثار عن النبي عليه السلام بذكر رمضان من غير لفظ شهر.
وقال أنس بن مالك: " سافرنا مع رسول الله [عليه السلام] في رمضان كثيراً ".
وإنما سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور الكثيرة من قولهم: " قَرَاْتُ الماءَ في الإناءِ "، أي جمعته وضممته.
وقيل: إنما سمي بذلك لأنهم يقولون: " قَرَأَتِ المَرْأَةُ "، و " قرأت " إذا حاضت وإذا ولدت، فكأنها / تظهر شيئاً كان مستوراً. والقارئ إذا أظهر شيئاً وبيَّنه، فهو من إظهار الشي وتبيينه.
وقوله: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾. أي رشاد للناس إلى طريق النجاة.
وقوله: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان﴾.
ثم قال: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ﴾.
أي فمن شهد منكم الشهر في المصر وهو صحيح فليصمه. و " شَهِدَ " بمعنى " حضر ". ومن كان مريضاً في المصر أو على سفر، فليفطر إن شاء، وعليه عدة من أيام أخر.
وقيل: المعنى: فمن دخل عليه الشهر وهو مقيم في المصر لزمه الصوم [سافر بعد ذلك أو أقام]. رواه الضحاك عن ابن عباس قال: " إذا شهدت أوله في المصر فصم وإن سافرت ".
وكذلك قال السدي. ورواه أيضاً قتادة عن علي رضي الله عنهـ، وقاله عبيدة. وروي أيضاً / عن عائشة رضي الله عنها.
وعلى القول الأول كل العلماء: إن للمسافر الإفطار، وإن أخذه أول الشهر في المصر، ولا يجزي صيام إلا بتبييت قبل الفجر.
ومذهب [مالك أنه إذا بيت الصيام] في أول الشهر أجزأه عن أن يبيته في
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: " لا بد من تبييت الصوم في كل ليلة " وثبت عن / حفصة أنها قالت: " لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِع الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ " وأسندته إلى النبي [عليه السلام].
ثم قال تعالى: ﴿[وَمَن كَانَ] مَرِيضاً﴾.
أي مريضاً بمرض يشق عليه الصوم ويشتد عليه أفطر، وكذلك المسافر، لهما أن يفطرا ويقضيا جميعاً، ولا إطعام عليهما.
ومن أكل أو شرب ناسياً في رمضان فعليه القضاء ولا كفارة عليه. وهو قول مالك وربيعة بن عبد الرحمن وأهل المدينة.
وعن علي وأبي هريرة وابن عمر أنه: " لا قضاء عليه ".
ومن وطىء نهاراً في رمضان ناسياً فعليه القضاء عند مالك ولا كفارة عليه، وهو قول عطاء والليث بن سعد والأوزاعي.
وقال مجاهد والحسن والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي: " لا قضاء عليه ولا كفارة ".
وقال أحمد بن حنبل: " عليه القضاء والكفارة ".
وأجمعوا على أن من أكل ناسياً فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامداً أن عليه القضاء ولا كفارة عليه.
ومن أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة كالمجامع عامداً.
وقال ابن المسيب: " عليه صوم شهر ".
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: " عليه صوم اثني عشر يوماً على عدة الشهور ".
وعن عطاء أنه " لا قضاء عليه، وعليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة، أو بقرة، أو عشرون صاعاً طعاماً للمساكين ".
وعن النخعي أن " عليه ثلاثة آلاف يوم ".
وعن ابن عباس / أن " عليه عتق رقبة، أو صوم شهر، أو إطعام ثلاثين مسكيناً ".
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " مَن أفطر يوماً في رمضان متعمداً لم يقضه أبداً طول الدهر ". وروي ذلك عن ابن مسعود.
وعن الزهري أيضاً أنه قال: " إن كان فعل ذلك ابتداعاً لدين غير الإسلام، ضربت عنقه، وإن كان فعل ذلك فسقاً جلد ".
وهو قول علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم، وابن عمر وعلقمة، وهو قول الزهري ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي.
وقال عطاء وأبو ثور: " عليه الكفارة مع القضاء ". فإن دَرعه القيء فقاء فلا شيء عليه عند الجميع.
ثم قال: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾.
أي يرخص الله عليكم إرادة التيسير، ولا يريد بكم العسر في دينكم.
ثم قال: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ العدة﴾: أي تكملوا عدة ما أفطرتم / فتقضوه في أيام أخر.
ثم قال: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾.
وقيل: هو التكبير في العيد عند الغدو إلى المصلى. قاله علي بن أبي طالب، وزيد بن أسلم.
وكذلك كان النبي [عليه السلام] يفعل إذا خرج إلى المصلى. فهو سنة عند الزهري وغيره. يقول الرجل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
ثم قال: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. أي [تشكرون على تسهيله عليكم وهدايته] لكم.
قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
قال الحسن: " هذه الآية نزلت في سائل سأل النبي [عليه السلام] فقال: أين ربنا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ الآية ".
وروي أن المشركين قالوا: كيف يكون الله قريباً وبيننا وبينه سبع سماوات غلاظ، كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين كذلك؟ فأنزل الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾. الآية.
وقال عطاء: " لما نزلت: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠]، قالوا: يا رسول الله، في أي ساعة؟ قال: فنزلت: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾. الآية.
قال السدي: " ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به رَزقه في الدنيا، وإن لم يكن له رزقاً في الدنيا، ادُّخِر له إلى يوم القيامة أو دفع [به عنه] مكروه. وكذلك قال ابن عباس.
وعن النبي عليه السلام: أنه قال: " ما أُعْطِيَ أَحَدٌ الدُّعاءَ فَمُنِعَ الإِجَابَةَ لأنَّ اللهَ يقُولُ: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ".
وقال مجاهد: " لما نزلت: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥]. ".
وقال قتادة: " لما نزلت: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، قال قوم: كيف ندعو يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ " الآية.
وقوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ﴾.
فمعناه: إذا شئت كما قال: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ [الأنعام: ٤١].
وقوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾.
أي فليستجيبوا إلى طاعتي، يقال: " استَجبْتُ لَهُ واسْتجَبْتُهُ " بمعنى أجبته.
وقال أبو عبيدة: " معناه: فليجيبوني ".
وعن أبي رجاء الخراساني أنه قال: " ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ فليدعوني ". وقيل: هو التلبية.
وقوله: ﴿وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾: أي وليصدقوا بي إذا هم استجابوا لي بالطاعة أني لهم من وراء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزال الكرامة عليها.
وقال أبو رجاء: ﴿وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾: معناه: و " ليصدقوا بي " أني أستجيب لهم.
وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. معناه: لعلهم يهتدون. و " لعل " من الله واجبة.
وقيل: معنى الإجابة هنا، هو الإجابة بالثواب على الأعمال [والطاعات]، فمعنى الدعاء هنا مسألة العبد ربه، إتمام ما وعده إياه من الجزاء على الطاعة.
وروي عن النبي [عليه السلام]. أنه قال: " " الدُّعَاءُ هُوَ العبادَةُ " ثم قرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ [غافر: ٦٠] ".
وقال الحسن في قوله تعالى: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾: " اعملوا وأَبشروا فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ".
وقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾. وقْف عند يعقوب. وقال نصير: الوقف " دعانِ " و " يَرْشُدُونَ ".
والفعل من " يرْشُدونَ ": رَِشَدَ يَرْشُدُ رُشْداً، ويقال: رَشَدَ يَرْشَدُ رَشَداً، فيقال: الرُّشْدُ وَالرَّشَدُ، كما يقال: البُخْلُ والبَخَلُ، والشُغْلُ والشَّغَلُ، وَالسُّقْمُ وَالسَّقَمُ، وَالعُدْمُ والعَدَمُ، وَالحُزْنُ وَالحَزَنُ، وَالسُّخْطُ وَالسَّخَطُ، وَالخُبْرُ وَالخَبَرُ، وَالعُرْبُ وَالعَرَبُ، وَالْعُجْمُ والعَجَمُ.
ثم قال: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾.
أي أبيح لكم أيها المؤمنون أن تجامعوا نساءكم في ليالي الصيام قبل النوم وبعد
والرفث هنا كناية عن الجماع.
قال ابن عباس: " الرفث الجماع ولكن الله كريم يكني ". وهو قول جميع المفسرين.
وقال الزجاج: " الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من امرأته ".
والرفث في غير هذا الموضع الإفحاش في المنطق، ومنه قوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ [البقرة: ١٩٧].
قوله: ﴿فالآن باشروهن﴾.
المباشرة في هذا الموضع الجماع بدليل قوله: ﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾، يريد الولد
وقد تكون المباشرة في غير هذا الموضع غير الجماع، وذلك المماسة / ويدل [أيضاً على ذلك] أن الرفث عند جميع المفسرين كناية عن الجماع.
ثم قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾.
سمَّى كلَّ واحد لباساً لصاحبه لتجردهما عند النوم وتضامهما واجتماعهما في ثوب واحد، حتى يصير كل واحد منهما في التصاقه إلى الآخر بمنزلة الثوب الذي يلبسه الإنسان.
وقال الربيع: " معناه: هن لحاف لكم، وأنتم لحاف لهن ".
وقد [سُمي الفرش] لباساً والخاتم لباساً، وتقلد السيف لباساً. وهذا يدل على تحريم استعمال الحرير في الوطئ لتحريم النبي [عليه السلام] لباس الحرير.
وقيل: إنما / جعل كل واحد منهما لصاحبه لباساً لأنه يسكن إليه، كما قال تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ / اليل لِبَاساً﴾ [الفرقان: ٤٧]، أي سكناً تسكنون فيه، فكذلك زوجة
والعرب تقول لما يستر الشيء ويواريه عن أبصار الناظرين: " هو لباسه وغشاؤه " فيكون قد قيل لكل [واحد] من الزوجين لباس للآخر لأنه يستر له فيما يكون بينهم من الجماع عن أبصار الناظرين.
قال مجاهد وقتادة: " معناه: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن ". وقال ابن عباس أيضاً.
وقوله: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾.
أي علم الله أيها المؤمنون أنكم كنتم تريدون أن تجامعوا النساء بعد النوم وتأكلوا وتشربوا بعد النوم، وذلك محرم عليكم فتاب مما [أضمرتم من مواقعة] الذنب / وعفا عنكم. وذلك أن الله قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣] يعني أهل الكتاب. وكانوا لا يجامعون في ليالي الصيام ولا يأكلون ولا يشربون بعد النوم، فصعب ذلك على المسلمين؛ حتى إن عمر بن الخطاب
وقال معاذ بن جبل: " كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يحل لهم شيء من / ذلك. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صرمة يعمل في أرض له، فلما كان عند فطره نام فأصبح صائماً قد جهد، فلما رآه النبي [ ﷺ] قال: ما لي أرى بك جهداً؟. فأخبره بما كان من أمره. واختان رجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث﴾ الآية.
وقال كعب بن مالك: " كان الناس في رمضان إذا صام الرجل منهم فأمسى فنام، / حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. وإن عمر بن الخطاب رجع من عند النبي [عليه السلام] ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها، فقالت: [إني قد نمت، فقال: ما] نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي [ ﷺ فأخبره فأنزل الله تعالى: ﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية.
هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ [قال: لم تكن حقيقاً] بذلك يا عمر، فلما بلغ بيته أرسل إليه [فأنبأه الله بعذره] في آية من القرآن، وأمره الله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة وهي قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث﴾ الآية ".
وبهذه المعاني فسرها مجاهد وعكرمة وقتادة.
وقال السدي: " كتب الله على النصارى صوم شهر رمضان، وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا النساء بعد النوم. وكتب على المؤمنين مثل ذلك، فوقع قوم من المؤمنين في الأكل والشرب والجماع بعد النوم فشكوا ذلك إلى النبي ﷺ فنسخ الله تعالى ذلك عنهم فقال: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث﴾ الآية.
قال أبو العالية وعطاء: " هذه ناسخة لقوله: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
وقوله: ﴿فالآن باشروهن﴾.
أي جامعوهن في ليل / الصيام ما لم يطلع الفجر إذا شئتم. فباشروهن كناية عن الجماع.
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: ﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾: هو الولد ". وقاله أنس بن مالك. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " وابتغوا ما كتب الله لكم من ليلة القدر ".
وقال قتادة: " معناه: وابتغوا ما رخص الله لكم وأحل لكم، يعني الجماع ".
وقيل معناه: " ابتغوا الذي كتب الله لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح / لكم وهو الوطء بعد النوم في ليالي الصيام. والولد هو [مما كتبه الله في اللوح] المحفوظ أيضاً.
وقوله: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾.
وقال الحسن: " معناه: حتى يتبين لكم النهار من الليل ".
وقاله ابن عباس أيضاً. وهو مروي عن النبي [عليه السلام].
ويروى " أن عدي بن حاتم أخذ / خيطين أسود وأبيض فنظر فيهما عند الفجر فرآهما سواء، فأتى النبي [عليه السلام] فقال له: يا رسول الله: فتلت خيطين من أسود وأبيض فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء. فضحك رسول الله ﷺ حتى رأى نواجذه، ثم قال له: " ألَمْ أَقَُلْ لَكَ مِنَ الفَجْرِ، إنّما هُوَ ضوءُ النَّهارِ مِنْ ظُلْمَةِ الليلْ ".
وقال سهل بن سعد. " نزلت هذه الآية: ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود﴾،
وفي الكلام حذف وتقديم وتأخير / والتقدير: " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل ".
وفي هذا دليل بالنص على أن الصائم إذا أصبح جنباً لا يضر ذلك صيامه. لأن له الوطء ما كان له الأكل والشرب، فإذا وطىء إلى الفجر أصبح جنباً ضرورة لا شك فيه، وصيامه تام بهذا النص من القرآن والسنة.
والفجر فجران: فجر [أول وهو الضوء] الساطع في السماء، يقال له الصبح الكاذب، فلا يمنع ذلك أكلاً ولا جماعاً. والفجر الثاني هو المنتشر الذي يملأ ببياضه وضوئه الطرق، فذلك يمنع الأكل والجماع، يسمى الفجر الصادق.
والثاني يضرب إلى حمرة، وينتشر ضوؤه على الجبال، يقال له: المستطير أو المنتشر في الأفق وهو معترض. وكل شيء انتشر فقط استطار، ومنه قوله تعالى: ﴿يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ [الإنسان: ٧]: أي منتشراً فاشياً.
والفجر في اللغة مصدر، " فجر الماء، يفجر فَجْراً " إذا بعثه وأجراه فكأنه اسم للمصدر، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: " فَجْرٌ "، لانبعاث ضوئه ونوره عليهم. والخيط في اللغة: اللون.
وقوله: ﴿مِنَ الفجر﴾ معناه الذي هو من الفجر، وليس هو جميع الفجر. وقال التيمي: " هو ضوء الشمس من سواد الليل ".
وحكى سالم مولى أبي حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ أنه كان يتسحر بعد طلوع الفجر. وكذلك ذكره البراء عن ابن مسعود قال: " تسحرت أنا وابن مسعود ثم خرجنا والناس في صلاة الصبح ".
وليس العمل عند جميع الفقهاء على شيء من هذه الأقوال.
وعن التيمي أنه قال: " الوتر بالليل والسحور بالنهار ".
وعنه: " السحور بالليل والوتر بالليل ".
وبهذا العمل عند فقهاء الأمصار.
إلى النهاية وليس بحد وإذا كانت نهاية، انتهى العمل إلى ما بعدها، ولا يدخل ما بعدها فيما قبلها، ولا صوم في شيء من الليل. والذي عليه / أهل النظر أن " إلى " إذا كان الذي بعدها من صنف ما قبلها، دخل في حكم ما قبلها كقوله: ﴿إِلَى المرافق﴾ [المائدة: ٦] و ﴿إِلَى الكعبين﴾ [المائدة: ٦]. والمرفقان والكعبان داخلان في الغسل. وإذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، لم يدخل في حكم ما قبلها نحو: ﴿إِلَى الليل﴾. وقد بينا هذا / في المائدة بأشرح من هذا.
وقوله: ﴿وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد﴾.
أي لا تجامعوا أو تلامسوا وأنتم معتكفون. فهذا يدل على جواز الاعتكاف. وفيه دليل عند قوم على أنَّ الاعتكاف جائز في كل مسجد تقام فيه الصلاة وفي كل وقت، مفطراً كان أو صائماً، لأن الخطاب خرج مطلقاً.
ولا يعتكف عند مالك وغيره إلا صائم، ولا يعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة.
ثم قال: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله ءاياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. أي يبين لهم ما حرم عليهم مما أحل لهم لعلهم يتقون حدوده ويخافون عذابه.
ثم قال: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾، أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل.
﴿وَتُدْلُواْ بِهَا﴾ أي: وتخاصموا بالأموال إلى الحكام.
﴿لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس﴾ أي: من طائفة من أموالهم.
﴿بالإثم﴾ أي: بالحرام.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: تعلمون أنكم ظالمون وأنه حرام عليكم.
قال ابن عباس: " هذا في الرجل يكون عليه مال، ولا بينة عليه فيجحد المال ويخاصم صاحبه وهو يعلم أنه إثم ".
ويقال: من مشى مع خصمه وهو ظالم فهو آثم / حتى يرجع إلى الحق. وقال عكرمة: " هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معه دراهم ".
يقال: أدلى فلان إلى فلان بمال: خاصم. كأنه جعله كالرسالة.
قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ / عَنِ الأهلة﴾.
الهلال مشتق من استهلال الصبي إذا بكى، فقيل له: هلال لأن الناس حين يرونه يرفعون أصواتهم بذكره.
ويقال: أهَلَّ الهِلالُ واسْتَهَلّ. وسمي هلالاً لليلتين. وقيل: إلى الليلة السابعة. ومعنى الآية أنها سؤال من المشركين للنبي [ ﷺ] سألوه عن نقصان القمر وزيادته ما هو، فقيل له: قل يا محمد: ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾.
معناه عند الطبري: يسألونك يا محمد عن الأهلة واختلافها وتغيرها في
فقيل يا محمد: فعل الله ذلك تعالى لتعلم عدة الآجال لمن استوجر وتصرم عدة النساء ووقت الصوم والإفطار وحلول ديونكم وأشباه / هذا.
فهذا معنى قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾.
ومعنى: " والحج " أي وهي مواقيت للحج تعرفون بها وقت حجكم ونسككم وإحرامكم وغير ذلك. فمن أجل هذا خالف الله بين القمر والشمس. وكان ذلك لسؤال سائل سأل النبي [عليه السلام] عن الأهلة. قال ابن جريج:
وقوله: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾.
قال البراء: " كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار، فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية إنذاراً لهم أن الدخول من ظهر البيت ليس من البر. فانتهوا عن ذلك ".
وقال إبراهيم النخعي: " هم ناس من أهل الحجاز كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب البيوت، فنهوا عن ذلك ".
وقال مجاهد: " كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة في ظهر بيته وجعل سلماً، ولم يدخل إلا من الكوة فنهوا في الإسلام عن ذلك ".
وقال الزهري: " كان الناس من الأنصار إذا أحرموا لم يحل بينهم وبين السماء
وقال السدي: " كان أولئك الذين يفعلون هذا يسمون الحمس ".
وقال قوم من أهل اللغة: كان قوم من قريش وجماعة من العرب إذا توجه الرجل في حاجة فلم يقضها ولا تيسرت له، تطير بذلك ورجع، فلم يدخل من باب بيته، فنهوا عن ذلك.
وقال جماعة من أهل التفسير: " الحمس هم قريش وبنو عامر بن صعصعة وثقيف، وكان أحدهم إذا [أحرم لم يسأل السمن] ولم يبع الوبر ولم يدخل من باب بيته. وسموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا ".
وذكر ابن الأنباري أن بعض الناس فسر البيوت بإتيان النساء في الأدبار مُنعوا من ذلك، وقيل لهم: إئتوا البيوت من أبوابها، أي ائتوا المرأة من الباب / المحل لكم الذي منه يكون الولد، ولا تأتوها من غير هذا الباب فتجوروا وتعصوا. وهو قول شاذ.
وقال أبو عبيدة: " ﴿وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا﴾: اطلبوا الخير من بابه ومن أهله ولا تطلبوه من الجهال المشركين ".
وأكثر الناس على القول الأول.
وقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾.
هذه أول آية نزلت في القتال أمروا أن يقاتلوا من/ يقاتلهم
أي لا تقاتلوا من لم يقاتلكم. وقد ن سخ الله ذلك في براءة بقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ [التوبة: ٣٦]، وبقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] و ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾. قال ابن زيد.
وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز/ وغيرهم: " الآية محكمة غير منسوخة ".
وقوله: ﴿وَلاَ تعتدوا﴾ أي: لا تقتلوا الشيخ/ الكبير والنساء والذرية، ولا من ألقى إليكم السلام، فإن فعلتم اعتديتم.
ومعنى ﴿الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ على قولهم: أي الذين فيهم مقدرة على قتالكم ومَن عادتُهم القتال. ولا تقاتلوا من ليس ذلك من شأنه كالرهبان [ومن أدى] / الجزية، ولهذا نهى عن قتل الرهبان.
قوله: ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ أي: في أي مكان تمكنتم بهم. ومعنى " الثقافة بالأمر ": الحذق به والبصر. ومعنى " التَّثْقيفِ ": التقويم.
ثم قال: ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾.
هذا خطاب للمهاجرين أُمروا أن يُخرجوا الكفار من مكة، وهو الموضع الذي هاجروا - هم - منه، وأُخرجوا.
﴿والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل﴾.
أي الشرك الكفر. هذا قول قتادة؛ أي أن يُقتل أحب إليه من أن يكفر. وأصل الفتنة الاختبار والابتلاء. فمعناه الاختبار الذي يؤذي إلى الكفر أشد من القتل.
وجه قراءة حمزة والكسائي: " وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ " بغير ألف، من القتل حتى [يقتلوكم مثله، فإن قتلوكم] مثله، أنهم أمروا ألا يقتلوا أحداً عند المسجد الحرام حتى يُقتلَ بعضهم فقال: [ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم] أي يقتلوا بعضكم. والعرب تقول: " قد قُتل بنو فلان " ولم يُقتل إلا الأقل منهم. " ومات الناس " ولم يمت إلا الأقل منهم. فأمام عنى قراءة الجماعة بالألف في الثلاثة من القتال، فهو أمروا ألا يبدأوا بالقتال في المسجد الحرام حتى يبدأوهم، فإن بدأوهم به، قاتلوهم وقتلوهم.
وقال قتادة: " أمروا ألا يقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
وروي عن قتادة أيضاً أنها منسوخة بقوله: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾، [التوبة: ٥]. فأمروا بالقتال، ﴿حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] عند [انسلاخ الأشهر في الحل و] الحرم حتى يشهدوا [أن لا إلا الله وأن] محمداً رسول الله ".
وقال مجاهد: " الآية غير منسوخة، ولا يحل لأحد أن يقاتل في الحرم أحداً إلا أن يبدأه بذلك فيقاتله "، واحتَجَّ بحديث النبي ﷺ يوم فتح مكة: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ لَمْ تَحِل لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدي ".
وأكثر الناس على أنها منسوخة، وأن المشركين يُقاتلون في كل موضع بقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ - وبراءة نزلت بعد البقرة - وبقوله:
قوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، أي: شرك. الدين العبادة والطاعة.
قوله: ﴿فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ أي: لا يُجازى إلا هم.
وسيمت مجازاتهم عدواناً لأنها جزاء للاعتداء، وهو مذهب العرب. ومنه: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤].
ومنه: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]، ومنه: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ومنه: ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩].
ومعنى: ﴿فَلاَ عُدْوَانَ﴾، أي لا يُقاتَل إلا من قاتل.
قال الأخفش: " المعنى: فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الذي لم ينته، وهو الظالم منهم ".
هو ذو القعدة وذلك أن النبي ﷺ صده المشركون عام الحديبية في ذي القعدة وهو محرم بعمرة، وذلك ي سنة ست/ من هجرته، فرجع من الحديبية ونحر - ثَم - هديه وحلقوا وقصر واثَم، وصالحهم في تلك السنة على أن يعود من الام المقبل، وهو سنة سبع من هجرته. فخرج النبي معتمراً في العام المقبل، وأخلى له المشركون مشكة، فأتم عمرته، وأقام ثلاثة أيام، فقال الله له وللمسلمين: هذا الشهر الحرام الذي قضيتم فيه عمرتكم عِوَضٌ عن ذلك الشهر الذي صدكم فيه المشركون.
﴿والحرمات قِصَاصٌ﴾: بعضها قصاص لبعض؛ شهر حرام بشهر حرام.
وإنما جمع في قوله: ﴿والحرمات﴾ وليس ثم الأشهر بدل من شهر لأنه أراد الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الحرم، فصارت حرمات/ قضاء الوقوف بها/ في عام سبع عوض من حرمات، صدوا عنها في عام ست.
وقال ابن عباس: " معناه: أن الله أطلق للمسلمين أن يقتصوا ممن اعتدى عليهم ".
فتقديره: والحرمات منكم - إذا تعدي عليكم فيها - قصاص.
وكان الإنسان حراماً ضربُه وشتمه وجَرحُه وغير ذلك، فأبيح لهم القصاص.
قوله: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ﴾.
قال ابن عباس: " أمروا/ في/ أول الإسلام أن ينتقموا ممن آذاهم مثل ما صنع بهم، ثم نسخ ذلك، فرد الأمر إلى السلطان ".
وقال أكثر أهل التفسير: " الآية في القتال: أي: فمن قاتلكم في الشهر الحرام فقاتلوه بدلالة ما قبله من الأمر بالقتال، والنهي عنه في المسجد الحرام، وهو نظير قوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾. والآية منسوخة بالأمر بالقتال في الحرم وإن لم يبدأوا، بقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾، وبقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾.
وبهذه الآية ونظيرها أجاز الشافعي أن يأخذ الرجل من مال من خانه بقدر ما خانه من غير رأيه. وقاله أصحاب الرأي. ولم يجزه مالك.
قال النبي [عليه السلام]: " مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً في سَبِيلِ الله كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِمائة ضِعْفٍ ".
و" إِلَى " متعلقة بـ ﴿تُلْقُواْ﴾. والباء متعلقة بالمصدر عند المبرد، وهي زائدة عند الأخفش.
والتهلكة: الهلاك. حضّ الله المسلمين على النفقة في سبيله والجهاد لئلا يقوى العدو، فتصير عاقبة أمرهم إلى الهلاك.
والتهلكة عند سفيان: ترك النفقة في سبيل الله تعالى.
وقال ابن عباس: " التهلكة الإمساك عن النفقة في سبيل الله تعالى " وقال ابن زيد وغيره: " معناه: لا تخرجوا إلى الغزو بغير نفقة، أمروا أن ينفقوا في سبيل الله وأن لا يخرجوا بغير نفقة، فيهلكوا أنفسهم ".
وقال البراء بن عازب: " ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾: هو الرجل يصيب الذَّنْبَ فيلقي بيده إلى التهكلة، يقول: " لا توبة لي ". فأمروا ألا ييأسوا من رحمة الله عزو جل ".
وقال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنوب، فيقول: " لا توبة لي "، فينهمك في المعاصي، [فأمر/ ألا ييأس] من رحمة الله سبحانه ". وقال أبو أيوب الأنصاري:
فمعناه: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ أي: لا تتأخروا عما هو أنفع لكم وهو الغزو. والعرب تقول: " ألْقَى فلان بيديه " إذا استسلم.
قوله: ﴿وأحسنوا﴾.
قيل: معناه: أحسنوا الظن بالله تعالى في المغفرة لمن تاب. هذا على قول من قال: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾. معناه في الذنوب، وألا ييأس من رحمة الله تعالى.
وقيل معناه: أحسنوا الإنفاق.
وقيل: معناه: أداء الفرائض.
قوله: ﴿فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾.
" ما " ي موضع رفع، أي: فعليه ذلك.
وقيل: فوجب عليه ما استيسر. ولمعنى واحد.
وقيل: هي في موضع نصب تقديره: " فَليُهدِ ما استيسر من الهدي.
قال أبو عمرو: " الهدي جمع. واحده: هَدْيَةٌ، كَتَمْرَةٍ وتَمْرٍ ".
وقيل: هو مصدر لا واحد له كرجال صَومٍ. فهو يقع للواحد والجمع والتأنيث كأنه مصدر " هدى إلى البيت هدياً " وبنو تميم يُثقلون ياء الهدي.
قوله: ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ أي فعلهي فدية.
ويجوز النصب على معنى: فليُفد فديةً، وفليأت فدية.
قوله: ﴿فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾. الثاني يجوز فيه ما جاز في الأول.
قوله: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ﴾ أي ذلك الفرض على من هذه حالته.
قوله: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة﴾.
أي: أتموا الحج إلى أقصى مناسكه، والعمرة إلى البيت، وفي قراءة عبد الله: " وأَتِمُوا الحَجّ والعُمْرَةَ إلَى البَيْتِ لله تعالى ".
وقرأ الشعبي: " والعُمْرَةُ لله " بالرفع/ وكأنه تأول أن النصب يوجب فرض العمرة، وليس كذلك عند أكثر العلماء، وإنما معنى النصب هو الفرض بإتمام ما قد دخل فيه الرجل. فالعمرة ليست بفرض، وإتمامها إذا دخل فيها الداخل فرض.
فالقراءة بالرفع تخرج وجوب إتمام العمرة عند الدخول فيها أن يكون فرضاً بالآية.
قال ابن عباس: " مَن أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما ".
وقال مجاهد: " إتمامهما ان يقضي مناسكهما ".
وقال علي بن أبي طالب: إتمامها أنتحرم من دويرة أهلك ".
ويرد هذا فعل النبي [عليه السلام] إذا لم يحرم إلا من الميقات.
وقال طاوس: " إتمامها أن تفرد/ ولا تقرن ".
وقال قتادة: " إتمام العمرة/ أن يحرم بها في غير أشهر الحج ".
وإتمام الحج: أن تأتي بمناسكه حتى لا يلزمك دم القِران ولا متعة لأن
وقال سفيان: " إتمامها أن تخرج من بيتك لا تريد غيرهما، وتهل من الميقات. ليس أن تخرج لتجارة أو لحاجة/ حتى إذا صرت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت ".
وروي عن عثمان أنه قال: " إتمامها ترك الفسخ وأن تكون النفقة حلالاً. وليست/ العمرة بواجبة عند مالك وأبي حنيفة، وهي واجبة عند الشافعي.
وقال عطاء وطاوس ومجاهد: " العمرة فرض كالحج ".
وهو قول ابن جبير وعلي بن الحسين. وروي ذلك عن ابن عباس وعن ابن عمر.
وروى جابر أن النبي [ ﷺ] سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ فقال: " لا، وأنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك ".
وعنه أنه قال: " الحجُّ جِهادٌ، وَالْعُمْرَةوُ تَطَوُّعٌ ".
وهو قول نافع، والقاسم بن محمد.
وقال ابن مسعود: " الحج فريضة، والعمرة تطوع ".
فبان من هذا أن العمرة غير فرض إذ لم تأت بذلك آية، كما أتت في الحج. ومعنى " اعتمر ": قصد، كأنه افتعلمن " عَمَرَ ". والحج القصد.
وقيل: اعتمر، معناه: زار.
وقال ابن عباس: " هو منع العدو لا غير ".
وإنما أنزل الله الآية في إحصار العدو لرسول الله [عليه السلام] ومنعهم إياه أن يتم عمرته حين رجع، و [أحل في موضعه وعاد] في العام المقابل.
وأكثر الناس على أن العلل العارضة المانعة من الحج غير داخلة في الإحصار، وحكمها حكم من فاته الحج، وليس حكم من منعه العدو حكم من فاته الحج.
قوله: فَمَا استيسر مِنَ الهدي}.
" هو شاة " قال ذلك علي وابن عباس.
وقال قتادة: " أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة ".
فمعنى ذلك أن حبسه شيء عن إتمام حجة أو عمرته، فعليه إذا أراد أن يحل شاة/ أو بقرة أو بعير على مذكرنا من الاختلاف.
ومذهب مالك أن الشاة تجزي. ولا هدي عند مالك على من أحصر بعدو، ولا قضاء لحجه ولا لعمرته إلا أن يكون ضرورة فعليه الحج. فإن كان الإحصار بمرض ونحوه فلا يحله إلا البيت، وعليه الهدي، إذا فاته الحج ويفسخ حجه في عمرة، وعليه حج قابل يكون معه الهدي الذي لزمه لفوات الحج.
قوله: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾.
أي من أراد أن يحل، فلا [يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي] محله لأن حلقه إحلال.
والحديبية ليست من الحرم. فالنحر مقدم على حلق الرأس بهذه الآية.
قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أي بمرض أو نحوه، فمحله بعد الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا/ والمروة. وليس على من أحصر بعدو أو خوف قضاء ولا هدي، ويحل في موضعه، [وينحر في مضعه من حل] أو حرم إذا فاته الحج بحصر العدو بخلاف حصر المرض ونحوه الذي يلزم/ فيه القضاء ولا يحله إلا البيت، ويلزمه الهدي عند قضاء ما فاته من حج أو عمرة؛ هذا مذهب مالك. إنما القضاء على من فاته الحج من غير إحصار عدو بمرض أو فوات. فإن كان الذي أحصر لم
قوله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ﴾. أي شقيقة أو وجع أو كثرة قلم.
" وهذه الآية نزلت في كعب بن عَجُرَة إذ شكا إلى النبي [عليه السلام] كثرة قمله وذلك عام الحديبية، فأمره النبي [ ﷺ] بحلقه، وأمره بالهدي، فقال: لا أجد، فقال النبي ﷺ: " صُمْ ثلاثَةَ أيامٍ أوْ [أطْعِمْ سَتَّةَ مَساكينَ]. لكل مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ "، ففي ذلك نزلت الآية ".
وقال الحسن: " عليه صوم عشرة أيام، أو إطعام عشرة مساكين ". وقاله
قوله: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج﴾.
ومعنى التمتع عند الفقهاء المدنيين والكوفيين أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج ثُمّ يجج من عامة ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه/ بين الحج والعمرة. فمن حصل له ذلك فهومتمتع، وعليه شاة. وقيل: بقرة، وقيل: / بدنة.
فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، وهو معنى قوله: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ أي هذا الحكم يجب على الغرباء إذا حلوا من عمرتهم في أشهر الحج ثم حجوا من عامهم. يعني من ليس بقاطن من الغرباء بمكة/ يلزمه ذلك، خاصة على ما فسرنا.
قال ابن عباس: " الثلاثة الأيام ما بين إحرامه إلى عرفة ".
وروي عن علي أنه قال: " أخرها انقضاء أيام منى ".
وقالت عائشة رضي الله عنها: " يصوم أيام منى ".
وقال مالك: " يصوم ثلاثة أيام قبل النحر، فإن لم يصم صام أيام التشريق و [هي ثلاثة أيام] بعد يوم النحر، فإن لم يصبها صام بعد ذلك ".
ولا اختلاف بين الفقهاء أن يوم النحر ويوم الفطر لا يجوز صومهما لأحد.
وقال ابن عباس: " إذا فاته الصوم في العشر، فعليه دم ". وهو قول سعيدي بن جبير. وهو قول أصحاب الرأي.
وقال مالك: " يصومهن إذا أهلّ متى ما أهل ".
وقال مجاهد وطاوس: " له صومهن في أشهر الحج متى صام، وإذا دخل في الصوم ثُم وجد هدياً، وتمادى على الصوم أجزأ ".
واستحب مالك أن يهدي إذا وجد قبل أن يتم قبل الصوم، إن كان صام يوماً أو يومين. فإذا صام أكثر من ذلك استحب أن يهدي. فإن لم يفعل فلا شيء عليه.
وروي عنه إيجاب الهدي إذا وجده، وقد صام يوماً أو يومين، ويصوم السبعة متى شاء؛ إن شاء أخرها حتى يعود إلى مصره، وإن شاء عجل صيامها.
وقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾.
إما قال تعالى: " عَشَرَةٌ " لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة فبيّن إيجاب العددين بقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾.
فأما قوله: ﴿كَامِلَةٌ﴾، فقال الحسن: " معناه: كاملة من الهدي ". أي قد كملت في المعنى الذي جعلت بدلاً منه.
وقيل: معناه الأمر، كأن معناه: " تلك عشرة فأكملوا صومها ولا تقصروا فيها.
وقيل: معنى " كاملة " التوكيد، كما تقول: " سمعته بأذني، ورأيته بعيني "، وكما قال: / ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٢٦]. وقيل: معناه: تلك عشرة وافية للهدي.
وقيل: إنه قد كان جائزاً أن يقول: " وعليكم عشرة من قابل ونحوها " فلما قال: ﴿كَامِلَةٌ﴾، علم أنه لا فرض بعد ذلك، كما تقول في آخر الحساب: " فذلك كذا وكذا " لتدل على أنه لم يبق شيء.
وقيل: لما كانت العشرة/ تتركب من عددين عَيَّنَ الثلاثة والسبعة، ولو صامها أحد على غير [ثلاثة وسبعة] لم يكن يمكن بمكمل لما أراد الله تعالى من الترتيب، فقال: ﴿كَامِلَةٌ﴾، أي إذا صامها أحدهم على هذا الترتيب كانت كاملة. وإن لم يفعل،
ف " كاملةٌ " ليس بتأكيد للعشرة، وإنما هو تأكيد للكيفية في صومها وترتيبها.
وقيل: لما كانت الواو قد تقع بمعنى " أو "، فتكون مخيرة في صيام سبعة أو ثلاثة. أتى بـ ﴿عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ ليبين أن الواو ليست بمعنى " أو "، وأن السبعة والثلاثة يلزم صيامها، فبين بِ " عشرة " ذلك، وأزال اللبس والاحتمال.
وهذا مبني على مذهب الكوفيين في إجازتهم لوقوع الواو بمعنى " أو "، وليس هو مذهب البصريين، لا تقع عندهم الواو بمعنى " أو " لاختلاف مَعْنيهما وحكميهما.
قوله: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾.
قيل: اللام بمعنى " على " أي ذلك الحكم على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما قال: ﴿لَهُمُ اللعنة﴾ [الرعد: ٢٥] أي [و] عليهم. ومنه قول النبي [عليه السلام لعائشة]: " اشتَرِطِي لَهُمْ الوَلاءَ " أي عليهم.
وقيل: اللام على بابها، وأن المعنى: أن التمتع لم هو من غير أهل مكة
وقيلأ: يراد بذلك أهل الحرم كلهم، لا متعة عليهم.
وقال مالك: " هم أهل مكة وأهل ذي طوى لا متعة عليهم، وليس أهل منى منهم، بلا يكونون متمتعين كغيرهم من غير أهل مكة والحرم ".
وقيل: هم مَن منزلُه دون الميقات في حرم أو غيره. رواه ابن جريح عن عطاء.
وقال الزهري: " هو الذي بينه وبين مكة اليوم واليومان لا متعة عليه ". وكان الطبري يقول: " هو الذي ليس بينه/ وبين مكة ما تقصر فيه الصلاة ".
وقيل: التمتع لبس الثياب وأخذ الطيب فيما بين العمرة والحج. وفعله، فعليه ما استيسر من الهدي، وذلك إذا كانت عمرته في أشهر الحج، فتمتع؛ فلبس الثياب وأخذ الطيب، ثم حج/ من عامة، فهو متمتع إذا كان من غير أهل مكة. وهو خلاف
قوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾.
فرق أبو عمرو بين الجدال والرفث والفسوق فجعل " لا " مع الجدال للتبرئة، وفتح وجعلها مع الرفث والفسوق، بمعنى " ليس " / فرفع/ وذلك لأن الجدال أتى على غير معنى ما قبله، لأن معنى الأول النفي الذي ليس بعام إذ قد يقع فيه الرفث والفسوق من أهل الخطايا، فجعلت " لا " بمعنى " ليس ".
ومعنى الثاني أنه نفي عام إذ قد استقرت معالم الحج وثبت فرضه واستقام أداؤه، فلا جدال في إيجابه لأحد من الناس، ففتحه على ذلك.
وقيل: المعنى: ولا جدال في كون الحج في ذي الحجة لأنهم كانوا يقدموا فيحجون في غير أشهر الحج ويؤخرون مثل ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: " الجدال أن تماري صاحبك ".
فهذا التفسير يوجب أن تجري الثلاثة مجرى واحداً.
ويجوز في الكلام النصب في الثاني والثالث والتنوين، [تعطفه على موضع لفظ
قوله: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾.
معناه: أشهر الحج أشهر معلومات ثم حذف، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وقيل: ذو الحجة كامل. وهما مرويان عن مالك.
قوله: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ أي من أوجبه.
وقيل: من أحرم فيهن.
والرفث هو الإفحاش للمرأة بالكلام في الجماع.
وقال ابن عمر: " الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال
وقال مالك: " الرفث إصابة النساء "، قال: " والفسوق: الذبح للأصنام، والجدال هو تخاصم في المواقف ".
قوله: ﴿وَلاَ فُسُوقَ﴾.
لا معاصي فيما نهى عنه من قتل صيد أو أخذ شعر أو تقليم ظفر، ونحوه.
وروى مجاهد عن ابن عمر: " ﴿وَلاَ فُسُوقَ﴾: لا سباب ". وكذلك روى عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: ﴿وَلاَ فُسُوقَ﴾ لا ذبح للأصنام، وقرأ: ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله﴾ [الأنعام: ١٤٥].
وقوله: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾: أي لا يماري المحرم أحداً.
وقيل: لا مراء فيه، أنه في ذي الحجة.
وقيل: نهو أن يختلفوا في اليوم الذي يكون فيه الحج.
وقيل: إنهم نهوا أن يتماروا في المناسك، فيقول هؤلاء: هذا موقف [إبراهيم ويقول الآخرون]: بل هذا.
وقيل: بل ذلك إخبار من الله أن الحج/ قد استقامت أوقاته لا تتقدم ولا تتأخر وأن [النسيء باطل لا نسئ] فيه، قد استقام وثبتت أوقاته.
فهذا على قراءة أبي عمرو حسن لأنه مخالف لما قبله في المعنى فخالف بين إعرابه. والأقاويل الأول تجري على قراءة فتحها كلها. أو من نوَّنها كلها، لأنها منهاج واحد.
قوله: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾.
قال ابن جبر: " هو الكعك والسويق ".
وقال الشعبي: " هو التمر والسويق ".
وقال ابن جبير: " هو الكعك والزبيب ".
وقال سفيان: " حجوا فسألوا في الطريق، فنهوا عن ذلك وأمروا بالزاد ".
وقال ابن عباس: " كان ناس يخرجون ولا يتزودون، ويقولون: نحج ولا يطعمنا الله كأنهم يمتحنون الأمر، فأمروا بالزاد ".
وقيل: هم قوم كانوا يخرجون بلا زاد، يقولون: نتوكل. فأمروا بالزاد ".
قوله: ﴿يا أولي/ الألباب﴾. أي أولي العقول.
[يقال: " لَبَبْتُ] أَلُبُّ، وليس في كلام العرب فعل يفعل في المضاعف غير هذا الحرف.
وقيل: إن قوماً كانوا يزعمون أنه ليس لتاجر ولا جَمَّال ولا أجير حج، فأعلمهم الله أن ذلك مباح.
قوله: ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عرفات﴾: أي اندفعتم.
وسميت عرفات بهذا الاسم، لأن نعتها كان عند إبراهيم ﷺ. فلما رآها عرفها، فقال: " قد عرفت " فسميت " عرفات ".
وق السدي: " لما أذَّن [إبراهيم في الناس بالحج] أجابوه بالتلبية، فأمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات، ونعتها له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله
وقال ابن عباس: " كان جبريل يُعَلِّمُ إبراهيم المناسك، وإبراهيم ﷺ يقول: قد عرفت، فلذلك سميت عرفات. وسمي الموسم موسماً لأن الناس يسم فيه بعضهم بعضاً أي يعرف ".
والمشعر هو ما بين جبلي المزدلفة من حد منتهى مأزمي عرفة إلى محسر، وليس مأزماً عرفة من المشعر.
وموضع المصلى اليوم في بطن عرفة، فإذا خرج الإنسان عرفة فإذا خرج الإنسان منه صار بعرفة.
معناه: وما كنتم من قبل الهدى إلا من الضالين، " فَإنْ " بمعنى " ما " واللام بمعنى " إلا ".
وقد قيل: إنَّ " إنْ " بمعنى " قد " ذكره الطبري، وليس بجيد في اللغة.
قوله: / ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾.
أمر الحمس وهم قريش أن يفيضوا من حيث أفاض جميع الناس لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة افتخاراً وتعالياً، ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه إلى عرفات. فأمروا أن يقفوا مع الناس. ويفيضوا من حيث أفاض الناس أي من عرفة.
قالت عائشة رضي الله عنها: " كانت قريش ومَن دانها يفقون بالمزدلفة، ويقف الناس بعرفة فأمروا أن يقفوا مع الناس ". وقال الضحاك: " معنى الآية: أن الله تعالى أمر جميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس قبلهم ".
وتقدير ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ﴾: ثم أمرهم بذلك على معنى التأكيد لما أمر الله به أوّلاً، لأنه تعالى قد ذكر المعشر والإفاضة من عرفات قبل ذلك ثم قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾. فإن كان/ عرفات فليس الإفاضة من عرفات بعد الذكر في المشعر الحرام، فالمعنى هو التأكيد لا أنه اتباع حكم لحكم تقدم.
وروي أن قريشاً كانت قد اتبدعت أشياء منها أنهم امتنعوا أن يَقِفُوا بعرفات لأجل أنها في الحل، فقالوا: لا ينبغي لنا أن نعظم إلا الحُرُم، فكانوا وحلفاؤهم يقفون يوم عرفة بمزدلفة، ويقف سائر العرب بعرفات وسما أنفسهم ومَن وَالاَهم على ذلك الحمس، وابتدعوا ألا يأتقطوا الأقِط ولا يسألوا السمن وهم محرمون، ولا يدخلوا بيتاً من شعر وهم حرم، ولا يستظلوا وهم حرم إلا في بيوت الأُدْم، ولا يأكلوا وهم حرم من طعام جيء به في من الحل، وابتدعوا ألا [يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب] الحمس، فإن لم يجد ذلك طاف عرياناً. فإذا تم طوافه أخذ ثيابه، فإن
وقيل: يعني سائر العرب، إذ كانوا يفيضون من عرفات، فيكون في الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، وفي ذلك أنزل: ﴿يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا﴾ [الأعراف: ٣١] فأباح لهم ما حرموا على أنفسهم من لبس الثياب، والطعام والشراب. وقد قيل: إن " ثُمَّ " بمعنى الواو في هذا.
فأما المعنى على قول الضحاك: فثم على بابها، لأنه يقول: أمرهم أن يفيضوا من جمع، والإفاضة من جمع لا شك أنها بعد الوقوف بمزدلفة وبعد الإفاضة من عرفات.
وقد قال الطبري: " إن من قال: إنه عرفات، ففي الكلام تقديرم وتأخير، وتقدير. ومعناه: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾، ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾، قال: " ولولا الإجماع من أهل التأويل على أن المراد بقوله ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ﴾ من عرفات، لكان قول الضحاك هو لوجه
ويدل على أن المراد به " جمع " قوله: ﴿واستغفروا الله﴾ وذلك أن النبي [عليه السلام] قال: " دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لأُمَّتِي ذُنُوبَهَا، فأجَابَنِي: أَنِّي قَدْ غَفَْتُ إِلاَّ ذُنُوبَهَا/ فيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَلْقِي، فَأعْدَتُ الدُّعَاءَ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ أُجَبْ شَيْئاً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ المُزْدَلِفَةِ قُلْتُ: يَا رَبّ، إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُعَوِّضَ هَذَا الْمَظْلُوم مِنْ ظَلامَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمَ، فأَجَابَنِي أَنِي قَدْ غَفَرْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَحِكْتُ مِنْ عَدُوِّ اللهِ إِبْلِيسَ لَمَّا سَمِعَ مَا سَمِعَ، أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَىَ رَأْسِهِ ".
فأمر/ المسلمون أن يستغفروا في ذلك الموضع الذي غفر الله [لهم فيه] التبعات فيما بينهم وهي أعظم من التبعات فيما بينهم وبين الله.
ومعنى: ﴿واستغفروا الله﴾. استدعوا المغفرة.
قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ﴾. أي أهراقة الدماء. قاله مجاهد.
وقيل: متعبداتكم التي أمر بها في الحج/ وكان القوم في الجاهلية إذ فرغوا
وقال عطاء: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾، هو قول الصبيان: " أبا، أبا " يلهج بذكر أبيه ".
قوله: ﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا﴾.
قال مجاهد غيره: " كانوا يسألون الله لأمر دنياهم والظفر على عدوهم، ولا يسألونه إلى الآخرة شيئاً ".
قوله: ﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾.
أي عافية في الدنيا، وعافية في الآخرة. قاله قتادة.
وقال ابن زيد: " الحسنة في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة "، وقاله السدي.
ومعنى: ﴿سَرِيعُ الحساب﴾.
أي يحصي ما يحصيه بغير كلفة ولا تكلف، وليس مثل ما يتكلف له بنو آدم من العقد/ وغيره.
وقيل: معناه: يحاسبه بغير تذكر ولا كتاب.
وقيل: معناه: مجاز للفريقين على أعمالهم.
وقيل: معنى: " السرعة ": أنه يغفر السيئات ويضعف الحسنات بلا حساب على من فعل به ذلك ولا كلفة.
قوله: ﴿واذكروا الله/ في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾.
وقال زيد بن أسلم: " المعلومات: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، والمعدودات: أيام التشريق ".
وعن مجاهد وابن عباس: " المعلومات: " العشر. والمعدودات: " أيام التشريق ".
وإنما سميت أيام التشريق لأن الناس يشرحون فيها للحم ويقددونه، فالتشريق التشريح. فكأنها سميت أيام التشريح، فأمروا بالذكر فيها عند رمي الجمار وغيرها.
وقال النبي [عليه السلام] في أيام منى - وهي أيام التشريق -: " هِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ ".
والأيام المعلومات هي: يوم النحر، ويومان، بعده. فيوم النحر معلوم، ويومان
أرخص الله تعالى أن ينفر الناس اليوم الثاني من الأيام المعدودات وأعلمهم أن من تأخر إلى اليوم الثالث أنه لا إثم عليه، أي لا حرج ولا ضيق في تركه الرخصة، ومن تعجّل فلا إثم عليه في تركه الاتمام إلى اليوم الثالث.
وروي عن ابن مسعود وابن عمر: " لا إثم عليه: أي قد غفر له، ومن تأخر قد غُفر له ".
وقل/ ابن عباس: " لا إثم عليه: أي رجع مغفوراً له "، وقال: " إن العمرة لتكفر ما معها من الذنوب، فكيف بالحج ".
واستبعد جماعة تأويل من قال: " لا حرج عليه "، لأن من جلس إلى الثالث
وقيل: معناه: لا حرج عليك في تركك الرخصة.
ومن قال: " غفر له " معناه. فهو أبين وأحسن/ وعليه [أكثر] الناس. وقال مجاهد: " معناه: لا إثم عليه إلى الحج القابل ".
﴿وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
أي لا حرج عليه إلى الحج القابل، أي مغفور له إلى ذلك الوقت. وقال أبو العالية: " معناه: غفر له ما تقدم "، وفي مصحف عبد الله: " لمن اتقى الله ".
قال ابن عباس: " معناه: لا حرج عليه لمن اتّقى المعاصي فيما يستقبل، أي
وقيل: معنى ﴿لِمَنِ اتقى﴾ أي: اتقى قتال الصيد في الحرم.
وقال ابن مسعود أيضاً: " ﴿إِثْمَ﴾ أي: مغفور له إن اتّقى ما حرم عليه في الحج ".
وروى أبو حازم عن أبي هريرة أن النبي [عليه السلام] قال: " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهِ ".
وروي أن عمر قال لما سمع الآية: " خرج القوم من ذنوبهم، وربّ الكعبة ".
وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي ﷺ قال: " الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ/ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ. والعُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا " ومعنى اللام في ﴿لِمَنِ اتقى﴾: أي: هذا لمن اتّقى.
وقيل: المعنى: قلنا فلا إثم عليه لمن اتّقى. واللام متعلقة بالقول. وقال
وقيل: معنى: ﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: لا يقل المتعجل للمتأخر: أنت آثم، ولا المتأخر للمتعجل: أنت آثم.
تم الجزء الرابع
نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، واسم الأخنس أبي، وأمه ضبيعة عمة عثمان رضي الله عنهـ، كان حليفاً لبني زهرة، وكان قد أتى مع قومه بني زهرة إلى بدر مع المشركين يريدون قتال النبي ﷺ فلما أتوا الجحفة، أشار على بني زهرة بترك القتال فأطاعوه، فأخنس بهم من المشركين، ورجع فسمي الأخنس فلما بلغ النبي [عليه السلام] قوله وما أشار به على بني زهرة عجب من ذلك، ففيه نزلت: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ الآية. ثم إنه قعد ذلك قدم على النبي [عليه السلام] فأظهر المحبة للإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، وأنه صادق في قوله، فأعجب النبي [عليه السلام] منه ذلك وكان يبطن الغش والنفاق، فلما خرج أفسد زَرْعَ/ الناس بالنار وأهلك مواشيهم، فذلك قوله: ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث﴾ أي: بالنار والنسل. وري أنه
وقوله: ﴿أَلَدُّ الخصام﴾. أي شديد الخصومة.
وقيل: معناه أنه كاذب في قوله.
والخصام مصدر " خاصم ".
وقال الزجاج والقتبي: " هو جمع خصم. يقال: خصم، وخصوم، وخصام ".
وعن ابن عباس أنه قال: " نزلت في السرية التي أصيبت للنبي عليه السلام تكلم قوم من المنافقين فيها، فأخبر الله عن اختلاف سريرتهم وعلانيتهم ".
وقيل: إن الآية عامة في كل منافق أخبر الله أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه. وقد
وقيل: معنى، ﴿وَإِذَا تولى﴾ إذا غضب، فعل ذلك.
وقرأ الحسن وقتادة: ﴿وَيُهْلِكَ﴾ بالرفع عطفاه على يُعْجِبُكَ.
وقال أبو حاتم: " عطف على ﴿سعى﴾، أي يسعى ويهلك، وقال الزجاج: " معناه: وهو يهلك ".
وعن ابن كثير أنه قرأ: " ويهلك " بتح الياء والنصب، الحرب والنسيل بالرفع. ومثل الجماعة أشهر عنه.
قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ الآية.
أي يبيع نفسه من أجل مرضاة الله، ونزلت في المهاجرين والأنصار
وقال عكرمة: " نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر الغفاري وهو جندب ابن السكن خرجوا/ مهاجرين وطلبهم أهلوهم، فأما أبو ذر فانفلت منهم، وأما صهيب فأخذوه أهله، وافتدى بأهله وماله من مولاه وكان مملوكاً لزيد بن جدعان. وروي أنه كان يعرف بالرومي وأصله من العرب، وإنما سمي بذلك لأنه سبي وهو صغير، فسار إلى الشام، فتغير لسانه ثم صار مملوكاً لزيد بن جدعان، فلما أمر النبي [عليه السلام] بالهجرة آمن وافتدى من مولاه بماله كله، وخلى سبيله/، فخرجت بنو تميم في طلبه، فلما أدركوه أخذ
وقال الربيع: " نزلت في رجل منع الخروج إلى النبي [ ﷺ] فافتدى منهم بداره وماله، وخلوه فخرج إلى النبي عليه السلام فلقيه عمر في رجال فقال: ربح بيعك، قال: وبيعك، فلا خَسِر، فما ذاك؟ قال له: أنزل فيهك كذا وكذا ".
وقيل: نزلت الآية في رجل مسلم حمل على المشركين، بسيفه غضباً لله إذ
فيشري على هذا بمعنى/ يبيع.
وقيل: نزلت في رجل مسلم قال لمشرك: قل: لا إلا الله. فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشربن نفسي من الله ". أي لأَبِيعَنَّهَا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل C.
وقال ابن المسيب: " أقبل صهيب مهاجراً فاتَّبعه نفر من المشركين. فنزل عن راحلته وانتشر ما في كنانته، وقال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وأَيْمُ الله، لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فعادهوه على أن يدلهم على بيته ماله بمكة ويدعوه
وقيل: إنه عني بها كل من باع نفسه من الله، روي ذلك عن عمر وغيره. وهو أولى بظاهر الآية عند الطبري وغيره.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم﴾.
قال ابن عباس: " السِّلْمُ - بالكسر - الإسلام " وهو قول أبي عمرو.
وقال عكرمة: " نزلت في ابن سلام وابني كعب: أسد وأسيد، قالوا بعد إسلامهم لرسول الله [عليه السلام]: إن السبت كان مفروضاً فأذن لنا أن نسبت وإن التوراة كتاب الله، فأذن لنا أن نحكم بها فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم﴾، أي في الإسلام.
﴿كَآفَّةً﴾: أي في جميعه، فيكون " ﴿كَآفَّةً﴾ " على هذا القول حالاً من السلم.
وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام كان يقيم شرائع التوراة وشرائع القرى، ، فأنكر ذلك [عليه المسملون]، فقال: أنا أقوى على هذا، فنزلت الآية فترك ما كان عليه ورجع إلى شرائع الإسلام وما في القرآن.
واختار الطبري قراءة الكسر في السلم.
ويختار أن يكون مخاطبة للمؤمنين بمحمد [عليه السلام] وأن الصلح لا معنى له على هذا، واختار ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: ٦١] لأنهم دعوه إلى الصلح، وليس في القرآن موضع أمر الله فيه المؤمنين بأن يبتدئوا بالصلح، إنما أمرهم بذلك إذا بدأهم به المشركون ورغبوا فيه، فلذلك يختار الكسر في البقرة لأنا لو فتحنا لأوجبنا أن الله أمر المؤمنين أن يبدأوا
وإذا كان التأويل أن المؤمنين بمحمد ﷺ أمروا بذلك أو بضعهم، فيكون ﴿كَآفَّةً﴾ حالا من السلم على معنى: " ادخلوا في الشرائع كافة "، أي في جميعها. وإذا كان التأويل أن المؤمنين بالأنبياء - صلوا الله عليهم - الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ، أمروا بالإيمان لمحمد ﷺ، فيكون " كافة " حالاً من المأمورين، أي ادخلوا جميعاً.
وقال ابن عباس: " هم أهل الكتاب أمروا بالإيمان بمحمد ﷺ بالدخول في شرائعه ".
ومعنى " كافة " الإحاطة والعموم، من " كَفَفْتُ فلاناً عن/ كذا "، منعته، ومنه " رجل مَكْفٌوفٌ " أي ممنوع من النظر، ومنه " كَفَّهُ الميزان لأنها تَكُفُّ الأخرى، أي تمنعها من أن تميل بها. ومنه سمي الْكَفُّ لأنه يمتنع بها.
فمعناه على هذا إذا جعلت حالاً من الضمير: لا يمتنع منكم أحد أن يكف بعضهم بعضاً من الامتناع.
قوله/: ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾. أي آثاره.
وقال الضحاك: " هي الخطايا التي يأمر بها ".
قوله: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ﴾. أي أخطأتم. وقيل: ضللتم.
وقال ابن عباس: " هو الشرك ".
والبينات محمد ﷺ والقرآن.
وقوله: ﴿عَزِيزٌ﴾ أي ذو عز لا يمنعه من الانتقام منكم مانع ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله بكم من العقوبة على زللكم بعد إقامة الحجة وظهور البراهين.
قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة﴾.
مَن خَفَضَ " الملائكة " عَطَفَ على " ﴿ظُلَلٍ﴾ ".
وقرأ أبو جعفر " في ظُلالٍ وَقَضَاءِ الأَمْرِ " بالمد والخفض.
وفي قراءة أبي: " إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ وَالْغَمَامُ فِي ظلل مِنَ المَلاَئِكَةِ ".
وهذا الإتيان عند أكثرهم يوم القيامة يكون.
وقال قتادة: " ذلك عند الموت ". وهو قول شاذ.
وقيل: معنى ﴿فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام﴾، " بظلل "، ففي بمعنى " الباء ". وهذا قول حسن بَيِّن.
وأكثر أهل التفسير على أن في الكلام تدقديماً وتأخيراً في قراءة من رفع الملائكة، والمعنى: إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام. قالوا: والرب يأتي كيف شاء، و ﴿فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام﴾ من حال الملائكة. وجماعة منهم على أنه تعالى يأتي في ظلل من الغمام، وتأتي الملائكة/ كيف شاء. وهذا اختيار الطبري.
وروى ابن عباس عن الن بي [عليه السلام] أنه قال: " إن الغمامة [طاقات يأتي الله جل وعز] فيها محفوفاً ".
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: [ويجب] أن تعتقد أن صفات الله جل ذكره بخلاف صفات المخلوقين، فلا تعتقد إلا أن الإتيان والمجيء من الله تبارك وتعالى صفة وصف بها نفسه لا إتيان انتقال وتغير حال، تعالى الله عن ذلك.
وقيل: معناه: ثواب الله وعقابه.
وهذا كله توعد لمن تقدم ذكره من التاركين للدخول في الإسلام ولسعيهم بالفساد في الأرض.
ومعنى: ﴿وَقُضِيَ الأمر﴾: فرغ منه.
قوله: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾.
أعلمنا تعالى برد الحساب والعقاب إليه والأمور الآن وفي كل وقت إليه مصيرها، وبيده تصرفها، وعن مراده كونها. وإنما خص ذلك الوقت بالذكر لأنه وقت لا يدعي فيه أحد أمراً ولا نهياً ولا ملكاً ولا مقدرة، والدنيا يها الجبارون والكافرون يدعون ذلك لأنفسهم، والآخرة لا يدعي فيها أحداً شيئاً، فلذلك خص الله رد الأمور إليه/ في الآخرة مع كونها مردودة إليه في الدنيا.
قوله: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ﴾ الآية.
في البقرة: ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ [الآية: ٢٣١].
وفي آل عمران ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ﴾ [الآية: ١٠٣].
وفي المائدة: ﴿اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ﴾ [الآية: ١١].
وفي إبراهيم: ﴿نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ [الآية: ٢٨].
وفيها: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤].
وفي النحل: ﴿وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ [الآية: ٧٢].
وفيها: ﴿نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ [النحل: ٨٣].
وفيها ﴿واشكروا نِعْمَتَ الله﴾ [النحل: ١١٤].
وفي لقمان: ﴿تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله﴾ [الآية: ٣١].
وفي فاطر: ﴿نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ﴾ [الآية: ٣].
وفي: والطور: ﴿فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ [الآية: ٢٩].
والأصل في جميعها التاء، ولكن من موقف بالهاء فإنما ذلك للفرق بين الأفعال
[وقال] سيبويه: فعل ذلك للفرق بين التاء الأصلية والملحقة والزائدة في " العنت " و " ألفت "، و " عفريت "، و " ملكوت " و " شجرة ". وهذه هي التاء الزائدة. ولغة طيء الوقف بالتاء.
وقال الفراء: " من وقف بالتاء، أراد الوصل، ومن قف بالهاء أراد الوقف الصحيح ". وأنكر ذلك ابن كيسان وغيره.
[وكل ما] كتب منه بالتاء، فمذهب المدنيين الوقف بالتاء على ما في المصحف. ومذهب أبي عمرو والكسائي وخلف وابن كيسان الوقف بالهاء على الأصل المشهور وقد قال ابن كيسان: " من وقف بالتاء فإنما نوى أصلها لأن أصلها التاء ".
وقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾.
يعني العصا وانفجار الحجر وانفلاق البحر ونحوه، ثم كفروا بعد ذلك وبدلوا هذه النعم، فأمر الله نبيه عليه السلام/ بالصبر وأخبره بفعل من قبله في سالف الدهر، وقال
ومعنى ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾ أي: من يغير ما عاهد الله عليه من قبول/ ما جاء به محمد ﷺ من الإسلام فيكفر، فإن الله يعاقبه.
قوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾.
أخبرنا الله تعالى أنه زين لهم حب الدنيا واتباعها، وأنهم يسخرون ممن اتبع الآخرة، وذلك أ، هم قالوا: " لو كان محمد نبياً لا تبعه أشرافنا، وما نرى اتبعه إلا أهل الحاجة ".
وقال الزجاج: " معنى ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي زينها لهم إبليس لأن الله تعالى قد زهد فيها ".
وقيل: معناه خلق الأشياء الحسنة المعجبة، فنظر إليها الكفار بأكثر من مقدارها، ومثله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ/ حُبُّ الشهوات﴾ [آل عمران: ١٤].
قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وقيل: معناه أن ثمة أشياء لا يحاسب بها ويغفرها.
وقيل: معناه: ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، والكافر على قدر كفره، أي ليس يرزق في الدنيا على قدر العمل.
وقيل: معناه: نحو محاسبة أي ما يخاف أحداً/، يحاسبه عليه.
وقيل: معناه: بغير حساب للمعطي. أي يعطيه من حيث لا يحتسب.
قوله: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً واحدة﴾.
الآمة هنا قول ابن عباس وعكرمة: من كان بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، وكانوا على دين من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال ذلك ابن عباس وغيره. وول من بعث الله نوحاً عليه السلام.
وقيل: معناه: كان آدم وحواء عليهما السلام أمة واحدة في الطاعة. وسيما بالجماعة لأنهما أصل لها.
وقال ابي بن كعب: " معناه كان جميع الخلق أمة واحدة إذا استخرجهم من [صلب آدم] وقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢]. فأقروا كلهم فكانوا كلهم أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا/ إذ ظهروا إلى الدنيا فبعث الله النبيين مبشرين من أقام على عهده بالجنة. ومنذرين من خالف ما عهدَهُ إليه بالنار ".
وقيل: الناس هنا: نوح ومن كان معه في السفينة.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: " كانوا على الكفر فبعث الله النبيين ".
قوله: ﴿وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾.
أي لم يختلف في التوراة إلا الذين نزلت عليهم.
﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾ الآية.
أي الحجج أنه من عند الله، فكان خلافهم تعمداً للبغي بينهم لحب الدنيا وملكها والتنافس فيها فبغى بعضهم على بعض، وقتل بعضهم بعضاً على ذلك.
وقال زيد بن أسلم: " اختلفوا في يوم الجمعة؛ فاتخذ اليهود السبت، / والنصارى الأحد فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق،
وقد أنكر هذا قوم لأن المصدر لا يتقدم عليه ما تعلق به، وهذا الا عتراض لا يلزم لأن " من " متعلقة " بأُوتُوهُ " لا " بالبغي ".
ومعنى: ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب﴾ أي الكتب.
قوله: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس﴾.
وقرأ الجحدري. " لِنَحْكُمَ " بالنون.
وقالوا أبو إسحاقَ: " معنى ﴿وَمَا/ اختلف فِيهِ﴾. أي في النبي محمد ﷺ ﴿ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾، أي أعطوا علم نبوته، فعلوا ذلك للبغي.
قوله: ﴿فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ﴾.
قال النبي ﷺ: " نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُون/ يَوْم الْقِيَامَةِ؛ نَحْنُ أَوَّلُ/ النَّاسِ دُخُولاً الجَنَّة بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُو الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وأُتينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَدَانَا اللهُ لِمَا/ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإِذْنِهِ " فَهَذا اليّوْم الذِي هَدَانتَا اللهُ لَهُ وَالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، غداً لليهود، وبعد غَدٍ لِلنَّصَارى ".
وهذا الاختلاف الذي هدى الله المؤمنين إليه، ووفقهم لإصابته وهي الجمعة ضلوا عنها، وقد فرضت عليهم كما فرضت علينا فجعلوها السبت، وجعلها النصارى الأحد.
وقال ابن زيد: " اختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى بيت المقدس، فهدانا إلى الكعبة. واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من/ يصوم بعض ليلة، فهدانا الله له. واختلفوا في الجمعة؛ فأخذ اليهود السبت،
وهذا عند أكثر أهل العلم فيه قلب، والمعنى: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، كما قال:
كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ | فالهداية إنما هي للحق ولم يهدهم للاختلاف. |
قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾.
" أم " للخروج من حديث إلى حديث.
وقال الطبري: " أم " للاستفهام، ومعنى اللام " أحسبتم ". قال: وإنما تكون " أم " للاستفهام إذا تقدمها كلام، فإن لم يتقدمها كلام لم تقع كذلك ".
قوله: ﴿حتى يَقُولَ الرسول﴾.
النصب فيه على الغاية كأنك قلت: " وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ". فيكون الفعلان قد مضيا. ويجوز النصب في غير القرآن على أن تجعل الثاني من أجله وقع الأول،
والرفع في الآية على أن يكون ما بعدها جملة لا تعمل " حتى " فيه، أي " زلزلوا، فقال الرسول "، ويكون الفعلان أيضاً مضيا أي حتى هذه حال الرسول، ويجوز الرفع في الكلام على أن يكون الأول قد مضى، والثاني في الحال؛ تقول: " سرت حتى أدخلها " أي حتى أنا الآن أدخلها، فالسير مضى، والدخول الآن، ولا يجوز هذا في الآية.
وقال أبو عمرو: " لما اختلف الفعلان في الآية، كان الوجه في الثاني النصب ".
قوله: ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾.
يجوز في " قريب " النصب على أنه نعت لظرف محذوف. ولا يثنى قريب
ومعنى الآية: أحسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم من اتباع الأنبياء من الشدائد والخوف حتى قال الرسول والذين معه: ﴿متى نَصْرُ الله﴾، كأنهم استبطأوا النصر فأخبرهم الله تعالى أن/ نصر الله قريب.
وقيل: إن في الآية تقديماً وتأخيراً وحذفاً للاختصار والتقدير: وزلزلوا حتى يقولوا؟ ﴿متى نَصْرُ الله﴾، ويقول لهم/ الرسول: ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ اسبتطأوا النصر وزاد عليهم الخوف، فقالوا: متى نصر الله؟ فقال لهم الرسول: ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾.
فقوله: ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ من قول الرسول، وقوله: ﴿متى نَصْرُ الله﴾ من قول المؤمنين من أمة الرسول.
وهذه الآية في قول السدي وقتادة نزلت يوم الخندق حين اشتد على المؤمنين أمر الأحزاب وآذاهم البرد وضيق العيش، وفيه نزل: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا
قال السدي: [اشتد على/المؤمنين الأمر] حتى قال قائلهم: ﴿مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ [الأحزاب: ١٢]. يريد قاله بعض المنافقين.
﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ [الأنفال: ٤٩]. أي شك. قالوا ذلك أيضاً/ كذلك حكى الله عنهم في سورة الأحزاب. وقيل: " إنها نزلت في المهاجرين إذ تركوا أموالهم ودورهم بمكة، فحكم فيها المشركون، فضاقت بهم الحال في المدينة فَآخَى النبي [عليه السلام] بينهم وبين الأنصار فَوَاسَوْهُمْ فنزلت الآية تعزية لهم وتصبيراً.
وذكر وهب بن منبه: " أن سبيعن نبياً دفنوا في مسجد الخيف، كلهم ماتوا
وقال النبي [ ﷺ] :" سأل نبي من الأنبياء سعة الرزق فأوحى الله إليه: (أَمَا يَكْفِيكَ أَنِّي عَصَمْتُكَ مِنَ الْكُفْرِ) ".
فلو رضيَ اللهُ الدنيا لأحد من أوليائه ما نال منها الكافر جرعة ماء، ولكن الله لم يجعلها ثوباً لمؤمن ولا عقاباً لكافر.
قوله: ﴿البأسآء والضرآء﴾ الفقر والمرض.
وقيل: القتل والفقر.
وقال القتبي: " البأساء: الشدة والضراء: البلاءً ".
ومعنى ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ خوفوا وحركوا.
وأصله من " زال الشيء من مكانه ". ومعنى " زلزلته " كررت زلزلته.
سأل/ أصحاب النبي [عليه السلام] على من ينبغي أن يفضلوا، فأنزل الله الآية، وهذا قبل أن تفرض الزكاة.
وقيل: هي منسوخة بالزكاة.
وقيل: هي محكمة فيها صفة أين يوضع التطوع، والزكاة مفروضة على بابها.
وهذه الآية تدل على أن النفقة على الوالدين من الصدقة.
قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال﴾.
أكثر العلماء على أن الجهاد فرض يحمله الإمام ومن معه عن الناس، وليس على كل رجل ذلك فرض.
ومعنى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فرض عليكم، وهو كالصلاة على الموتى ودفنهم، دليله قوله: ﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [النساء: ٩٥]. فأخبر أن الكل له الحسنى وهي الجنة، وأن المجاهدين أفضل له.
وقال ابن جبير: " هو فرض على جميع المسلمين ".
وقيل: هي منسوخة بقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقيل: هي على الندب لا على الوجوب.
وقد قال عطاء: " هي فرض على الصحابة خاصة ". وهو قول مطعون فيه.
قوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾.
الكره بضم الكاف ما كان من نفسك، وبالفتح ما أُكْرِهْتَ عليه فيه.
وقال معاذ بن مسلم: " الكُره المشقة، والكَره الإجبار ".
وقيل: هما لغتان: كالضُّعف والضَّعف.
قوله: ﴿وعسى أَن/ تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
معناه: إن كرهتم القتال فهو خير لكم، لأن فيه الظفر والغنيمة والشهادة. ﴿وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾.
أي إنكم إن تحبوا القعود عن الجهاد فهو شر لكم لأنكم تحرمون الظفر والغنيمة و [الأجر. أو] الشهادة.
﴿والله يَعْلَمُ﴾: أي يعلم ما هو خير ممّا هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتب عليكم من جهاد عدوكم فإنكم لا تعلمون.
قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ﴾.
قال السدي: " بعث رسول الله ﷺ سرية في سبعة نفر فبينما هم سائرون إذا بنفر من المشركين ببطن نخلة فاقتتلوا، فأسر المسلمون منهم وقتلوا وغنموا،
وروي أن النبي ﷺ قال لهم: " ما أمرتكم أَن تَقْتُلُوا فِي الْشَهْرِ الْحَرَامِ " فسقط في أيدي القوم [وأخذوهم الناس باللائمة]، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ [كَبِيرٌ]﴾ " فأخبرهم أنه منكر عظيم.
ثم ق ل: ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله﴾.
أي وصدكم أيها المشركون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكفركم بالله تعالى وأخراجكم أهل المسجد الحرام منه. يريد الله النبي ﷺ وأصحابه ذلك كله من فعلكم أكبر عند الله من القتل، أي الشرك الذي أنتم عليه أكبر من القتل في الشهر الحرام. / وكذلك قال ابن عباس.
وقال الضحاك: " لما قتل عمرو بن الحضرمي في سرية بعثها رسول
والأشهر الحرم المذكورة في براءة ليست المعلومة، إنما هي أشهر كان فيها عَهْدٌ بينهم وبين النبي [عليه السلام] فأمر بقتلهم حيث وجدوا إذا انسلخت تلك الأشهر وهي أربعة أشهر بعد يوم النحر لمن كان له عهد، ومن لم يكن له عهد فإلى انسلاخ
وقال عطاء: " الآية محكمة، والقتال محظور في الأشهر الحرم ".
ورويى ابن وهب أن النبي [ ﷺ] رد الغنيمة والأسى وودى القتيل.
قوله: ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله﴾.
كتبت " رحمت " بالتاء وذلك في سبعة مواضع؛ هذا، وفي الأعراف: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ﴾ [الآيه: ٥٦]، وفي هود: ﴿رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ﴾ [الآية: ٧٣]، وفي مريم: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ [الآية: ١]، وفي الروم: ﴿إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله﴾ [الآية: ٥٠]. وفي الزخرف: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الآية: ٣٢]. وفيها ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ [الزخرف: ٣٢] وما عداها كتبت بالهاء.
نزلت هذه الآية حين قتلت السرية عمرو بن الحضرمي وأنكر عليهم القتل في الشهر الحارم الحرام، وقال بعض المسلمين في السرية، قد أصابوا وزراً، فأعلم الله أن من هاجر وجاهد فهو يرجو رحمة الله، وأنه غفور لما وقع منهم من القتل في الشهر الحرام ورحيم بهم.
وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه قالوا: يا رسول الله، أنطمع أن يكون خروجنا [غزوة نعطى] فيها أجر المجاهد، فأنزل الله: / {إِنَّ الذينءَامَنُواْ
قوله: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾.
من قرأ بالثاء فقراءته مختارة، لأن الكثرة تشتمل على العظم واكبر، والكبر والعظم لا يشتمل على الكثرة فبالثاء أعم وأولى. وكل ما كثر فقد عظم وليس كل ما عظم بكثير، فوصف الإثم بالكثرة أبلغ من وصفه بالعظم، وقد قال تعالى: ﴿وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ [الفرقان: ١٤] وأيضاً فإن الإثم الأول بمعنى الأثام لقوله: " ومنافع " ولم يقرأ " ومنفعة ". والآثام فالبكثرة توصف أولى من العِظم. وأما الثاني فهو إجماع بالباء لأنه يراد به التوحيد لا الجمع.
ومن قرأ بالباء فحجته إجماعهم على ﴿أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ بالباء، أي
والخمر: ما خامر العقل أي ستره، فكل شراب ستر العقل وأحاله فهو خمر، يقال: " دخل فِي خِمَارِ النَّاسِ " أي هو مستتر في الناس، ويقال للضبع: " خَامِرِي أُمِّ عَامِر "، أي استتري. وخمار المرأة قناعها لأنه يسترها. وقوله: " اخْتَمَرَ الْعَجِينُ "، أي غطى فطورته الاختمار.
والميسر القمار سمي بذلك لما كانوا ييسرون من الجزور وغيرها للقمار عليها.
وقال مجاهد: " كل القمار من الميسر حتى لغب الصبيان بالجوز ".
وقال عطاء: " حتى لعب الصبيان بالكعاب ".
قال ابن عباس: " كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قامر صاحبه ذهب بأهل الآخر وماله ".
وأشعار العرب: تدل على أن الميسر كان قماراً بينهم في الجزور خاصة.
وقيل: سمي ميسراً لأنهم كانوا يجزرون الجزور. وكل/ شيء جرزته فقد يسرته والياسر الجازر. وفقيل للضاربين بالقداح: ياسرون، لأنه سبب لتجزئة الجزور.
ويقال للضارب بالقداح " يَسَرٌ وأَيْسَارٌ ".
وقيل: إن " يَسْراً " جمع " لِيَاسِرٍ "، ثم يجمع " يَسَرٌ " على " أَيْسَارٍ " وكانت العرب أهل المقدرة منهم يقامرون على الإبل في الشدائد، ويجعلون لحومها للفقراء/ منهم لتعدل
والقداح التي كانوا يقامرون بها عشرة: منها سبعة ذوات خطوط، على كل واحد علامة يعرف بها، وهي: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى. ومنها ثلاثة لا خطوط فيها، يقال لها: " الأغفال/ والغفل من الدواب الذي لا سمة له؛ وهي: السفيح والمنيح، والوغد وليس لها سهام.
والسبعة الأول للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمبسل ستة، وللمعلى سبعة، وعلى كل واحد من العلامة على قدر ما له من الأنصباء.
وقوله: ﴿ومنافع لِلنَّاسِ﴾.
هي أثمانها وما كانوا يصيبون من الجزور.
﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾.
أي الإثم فيهما بعد التحريم أكبر من النفع قبل التحريم. قال سعيد بن
فهذا يدل على أنها منسوخة بما في " المائدة ".
وروي أن عمر رضي الله عنهـ كان يقول: " اللهم بيّن لنا في الخمر "، فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر﴾ الآية، فقرئت ع ليه، فقال: [اللهم بين لنا في ال خمر بياناً شافياً، فإنها تذهب العقل والمال]، فنزلت ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ الآية التي في المائدة فقال عمر: انتهينا، انتهينا ".
فالخمر محرمة بنص القرآن لأن الله جل ذكره أخبرنا في هذه
وإنما سميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه.
وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر، أي تغطي من الخمار الذي تغطى به.
وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر العقل، أي تستره من الخمار الذي يغطى به الرأس.
قال السدي: " كانوا يعملون كل يوم فيما فيه، فإن فضل في ذلك اليوم فضْلٌ عن العيال قدموه ".
وقال ابن عباس: " العفو ما لا يتبين/ خروجه من المال ".
وقال طاوس: " العفو اليسير من كل شيء ".
وقال اليزيدي: العفو هو ما أطلقته من غير أن تجهد فيه نفسك ".
وقيل: ما فضل عن أهلك.
وروي أن هذه الآية ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ نزل في رجل أتى إلى النبي [ ﷺ] فقال: " إن لي ديناراً "، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ. فقال: إن لي دينارين. فقال: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أهْلِكَ، فقال: إن لي ثلاثة، قال أَنْفِقْهَا عَلَى
يريد لي بالدينار غير الدينار، ولي اثنان غير الاثنين// وثلاثة غير الثلاثة، وكذلك ما بعده.
وقيل: العفو ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً. قاله عطاء والحسن وقال مجاهد: " العفو الصدقة عن ظهر غنى ".
وروي عن ابن عباس في حد العفو: " أمر النبي ﷺ [ أن يأخذ] ما أتوا به من قليل أو كثير.
وقال الربيع: " العفو/ ما طاب من المال ".
وقال قتادة: " العفو أفضل المال، وأطيبه أفضله ".
وقيل: إنما هي الزكاة، وليست منسوخة.
وقيل: إنما في التطوع، سألوا عنه فأجيبوا، فهي محكمة وليست بغرض.
قوله ﴿كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدنيا والآخرة﴾.
معناه: مثل ما بيك لكم الخمر والميسر وما فيهما يبين لكم الآيات لعلكم تتفكرون في نفاذ الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ونعيمها فتعملون للباقية منهما.
وقيل: معناه: لعلكم تتفكرون في فضل ما بينهما.
وقيل: / في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: " يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة "، أي في أمرهما لعلكم تتفكرون.
قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾.
وقيل: إنه لما نزل: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، اجتنب الناس مخالطتهم فنزلت ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، فخالطوهم.
﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾. أي يعلم حين تخلط مالك إلى مالك بماله، أتريد بذلك إصلاح ماله أو إفساده يريد الجنسين.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾. أي: لحرم عليكم مخالطتهم
وقيل: معناه: لأَوْيقَكُمْ فأهلككم بما قد أصبتم من أموالهم.
قال أبو إسحاق: " معناه: لكلفكم ما يشتد عليكم، فتعنتون ".
وأصله من: " عَنِتَ البَعِيرُ " إذا حدث في رجله كسر بعد جبر.
قوله: ﴿أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩].
أي: عزيز في سلطانه، حكيم في فعله وأحكامه وتدبيره.
قوله: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾.
قال ابن عباس: " عَمَّ تحريمُ كل مشركة ثم استثنى منهن أهل الكتاب بقوله: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [المائدة: ٥].
وقال عكرمة والحسن: " نسخ من ذلك نساء أهل الكتاب ".
وقال ابن جبير: " الآية عامة محكمة مخصومة في مشركات العرب، لم يع ن بها/ غيرهن ".
وقد قيل: هي ناسخة للتي في النساء والمائدة روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعن عمر رضي الله عنهـ. والإجماع على خلاف ذلك، وطرق الأسانيد عنهم فيها ضعف.
وروي أن عمر فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية، وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية، وأراد أن يبطش بهما على نكاحهما.
وقال/ ابن عمر: " حرم الله المشركات في كتابه على المؤمنين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى ". وقد سمى الله اليهود والنصارى مشركين في كتابه في " براءة " وغيرها؛ قال: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ [التوبة: ٣١]. فهذا هو الشرك بعينه.
وأصل النكاح في اللغة الوطء. تقول العرب: " أَنْكَحْتُ الأَرْضَ الْبُرَّ " إذا بذرته فيها، ومن هاهنا ثبت أن قوله: ﴿حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] يراد به الوطء دون العقد، وبذلك أتت السنة، وقد كثر حتى استعمل اسماً للعقد إذ هو سبب الوطء.
وجاز أن تقول: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾، والمشرك لا خير فيه، كما تقول العرب: " الآباء أحق بالميراث من الخال ". ولا حق للخال في الميراث.
وحكى نفطويه في كتاب " التوبة " له أن العرب تأتي بأفعال على ضربين: أحدهما تفضيل أحدهما على الآخر وفي الآخر فضل. / والثاني أن يكون إيجاباً
وقيل: / المعنى: وَلإِنْكَاحُ عبد مؤمن خير من إنكاح حر مشرك.
وهذه الآية نزلت في رجل نكح أمة فعذل عن ذلك وكان الذين [عذلوه يريدون] تزويج نساء أهل الشرك لحسبهن ومالهن وجمالهن، فأخبر الله تعالى أن " أمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجتكم "، أي ولو أعجبكم حسنها وحسبها.
ثم أخبرنا بمنع نكاح المشرك المسلمة من أهل الكتاب كان أو من غيرهم، فأعلمنا أن عبداً مؤمناً خير من مشرك.
وبهذا يحتج من جعل الأول عاماً في الكتابية وغيرها.
أي بإعلامه الطريق [التي بها يتوصل] إلى الجنة والمغفرة كل من عنده.
وروي أن هذه الآية نزل في كناز بين الحصين/ [الغنوي أبي] مرثد بعثه/ رسول الله [ ﷺ] إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من أصحابه أسر، وكان له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها: عناق. فقل لها: إن الإسلام قد حرم ما كان في الجاهلية. فقالت له: تزوجني. فقالظ: لا، حتى آتي رسول الله فسأله. فلما قدم بالأسير إلى رسول الله ﷺ سأله هل يحل له تزويج تلك المرأة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات﴾ الآية، فهي في غير أهل الكتاب مخصوصة على هذا التأويل.
قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض﴾.
ثم قال: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾.
أي: في الفرج خاصة. فهذا يدل على منع إتيانهن في الأدبار.
وقيل: معنى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ طهراً غير حيض.
ومعنى: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾.
قال السدي: " قل يا محمد: قل هو قذر/ "، وكذلك قال قتادة.
وقال مجاهد: " ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ قل هو دم ".
فللرجل أن يستمتع [من الحائض] بما دون الفرج غير الدبر. وهو قل عائشة وأم سلمة وابن عباس والحسن وعطاء والشعبي والنخعي والثوري وغيرهم. وهو قول الشافعي الصحيح.
ويروى عن ميمونة وسعيد بن المسيب أنها تعتزل فيما بين السرة والركبة، ويستمتع بها فيما دون ذلك، وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وقال عكرمة والشعبي: " لا بأس بإتيانها دون الفرج " [يريدان الفخذ].
فإن أتاها وهي حائض؛ فقال ابن عباس: " يتصدق بدينار أو بنصف ".
وقيل: إن كان في فور الدم وقوته يتصدَّق بدينار، وإن كان في آخره وضعفه تصدق بنصف. قاله النخعي وغيره.
وقال الأوزاعي: " إن كان وطئها في الدم تصدق بدينار، وإن وطئها بعد انقطاع الدم وقبل الطهر بالماء، تصدق بنصف دينارً ".
وقال سعيد بن جبير: " عليه عتق رقبة ".
وقال الحسن: " عليه مثل الذي على من وطئ في رمضان ". وجماعة/ الفقهاء التابعين يقولون: لا شيء عليه ويستغفر الله من ذلك ولا يعد، وقد أخطأ.
قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وهو قول الشعبي والزهري وربيعة وأبي الزناد والليث بن سعد الثوري.
وهو قول سالم/ بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والثوري.
وقال عطاء وطاوس ومجاهد: " إذا احتاج إلى وطئها قبل أن تغتسل، أمرها أن تتوضأ، ثم أصاب منها ما شاء ".
وهو معنى قراءة من قرأ: " حتى يَطْهُرْنَ " مخففاً، أي ينقطع عنهن الدم.
وفي مصحف أبي وابن مسعود: " حتى يتطهرن " بالتاء أي بالماء
وقال مجاهد وطاوس: " إذا تطهرن للصلاة ".
فليس يجب للقارئ أن يقف على " يطهرن " في قراءة من خففه لئلا يبيح وطء الحائض إذا انقطع عنها الدم ولم تتطهر بالماء. فأما من قرأه بالتشديد، فالوقف عليه حسن لأن معناه: " يتطهرن بالماء " وقربها بعد التطهر بالماء إجماع.
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾. أي: من الوجه الذي نهيتهم عنه وهو الفرج.
وقال مجاهد: " ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ أمروا أن يأتوهن من حيث نهو عنه ". يعني ياتونهن بعد التطهر في الموضع الذي أمروا أن يتعتزلوه في الحيض وهو الفرج.
وقيل: معناه إيتوهن من قبل النكاح الذي أمرتم بهن وحل لكم لا من قبل الزنا الذي نهيتم عنه، وحرم عليكم.
قوله: ﴿يُحِبُّ التوابين﴾.
أي الراجعين/ عن الذنوب، والمتطهرين بالماء للصلاة. وهو/ ظاهر اللفظ، وعليه أكثر أهل التأويل.
وقال مجاهد: " ﴿وَيُحِبُّ المتطهرين﴾: أي الذي لا يأتون النساء في أدبارهن ".
وقيل: معناه: ويحب المتطهرين من الذنوب أن يعودا بعد التوبة. و ﴿المتطهرين﴾ يعني به النساء والرجال، غلب المذكر على المؤنث، ولم يقل المتطهرات، لأنه يخص النساء خاصة إذ لا يغلب المؤنث على المذكر.
ومن وطئ بعد التطهر بالماء، فقد وطئ من يحب الله. وذلك حسن لأن الله إنما أحبهن على فعلهن وهو التطهر بالماء، ولم يحبهن على غير فعلهن، وهو انقطاع دم الحيض، فشكر الله لهن تطهرهن بالماء.
وأتى " المتطهرين " بلفظ التذكير لأنه يكون من الرجال والنساء، فغلب المذكر.
وقوله: ﴿أنى شِئْتُمْ﴾. أي مقبلة ومدبرة في الفرج.
ومعنى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾.
أي هُنَّ مزدرع للولد، بمنزلة الأرض هي مزدرع للحب فتقديره: " نساؤكم موضع حرِث لكم ".
[وروى] ابن وهب عن ابن المسيب أنه قال في قوله: ﴿أنى شِئْتُمْ﴾: هو العزل، إن شئت عزلتم وإن شئت لم تعزل، وإن شئت سقيته، وإن شئت أظميته ".
وروي عن ابن عباس أنه قال: " كانت قريش تتلذذ بالنساء مقبلات ومدبرات في الفرج، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فامتنعن عليهم من ذلك، وقلن: [لا نعرف] هذا، فبلغ ذلك النبي [عليه السلام]. فأنزل الله الآية وأصح الوجوه في
قال أبو محمد مكي: يجب لأهل المروءة والدين والفضل ألا يتعلقوا في جواز إتيان النساء في أدبارهن بشيء من الروايات، فكلها مطعون فيه ضع يف. وإنما ذكرناها لأن غيرنا من أهل العلم ذكرها، وواجب على أهل الدين أن ينزهوا أنفسهم عن فعل ذلك، ويأخذوا في دينهم بالأحوط فإني أخاف من العقوبة على فعله، ولا أخاف من العقوبة على تركه، وقد روي في ذلك أخبلار كثيرة، وأضيف جوازه إلى مالك وروي عنه وليس ذلك بخبر صحيح ولا مختار عند أهل الدين والفضل. وقد أضر بنا عما روي فيه لئلا يتعلق به متعلق، وأسقطنا ذكر ما روي فيه من كتابنا لئلا يستن به جاهل أو يميل إليه غافل وأسأل الله التوفيق في القول والعمل بمنه.
وقد قال مسروق: " قلت لعائشة رضي الله عنها: " ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً فقالت: كل شيء إلا/ الجماع ".
ويدل على منعه قوله: ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ/ أنى شِئْتُمْ﴾ والحرث للولد يكون لأنه كالبذر للزرع، والولد لا يكون/ إلا جهة الفرج والإباحة إنما هي في الفرج لا غير، لذكره الحرب الذي به يكون الولد. فهذا نص ظاهر.
وكذلك روى الدارقطني عن رجاله عن إسرائيل بن روح أنه قال: سألت مالكاً، فقلت: يا أباع عبد الكله ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: أما أنتم قوم عرب؟ هل يكون الحرب إلا في موضع الزرع؟.
أتسمعون الله يقول: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ قائمة فقاعدة وعلى
قال أبو أحمد مكي: " [وهذا] الأشبه بورع مالك، وتحفظه بدينه ".
وروى الدارقطني أيضاً عن رجاله عن محمد بن عثمان أنه قال: حضرت/ مالكاً، وعلي بن زياد يسأله، فقال: عندنا يا أبا عبد الله قوم بمصر يتحدثون عنك أنك تجيز الوطء في الدبر. فقال مالك: " كذبوا علي، عافاك الله ".
وقد روي في منعه آثار كثيرة؛ فمنه ما روي عن عكرمة أنه قال: " أنى شئتم من قبل الفرج ". قاله ابن جبير ومجاهد.
وعن/ ابن عباس أن النبي عليه السلام قال في حديث له طويل: " يَأْتِي الرّجُلُ امْرَأتَهُ
وروى عمارة بن خزامة بن ثابت عن أبيه أن البي [عليه السلام] قال: " إنّ الله لاَ يَسْتِحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَلاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ ".
وقال أبي بن كعب: " من أتى امرأته في دبرها فليس من التوابين ولا من المتطهرين ".
وقال ابن مسعود: " محاش النساء عليكم حرام ".
وروى عبد الله بن أبي الدرداء عن أبيه أنه قال: " الذي يطأ امرأته في دبرها هو أعظم الفواحش ".
يدل على منع الإتيان في الدبر لأن الله لا يأمر بالفحشاء وقد سمى الله الإتيان في الدبر فاحشة بقوله: ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ [الأعراف: ٨٠]، فكيف يبيح الفاحشة؟ / وإنما معناه في الفرج الذي أبيح لطلب الولد.
وفي قول الله تعالى لقوم لوط: ﴿أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ [الشعراء: ١٦٥ - ١٦٦] دلالة على المباح الإتيان في الفرج دون الدبر وفي الآية دليل على منع الإتيان في الدبر من الرجال والنساء لأن قوله:
﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ يراد به الفرج، لأن " ما " بمعنى " الذي ". " والذي " لا يقع إلا على معهود مشار إليه، وهو الفرج الذي خلقه في النساء. ولو قال: " من خلق لكم، لكان المراد النساء لأن " من " لمن يعقل فلما جاءت " ما " وهي تقع لما لا يعقل علم أنه شيء في: النساء خاص/خلق الأزواج وهو الفرج.
وقد قال ابن عباس في قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ " معناه: من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن ".
قال ابن عباس: " اذكروا الله عند الجماع ".
وقيل: معناه طلب الولد.
وقيل: معناه أنهم أمروا بتقديم الأعمال الصالحة.
وهو الخير هو المفعول الثاني " لقدموا ". فهو مردود على ماقبله من قوله، ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢١٥] الآية.
قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾.
معناه: أن يقول الرجل إ ذا سئل في خير أو صلاح: عَليَّ يمين أن لا أفعل. فيجعل اليمين علة لترك فعل الخير. فأمرهم الله بأن يبروا أيمانهم ويتقوه في فعل الخير ويصلحوا بين الناس، قاله ط طاوس وغيره.
وقال الضحاك: " هو الرجل يُحَرِّمُ ما أحل الله له على نفسه ويحلف، فأمره الله أن يُكفِّر ويأتي الحلال ".
وقال السدي: " ﴿عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾: هو أن يعرض بينك وبين الرجل أمر فتحلف ألا تكلمه/ ولا تصله ".
وقال مالك: " بلغني أنه حيلف بالله في كل شيء.
قال ابن عباس: " معناه لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن لا تصنعوا الخير، ولكن كفِّروا إيمانكم واصنعوا الخير ".
وقوله: ﴿أَن تَبَرُّواْ﴾ هو الرجل يحلف ألا يبر رحمه.
ثم قال: ﴿وَتُصْلِحُواْ﴾ هو الرجل يحلف ألا يصلح بين اثنين/ إذا عصياه، غضباً عليهما في مخالفته، فأمر أن يكفر ويأتي ما حلف عليه.
وجامع القول في هذا ما روي عن ابن عباس أنه قال: " هو الرجل يحلف على
وقالت عائشة رضي الله عنها: " لا تحلفوا بالله وإن بررتم ".
وقال ابن جريح: " نزلت الآية في أمر أبي بكر حيث حلف ألا يتصدق على مسطح ولا يعطيه شيئاً ".
والعرضة في كلام العرب القوة والشدة؛ يقال: " هذا الأمر عرضة لك " أي قوة لك على أسبابك. فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم في ترك فعل الخير.
وقال السدي: " نزلت هذه الآية قبل نزول الكفارات ".
وقال غيره: " نزلت بعد نزولها ".
قوله: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾.
قال ابن عباس: " هو ما سبق به اللسان على عجلة كقولك: " لا والله، بل
وقال مجاهد: " هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا. ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا وكذا، فهو اللغو ".
وقال أبو هريرة: " لغو اليمين أن يحلف الرجل على الشيء يظن أنه هو يقين منه، ثم يظهر له خلاف ظنه ". وهذا القول أحسن الأقوال في لغو اليمين المعفو/ عنها. وروي مثله عن ابن عباس.
وروي عنه أيضاً أنه قال: " هو الرجل يحلف على الشيء فيرى الذي هو خير منه فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويفعله/، وأعلمه أنه لا يؤخذه على ذلك ". فهذه ثلاثة أقوال عن ابن عباس.
وقال الحسن وغيره: " هو الرجل يحلف على الشيء، وهو يظن أنه صادق، ثم يظهر له خلاف ذلك، فلا كفاركة عليه ولا إثم "، وهو قول أبي هريرة المختار.
وقال طاوس: " هو الرجل يحلف في الغضب، فلا كفارة عليه ولا إثم "، وذكر قول النبي [عليه السلام]: " لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ ".
وقال: ابن جبير: " هو الرجل يحلف أن يعفعل ما نهى الله عنه أو يترك ما أمر الله به، فيمينه لغو، ولا كفارة عليه ".
وقد قال ابن المسيب وابن الزبير: " لا كفارة في معصية ". وكذلك قال ابن عباس.
وقال الشعبي: " كفارة من حلف على المعصية أن يتوب منها ".
وقال: ابن زيد: " هو قول الرجل: " أنا كافر إن فعلت كذا، وجعلت مع الله إلاهاً إن صنعت كذا، وشبهه، فلا كفارة فيه ".
وقال الضحاك: " اللغو من الأيمان، هي اليمين المكفرة يحلف ألا يفعل فيكفر ويفعل، ولا يؤاخذه الله بذلك، ولكن يؤاخذه بما يحلف عليه وقلبه يتيقن أن يمينه كذبة. فتلك اليمين لا كفارة فيها، وهي اليمين الغموس، وهي أعظم من أن تكفر ".
وقيل: لغو اليمين الحنث، لا يؤاخذ الله من حنث في يمينه وكفر، لأن التكفير يسقط الإثم ".
وقال إبراهيم: " هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء، ثم ينسى فيفعله، فيمينه لغو ".
قال نفطويه: " اللغو في نفس اللغة الشيء المطرح يقال: ألغيت هذا، أي طرحته ". واللغة في الأيمان ما لم تكن النية معتقدة له، إنما في عرض الكلام. وهو معنى قول ابن عباس وعائشة.
والسهو داخل في هذه الآية بغير نية، ويدخل فيه أيضاً ما ليس بيمين نحو قول الرجل: " لا وحياتك " وشبهه، وهذا يرجع إلى قول أبي هريرة وقول الحسن المتقدمي الذكر.
وكان ابن عباس لا يرى الكفارة إلا في الإيمان التي تكون لغواً. فأما ما كسبت القلوب، وعقدت اليمين فيه وهي تعلم أنها كاذبة، فلا كفارة فيه، والله يؤخذ على ذلك بما شاء إن شاء.
[كذلك التقدير] عند ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم.
وقال قتادة: " المؤاخذة هنا في الإيمان الفاجرة إنما هي الزام الرجل الكفارة على يمينه؛ فمن حلف وهو يعلم أنه كاذب وجبت عليه الكفارة، وهي المؤاخذة التي ذكر الله. ومن حلف وهو يظن أنه/ صادق، فهو لغو يمين ولا كفارة فيه، ولا إثم ".
وروي عن الربيع مثله. وهو قول عطاء والحكم.
وقال السدي مثل ذلك إلا أنه قال: " يؤخذه في الدنيا بالكفارة على يمينه
والأيمان/ عند أكثر الفقهاء ثلاثة:
- اللغو؛ وهو قوله: " لا والله وبلى والله فلا شيء فيها ".
- والثانية: العمد؛ وهو أن يحلف متعمداً ألا يفعل الشيء، ثم يريد أن يفعله ويرى أن ذلك خير فيكفر ويفعل ولا شيء عليه. وهي التي في قوله: ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩].
- والثالثة: الغموس؛ وهو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كذاب فلا كفارة فيها لعظمها، والله يفعل بفاعلها ما شاء. وهي التي في قوله: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾.
وقل زيد بن أسلم: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. قال: " هو الشرك
ومن قال: " أقسمت ألا أفعل "، فإن أراد بالله وفعل كفر، وإن لم يرد ذلك فلا شيء عليه، وكل/ أسماء الله يجب فيها الكفارة، وكذلك صفاته.
وإذا حلف بالقرآن وحنث، فقال ابن مسعود: " عليه لكل آية كفارة "، وبه قال الحسن البصري.
وأكثر الفقهاء على أن: فيه كفارة يمين، ومنهم من قال: " لا كفارة فيه لعظمه، وجلالة قدره ".
والعهد والميثاق والكفالة إذا أضيف ذلك إلى الله جلّ ذكره وحلف به، فيه كفارة يمين عند مالك وغيره.
ومن قال: " حلفت " ولم يحلف، فإن أراد اليمين كفر. وإن أراد الكذب لم يكن عليه شيء.
ومن حلف بصدقة ماله أو بهديه أن يجعله في سبيل الله؛ فقال عطاء والشعبي وغيره: " لا شيء عليه ".
وروي عن عمر رضي الله عنهـ، وعائشة أن عليه كفارة يمين وهو قول جماعة من التابعين.
وقال مالك: " يخرج ثلث ماله " وهو قول الزهري وغيره. وروي عن ابن عمر وابن عباس أنه: يتصدق من ماله بمقدار الزكاة. وقد قبل: يعني بما جعل على نفسه. روي ذلك عن ابن عمر. وقال قتادة: " يهدي بدنة ".
وقال/ جابر بن زيد: " إن كان ماله كثيراً نحو ألفين فعشرة، وإن كان وسطاً نحو ألف، فسبعة، وإن كان قليلاً نحو خمسمائة فخمسه.
ومن حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث فلا شيء عليه عند أبن المسيب والقاسم بن محمد.
وقال الشعبي ومالك وأبو حنيفة: " يمشي كما حلف ".
وقال ابن شبرمة: " يحرم من يومه ".
وقال مالك رضي الله عنهـ: " إن حنث في غير البلد الذي حلف فيه فعليه أن يأتي إلى ذلك البلد، فيمشي منه ".
ومن حلف بعتق رقبة فحنث، فأكثر الناس [على أن عليه] كفارة يمين، وهو قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة، وحفصة وقاله الحسن.
وقال عطاء: " يتصدق بشيء من حنث في العتق ".
وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وجماعة من الفقهاء: " يعتق من حلف إذا حنث ".
وقوله: ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
أي غفور لأهل اللغو في الأيمان، حليم [في تركه]. العقوبة على أهل
وقوله: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ الآية.
الإيلاء عند ابن عباس هو: أن يحلف الرجل في الغضب ألا يجامع امرأته. وكذلك روي عن علي رضي الله عنهـ، وهو قول النخعي وقتادة والحسن. فإن حلف في غير غضب، فليس بمولي لأنه إصلاح.
وقد ق ل مالك رضي الله عنهـ: " من حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها فليس بمولي ".
وقال ابن مسعود: " يكون مولياً إذا حلف في الرضا والغضب ألا يطأ ". وبه قال الثوري وأهل العراق والشافعي وابن حنبل، وهو قول
وروي عن ابن عباس أنه قال: " لا يكون مولياً حتى يحلف ألا يطأها أبداً ".
وقال مالك رضي الله عنهـ والشافعي: " إذا حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، وتمت الأربعة أخذ بالوطء أو الطلاق؛ يطلق طلقة بائنة تملك بها نفسها، وله مراجعتها إن شاء بعقد مجدد وصداق ".
وقد قال جماعة: " إن الطلاق يقع بمضي الأربعة أشهر ولا يوقف بعدها "، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وجماعة معهما.
وإيجاب توقيفه بعد الأربعة الأشهر هو قول عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة وأبي الدرداء وغيرهم من الصحابة، وعليه أكثر الفقهاء: مالك والشافعي وغيرهما.
وكل يمين عند مالك لا يقدر صاحبها عند الوطء من أجلها فهو مول بها/ لو حلف لغريمه ألا يطأ امرأته حتى يوفيه حقه فهو مول عند مالك. فكل يمين منعت من الوطء فصاحبها مول عند مالك والشافعي والشعبي والنخعي وسفيان وأصحاب الرأي/، وأبي ثور وأبي عبيد، وهو مروي عن ابن عباس.
إلا أن مذهب مالك أنه إذا حلف ألا يطأ فتمضي أربعة أشهر من يوم حلف، يوقف، فإما فاء، و [إما طلق]، سواء رفع إلى السلطان بعد الأربعة أشهر وقبلها، إنما يحسب من يوم حلف، وإذا حلف على أمر يفعله بالطلاق منع من الوطء حتى يفعل ودخل عليه الإيلاء، لكن لا يوقف إلا بمضي الأربعة الأشهر من يوم يرفع إلى السلطان، ولا يحسب له من يوم حلف.
وقوله: ﴿يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾.
قيل/ معناه: على وطء نسائهم، " فمن " بمعنى " على " وفيه حذف مضاف معناه: " على وطء نسائهم "، ثم حذف الوطء كما قال: ﴿مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤] أي " ألسنة وسلك "، ثم حذف الألسنة.
وقوله: ﴿فَإِنْ فَآءُو﴾.
أي رجعوا إلى الوطء، وكفّروا عن عن إيمانهم، فإن الله غفور لهم على يمينهم، رحيم بهم أن يعاقبهم بعد كفارتهم.
قوله: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾.
أي إن لم يكفروا ولا فاءوا إلى الطوء؛ أي رجعوا إليه وأرادوا الطلاق، فإن الله سميع لقولهم، عليم باعتقادهم وعزيمتهم.
قوله: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قروء﴾.
والقرء في اللغة: الوقت، فيصلح للطهر، ويصلح للحيض. والحيض عند أبي حنيفة وغيره أولى به. وهو يقول أحد عشر من الصحابة وجماعة من التابعين والفقهاء.
وهو عند مالك الطهر، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. فإذا طلقها وهي طاهر في طهر لم يمسها فيه فهو قرء تعتد به، وإن لم يبق منه إلا أقله. فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج، وهو قول عائشة. وابن عمر وزيد بن ثابت والقاسم وسالم وسليمان بن يسار/.
والطلاق في الحيض عند أهل العلم مكروه، فدل ذلك على أن الطلاق إنما يكون في الطهر لا في الحيض: [وهو قول النبي عليه السلام]: " فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ " فإذا طلقت/ في الطهر اعتدت به قرءاً.
ودخول الهاء في ثلاثة يدل على أنه الأطهار، لأن الطهر ما ذكر والحيض مؤنث، فلو أريد به الحيض لم تدخله الهاء.
قال ابن عباس: " استثنى الله من هذه الآية اللواتي لم يدخل بهن والحوامل ".
وقال قتادة: " هو نسخ ".
وقال غيرهما: " هو تبيين، لأن هذه الآية يراد بها الخصوص فبين المراد في
قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾.
أكثر أهل التفسير على أن الذي نهين عنه أن يكتمن هو الحيض والولد وذلك أن تقول: " إني قد حضت الثلاثة، وهي لم تحض لتذهب ما يجب لزوجها من الرجعة، أو تكتم الولد ليذهب حقه من الرجعة حتى تلد وهو لا يعلم، فلا يكون له في الرجعة بعد الولادة حق.
وقيل: هو الحمل خاصة؛ وذلك أنهن كن في الجاهلية يكتمن الولد خوفاً ألا يراجعهن أزواجهن، فيتزوجن وهن حوامل، فيلحقن الولد بالزوج الثاني،
وقال السدي: " كان الرجل في الجاهلية إذا أراد الطلاق سأل امرأته هل بها حمل خوف أن يطلقها وهي حامل، فتلحق ولده غيره، فإن كانت تكرهه كتمت حملها ليطلقها، فتلحق الولد غيره، فحرم ذلك.
وهذا القول يدفعه قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ بعد ذكر الطلاق ووقوعه، فإنما ظاهر القرآن يدل على النهي أن يكتمن ذلك في العدة ليذهب حق الرجل من الرجعة؛ إما أن تقول: " قد حضت "، ولم تحض، وأما أنو تقول " لست بحامل "، وهي حامل، فَتَجْحَدُ حتى تضع فتذهب رجعته.
وهذه الآية تدل على أن المرأة مؤتمنة على عدتها وحملها.
ومعنى: ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾.
أي: يحجزهن إيمانهن عن فعل ذلك، وليس ذلك يجوز أن يفعله من لا يؤمن.
قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ/ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾.
أي: أزواج المطلقات أحق بردهن في العدة إن أرادوا بالرد الإصلاح. فإن أراد المضارة، لا يحل له ذلك.
قوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾.
وقيل: معناه: يتزين الرجل للمرأة كما تتزين له. روي ذلك عن ابن عباس.
قوله: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾.
أي في الميراث والجهاد والشهادة ونحو ذلك، وأن فراقهن بيد الأزواج.
وقال الشعبي: " الدرجة هو ما ساق إليها من الصداق، وأنها إذا قذفته حُدَّتْ، وإذا قذفها لم يُحد، وَلاَعَنَ.
وعن ابن عباس: (دَرَجَةٌ): أداء/ حقها إليها ومؤنتها وتركه الواجب له عليها إحساناً ".
وقيل: " الدرجة هو ما زين الله به الرجل من اللحية ". رواه عبيد بن الصباح عن حميد.
قوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي: فعليكم إمساك، هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه؛ وذلك أن الرجل كان يطلق امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فنسخ الله ذلك بأنه إذا طلق ثلاثاً، لم تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر.
وقيل: إنها منسوخة بقوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] وقيل: هي محكمة، وقوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ تبيين لقوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾.
ومن قال: إنها محكمة منهم، قال: " لا ينبغي أن يطلق إلا اثنتين، ثم إن شاء طلق الثالثة أو أمسك لقوله: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾. قاله عكرمة.
وقال الشافعي: " يطلقها في كل ظهر لم يجامعها فيه ما شاء ".
ومعنى ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾: أي: الطلاق الذي يجوز معه الرجعة وتملك المرأة بعده مرتان، فهو تبيين للعدد.
[وقوله]: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان﴾.
هي الثالثة التي لا أملك للرجل على المرأة بعدها، روي ذلك عن النبي [عليه السلام].
وقيل: / معنى ﴿تَسْرِيحٌ بإحسان﴾: يتركها فلا يراجعها حتى توفي عدتها.
وعن ابن عباس: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان﴾: " لا يظلمها من حقها شيئاً ".
قال ابن عباس: " ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ٢١] هو ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾، أي صحبة حسنة، أو ﴿تَسْرِيحٌ بإحسان﴾، لا يظلمها من حقها شيئاً ".
قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾.
اختار أبو عبيد الضم في ﴿يَخَافَآ﴾ على قراءة حمزة، واحتج بقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، فجعل الخوف لغيرهما، ولم يقل: " فإن خافا " وفيه حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان ".
والخوف هنا عند إبي عبيدة بمعنى اليقين. وهذا النص إنما هو في الخلع الذي يكون بين الزوجين، فيأخذ منها ما اتفقا عليه، ويتركها لقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ﴾.
ولا يحل للزوج أن يأخذ من المرأة شيئاً على طلاقها إذا كانت المضارة من قبله، وإنما يأخذ منها على الطلاق إذا كانت هي التي كرهته، وأحبت فراقه من غير مضارة منه لها.
وأكثر الناس على أنها محكمة، وأن له أن يأخذ منها ما اتفقا عليه، وتلك الآية في النساء إنما هي لمن أراد الاستبدال، وهذه لمن خيف منهما ألا يقيما حدود الله، فهما محكمتان.
" وروي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي [بن] سلول وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه ويحبها، فأتت أباها فردها ولم يشكها، فصارت إلى النبي ﷺ وقالت: " إن ثابتاً [يظلمني ويضربني]. فأحضر رسول الله ﷺ ثابتاً فقال: " والله يا رسول الله ما على وجه الأرض أحد أحب إلي منها سواك ". فقال للمرأة: " مَا تَقُولينَ؟. فقالت: " يا رسول الله، ما كنت لأخبرك بخبر ينزل عليك الوحي بإبطاله، هو كما وصف، وفرق بيني وبينه ". فقال ثابت: " فترد إلي الحديقة التي جعلتها لها ". فأمرها النبي ﷺ بردها، ثم طلقها "
، كان ذلك أو خلع كان في الإسلام. والخلع
قال ابن عباس: " هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة للرجل، فله أن يأخذ ما أعطته ويفارقها، فإن كانت راضية به، فلا يحل له أن يضارر بها حتى تفتدي منه، فإن فعل كان ما أخذ حراماً ".
وإنما الخلع إذا كان الشيء المنكر من قبلها؛ / فتقول: " لا أغتسل لك من جنابة، ولا أَبَرُّ لَكَ قسماً " ثم افتدت منه وخالعها، فذلك جائز حسن.
وقال القاسم بن محمد: " لا يحل الخلع حتى يخافا جميعاً ألا يقيما حدود الله في العشرة الواجبة بينهما ".
وقال زيد بن أسلم: " إذا خافت المرأة ألا تؤدي حق زوجها/ وخاف الرجل ألا يؤدي حق زوجته، فلا جناح في الفدية ".
قال مالك: " الأمر عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم تُؤتَ من قبله وأحبت
قال: " ولم أرَ أحداً ممن/ يُقتدى به، يكره أن يفتدى بأكثر من صداقها ".
وقال أبو حنيفة: " لا يكون بأكثر مما ساق إليها ".
والخلع طلقة بائنة عند جماعة من الصحابة والتابعين، وهي قول مالك والشافعي وغيرهما من الفقهاء.
وعدتها عدة المطلقة عند مالك والشافعي وغيرهما.
وهو مروي عند جماعة من الصحابة والتابعين.
ولا سبيل لزوج المختلعة إليها إلا بخطبة ونكاح جديد عند مالك والأوزاعي. وهو قول عطاء وطاوس والحسن النخعي والثوري.
وقال ابن المسيب: " يَرُدُّ عليها ما أخذ منها، وليشهد على رجعتها ". وكذلك
قال مالك: " عليها أن تكمل بقية عدتها ". وكذلك قال الحسن وعطاء، ثم بعد ذلك يراجعها بنكاح جديد إن شاء.
وقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.
أي لا جناح عليها فيما أعطت إذا كان النشوز من قبلها. ولا جناح عليه فيما أخذ إذا كان الضرر من قبلها.
وقيل: ﴿فَلاَ جُنَاحَ/ عَلَيْهِمَا﴾: هو مخاطبة للزوج وحده فيما أخذ منها ليتركها، وهذا كما قال: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، وإنما يخرج من الملح لا من العذب. وكما قال: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١]، وإنما الناسي صاحب موسى. وتقول: " عندي دابتان أركبهما وأسقي عليهما "، وإنما تركب إحداهما.
وقوله: ﴿فِيمَا افتدت بِهِ﴾.
قيل: من صداقها الذي كان أعطاها، لقوله: ﴿مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ والذي أعطاها هو الصداق فرجع آخر الآية على أولها وكان ذلك أبين وأليق بالكلام. قال ذلك الأوزاعي.
قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾. أي هذه حدوده.
" وتلك " إشارة إلى الآيات التي تقدمت/ من قوله: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ إلى ﴿فِيمَا افتدت بِهِ﴾.
فمعنى: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ أي لا [﴿تجاوزنها إلى ما لم يأمركم به، ومن تجاوزها﴾] فهو ظالم.
وقد قال الضحاك: " معناه: من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم " وأنكر ذلك غيره.
قوله: / ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الآية.
وقال الضحاك: " وغيره - كل الفقهاء -: " إن طلقها واحدة بعد اثنتين لم تحل له إلا بعد زواج ".
قوله: ﴿حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾.
يريد الوطء بالعقد الصحيح لقوله ﷺ: " حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ " ومعنى: ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ أي من بعد الثالثة، ولذلك بنيت " بعد " للحذف والذي بعدها.
وعن ابن المسيب: " أنها إذا نكحت نكاحاً صحيحاً لا يراد به تحليل حلت [به له]، وإن لم يقع وطء ". / وهو شاذ.
قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ الآية.
وقيل: هو خطاب للأولياء، ويكون البلوغ التمام.
وكونه خطاباً للأزواج أولى لقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾. وهذا لا يكون للأزواج.
ومعناه إذا كان للأزواج: وإذا طلقتم النساء فبلغن ميقاتهن من انقضاء العدة، أي قربن منها كما تقول: " إذا بلغت مكة فاغتسل " أي إذا قربت منها. أي إذا قربن منها فأمسكوهن.
ومن قال: هو مخاطبة للأولياء قال: نزلت في أخت معقل بن يسار عضلها معقل عن مراجعة زوجها بعد انقضاء عدتها، وكان قد طلقها طلقة واحدة ".
وقيل: هو خطاب للزوج يطلق امرأته طلقة واحدة. فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم يطلقها ليطول عليها، فنهى عن ذلك، وأصل العضل الحبس والمنع. وظاهر الآية يدل على أنه مخاطبة للأزواج. وبلوغ الأجل المقاربة؛ نهى الزوج أن
وأكثر المفسرين على أنها مخاطبة للأولياء؛ ويكون بلوغ الأجل تمامه. وملك المرأة لنفسها، إذا جعلته خطاباً للأولياء.
وإن جعلته خطاباً للأزواج فبلوغ الأجل المقاربة.
فالمعنى: فراجعوهن إن أردتم مراجعتهن.
﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ أي اتركوهن حتى تتم العدة.
﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾. أي: لا يحل لكم أن تراجعوهن مضارة لتطول العدة عليها فيضرّ بها. وقال الضحاك وغيره: " ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾: " هو أن يطلقها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها راجعها، فإذا كادت أن تنقضي راجعها مضارة، وهو لا يريد / إمساكها، فنهى الله عن ذلك ". وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.
قوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
أي من يضارر برجعته فإنما يضر / نفسه لأنه يأثم.
قوله: ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً﴾.
قال الحسن: كانوا على عهد النبي ﷺ يُطَلّق الرجل أو يعتق، فيقال له: ما صنعت؟ فيقول: " إنّي كنت لاعباً "، فأنزل الله: ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً﴾.
وروى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام]: أنه قال: " ثَلاَثٌ جِدُّهُّنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَلاَقُ وَالعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ ".
قوله: ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾. يعني الإسلام.
﴿وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة﴾. يعني القرآن.
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾: أي بالقرآن.
﴿واتقوا الله﴾ أي خافوه فيما أمركم به مما أنزل عليكم ووعظكم به.
قوله: / ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ الآية.
نزلت في رجل كان له أخت، زوجها من ابن عم له، فطلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فأراد أن يتزوجها المطلق لها وهي فيه راغبة، فمنعها أخوها من ذلك.
وقيل: معقل بن يسار. وقيل: ابن سنان.
وقيل: إن جابر بن عبد الله كان أبا المرأة المطلقة فمنعها من أن ترجع إلى زوجها بعد انقضاء العدة أنفة، فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: " نزلت في أولياء المرأة يمنعونها من مراجعة زوجها بعد
وقوله: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾. أي لا تحبسوهن.
وقيل: لا تضيقوا عليهن.
وحكى الخليل: دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ؛ إذا احتبس بيضها.
وأصل العضل الضيق والمنع، ومنه الداء العضال، وهو الذي لا يطاق لضيقه عن العلاج.
وهذه الآية تدل على أنه لا نكاح إلا بولي، إذ لو جاز أن تنكح نفسها لم يخاطب الله الأولياء في المنع لها من الزواج.
قوله: ﴿ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ﴾.
أي هذا المذكور في الآية. و " ذلك " محمول على معنى الجمع ولو قال: " ذلكم " لجاز وهو الأصل.
وقيل: إن ذلك / خطاب للنبي [عليه السلام] فلذلك وُحِّدَ، ثم رجع إلى مخاطبة /
ومعنى: ﴿وَأَطْهَرُ﴾، أي أطهر للقلوب من الريبة لأنه إذا كان في قلوب الزوجين كل واحد من صاحبه شيء، ثم منعا من النكاح الذي هو حلال لهما، لم يُؤْمِنْ أن يتجاوزا إلى ما لا يحل أو يُتّهَمَا بذلك.
﴿والله يَعْلَمُ﴾. أي يعلم أسراركم، وما فيه حسن العاقبة لكم، وأنتم لا تعلمون ذلك.
وقوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾.
هذا خطاب للأولياء بلا اختلاف، فلا يكون البلوغ في هذا إلا تمام العدة. ولو كان على معنى المقاربة، لم يكن للولي حكم في منعها من المراجعة إلا أن يكون الطلاق بائناً فيحتمل البلوغ الوجهين: المقاربة والتمام. فإنما هو في هذا الخروج من العدة، فعند ذلك يقدر الوالي على منع المراجعة. وبهذا علمنا أنه لا نكاح إلا بولي؛ إذ لو كان لها أن تراجع زوجها بغير إذن وليها لم يخاطب الله الأولياء في ترك المنع، فعلم أن للأولياء المنع من المراجعة والإجازة في الطلاق البائن وبعد إتمام العدة في الطلاق الرجعي بهذه الآية.
[ولو] كان قوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يريد به المقاربة لكان الحكم للزوج، يردها
قوله: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾ الآية.
قرأ مجاهد وحميد بن قيس، وابن محيصن / " لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تُتِم الرضاعة " بالرفع بالتاء.
وقرأ أبو رجاء / " الرِّضَاعَةَ " بكسر الراء. وقرأ: " لاَ تَكَلَّفُ " بفتح التاء أراد تَتَكَلَّفُ.
قوله: ﴿لاَ تُضَآرَّ﴾.
من رفع فهو خبر عن الله، معنى الأمر، ومعناه: / لا تضار والدة
والفتح أبين على النهي. ويجوز الكسر، لالتقاء الساكنين والفتح أخف.
وروى أبان عن عاصم " لاَ تُضَاررْ " بالجزم والإظهار، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، غير أن ابن مسعود يفتح الراء الأولى.
وإجماع المسلمين أن تحريم المضارة للطفل من أبويه يدل على الجزم على النهي. كان اليزيدي يقول: " الرفع فيه معنى النهي " كأنه يريد أن الضمة ليست بإعراب، إنما هي لالتقاء الساكنين. وهذا بعيد لأنه يشبه النهي بالنفي.
وقوله: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾.
أَكّدَ " بكاملين " لجواز أن يكون " حولان " معناه حولٌ وبعضُ آخر، لأن العرب تقول: " أَقَامَ فُلاَنٌ شَهْرَيْنِ "، وإن كان أقام شهراً أو بعض آخر. وهذا كما قال: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٠٣]. والمتعجل إنما يتعجل في [يوم ونصف]، وكذلك اليوم الثالث.
والعرب تقول: " لم أرك مذ يومان "، تقوله في اليوم الثاني، وهو لم يتم يومان. ومعنى ذلك: " لا ينزع الولد من أمه وهي تحب رضاعه وتأخذ كغيرها، فيكون " تُضَارَّ " فعلاً لم يسم فاعله، ويجوز أن يكون فعلاً سمي فاعله.
قوله: ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾.
معناه: لا يضارر الوالد فيلقى إليه الطفل بعد ما عرف أمه وَأَلِفَها؛ تفعل ذلك لتقرب عدتها فتتزوج، لأنها إذا كانت ترضع، أبطأ عندها المحيض فتلقي الصبي، وهو لا يقبل غيرها فتضارر بالوالد والولد في ذلك. فنهى الله النساء عن ذلك.
فيجوز أن يكون أيضاً " مَوْلُودٌ " رفع على ما لم يسم فاعله على هذا التفسير. ويجوز أن يكون فاعلاً، ويكون المعنى: ولا يضارر الوالد بولده فيمنعه من أن يرضع أمه، وقد ألفها ولا يقبل غيرها، وهي تأخذ كما يأخذ غيرها فنهى الأب عن ذلك.
قوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا﴾.
أي إن أرادا أن يفطما قبل الحولين عن تراض من الأبوين فلا جناح عليهما
قوله: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾.
أي على الأب رزق المرضعة وكسوتها بالمعروف، ورزق الولد على قدر الجدة، لا يكلف فوق ما يطيق.
﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾.
أي لا [تمتنع من رضاعه]، وتقذفه [إلى أبيه] لتنكي به الأب.
﴿وَلاَ مَوْلُودٌ / لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ لا يمنع أمه من أن ترضعه ليحزنها.
قوله: ﴿وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك﴾.
أي على وارث الصبي مثل الذي على الأب لو كان حياً، أي عليه ألا يضارر بها
قال الحسن: " على عصبته نفقته إن لم يكن له أب ولا مال ".
وقال الضحاك: ﴿وَعَلَى الوارث﴾ " هو الصبي المرضع، عليه نفقة أمه من ماله إن لم يكن له أب ". وهو اختيار الطبري وغيره.
وقال ابن عباس: " على وارث / الصبي من أجر الرضاع مثل ما كان على الأب إذا لم يكن له مال ".
وقال الشعبي ومجاهد وسفيان: ﴿وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك﴾: أي: وعلى وارث الصبي ألا يضار بالأم. وهو مروي عن ابن عباس. فلا يكون ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ على هذا القول إلا " تُفَاعِلَ " بكسر / العين لأن: ﴿وَعَلَى الوارث﴾ معطوف عليه، وهو فاعل، ولا تكون ﴿وَالِدَةٌ﴾ إلا فاعلة.
وقال مالك: " هو منسوخ لا يلزم عصبة نفقة صبي / ولم يبين الناسخ لها. حكاه ابن القاسم في " الأَسَدِيّةِ " عن مالك.
وعن مالك أيضاً أن المعنى: " وعلى الوارث ألا يضار " فهو محكم، وهي رواية ابن وهب وأشهب عن مالك.
وقيل: إن ورثة الصبي ينفقون عليه على قدر / ميراثهم منه لو مات. قاله قتادة، وهو قول أبي حنيفة.
أي إن أبت أمه أن ترضعه أو انقطع لبنها، فأردتم أن ترضعه أجنبية فلا حرج.
قوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُم﴾ أي إذا سلمتم للأم ما [فرضتموه] عليه من الأجرة بالحساب.
وقيل: معناه: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة من الأب والأم، قاله قتادة.
وقيل: معناه: وإذا سلمتم إلى الأم الذي أعطيتموها على الأجرة بالمعروف.
وقال سفيان: " إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرونها حقها بالمعروف، فليس عليكم جناح فيما صنعتم من الاسترضاع إذا أبت الأم رضاعه أو انقطع لبنها ".
وقيل: معناه: إذا سلمت أم الولد، فرضيت برضاعه من غيرها، لتعتد
قوله: ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾ الآية.
هي ناسخة لقوله: ﴿وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول﴾ [البقرة: ٢٤٠] قاله عثمان بن عفان وابن الزبير، فنسخ أربعة أشهر وعشر الحول.
وأما الوصية فنسخها آية الميراث.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: " نسخ منها الحوامل ".
قيل: ليس هو بنسخ، وإنما هو بيان أن الذي في " البقرة " لغير الحوامل وغير المدخول بهن، وزيدت العشرة / على الأربعة أشهر لأن في ذلك يتبين الحمل.
وقال سعيد: " في العشر ينفخ فيه الروح ".
قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿بالمعروف﴾ أي بولي وصداق.
قوله: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء﴾.
هو أن يعرض لها في العدة، فيقول: " إنك لجميلة، وإن النساء من حاجتي، وإني فيك لراغب حريص، ولأحسنن إليك " ونحوه.
قوله: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾.
أي أخفيتم الخطبة ولم تبدوها، لا حرج في جميع ذلك.
قال جابر بن زيد: " ﴿لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً﴾: قال: هو الزنا ".
وقاله الحسن وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: " سراً نكاحاً ".
وأصل السر الغشيان من غير وجهه.
وقال ابن عباس: لا تواعدوهن سراً، ألا ينكحن غيركم، ولا تعاهدوهن
وقال مجاهد وعكرمة: " لا تعاهدها على النكاح و [تأخذ ميثاقها ألا] [تتزوج غيرك، تفعل ذلك معها] سراً ".
وقال ابن زيد: " ﴿لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً﴾: لا تنكحوهن وتخفوا النكاح، فإذا خرجت من العدة، أظهرتموه ".
واختار الطبري أن يكون السر الزنا.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾، هو التعريض المذكور.
قال ابن زيد: " نسخ هذا كله بقوله: ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾.
وأكثر الناس على أنه محكم، وأنه كله نهي عن عقد النكاح في العدة، ثم أرخص في التعريض الذي [ليس هو] بوعد ولا عقد.
وقال السدّي: " حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر وهو الكتاب الذي ينقضي ". وقاله قتادة، وهو قول ابن عباس والضحاك.
قوله: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآية.
رفع الله الحرج عمن طلق المفروض لها الصداق قبل أن يدخل بها.
ومعنى ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾: تجامعوهن. قاله ابن عباس وغيره.
ومعنى: ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ﴾: رفع الجناح أيضاً عمن طلق التي لم يفرض لها قبل الفرض، فمعناه: أو توجبوا لهن فريضة.
قوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾.
قال ابن عباس وغيره: " هو واجب للتي لم يفرض لها؛ يمتع الموسر
وقال أبو حنيفة: " يمتع التي لم يفرض لها، إذا طلق قبل الدخول بنصف مقدار صداقها ". وبه قال الشافعي، ولم يجد / نصفاً من غيره.
وأوجب علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ المتعة لكل مطلقة.
وبه قال الحسين فرض لها أو لم يفرض دخل بها أو لم يدخل.
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: " لكل مطلقة متعة إلا التي سمى لها صداقاً ولم تمس، فحسبها نصف ما فرض لها ".
ومذهب مالك أنه لا يجبر على المتعة أحد من المطلقين إنما هو ندب، وبه قال شريح.
وقد أجمعوا / أن المطلقة قبل الدخول لا تضرب بالمتعة مع الغرباء كان قد فرض لها أم لم يفرض، فدل على أنها غير واجبة، فصارت المتعة في البقرة ندباً لمن أحسن واتقى لا فرضاً.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ﴿عَلَى الموسع قَدَرُهُ﴾ أي على قدر يسره، ﴿وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ﴾: أي على قدر عسره للتي لم يسم لها صداقاً، ولم يدخل بها خاصة ".
ومعنى: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، أي الجناح مرفوع / عنكم في الطلاق قبل المسيس لأنه يجوز أن يقع بعد المسيس الجناح على المطلق، وذلك الذي يتزوج للذوق. قال النبي ﷺ: " إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلاَ الذَّوَّاقَاتِ " فَرَفْعُ الجناح في الطلاق قبل المس يدل على أنه قد يقع في الطلاق بعد المس وهو ما ذكرنا.
وقيل: إنما رفع الجناح عن طلاق التي لم يدخل بها، لأن الرجل يطلق متى شاء
قوله: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ الآية.
بيّن الله في الآية التي قبلها حال من لم يفرض لها، وحض على المتعة لها على قول من قال: هو ندب، وفرضها على قول من قال: هو فرض، ثم بين في هذه الآية حال المطلقة قبل الدخول التي قد فرض لها فرضاً أن تعطى نصف الطلاق الذي فرض لها.
وهذه الآية تبيين لصدر الآية التي قبلها لأن قوله: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ هي المفروض لها.
وقوله: ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: ٢٣٦].
أي أو لم تفرضوا لهن فريضة، فهي غير المفروض لها، فكرر هذه الآية في
وقال قتادة: هذه الآية/ نخست التي قبلها لأنه لم يفرض لها أولاً شيئاً، وجعل لها متعة، ثم فرض لها الآن نصف الصداق ولا متعة لها ".
وهو قول الربيع وجماعة معه.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾.
يريد إلا أن تعفو الثيب أو البكر التي زوجها غير أبيها التي لا ولي لها عن أخذ نصف الصداق.
قال ذلك ابن عباس، وهو قول الجماعة من التابعين والفقهاء.
قوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾.
قال ابن عباس: " هو ولي البكر إذ كانت لا يجوز أمرها في مالها فله أن يعفو عن النصف إن شاء، فإن أبت جاز فعل الولي ".
وقال الزهري وغيره: " هو الأب في انبته البكر، أو السيد في أمته لهما أن يعفوا، وإن أبت ". وهو قول مالك.
قال مالك: " هو الأب في ابنته البكر، أو السيد في أمته ".
وليس له أن يعفو ولم يقع طلاق، إنما العفو طلاق، وكل ذلك في التي لم يدخل بها.
وقاله علي بن أبي طالب ومجاهد وسعيد بن جبير.
وروي أيضاً عن ابن عباس: " أن الذي بيده عقده النكاح هو الزوج المطلق ".
والذي يرد هذا أن العفو إنما هو ترك ما يجب للعافي. هذا أصله في اللغة. وليس هو موضوعاً على إعطاء الرجل ما لا يلزمه فإضافته إلى الولي أولى به وأبين في الخطاب، لأنه ندب إلى أن يترك ما وجب لوليته.
ومن كلام العرب: " عفا ولي المقتول عن القاتل "، أي ترك له حقه من الدية. وليس/ يقال: " عفا القاتل "، إذا أعطى أكثر من الدية التي تلزمه ولو كان العافي الزوج يعطي الصداق كله، لكانت الترجمة عن هذا بالهبة أولى منه بالعفو لأنه إذا أعطى الصداق كله فهو واهب، وليس بعافٍ إنما العافي من يترك حقه، ليس هو من يهب ماله.
وأيضاً فإنه قال: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ يريد الزوجات المالكات لأنفسهن، ثُمَّ قال: ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾، فهذا ثالث غير الأول والثاني ولا ثالث إلا الولي.
وأيضاً فإن الله إنما ذكر العفو بعد/ وقوع الطلاق، فكيف يقال لمن طلق ولا
وقيل: إنما هو مخاطبة للأزواج الذين دفعوا الصداق/ كله، ثم طلقوا قبل الدخول فندبوا [إلى أن يعفوا] عن نصف الصداق ولا يرجعون به على الزوجات.
وهذا القول يدل على أن الآية خاصة في بعض الأزواج، وليست الآية كذلك، إنما هي عامة اللفظ.
ويدل على أيضاً على أن المراد به غير الأزواج قوله: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾، والمطلق لا عقدة بيده من إثبات نكاح التي طلق قبل الدخول/ إنما عقدة نكاحها بيد الولي، فهو المراد. وكذلك غير المطلق لا عقدة بيده، إنما عقدة النكاح للولي، وإنما بيد الزوج عقدة نكاح نفسه، وبيد الولي عقدة نكاح المرأة. وأيضاً فإن معنى: ﴿عُقْدَةُ النكاح﴾ أي نكاحها.
والألف واللام عوض من الهاء كما قال: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النزعات: ٤١]. أي: مأواه، فكان رد الضمير المحذوف إليهن، لأنهن أقرب ذكر في قوله:
قوله: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾.
هذا مخاطبة للأولياء والمطلقات المالكات أمرهن.
وقيل: خوطب بذلك أزواج المطلقات في أن يتركوا الصداق كله إن كان قد ساقوه قبل الطلاق إلى الزوجة.
قوله: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل﴾.
أي لا تتركوا فعل الخير فيما بينكم؛ يتفضل الزوج على المرأة بإعطاء الصداق كله فإن لم يفعل فتنفصل برد نصف الصداق الذي وصل إليها، أو تترك الكل فذللاك فضلها.
قال مجاهد: " هو إتمام الزوج الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها واجب ".
وقال السدي وعكرمة وسفيان وابن زيد مثله.
قوله: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾.
وقال زيد بن ثابت وابن أبي ذئب: " هي الظهر ". وروي ذلك عن ابن عمر.
وروي أن النبي عليه السلام كان يصلي في الهاجرة والناس في هاجرتهم، فلا يجتمع إليه أحد، فتكلم في ذلك فأنزل الله: ﴿والصلاة الوسطى﴾، يريد الظهر.
وقال قبيصة بن ذؤيب: " هي المغرب لكونها بين الليل والنهار ".
وهو قول أبي أمامة الباهلي وزيد بن أسلم وعبد الله بن عمر.
وقد تظاهرت الأخبار عن النبي [عليه السلام] أنها العصر.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح.
قال مالك: " والصبح لا تجمع إلى غيرها، وقد يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ".
قال مالك: " وهي كثيراً ما تفوت الناس ويتلهون عنها ".
قلت: وصلاة الصبح أفضل الصلوات، ولذلك أكد الله في المحافظة عليها، يدل على ذلك قول النبي عليه السلام: " مَنْ شَهِدَ الصُّبْحَ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً، وَمَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لِيْلَةٍ ".
وقال: " بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعَتْمَةِ والصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعونَهُمَا ".
وقال: " لَوْ يَعْلَمُوَ مَا فِي الْعَتْمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ".
ففضل العتمة والصبح على سائر الصلوات، ثم فضل الصبح على العتمة
وقد قال عمر: " لأن أشهد صلاة أحب إلي من أن أقوم ليلة ".
وقد قرأ الرؤاسي: ﴿والصلاة الوسطى﴾ بالنصب، بمعنى: وألزموا الصلاة، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أثبتت في المصحف: " والصلاة الوسطى، وصلاة العصر "، بالواو.
وكذلك روى نافع أن حفصة أمرت أن يكتب ذلك في مصحفها، وقالت سمعت رسول الله ﷺ يقرأها كذلك ".
وليست هذه الزيادة توجب أن تكون الوسطى/ غير العصر، لأن سيبويه قد حكى: " مررت بأخيك وصاحبك " والصاحب هو الأخ، فكذلك الوسطى هي العصر، وإن عطفت بالواو.
وقد بينا أن صلاة الصبح أفضل الصلوات فهي هي بغير شك.
وقرأ ابن عباس: " والصلاة الوسطى صلاة العصر " على التقدير.
وذكر ابن حبيب عن بعضهم أنها صلاة الجمعة، وهو قول شاذ.
وأصل القنوت/ الطاعة، وهو أيضاً طول القيام.
وقيل: هو هنا السكوت لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة.
وقيل: القنوت هنا الدعاء.
وقيل: هو الركوع/ والخشوع في الصلاة.
وقال مجاهد: " هو غض البصر/ في الصلاة وضم الجناح وطول الركوع وأصله كله يرجع إلى الطاعة ".
قوله: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً﴾.
نصبهما على الحال. والمعنى: فصلوا في هذا الحال. والرجال جمع راجل، والمعنى: " فرجالاً " أي مشاة على أرجلكم " أو ركباناً " وهو جمع راكب. وزذلك في الخوف من العدو، وقال: يصلي كيف قدر ماش وراكب.
فمعناه: وإن خفتم من العدو أن تصلوا قياماً في الأرض فصلوا ماشين وركباناً،
قوله: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله﴾.
أي إذا أمنتم من عدوكم فاشكروا الله كما خفف عنكم وعلمكم ما لم تعلموا من أحكامه.
وقال ابن زيد: " معناه إذا أمنتم من العدو فصلوا كما افترض عليكم.
تم الجزء الخامس.
في هذه الآية نسخان، نسخت آية المواريث الوصية.
وقيل: الوصية منسوخة بقول النبي ﷺ: " لاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ "، ونسخت ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ الحول.
وقد قيل: إن هذا ليس بنسخ، إنما هو تخصيص ونقص؛ وذلك أن المرأة كانت إذا توفي زوجها سكنت، وأنفق عليها حولاً إن شاءت. فنسخ ذلك آية الميراث. مقاله الربيع وغيره.
وقال مجاهد: " الآية محكمة، ولها السكنى والنفقة من مال زوجها إن شاءت ".
ومعنى ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي لا تخرج إلا أن تشاء الخروج، فيبطل حقها بخروجها وهو قوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ﴾ أي ليس لها شيء إذا خرجت، وكان ذلك المقام عليها إباحة وندباً ولمي يكن فرضاً، فلها الخروج متى أحبت.
عني بهن اللواتي دخل بهن لأن الآية الأولى عني بها من لم يمدخل بهن وهي ندب لا فرض عند أكثر العلماء. وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال عطاء: " عني بها كل مطلقة أن لها متاعاً حقاً على المتقين كالثياب والنفقة والخادم ونحوها على قدر الطاقة ".
وقال ابن زيد: " هذا يوجب المتعة/ لكل مطلقة ". هذا معنى قوله.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت﴾.
قال ابن عباس: كانوا أربعة ألاف خرجوا فراراً من الطاعون ".
وقيل: فراراً من الحمى، حتى إذا كانوا بموضع شاء الله فيه موتهم أماتهم، فمر بهم نبي فدعا ربه أن يحميهم فأحياهم.
أحيوا بإذن الله، فحيوا. فتلك الرائحة فيهم.
وقيل: إن اسم ذلك النبي حزقيل.
وقال وهب بن منبه: " أصاب ناساً من بني إسرائيل بلاء وشدة فشكو ما أصابهم إلى نبيهم وتمنوا الموت لما هم فيه. فأوحى الله إليه: أي راحة لهم في الموت، أيظنون أنني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت، فاطلق إلى جبانة كذا، فإن فيها أربعة
وقال الضحاك: " هم ألوف كثيرة أمروا أن يقاتلوا في سبيل الله ففروا من الجهاد، فأماتهم الله ثم أحياهم، وأمرهم أن يعاودوا الجهاد، ودل على ذلك قوله: ﴿وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
وقيل: كانوا أربعة آلاف من بني إسرائيل عصوا الله، وصرفوا عن
وقال السدي: " كانت قرية عند واسط وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية، وهلك أكثر من بقي في القرية، فلما ارتفع الطاعون/ رجع الهاربون إلى القرية. فقال الذين بقوا من أهل القرية: لو صنعنا مثل ماصنع أصحابنا بقينا ولئن وقع الطاعون مرة أخرى لنخرجن معهم، فوقع من قابل، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً ثم نزلوا بواد أفيح فناداهم ملَك من أسفله، وآخر من أعلاه أن موتوا، فماتوا. فمر بهم نبي، فوقف عليهم، وجعل يفكر في أمرهم، فأوحى الله تعالى إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وقيل له: فنادِ فيهم.
فنادى: يا أيتها العظام: إن الله يأمركِ أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض، فاجتمعت، ثم/ ناداها فاكتست اللحم ثم ناداها فقامت ".
قوله: ﴿وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
قيل: هو أمر مراد للذين أحياهم الله بعد موتهم لأنهم فروا من الجهاد فماتوا.
وقيل: هو عام لجميع الخلق.
قوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ﴾ الآية.
قال ابن زيد: " هذا في الجهاد يضاعف له بالواحد سبعمائة.
ولما نزلت الآية، قالت اليهود: " هو فقير يستقرض "، يُمَوِّهُونَ بذلك على الضعفاء، فأنزل الله: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ [آل عمران: ١٨١].
" وروي أن هذه الآية نزلت في أبي [الدحدح الأنصاري كان من أفاضل الأنصار رحمه/ الله. ولما حض الله المؤمنين على الصدقة، قال: يا رسول الله، ربنا يستقرض منا؟ قال رسول الله [عليه السلام]: نعم، ليعظم بذلك ثوابك، فقال يا رسول الله، والله ما أَمْلِكُ غير حائطي، وقد جعلته لله تعالى وأرضى بثوابه. ثم مضى إلى الحائط وفيه امرأته وصبيانه، فصاح من خارج بامراته: خذي بيد الصبية فاخرجي، فإني سمعت الله يستقرض خلقه ليعظم بذلك ثوابهم فأقرضته حائطي. فقالت له امرأته: لا تقيل ولا تقال، ربح بيعك. وأخذت بيد الصبية، وخرجت والنخيل موقورة رطباً وزهواً. فقال رسول الله ﷺ: " كم من غدق مذلل في الجنة لأبي الدحداح ".
وعن الحسن أنه قال في حديث له طول: " لما نزلت الآية أتى أبو الدحداح النبي ﷺ وقال: يا نبي/ الله إني قد أقرضت الله حائطي. فقال له رسول الله ﷺ /: أَيُّ أَحَدِهِمَا يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ؟ قال: اختر خيرهما. قال: أَبْشِرْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، فَإِتنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَ لَكَ ذَلِكَ فِي الجَنَّةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ. قال: فمضى أبو الدحداح وأخرج أولاده من الحائط وجعل يخرج التمرة من فم هذا ومن حجر هذا، ومن كم هذا، ويلقيها في الحائط وأنشأ يقول: "
يَا أُمَّ دَحْدَاحِ هَدَاكِ الهَادِي | إِلَى سَبِيلِ الخَيْرِ وَالرَّشَادِ |
بيني مِنَ الحَائِطِ وَسْطَ الوَادِي | فَقَدْ مَضَى قَرْضاً إِلَى التَّنَادِ |
أَقْرَضْتُهُ الهَ عَلَى اعْتِمَادِ | طَوْعاً بِلاَ مَنٍّ وَلاَ ارْتِدَادِ |
إِلاَّ رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ | فَوَرِّطِي الحَائِطَ قَبْلَ الغَادِ |
وَارْتَجِلي بالْفَقْرِ وَالأَوْلادِ/ | قَبْلَ تَدَاعِيهِمْ إِلَى الجَدادِ |
وَاسْتَبْقِي وُفقْتِ لِلرَّشَادِ | إِنَّ التُّقَى وَالبِرَّ خَيْرُ زَادِ |
" فأجابته أم الدحداح: "
بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ وَفَلاَحْ | مِثْلُكَ أَجْرَى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ |
وَانْتَهَزَ الحَظَّ إِذَا الحَظُّ وَضَحْ | قَدْ مَتَّعَ اللهُ عِيَالِي مَا صَلَحْ |
بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَهْوِ الْبَلَحْ | وَاللهُ أوْلَى بِالَّذِي كَانَ مَنَحْ |
مَعْ عَاجِلِ التَّضْعِيفِ فِيمَا قَدْ شَرَحْ | وَالمَرء يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ |
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. أي إليه مرجعكم في معادكم.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ/ مِن بَعْدِ موسى﴾ الآية. معنى أَلَمْ تَرَ، في جمع القرآن: ألم تعلم، ألم يبلغك خبرهم يا محمد.
والملأ هنا أشرف القوم ووجوهم، جمع لا واحد له من لفظه. والنبي، قال
وقال وهب: اسمه إسمويل.
وقيل: هو يوشع بن نون، قاله قتادة: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما وذلك بعد موت موسى.
قال السدي: " كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة/ وكان ملك العمالقة جالوت، فظهرت العمالقة على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية فسألوا الله أن يبعث إليهم/ نبياً يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلك من عندهم، فلم يبق إلا أمرأة حبلى من شيخ من سبط النبوة، فأخذوها وحبسوها في بيت خوفاً أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبتهم في ولد ذكر منها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يزرقها غلاماً، فولدت غلاماً، فسمّته سمعون إذ قد سمع الله دعاءها فيه فكبر وتعلم التوراة فأتى جبريل عليه السلام، والغلام نائم إلى جنب الشيخ فدعاه بلحن الشيخ،
فقال لهم سمعون: عسى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا.
فقالوا وكيف لا نقاتل، وقد غلب علينا وأخرجنا من ديارنا وأبنائنا ". أي أسر منهم من أسر فأخرج من دياره وأبنائه، وهم في وقت قولهم قد كانوا في ديارهم وأبنائهم، ولكن المعنى: أن من أسر منهم قد فُعِلَ به ذلك، فأُخبروا عن أنفسهم والمراد به بعضهم، فهو عام يراد به الخصوص.
فأما قوله: ﴿عَسَيْتُمْ﴾، فقد ضعف قراءة من كسر السين لأنه يلزم أن يجيز " عَسِيَ أَنْ أَقُومَ "، وذلك لا يقال.
وقد حكى أهل اللغة؛ يعقوب وغيره/، " أن الكسر مع المضمر خاصة، لغة ".
قال أبو غانم: " هي لغة أهل الحجاز يكسرون مع المضمر خاصة ".
قوله: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً﴾.
قال لهم ذلك سمعون بأمر الله له، [فلم يرضوا] به، وكان طالوت هو من سبط ابن يامين بن يعقوب، فقالوا: أنى يكون له الملك علينا، وهو من سبط ابن يامين، ولا ملك فيه.
﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك﴾. لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب.
﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال﴾: عابوه/ بفقره.
قيل: طالوت كان سقاءً وكان دباغاً.
قال ابن عباس: " كان من بني إسرائيل سبط نبوة وسبط خلافة، ولم يكن طالوت من أحد السبطين، فلذلك قالوا: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا﴾ أي من أين له ذلك؟، وليس هو [من أحد] السبطين ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ﴾، لأنا من أحد السبطين ".
وقال غيره: " [كان طالوت من سبط قد أتوا] ذنباً فنزع منهم الملك، فلذلك أنكروا أن يكون ملكاً إذ هو من سبط قد أتوا ذنباً، ونزع منهم الملك ".
قال وهب بن منبه: " كان طالوت يطول بني إسرائيل من منكبيه إلى فوق؛
قوله: ﴿والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ﴾. أي: يضعه حيث يشاء.
﴿والله وَاسِعٌ﴾. أي: يوسع من فضله على من يشاء.
﴿عَلِيمٌ﴾ بمن هو أحق بالمملكة، وبما فيه حسن العاقبة وهذه الآية تدل على جواز إقامة المفضول لأن نبيهم كان أفضل من طالوت فقد قدم المفضول على الفاضل.
قوله: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ الآية.
دلت هذه الآية على أن في الكلام حذفاً واختصاراً كأنهم قالوا: ما آية ملكه وما علامته؟ فقال: آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة. وهذا التابوت كان عندهم من عهد موسى ﷺ وهارون/، فسلبهم إياه ملوك من أهل الكفر، فجعل الله رده عليهم آية لملك طالوت.
وقال أهل التفسير: كان بنو إسرائيل ينبهون بالتابوت ويستنصرون به على الأعداء، ويقدمونه أمامه إذا قاتلوا أهل الكفر. فلما عصوا الله تعالى وخالفوا أنبياءه، أظهر الله عليهم أهل الكفر، فسلبوهم التابوت وجعلوه في مخرأة عناداً وتصغيراً له. فلما تقذر الموضع الذي هو فيه، ابتلاهم الله بالواسير، فضاقوا بها ذرعاً وعلموا السبب الذي من أجله ابتلوا بها، فأجمع رأيهم على أخراج التابوت، فأخرجوه وجعلوه على بقرة ذات لبت، فحملته الملائكة حتى وضعته بين بين إسرائيل، فرضوا بطالوت ملكاً.
وكان لهم في هذا التابوت آية عظيمة كانوا يهزمون به العدو ويظهرون به على الكفار. فقالوا: إن جاءنا التابوت آمنا وسلمنا، وكان العدو الذين أخذوه أسفل
وقال ابن عباس: " لم يبق من الألواح إلا سدسها، وكانت العمالقة
قال ابن عباس: " بلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة ".
قال وهب: " كان نحو ثلاثة أذرع في ذراعين ".
قوله: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾.
قيل: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. قال ذلك على بين أبي طالب.
وروي عنه أنه قال: " هي ريح خجوج ولها رأسان ".
وقال السدي: " هي طست من ذهب من الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، وفيها رضاض الألواح. وكانت الألواح من درر وياقوت وزبرجد ".
وروي عن وهب بن منبه " أن السكينة روح/ من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء، بين لهم ما يريدون ".
وقال ابن جريج: " سألت عطاء عن السكينة فقال: هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ".
وقال الربيع: " السكينة الرحمة ".
وقال قتادة: " السكينة الوقار ".
وروى الضحاك عن ابن عباس أن السكينة دابة مثل الهرّ
وقال بعض بني إسرائيل من علمائهم: " السكينة رأس هرة ميتة كانت إذ صرخت في التابوت صراخ الهر، أيقنوا بالنصر ".
واختار الطبري أن تكون السكينة ما يسكنوه إليه من الآيات، وهو قول عطاء، وكل ما ذكرنا من الأقوال فهي آيات تسكن إليها النفوس، فهي داخلة تحت هذا القول.
وقوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى﴾.
قيل: هي عصا موسى، ورضاض الألواح لأن موسى ﷺ حين ألقى
وعن السدي أنه قال: " هي التوراة ورضاض الألواح والعصا ".
وقال أبو صالح: " هي لوحان من التوراة وثياب موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم وعصاهما وكلمة الفرج، لا إله إلا الله الحليم الكريم، وسبحان الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين ".
وقيل: هي عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح. قاله أبو صالح وعطية بن سعد.
وقيل: " هي العصا وحدها.
وقال القتبي: " هو من المَنِّ الذي كان ينزل عليهم ورضاض الألواح.
قوله: ﴿تَحْمِلُهُ الملائكة﴾.
قيل: حملته إليهم عياناً حتى وضعته بين أظهرهم.
وقيل: حملته حتى وضعته في دار طالوت.
وقيل: حمل إليه التابوت بأمر الملائكة، كما تقول: " حَمَلَ السلطان الأمير إلى بلد كذا "، وإنما/ أمر بحمله ولم يحمله هو/ بنفسه، فلما وصل إليهم التابوت أقروا غير راضين، وخرجوا للقتال ساخطين. قال ابن زيد.
وقيل: معنى ﴿تَحْمِلُهُ﴾ تسوقه علجة تجرها بقر. وقد ذكرنا ذلك.
إن كنتم تصدقون إذا جاء التابوت، ولم يكونوا مؤمنين قبل مجيء التابوت لأنهم كذبوا بنبيهم/ فيما قال لهم وسألوه أن يبين صدقه بآية.
قوله: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ الآية.
أي مختبركم، وذلك أنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين العدو [وكان قد أخرجوا] في ثمانين ألفاً، ولم تخلف منهم إلا ذو عذر. والنهر بن الأردن وفلسطين، امتحنهم الله به على عطش كانوا فيه.
فقال: " من شرب منه فليس مني: ، أي ليس من أهل ولايتي ".
﴿إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ سمح الله لهم في الغرفة.
﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾، أي من تركه، ولم يشرب منه فهو مني.
فلما جاوزوا النهر شربه أكثرهم، ولم يقنعوا بغرفة، فكان من شرب عطش، ومن اغترف غرفة روى. وجعل الكفار منهم يشربون فلا يروون، والمؤمن يغترف
وقال ابن زيد: " قال طالوت حين فصل، لا يصحبني إلا من نية في الجهاد، فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يصحبه منافق رجعوا كفاراً، وأخذ من بقي منهم غرفة، ومنهم من لم يمسه ".
وكان البراء يقول: " إن أصحاب النبي عليه السلام يوم بدر، على عدة من جاز مع طالوت النهر، وذلك ثلاثمائة وبضعة عشر ".
وقال السدي: " عبر/ النهر معه أربعة ألاف، ورجع ستة وسبعون ألفاً، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، قال المنافقون منهم: ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾، فرجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وخلص طالوت في ثلاثمائة وبضعة عشر، - عدة أهل بدر -، وهم الذين قالوا: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾.
قال أكثر المفسرين: واختبرهم الله بالنهر، وامتحنهم/ بالعطش الشديد فشربوا إلا قليلاً منهم اغترفوا ولم يكثروا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان جالوت في مائة ألف.
قوله: ﴿والله مَعَ الصابرين﴾ أي إذا صبروا في طاعته.
وذكر ابن وهب أن ابن عباس قال لكعب: أخبرني عن ست آيات في القرآن لم أكن علمتهن، ولا تخبرني عنهم إلا بما تجد في كتاب الله المنزل: ما سجين؟ [المطففين: ٨] وما عليين؟ [المطففين: ١٨] وما سدرة المنتهى؟ [النجم: ١٤]، وما جنة المأوى؟ [النجم: ١٥] وما بال أصحاب الرس ذكرهم الله في الكتاب؟ [ق: ١٢]
قال كعب: " والذي نفسي بيده لا أخبرك عنهن إلا بما أجد في كتاب الله المنزل.
أما " سجين "، فإنها صخرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها اسم كل شيطان. فإذا فبضت نفس الكافر، عرج بها إلى السماء، فغلقت أبواب السماء دونها ثم رمي بها إلى سجين فذلك سجين.
وأما " عليون "، فإنه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، حتى تنتهي إلى العرش، فتخرج كف من العرش فتكتب له: نزله وكرامته فذلك " عليون ".
وأما سدة المنتهى، فإنها سدرة عن يمين العرش، انتهى إليها علم العلماء فلا يعلم العلماء ما وراء تلك السدرة.
وأما " جنة المأوى "، فإنها جنة تأوي إليها أرواح المؤمنين.
وأما " أصحاب الرسّ "، فإنهم كانوا قوماً مؤمنين يعبدون الله في ملك جبار لا يعبد الله فخيرهم أن يكفروا أو يقتلهم، فاختاروا/ القتل على الكفر، فقتلهم ثم
وأما " طالوت "، فإنه كان من غير السبط الذي الملك فيه فلذلك رغب عنه قومه.
وأما " إدريس "، فإنه كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله على جميع أهل الأرض، فاستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه فأذن الله له أن يؤاخيه.. الحديث " وهو مذكور في مريم بتمامه والله المستعان.
قوله: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ الآية.
أي أنزل علينا الصبر لقتالهم وانصرها عليهم.
قوله: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك﴾.
أي أتى داود، وذلك أن جالوت برز وقال: من يبرز فيقتلني، فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، فأتى بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله فألبسه/ طالوت سلاحاً، فكره داود أن يقاتله بسلاح، وقال: إن الله إن لم ينصرني عليه، فلا تغني السلاح شيئاً، فخرج بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار، ثم
فقال له داود: " بل أنت عدو الله شر من الكلب ". فأخذ داود حجراً فرماه بالمقلاغ، فأصاب بين عينيه حتى نفذ في دماغه، وصرع جالوت وانهز من معه، وأخذ رأسه. ورجع الناس إلى طالوت، فادَّعَوْا قتل جالوت، فأتى بعضهم بسيف وبضعهم بشيء من جسده، والرأس مع داود.
فقال طالوت: " من جاء بالرأس فهو الذي قتله. فجاء داود به، وطالب طالوت بما وعده. فندم طالوت على ما جرى بينهما من الشرط، فقال طالوت: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاجعل صداقها ثلاثمائة غلفة من أعدائنا - يرجو بذلك أن يتقل داود -: فغزا معه داود، وأسر ثلاثمائة وقطع غلفهم وجاء بها، فلم يجد بداً من تزويجه وأدركته الندامة، فأراد قتل داود حتى
قال ابن إسحاق: " إن داود كان له أربعة إخوة خرجوا مع طالوت، وبقي داود في الغنم يرعاها لهم، وكان أصغرهم، فأمره أبوهأن يحمل إليهم زاداً ويرجع، وفخرج داود ومعه زاد إخوته ومخلاته فيها حجارة، ومقلاعه الذي يرمي به فمر بحجر فناداه يا داود، خذني فاجعلني في مخلاتك/ تقتل بي جالوت، فإني حجر يقعوب، فأخذه [وجعله] في مخلاته ومضى فناداه حجر أخر مثل ذلك، وقال: أنا حجر إسحاق، فأخذه ومضى، فنادي ثالث مثل ذلك، وقال: أنا حجر إبراهيم فأخذه/ ووصل إلى الوقوم فدفع إليهم أزودتهم، فسمع داود خوض الناس في العسكر وتعظيمهم لأمر
فأدخل عليه فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون أمر هذا العدو ووا لله لو أردته لقتلته. فقال له طالوت: يا فتى، ما عندك من القوة على ذلك، وفيمن جربت نفسك؟
قال داود: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه وآخذ برأسه فأفك لحييه عنها، فآخذها من فيه، فادع لي بدرعك حتى ألبسها، فدعا بالدرع فلبسها. فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت فلما التقى الناس، قال داود: أروني جالوت. فأروه إياه على فرس، فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تتواثب في مخلاته [ويقول] هذا: خذني، وهذا خذني. فأخذ أحدها وجعله في مقلاعه، ثم أرسله فصك به بين عينيه، ورفعه، وتنكس عن دابته فقتله. وانهزم وقال الناس: قتل داود جالوت، وخلع طالوت حتى لم/ يسمع له ذلك ".
﴿وَآتَاهُ الله الملك والحكمة﴾.
أي داود. والحكمة: النبوة.
أي بدفع أهل الطاعة عن أهل المعصية، وبالبر عن الفاجر.
﴿لَفَسَدَتِ الأرض﴾. أي بهلاك أهلها.
وروى ان عمر عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِنَّ الله لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مَائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلاَءَ " ثم قرأ ابن عمر ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾.
وعن جابر بن عبد الله، قال: قال [النبي عليه السلام]:
" إِنَّ اللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاَحِ المُسْلِمِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتِ جِيرَانِهِ. وَلاَ يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مَا دَامَ فِيهِم ".
وقيل المعنى: لولا أن الله أمر بحرب الكفار، لكان إفسادهم في الأرض أكثر، ولولا أمره في الحرب لَعُمِلَ بالكفر، فيهلك الناس بذنوبهم.
قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق﴾.
أي هذه آيات الله، أي علاماته تتلى عليك يا محمد.
﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾.
أي ما تلي عليك من إماتة من ذكر وإحيائه، وبعث طالوت ملكاً وقتل داود جالوت، وشبه ذلك مما تقدم من الآيات/ التي لا يخبر بمثلها إلا نبي، وإنك إذ جئتهم بهذه الآيات والحجج وأنت أمي لا تقرأ الكتاب لمن المرسلين إذ لا يأتي بهذه الآيات المعجزات إلا مرسل.
قوله: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا/ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾.
قال أبو العزم " ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ هو موسى، ورفع بعضهم درجات: هو محمد ﷺ أرسله إلى الناس كافة، وكلمته الشجرة، وأنشق له القمر وأطعم الخلق الكثير ومن اليسير من الطعام في أشباه لهذا لا تحصى، رفع الله بها درجة محمد صلى الله عليه [وسلم].
وروى أبو موسى الاشعري أن النبي ﷺ قال: " أُعْطِيتُ خَمْساً/ لَمْ يُعْطَهُنَّ [أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِل لِنَبيٍّ كَانَ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ سَأَلَ الشَّفَاعَةَ وَإِنِّي أَخَّرْتُ شَفَاعَتِي فَجَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً ".
أي أعطيناه الحجج والدالة على نبوته، وهي: إبراء الأكمة، وأحياء الموتى ونفخه في الط ين فيكو طائراً، وشبه ذلك.
﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾.
أي قويناه بجبريل، وقد تقدم الاختلاف في روح القدس.
وهو جبريل عند الضحاك وغيره.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم﴾.
أي من بعد الرسل.
وقال قتادة: " من بعد [عيسى وموسى صلى الله على محمد وعليهما [وسلم خاصة. " وهو قول الربيع.
﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾.
﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
أي يوقفق من يشاء فيطيع، ويخذل من يشاء فيعصي.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾.
أي يأتي يوم هذه صفته، أنه لا بيع يه ولا خلة ولا شفاعة. أي يأتون يوم هذه صفته.
وعني بالنفقة هنا الزكاة [و] التطوع.
أمرهم تعالى أن يدخروا لأنفسهم من ذلك من قبل أن يأتي يوم صفته أنه ﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ﴾: أي لاتباع [فيه] الأعمال فلا كسب ﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾: أي لا صداقة.
﴿وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾: أي لا شفاعة للكافرين.
فالآية عامة الظاهر خاصة، قد بينت أنها خاصة/ للكافر السنة. ويجوز أن يكون/ المعنى: ولا شفاعة إلا بإذن الله بدليل قوله بعد هذا: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥]. وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: ٢٣].
وفي القرآن جواز الشفاعة لمن شاء الله لأنه قد قال: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨]، وقال تعالى: ﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾.
فهذا كثير يدل على جواز الشفاعة يوم القيامة/ ممن شاء الله عزو جل ولمن شاء الله سبحانه فالآية مخصوصة [في الكفار]، لا شفاعة لهم ولا فيهم.
قوله: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾.
كما تقدم في أول الآية/، ذكر صنفين كافرين ومؤمنين في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾. صرف آخر الآية إلى الكفار بعد أن خص ذكر أهل الإيمان في وسط الآية بما ذكر تعالى.
قوله: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ الآية.
أجاز النحاس: لا إله إلا إياه على الاستثناء.
وقال ابن عباس: " أشرف آية في القرآن الكرسي ". نبه الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ألا يعبد غيره، وأن يحذر مما وقع فيه من تقدم ذكره، في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ واختلفوا فاقتتلوا وشبهه.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله ﷺ: " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِي إِذَا نَامَ، لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ الله حَتَّى يَنْتَبِهَ. وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا انْتَبَهَ، لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ الله حَتَّى يَعُودَ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ اللهِ تعالى حَتَّى يَعُودَ. وَمَنَ قَرَأَهَا عِنْدَ حِجَامَةٍ كَانَتْ لَهُ مَنْفَعَتَانِ: مَنْفَعَةٌ لِلْحِجَامَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَمَنْفَعَةٌ لِلْحِجَامَةِ
وروى أبو هريرة أن النبي [عليه السلام] قال: " لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وَسَنَامُ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ، مِنْهَا آيَةٌ لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلاَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَهِيَ آيَةُ الكُرْسِي ".
وقوله: ﴿الحي القيوم﴾. الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا يزول.
وقيل: بل هو اسم من أسمائه تسمى به، فقلناه تسليماً لأمره.
وقوله: ﴿القيوم﴾.
قال ابن عباس: " معناه: الذي لا يزول ".
وقال مجاهد: " معناه القائم على كل شيء ".
وقال ابن كيسان: " ليس في كلام العرب، فعول من الواو ".
وروي عن عمر أنه/ قرأ " الْقَيَّامُ " ووزنه " فَيْعَالٌ " من " قَامَ ".
وقرأ علقمة " الْقَيِّمُ "، ووزنه عند البصريين " فعيل "، ثم أدغم فكان أصله قيوماً، وأصل عند الكوفيين " قويم " مثل فعيل، ويلزمهم ألا يعل كما لم يعل " طويل " وشبهه.
وصفات/ الله مطلقة في غاية الكمال والتمام، لا يجوز عليها حوالة ولا تغيير، بخلاف صفات المخلوقين.
قوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾.
أي نعاس. قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وغيرهم. ولا نوم فيستثقل.
وأصل " سنة " وسنة، كزنة وعدة.
وقال الربيع: " السنة هو الذي كون به الإنسان بين النائم واليقظان، وهو الوسنان، والنوم الاستثقال ".
نفى الله تعالى عن نفسه الآفات التي تدخل على المخلوقين، فتذهب حسهم تعالى عن ذلك.
وقد روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " وَقَعَ نَفْسِ مُوسَى ﷺ: هَلْ يَنَامُ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؟ فأَرَسَلَ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكاً فأَرَّقَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ أَعْطَاهُ قَرُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ بِهِمَا. فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ/ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَنْ الأُخْرَى، حَتَّى نَامَ نَوْمَهُ فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتْ القَارُورَتَانِ، فَجَعَلَ اللهَ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً "، أي أن الله لو كان ينام لم تمتسك السموات والأرضون
قوله: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾.
أي من يشفع لمن أراد الله عقوبته إلا بأمره لهم بالشفاعة. وهذا دليل على جواز الشفاعة بإذنه لمن شاء من رسله وأوليائه. وقيل: معناه: من ذا الذي يذكر الله بقلبه حتى يأذن له، لا إله إلا هو.
قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
قال ابن جريج: " يعلم ما مضى أمامهم من الدنيا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما يكون بعدهم من أمر الدنيا والآخرة ".
وهذا يدل على/ قدم علم الله تعالى، وأنه لم يزل/ عالماً ولا يزال.
﴿إِلاَّ بِمَا شَآءَ﴾. ما شاء هو أن يعلمه.
قوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾.
قال ابن جبير عن ابن عباس: " كرسيه: علمه "، ودل على ذلك قوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾.
قال أبو هريرة: " الكرسي بين يدي العرش ".
قال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه ".
قال ابن زيد: " حدثني أبي، قال: قال رسول الله ﷺ /: " مَا السَّمَوات السَّبْع فِي الكُرْسِيِّ إِلاَّ كدرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ ".
وقال أبو ذر: سمعت النبي [عليه السلام] يقول: " مَا الْكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ".
وروى ليث عن مجاهد أنه قال: " ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ".
وروى الأعمش عن مجاهد أنه قال: " مثل السموات تحت الكرسي كحلقة ملقاة في الفلاة ".
وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: " الكرسي الذي وسع السموات والأرض موضعه من العرض موضعه من السرير، ولا يقدر قدر العرش إلا
وقال الحسن: " الكرسي هو العرش نفسه ".
وقال الضحاك: " كرسيه الذي يوضع تحت العرش ".
وقيل: " كرسيه: قدرته ".
اختار الطبري أن يكون علمه لقوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾، ولقوله: ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ [غافر: ٧].
وفيه لغتان: ضم الكاف وكسرها.
قوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ﴾.
أي لا يثقله ولا يشق عليه. يقال: ما آدَكَ هو لي آئِدٌ ".
وقال القتبي:: يقال: آدَاهُ يَؤُودُهُ، [وَأَدَهُ] يئده، والوأد الثقل ". والهاء في
وقال أبو إسحاق: " يجوز أن تكون للكرسي ".
وقوله: ﴿حِفْظُهُمَا﴾. أي حفظ السموات والأرض.
﴿وَهُوَ العلي﴾. أي ذو الارتفاع عن شبه خلقه بقدرته.
﴿العظيم﴾.
أي لاشيء أعظم منه جلالة وهيبة وسلطانا. ولا يحسن أن يكون بمعنى العلو في المسافة والارتفاع من مكان إلى مكان تعالى الله عن ذلك - إنما هو علو قدرة وجلالة وهيبة وسلطان، لا علو ارتفاع من مكان إلى مكان، ليس كمثله شيء. لا يجوز عليه الحركة ولا الانتقال ولا التغير من حال إلى حال، فافهمه.
وقيل: معنى ﴿العلي﴾: العلي عن النظراء والأشباه، لا علو مكان.
وقيل: إن ﴿العظيم﴾ هنا بمعنى المعظم، الذي يعظمه خلقه لم يزل على ذلك. ولا يحسن أن يتأول أن تعظيمه محدث. / بل لم يزل معظماً قبل كون الخلق كما
وقد طعن/ في هذا القول.
وقيل: يلزم ألا يكون معظماً قبل الخلق ولا بعدهم، إلا معظم له. فالجواب عن ذلك ما ذكرنا أنه لم يزل ولا يزال كذلك كالعلم والقدرة وشبههما. تقول العرب: " هذه خمر عتيقة "، بمعنى معتقة. وقيل: معنى " العظيم ": أن له عظمة هي صفة له/ لا تكيف.
قوله: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾.
أكثر الناس على أن هذه الآية مخصوصة نزلت في أهل الكتاب ألا يكرهوا على الدين، إذا أدوا الجزية. فأما أهل الأوثان فلا تؤخذ منه الجزية ويكرهون على الدين. قاله ابن عباس؛ قال: " كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَهُ، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع
وقد قيل: إن الآية منسوخة منسخها: ﴿يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ [التوبة: ٧٣].
وأكثر الناس على أن هذه الآية نزلت في غير عبدة الأوثان، ومن [لاكتاب له]، ومن لا يؤدي الجزية من أهل الكتاب.
والألف واللام في " الدِّين " عوض من ضمير يعود على الله. والمعنى: " وهو العلي العظيم لا إكراه في دينه ".
وقيل: هما للتعريف. والدين: الإسلام.
قوله: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾.
قرأ أبو عبد الرحمن " الرَّشَدَ " بفتحتين، وهما لغتان، كالبُخْل والبَخَل والشُّغْل والشَّغَل والسُّقْم والسَّقَم والعُدْم والعَدَم/ والعُرْب والعَرَب، والعُجْم والعَجَم، والسُّخْط والسَّخَط، والحُزْن والحَزَن، والوُلْد والوَلَد.
وقال بعضهم: غَوَى يَغْوِ/ إذا عدا الحق فضل، فمعناه: استبان الإيمان من الكفر.
قوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت﴾ أي بالشيطان، والجبت: السحر.
وقيل: الكاهن.
وقال مجاهد في قوله ﴿يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت﴾ [النساء: ٦٠]، هو كعب بن الأشرف، وهو مشتق من " طغى " مقلوب وأصله طَغَوُوتٌ مثل جَبَرُتٌ.
وقيل أصله طَيَغُوتٌ لأنه يقال: طَغَوْتُ وَطَغَيْتُ.
وقيل: هو في معنى الطغيان وليس بمشتق منه، إنما يؤدي عن معناه، كما
قوله: ﴿بالعروة الوثقى﴾.
أي تمسك بأويثق ما يستوثق به ويتمسك به.
وقيل: الجبت والطاغوت كل ما يعبد من دون الله.
قال سيبويه: " الطاغوت واحد مؤنث يقع على الجميع ".
وقال المبرد: " هو جماعة "، ويريد الشياطين.
وقال أنس: " العروة الوثقى: القرآن ". ذكره عنه ابن أبي شيبة.
وقيل: العروة الوثقى: العهد الوثيق.
وقال ابن عباس: " العروة الوثقى: لا إله إلا الله.
قوله: ﴿لاَ انفصام لَهَا﴾. أي لا انكسار لها.
وقال/ السدي: " لا انقطاع لها ".
﴿عَلِيمٌ﴾. أي عليم بمن وافق قلبه في الإيمان لسانه وأخلص في قوله.
قوله: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ﴾.
أي يتولاهم بتوفيقه فيخلصون ويثبتون على الإيمان ويعينهم على عدوهم ويتولى ثوابهم.
قوله: ﴿مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾. أي: من الكفر إلى الإيمان.
نزلت هذه الآية في قوم كانوا قد كفروا بعيسى فلما جاءهم محمد ﷺ آمنوا به، فكانوا في ظلمة ثم صاروا في نور، وهم العرب وعبدة الأوثان والجاهلية، كلهم من آمن منهم، وكان قوم آخرون آمنوا بعيسى فكانوا في نور، فلما جاءهم محمد كفروا به فصاروا في ظلمة وهم النصارى. روى ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
قوله: ﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾. أي الشياطين. وهذا مما يدل على أن الطاغوت جمع.
أي من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين كفروا بمحمد ﷺ يعني قريشاً وكفار العرب. وقيل: هم اليهود.
وقيل: هم النصارى كانوا مؤمنين بعيسى صلى الله على محمد وعليه وسلم.
هذا قول مجاهد وغيره. وإنما مثل الكفر بالظلمة، لأن الظلمة تحجب البصر عن إدراك الأشياء، كذلك الكفر يحجب القلب عن إدراك الحقائق، حقائ الإيمان.
﴿أولئك أَصْحَابُ النار﴾. هو إشارة إلى الكفر.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾.
ألِف ﴿أَلَمْ﴾ ألِف توقيف لفظها. لفظ الاستفهام، وفيها معنى التعجب والتنبيه على ما يتعجب منه.
والهاء في ﴿رَبِّهِ﴾ تعود على ﴿الذي﴾، أو على إبراهيم ﷺ.
ومعنى: ألم تعلم، ألم تر بقلبك يا محمد.
الهاء تعود على [الكافر الملك] وعليه أكثر الناس.
وقيل: هي تعود على إبراهيم ﷺ.
والذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن كنعان بن كوشب بن سا بن نوح. قاله مجاهد.
قال قتادة: " نمروذ، صاحب الصرح، وهو أول من تجبر في الأرض ببابل ". أخبر الله تعالى نبيه ﷺ بهذه القصص ليكون ذلك عبرة وتعجباً مما كان، وليكون حجة على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يعلمه إلا من قرأ الكتب ودرسها، أو من يوحى إليه، فلما لم يكن محمد عليه السلام عندهم/ ممن
قال مجاهد: " نمروذ، هو أحد الأربعة الذين ملكوا الأرض كلها: كافرَيْن ومؤمنَيْن، فالمؤمنان: سليمان بن داود ﷺ، وذو القرنين عليه السلام. والكافران: نمروذ، وبخت نصر البابلي ".
قوله: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾.
أي حين قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت: أي يملك ذلك ولا يملكه أحد غيره، قال نمروذ: " أنا أحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله وأقتل آخر ".
قال له إبراهيم: " فإن الله يأت بالشمس من مشرقها، فأت بها/ إن كنت صادقاً من مغربها ".
أي الكافر، أي انقطع وعجز عن الجواب. وقرىء: " فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ " أي فبهتَ إبراهيمُ الكافرَ ف " الذي " في موضع نصب، على هذه القراءة.
قال قتادة: " دعا نمروذ/ برجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر، وقال: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. / فبهت الذي كفر " فلم يجب لأنه لو ادعى أنه [هو الذي يأتي] بالشمس من المشرق لكذبه جميع أهل مملكته، لأنهم يعرفون أنه محدث، والشمس كانت على حالها قبل حدوثه، فليس يقدر أن يقول: " أنا أتيت بها من المشرق قبل حدوثي، ولو ق ل: أنا آتي بها من المغرب لعجز عن ذلك. فلما رآى أنه لا مخرج له سكت وانقطع فبهت.
حتى مر به إبراهيم عليه السلام، فقال له نمروذ: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت. قال: أنا أحيي وأميت. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر، ورد إبراهيم بغير طعام. فرجع إبراهيم عليه السلام إلى أهله، فمر على كثيب أعفر - يعني من رمل - فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم. فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام. فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رأى أحد، فصنعت له منه، فقربته إليه. وكان قد عهد أهله ليس عندهم طعام، فقال من أين هذا؟ قالوا: من الطعام الذي/ جئت به. فعلم أن الله تعالى قد رزقه [فحمد الله
وقال السدي: " لما أخرج إبراهيم ﷺ من النار، أدخل على الملك، ولم يره
قوله: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
أي لا يهديهم للحجة عند الخصومة لما هم/ عليه من الضلالة قاله ابن اسحاق. وليس (الظالمين) بوقف، لأن (أو كالذي) معطوف عليه.
قال الفراء والكسائي: " معنى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾: هل رأيت كالذي حاج، أي كالذي مر على قرية، فهو معطوف عليه ". وقيل: الكاف زائدة، والمعنى: " الم تر إلى الذي حاج أو الذي مر على قرية.
قوله: ﴿أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾.
وقيل: هو أرميا. وروي أن اسمه أرميا، وهو الخضر.
وقال مجاهد: " هو رجل من بني إسرائيل ".
وقال وهب بن منبه: " القرية بيت المقدس. لما خربت وحرقت، وقف أروميا على ناحية الجبل، فقال: أَنَّى يحُيْى/ هذه الله بعد موتها ". على معنى: التطلع على مشاهدة قدرة الله، لا على الإنكار لإحياء الله إياها فأراه الله ذلك. والذي خربها بخت نصر البابلي.
وكذلك قال قتادة/ وعكرمة والضحاك غير أنهم قالوا: " وقف عليها عزير ".
وقال ابن زيد: " هي القرية التي خرج منها ألوف حذر الموت، فقال [لهم]
﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾. أي خالية من أهلها.
﴿على عُرُوشِهَا﴾. [أي على أبنيتها]، سقوفها وبيوتها.
وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها من قولهم: " قَرَبْتُ الماءَ " إذا جمعته.
وقال السدي: معنى ﴿خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾: ساقطة على سقفها.
وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها.
قال وهب بن منبه: " أوحى الله إلى أرميا، وهو بأرض مصر بعد أن خرب بخت نصر بيت المقدس: أن الحق بأرض الشام، فركب حماره حتى كان ببعض الطريق ومعه سلة من تين وعنب، وكان معه سقاء جديد فَمَلأَهُ ماء، فلما بدا شخصُ
قال: بل لبثت مائة/ عام ".
وإنما قال: يوماً أو بعض يوم، لأنه فيما ذكر قتادة وغيره: أميت ضحى، وبعث آخر النهار، فظن أنه يومه الذي كان فيه ".
قوله: ﴿فانظر إلى/ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾.
من قرأ " نُنْشِرُهَا " بالراء، فمعناه كيف نحييها، من: " أَنْشَرَ اللهُ المَيِّتَ: أَحْيَاهُ ". ومن قرأ بالزاي، فمعناه: كيف نرفع بعضها إلى بعض من النَّشْزِ، وهو المرتفع، ومنه نشوز المرأة وهو ارتفاعها عن موافقة زوجها. ومنه قوله:
قال وهب بن منبه وغيره: " معناه: وانظر إلى إحياء حمارك وإلى عظامه كيف أنشرها ثم أكسوها لحماً.
قال وهب: " كان ينظر إلى حماره يتصل بعضه ببعض، ثم كسي لحماً ثم جرى فيه الروح فقام [ينهق. ونظر إلى عنبه] وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه. فلما عاين ما عاين، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير ".
قال السدي: " كانت الطير قد ذهبت بعظام الحمار إلى كل سهل وجبل فبعث الله ريحاً، فجاءت بها واجتمعت/ وهو ينظر. فركب بعضها في بعض فصار حماراً من عظام لا لحم فيه ولا دم، ثم كسى اللحم والدم، ثم أقبل ملك يمشي فأخذ بمنخر
ومن قرأ [بوصل ألف " أعلم " جعل الفعل] لله والقول لله، والله هو القائل له بعدما أراه من البراهين: " اعْلَمْ يا أرميا أن الله على كل شيء قدير ".
قال الضحاك: / " أول ما نفخ الله الروح، ففي رأسه وبصره، وبقي جسده ميتاً، فرأى حماره قائماً كهيئته يوم تركه وطعامه وشرابه كهئته، فقال له الله جل ذكره: ﴿وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ أي عظامك، فأراه التئام عظامه، وكون اللحم عليها، ونفخ الروح في باقي جسده. [والعبرة] في نفسه أعظم. فلما رأى ذلك وحيي كله قال: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ". وكذلك قال قتادة.
قال ابن زيد: " جعل الله الروح في بصره ولسانه، فنظر إلى خلقه والتئام عظامه، وأمره أن يدعو بلسانه إلى عظامه وأعضائه أن تلتئم فنادى بلسانه ليلحق كل عضو بآلِفِه فجاء كل عظم إلى صاحبه حتى اتصلت وهو يراها، / حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الكسرة الأخرى فتتصل بها، ثم شدت بالعروق والأعصاب وهو يرى.
ثم التحمت وهو يرى، ثم كسيت بالجلد وهو يرى، ثم جرى [فيها الروح، فقال عند ذلك]: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ". وقال الله له ذلك يأمره به. ويجوز أن يكون الأمر منه لنفسه فتستوي القراءتان. وقد قاله الطبري.
وقوله: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾.
قال الأعمش: " جاء شاباً وولده شيوخ ".
وقال السدي: " جاء فوجد داره قد بيعت وبَلِيت، وهلك من كان يعرفه. فقال: اخرجوا من داري، قالوا: من أنت؟ قال: أنا عزير.
قالوا: هلك عزير منذ كذا وكذا سنة. فأخبرهم بما جرى عليه، فخرجوا له من الدار ".
وعلى [أن] القرية بيت المقدس أكثر أهل التفسير.
وقوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ من أثبت الهاء في الوصل، فهو من سانَهْتُ فسكون الهاء عَلَم الجزم، والهاء أصلية، وهو أحسن. ومعناه: أنه مأخوذ من " السَّنَةَ "، أي لم تأخذه السِّنُونَ وتحله.
ومن قرأ " يتَسَنَّه " فأصله يتسنن، من " سَنَّ المَاءَ " إذا تغير. فمعناه لم يتغير
وقرأ طلحة من مصرف: " لَمْ يَسَّنَّ " أدغم التاء في السين.
وقد قال بعض أهل اللغة: " لَمْ يَتَسَنَّ " من أَسِنَ الماء إذا أنتن. ويلزمهم من هذا " يَتَأَسَّنْ ".
وقال الشيباني: " هو من قولهم: " حَمَأٌ مَسْنُونٌ ".
ومعنى " يَتَسَنَّ ": يتغير. ولا يجوز عند أأبي إسحاق أن يكون من " مَسْنُونٍ " لأن معنى " مَسْنُونٍ "، مصبوب. والصحيح أنه من السَّنَةِ، فتكون الهاء أصلية/ تقول في تصغيرها: " سُنَيْهَةٌ " على قول من قال: " يَتَسَنَّه ". و " سُيينةٌ " على قول من
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾.
" إذا " في موضع نصب بمعنى: " واذكر ".
وقيل: هو معطوف على ما قبله لأن قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ﴾: " ألم تر بقلبك يا محمد، فتذكر الذي حاج، وتذكر إذ قال إبراهيم ". قال قتادة: " مر إبراهيم عليه السلام على دابة قد تقسمتها السباع والدواب والطير والرياح، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ ". وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن زيد: " مر إبراهيم بحوت نصفه في [البر، ونصفه في البحر]، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان في البر فدواب البر تأكله. فقال له الخبيث الشيطان/ يا إبراهيم: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال إبراهيم: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾؟، ليرى ذلك/ عياناً ".
ومعنى ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾: أي ليطمئن إلى ما تَاقَ إليه من العيان لا أنه شك
وقال السدي: " لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه تعالى أن يأذن له فيبشر إبراهيم عليه السلام بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس هو في البيت فدخل داره. وكان إبراهيم ﷺ أغير الناس يغلق بابه إذا خرج، فلما جاء وجد في داره رجلاً ثانياً، فبادر إليه ليأخذه، / وقال له: من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال له ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار فقال إبراهيم: صدقت، وعرف أنه ملك، قال له: من أنت؟ ق ل: ملك الموت، جئت أبشرك أن الله قد اتخذك خليلاً، فحمد الله تعالى، وقال: يا ملك الموت. أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار، فقال: [يا إبراهيم، لا تطيق] ذلك، قال: بلى. فعرض عليه فإذا هو برجل [أسود ينال] رأسه السماء، يخرج من فيه لهب النار، وليس من شعرة في جسده إلا صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار. فغشي على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق، وقد تحول ملك الموت في الصورة
قال: أو لم تؤمن بأني خليلك؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي بذلك ".
وقال ابن عباس: " ما في القرآن آية أرجى عندي منها "، يريد أن إبراهيم دخل قلبه الشك، فنحن آكد أن يعترضنا ذلك.
وقال عطاء بن أبي رباح: " دخل قلب إبراهيم ﷺ بعضُ ما يدخل
وروى مالك عن الزهري أن ابن المسيب وأبا عبيدة أخبراه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " رَحِمَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْهُ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهيِمُ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾، وَقالَ: ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ ".
واختار الطبري هذا القول لرواية أبي هريرة لهذا الخبر عن النبي [عليه السلام] لأن الشيطان يعرض لجميع الخلق.
وقد قال النبي [عليه السلام]: " ذَلِكَ مِنْ مَحْضِ الإِيمَانِ ".
وهذا القول من نبي الله ﷺ إنما هو على التواضع والتذل لله، ونفى التكبر كما قال: " لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ " ويعيذه الله من الشك الذي يدخل في قلوب المذنبين المؤمنين.
ويجوز أن يكون قوله: " نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم "، يعني به أمته، كأنه
وقال قال سعيد بن جبير: " معنى ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾: ليزداد يقيناً ".
وعن ابن عباس: " ليطمئن قلبي " في إجابتك إياي إذا دعوتك بأمرٍ وسألتك فيه ". ولم يرد أن إحياء المتى يطمئن به.
قال أبو إسحاق: " ولم يكن شاكاً، ولكن أراد مشاهدة ذلك عياناً ليزداد يقيناً، فليس الخبر كالمعاينة ".
قوله: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير﴾.
قال مجاهد/ وابن جريج وابن زيد: " أخذ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة ".
قوله: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾.
من ضم فمعناه: أضممهن إليك ووجههن إليك، يقال: / " صُرْ وَجُهَكَ إِلَيَّ " أي أقبل به إلي، ووجهه إلي. قال ذلك الكسائي.
وفي الكلام حذف: " وقطعهن بعد الضم ".
وقال مجاهد: " ﴿فَصُرْهُنَّ﴾: انتفهن بريشهن ولُحُومِهِنَّ ".
وقال أبو عبيدة: " صِرت [بالكسر: قطعت، وصُرْت] بالضم: جمعت ".
وقيل: الكسر والضم بمعنى واحد، وهو ما ذكرنا.
وقيل: معنى الكسر: قطعهن.
ويكون في الكلام تقديم/ وتأخير على هذا التفسير. ومعناه: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾، أي فقطعهن.
وقد قال عطاء: " ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾: / أضممهنَّ إليك ".
وقال ابن زيد: " أجمعهن ".
وقال قتادة: " أمر أن يذبحن ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ثم يجزئهن على أربعة أجبل ".
قال ابن جريج: " جعل لُحُومَهُنَّ وريشهن على سبعة أجبل وهي الأجبال التي رأى الطير والسباع [ذهبت فيها، وهن] اللواتي أكلن من لحم الجيفة التي كانت سبب سؤاله، وأمسك إبراهيم [ ﷺ] عند نفسه رؤوسهن ثم دعاهن بإذن الله تعالى، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الآخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة
قوله: ﴿واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
أي لا يمتنع [عليه ما أراد، حكيم في تدبيره.
قوله: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
قال الطبري: " هذه الآية مردودة إلى قوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ وإلى الآيات التي بعدها ".
قال السدي: " نزلت في الذي ينفق على نفسه في سبيل الله تعالى ويخرج ". والمثل في هذه الآية إنما هو للنفقة لا للمنفق، وفي الكلام حذف، والتقدير: " مثل نفقة الذين ينفقون "، ودل " ينفقون " على النفقة فحسن حذفها.
وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: " لما نزلت: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله
﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾. فقال رسول الله ﷺ: " رَبِّ زِدْ أُمَّتِي " فنزلت: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ".
قال مالك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠] " هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها ".
قال مالك: " وبلغني أن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ".
قلت: والصبر على طاعة الله تعالى وعن محارم الله تعالى أفضل من الصبر على المصائب والفجائع. كذا، قال عمر وغيره.
ثم قال: ﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾.
أي ممن أنفق في غير سبيل الله، يضاعف أيضاً إن شاء.
وقيل: ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ هو المنفق في سبيل الله تعالى، يزيد على سبعمائة ضعف إلى ألفي ألف ضعف إن شاء. روي ذلك/ عن ابن عباس.
قوله: ﴿والله وَاسِعٌ﴾.
﴿عَلِيمٌ﴾. أي عليم بما ينفق المنفقون في سبيله.
وقيل: عليم بمن يزيده على السبعمائة ضعف ومن لا يزيده.
قوله: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ﴾.
قال الكلبي وغيره: " أصل نزول هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن ابن عوف، أتى عبد الرحمن بن عوف إلى النبي صلى عليه السلام بأربعة آلاف دينار. وقال: يا رسول الله، اجتمع عندي ثمانية آلاف فعزلت لنفسي وعيالي نصفها،
وهذه الآيات فيما قال ابن زيد:: هي لمن ينفق، وليس يجاهد، ولم يقل للمجاهدين شيئاً ".
وقيل: هي عامة، علم الله تعالى أقوماً يمنون بعطيتهم فقدم في ذلك.
قال زيد بن أسلم: " إن ظننت أنه يثقل عليه سلامك، فكي سلامك عنه ". يعني الذي تصدق عليه.
قوله: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾.
" قول " مبتدأ، و " معروف " نعته، والخبر محذوف كأنه " أمثل " و " أولى ". و " مغفرة ": مبتدأ و " خير من صدقة " الخبر.
قوله: ﴿والله غَنِيٌّ﴾.
أي عنى عن ما يتصدق به بالمن والأذى.
﴿حَلِيمٌ﴾.
لا يعجل بالعقوبة على من يتبع صدقته المن والأذة، وقيل: المعنى: قول جميل، ودعاء للسائل خير من أن تعطي صدقة [يتبعها أى ومَنٌّ ".
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم﴾ الآية/.
أمروا أن يكفوا عن المن والأذى اللذين يبطلان ثواب الصدقة، كما يبطل الرياء صدقة المتصدق المافق/ الذي يوهم بصدقته أنه مؤمن فيرائي.
والمراد في قوله: ﴿وَلاَ يُؤْمِنُ بالله﴾.
وقيل: المراد به الكافر المجاهر. وذلك أن الكافر قد ينفق ماله، ليقول الناس: " ما أكرمه! ما أفضله "، ولا يريد بإنفاقه إلا الثناء، لا غير. فنهاهم الله أن يكونوا مثله إذا منوا أو آذوا.
وقوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾.
الصفوان: الحجر الأملس.
وقرأ ابن المسيب والزهري: " صَفَوَانٍ " بفتح الفاء.
وحكى قطرب " صِفْوَانٍ " بكسر الصاد.
قال الأخفش: " صَفْوَانٌ، جماعة صَفْوَانَةٍ ".
وقال غيره: " هو واحد والصلد هو الذي لا شيء عليه من نباته
مَثَّلَ الله المنافقين وأعمالهم بالحجر الأملس عليه تراب، وأصابه مطر وابل؛ وهو العظيم القطر، فتركه لا شيء عليه. فكذلك صدقات المنافقين للرياء.
ومعنى: ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾.
أي لا يقدرون يوم القيامة على وجود شيء مما كسبوا، أي من ثواب ما كسبوا في الدنيا لأنه كان لغير الله.
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾.
أي لا يسددهم لإصابة الهدى في فعلهم وقولهم. وهذا يقوي قول من ق ل: أراد بما تقدم الكافر لا المنافق. قال معنى ما ذكرنا: قتادة والربيع/ وغيرهما.
قوله: ﴿وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ [أَمْوَالَهُمُ] ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾.
ضرب الله الآية الأولى مثلاً لأعمال الكافرين يوم القيامة، وشبه صدقة أهل الرياء والكفر بالصفوان الذي عليه تراب فأصابه مطر شديد، ثم ضرب هذه الآية
وقال مجاهد: " يثبتون: أين يضعون أموالهم ".
قال الحسن: " يعني زكاتهم ".
وروي عن قتادة: " ﴿وَتَثْبِيتاً﴾: احتساباً من أنفسهم ".
وعن الحسن أنه قال: " يثبت إذا أراد أن ينفق، فإن كان لله أنفق وإلا أمسك ".
قوله: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾.
شبه فعل هؤلاء في صدقاتهم بجنة بربوة، وهي الترعة أصابها وابل وهو المطر الشديد العظيم القطر، فإن أخطأها الوابل أصابها الطل وهو الندى.
والهاء في ﴿أَصَابَهَا﴾ تعود على الجنة أو على الربوة، وكذلك الهاء في " يصبها ".
قوله: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾.
أي فهي لا تخلف؛ لابد من إتيان الأكل. فكذلك عمل المؤمن لا خلف لخيره.
وسميت الربوة ربوة لأنها ربت على وجه الأرض. / أي ارتفعت من: " ربا " إذا زاد.
قال مجاهد: " الربوة المكان الظاهر المستوي ". وكذلك قال الحسن. وقال الضحاك: " الربوة المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار ". وقال السدي: " ﴿بِرَبْوَةٍ﴾: برابية من الأرض " يريد المنخفض.
وقال ابن عباس: " الربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه
وعلى ذلك يستحسن الوقف على ﴿فَطَلٌّ﴾. وقدَّره غيره. " فهو طل " أو " أصابها طل ".
قوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ الآية.
قوله: ﴿وَأَصَابَهُ الكبر﴾.
على تقدير: " وقد أصابه الكبر "، ولذلك عطفه على " أَيَوَدُّ " وهو مخالف له.
وقيل: هو محمول على المعنى، تقديره: " أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر ".
وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي. ينفقانهما رياء الناس، فهو يحمد على ما ظهر منه في الدنيا ولا حاجة به إلى ذلك في الآخرة كالرجل الذي له جنة من نخيل وأعناب ولا كبر معه ولا ذرية. فلما كبر، وصارت له ذرية ضعفاء. وضعف عن الكسب والتصرف، ولا طاقة لذريته على التكسب لضعفهم وصغرهم، فعند ذلك
قوله ﴿إِعْصَارٌ﴾.
أي ريح فيها سموم فاحترقت، وهي ريح عاصفة تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود/ والجمع أعاصير، وهي التي تسميها الناس: الزوابعة.
وقال الحسن: " ﴿إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ﴾: ريح فيها برد شديد ".
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ﴾.
أي هكذا البيان المُتَقَدم في الصدقة، والجهاد، وقصة إبراهيم، وجميع ما سلف.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾.
قال/ ابن عباس: " تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها ".
وقال مجاهد: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾: أي تطعون ".
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾.
قال علي رضي الله عنهـ: " من الذهب والفضة، الجياد منها ". أي زكوا من ذلك.
وقيل: من الحلال.
وقال مجاهد: " ما كسبتم من التجارة، ﴿وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض﴾: يعني ما فيه زكاة مما بينته السنة ".
﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾:
أي الرديء، اي لا تعمدوا إلى الرديء تتصدقون به فتجعلوه
وقال ابن زيد: " الخبيث: / الحرام ".
أي لاتتدصقوا من الحرام. وتصدقوا من الحلال.
أي لستم بآخذين الرديء من المال من غرمائكم إلا عن إغماض منكم؛ أي كراهية، فتأخذونه كأنكم قد أغمضتم أعينكم، فلا ترونه كراهة فيما أعطيتم.
وقرأ الحسن " أن تُغْمَضُوا " بفتح الميم وضم التاء. أي لستم تأخذونه حتى تنقصوا من سعر غيره. وكذلك قرأ قتادة.
قيل: معناه: لستم تأخذونه إلا أن يهضم لكم من ثمنه أي ينقص. وقرأ الزهري: " تَغْمِضُوا " بفتح التاء، وكسر الميم.
وعنه أيضاً بضم التاء، وتشديد الميم.
وقال ابن زيد: " لستم ممن يأخذ الحرام حتى يغمض لكم في من الإ ثم ".
قوله: ﴿واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ﴾.
أي غني عن أن تتصدقوا بالرديء والدنيء، وتأخذوا لأنفسكم الجيد.
﴿حَمِيدٌ﴾ لمن تصدق بطيب ماله.
قوله: ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر﴾.
أي يخوفكم به ويوسوس إليكم، فلا تخرجون الزكاة.
﴿وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ أي [بترك الصدقة فتكونون عاصين].
﴿والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً﴾ أي يجازيكم على صدقاتكم بالمغفرة.
وقال ابن عباس: " الشيطان يقول: " لا تنفق مالك، أمسكه
وقال قتادة: " والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً لفقركم ".
﴿والله وَاسِعٌ﴾ يعطيكم من سعته، ما شاء لمن شاء.
﴿عَلِيمٌ﴾ بمن [يطيعه فيتفضل] عليه، ومن يعصيه فيغفر له أو يعاقبه.
وروي أن في التوراة مكتوباً: " عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك من فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ".
وفي القرآن نظير/ هذا، ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ [سبأ: ٣٩].
قوله: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ﴾.
قال ابن عباس: " الحكمة علوم القرآن/ مقدمة ومؤخرة وناسخة ومنسوخة،
وقال قتادة: " الحكمة: الفقه في القرآن ".
وقال مجاهد: " الحكمة: الإصابة في القول ".
وقال ابن زيد: " الحكمة: العلم بالدين ".
قال مالك: " الحكمة: المعرفة بدين الله، والفقة فيه، والاتباع له ".
وروى عنه ابن القاسم أنه قال في الآية: " الحكمة: التفكر في أمر الله والاتباع له ".
وعنه أيضاً أنه قال: " الحكمة: طاعة الله والاتباع له، والفقه في الدين والعمل به ".
وقال مالك: " إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في الدين يدخل الله في القلوب من رحمته وفضله ".
وقال السدي: " الحكمة: النبوءة ".
وقال زيد بن أسلم: " الحكمة: الفهم عن الله في أمره ونهيه ".
وقال ابن زيد بن أسلم: " الحكمة: العقل في الدين ".
وقال مجاهد أيضاً: الحكمة: القرآن ". وقاله الضحاك.
قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾.
أي لا يتذكر ولا يتعظ بهذه الآيات إلا أولوا العقول وهم المؤمنون. قاله ابن سلام.
قوله: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ﴾.
و" ما " لمن ظلم نفسه فتصدق لغير الله، ونذر لغير الله.
قال الحسن: " قال رسول الله ﷺ: " مَا أَنْفَقَ النَّاسُ/ مِنْ نَفَقَةٍ أَعْظَمُ إِلَى اللهِ مِنْ قَوْلٍ ".
وقال الحسن أيضاً عن النبي عليه السلام أنه قال: " مَا أَنْفَقَ النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، وَقِرَاءَةُ القُرْآن ".
وقَال: " أَفْضَلُ النَّفَقَةِ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَالِدَيْكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَلَدِكَ وَزَوْجَتِكَ وَعِيَالَكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى قَرَابَتِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ الله " هذا معنى الحديث.
قوله: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ﴾ الآية.
قال الربيع: " كل مقبول، إذا كانت النبية خالصة، والسر أفضل ".
وكذلك قال ابن جبير وغيره. وهذا في التطوع.
قال [ابن عباس: " صدقة التطوع في السر أفضل من العلانية، يقال: بسبعين ضعفاً. وصدقة الفريضة في العلانية/ أفضل من السر بخمسة وعشرين ضعفاً ".
وكذلك جميع الفرائض والنوافل على هذا القياس. ومن قرأ: " يُكَفِّرْ " بالياء، فمعناه: ويكفر الإعطاء.
وقيل: معناه: ويكفر الله، و " مِنْ " للتعبيض.
ومعنى ﴿سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي يكفر منها ما شاء لمن يشاء، ليكون العباد على وَجَلٍ
وقيل: " من " زائدة، فتكون الكفارات للسيئات كلها.
قوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
أي خبير بما تصنعون في صدقاتكم من أخفائها وإعلانها.
ومعنى ﴿خَبِيرٌ﴾ / ذو خبر.
قوله: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
هذا مثل/ ﴿وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ [البقرة: ١١٩]، على قراءة من رفع، أي ليس عليك سوى البلاغ المبين، ولست عليهم بمسيطر. ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾، أي يوفقه للهداية.
وهذا الآية نزلت في المشركين لأن المؤمنين كانوا لا يتصدقون عليهم ليدخلوا في الإسلام، فنزلت: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إلى ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله﴾.
قال ذلك ابن عباس وابن جبير، قالا: " كان ناس من الأنصار لهم قرابة ضعفاء مشركون فلا يتصدقون عليهم، فنزلت الآية، فتصدقوا عليهم ".
وروى ابن جبير أن النبي ﷺ " كان لا يتصدق على المشركين حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم.
وقال ابن زيد: " لك ثواب نفقتك، وليس علكيم من عمله شيء ".
وهذا إنما هو في التطوع، فأما في الواجب فلا يعطى منه إلا المسلمون.
قال مالك: " يتصدق على اليهود والنصارى من التطوع، ولا يعطون من الواجبات لا من الزكاة ولا من صدقة الفطر، ولا مما أشبههما ".
قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾.
وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿َيَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات﴾ [البقرة: ٢٧٦]، وقال: ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ [التوبة: ١٠٤].
قوله: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
اللام متعلقة بقوله: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ للفقراء الذين من حالهم وقصتهم - ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾. وعني به فقراء المهاجرين بالمدينة. ومعنى ﴿أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾: منعوا أنفسهم من التصرف وحبسوها على جهاد عدوهم. قاله قتادة وغيره.
وقال ابن زيد: " كانت الأرض للعدو، فلا يستطيعون تصرفاً فهم محصرون ".
﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض﴾.
أي تقلباً ولا تصرفاً في المعاش والتجارات.
وقال ابن جبير: " نزلت في قوم أصابتهم جراحات في سبيل الله، فصاروا زمنى من أجل عدوهم، أو من أجل حرصهم على الجهاد والغزو.
قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾. بكسر السين وفتحها لغتان، ونظيره " نَعِمَ " و " يَئِسَ "، يأتي المستقبل بالفتح والكسر.
وحكى أبو إسحاق أن مثله عهد، يقال: " يَعْهِدُ وَيَعْهَدُ.
ومعنى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل﴾.
أي الجاهل بأمرهم وحالهم، أغنياء من تعففهم عن المسألة والتعرض لها.
تعرفهم يا محمد بعلاماتهم وهي السيماء وهي أثر السجود.
وقيل: هي أثر الفاقة والحاجة. قال السدي.
وقال ابن زيد: " هي رثاثة ثيابهم، / لأن الجوع خفي ".
ومن العرب من يمد السيماء، ومنهم من يقول سيماء بالمد وزيادة ياء بعد الميم.
قوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً/﴾.
أي إلحاحاً، أي لا يشملون الناس بالسوال، ومنه اللحاف.
والمعنى: لا يكون منهم سؤال فيكون إلحافاً.
وهو كقول امرئ القيس:
أي ليس فيه منار فيهتدي به.
ويقال: قد ألحف السائل إذا ألح.
ويقال: " أَلْحَفَ الرجل " و " أَلَحَّ " و " أَخْفَى "، بمعنى واحد.
قوله: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾.
قال ابن عباس: " نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ؛ كانت معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً. وبالنهار درهماً، وسراص درهماً، وعلانية درهماً ".
وقيل: " إنها نزلت في علف الخيل في سبيل الله ".
ذكر ذلك أيضاً عن ابن عباس، وعن أبي ذر الغفاري.
وكذلك قال الأوزاعي: " هي في الذين يربطون الخيل في سبيل الله ينفقون عليها بالليل والنهار " وروي ذلك عن أبي الدرداء. وعلى أنها في الخيل أكثر أهل التفسير.
قوله: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الرباوا لاَ يَقُومُونَ﴾.
معناها: الذين يأكلون الربا في الدنيا لا يقومون في الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجنون.
والمس: الجنون. قاله مجاهد وقتادة وابن جبير وغيرهم؛ قاوا: " يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً﴾ [المعارج: ٤٣] إلا أكله الربا، فإن الربا يربو في بطونهم فيقومون ويقسطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون ".
قال ابن جبير: / " يبعث أحدهم حين يبعث، وشيطان يخنقه ".
وكان أهل الجاهلية إذا حل أحدهم الأجل في دين/ عليه، يقول الذي عليه الدين: " زِدْنِي في الأَجَل وَأَزيدُكَ فِي دَيْنِكَ "، فنهى الله عن ذلك، وقال: ﴿اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٨ - ٢٧٩].
وأصل الربا الزيادة، وهو في التجارة والبيع والشراء جائز إذا كان على وجهه الذي قد بينته السنة والكتاب. فأصل الربا المحرم أن يقول الذي عليه الدين: " أَخِّرْنِي وَأَزِيدَكَ فِي دَينك "، ثم جرى مجراه كل ما شابهه في البيوع والدين، وغير ذلك ما قد أحكمته السنة وفسره العلماء.
وقد روى محمد بن كعب القرظي أن النبي ﷺ قال: " كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبَا ".
قوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾.
أي ما أكل وأخذ قبل مجيء الموعظة فذلك مغفور له.
أي في المستقبل، إن شاء ثبته وإن شاء رده إلى ما نهاه عنه.
والموعظة: القرآن.
ومن عاد فعمل بالربا حتى يموت فأولئك أصحاب النار. قال ذلك سفيان. وقال غيره: " من عاد فقال: إنما البيع مثل الربا، وتمادى عليه، فهو من أصحاب النار ".
قوله: ﴿يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات﴾.
معناه: ينقص الله الربا ويذهبه، ويضاعف الصدقات وينميها.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية.
أي إن الذين تابوا من أكل الربا فآمنوا بما أنزل عليهم، وانتهوا عما/ نهو عنه وعملوا الصالحات، فهم أصحاب الجنة.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا﴾.
معناه: / يا أيها الذين صدقوا محمداً: ذروا ما بقي لكم من الربا زيادة على رؤوس أموالكم.
ونزلت هذه الآية في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوا عليهم فقبضوا بعضاً، وبقي بعض، فعفا لهم عما كانوا قبضوا وحرم عليهم ما بقي
قال ابن المسيب: " لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما [يكال و] يوزن مما يؤكل ويشرب ". يعني في المبايعة.
وفسره بعض العلماء فقال: " ما كان مما يكال أو يوزن من نوع من الطعام، فلا تأخذ إلا وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، يداً بيد، وكذلك الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فإن اختلف النوعان فَزِدْ واستزد يداً بيد ".
قال عبد الله بن سلام: " أكل الربا يعدل سبعين فجرة، أدنى فجرى منها مثل أن يضطجع الرجل مع أمه ".
وروى الحكم بن عتيبة عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " درهم ربا أشد من/ ست وثلاثين زنية ".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " الرِبَا سَبْعُونَ حُوباً، أَيْسَرُهَا مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ".
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله﴾.
أي فأيقنوا بحرب.
وقال الأصمعي: " معناه: كونوا على علم ".
ومن قرأ بالمد فمعناه: فأعلموا أصحابكم بالحرب.
﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾. أي تركتم الربا.
﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم﴾. بلا زيادة.
﴿لاَ تَظْلِمُونَ﴾. فتأخذون ما ليس لكم.
﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾. فتنقصون من رؤوس أموالكم.
وروى المفضل عن عاصم: " لا تُظْلَمُونَ وَلاَتَظْلِمُونَ "، المفعول قبل
قوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾. أي إن وقع ذلك.
ولا خبر ل " كان "، هي " كان " التامة تستغني باسمها عن الخبر. فليست بالداخلة على الابتداء والخبر، تلك هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر.
وقد قيل: إن الخبر محذوف، والتقدير: " وإن كان ذو عسرة في الدين فظرة إ لى ميسرة ".
وفي مصحف عبد الله: " وَإِنْ كَانَ ذَا " بالألف على تقدير: وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة، فهي " كان " الناقصة على هذا.
وقرأ مجاهد: " فَنَاظِرْهُ إِلَى مَيْسُرِ هِي "، بضم السين، وصلت الهاء بياء.
وهو لحن عتد أهل العربية: ليس في الكلام مفعل بتغيير هاء التأنيث.
وقوله: ﴿فَنَظِرَةٌ﴾. هو من التأخير. ورفعها على معنى: " فعليكم نظرة ".
وحكى أبو إسحاق: " فناظرة " من التأخير.
وقيل: [هو من أسماء المصادر كقوله: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢]. ورد أو حاتم ذلك وقال: " إنما يجوز هذا في نظر العين، مثل الذي في النمل قوله: ﴿بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ [النمل: ٣٥].
والمعنى: " إن كان الذين لكم أن ترجعوا عليهم برؤوس أموالكم ذوي عسرة، فعليكم أن تنظروهم إلى مسيرة ".
وفتح السين وضمها لغتان. وأجاز النحاس النصب على
روي عن النبي عليه السلام: " أنه أمر أعرابياً ببيع رجل له عليه دين، ولا مال معه ".
وقال قوم: " إنما هذا الإنظار في الربا خاصة، وليس لمن عليه دين لا يؤديه إلا السجن حتى يؤديه كان معه أو لم يكن لقوله: ﴿إِنَّ الله/ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨].
قال ابن عباس: " نزلت في الربا ".
وأكثر الفقهاء على أن الآية عامة في كل من عليه دين، ولا شيء معه، ينظر إلى يسره إذا صح فَقْرُهُ وثبت.
أي وصدقه رؤوس أموالكم على المعسر خير لكم إن كنتم تعلمون الفضل.
وقال قتادة: " ندبوا أن يتصدَّقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير ".
وقال غيره: " ذلك على المعسر خاصة ".
قال عمر بن الخطاب رضي لله عنه: " آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله قبض من قبل أن يفسرها ".
قال ابن عباس: " آخر آية نزلت: ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾.
كذلك قال السدي وعطية وابن جريج.
واليوم في هذا يوم القيامة.
ويروى أن النبي عليه السلام قال: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ ثُمَانَينَ وَمَائَتَيْنِ مِنَ البَقَرَةِ ".
ومعنى الآية: التحذير والتخويف في أخذ الربا وارتكاب ما نهي عنه.
وروي أنها نزل على النبي عليه السلام قبل موته بثلاث ساعات فقال النبي عليه السلام: " اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الرِّبَا ".
وقال مقاتل: " نزلت قبل/ وفاته بتسع ليال ".
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾.
قال ابن عباس: " نزلت في السلم خاصة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم ". يريد بثمن نقد معلوم من غير أن يكون طعام في طعام.
وقال عطاء: " أشهد إذا بعت، وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو بثلث درهم أو أقل من ذلك، فإن الله يقول: ﴿وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾. وهو مذهب الطبري.
وقال أبو سعيد الخدري: " كان ذلك فرضاً ثم نسخه ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣].
وبه قال الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد والشعبي.
وأكثر الفقهاء على أنه ندب وإرشاد لا على الحكم. وهو قول مالك والشافعي.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا الاعتراض لا يلزم لأنه يجب منه ألا يعمل بما نسخ البتة. وقد نسخ فرض صوم عاشوراء وفرض صوم ثلاثة أيام من كل شهر. ونسخ فرض قيام الليل، وفعل ذلك حسن مُرَغَّبٌ فيه. كذلك فرض الإشهاد، هو منسوخ، وفعله حسن جائز. وقول الطبري: " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على الندب ".
جوابه: أن الدليل على أنه صار ندباً قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً﴾. ولا يحمل
قوله: / ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ﴾.
قيل: هو واجب عليه أن يكتب إذا دُعي إلى ذلك.
قال الضحاك: " نسخها: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ﴾.
وقال السدي: " لا يأب كاتب أن يكتب إذا كان فارغاً ".
﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾.
أي لا يظلم ولا ينقص من حق الرجل/ الذي له الحق شيئاً.
قوله: ﴿فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق﴾. أي من عليه الدين.
﴿سَفِيهاً﴾. أي جاهل بالصواب الذي يمليه عليه الكاتب.
﴿أَوْ ضَعِيفاً﴾. أي أخرق. قاله ابن عباس، وقاله مجاهد وغيره.
وقال السدي: " السفيه الصغير ".
قال السدي: " الضعيف الأحمق ".
﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل﴾: أي ولي السفيه والضعيف. قاله الضحاك.
وقال ابن عباس: " ولي الدين هو الذي هو عليه " أي فَلْيُقِرْ وَلَيُّهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلْيَشْهَدْ.
وقيل: ولي الدين هو العيي واليتيم.
فالهاء في ﴿وَلِيُّهُ﴾ تعود على الدِّين أو على صاحب الدَّين أو على المطلوب.
قوله: ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ﴾.
اختير " فَعِيلٌ " لأنه للتكثير، فمعناه: استشهدوا من عُرف بالشهادة والشاهد يقع لغير التكثير، يقال: " فُلاَنٌ شَهِيدِي وَشَاهِدِي ".
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان﴾.
قال ابن بكير: " هذا مخاطبة للحكام "، أي إن لم يأت صاحب الحق برجلين أتى برجل وامرأتين، فليس معناها أنه لا يشهد الرجل والامرأتان إلا عند عدم الرجلين. لأن فاعلاً لو فعله وهو واحد الرجلين لتم إشهاده ".
ومعنى الآية/ عند غيره أنها مخاطبة لصاحب الدين، أي فاستشهدوا [من حضر]؛ رجلين، أو رجلاً وامرأتين.
ومعنى: ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء﴾.
أي من العدول المرضيين، وإنما تجوز شهادة النساء عند مالك، ومن قال بقوله في الأموال خاصة؛ لأنه المكان الذي تكون فيه لا يتعدى إلى غيره.
قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى﴾.
أي فتصير إحداهما ذكراً باجتماعهما. تقول العرب " اذَّكَرَتِ المَرْأَةُ " إذا
وأكثر الناس على أنه من الذكر بعد النسيان لقوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ أي إن تنسى فتذكرها الأخرى ما نيست.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ﴾.
أي لا يتخلفوا عن أداء الشهادة إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق. قاله قتادة والحسن.
وقيل: معناه: لا يتأخروا إذا دُعُوا ليؤدوا ما قد شهدوا عليه، وذلك إذا لم يجد غيره، فإن وجد غيره فهو مخير/ فأما إذا دعيت إلى شهادة لم تشهد بعد بها، فأنت مخير في ذلك.
هذا/ قول مجاهد وعطاء وغيرهما. وهو قول مالك.
وعن عطاء أنه إذا دعي ليشهد لزمه ذلك.
قوله: ﴿وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ﴾.
أي لا تملوا أن تكتبوا صغير حقوقكم وكبيرها إلى أجله، فإن الكتاب أحضر للأجل والمال.
﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ﴾ أي أعدل.
﴿وَأَقْومُ﴾ أي أصوب.
﴿وأدنى أَلاَّ ترتابوا﴾.
أي أقرب ألا تشكوا في الدين والأجل. ثم أرخص في التجارة الحاضرة التي هي يداً بيد غير أن يكون طعام في طعام متفاضلاً ألا تكتبوها.
قال الضحاك: " ما كان من بيع حاضر، فإن شاء أشهد وإن شاء ترك. وما كان من بيع إلى أجل فليشهد ".
قال مالك: " هو مخير في الإشهاد، وتركه ".
ويروى عن ابن عمر أنه قال: " الشهادة واجبة في كل ما يباع من قليل أو كثير بقوله تعالى: ﴿ وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾.
وهذا عند جماعة منسوخ بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾، وهو نسخ/ فرض إلى ندَب، كنسخ رمضان ليوم عاشوراء؛ من شاء صامه، ومن شاء تركه. وكالامتحان؛ من شاء امتحن، ومن شاء ترك، بعد قوله: ﴿فامتحنوهن﴾ [الممتحنة: ١٠]. فكان الإشهاد واجباً ثم صار ندباً بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً﴾. ففي هذا الحكم ثلاثة أقوال: الأول: أنه محكم يعمل به، والثاني: أنه منسوخ، والثالث: أنه ندب وترغيب.
تم الجزء السابع
قال الحسن وغيره: " معناه لا يضار كاتب فيزيد ما لم يملل عليه في الكتاب أو يُحرّف، ولا شهيد فيكتم الشهادة أو بغيرها ".
وقال ابن عباس وغيره: " معناه لا يضارا فيتخلفا عن الكتابة والشهادة ويقولان: علينا شغل ولنا حاجة ".
وقيل: المعنى: لا [يضار فيما قد شهدا] فيه فيتخلفا عن أدائه إلى الحاكم.
وفي كل هذه الأقوال يرتفع [الكاتب والشهيد/ معاً بفعلهما].
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنه كان يقرأ: " وَلاَ يُضَارَر " برأءين ظاهرتين الأولى مفتوحة.
وقال الضحاك: " هو أن يكونا على حاجة مهمة فيقولان: اطلب غيرنا، فيقول: إن الله أمركما بذلك، ليؤثمهما ".
وكذلك قال السدي وطاوس، وهو اختيار الطبري، لأن الخطاب من أول الآية إنما هو للمكتوب له والمشهود له، وليس للكاتب والشاهد خطاب تقدم فيرد هذا عليه، ويبين هذا قوله: ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، ولم يقل: " وإن تفعلا "، فيرد على الكاتب والشاهد، إنما رده على أهل الكتابة/ والشهادة فالنهي لهم أبين، ألا يضاروا الكاتب والشهيد فيشغلوهما عن شغلهما وهم يجدون غيرهما.
وكان الزجاج يختار أن يكون النهي للكاتب ألا يزيد في كتابته ولا يحرف، و [للشهيد ألا] يتخلف ولا يغير، ويكون قوله: ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ رداً إلى الكاتب والشهداء؛ أي إن حرفتم أو زدتم أو تخلفتم من غير عذر فإنه إثم وخروج عن الحق.
والهاء في ﴿فَإِنَّهُ﴾ عائدة على الضرار.
وقيل: على الفعل، أي فإن هذا الفعل فسوق بكم.
وقيل: الفسوق هنا الكذب في الشهادة والكتاب.
قوله: ﴿واتقوا الله﴾.
أي في ترك المضارة، وفيما تقدم ذكره من حدوده.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾.
أي يبين الله لكم الواجب لكم وعليكم لتعمَلُوا به.
أي علم جميع ما تعملون ويحصيها عليكم ليجازيكم بها، فاحذروا المخالفة.
قوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً﴾ الآية.
قوله: ﴿فرهان﴾ هو جمع رهن، كبَغْلٍ وبِغَالٍ وكَبْشٍ وكِبَاشٍ.
ومن قرأ: " فَرُهُنٌ " فهو جمع الجمع. هو جمع " رِهَانٍ ": ك " كِتَابٍ ": و " كُتُبٍ "، / و " حِمَارٍ " و " حُمُرٍ ".
وقيل: هو جمع " رَهْنٍ "، ك " سَقْفٍ " و " سُقُفٍ ".
ومن قرأ " فَرُهْنٌ " بالإسكان/ فإنما أسكن الضمة لثقلها.
وقرأ ابن عباس " كِتَاباً "، وقال: " قد لا توجد الصحيفة "، وكذلك قرأ
وقيل: هو جمع " كَاتِبٍ "، كما يقال: " قَائِمٌ " و " قِيَامٌ ".
وروي أيضاً عن ابن عباس: ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ﴾ " كُتَّاباً "، على وزن " فُعَّالٍ " وهو جمع " كاتب "، " كضَارِبٍ " و " ضُرَّابٍ ".
وهذه الآية أرخص الله فيها في قبض الرهان عند عدم الكاتب، والرهن لا يكون رهناً حتى يقبض من مالكه بقوله: ﴿مَّقْبُوضَةٌ﴾، سواء قبضه المرتهن عنده أو جعله على يدي عدل عند مالك.
قوله: / ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن﴾.
أي إن ترك صاحب الدين، أخذ الرهن، وأمن الذي عليه الدين، فليؤد ما عليه لأنها أمانة، وليتق الله ربه فيما قد اؤتمن به.
قوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة﴾. هو نهي للشهداء وتحذير لهم.
﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾. أي فاجر قلبه.
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.
أي يعلم ما تصنعون في شهاداتكم من أحالتها، والإتيان بها على وجهها فيحصي ذلك عليكم/ ويجازيكم به.
قوله: ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾.
قال ابن عباس: " قوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾، منسوخة بقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾.
ومعنى قول: " إنها منسوخة "، أي نزلت على نسختها لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ.
وقيل: إن الآية مخصوصة في كتمان الشهادة خاصة وإظهارها.
روي ذلك عن ابن عباس.
وروي عن عائشة أنها قالت: / " ما هَمَّ به العبد من خطيئة عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا ".
قال ابن عباس " إذا جمع الله الخلائق يقول: أنا أخبركم بما أكننتم في أنفسكم. فأما المؤمنون فيغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من شكهم وتكذيبهم، فذلك قوله: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾.
قال ابن عباس: " لما نزلت هذه/ الآية وقع في قلوبهم شيء، فقال لهم النبي عليه السلام: " قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا "، فَأَلْقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنْزَلَ:
وقال السدي: " وقعت عليهم شدة عند نزول: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ حتى نسخها ما بعدها ".
أي أزالت الشدة، من قولهم: " نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ " أي أزالته.
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
أي يقدر على العفو لما أخفته نفس المؤمن، وعلى العقاب فيما أخفته نفس الكافر من الكفر والشك في الدين.
وقال حذيفة: " سمعت النبي عليه السلام يقول: " أُعْطِيتُ آيَاتٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَاهَا أَحَدٌ مِنْ بَعْدِي، ثم قرأ: {للَّهِ ما فِي السماوات
وروى أبو هريرة أنه: " لما نزلت على النبي عليه السلام هذه الآية: ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾، وسمعوا فيها: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ أتوا النبي ﷺ فجثوا على الركب فقالوا: " لا نطيق، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع، فأنزل الله: ﴿ءَامَنَ الرسول﴾ إلى آخرها.
وقال محمد بن كعب القرظي: " ما بعث الله نبياً إلا أمره أن يعرض على قومه، ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ إلى قوله: ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ إلا قالوا: لا نطيق أن نؤاخذ بما نوسوس في قلوبنا، فلما بعث الله محمداً ﷺ أنزلها عليه فآمن بها، وعرضها على قومه، فآمنوا بها، وقالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾، قال: فخفف الله عنهم، فأنزل: ﴿ءَامَنَ الرسول﴾.
وحكى عنهم " أنهم قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وأنزل الله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾، فنسخ المؤاخذة بالوسوسة. وقاله ابن مسعود. وقالت عائشة: هو الرجل يهم بالمعصية، ولا يعملها، فيرسل عليه من الهم
وروي أنها لما نزلت قال النبي [عليه السلام]: " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " يعني نفسه.
" وروي أنهم شكوا إلى النبي ﷺ شدة ما يلقون من قوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾، / فقال لهم النبي [عليه السلام]: " لَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرائِيلَ. بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " فأنزل الله ذلك من قول النبي ﷺ ".
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: " لاَ يُفَرِّقُ " بالياء، رد على (كُلٌّ) أي " كُلٌّ لاَ يُفَرِّقُ ".
وقوله: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي سترك علينا.
وروي أن النبي ﷺ لما أنزل عليه: ﴿ءَامَنَ الرسول﴾ / إلى ﴿وَإِلَيْكَ المصير﴾. قال له
قوله: ﴿إِلاَّ وُسْعَهَا﴾: أي طاقتها فيما تعبدنا به.
فهذا توسيع ورخصة من الله وهو/ مثل قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، ومثل: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر﴾ [البقرة: ١٨٥]، ومثل: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ [التغابن: ١٦].
قوله: ﴿إِن نَّسِينَآ﴾. أي: نسينا فرضاً فرضته علينا، فلم نفعله.
﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.
أي: في فعل شيء نهيتنا عنه، ففعلناه على غير قصد إلى معصيتك.
قال النبي ﷺ: " تَجَاوَزَ اللهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ نِسْيَانِهَا وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ".
وكان النحاس يقول: النيسان هنا الترك لأن الله تعالى لا يوصف بأن يعاقب
قوله: ﴿إِصْراً﴾.
أي: عهداً. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم.
وقال غيره: " لا تحمل علينا ذنوبنا، فتعاقبنا بمسخ أو عذاب كما كان من قبلنا ".
وقال الضحاك: في قوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾، قال: " إذا دعي الناس ليوم الحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم، فيقول: " إِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنِّي شَيْءٌ وَإِنَّ كُتَّابِي مِنَ المَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُونُوا يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا تُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَإِنِّي لاَ أُحَاسِبُكُمْ بِهِ الْيَوْمَ ".
قال الضحاك: هذا قول ابن عباس.
وعن ابن عباس أن الله جل ذكره نسخ هذه الآية بقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، قال: لما نزلت: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ﴾ الآية، وجدوا في أنفسهم منها وجداً
قال: " وكان الذين من قبلهم، إذا عملوا سيئة حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، وذلك قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ/ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠].
وقال للمؤمنين: قولوا: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ إلى قوله: ﴿الكافرين﴾.
قال: " فهذا شيء أعطاه الله أمة محمد ﷺ لم يُعْطِهِ أحداً ممن كان قبلهم من الأمم ألا يؤاخذوا بنسيان ولا خطأ غيرَهم ". وقال الحسن: " قال النبي ﷺ: " تَجَاوَزَ اللهُ لاِبْنِ آدَمَ عَمَّا نَسِيَ وَعَمَّا أَخْطَأَ وَعَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَعَمَّا غُلِبَ عَلَيْهِ ".
وروي أن ابن عمر قرأ هذه الآية وبكى بكاءً شديداً، ثم ق ل: " والله لئن آخَذنا اللهُ بهذا لنهلكن "، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: " يرحم الله أبا عبد الرحمن؛ لقد وجد المسلمون منها مثل ما وجد حتى أنزل الله بعدها: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾.
قال ابن جبير: " لما نزل: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ﴾، شق ذلك على الناس حتى نزلت بعدها: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ ".
قال مجاهد: " معنى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾: يعني من الشك واليقين ".
قال الضحاك: " لما نزلت ﴿ءَامَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾، إلى آخر/ السورة، قال الله جل ذكره: " قَدْ فَعَلْتُ ".
وروي عن الحسن والضحاك - أو عن أحدهما - أنه قال في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾: " معناه: سمعنا القرآن أنه جاء من عند الله وأطعنا ". يقول: " أقروا على أنفسهم بالطاعة لله فيما أمرهم به ونهاهم عنه ".
وروى حذيفة أن النبي عليه السلام قال: " أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ [آخِرِ سُورَةِ] البَقَرَةِ مِنْ بَيْتٍ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ، لَمْ يُعْطَ أحَدٌ مِنْهُ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُ بِعْدِي ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " إن خواتم سورة البقرة وفواتحها من كنز تحت العرش ".
وروي أنها لما نزلت قال النبي ﷺ: " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " يعني نفسه.
وذكر ابن الأنباري في هذه الآية ثلاثة أقوال: قال: إن الله تعالى يعاقب الذي يحدث/ نفسه بالمعصية، ولا يعلمها، بِهَمٍّ أو حزن وبشبهه، ثم لا يحاسبه على
والقول الثاني: إن الله يُقبل على العبد يوم القيامة فيخبره بما حدث به نفسه من خير وشر، ثم لا يجزيه بما لم يظهر منه من عمل، وهو معنى قول الضحاك.
والقول الثالث: إنه منسوخ بقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾. فالوسوسة وحديث النفس لا يملك الإنسان صرفه، ولا قدرة له على دفعه.
قوله: ﴿لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.
روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قال النبي ﷺ: / " أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، اللهُ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنِّي قَدْ تَجَاوَزْتُ لَكَ عَنْ أُمَّتِكَ الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ".
وقال ابن زيد: " ﴿وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً﴾، اي ذنباً لا توبة منه ولا كفارة فيه ".
وقال ابن وهب عن مالك: " الإصر: الأمر الغليظ ".
وقال أهل اللغة: " الإصر: الثقل ".
قوله: ﴿وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾: أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق.
وقال قتادة: معناه: لا تشدد علينا كما شددت على] من كان قبلنا.
ومعنى: ﴿مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي: ما لا نستطيعه إلا بمشقة شديدة وكلفه عظيمة. فإنما سألوا دفع ما في طاقاتهم لو كلفوه، ولكن له مشقة كلفة. ولم يسألوا دفع ما لا يطيقونه لو كلفوه، لأن ذلك لا يوصف به الله تعالى فيجوز أن يسألوا في دفعه عنهم.
قوله: ﴿واعف عَنَّا﴾: أي امح ذنوبنا. والعافي الدارس.
﴿واغفر لَنَا﴾: أي حط عنا ذنوبنا.
﴿أَنتَ مولانا﴾: أي ولينا.
وروت أم سلمة أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لَكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الْخَطَأ
وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ".
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٣٤٧ هـ
المجلد الثاني
آل عمران - النساء
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
سورة البقرة
سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.
ترتيبها المصحفي
2نوعها
مدنيةألفاظها
6140ترتيب نزولها
87العد المدني الأول
285العد المدني الأخير
285العد البصري
287العد الكوفي
286العد الشامي
285
* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).
* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:
عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).
* قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.
قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].
قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».
قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.
فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).
* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:
جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).
* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ اْلْمَشْرِقُ وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].
وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.
واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).
* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]، فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).
* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].
ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).
* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].
جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).
* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).
* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).
«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).
وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:
كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).
* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:
فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).
* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:
فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).
* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).
* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:
فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).
* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).
* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:
فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).
* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).
حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:
هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).
هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).
أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).
بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).
ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).
وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).
دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).
انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).
مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).
الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).
تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).
نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).
تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).
قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).
الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).
حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).
دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).
جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).