تفسير سورة البقرة

مجاز القرآن

تفسير سورة سورة البقرة من كتاب مجاز القرآن
لمؤلفه أبو عبيدة . المتوفي سنة 210 هـ

﴿ آلم ﴾ سُكّنت الألف واللام والميم، لأنه هجاء، ولا يدخل في حروف الهجاء إعراب، قال أبو النَّجْم العِجليّ :
أقبلتُ من عند زِياد كالِخِرفْ أَجُرُّ رِجليَّ بخٍطّ مخٌتِلفْ
كأنمّا تُكَتِّبان لام ألفْ ***
فجزمه لأنه هجاء، ومعنى ﴿ آلم ﴾ : افتتاح، مُبتدأ كلامٍ، شِعار للسورة.
﴿ ذَلِك الكِتابُ ﴾ معناه : هذا القرآن ؛ وقد تخاطِب العرب الشاهدَ فتُظهر له مخاطبةَ الغائب.
قال خُفاف بن نَدْبة السُلَمىّ، وهي أُمه، كانت سوداء، حبشية. وكان من غِربان العرب في الجاهلية :
فإن تك خَيلي قد أُصيب صَميمها فَعمداً على عين تيممّتُ مالِكا
أقول له والرُّمح يأطرُ مَتْنَه تأمَّلْ خُفافاً إنّني أنا ذلكا
يعني مالك بن حَمَّاد الشَمْخِيّ، وَصميمُ خيلهِ : معاويةُ أخو خَنْساء، قتله دُريَد وهاشم ابنا حَرمْله المُرِيَّان.
﴿ لا رَيْبَ فيهِ ﴾ لا شكّ فيه، وأنشدني أبو عمرو الهذليّ لساعِدة بن جُؤيَّة الهذليّ :
فقالوا تركْنا الحَيَّ قد حَصروا به*** فلا رَيْب أن قد كان ثَمَّ لَحيِم
أي قتيل، يقال : فلان قد لُحمِ، أي قُتل، وحصروا به : أي أطافوا به، لا رَيْبَ : لا شكَّ.
﴿ هُدىً لِلُمَّتقِين ﴾ أي بياناً للمتقين.
﴿ المفْلِحُون ﴾ : كل من أصاب شيئا من الخير فهو مُفْلِح، ومصدره الفَلاَح وهو البقاء، وكل خير، قال لبيد بن ربيعة :
نحُلُّ بلاداً كُلها حُلَّ قبلَنا ونرجو الفَلاح بعد عادٍ وحِمْيرِ
الفلاح أي البقاء، وقال عَبيد بن الأبْرَص :
أَفْلِحْ بما شئتَ فقد يُدرَك بالضَّ عْفِ وقد يُخدَعُ الأريبُ
والفلاح في موضع آخر : السَّحور أيضا. وفي الأذان : حَيَّ على الفَلاح وحيَّ على الفَلَح جميعا والفَلاّح الأكار، وإنما اشتَّق مِن : يفلُح الأرضَ أي يشقُّها ويُثيرها، ومن ذلك قولهم :
إنَّ الحديد بالحديد يُفْلَحُ
أي يُفلَق والفلاح هو المكارِي في قول ابن أحمر أيضاً :
لها رِطْل تَكيِل الزيتَ فيه وفَلاَّحٌ يَسوق لها حمارا
فلاّح مُكارٍ، وقال لبيد :
أعقِلي إن كنتِ لمّا تَعْقِلي ولقد أفلحَ من كان عَقَلْ
أي ظفر، وأصاب خيراً.
﴿ إنَّ الّذِين كَفَروا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أآنْذَرتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم ﴾ : هذا كلام هو إخبارٌ، خرج مخرج الاستفهام ؛ وليس هذا إلا في ثلاثة مواضع، هذا أحدها، والثاني : ما أبالي أقبلتَ أم أدبرت، والثالث : ما أدري أولَّيت أم جاء فلان.
﴿ خَتَم اللهُ عَلَى قُلُوبِهم وَعَلَى سَمْعِهم وَعَلَى أبْصَارِهم ﴾ : ثم انقطع النصب، فصار خبراً، فارتفعت فصار ﴿ غشاوة ﴾ كأنها في التمثيل، قال :﴿ وَعَلَى أبْصَارِهم غشاوةٌ ﴾ أي غِطاء، قال الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المُغيرة :
تبعتُك إذ عينى عليها غِشاوةٌ فلما أنجلت قطَّعتُ نفسي ألوُمها
﴿ يُخَادِعُون ﴾ في معنى يَخدعون، ومعناها : يُظهرون غيرما في أنفسهم، ولا يكاد يجئ ﴿ يفاعل ﴾ إلاَّ من اثنين، إلا في حروف هذا أحدهما ؛ قوله :﴿ قَاتَلُهم اللهُ ﴾ معناها : قتلهم الله.
﴿ فِي قُلُوبِهم مَرَضٌ ﴾ أي شكّ ونِفاق.
﴿ عَذَابٌ ألِيمٌ ﴾ أي مُوجع من الألم، وهو في موضع مُفعِل، قال ذو الرمة :
ونَرفعُ في صدور شَمَرْدَلاتٍ يَصُكّ وُجوهَها وَهَجٌ ألِيمُ
الشَّمَر دَلة : الطويلة من كل شيء.
﴿ الشَّيَاطِين ﴾ كل عاتِ متمرد من الجن والإنس والدواب فهو شيطان.
﴿ فِي طُغْيانهم يَعْمَهُون ﴾ : أي بغيهم وكفرهم، يقال : رجل عَمِهٌ وعامِه، أي جائر عن الحق، قال رؤبة :
ومَهْمهٍ أطرافُه في مَهْمهِ أعمَى الهُدَى بالجاهلين العُمَّهِ
﴿ وتَركَهُم فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُون ﴾ ثم انقطع النصب، وجاء الاستئناف :﴿ صُمُّ بُكْمٌ ﴾، قال النابغة :
توهَّمتُ آياتٍ لها فعرَفتُها لِستَّة أعْوامٍ وذا العامُ سابعُ
ثم استأنف فرفع فقال :
رَمادٌ كَكُحْلِ العينَ لأيا أُبينُه ونُؤْىٌ كجِذْم الحَوْض أثَلمُ خاشعُ
﴿ كَصَيِّبٍ مِن السَّماءِ ﴾ معناه : كمطر، وتقديره تقدير سَيِّد مِن صاب يصوب، معناه : ينزل المطر، قال عَلْقَمة بن عَبْدة :
كأنُهُم صابت عليهم سَحابةٌ ***صَواعِقُها لطيرهن دَبِيبُ
فلا تَعدلِي بيني وبين مُغَمَّرٍ سَقتكِ روايا المُزْنِ حيث تَصُوبُ
وقال رجل من عبد القَيْس، جاهليّ، يمدح بعض الملوك :
ولستَ لأنِسيِّ ولكن لَمْلأَكٍ تنزَّل من جَوّ السماءْ يصوبُ
﴿ الّذِي جَعَل لَكمُ الأَرْضَ فِراشاً ﴾ أي مِهاداً ذللّها لكم فصارت مهاداً.
﴿ فَلاَ تَجْعَلوا للهِ أَنْدَاداً ﴾ واحدها نِدٌّ، معناها : أضداد، قال حَسَّان :
أتهجوه ولستَ له بِنٍدّ فشرُّكما لخِيركما الفِداءُ
﴿ فَأْتُوا بسُورَةٍ منْ مِثْلِه ﴾ أي من مثل القرآن، وإنما سُمّيت سورة لأنها مقطوعة من الأخرى. وسُمَّى القرآن قرْآناً لجماعة السُوَر.
﴿ وَقُوُدُها النَّاسُ والحِجارُة ﴾ : حَطبها الناس، والوُقود مضموم الأول التلهبُ.
﴿ وَأْتُوا بِه مُتَشَابِهاً ﴾ أي يُشبه بعضه بعضاً، وليس من الاشتباه عليك، ولا مما يُشِكل عليك.
﴿ ولَهُم فِيهَا أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ واحدها زوج، الذكر والأنثى فيه سواء. ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ أسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة ﴾ ﴿ ٢/٣٥ ﴾.
﴿ لا يَسْتَحيى أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً ﴾ معناها : أن يضرب مثلا بعوضة، ﴿ ما ﴾ توكيد للكلام من حروف الزوائد، قال النابغة الذبياني :
قالت ألا ليت ما هذا الحمَامَ لنا إلى حمَامتنا ونصفَه فَقَدِ
أي حَسبُ، و﴿ ما ﴾ ها هنا حشو.
قال : وسأل يونسُ رؤبة عن قول الله تعالى ﴿ ما بعوضة ﴾، فرفعها، وبنو تميم يعملون آخر الفعلين والأداتين في الاسم، وأنشد رؤبة بيت النابغة مرفوعاً :
قالت ألا ليت ما هذا الحمامُ لنا إلى حمَامتنا ونِصفُه فَقدِ
﴿ فما فوقها ﴾ : فما دونها في الصغر.
﴿ وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ : الهمزة فيها مُجتلَبة، لأن واحدها ملَك بغير همزة، قال الشاعر فهمز :
ولستَ لإنسيٍّ ولكن لَمْلأَكٍ تنزَّلَ من جوِّ السماء يَصُوبُ
﴿ أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربَّها، وقد قال تبارك وتعالى :﴿ إنّيِ جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ﴾ ولكن معناها معنى الإيجاب : أي أنك ستفعل. وقال جرير، فأوجب ولم يستفهم، لعبد الملك بن مروان :
ألستم خيرَ مَن ركب المَطايا وأندىَ العالمين بُطونَ راحِ
وتقول وأنت تضرب الغلام على الذنب : ألستَ الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير.
﴿ نُقَدِّسُ لَكَ ﴾ نطهِّر، التقديس : التطير.
﴿ وَنُسَبِّحُ ﴾ نُصَليّ، تقول : قد فرغتُ من سُبحتي، أي من صلاتي.
﴿ وَعَلَّم آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ﴾ أسماء الخَلقِ، ﴿ ثُمَّ عَرَضَهم عَلىَ المَلاَئِكَةِ ﴾ أي عرض الخلق.
﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيه للرب، وتبرؤٌ، قال الأعشى تبرءاً وتكذيباً لفخر عَلْقمةَ :
أقول لمّا جاءني فَخْرُه سبحانَ مِن عَلْقمةَ الفاخرِ
﴿ وَإذْ قُلْنَا لِلْملاَئِكَةِ اسْجُدُوا ﴾ معناه : وقلنا للملائكة، واذمن حروف الزوائد، وقال الأسْود بن يغْفُر :
فإذا وذلك لا مَهاهَ لذِكره والدهرُ يُعقِب صالحاً بفَسادِ
ومعناها : وذلك لامَهاه لذكرهِ، لا طعم ولا فضل ؛ وقال عبد مَناف بن رِبْع الهذليّ وهو آخر قصيدة :
حتى إذا أسلكوهم في قُتائِدةٍ شَلاَّ كما تطرد الجَمَّالةُ الشُرُدا
معناه : حتى أسلكوهم ﴿ فَسَجَدُوا إلاَّ ابْلِيسَ ﴾ نصب ابليس على استثناء قليل من كثير، ولم يُصْرف إبليس لأنه أعجمي.
﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ ﴾ هذا شيء تكلمت به العرب، تتكلم بالواحد على لفظ الجميع.
﴿ فَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾ الرَغَد : الكثير الذي لا يُعنِّيك من ماء أو عيش أو كَلأ أو مال، يقال : قد أرغد فلان، أي أصاب عيشا واسعا، قال الأعشى :
زَبِداً بمصْرٍ يومَ يَسْقى أهلهَا رَغَداً تُفجّره النَبيطُ خِلالَها
﴿ فَأَزلَّهما الَّشْيطانُ ﴾ أي استزلهما.
﴿ ومَتَاعٌ إلى حِينٍ ﴾ إلى غاية ووقت.
﴿ فتَلقيَّ آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلمِاتٍ ﴾ أي قبِلها وأخذها عنه، قال أبو مَهْدي، وتلاعلينا آية فقال : تلقيتها من عمَّي، تلقَّاها عن أبي هُريرة، تلقَّاها عن النبي عليه السلام.
﴿ إنَّهُ هُو الَتَّوابُ ﴾ أي يتوب على العباد، والتوّاب من الناس : الذي يتوب من الذنب.
﴿ واسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ والَصَّلاةِ وَإنها لَكَبِيرَةٌ إلاَّ علَىَ الخَاشِعِين ﴾ العرب تقتصر على أحد هذين الاسمين، فأكثره : الذي يلى الفعَل، قال عمرو بن امرىء القيس من الخزرج :
نحن بما عندنا وأنتَ بما عندك راضٍ والرأي مختلفُ
الخبر للآخر ؛ وفي القرآن مما جُعل معناه على الأول قوله :﴿ وإذا رأوْا تِجارةً أوْ لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْهَا ﴾ ﴿ ٦٢/١١ ﴾، ﴿ الخَاشِعُونَ ﴾ المخْبِتون المتواضعون.
﴿ الّذِينَ يَظُنُّون أنَّهُمُ مُلاَقُو رَبِّهم ﴾ معناها : يوقنون، فالظن على وجهين : يقين، وشك ؛ قال دُرَيد بن الصِّمَّة :
فقلتُ لهم ظُنّوا بأَلْفَى مُدَجَّج سَراتُهُمُ في الفارسيّ المُسَرَّدِ
ظُنُّوا أي أيقِنوا :
فلما عصَوني كنتُ منهم وقد أَرَى غَوايَتَهم وأنني غير مُهتدِ
أي حيث تابعتُهم ؛ وجعله يقينا.
يَسَوُمُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ } ؛ يُولُونكم أشدّ العذاب.
﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبكُمْ عَظِيم ﴾ أي ما ابتليتم من شدة، وفي موضع آخر : البلاء الابتلاء، يقال : الثناء بعد البلاء، أي الاختبار، من بلوتُه، ويقال : له عندي بلاء عظيم أي نِعمة ويد، وهذا مِن : ابتليته خيراً.
﴿ آل فِرْعَوْنَ ﴾ قومه وأهل دينه، ومثلها :﴿ ادْخُلُوا آل فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ ﴾ ﴿ ٤٠/٤٦ ﴾.
﴿ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ ﴾ أي التوراة. ﴿ وَالْفُرقانَ ﴾ ما فرّق بين الحق والباطل.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾، معناها : وقال موسى لقومه.
﴿ بَارِئكُمْ ﴾ : خالقكم من برأتُ.
﴿ الْمَنَّ ﴾ شيءٌ كان يسقط في السّحرَ على شجرهم فيجتنونه حُلْواً يأكونه.
﴿ والسَّلْوَى ﴾ : طائر ﴿ بعينه، وهو الذي سمّاه المولَّدُون سُماني ﴾.
﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ رفع، وهي مصدر من حُطَّ عنا ذنوبنَا ؛ تقديره مدَّة من مددت، حكاية : أي قولوا : هذا الكلام، فلذلك رُفع.
﴿ الرِّجْز ﴾ : العَذاب.
﴿ ولا تَعْثَوْا ﴾ : أي لا تُفسدوا، من عثِيتَ تَعثَى عُثُوّاً، وعَثَا يَعثوا عُثُواً وهو أشدّ الفساد.
﴿ وفومها ﴾ : الفُوم : الحنطة، وقالوا : هو الخبز.
﴿ اهْبِطُوا مِصْراً ﴾ من الأمصار لأنهم كانوا في تيه. قالوا : اثنى عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ يتيهون متحيرين لا يجاوزون ذلك إلاَّ أن الله ظلَّل عليهم بالغَمام، وآتاهم رزقهم هذا المنّ والسّلوَى، وفجَّر لهم الماء من هذه الحجارة، وكان مع كل سبط حجر غير عظيم يحملونه على حمار، فإذا نزلوا وضعوا الحجر فبَجَس الله لهم منه الماء. وبعض حدود التيه بلاد أرض بيت المَقْدِس إلى قِنِّسْرِين.
﴿ الذِّلَّة ﴾ : الصَّغار ﴿ والْمَسْكَنَةُ ﴾ : مصدر المسكين، يقال : ما في بني فلان أسكنُ من فلان أي أفقر منه.
﴿ بَاؤُوا بِغَضَبٍ ﴾ : أي احتملوه.
﴿ الذِّينَ هَادُوا ﴾ أي الذين تابوا ممن تهوَّد ﴿ ؟ ﴾ أي هُدنا إلى ربنا.
﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ : يقال : صبأتَ من دينك إلى دين آخر، إذا خرجت، كما تصبأ النجوم تخرج من مطالعها. ﴿ ويقال صبأتُ ثنيةً إذا طلعتها ﴾
﴿ الطُّور ﴾ جبل، كان رُفع عليهم حيث قيل لهم :﴿ قُولُوا حِطَّة ﴾.
﴿ خَاسِئِنَ ﴾ : مبعَدين، يقال : خسأته عني وخسأت الكلب، باعدته وخسأ الرجل، إذا تباعد.
﴿ إنَّها بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ ﴾ : لا فارض : مُسنّة، ولا بكر : صغيرة.
﴿ بَيْنَ ذلِكَ ﴾ : والعرب تقول : لا كذا ولا كذا ولكن بين ذلك ؛ فمجاز هذه الآية : بين هذا الوصف، ولذلك قال : بين ذلك، وقال رؤبة :
فيها خطوطٌ من سَوادٍ وَبلَقْ ***
فالخطوط مؤنثة والسواد والبلق اثنان، ثم قال :
كأنه في الجِلد تَوْلِيعُ البَهَقْ ***
قال أبو عبيدة فقلت لرؤبة : إن كانت خطوط فقل كأنها، وإن كان سواد وبلق فقل : كأنهما، فقال : كأنّ ذاك ويلك توليع البَهق، ثم رجع إلى السواد والبلق والخطوط فقال :
يُحسَبن شاماً أو رِقَاعاً مِن بَنَقْ
جماعة شأمة.
﴿ بَقَرَةٌ صَفْرَاء ﴾ إن شئت صفراء، وإن شئت سوداء، كقوله :﴿ جِمَالاَتٌ صُفْرُ ﴾ ﴿ ٧٧/٣٣ ﴾ أي سود.
﴿ فَاقِعٌ لَوْنُها ﴾ أي ناصع.
﴿ إنَّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الارْضَ وَلاَ تَسْقِى الْحَرثَ مُسَلَّمَةٌ لاَشِيَة فِيهَا ﴾ أي لون سوى لون جميع جلدها.
﴿ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ أي الآن تبّينا ذلك، ولم تزل جائياً بالحق.
﴿ فَإدَّارَأَتْمُ فِيها ﴾ : اختلفتم فيها من التدارئ والدَرْء.
﴿ فَقُلْناَ اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ : أي اضربوا القتيل ببعضها، ببعض البقرة.
﴿ وَيُرِيكمُ آيَاتِهِ ﴾ : أي عجائبه، ويقال : فلان آية من الآيات، أي عجب من العجب، ويقال : اجعل بيني وبينك آية أي علامة، وآيات بينات أي علامات وحُجج، والآية من القرآن : كلام متصل إلى انقطاعه.
﴿ قَسَتْ قُلُوُبكمْ ﴾ أي جفَت، والقاسي : الجافي اليابس.
﴿ أتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ ﴾ : أي بما منّ الله عليكم، وأعطاكم دونهم.
﴿ اتخَذْتُمُ عِنْدَ اللهِ عَهْداً ﴾ : أي وعداً، والميثاق : العهد يوثق له.
﴿ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكم ﴾ : سَفَك دمه : أي صبّ دمه كما يَسْفَحُ نَحْيَ السَمْن يُهَرِيقه.
﴿ وَقَفَّيْنَا ﴾ : أي أردفنا، مِن يَقفوه.
﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوِح القُدْسِ ﴾ أي شدّدناه وقوّيناه، ورجل ذو أيد وذو آد : أي قوة، والله تبارك وتعالى ذو الأيد، قال العجاج :
مِنْ أَنْ تَبَدّلتُ بآدى آدا ***
﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْناَهَا بأَيْدٍ ﴾ ﴿ ٥١/٤٧ ﴾ أي : بقوة.
﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ : كل شيء في غلاف، ويقال : سيفٌ أغلفُ، وقوسٌ غلفاء، ورجل أغلفُ : إذا لم يختتن.
﴿ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ﴾ : أي في أغطية واحدها كِنان،
قال عمر بن أبي ربيعة :
تحت عَيْنٍ كِنانُها ظِلُّ بُرْدٍ مُرحَّلِ
﴿ لَعَنَهُم اللهُ ﴾ : أي أطردهم وأبعدهم، قالوا : ذئبٌ لعين، أي مطرود مُبعد،
وقال الشَمّاخ :
ذَعرتُ به القَطَا ونَفيتُ عنه مقامَ الذئب كالرجل اللَّعينِ
يريد : مقام الذئب اللعين كالرجل.
﴿ يَسْتَفْتِحِونَ ﴾ : يستنصرون.
﴿ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾ : أي بما بعده.
﴿ وَأُشْربُوا فِي قُلُوبِهِمْ العِجْلَ ﴾ : سُقوه حتى غَلب عليهم ؛ مجازه مجاز المختصَر ؛ أشربوا في قلوبهم العجل : حُبّ العِجل، وفي القرآن :﴿ وَسَلِ الْقَرْيَة ﴾ ﴿ ١٢/٨٢ ﴾، مجازها : أهلَ القرية، وقال النابغة الذبياني :
كأنك من جِمال بنى أُقَيْشٍ يُقعَقع خَلفَ رِجليه بِشَنِّ
أُقَيش : حي من الجن، أضمر جملاً يُقعقَع خلف رجليه بشن، وقال الأَسديّ :
كذبتم وبيتِ الله لا تُنكحونها بنى شابَ قَرْناها تَصُرُّ وَتَحلُبُ
أضمر التي شاب قرناها ؛ وقال أبو أسلم، وأُوتى بطعام قبل طعام، فقال : الذي قبلُ أطيبُ.
﴿ بِمُزَحْزِحهِ ﴾ بمُبعدِه.
﴿ مُصَدِّقاً لمِا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي لما كان قَبلَه.
﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ ﴾ أي بعض ؛ نبذه : نركه، وقال أبو الأسود الدُّؤليّ، قال أبو عبيدة : أخذ من الدألان، واختار الدُّؤلى :
نظرتُ إلى عنوانه فنبذتهُ كنبذك نَعْلاً أَخَلقتْ من نِعالكا
﴿ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ : من نصيب خير.
﴿ وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ ﴾ أي تَتَبَّع }؟ }، وتتلُو : تحكى وتكلمُ به كما تقول : يتلو كتاب الله أي يقرؤه.
﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ ﴾ أي : باعوا به أنفسهم، وقال ابن مُفَرِّغ الحِمْيَريّ :
وَشَرَيْتُ بُرداً لَيتَنِي من بعد بُرْدٍ كنتُ هَامَه
أي بعتُه.
﴿ لَمُثوبَةٌ ﴾ : من الثواب.
﴿ رَاعِنَا ﴾ : مِن راعيت إذا لم تُنوَّن، ومَن نَوَّن جَعَلَهَا كلمة نُهوُا عنها ؛ راعيتُ : حافظت وتعاهدت.
﴿ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، قال أبو ذؤيب :
جزَيتُكِ ضِعفَ الحبّ لما استثبِتِه وما إن جزاكِ الضِّعِفَ مِن أحدٍ قبليِ
أي أحد قبلي، ﴿ استثبته : استغللته ﴾.
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ أي : ننسخها بأية أُخرى، ﴿ أو نُنْسِهَا ﴾ من النِّسيان :﴿ نذهب بها ﴾، وَمَنْ همزها جعلها مِن نؤخرها من التأخير، ومن قال : ننسُوها كان مجازها تُمضيها، وقال جرير : ولا أنسأْتُكم غَضَبِي
ونسأتُ الناقة : سُقتها، وقال طرفة :
وعَنْسٍ كألواح الإران نسأتُها على لاحبٍ كأنه ظهر بُرْجُدِ
يعني أنه يسوقها ويُمضيها.
﴿ نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ﴾ أي نأتيك منها بخير.
﴿ سَوَاءَ السَّبِيل ﴾ أي وسطه، قال عيسى بن عمر : ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي : أي وسطي، وقال حسّان بن ثابت يرثى عثمان بن عَفّان :
يا وَيْحَ أنصارِ النبي ونسلهِ بَعد المغيَّب في سَواء المُلْحَدِ
﴿ فاعْفُوا واصْفَحُوا ﴾ عن المشركين، وهذا قبل أن يؤمر بالهجرة والقتال ؛ فكل أمر نُهى عنه عن مجاهدة الكفار فهو قبل أن يؤمر بالقتال، وهو مكي.
﴿ وَءاتُوا الزَّكَاةَ ﴾ أي أعطوا.
﴿ بُرْهَانَكُمْ ﴾ بيانكم وحجتكم.
﴿ بَلَى مَن أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُو مُحْسِنٌ ﴾ ذهب إلى لفظ الواحد، والمعنى يقَع على الجميع.
﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنْون ﴾ ﴿ ؟ ﴾
﴿ يَتْلُونَ الكِتَابَ ﴾ : يقرءونه.
﴿ وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ ﴾ : ما بين قُطري المغرب وما بين قطري المشرق، والمشارق والمغارب فيهما : فهو مشرقُ كلِّ يوم تطلع فيه الشمس من مكان لا تعود فيه إلى قابِلٍ، والمشرقين والمغربين : مشرق الشتاء ومشرق الضيف، وكذلك مغربهما، " القُطْر والقُتْر والحَدّ والتَّخوم واحد ".
﴿ إنَّ اللهَ وَاسِعٌ ﴾ أي جواد يَسع لمِا يُسأل.
﴿ قَانِتُون ﴾ كل مُقِرٌّ بأنه عبد له ؛ قانتات : مطيعات.
﴿ بَدِيعُ ﴾ : مبتدع : وهو البادىء الذي بدأها.
﴿ وَإذَا قَضَى أمراً فإنَّما يَقُولُ له كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي أَحكمَ أمراً، قال أبو ذُؤيب :
وعلَيْهِما مسرودتان قَضَاهُما داودُ أَو صَنَعُ السَّوابغ تُبَّعُ
أي أحكم عملهما، فرُفع ﴿ فيكون ﴾ لأنه ليس عطفاً على الأول، ولا فيه شريطة فيجازى، إنما يخبر أن الله تبارك وتعالى إذا قال : كن، كان.
﴿ لَوْلاَ يُكلِّمُنَا اللهُ ﴾ : هلاّ يكلمنا الله، وقال الأَشْهب ابن رُمَيلة :
تَعُدُّون عَقْر النِّيبِ أفضلَ مجدكم بَنِى ضَوْطَرَى لولا الكَمِىَّ المُقَنَّعَا
يقول : هلاّ تعدُّون الكِمَىَّ المقنَّعا، يقال : رجل ضَوْطَرِى وامرأة ضَوْطرة : أي ضَخْمة كثيرة الشحم ومثله ضَيطار.
﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم ﴾ أي دينهم، والملل : الأديان.
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ أي يُحلُّون حلاله، ويحرِّمون حرامه.
﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِه فأُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ وقع على الجميع.
﴿ لا تَجزِى نفْسٌ عَنْ نَفسٍ شَيْئاً ﴾ أي لا تُغنى.
﴿ وَلاَ يُقبَلُ مِنْها عَدْلٌ ﴾ : أي مِثلٌ، يقال : هذا عَدْل هذا ؛ والعدل الفريضة، والصَّرف النافلة ؛ وقال أبو عبيدة : العدل المِثلُ والصَّرْف المِثل، والعدل الفِدَاء، قال الله تبارك وتعالى :﴿ وَإنْ تَعْدِلْ كلَّ عَدْلٍ ﴾ ﴿ ٦/٧٠ ﴾.
﴿ وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ ربُّهُ ﴾ أي اختبره.
﴿ مثَابَةً ﴾ مصدرُ ﴿ يثوبون إليه ﴾ أي يصيرون إليه.
﴿ وَالْعَاكِفِينَ ﴾ : العَاكِف أي المقيم.
والرُكَّعِ السُّجُودِ : الذين يركعون ويسجدون، والراكع العاثر من الدواب.
قال الشاعر : على قَرْوَاءَ تَرْكَع في الظِّرابِ ***
الظراب : الجبال الصغار ؛ قال لبيد :
أخبِّرُ أخبارَ القرون التي مضتْ أَدِبُّ كأنّي كلما قُمتُ راكعُ
﴿ قَوَاعِدَ البَيْتِ ﴾ : أساسه، مخفف، والجميع أُسُس، وجماع الأُسّ إذا ضممته آساس، تقديره : أفعال ؛ ﴿ والقواعد ﴾ : الواحد من قواعد البيت قاعدةٌ. والواحدة من قواعد النسا قاعدة، وقاعد أكثر، قال الكُمَيت ابن زيد :
في ذِروة مِن يَفاعٍ أوّلهُم زَانت عواليها قواعدُها
وقال أيضاً :
وعاديةٍ من بِناء الملوك تَمُتُّ قواعدُ منها وسورا
واحدها قاعدة.
﴿ يَرْفَعُ ﴾ أي يبني.
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أي علِّمنا، قال حُطائِط بن يَعْفُر :
أريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني أرى ما ترين أو بخيلا مُخَلَّدَاً
لأنني بفتح اللام، أراد : دلّيني ولم يرد رؤية العين، ومعنى " لأنني " لعلني.
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ أي يطهّرهم، قال :﴿ نَفْساً زَكِيّةً ﴾ ﴿ ١٨/٧٥ ﴾ أي مطَّهرة.
﴿ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ أي أهلك نفسه وأوبقها، تقول : سفهتَ نفسك.
﴿ اصْطَفَى لَكمُ الدِّينَ ﴾ أي أخلص لكم الدين، من الصَفْوة.
﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ ﴾ ﴿ أم ﴾ تجئ بعد كلام قد انقطع، وليست في موضع هل، ولا ألفِ الاستفهام، قال الأخطل :
كذبَتْك عينُك أم رأيتَ بواسطٍ غَلَسَ الظَّلام من الرَّبابِ خيالا
يقول : كذبتك عينك، هل رأيت، أو بل رأيت.
﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وَإلهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإِسْحاقَ ﴾ والعرب تجعل العم والخال أباً.
قال أبو عبيدة : لم أسمع من حَمّاد هذا، قال حماد بن زيد عن أيوب، عن عِكرمة : إنّ النبي صلى الله عليه قال يوم الفتح، حيث بعث العباس إلى أهل مكة : رُدُّوا عَليَّ أبي فإنّي أخَافُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ قريش مَا فَعَلت ثَقِيف بِعُرْوَةَ بن مَسْعُود، ثم قال : لَئن فَعَلُوا، لأَضْرِمَنَّهَا عَلَيْهِمْ نَاراً، وكان النبي صلى الله عليه بعث عُرْوة إلى ثقيف يدعوهم إلى الله، فرقى فوقَ بيتٍ، ثم ناداهم إلى الإسلام فرماه رجل بسهم، فقتله.
﴿ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ ﴾ : انتصب، لأن فيه ضمير فعلٍ، كأن مجازه بل اتبعوا ملة إبراهيم، أو : عليكم ملة إبراهيم.
﴿ حِنِيفاً ﴾ : الحنيف في الجاهلية من كان على دين إبراهيم، ثم سمّى من اختتن وحج البيت حنيفاً لما تناسخت السنون، وبقي من يعبد الأوثان من العرب قالوا : نحن حُنفاء على دين إبراهيم، ولم يتمسكوا منه إلا بحج البيت، والخِتان ؛ والحنيف اليوم : المسلم.
قال ذو الرمة :
إذا خالف الظِّلّ العشِيّ رأيته حنيفاً ومِن قَرْن الضُّحَى يتَنصَّرُ
يعني الحرباء.
﴿ فَإنّمَا هُمْ فِي شِقاقٍ ﴾، مصدرُ شاققته وهو المشاقّة أيضاً، وشاقّه : باينه، قال النابغة الجَعْديّ :
وكان إليها كالذي اصطاد بَكْرَها شِقاقاً وبُغضاً أو أَطمَّ وَأَهْجَرا
ومجازه : حارب، وعصى.
﴿ صِبْغَةَ اللهِ ﴾ أي دينَ الله، وخِلقتَه التي خلقه عليها، وهي فِطرته، مِن فاطر أي خالق.
﴿ أَم تقُولُونَ إنَّ إبْرَاهِيمَ ﴾ أم في موضع ألف الاستفهام، ومجازها : أتقولون.
﴿ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ أي عَدْلاً خياراً، ومنه قولهم : فلان واسطٌ في عشيرته، أي في خيار عشيرته.
{ وقال غَيْلان :
وقد وسَطتُ مالكا وحَنْظَلا
أي صرت من أوسطهم وخيارهم }. وواسط : في موضع وسط، كما قالوا : ناقة يَبَسٌ ويابسةُ الخِلْف.
﴿ رَؤُفٌ ﴾ : فَعول من الرأفة، وهي أشدّ الرحمة.
{ قال الكُميت :
وهم الأَرأفون بالناس في الرأ فة والأحْلمون في الأحلامِ
﴿ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي قصدَ المسجد الحرام، قال الهذليّ :
إنّ العَسِير بها داءٌ مُخَامِرُها فَشطْرَها نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
﴿ العسير : الناقة التي لم تُركب ﴾، شطرها : نحوها، وقال ابن أحْمَر :
تَعْدو بنا شَطْرَ جَمْعٍ وهي عاقِدةٌ قد كارب الْعقْدُ مِن إيقادها الحُقُبَا
إيقادها : سُرعتها.
﴿ بِكُلِّ آيةٍ ﴾ أي علامة، وحجة.
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا ﴾ أي موجّهها.
﴿ لَئِلاَّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ موضع ﴿ إِلاَّ ﴾ ها هنا ليس بموضع استثناء، إنما هو موضع واو الموالاة، ومجازها : لئلا يكون للناس عليكم حجة، وللذين ظلموا، وقال الأعشى :
إلاّ كخارِجةَ المكلِّفِ نفسَه وَابْنَي قَبِيصةَ أن أَغِيبَ وَيَشْهَدا
ومعناه : وخارجةَ، وقال عَنزَ بن دَجاجةَ المازِنيّ :
مَنْ كان أَسْرَعَ فِي تَفَّرُقِ فالجٍ فلبُونُه جَرِبَتْ معاً وأَغدَّتِ
إلاّ كناشِرَةَ الذي ضَيّعتمُ كالغُصْن في غُلَوائِهِ المُتَنَبِّتِ
غُلَوَائه : سرعة نباته، يريد : وناشرة الذي ضيعتم، لأن بني مازن يزعمون أن فالجا الذي في بني سُلَيم، وناشرة الذي في بني أسد : هما، ابنا مازنٍ.
﴿ أُوَلئِكَ عَلَيْهِم صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَة ﴾ يقول : ترحّمٌ من ربهم، قال الأعشى :
تقول بِنْتِى إذا قَرَّبْتُ مُرْتَحِلاً يا رَبِّ جَنِّبْ أبي الأوصابَ والوَجَعا
عليكِ مِثل الذي صَلَّيتِ فاغْتَمِضِى نَوماً فإن لجِنب المرء مُضْطجَعا
فمن رفع ﴿ مثل ﴾ جعله : عليكِ مثلُ ذلك قلتِ لي ودعوتِ لي به، ومن نصبه جعله أمراً يقول : عليكِ بالترحم والدعاء لي.
شَعَائِر اللهِ } : واحدتها شعيرة، وهي في هذا الموضع : ما أُشِعر لِمَوقفٍ أو مَشْعَرٍ أو مَنْحَرٍ أي أُعلم لذاك. وفي موضع آخر : الهَدْى، إذا أَشعرها، وهو أن يُقلِّدها، أو يحللِّها فَأَعلم أنها هَدىٌ، والأصل : أنُ يشعرها بحديدة في سنامها من جانبها الأيمن : يَطعُنها حتى يَخرج الدم.
﴿ والفُلْكِ ﴾ : تقع على الواحد، وعلى الجميع، وهي السفينة والسُّفُن، والعرب تفعل ذلك قالوا : هي الطَّرْفاء، وهذه الطَّرْفاء.
﴿ وَبَثَّ فِيهَا ﴾ أي فرّق وبسَط، ﴿ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ ﴿ ٨٨/١٦ ﴾ أي متفرقة مبسوطة.
﴿ وُلَوْ يَرَىَ الْذِينَ ظَلَمُوا ﴾ أي يعلم، وليس برؤية عين.
﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ ﴾ أي الوُصُلات التي كانوا يتواصلون عليها في الدنيا، واحدتها ﴿ وُصْلة ﴾.
﴿ حَسَراتٍ ﴾ : الْحَسْرَة أشدّ الندامة.
﴿ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ هي الخُطَى، واحدتها : خُطوة، ومعناها : أثر الشيطان.
﴿ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ : أي وجدنا. ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لاَ يَعْقِلُون شَيْئاً ﴾، الألف ليست ألف ﴿ الاستفهام ﴾ أو الشك، إنما خرجت مخرج الاستفهام تقريراً بغير الاستفهام. ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لاَ يَعْلِقون شَيْئاً ﴾ أي : وإن كان آباؤهم.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ ﴾، إنما الذي يَنْعِقُ الراعي، ووقع المعنى على المنعوق به وهي الغنم ؛ تقول : كالغنم التي لا تسمع التي ينعق بها راعيها ؛ والعرب تريد الشيء فتحوّله إلى شيء من سببه، يقولون : أعرض الحوضَ على الناقة وإنما تُعرَض الناقة على الحوض، ويقولون : هذا القميص لا يقطعني، ويقولون : أدخلت القَلَنْسُوَة في رأسي، وإنما أدخلت رأسك في القَلَنْسُوَة، وكذلك الخُفّ، وهذا الجنس ؛ وفي القرآن :﴿ مَا إنْ مَفَاتِحَه لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ﴾ ﴿ ٢٨/٣٦ ﴾ ما إنّ العُصْبة لتنوء بالمفاتح : أي تثقلها. والنعيق : الصِيَاح بها، قال الأخطل :
﴿ وَمَا أُهِلَّ بِه ﴾ أي وما أريدَ به، وله مجاز آخر، أي : ما ذُكر عليه من أسماء آلهتهم، ولم يُرد به الله عز وجل. جاء في الحديث : أَرَأَيْتَ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ وَلاَ صَاحَ فاسْتُهِلَّ أَلَيْسَ مِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ.
﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ أي لا يبغي فيأكله غيرَ مضطر إليه، ولا عادٍ شِبَعَه.
﴿ فَما أَصْبَرَهُم عَلَى النَّارِ ﴾ ﴿ ما ﴾ في هذا الموضع في معنى الذي، فمجازها : ما الذي صبّرهم على النار، ودعاهم إليها، وليس بتعجب.
﴿ لَيْسَ البِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشرِق وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ﴾، فالعرب تجعل المصادر صفاتٍ، فمجاز البرّ ها هنا : مجاز صفة ل }مَن آمن بالله }، وفي الكلام : ولكن البارَّ مَن آمن بالله، قال النابغة :
انْعِقْ بضَأنك يا جريرُ فإنما منَّتك نفْسُك في الخلاء ضَلالا
وقد خِفتُ حتى ما تَزيدُ مَخافتِي على وَعِلٍ في ذي القِفَارة عاقِلِ
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم ﴾ رُفعت على موالاة قوله :﴿ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ﴾ وفي وفعل ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم ﴾، ثم أُخرجوا ﴿ والصَّابِرِين فِي البَأَسَاءِ ﴾ من الأسماء المرفوعة، والعرب تفعل ذلك إذا كثر الكلام ؛ سمعتُ مَن ينشد بيت خِرْنِق بنت هِفّان من بني سعد بن ضُبَيْعة، رهط الأعشى :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الذين هُمُ  سُمُّ العُداة وآفةُ الْجُزرِ
النازلين بكل مُعْتَرَكٍ والطيبين مَعاقِدَ الأزْرِ
فيخرجون البيت الثاني من الرفع إلى النصب، ومنهم من يرفعه على موالاة أوله في موضع الرفع.
﴿ فَمَنْ عُفِىَ لهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ ﴾ أي تُرك له.
﴿ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً ﴾ أي جوراً عن الحق، وعُدولاً، قال عامر الخَصَفّيِ :
هُمُ المَوْلَى وقد جنَفَوا علينا ***  وإنّا من لِقائهم لَزُورُ
جنفوا : أي جاروا، والمولى هاهنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله :﴿ يُخْرِجُكم طِفْلاً ﴾.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ أي فُرض عليكم.
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي } أي يُجيبوني، قال كَعْب الغَنَوِيّ :
وداعٍ دعا يا مَن يُجِيب إلى النَّدَى فلم يستجبه عند ذاك مُجيبُ
أي فلم يحبه عند ذاك مجيب.
﴿ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ : مجازها ليل الصيام، والعرب تضع الواحد في موضع الجميع، قال عامر الخَصَفّيِ :
هُمُ المَوْلى وقد جنَفَوا علينا وإنّا من لِقائهم لَزُورُ
﴿ الرَّفَثُ ﴾ أي الإفضاء إلى نسائكم، أي النكاح.
﴿ هُنَّ لِيَاسٌ لَكُمْ ﴾ : يقال لامرأة الرجل : هي فراشه، ولباسه وإزاره، ومحل إزاره، قال الْجَعْدِيّ :
تَثَنَّتْ عليه فكانت لِباسا ***
﴿ الْخَيْط اْلأَبْيَضُ مِنَ الْخَيَطِ اْلأَسْوَدِ ﴾ : الخيط الأبيض : هو الصبح المصدّق، والخيط الأسود هو الليل، والخيط هو اللون.
﴿ فَرِيقاً ﴾ : الفَرِيق هي الطائفة.
﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا ﴾ : البرّ هنا : في موضع البار، ومجازها : أي اطلبوا البرّ من أهله ووجهه ولا تطلبوه عند الجهَلة المشركين.
﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ أي الكفر أشدّ من القتل في أشهر الحُرُم، يقال : رجل مفتون في دينه أي كافر.
﴿ التَّهْلُكَةِ ﴾ والهَلاك، والهَلَك، والهُلْك واحد.
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله، : والمعنى : أن العمرة ليست بمفترضة، وإنما نصبت على ما قبلها ؛ قال أبو عبيدة : وأخبرنا ابن عَوْن عن الشَّعْبي أنه كان يقرأ { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةُ لله ﴾ يرفع العمرة، ويقول : إنها ليست بمفترضة. ومن نصبها أيضاً جعلها غير مفترضة.
﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ ١٩٦ } أي إن قام ﴿ بكم ﴾ بعير، أو مرضتم، أو ذهبت نفقتكم، أوفاتكم الحجُّ، فهذا ﴿ كله ﴾ مُحْصَر، والمحصور : الذي جُعل في بيت، أو دار، أو سجنٍ.
﴿ الهَدْىِ ﴾ قال يونس : كان أبو عمرو يقول في واحد ﴿ الهَدْى ﴾ : هَدْية، تقديرها جَدْية السرج، والجميع الْجَدى، مخفف. قال أبو عمرو : ولا أعلم حرفاً يشبهه.
﴿ أَوْ نُسُكٍ ﴾ : النُّسُك أن يَنسُك، يَذبَح لله، فالذبيحة النسيكة.
﴿ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلةٌ ﴾، العرب تؤكد الشيء وقد فُرغ منه فتعيده بلفظ غيره تفهيماً وتوكيداً.
﴿ فمنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ ﴾ مَنْ أَوْ ذَم في الحج : أي فرضه عليه أي ألزمه نفسه.
﴿ فلا رَفَثَ ﴾ أي لَغَا من الكلام، قال العجاج :
عن اللَّغَا ورَفثِ التكلّمِ
﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ ﴾ أي لا شك فيه أنه لازِمٌ في ذي الحجة، هذا فيمن قال :﴿ جدالَ ﴾ ومن قال :﴿ لا جدالٌ في الحجّ ﴾ : من المجادلة.
﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ ﴾ أي رجعتم من حيث جئتم.
﴿ مَعْدُودَاتٍ ﴾ : الْمَعْدُودَات : أيام التشريق ؛ المعلومات : عَشْر ذي الحجة.
﴿ أَلَدُّ الخِصَام ﴾ : شديد الخصومة، ويقال للفاجر : أبلُّ وألدُّ، ويقال : قد بللَتَ ولدِدت بعدي ؛ مصدره اللَدَد، والجميع : قوم لُدّ، قال المُسَيَّبُ بن عَلَس :
ألا تتّقون اللهَ يا آل عامرٍ وهل يتّقى اللهَ الأَبَلُّ المُصَمِّمُ
﴿ وَلَبِئْسَ المِهَادُ ﴾ : الفِرَاش.
﴿ يَشْرِى نَفْسَهُ ﴾ : يبيعها.
﴿ السِّلْمِ ﴾ : الإسلام، والسَّلْم يؤنث ويذكر، قال حاجز الأزْدِيّ :
وإنّ السِّلم زائدةٌ نَوَاه
وفي موضع آخر الصلح، ﴿ كَافَّةً ﴾ : جميعاً، يقال : إِنه لَحَسَنُ السِّلمِ.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ ﴾ : أي أفضل منهم.
﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ بغير محاسبة.
﴿ أُمةً وَاحِدَةً ﴾ أي مِلَّةً واحدةً.
﴿ أَمْ حَسِبْتمُ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة ﴾ أي أحسبتم ﴿ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ﴾.
﴿ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ أي مضّوا.
﴿ وَزُلْزِلُوا ﴾ أي خُوِّفوا.
﴿ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ مجرور بالجوار لمِا كان بعده ﴿ فِيهِ ﴾ كنايةٌ للشهر الحرام، وقال الأعشى :
لقد كان في حَولٍ ثَواءٍ ثَوَيتُه تُقَضِّى لُبَاناتٍ ويَسأم سائمُ
﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ أي بطَلت وذهبت.
﴿ الْمَيْسِرِ ﴾ القِمار.
﴿ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ أي الطاقة التي تُطيقها والقَصْدَ، تقول : خذ ما عفا لك، أي ما صفا لك.
﴿ لأَعْنَتَكُمْ ﴾ أي لأهلككم، مِن العَنَت.
﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ﴾ كنايةٌ، وتشبيه، قال :﴿ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ ﴾.
﴿ وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ أي نَصباً.
و﴿ اللَّغْوِ ﴾ : لا والله، وبلى والله، وليس بيمينٍ تقَتَطِع بها مالاً أو تظلم بِها.
﴿ يولُونَ ﴾ : يُولِى يحلف، من الأَليّة وهي اليمين، أُلْوَة، وأليّة اليمينُ قال أوْس بن حَجَر :
﴿ فَإِنْ فَاؤُوا ﴾ أي رجعوا عن اليمين.
﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ : وَالتَّرَبُّص ﴿ أَن ﴾ لا تَقدَم على زوج حتى تقَضى ثلاثة قروءٍ ؛ واحدها : قَرْءٌ، فجعله بعضهم ﴿ الحِيضة ﴾، وقال بعضهم : الطهر، قال الأعشى :
عَلَىَّ أَليّةٌ عتقت قديماً فلَيس لها وإن طُلِبتْ مَرامُ
وفي كل عام أنتَ جاشمُ غزوةٍ تَشُدُّ لأَقصاها عَزِيمَ عَزائِكا
مؤرَّثةٍ مالاً وفي الأصل رِفْعَةً لِما ضاَع فيها مِن قُرُوءِ نِسائكا
وكل قد أصاب، لأنه خروج من شيء إلى شيء فخرجتْ من الطهر إلى الحيض، ومن قال : بل هو الطهر فخرجتْ من الحيض إلى الطهر. وأظنه أنا من قولهم : قد أقرأت النجومُ، إذا غابت.
﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ : الأزواج، واحدها بَعْل.
﴿ دَرَجَةٌ ﴾ : منزلة.
﴿ إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ ﴾ معناها : إلاّ أن يُوقنا.
﴿ فَإنْ خِفْتُمْ ﴾ ها هنا : فإن أيقنتم.
﴿ إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ ﴾ أي أيقَنا.
﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ : منتهى كل قرءٍ أو شهر، فإذا فبلغن أجلهن ﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ في هذا الموضع : منتهى العِدَّة الوقت الذي وقَّت الله ؛ ثم قال :﴿ تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي تزويجاً صحيحاً ؛ ﴿ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ أي لا تحبسوهن، ونرى أن أصله من التعضيل.
﴿ لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ رفعٌ، خبر، ومن قال :﴿ لاَ تُضَارَّ ﴾ بالنصب ؛ فإنما أراد ﴿ لاَ تُضَارِرْ ﴾، نَهْىٌ.
﴿ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِه مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ أي في عِدَّتهن أن تقول : إني أريد أن أتزوجكِ وإن قُضى شيء كان.
﴿ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ السِّر : الإفضاء بالنكاح، قال الْحُطَيْئَة :
ويَحرُم سِرُّ جارتِهم عليهم ويأكل جارُهم أُنُفَ القِصاعِ
أي ما استأنفت ؛ وقال رؤبة بن العجّاج :
فعَفَّ عن إسرارها بَعد العَسَقْ ***
يعني غشيانها، أراد الجمِاع. قال امرؤ القيس بن حُجْر الكِنْديّ :
ألا زَعمتْ بَسْباسةُ اليومَ أنَّنِي كَبِرتُ وألاَّ يُحسِنُ السِرَّ أمثالِي
﴿ المُقْتِرِ ﴾ يقال : قد أقترَ فلان، إذا كان كان مُقِّلاً، قال الشاعر :
ولا مِن رَبِيع الُمْقِترين رُزِئْتُهُ بِذِي عَلَقٍ فاقنَىْ حَياءَكِ واصْبرِي
﴿ إلاَّ أنْ يَعْفُونَ ﴾ هن : يتركن، يهبن، عفوت لك عن كذا وكذا : تركته لك.
﴿ فرِجَالاً ﴾ : واحدها : راجل، مثل قيام وقائم.
﴿ وَلِلمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالْمَعْرُوفِ ﴾ : كانوا إذا طّلقوا يمتعونها من المِقنعة فما فوق ذلك ؛ متعها وحمَّمها : أي أعطاها.
﴿ الَمَلإِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ﴾ : وجوههم، وأشرافهم، ذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من بدر سمع رجلاً من الأنصار يقول : إنمَا قَتَلْنَا عَجَائِزَ صُلْعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولئِكَ الَمَلأ مِنْ قُرَيَشٍ لو احتَضرتَ فَعَالهم، أي حضرت، احْتَقَرْتَ فَعَالَكَ مَعَ فَعَالهِم.
﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ ﴾ : هل تعدون أن تفعلوا ذلك.
﴿ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ أي زيادة، وفضلاً وكثرة.
﴿ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ : علامات، وحُججاً.
﴿ مُبْتَلِيكمُ بِنَهَرٍ ﴾ : مختبركم.
﴿ غَرْفَةً ﴾ الغَرْفة مصدر، والغُرْفة : مِلْء الكف.
﴿ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُوا اللهِ ﴾ يوقنون.
﴿ فِئَةٍ ﴾ : جماعة.
﴿ أفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ : أنزل علينا.
﴿ خلَّةٌ ﴾ : مصدر الخليل، وتقول : فلان خُلّتى : أي خليلي، قال أوْفَى بن مَطَر المازنيّ :
ألا أبلِغا خُلّتِي جابراً بأن خليلك لم يُقْتَلِ
يقال : فلان خُلَّتِي : أي خليلي.
﴿ الْقَيُّوم ﴾ : القائم وهو الدائم الذي لا يزول، وهو فَيْعول.
﴿ سِنَةٌ ﴾ السِّنة : النُّعاس، والوَسنة النُّعاس أيضاً. قال عَدِي بن الرِّقاع :
وَسْنَانُ أقصَدَه النُّعَاسُ فرنَّقَتْ /// في عينه سِنةٌ وليس بنائمِ
﴿ ولاَ يَئُودُهُ ﴾ : ولا يُثقله، تقول : لقد آدَني هذا الأمر، وما آدَك فهو لي آئدٌ، قال الكمَيْت :
علينا كالنِّهَاءِ مُضاعَفات مِن الماذِيّ لم تؤُدِ المتُونَا
تقول : ما أثقَلك فهو لي مُثْقِل.
﴿ لاَ انْفِصَامَ لها ﴾ أي لا تكسر، وقال الكميت :
فهُم الآخذون من ثِقَة الامرِ بتقواهم وعُرىً لا انفصامَ لها }
﴿ بالطَّاغُوت ﴾ : الطّاغُوت : الأصنام، والطواغيت من الجن والإنس شياطينهم. ﴿ العُرْوَةِ الوُثْقَى ﴾ شُبّه بالعُرَى التي يُتَمسك بها.
﴿ أوْلِيَاؤُهمُ الطَّاغُوتُ ﴾ في موضع جميعٍ لقوله :﴿ يُخْرِجُونَهُمْ ﴾، والعرب تفعل هذا، قال :
في حَلْقكم عَظمٌ وقد شَجِينا ***
وقال العباس بن مِرْداس :
فقلنا أسلمِوا إنا أخوكم فقد بَرئَتْ من الإحَنِ الصُّدورُ
﴿ فَبُهتَ ﴾ : انقطع، وذهبتْ حُجَته، وبُهِتَ : أكثرُ الكلام، وبَهُت إن شئت.
﴿ خَاوِيَةٌ ﴾ : لا أنيس بها، ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ على بيوتها وأبنيتها.
﴿ لم يَتَسَنَّهْ ﴾ : لم تأت عليه السنون فيتغير، وهذا في قول من قال للسنة :﴿ سُنَية ﴾ مصغرة، وليست من الأَسن المتغير، ولو كانت منها لكانت ولم يتَأسن.
﴿ نَنْشُرُهَا ﴾ : نجييها ومن قال :﴿ نَنْشُزُها ﴾ قال : نَنْشز بعضها إلى بعض }.
﴿ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ﴾ : فمن جعل من صُرتَ تصور، ضمَّ، قال :﴿ صُرْهُنَّ إِليْكَ ﴾ ضُمَّهن إليك، ثم اقطعهن.
﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ﴾ : فمن جعل من ﴿ صِرْتُ قطَّعت وفرَّقت ﴾ قال : خذ أربعة من الطير إليك فصِرهن إليك أي قطعهن ثم ضَع على كل جبل منهن جزءاً قالت خنساء :
لَظَلتْ الشُّمُّ منها وهي تِنصارُ
الشُّمُّ : الجبال، تنصار : تُقطَع وتُصدَع وتُفلَق ؛ وأنشد بعضهم بيت أبي ذُؤيب :
فَانْصرْنَ من فَزَعٍ وسَدَّ فروجَه غُبْرٌ ضَوارٍ وافيانِ وأَجْدَعُ
صُرْنا به الحكم : أي فصَّلنا به الحكم. وقال المُعَلّي بن جَمال العَبْدِيّ.
وجاءت خُلْعة دُهْسٌ صَفايا يَصور عُنوقَها أَحْوَى زَنِيمُ
ولون الدَّهاس : لون الرمل كأنه ترابُ رَمْلٍ أدهَسُ. خُلْعة : خيارُ شائِه ؛ صفايا : غزِارٌ، ويقال للنخلة : صَفيّة أي كثيرة الحمل.
﴿ صَفْوَانٌ ﴾ الصَفْوان : جِماع، ويقال للواحدة :﴿ صَفْوَانة ﴾ في معنى الصَّفاة، والصَّفا : للجميع، وهي الحجارة المُلْس.
﴿ صَلْداً ﴾ والصَّلْد : التي لا تُنبت شيئاً أبداً من الأرضِين، والرؤوس، وقال رؤبة :
بَرّاقُ أصلادِ الجَبينِ الأَجْلَهِ ***
وهو الأجْلح ﴿ بِرُبْوَةٍ ﴾ رُبْوَة : إرتفاع من المسيل.
﴿ إِعْصَارٌ ﴾ اْلإِعصار : ريح عاصف، تهبّ من الأرض إلى السماء، كأنه عمود فيه نار.
﴿ وَلاَ تَيَممَّوُا الْخبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ : أي لا تَعمِدوا له، قال خُفاف بن نَدْبة :
فإِن تك خَيْلِى قد أُصِيب صَمِيمُها فَعَمْداً على عينٍ تَيمّمت مالِكا
﴿ إلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾ : تُرخّص لنفسك.
﴿ إلْحَافاً ﴾ : إلحاحاً.
﴿ المَسِّ ﴾ من الشيطان، والجن، وهو اللَّمَم، وهو ما ألمَّ به، وهو الأولَق والألْسُ والزُّؤد، هذا كله مثل الجنون.
﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ : العرب تصنع هذا ؛ إذا بَدَءوا بفعل المؤنث قبله.
﴿ فَلَهُ مَا سلَف ﴾ : ما مضى.
﴿ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ﴾ : يُذهبه كما يمحق القمر، ويمحق الرجل إذا انتقص مالَهُ.
﴿ فأذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ﴾ : أيقنوا، تقول : آذنتُكَ بحرب، فأذِنتَ به.
﴿ لاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيئاً ﴾ : لا ينقُص، قال : لا تَبْخَسْنِي حقي ﴿ ؟ ﴾، قال في مَثَل : تحسبها حَمْقاء وهي باخسة. أي ظالمة.
﴿ أنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّر إحْدَاهُمَا الأخْرَى ﴾ أي تنسَى.
﴿ وَلاَ يَأبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا ﴾ قال فيمن شَهِد : لا يأب إذا دُعى، وله قبل أن يشهد أن لا يفعل.
﴿ أَقْسَطُ عِنْدَ الله ﴾ أعدل.
﴿ فُسُوقٌ ﴾ الفسوق : المعصية في هذا الموضع.
﴿ فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ قال أبو عمرو : الرِّهان في الخيل، وأنشد قول قَعْنَب بن أُمّ صاحب من بني عبد الله بن غَطفَان :
بانَتْ سُعادُ وأمس دونَها عَدَنُ وغُلّقتْ عندها من قبلك الرُّهنُ
﴿ غُفْرَانَكَ ﴾ : مغفرتك، أي اغفر لنا.
﴿ إصْراً ﴾ : الإِصْر الثِّقل وكلُّ شيء عطفك على شيء من عهدٍ، أو رحم فقد أصرك عليه، وهو الأصر مفتوحة، فمن ذلك قولك : ليس بيني وبينك آصِرة رَحْمٍ تأصُرني عليك، وما يأصرني عليك حقٌ : ما يعطفني عليك ؛ وقال الأُبَيْرِد في قوله عزّت قدرته :﴿ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ﴾ :
فما تَقبل الأحياءُ من حُب خِنْدِفٍ ولكن أطراف العَوالِي تصورها
أي تضمّها إلينا.
سورة البقرة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.

ترتيبها المصحفي
2
نوعها
مدنية
ألفاظها
6140
ترتيب نزولها
87
العد المدني الأول
285
العد المدني الأخير
285
العد البصري
287
العد الكوفي
286
العد الشامي
285

* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:

عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).

* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:

عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ  مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).

* قوله تعالى: ﴿مَن ‌كَانَ ‌عَدُوّٗا ‌لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.

قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ ‌عَلَىٰ ‌مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].

قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».

قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.

قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.

قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.

قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.

فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ ‌مَن ‌كَانَ ‌عَدُوّٗا ‌لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).

* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:

جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).

* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ‌اْلْمَشْرِقُ ‌وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).

* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ ‌جَعَلْنَا ‌اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].

سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ ‌وَاْتَّخِذُواْ ‌مِن ‌مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].

وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.

واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ ‌عَسَىٰ ‌رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).

* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]،  فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).

* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].

ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).

* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].

جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).

* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].

سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).

* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):

لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).

«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).

وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).

* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:

كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).

* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:

فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).

* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:

فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).

* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:

فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).

* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:

فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).

وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).

* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:

فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).

* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ ‌لَآ ‌إِلَٰهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌اْلْحَيُّ ‌اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).

* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:

فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).

* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:

فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).

حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:

هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).

هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).

أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).

بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).

تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).

ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).

وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).

دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).

انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).

مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).

الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).

تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).

نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).

تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).

قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).

الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).

حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).

دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).

جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).

ولو أن أمّ الناس حَوَّاءَ حاربتْ تميمَ بن مُرٍّ لم تجد من تُجيرُها