ﰡ
﴿الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾.
أسباب النزول
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله: ﴿الم﴾ إلى قوله: ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ أقوالا.
أحدهما: أنّها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة.
والثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد. اه. من «البحر».
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الم﴾: الله أعلم بمراده بذلك، فأرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدىء بها كثير من السور سواء كانت أحاديّة: كـ ﴿ق﴾ و ﴿ص﴾ و ﴿ن﴾، أو ثنائية: كـ ﴿طس﴾ و ﴿يس﴾، أو ثلاثية: كـ ﴿الم﴾ و ﴿الر﴾ و ﴿طسم﴾، أو رباعية: كـ ﴿المص﴾ و ﴿المر﴾ أو خماسيّة: كـ ﴿كهيعص﴾: أنّه من المتشابه الذي اختصّ الله سبحانه وتعالى بعلمه، وعلى هذا فلا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، فلا يحكم عليها بإعراب، ولا بناء، ولا تركيب مع عامل.
والحاصل: أنّ مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور: أربعة عشر حرفا، وهي نصف حروف الهجاء، وقد تفرّقت في تسع وعشرين سورة، المبدوء بالألف
وعبارة «الروح» هنا: واعلموا أنّهم تكلّموا في شأن هذه الفواتح الكريمة، وما أريد بها. فقيل: إنّها من العلوم المستورة، والأسرار المحجوبة؛ أي: من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها: طلب الإيمان بها، والإشارة إلى أنّ القرآن إنّما نزل للإعجاز. وقيل: كلّ حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، فالألف: مفتاح اسم الجلالة، واللام: مفتاح اسم اللطيف، والميم: مفتاح اسم المجيد، كما أنّ قوله تعالى: ﴿الر﴾ أنا الله أرى، و ﴿كهيعص﴾ أنا الله الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق، وكذا قوله تعالى: ﴿ق﴾ إشارة إلى أنّه القادر، و ﴿ن﴾ إشارة إلى أنّه النور الناصر، فهي حروف مقطعة كلّ منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية، كما قال الشاعر:
قلت لها قفي فقالت ق
أراد قالت: وقفت وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرّا فا | ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا |
وقال الشيخ الأكبر - رحمه الله تعالى في «تفسيره»: وأمّا الحروف المجهولة التي أنزلها الله تعالى في أوائل السور، فسبب ذلك؛ من أجل لغو العرب عند
وقال المراغي: ﴿الم﴾ هي وأمثالها من الحروف المقطعة، نحو: ﴿المص﴾ و ﴿الر﴾ حروف للتنبيه كألا، ويا، ونحوهما مما وضع؛ لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت؛ للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم، والإشارة إلى إعجازه، وإقامة الحجة على أهل الكتاب، إلى نحو ذلك مما جاء في أثناء السورة.
وتقرأ مقطعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال في أسماء الأعداد: واحد اثنان ثلاثة. انتهى. وعلى هذا القول: فلا محلّ لها من الإعراب، كالقول الأوّل الراجح. وقيل: إنّها أسماء للسور التي ابتدئت بها. وقيل: أسماء للقرآن. وقيل: أسماء لله تعالى. وقيل: كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، كما مرّ؛ أي: إنّ كلّ حرف منها اسم مدلوله حرف من حروف المباني، وذلك الحرف جزء من اسم من أسماء الله تعالى، فألف: اسم مدلوله اه من الله، واللام، اسم مدلوله له من لطيف، والميم: اسم مدلوله مه من مجيد. وقيل: كلّ حرف منها يشير إلى نعمة من نعم الله تعالى. وقيل: إلى ملك. وقيل: إلى نبيّ. وقيل: الألف تشير إلى آلاء الله، واللام تشير إلى لطف الله، والميم تشير إلى ملك الله. وعلى هذه الأقوال فلها محلّ من الإعراب، فقيل: الرفع، وقيل: النصب، وقيل: الجرّ. فالرفع على أحد وجهين: إما بكونها مبتدأ خبرها ما بعدها، وإما بكونها خبرا لمحذوف، كما سيأتي بيانه. والنصب على
إذا ما الخبز تأدمه بلحم | فذاك أمانة الله الثريد |
فتلخّص مما تقدّم: أنّ في ﴿الم﴾ ونحوها ستة أوجه، وهي: أنّها لا محلّ لها من الإعراب، أو لها محلّ وهو الرفع بالابتداء، أو على الخبر، والنصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم، والجرّ بإضمار حرف القسم.
٢ - وأما قوله: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ فيجوز في ذلك أن يكون مبتدأ ثانيا، والكتاب خبره، والجملة خبر ﴿الم﴾، وأغني عن الرابط باسم الإشارة، ويجوز أن يكون ﴿الم﴾ مبتدأ، و ﴿ذلِكَ﴾ خبره، و ﴿الْكِتابُ﴾ صفة لذلك، أو بدل منه، أو عطف بيان، و ﴿لا رَيْبَ﴾ فِيهِ خبر للمبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر عن الأول، ويجوز أن يكون ﴿الم﴾ خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه ألم، فتكون جملة مستقلّة بنفسها، ويكون ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ و ﴿الْكِتابُ﴾ خبره، ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلا، أو بيانا، و ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ هو الخبر عن ذلك، أو يكون ﴿الْكِتابُ﴾ خبرا لذلك، و ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر ثان.
تنبيه: ثمّ اعلم أنّ المتشابه كالمحكم من جهة أجر التلاوة؛ لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ﴿الم﴾ حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، ففي ألم تسع حسنات».
فائدة هذا الربع من هذه السورة ينقسم أربعة أقسام:
قسم يتعلّق بالمؤمنين ظاهرا وباطنا، وهو الآيات الأربع الأول إلى
وقسم يتعلّق بالكافرين كذلك، وهو الآيتان بعد ذلك.
وقسم يتعلّق بالمؤمنين ظاهرا لا باطنا، وهو ثلاث عشر آية من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ إلى قوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
وقسم يتعلق بالفرق الثلاثة، وهو من قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى آخر الربع. اهـ. شيخنا.
فعلى القول الأول: الراجح الذي جرى عليه السلف: أنّ ﴿الم﴾ مهمل لا يحكم عليه بإعراب، ولا بناء، وقوله: ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿الْكِتابُ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، أو صفة له، وجملة ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر المبتدأ. والمعنى؛ أي: (١) هذا القرآن المنزل عليك يا محمّد لا ريب، ولا شكّ، ولا تهمة، في أنّه منزل من عند الله تعالى لمن تدبّر فيه وتأمّل، وتذكّر لما اشتمل عليه من الإعجاز الباهر. وأشار إليه بإشارة البعيد؛ تنزيلا لبعد المرتبة منزلة البعد الحسّيّ.
فإن قلت: إنّ الريب فيه موجود عند بعض الناس كالكفار، فكيف نفي الريب عنه؟
قلت: المعنى لا ريب به عند المؤمنين، كما أشرنا إليه في الحلّ.
وعلى القول: بأنّ ﴿الم﴾ اسم للقرآن، فهو؛ أي لفظ ﴿الم﴾: مبتدأ و ﴿ذلِكَ﴾ خبره إشارة إلى الكتاب، و ﴿الْكِتابُ﴾: صفة لاسم الإشارة، والمعنى: ﴿الم﴾ هو ذلك الكتاب الكامل الموعود إنزاله في الكتب المتقدمة حال كونه لا ريب ولا شكّ في إنزاله من عند الله تعالى، وإنّما أشار بذلك إلى ما ليس ببعيد؛
قالوا: لمّا أنزل الله تعالى على موسى التوراة، وهي: ألف سورة كل سورة ألف آية. قال موسى عليه السلام: يا ربّ ومن يطيق قراءة هذا الكتاب وحفظه؟ فقال تعالى: إنّي أنزل كتابا أعظم من هذا، قال: على من يا ربّ؟ قال: على خاتم النبيين، قال: وكيف تقرؤه أمته، ولهم أعمار قصيرة؟ قال: إنّي أيسره عليهم حتى يقرأه صبيانهم، قال: يا ربّ وكيف تفعل؟ قال: إنّي أنزلت من السماء إلى الأرض مئة وثلاثة كتب: خمسين على شيث، وثلاثين على إدريس، وعشرين على إبراهيم، والتوراة عليك، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، وذكرت الكائنات في هذه الكتب، فأذكر جميع معاني هذه الكتب في كتاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأجمع ذلك كلّه في مائة وأربع عشرة سورة، وأجعل هذه السور في ثلاثين جزءا، والأجزاء في سبعة أسباع؛ يعني: في سبع آيات (الفاتحة)، ثمّ أجعل معانيها في سبعة أحرف، وهي ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، ثمّ ذلك كلّه في الألف من ﴿الم﴾ ثمّ افتتح سورة (البقرة) فأقول ﴿الم﴾. ولمّا وعد الله ذلك في التوراة، وأنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم جحدت اليهود لعنهم الله تعالى أن يكون هذا ذلك، فقال تعالى: ذلك الكتاب، كما في تفسير «التيسير». وقد مرّ لك: أنّ في هذه الآية أوجه أخر من الإعراب، وسيأتي تطبيق بعضها في مبحث الإعراب.
والكتاب: (١) اسم بمعنى المكتوب، وهو النقوش والرقوم الدالّة على المعاني، والمراد به هنا: الكتاب المعروف المعهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي وعده الله تعالى به؛ لتأييد رسالته، وكفل به هداية طلّاب الحقّ، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
وفي التعبير به: إيماء إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بكتابة شيء سواه، وعدم كتابة القرآن كلّه بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أنّ من
﴿لا رَيْبَ﴾: كائن ﴿فِيهِ﴾، فقوله: (١) ﴿رَيْبَ﴾: اسم لا، و ﴿فِيهِ﴾: خبرها، وهو في الأصل: من رابني الشيء، إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها، سمّي به الشكّ؛ لأنّه يقلق النفس، ويزيل الطمأنينة، قال الشاعر:
ليس في الحقّ يا أميّة ريب | إنّما الرّيب ما يقول الكذوب |
فإن قلت: الكفّار شكّوا فيه فلم يقرّوا بكتاب الله تعالى، والمبتدعون من أهل القبلة شكّوا في معاني متشابهه، فأوّلوها وضلّوا بها، والعلماء شكّوا في وجوهه، فلم يقطعوا القول على وجه منها، والعوامّ شكّوا فيه فلم يفهموا معانيه، فما معنى نفي الريب عنه؟.
فالجواب: إنّ هذا إنما هو نفي الريب عن الكتاب لا عن الناس، والكتاب موصوف بأنّه لا يتمكّن فيه ريب، فهو حقّ صدق معلوم ومفهوم شكّ فيه الناس، أو لم يشكّوا، كالصدق صدق في نفسه وإن وصفه الناس بالكذب، والكذب كذب وإن وصفه الناس بالصدق، فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب، أو يتمكن فيه عيب، ويجوز أن يكون خبرا في معنى الأمر، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ﴾ المعنى: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا، كما في «الوسيط» و «العيون».
والهاء (٢) المتصلة بفي من ﴿فِيهِ﴾: ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة، والإسكان، والاختلاس، والإشباع في كتب النحو. والوقف (٣) على ﴿فِيهِ﴾ هو المشهور، وقد روي عن نافع، وعاصم، الوقف على ﴿لا رَيْبَ﴾. قال في «الكشاف»: ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا، ونظيره قوله تعالى: ﴿قالُوا لا ضَيْرَ﴾، وقول العرب: لا بأس. وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه. فيه هدى.
﴿هُدىً﴾؛ أي: هو رشد وبيان ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: (٤) للضالّين المشارفين التقوى الصائرين إليها. ومثله حديث «من قتل قتيلا فله سلبه»، وقال أبو السعود في «الإرشاد» ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: للمتصفين بالتقوى حالا، أو مآلا. وتخصيص الهدى بهم؛ لما أنّهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره، وإن كان ذلك شاملا لكلّ ناظر من مؤمن وكافر. والهداية: عبارة عن الدلالة. وقيل: دلالة بلطف.
وقيل: هو هاد لا ريب في هدايته للمتقين. قال في «التيسير»: وكذلك يقال في كلّ من انتفع بشيء دون غيره: إنه لك على الخصوص؛ أي: المنتفع به وحدك.
وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا به ما يخرجه من أن يكون هدى، فالشمس
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
والمتقين: جمع متّق، والمتقي: اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية، وهي فرط الصيانة، قال البغوي: هو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحاجز بين الشيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه؛ أي: جعله حاجزا بين نفسه وبين من يقصده. وفي الحديث: كنّا إذا احمرّ البأس، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدوّ، فكأنّ المتقي يجعل امتثال أمر الله، والاجتناب عمّا نهاه حاجزا بينه وبين العذاب. والتقوى في عرف الشرع (١): عبارة عن كمال التوقّي عمّا ضرّه في الآخرة، وله ثلاث مراتب:
الأولى: التوقّي عن العذاب المخلّد؛ بالتبرّي من الكفر، وعليه قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى﴾.
والثانية: التجنّب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف بالتقوى في الشرع، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾.
والثالثة: أن يتنزّه عما يشغل سرّه عن الحقّ عز وجلّ، ويتبتل إليه بكليته، وهو التقوى الحقيقية المأمور بها في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾. وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى: ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية، وما عاقهم التعلّق بعالم الأشباح، عن العروج إلى عالم الأرواح، ولم تصدّهم الملابسة بمصالح الخلق، عن الاستغراق في شؤون الحقّ؛ لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيّدة
وفي «التأويلات النجمية»: المتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه، ووصلوا به ما أمر الله أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرا وباطنا، يدلّ على هذا قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾.
والعقاب الذي يتّقى منه ضربان (١): دنيوي وأخروي، وكلّ منهما يتّقى باتقاء أسبابه، فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا، يتوقّف على معرفة نظم الحرب، وفنونها، وآلاتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾، كما يتوقّف على القوة المعنوية: من اجتماع الكلمة، واتحاد الأمة، والصبر والثبات، والتوكل على الله، واحتساب الأجر عنده، وعقاب الآخرة يتقى: بالإيمان الخالص، والتوحيد، والعمل الصالح، واجتناب ما يضادّ ذلك من الشرك، واجتناب المعاصي والآثام التي تضرّ المرء، أو تضرّ المجتمع.
والمتقون في هذه الآية: هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية، واستعدادا لتلقي نور الحقّ، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم، ويبلغ إليه اجتهادهم. وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أنّ خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.
ومن المعلوم: أنّ في قوله: ﴿هُدىً﴾ مجازا عقليًّا؛ لما فيه من إسناد الشيء إلى سببه؛ أي: هو هاد، أو مجازا بالحذف؛ أي: ذو هدى، أو مبالغة
والمعنى؛ أي: هذا الكتاب هاد ومرشد للمؤمنين المتصفين بالتقوى من سخط الله تعالى، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
٣ - ثم وصف المتقين بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي يصدّقون ويوقنون ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي: بالشيء الغائب عنهم مما لم تدركه عقولهم، ولم تعرفه حواسّهم مما أخبرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو القرآن من اليوم الآخر وأحواله من البعث، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وغير ذلك من أهواله.
والإيمان: تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها، وأمارته: العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين. والغيب: ما غاب عنهم علمه، كذات الله سبحانه، وملائكته، ، والدار الآخرة وما فيها من البعث، والنشور، والحساب، والمجازاة. والإيمان بالغيب: هو اعتقاد وجود موجود وراء المحسّسات، متى أرشد إليه الدليل، أو الوجدان السليم. ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض، منزه عن المادّة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله وانفرد بعلمها، كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر، لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به، أمّا من لا يعرف إلّا ما يدركه الحسّ، فإنه يصعب إقناعه، وقلّما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.
وقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إمّا (١) موصول بالمتقين، ومحلّه الجرّ على أنّه صفة مقيّدة له، إن فسّرت التقوى بترك المعاصي فقط، مرتّبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، أو موضحة إن فسرت التقوى بما هو المتعارف شرعا، والمتبادر عرفا من فعل الطاعات، وترك المعصيات معا؛ لأنّها حينئذ تكون تفصيلا لما انطوى عليه اسم الموصول إجمالا، وصفة مادحة للموصوفين بالتقوى المفسّرة بما مرّ من فعل الطاعات، وترك السيئات. وتخصيص ما ذكر من
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش والسوسي وأبو جعفر وقفا ووصلا، وحمزة وقفا فقط وهذه القراءات كلها في المتواتر، وقرأ رزين - شاذا - بتحريك الهمزة، مثل: ﴿يُؤَخِّرَكُمْ﴾، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لسكونها، وأقرّ همزة أفعل؛ لتحركها، وتقدمها، واعتلالها في الماضي والأمر. اهـ. من «البحر».
وقوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾: الغيب هنا مصدر بمعنى اسم الفاعل، كما مرّت الإشارة إليه، قال أبو السعود: والغيب: إما مصدر وصف به الغائب مبالغة، كالشهادة في قوله تعالى: ﴿عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾؛ أي: ما غاب عن الحسّ والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة، وهو قسمان:
قسم: لا دليل عليه، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ﴾.
وقسم: قامت عليه البراهين كالصانع وصفاته، والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام، والشرائع، واليوم الآخر، وأحواله من البعث والنشر، والحساب والجزاء، وهو المراد ههنا. فالباء: صلة للإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازا عن الوثوق، وهو واقع موقع المفعول به. وإمّا مصدر على حاله كالغيبة، فالباء: متعلّقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل، كما في قوله تعالى:
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾؛ أي: يؤدّونها بحقوقها الظاهرية من الشروط، والأركان، والسنن، وترك المفسدات، والمكروهات، والباطنية، كالخشوع، وحضور القلب، والإخلاص. والصلاة في هذه الآية: اسم جنس، أريد بها الصلوات الخمس، كما في «الروح». وإقامتها: عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها، وسننها، وآدابها خلل، من أقام العود إذا قوّمه وعدّله. وقيل: عبارة عن المواظبة عليها من قولهم: قامت السوق إذا نفقت. وقيل: عبارة عن التشمير لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجاد، وضدّه قعد عن الأمر وتقاعد.
واعلم: أنّ الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، ودعاء المعبود بالقول، أو بالفعل، أو بكليهما، يشعر العابد بالحاجة إليه؛ استدرارا للنعمة، أو دفعا للنقمة، والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام، من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه، لو أقيمت على وجهها، أمّا إذا خلت عن الخشوع، فإنّها تكون صلاة لا روح لها، وإن كانت قد وجدت صورتها، وهي الكيفيات المخصوصة، ولا يقال للمصّلي حينئذ: أنّه امتثل أمر ربه، فأقام الصلاة؛ لأنّ الإقامة مأخوذة من أقام العود، إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها، واستشعار الخشية
ولما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسمو بها إلى الملكوت الأعلى، أبان الله سبحانه عظيم آثارها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وجعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم عماد الدين، فقال: «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام». وقد أمر الله سبحانه بإقامتها بقوله سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾، والمحافظة عليها، وإدامتها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾، وبأدائها في أوقاتها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾، وبأدائها جماعة بقوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وبالخشوع فيها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾.
﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ أي: ومن بعض ما أعطيناهم، وملّكناهم من الأموال؛ لأنّ المراد بالرزق هنا: الملك، وليس المراد به الرزق الحقيقي، إذ لا يمكن تعديه لغيره. وفي قوله: ﴿وَمِمَّا﴾ حذف نون من التبعيضية لفظا وخطّا؛ لإدغامها في ما الموصولة. ﴿يُنْفِقُونَ﴾: ويصرفون إنفاقا واجبا، كالزكاة، والنفقة على الوالدين والعيال، أو مندوبا، كالتوسعة على العيال، ومواساة الأقارب والفقراء، فالإنفاق هنا شامل للواجب والمندوب، كما اختاره ابن جرير. وروي عن ابن عباس: أنّ المراد بها: زكاة الأموال. والرزق في اللغة: العطاء، وفي العرف: ما ينتفع به الحيوان، وهو يتناول الحلال والحرام عند أهل السنة، كما قال أحمد بن رسلان:
يرزق من شاء ومن شا أحرما | والرزق ما ينفع ولو محرّما |
والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أنّ في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمراد بهذا الإنفاق: الصرف إلى سبيل الخير فرضا كان أو نفلا. ومن فسّره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها، وهي الصلاة.
واعلم: أنّه سبحانه ذكر في الآية الإيمان، وهو بالقلب، ثمّ الصلاة وهي بالبدن، ثمّ الإنفاق وهو بالمال، وهو مجموع كل العبادات. ففي الإيمان النجاة، وفي الصلاة المناجاة، وفي الإنفاق الدرجات، وفي الإيمان البشارة، وفي الصلاة الكفارة، وفي الإنفاق الطهارة، وفي الإيمان العزة، وفي الصلاة القربة، وفي الإنفاق الزيادة.
فصل في مسائل تتعلق بالصلاة
المسألة الأولى: واعلم أنّ الناس بالنسبة إلى الصلاة على أربع طباق:
الأولى: طبقة لم يقبلوها، ورأسهم أبو جهل لعنه الله، وفي حقّه قال تعالى: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾، وذكر مصيرهم بقوله: ﴿ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾.
والثانية: طبقة قبلوها ولم يؤدوها، وهم أهل الكتاب، وذكرهم الله تعالى
والثالثة: طبقة قبلوها وأدّوا بعضا منها، ولم يؤدُّوا بعضا آخر متكاسلين، وهم المنافقون، وذكرهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى﴾.
والرابعة: طبقة قبلوها، وهم يراعونها في أوقاتها بشرائطها، ورأسهم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾، وأصحابه كذلك، وذكرهم الله تعالى بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾، وذكر مصيرهم بقوله: ﴿أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾.
المسألة الثانية: روي (١) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (بعث الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلّا الله، فلمّا صدّق زاد الصلاة، فلمّا صدّق زاد الزكاة، فلمّا صدّق زاد الصيام، فلمّا صدّق زاد الحج، ثمّ الجهاد، ثمّ أكمل لهم الدين).
وقال مقاتل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بمكة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشاء، فلمّا عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس، كما في «روضة الأخيار».
وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج؛ لأنّ المعراج أفضل الأوقات، وأشرف الحالات، وأعزّ المناجات، والصلاة بعد الإيمان أفضل الطاعات، وفي التعبّد أحسن الهيئات، ففرض أفضل العبادات في أفضل الأوقات، وهو وصول العبد إلى ربّه، وقربه منه.
المسألة الثالثة: في ذكر بعض الحكم. وأمّا الحكمة في فرضيتها؛ فلأنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسري به شاهد ملكوت السموات بأسرها وعبادات سكّانها من الملائكة، فاستكثرها صلّى الله عليه وسلّم غبطة، وطلب ذلك لأمّته، فجمع الله له في الصلوات الخمس
والحكمة في كونها خمس صلوات: أنها كانت متفرّقة في الأمم السالفة، فجمعها سبحانه لنبيّه وأمّته؛ لأنّه صلّى الله عليه وسلّم مجمع الفضائل كلّها دنيا وأخرى، وأمته من بين الأمم كذلك، فقد قيل: أوّل من صلّى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، والعصر يونس، والمغرب عيسى، والعشاء موسى. فهذا سرّ القرار على خمس صلوات.
وقيل: صلّى آدم الصلوات الخمس كلّها، ثمّ تفرقت بعده بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأوّل من صلّى الوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، ولذلك قال:
«زادني ربّي صلاة»؛ أي: الوتر على الخمس، أو صلاة الليل، فافهم.
قيل (١): وأول من بادر إلى السجود جبريل - عليه السلام - ولذلك كان رفيق الأنبياء وخادمهم، وأوّل من قال: سبحان الله جبريل، والحمد لله آدم، ولا إله إلّا الله نوح، والله أكبر إبراهيم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ذلك كلّه في «كشف الكنوز وحلّ الرموز»، وهكذا قالوا ولكن لا أصل له.
٤ - وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ معطوف على الموصول الأول، وهو نوع آخر للمتقين، فإنها أنزلت فيمن كان آمن بعيسى وأدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم: كعبد الله بن سلام، وعمّار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والنجاشي وغيرهم. وأما النوع الأول: فهم الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مشركي العرب؛ لأنّهم لم يرسل إليهم غيره صلّى الله عليه وسلّم.
فنزلت الآية الأولى إلى قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فيهم. روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ المراد بالمؤمنين هنا: من آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من آمنوا من مشركي العرب.
﴿وَ﴾ يؤمنون بـ ﴿ما أُنْزِلَ﴾ من الكتب السالفة من التوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها على الرسل الذين أرسلوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ إيمانًا إجماليًّا لا تفصيليًّا، والإيمان بالكل جملة فرض عين، وبالقرآن تفصيلا من حيث إنّا متعبّدون بتفاصيله فرض كفاية، فإنّ في وجوبه على الكلّ عينا حرجا بيّنا، وإخلالا بأمر المعاش.
قال في «التيسير»: (٢) الإيمان بكلّ الكتب مع تنافي أحكامها على وجهين:
(٢) روح البيان.
والثاني: الإيمان بما لم ينسخ من أحكامها.
﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول، وهو في المعدودات اسم للفرد اللاحق، وهي صفة الدار بدليل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾، وهي من الصفات الغالبة، وكذا الدنيا، وسمّيت الدنيا دنيا لدنوها؛ أي: قربها من الآخرة، أو لدناءتها وخسّتها، وسمّيت الآخرة آخرة؛ لتأخّرها، وكونها بعد الدنيا. ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: يعتقدون اعتقادا جازما، وتقديم الجار والمجرور على الفعل؛ لرعاية الفاصلة، أو لإفادة الحصر، وأتى بالجملة الاسمية للاهتمام به؛ لأنّه أعلى من الإنفاق. والإيقان: إتقان العلم بالشيء بنفي الشكّ، والشبهة عنه نظرا واستدلالا، ولذلك لا يسمّى علمه تعالى يقينا، وكذا العلوم الضرورية. وفيه ردّ على من أنكر الآخرة ممن لا يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ الجمهور ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ مبنيا للمفعول. وقرأهما النخعيّ، وأبو حيوة، ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل، وقرىء شاذّا ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ بتشديد اللام، ووجه ذلك: أنه أسكن لام ﴿أُنْزِلَ﴾ ثم حذف همزة (إلى)، ونقل كسرتها إلى لام «أنزل»، فالتقى المثلان من كلمتين، فأدغم، والإدغام جائز. وقرأ الجمهور ﴿يُوقِنُونَ﴾ بواو ساكنة بعد الياء، وهي مبدلة من ياء؛ لأنّه من أيقن. وقرأ أبو حية النّمريّ بهمزة ساكنة بدل الواو.
ومعنى الآية: أي (١) والذين يصدقون بما أنزل إليك من القرآن والوحي، أنه من عند الله تعالى، ويصدقون بما أنزل على الرسل من قبلك من سائر الكتب السماوية، أنها من عند الله سبحانه وتعالى، لا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله. وقال ابن عباس: أي: يصدقون بما جئت به من الله تعالى، وبما جاء به من قبلك من الرسل، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون بما جاءؤوا به من ربهم،
وبمجيء الدار الآخرة التي تتلو الدنيا مع ما فيها من البعث، والحشر والحساب،
واليقين (٢): هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور، أو يشرب الخمر، أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم يظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقّا إلّا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرّفا لها في أعمالها.
والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين:
١ - البحث والتأمّل فيما يحتاج إلى ذلك، كالعلم بوجود الله سبحانه ورسالة الرسل.
(٢) المراغي.
قال أبو الليث - رحمه الله تعالى - في «تفسيره»: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين دلالة، ويقين خبر. فأما يقين العيان: فهو أنّه إذا رأى شيئا زال الشك عنه في ذلك الشيء. وأما يقين الدلالة: فهو أن يرى الرجل دخانا ارتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك نارا وإن لم يرها. وأما يقين الخبر: فهو أنّ الرجل يعلم باليقين أنّ في الدنيا مدينة يقال لها: بغداد وإن لم ينته إليها.
فههنا يقين خبر ويقين دلالة؛ لأنّ الآخرة حقّ، ولأنّ الخبر يصير معاينة عند الرؤية. انتهى. ويقال: علم اليقين ظاهر الشريعة،
وعين اليقين الإخلاص فيها، وحقّ اليقين المشاهدة فيها، ثمّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها. فقد قيل:
عشرة من المغرورين: من أيقن أنّ الله خالقه ولا يعبده، ومن أيقن أنّ الله رازقه ولا يطمئن به، ومن أيقن أن الدنيا زائلة ويعتمد عليها، ومن أيقن أنّ الورثة أعداؤه ويجمع لهم، ومن أيقن أنّ الموت آت فلا يستعدّ له، ومن أيقن أنّ القبر منزله فلا يعمره، ومن أيقن أنّ الديّان يحاسبه فلا يصحح حجته، ومن أيقن أنّ الصراط ممرّه فلا يخفف ثقله، ومن أيقن أنّ النار دار الفجّار فلا يهرب منها، ومن أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار فلا يعمل لها، كما في «التيسير».
قال ذو النون المصريّ: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب. اه.
٥ - وجملة قوله: ﴿أُولئِكَ﴾ في محل (١) الرفع، إن جعل أحد الموصولين
وأولاء: جمع، لا واحد له من لفظه، مبني على الكسر، وكافه للخطاب كالكاف في ﴿ذلِكَ﴾؛ أي: المذكورون قبله، وهم المتقون الموصوفون بالإيمان بالغيب وسائر الأوصاف المذكورة بعده. وفيه دلالة على أنّهم متميّزون بذلك أكمل تميّز، منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد؛ للإشعار بعلوّ درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وهو مبتدأ، وقوله عزّ وجل: ﴿عَلى هُدىً﴾ خبره، وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير؛ لكمال تفخيمه، كأنّه قيل: على هدى؛ أي: هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وإيراد كلمة الاستعلاء؛ لتمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى، وتمسكهم به، واستقرارهم عليه بحال من يقبل الشيء، ويستولي عليه. يعني: شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد؛ وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر، وإدامة النظر فيما نصب من الحجج، والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. يعني: أكرمهم الله تعالى في الدنيا، حيث هداهم، وبيّن لهم طريق الفلاح قبل الموت.
﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة له، مبيّنة لفخامته الإضافية إثر بيان فخامته الذاتيّة، مؤكّدة لها؛ أي: على هدى كائن من ربهم سبحانه، وهو شامل لجميع أنواع هدايته تعالى وفنون توفيقه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم؛ لغاية تفخيم الموصوف، والمضاف إليهم وتشريفهما.
ثمّ في هذه الآية (١) ذكر الهدى للموصوفين بكل هذه الصفات، وفي قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا﴾ إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ
وقرأ ابن هرمز ﴿من ربهم﴾ بضمّ الهاء، وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، ذكره في «البحر».
فإن قلت: لم ذكر هدى هنا مع قوله أولا: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾؟
قلت: لأنّه ذكر هنا مع هدى فاعله بخلافه ثمّ. ذكره في فتح الرحمن. ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تكرير ﴿أُولئِكَ﴾ (١)؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به عن غيرهم، فكيف بهما، وتوسيط العطف بينهما؛ تنبيه على تغايرهما في الحقيقة لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا، بخلاف قوله: ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ﴾ فإنّ التسجيل بالغفلة، والتشبيه بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى، فلا تناسب الفصل.
وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر بالضمير: الدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره، فصفة الفلاح مقصورة عليهم، لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، ولا يلزم من هذا أن لا يكون ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ صفة أخرى غير الفلاح، فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس، حتى يلزم ذلك. أو ﴿هُمُ﴾ مبتدأ، و ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبره والجملة خبر
تنبيه (١): تأمّل كيف نبّه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتّى: بناء الكلام على اسم الإشارة؛ للتعليل مع الإيجاز، وتكريره، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل لإظهار قدرهم، والترغيب في اقتفاء أثرهم. وقد تشبثت الوعيدية بهذه الآية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، وردّ بأن المراد بالمفلحون: الكاملون في فلاحهم، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح لهم رأسا، كما في «تفسير البيضاوي».
وحاصل الفلاح يرجع إلى ثلاثة أشياء (٢): أحدها: الظفر على النفس فلم يتابعوا هواها، والدنيا فلم يطغوا بزخارفها، والشيطان فلم يفتنوا بوساوسه، وقرناء السوء فلم يبتلوا بمكروهاتهم.
والمعنى: أولئك الموصوفون بالصفات المذكورة، كائنون على هدى ورشاد كائن من ربّهم، ومعبودهم، ومالكهم، وأولئك المذكورون هم المفلحون؛ أي: الفائزون في الدنيا وفي الآخرة بالجنّة، والناجون من النار، والمقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. وقال ابن كثير: ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي (٣): المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم، وإيمانهم بالله، وكتبه، ورسله من الفوز
(٢) روح البيان.
(٣) ابن كثير.
فائدة: ويستفاد من هذه الآيات (١): أنّ الهداية الموصلة إلى الفلاح الأبديّ لا تحصل إلا لمن اتصف بالتقوى، وآمن بالغيب الذي أخبر به محمد صلّى الله عليه وسلّم وأقام الصلاة المفروضة، وأنفق في الواجبات مما رزقه الله تعالى، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام، وأيقن مجيء الدار الآخرة.
الإعراب
﴿الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
﴿الم﴾ كلمة أريد لفظها لا معناها؛ لأنها اسم للسورة، في محلّ الرفع خبر لمبتدأ محذوف جوازا، تقديره: هذه ﴿الم﴾، أي: هذه السورة مسمّاة بلفظ ﴿الم﴾ مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا. أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ألم هذا محلّه. وقد تقدم بسط الكلام في معناه وإعرابه في مبحث التفسير، فراجعه.
والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا نحويا، لا محلّ لها من الإعراب.
وعبارة «عمدة التفاسير» هنا: قوله: ﴿الم﴾ تقدم لك أنّ الأرجح فيه القول: بأنّه مما انفرد الله سبحانه وتعالى بعلم المراد منه، وعلى هذا القول فلا يوصف بإعراب، ولا بناء؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، ومعناه لم يعلم لنا. وعلى القول: بأنّه اسم لهذه السورة مثلا، ففيه ثلاثة أوجه من الإعراب:
الأول: الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
والثاني: النصب على أنّه مفعول به لفعل محذوف وجوبا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: اقرؤوا ﴿الم﴾ اقرؤوا فعل وفاعل، ﴿الم﴾ في محل النصب مفعول به،
والثالث: الجرّ على أنّه مقسم به حذف منه حرف القسم. اه. وقال العكبري: هذه الحروف المقطعة كل واحدة منها اسم، فألف: اسم يعبّر به عن مثل الألف الذي في (قال)، ولام: اسم يعبّر به عن مثل اللام الذي في (قال)، وكذلك ما أشبهها.
والدليل على أنّها أسماء: أنّ كلّا منها يدلّ على معنى في نفسه، وهي مبنية؛ لأنّك لا تريد أن تخبر عنها بشيء، وإنما يحكي بها ألفاظ الحروف التي جعلت أسماء لها، فهي كالأصوات، نحو: غاق في حكاية صوت الغراب. انتهى.
﴿ذلِكَ﴾ ذا: اسم إشارة يشار به للمفرد المذكر البعيد تنزيلا للبعد المعنوي منزلة البعد الحسي، في محلّ الرفع مبتدأ، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، واللام: لبعد المشار إليه، أو لمبالغة البعد، والكاف: حرف دالّ على الخطاب. ﴿الْكِتابُ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، مرفوع بالضمة الظاهرة. ﴿لا﴾ نافية لحكم الخبر عن جنس الاسم، تعمل عمل إنّ، ﴿رَيْبَ﴾ في محل النصب، اسمها مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا لتضمّنه معنى من الاستغراقية، ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور، متعلّق بمحذوف وجوبا؛ لوقوعه خبرا للا، تقديره: لا ريب موجود فيه، وجملة لا من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلّم مخبر عنه بعدم وجود ريب فيه، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. ﴿هُدىً﴾ خبر ثان للمبتدأ، ففيه الإخبار بالمفرد بعد الإخبار بالجملة، فهو جائز فصيح، والخبر مرفوع بالمبتدأ، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الألف المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها التعذّر؛ لأنّه اسم مقصور، مثل: فتى، وصح الإخبار به مع كونه اسم معنى؛ لأنّه في تأويل هاد، ويجوز أن يكون ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿الْكِتابُ﴾ خبر أول له؛ لأنه قصد به الإخبار بأنه الكتاب المقدّس المستحق لهذا الاسم، وجملة ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر ثان له، أو حال من الكتاب، و ﴿هُدىً﴾ خبر ثالث له، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ جار ومجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنّه من جمع المذكر السالم، وهو جمع متّق
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول لجمع المذكر في محل الجر صفة للمتقين، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، ويجوز فيه القطع إلى الرفع، أو النصب. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والواو ضمير لجماعة الذكور الغائبين، في محلّ الرفع. ﴿بِالْغَيْبِ﴾ جار ومجرور، متعلّق بيؤمنون، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد الواو في يؤمنون، وهو أعني الموصول جامد مؤول بمشتق مأخوذ من الصلة، تقديره: هدى للمتقين المؤمنين بالغيب، أو مأخوذ من ضدّ معنى الموصول، تقديره: للمتقين المعلوم إيمانهم بالغيب. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على يؤمنون على كونه صلة الموصول. ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ الواو عاطفة. ﴿مِمَّا﴾ من حرف جرّ مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ما. ﴿ما﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بمن، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، الجار والمجرور متعلّق بينفقون المذكور بعده، قدّم عليه اهتماما بشأن المنفق، أو لرعاية الفاصلة. ﴿رَزَقْناهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ومما رزقناهم إياه، وهو المفعول الثاني لرزقناهم، وفي «الجمل»: أنّ العائد محذوف، فيقدّر متصلا أو منفصلا على حدّ قول ابن مالك:
وصل أو افصل هاء سلنيه
﴿يُنْفِقُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ على كونها صلة الموصول والعائد إلى الموصول الواو في ﴿يُنْفِقُونَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر، معطوف على الموصول الأوّل، على كونه صفة للمتقين. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِما﴾ الباء حرف جرّ. ﴿ما﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محلّ الجر بالباء، والجار والمجرور متعلّق بيؤمنون. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، مبني على الفتح، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لما، أو صفة لها. ﴿إِلَيْكَ﴾ جار ومجرور متعلّق بأنزل. ﴿وَما﴾ الواو عاطفة. ما في محلّ الجر معطوفة على ما الأولى. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر فيه، والجملة صلة لما، أو صفة لها. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ جار ومجرور متعلّق بأنزل. ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ الواو عاطفة. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلّق بيوقنون الآتي، قدّم عليه اهتماما بشأن الآخرة، أو لرعاية الفاصلة. ﴿هُمْ﴾ الهاء ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل الرفع مبتدأ، مبني على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا، والميم حرف دالّ على الجمع. ﴿يُوقِنُونَ﴾ فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والتقدير: وهم موقنون بالآخرة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ على كونها صلة الموصول، ففيه عطف الجملة الإسمية على الفعلية، وهو جائز.
﴿أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾.
﴿أُولئِكَ﴾ اسم إشارة يشار به للجمع المطلق، في محلّ الرفع مبتدأ، مبني على الكسر؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، الكاف حرف دال على الخطاب مبني على الفتح. ﴿عَلى هُدىً﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: كائنون على هدى، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا بيانيّا، لا محلّ لها من الإعراب. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف صفة لهدى، تقديره: على هدى كائن من ربّهم. ﴿وَأُولئِكَ﴾ الواو عاطفة. ﴿أُولئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿هُمُ﴾ ضمير
﴿وهُمُ﴾ ضمير لجماعة الذكور الغائبين، في محلّ الرفع مبتدأ ثان ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول معطوفة على الجملة التي قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الم﴾ هي وأمثالها من الحروف المقطعة، نحو: ﴿المص﴾ و ﴿المر﴾ وغيرها، أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال: إنّها معربة؛ لأنّها لم يدخل عليها عامل فتعرب، ولا يقال: إنها مبنية؛ لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، فتقول: هذه ألف حسنة، ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة أسماء العدد إذا عدوا يقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة. وقد اختلف العلماء في المراد بها، كما مرّ بسطه.
﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ الكتاب يطلق على معان كثيرة، منها: العقد المعروف بين العبد وسيّده على مال منجّم، كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾، وعلى الفرض، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ﴾ وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾، وعلى الحكم قاله الجوهري، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لأقضينّ بينكما بكتاب الله، كتاب الله القصاص»، وعلى القدر، كما في قوله:
يا ابنة عمّي كتاب الله أخرجني | عنكم وهل أمنعنّ الله ما فعلا |
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة | أتتك من الحجّاج يتلى كتابها |
بثينة قالت يا جميل أربتني | فقلت كلانا يا بثين مريب |
قضينا من تهامة كلّ ريب | وخيبر ثمّ أجمعنا السّيوفا |
ومتّق: اسم فاعل من الوقاية؛ أي: المتخذ له وقاية من النار. اه. «جمل».
وأصل هذه الكلمة: موتقيين بوزن مفتعلين؛ لأنّ أصل المادّة من الوقاية، وفعلها:
وقى لفيف مفروق، واتقى منه وزنه افتعل، وأصل اتقى أو تقي تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثمّ أبدلت الواو - فاء الكلمة - تاء، وأدغمت في تاء الافتعال على حدّ قول ابن مالك في باب التصريف:
ذو اللّين فا تا في افتعال أبدلا | وشذّ في ذي الهمز نحو ائتكلا |
من لام فعلى اسما أتى الواو بدل | ياء كتقوى غالبا جا ذا البدل |
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ مضارع أقام الرباعيّ، وفيه حذف همزة أفعل، إذ القياس إثباتها، وفيه إعلال بالتسكين والقلب، فأصله: يقومون، نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها، فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ، فوزنه يفعلون. وفي «الجمل»: أصله: يؤقومون، حذفت همزة أفعل؛ لوقوعها بعد حرف المضارعة، فصار يقومون بوزن يكرمون، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى القاف، ثمّ قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها. اه. «سمين». الصلاة أصله: صلوة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ففيه إعلال بالقلب. وقيل: من الوصلة؛ لأنها وصلة بين العبد وبين ربّه، وعليه فأصلها وصلة، قلبت الواو قلبا مكانيا فصار صلوة، ثمّ يقال: تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا.
﴿يُنْفِقُونَ﴾ فيه حذف همزة أفعل من المضارع، إذ القياس: يؤنفقون. ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ الآخرة مؤنث الآخر، كما أنّ الدنيا مؤنث الأدنى، ثمّ صارا علمين للدارين. ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أصله: ييقنون بياءين؛ لأنّ المادة من اليقين، وفيه همزة أفعل؛ لأنّه من مضارع أيقن، وفيه إعلال بالقلب حيث قلبت الياء الثانية الساكنة واوا؛ لسكونها إثر ضمّة، فجعلت حرف مدّ، وهذا على حدّ قول ابن مالك:
ووجب إبدال واو بعد ضمّ من ألف | ويأكموقن بذاله اعترف |
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: حسن الافتتاح في قوله: ﴿الم﴾ حيث افتتح بما فيه غموض ودقة؛
ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿ذلِكَ﴾ إشارة إلى بعد منزلته ورتبته.
ومنها: التعريف بالألف واللام في قوله: ﴿الْكِتابُ﴾ تفخيما لشأنه، وتعظيما لقدره.
ومنها: معدول الخطاب في قوله: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾، حيث عبّر فيه بصيغة الخبر مرادا به الأمر؛ أي: لا ترتابوا فيه.
ومنها: تقديم الريب على الجار والمجرور في هذه الجملة؛ لأنّه أولى بالذكر أوّلا استعددا لصورته حتى تتجسّد أمام السامع.
ومنها: المجاز العقليّ في قوله: ﴿هُدىً﴾ لما فيه من الإسناد إلى السبب، حيث أسند الهداية إلى الكتاب والهادي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: الصائرين إلى التقوى، علاقته اعتبار ما يؤول إليه.
ومنها: الإيجاز في ذكر المتقين؛ لأنّ الوقاية اسم جامع لكلّ ما تجب الوقاية منه.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ لكونهم المنتفعين به.
ومنها: إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل في قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ لأنّه بمعنى الغائب مبالغة فيه.
ومنها: تقديم ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ على ﴿يُنْفِقُونَ﴾ اهتماما بشأن المنفق به، أو لرعاية الفاصلة.
ومنها: التعبير بضمير جماعة المتكلمين في قوله: ﴿رَزَقْناهُمْ﴾ مع كون الله واحدا لا شريك له؛ جريا على عادة خطاب الملوك في التعبير عن أنفسهم بصيغة الجمع، كما مرّ في مبحث التفسير.
ومنها: تكرار ﴿أُولئِكَ﴾؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به من غيرهم، فكيف بهما؟.
ومنها: توسيط العاطف بينهما؛ تنبيها على تغايرهما في الحقيقة.
ومنها: الفصل بين المبتدأ والخبر في قوله: ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ للدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره. وفي هذه الجملة أيضا: قصر الصفة على الموصوف؛ لأنّ صفة الفلاح مقصورة عليهم لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، وفي هذه الجملة أيضا: تأكيد المظهر بالمضمر.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿عَلى هُدىً﴾؛ تشبيها لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده، فحذف المشبه فاستعيرت كلمة على: الدالّة على الاستعلاء؛ لبيان أنّ شيئا تفوّق واستعلى على ما بعدها حقيقة، نحو: زيد على السطح، أو حكما، نحو: عليه دين، فالدّين للزومه وتحمّله، كأنّه ركب عليه وتحمّله. والدّقّة: أنّ الاستعارة بالحرف، ويقال في تقريرها: شبّه مطلق ارتباط بين هدى ومهدى بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعل عليه؛ بجامع التمكن في كلّ منهما، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، ثمّ استعيرت على وهي من جزئيات المشبه به لجزئيّ من جزئيات المشبه على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الحذف، وهو في مواضع: فمنها: قوله هذه: ﴿الم﴾ على قول من يقدر ذلك، وقوله: ﴿هُدىً﴾ أي: هو هدى، فحذف المبتدأ، وقوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: المال. ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: من القرآن. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: من قبل إرسالك، أو قبل الإنزال إليك. ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بجزاء الآخرة.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿عَلى هُدىً﴾؛ للدلالة على كمال تفخيمه، كأنّه قيل: على هدى أي هدى لا يقادر قدره.
ومنها: التعرّض لعنوان الربوبية في قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾؛ للدلالة على تفخيم الموصوف، وشرف المضاف إليهم.
ومنها: حسن التقسيم، وهو فنّ من فنون البلاغة، وهو استيعاب المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر منه شيئا، فقد استوعبت هذه الآيات جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات التي يعكف عليها المؤمنون؛ لأنّ العبادات كلّها تنحصر في نوعين: بدنيّة ومالية، ولا بدّ من استيفائهما لتكون العبادات كلّها مستوفاة.
فائدة مستجادة: وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث (١):
منها: ما أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال: «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء أعرابيّ، فقال: يا نبي الله! إنّ لي أخا وبه وجع، فقال: «وما وجعه؟» قال: به لمم، قال: فأتني به، فوضعه بين يديه فعوّذه النبي صلّى الله عليه وسلّم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أوّل سورة البقرة وهاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد، وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾، وآية من الأعراف ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾ وآخر سورة المؤمنين ﴿فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾، وآية من سورة الجنّ ﴿وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، ﴿وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ والمعوذتين. فقام الرجل كأنّه لم يشتك قطّ،
وأخرج الدارميّ، وابن الضريس عن ابن مسعود قال: (من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثا من آخر (سورة البقرة) لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلّا أفاق. وأخرج الدارميّ، وابن المنذر، والطبراني عنه قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة، لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح؛ أربع من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها: أوّلها ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ﴾. وأخرج سعيد بن منصور، والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة.
وقد ورد في ذلك غير هذا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾.
المناسبة
مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا (١) بيّن حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل من قبله، وبيّن ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية، وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنّه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال أن لا يجدي فيهم الإنذار والتبشير، وأن لا تؤثّر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون، وعن الحق معرضون. فالإنذار وعدمه سيّان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع؟ مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له وعداوة لمن دعا إليه، لأنّ الجهل أفسد وجدانه، وأصبح لا يميّز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ.
وقد جرت عادة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم، فلا يبقي فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم، فلا يسمعون إلّا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لم ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنّهم لا يبصرون شيئا، وكأنّه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.
وقد حكم الله سبحانه عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العزّ والسلطان في الدنيا، كما قال سبحانه: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾.
روي: أنّ هاتين الآيتين نزلتا في من علم الله عدم إيمانه من الكفار، إما مطلقا، وإما في طائفة مخصوصة، كأبي جهل، وأبي لهب، وغيرهما من كفار مكة. والحكمة في إخبار الله سبحانه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بذلك؛ إراحة قلبه من تعلّقه بإيمانهم، فلا يشغل بهدايتهم ولا تأليفهم. قال أبو حيان: وذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين أقوالا:
أحدها: أنّها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، قاله ابن عباس، وكان يسميهم.
الثاني: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، قاله أبو العالية.
الثالث: في أبي جهل، وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك.
الرابع: في أصحاب القليب، وهم: أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
الخامس: في مشركي العرب قريش، وغيرها.
السادس: في المنافقين.
والحكمة في عدم الدعاء منه عليهم مع علمه بأنّه يستحيل إيمانهم، أنّه يرجو الإيمان من ذرّيتهم.
التفسير وأوجه القراءة
٦ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا، وأنكروا بآيات الله، وكذبوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصرّوا، وداموا على ذلك. ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي: مستو عندهم في عدم الإفادة، إنذارك وتخويفك يا محمد إياهم من عذاب الله على كفرهم، وعدم إنذارك إيّاهم. فهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: لا يصدّقون بما جئتهم به من التوحيد، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ لأنّه قد سبق في علمنا عدم إيمانهم بك. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم على تكذيب قومه له.
والكفر لغة: الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافرا، لأنّه يستر الأشياء بظلمته. قال الشاعر:
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي: سترها. وشرعا: إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم به.
واعلم: أنّ الكفر على أربعة أضرب (١):
كفر إنكار: وهو أن لا يعرف الله سبحانه أصلا، ككفر فرعون، حيث قال: ﴿ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي﴾.
وكفر جحود: وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس اللعين.
وكفر عناد: وهو أن يعرف الله بقلبه، ويقرّ بلسانه، ولا يدين به، ككفر أمية ابن أبي الصلت، وأبي طالب، حيث قال في شعر له:
ولقد علمت بأنّ دين محمد | من خير أديان البريّة دينا |
لولا الملامة أو حذار مسبّة | لو جدتّني سمحا بذاك مبينا |
والمراد بالذين كفروا هنا: من علم الله سبحانه أنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدّين للإيمان بجحودهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا، وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء. وسبب كفرهم: إما عناد للحق بعد معرفته، وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كأبي جهل وأضرابه، وأحبار اليهود، ككعب بن الأشرف وإما إعراض عن معرفته، واستكبار عن النظر فيه.
والمعرضون عن الحقّ يوجدون في كلّ زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائف الحقّ لوّوا رؤوسهم، واستكبروا، وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي (٢): مستو عند هؤلاء الكفرة، وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر مبالغة، كما في قوله تعالى: ﴿تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ﴾. وارتفاعه على أنّه خبر إنّ، وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ يا محمد ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مرتفع على الفاعلية بسواء؛ لأنّ الهمزة وأم مجرّدتان عن معنى الاستفهام؛ لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما، كما جرّد الأمر والنهي عن معنييهما؛ لتحقيق معنى الاستواء في قوله عزّ وجلّ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ كأنّه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، كقولك: إن
(٢) روح البيان.
وأصل الإنذار: الإعلام بأمر مخوف، وكلّ منذر معلم، وليس كلّ معلم منذرا، كما في «تفسير أبي الليث»، والمراد ههنا: التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي، وإنّما اقتصر على الإنذار دون التبشير؛ لمّا أنّهم ليسوا بأهل للبشارة أصلا؛ ولأنّ الإنذار أوقع في القلوب، وأشدّ تأثيرا في النفوس، فإنّ دفع المضار أهمّ من جلب المنافع، فحيث لم يتأثّروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا أولى.
فإن قلت: لم حذف الواو هنا، وأثبت في (يس) حيث قال فيها: ﴿وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؟
قلت: لأنّ (ما) هنا جملة هي خبر عن اسم إنّ، و (ما) هناك جملة عطفت على أخرى، فبينهما فرق. وإنما لم يقل: (سواء عليك)، كما قال لعبدة الأوثان: ﴿سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ﴾، لأنّ إنذارك، وترك إنذارك ليسا سواء في حقّك؛ لأنّك تثاب على الإنذار وإن لم يؤمنوا، وأمّا في حقّهم فهما سواء في عدم الإفادة؛ لأنّهم لا يؤمنون في الحالين، وهو نظير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنّه يثاب به الآمر وإن لم يمتثل المأمور. وكان هؤلاء القوم، كقوم هود عليه السلام حيث قالوا له: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ﴾.
وقوله: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ جملة مستقلّة على الوجه الأول، مؤكدة لما قبلها، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء، فلا محلّ لها من الإعراب، أي: موضحة لتساوي الإنذار وعدمه في حقّهم لا في حقّه صلّى الله عليه وسلّم، ولا في حقّ الدّعاة إلى دينه، إذ هم يدعون كلّ كافر إلى الدين الحقّ، لا فرق بين المستعدّ للإيمان وغير
ثّم هذا تيئيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتفريغ لقلبه، حيث أخبره عن هؤلاء بما أخبر به نوحا عليه السلام في الانتهاء، فإنّه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان، ومقاساة الشدائد والأحزان: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾، فدعا بهلاكهم بعد ذلك، وكذلك سائر الأنبياء.
وفي الآية الكريمة: إخبار بالغيب على ما هو به، إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة. وفي الآية: إثبات فعل العبادة، فإنّه قال: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾، وفيه إثبات الاختيار، ونفي الإكراه، والإخبار، فإنّه لم يقل: لا يستطيعون، بل قال: لا يؤمنون.
فإن قلت (١): حين علم الله أنهم لا يؤمنون، فلم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعائهم؟
قلت: فائدة الإنذار بعد العلم: بأنّه لا ينجع إلزام الحجة، كما أنّ الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإيمان، وعلم أنّه لا يؤمن، قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ﴾.
فإن قلت: قد أخبر الله رسوله أنّهم لا يؤمنون، فهلّا أهلكهم كما أهلك قوم نوح عليه السلام، بعدما أخبره أنّهم لا يؤمنون؟
قلت: لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان رحمة للعالمين، كما ورد به الكتاب، فقد قال تعالى: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
والآية (٢) مما احتّج به من جوّز تكليف ما لا يطاق، فإنّه سبحانه وتعالى
(٢) البيضاوي.
وقال صاحب اللوامح (١): قرأ الجحدريّ ﴿سَواءٌ﴾ بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز، فيجوز أنّه أخلص الواو، ويجوز أنّه جعل الهمزة بين بين، وهو أن يكون بين الهمزة والواو، وفي كلا الوجهين لا بدّ من دخول النقص فيما قبل الهمزة المليّنة من المدّ. انتهى.
فعلى هذا: يكون ﴿سَواءٌ﴾ ليس لامه ياء، بل واوا، فيكون من باب قواء.
وعن الخليل: ﴿سوء عليهم﴾ بضمّ السين مع واو بعدها مكان الألف، مثل ﴿دائرة السوء﴾ على قراءة من ضمّ السين، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسّبّ، ولا يكون على هذه القراءة له تعلّق إعراب بالجملة بعدها، بل يبقى قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ إخبارا بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك، وعدم إنذارك، وأمّا سواء الواقع في الاستثناء في قولهم: (قاموا سواك) بمعنى: قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء.
وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ فيه خمس قراءات سبعيّة (٢):
الأولى: تحقيق الهمزتين مع إدخال ألف؛ أي: مدّ طبيعيّ بينهما.
والثانية: تحقيق بلا إدخال ألف بينهما.
(٢) صاوي بتصرف.
والرابعة: تسهيل الثانية بلا إدخال ألف بين المسّهلة والأخرى.
والخامسة: إبدال الثانية ألفا؛ أي: مدّا لازما، وقدره سّت حركات خلافا للبيضاوي، حيث قال: إنّ قراءة الإبدال لحن؛ لوجهين:
الأوّل: أنّ الهمزة المتحركة لا تبدل ألفا.
والثاني: أن فيه التقاء الساكنين على غير حدّه.
وردّ عليه ملّا علي القاري: بأنّ القراءة متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أنكرها كفر، فيستدلّ بها لا لها. وأما قوله: إنّ الهمزة المتحركة لا تبدل ألفا في القلب القياسيّ، وأمّا السماعّي كما في سأل، ومنسأته، فلا لحن فيه؛ لأنّه يقتصر فيه على السماع. وقوله: فيه التقاء الساكنين على غير حدّه نقول: سهّله طول المدّ والسماع اه. صاوي بتصرف، وسيأتي بسطه في مبحث القراءة.
وفي «الجمل»: قال الجعبريّ (١): وجه الإبدال المبالغة في التخفيف، إذ في التسهيل قسط همز. قال قطرب: هي قرشيّة وليست قياسيّة، لكنها كثرت حتى اطّردت، وأما تعليلهم بأنّه يؤدّي إلى جمع الساكنين على غيره، فمدفوع بأنّ من يقلبها ألفا يشبع الألف إشباعا زائدا على مقدار الألف بحيث يصير المدّ لازما، فيكون فاصلا بين الساكنين، ويقوم قيام الحركة، كما في ﴿مَحْيايَ﴾ بإسكان الياء لنافع وصلا، ويسمّي هذا حاجزا. وقد أجمع القراء وأهل العربية على إبدال الهمزة المتحركة الثانية في نحو: الآن، ثم اعلم أنّ موافقة العربية؛ إنما هي شرط لصحة القراءة، إذا كانت بطريق الآحاد، وأما إذا ثبتت متواترة فيستشهد بها لا لها، وإنّما ذكرنا ما ذكر؛ تفهيما للقاعدة، وتتميما للفائدة اه.
٧ - ثمّ بيّن سبب تركهم الإيمان، فقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، وقفّل
وأصل الختم (٢): التغطية، وحقيقته: الاستيثاق من الشيء؛ لكي لا يخرج منه ما حصل فيه، ولا يدخله ما خرج منه. ومنه: ختم الكتاب ولا ختم في الحقيقة، وإنما المراد به: أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرّنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات، بسبب غيّهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ إليها الحقّ أصلا. وسمّى هذه الهيئة: ختما على سبيل الاستعارة، فالمراد بالقلب هنا: محلّ القوة العاقلة من الفؤاد. وقد يطلق ويراد به: المعرفة والعقل، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾. والمراد (٣) بالقلب هنا: جسم لطيف قائم بالقلب اللحمانيّ، الصنوبري الشكل، قيام العرض بمحله، أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب: هو الذي يحصل به الإدراك، وترتسم فيه العلوم والمعارف، وهو العقل، بخلاف القلب الذي بمعنى اللحمة الصنوبرية الشكل، فإنّها للبهائم والأموات.
﴿وَ﴾ ختم الله ﴿عَلى سَمْعِهِمْ﴾ وآذانهم؛ أي: أصمّ مواضع سمعهم، فجعلها بحيث تعاف استماع الحقّ، ولا تصغي إلى خير، ولا تعيه، ولا تقبله. والختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم إياه. والسمع هو: إدراك القوة السامعة، وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها،
(٢) روح البيان.
(٣) العمدة.
والمعنى: أصمّ مواضع سمعهم، فلا يسمعون الحقّ، ولا ينتفعون به: لأنّها تمّجه، وتنبو عن الإصغاء إليه. وقرىء شاذا ﴿وعلى أسماءهم﴾، كما سيأتي في مبحث القراءة.
وإنّما أفرده وجمع صاحبيه؛ لأنّه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع.
وقيل: أفرده لوحدة المسموع، وهو الصوت، كذا في «الجمل». وفي «الروح»: وفي توحيد السمع وجوه (١):
أحدها: أنّه في الأصل مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع؛ لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة.
فإن قلت: فلم جمع الأبصار والواحد بصر، وهو كالسمع؟
قلنا: إنّه اسم للعين، فكان اسما لا مصدرا فجمع لذلك.
وثانيها: أنّ فيه إضمارا، أي: على مواضع سمعهم وحواسّه، كقوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي: أهلها. وثبت هذا الإضمار بدلالة أنّ السمع فعل، ولا يختم على الفعل، وإنّما يختم على محله.
وثالثها: أنّه أراد سمع كلّ واحد منهم، والإضافة إلى الجمع تغنى عن الجمع، وفي التوحيد أمن اللبس، كما في قول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا | فإنّ زمانكم زمن خميص |
ورابعها: قول سيبويه: أنّه توسّط بين جمعين، فدلّ على أنّه جمع معنى وإن توّحد لفظا، كما في قوله: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾، دلّ على الأنوار ذكر الظلمات.
وقوله: ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، فالوقف عليه تامّ، وما بعده جملة اسمية. وقوله: ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ﴾ خبر مقدم، جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضوين، وهو المراد ههنا؛ لأنّه أشدّ مناسبة للتغطية. ﴿غِشاوَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر، أي: غطاء عظيم، وساتر جسيم، فلا يبصرون الحقّ، وفي الحقيقة لا تغشية، وإنّما المراد بها: إحداث حالة
تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلي الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، كما تجتليها أعين المستبصرين، وتصير كأنّها غطّي عليها، وحيل بينها وبين الإبصار. ومعنى التنكير: أنّ على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات.
ولما اشترك السمع والقلب في الإدراك من جميع الجوانب، جعل ما يمنعهما من خاصّ فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما كان مما اختصّ بجهة المقابلة، جعل المانع لها من فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة.
وإنّما خصّ سبحانه وتعالى هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأنّها طرق للعلم، فالقلب محلّ العلم، وطريقه: إما السماع، وإما الرؤية. اه. كرخي. وقال في «التيسير»: إنّما ذكر في الآية القلوب، والسمع، والأبصار؛ لأنّ الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة في الحقّ، كما قال تعالى: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾ اهـ.
﴿وَلَهُمْ﴾ أي: ولهؤلاء الكفار المذكورين في الآخرة ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: عذاب شديد دائم لا ينقطع بسبب كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى. والعذاب
﴿فَذُوقُوا عَذابِي﴾، وإنما يذاق الطيب على معنى: أنّه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه في الدنيا. والعظيم (١): نقيض الحقير، والكبير: نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير، كما أنّ الحقير دون الصغير. قال في «التيسير»: ﴿عَظِيمٌ﴾ أي: كبير، أو كثير، أو دائم، وهو التعذيب بالنار أبدا، ثمّ عظمه بأهواله، وبشدة أحواله، وكثرة سلاسله وأغلاله. فتكون هذه الآية وعيدا وبيانا لما يستحقّونه في الآخرة. وقيل: هو القتل والأسر في الدنيا، والتحريق بالنار في العقبى.
ومعنى التوصيف بالعظيم: أنّه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه، ومعنى التنكير: أنّ لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه إلّا الله سبحانه وتعالى، فعلى العاقل أنّ يجتنب عمّا يؤدّي إلى العذاب الأليم، والعقاب العظيم، وهو الإصرار على الذنوب، والإكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب. وأمّهات الخطايا ثلاث: الحرص، والحسد، والكبر. فحصل من هؤلاء سّت خصال، فصارت جملتها تسعا: الشبع، والنوم، والراحة، وحّب المال، وحبّ الجاه، وحبّ الرياسة. فحّب المال والرياسة من أعظم ما يجرّ صاحبه إلى الكفر والهلاك.
وظاهر قوله تعالى (٢): ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ أنّه إخبار من الله تعالى بختمه، وحمله بعضهم على أنّه دعاء عليهم، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئا من الحقّ ولا تعيه؛ لإعراضها عنه، فاستعار الشيء المحسوس للشيء المعقول،
(٢) البحر المحيط.
وقرأ ابن أبي عبلة (١): ﴿وعلى أسماعهم﴾، فطابق في الجمع بين القلوب، والأسماع، والأبصار. وقرأ الجمهور ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ على التوحيد، إمّا لكونه مصدرا في الأصل، فلمح فيه الأصل، وإمّا اكتفاء بالمفرد عن الجمع؛ لأنّ ما قبله وما بعده يدلّ على أنّه أريد به الجمع. وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان وروح، عن يعقوب وخلف العاشر قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف؛ فقرأ قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بتسهيل الهمزة الثانية بينها وبين الألف مع إدخال ألف بينهما، وقرأ ابن كثير ورويس عن يعقوب بتسهيل الهمزة الثانية من غير إدخال ألف بينهما، ولهشام وجهان: الأول: تحقيق الهمزتين مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس، وابن أبي إسحاق، والثاني: التسهيل مع إدخال الألف. ولورش عن نافع أيضا وجهان: الأول: كابن كثير ورويس، والثاني: إبدال الثانية ألفا مع المد المشبع فيلتقي ساكنان على غير حدهما وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أنّ ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين، وقد مرّ لنا ذكر الوجهين مع الرد عليهما، فراجعه. وما قاله الزمخشري هو مذهب البصريين. وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل، لا تدفع باختيار المذاهب، ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن. وقرأ الزهري، وابن محيصن ﴿أنذرتهم﴾ بهمزة واحدة حذفا الهمزة الأولى؛ لدلالة المعنى عليها، ولأجل ثبوت ما عادلها، وهو ﴿أَمْ﴾ وقرأ أبيّ أيضا (٢): بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور ﴿غشاوة﴾ بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية؛ ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية، وإسناد الجملة الابتدائية. فيكون ذلك آكد؛ لأنّ الفعلية تدلّ على التجدّد والحدوث، والاسمية تدلّ على الثبوت والدوام، وكان تقديم الفعلية أولى، لدلالتها على أنّ ذلك قد وقع وفرغ منه. قال الفرّاء (١): أما قريش وعامّة العرب، فيكسرون الغين من ﴿غشاوة﴾، وعكل يضمّون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنّها لربيعة. وروى الفضل عن عاصم ﴿غشاوة﴾ بالنصب على تقدير: جعل على أبصارهم غشاوة، أو على (٢) عطف ﴿أَبْصارِهِمْ﴾ على ما قبله، ونصب ﴿غِشاوَةٌ﴾ على حذف حرف الجر؛ أي: بغشاوة، وهو ضعيف. قال أبو علي: وقراءة الرفع أولى؛ لأنّ النصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، يكون الكلام عليه من باب: علفتها تبنا وماء باردا. ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار. وقرأ الحسن باختلاف عنه، وزيد بن عليّ ﴿غشاوة﴾ بضمّ الغين ورفع التاء، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين، وعبيد بن عمير كذلك، إلّا أنّه رفع التاء. وقرأ ﴿بعضهم﴾ غشاوة بالكسر والرفع. وقرأ بعضهم ﴿غشاوة﴾ بالفتح والرفع والنصب، وهي قراءة أبي حيوة، والأعمش. قال الثوري: وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها ﴿غشية﴾ بفتح الغين والياء والرفع، وقال يعقوب ﴿غشاوة﴾ بالضمّ لغة، ولم يؤثرها عن أحد من القراء. وقرأ بعضهم ﴿عشاوة﴾ بالعين المهملة المكسورة والرفع، من العشي، وهو شبه العمى في العين. وقال بعض المفسرين: وأصوب هذه القراءات المقروء بها: ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة.
(٢) البحر المحيط.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب اسمها، مبنيّ على الفتح. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والألف تكتب؛ للفرق بين واو الضمير وبين واو جزء الكلمة في غير الرسم العثماني، وفرقا بين المتطرّفة والمتوّسطة في الرسم العثماني. والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿سَواءٌ﴾ خبر مقدم، أو خبر إنّ. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ جار ومجرور، متعلّق بسواء؛ لأنّه اسم مصدر لاستوى الخماسّي. ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الهمزة في أصلها للاستفهام، ولكن سحبت معناها الأصلي، فجعلت للتسوية؛ لوقوعها بعد سواء. ﴿أَنْذَرْتَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف؛ لدلالة المقام عليه؛ أي: أنذرتهم العذاب، والجملة من الفعل والفاعل في تأويل مصدر من غير سابك؛ لإصلاح المعنى، مرفوع على كونه مبتدأ مؤخّرا لسواء، والتقدير: إنّ الذين كفروا إنذارك إياهم وعدم إنذارك إياهم سيّان عندهم. والجملة من المبتدأ المؤخّر وخبره المقدم في محلّ الرفع خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة، أو في تأويل مصدر مرفوع
وعلى ما ذكرنا هنا فقولهم: الفعل لا بدّ له من سابك قاعدة أغلبية.
وقيل: السابك هنا الهمزة؛ لأنّ بعض النحاة جعل السابك للفعل ستة، وعدّ منها هذه الهمزة، كما ذكره الفاسيّ في «حاشيته على الألفيّة». ﴿أَمْ﴾ عاطفة متصلة؛ لوقوعها بعد همزة التسوية. ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم. ﴿تُنْذِرْهُمْ﴾ فعل مضارع ومفعول أول وفاعل مستتر مجزوم بلم، والثاني محذوف، تقديره: العذاب.
والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، أو على الفاعلية، أو على الخبرية لسواء، والتقدير: إنّ الذين كفروا، إنذراك إياهم العذاب، وعدم إنذارك إياهم سواء في عدم الإفادة لهم. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، أو خبر بعد خبر لها، أو في محل النصب حال من ضمير عليهم، أو مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها، لا محلّ لها من الإعراب، والتقدير: على كونها خبرا؛ لأنّ إنّ الذين كفروا عادمون الإيمان بك، لما سبق في علمي من كفرهم فلا تأس عليهم، وإنذراك إياهم وعدمه سواء عليهم، لا ينتفعون به. وجملة إنّ مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾.
﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة؛ لتعليل عدم إيمانهم.
﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور، متعلّق بختم. ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله. وَعَلى أَبْصارِهِمْ الواو عاطفة. ﴿عَلى أَبْصارِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر مقدم. ﴿غِشاوَةٌ﴾ مبتدأ مؤخّر والجملة معطوفة على جملة ﴿خَتَمَ﴾ عطف اسمية على فعلية، كما مرّ. ﴿وَلَهُمْ﴾
فصل في هاء الضمير
نحو: (عليهم، وعليه، وفيه، وفيهم). وإنّما أفردناه بالفصل؛ لكثرة تكرّره في القرآن، والأصل في هذه الهاء الضمّ؛ لأنّها تضمّ بعد الفتحة والضمة والسكون، نحو: (أنّه، وله، وجاء غلامه، ويسمعه، ومنه). وإنما يجوز كسرها بعد الياء، نحو: (عليهم وأيديهم)، وبعد الكسر، نحو: (به وبداره). وضمّها في الموضعين جائز، لأنّه في الأصل كما قرأ به حفص بعد الياء في قوله تعالى: ﴿وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾.
وإنّما كسرت في الموضعين؛ لتجانس ما قبلها من الياء والكسرة، وبكلّ من الضمّ والكسر قد قرىء. انتهى من «العكبري».
فوائد:
١ - همزة التسوية هي الواقعة بين سواء وبعد ما أبالي، وما أدري، وليت شعري. وضابطها: أنّها الهمزة التي تدخل على جملة يصحّ حلول المصدر محلّها، كما رأيت.
٢ - أم: لها حالان:
أ - متصلة وهي منحصرة في نوعين؛ وذلك لأنّها: إما أن تتقدم عليها همزة التسوية، كما في الآية، أو همزة يطلب بها وبأم التعيين، نحو: أزيد في الدار أم عمرو، وسمّيت متصلة؛ لأنّ ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمّى أيضا
معادلة؛ لمعادلتها الهمزة في النوع الأول، إذ كلتاهما تفيد التسوية.
ب - منقطعة: وهي المسبوقة بالخبر المحض، نحو: قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾. وسمّيت منقطعة؛
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَواءٌ﴾ فيه إعلال بالإبدال، فأصله: سواي، أبدلت الياء همزة؛ لتطرفها إثر ألف زائدة، وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء، أجري مجرى المصادر، فلذلك لا يثنّى ولا يجمع. قالوا: هما وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى قالوا: سيّان، وإن شئت قلت سواءان، وفي الجمع: هم أسواء، وأيضا على غير القياس: هم سواسي وسواسية؛ أي: هما متساويان وهم متساوون. والسّواء: العدل الوسط بين حديثين يقال: ضرب سواءه، أي: وسطه، وجئته في سواء النهار؛ أي: في منتصفه. وإذا كانت سواء بعد همزة التسوية، فلا بدّ من (أم) اسمين كانت الكلمتان أم فعلين. وإذا كان بعدها فعلان بغير همزة التسوية، عطف الثاني بأو، نحو: سواء عليّ قمت أو قعدت، وإذا كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو أو بأو، نحو سواء عليّ قيامك وقعودك، وقيامك أو قعودك.
وقوله: ﴿أأنذرتهم﴾ قراءة ورش بإبدال همزة التعدية حرف مدّ مجانسا لحركة همزة الاستفهام المفتوحة في رواية عنه، وعليه يكون في الكلمة إبدال حرف بحرف، وذلك نوع من التصريف، كما هو معروف، وقس على هذا اللفظ كلّ ما شابهه مما اجتمعت فيه همزتان: إحداهما للاستفهام والثانية للتعدية.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ والختم الكتم، سمّي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ لأنّه ختم له، وبلوغ آخره، ومنه ختم القرآن. ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ جمع قلب، وهو الفؤاد، سمّي قلبا؛ لتقلّبه في الأمور، ولتصرّفه في الأعضاء، كما قال بعضهم:
وما سمّي الإنسان إلّا لنسيه | وما القلب إلّا أنّه يتقلّب |
وفي «تفسير الكواشي» القلب: قطعة سوداء في الفؤاد، وزعم بعضهم: أنّه الشكل
ضدّ الحقير، وفعيل له معان كثيرة، يكون اسما وصفة، والاسم: إما مفرد أو جمع، والمفرد: إما اسم معنى أو اسم عين، نحو: قميص، وظريف، وصهيل، وكليب جمع كلّب، ويكون اسم فاعل من فعل المضموم، نحو: عظيم من عظم، ومبالغة في فاعل، نحو:
عليم في عالم، وبمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، ومفعل، كسميع بمعنى مسمع، ومفاعل، كجليس بمعنى مجالس، ومفتعل، كبديع بمعنى مبتدع، ومنفعل، كسعير بمعنى منسعر، وفعل، كعجيب بمعنى عجب، وفعال، كصحيح بمعنى صحاح، وبمعنى الفاعل والمفعول، كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجمع، نحو: خليط، وجمع فاعل، كغريب جمع غارب. اه. «سمين».
البلاغة
وقد تضمنت هاتان الآيتان الكريمتان ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الخطاب العام: اللفظ الخاص المعنى في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إذا أريد بهم أشخاص معيّنون.
ومنها: مجاز بالاستعارة في قوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾، لأنّ حقيقة الختم: وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم، يكون علامة للخاتم. والختم هنا معنويّ، فإنّ القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره، استعير له اسم المختوم عليه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وقيل: في إسناد الختم إلى القلوب استعارة تمثيلية، فقد شبّهت قلوبهم في نبوّها عن الحقّ، وعدم الإصغاء إليه بحال قلوب ختم الله عليها، وهي قلوب البهائم، وهو تشبيه معقول بمحسوس، أو هو مجاز عقليّ، وهو باب واسع عند العرب. يقولون: سال بهم الوادي؛ إذا هلكوا، وطارت بفلان العنقاء؛ إذا طالت غيبته.
ومنها: توحيد السمع لوحدة المسموع، وهو الصوت دون القلوب والأبصار؛ لتنوع المدركات والمرئيّات.
ومنها: تنكير ﴿غِشاوَةٌ﴾ في قوله: ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ إشارة (١) إلى أنّ على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات الكونية.
ومنها: تنكير ﴿عَذابٌ﴾ في قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ إشارة إلى أنّه نوع منه مجهول الكمّ والكيف.
ومنها: وصفه بعظيم؛ لدفع الإيهام بقلّته وندرته، وللإشارة إلى أنّ لهم من الآلام نوعا عظيما، لا يعلم كنهه إلّا الله عزّ وجلّ.
ومنها: الحذف، وهو في مواضع (٢).
منها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: إنّ القوم الذين كفروا بالله وبك، وبما
(٢) البحر المحيط.
ومنها: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: بالله، وبما أخبرتهم به عن الله.
ومنها: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ أي: فلا تعي. ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ أي: فلا تصغي.
ومنها: ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ على قراءة من نصب، أي: وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يبصرون سبيل الهدى.
ومنها: وَ ﴿لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: لهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والأسر، أو بالإذلال ووضع الجزية، وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (١) ذكر أوّلا من أخلص دينه لله، ووافق سرّه علنه، وفعله قوله، ثمّ ثنّى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا. ثلّث هنا بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة؛ لأنّهم ضموا إلى الكفر استهزاء، وخداعا، وتمويها، وتدليا، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، وقوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ﴾.
وقد وصف الله سبحانه حال الذين كفروا في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية. نعى عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم،
فنعى عليهم خبثهم في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ونعى عليهم مكرهم في قوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، وفضحهم في قوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وفي قوله: ﴿وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، واستجهلهم في قوله: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾، وتهكّم بفعلهم في قوله: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾، ودعاهم صمّا بكما عميا في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ (١٨)، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا...﴾ إلخ، وفي قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) من الكتاب هدى لهم، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الاعتقاد، وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية، وذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى، وفي الآخرة من الفلاح. ثمّ أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان، وختم لهم بما يؤولون إليه من العذاب في النيران، وبقي قسم ثالث: أظهروا الإسلام مقالا، وأبطنوا الكفر اعتقادا، وهم المنافقون. أخذ يذكر شيئا من أحوالهم، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾.
الخ.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر في الآيات السابقة مقالتهم الكاذبة، وخداعاتهم العاطلة، وأمراضهم المعضلة، عدّد (٢) في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتّبة على كفرهم ونفاقهم. ففصّل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها. أنّه سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما قبلها بعض خبائثهم وجناياتهم، وبعض هفواتهم، ذكر (١) هنا حال جماعة من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، قد بلغ من دعارتهم، وتمردهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلّمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدّون عن سبيل الحقّ. قالوا لهم: إنّما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم، وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم، وزادهم حيرة في أمورهم. ثمّ ذكر أنّهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها؛ لأنّهم باعوا ما وهبهم الله تعالى من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه لما ذكر فيما قبلهما بعض أحوال المنافقين الذين يظهرون بوجهين، ويتكلّمون بلسانين، أراد أن يضرب لهم الأمثال؛ لأنّ نهج القرآن الكريم، كنهج لغات العرب في أساليبها، فقال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا...﴾ إلخ. فضرب الأمثال التي تجلي المعاني أتمّ جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر، ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره؛ لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر. وعلى هذا السنن ضرب الله سبحانه مثل المنافقين، فمثّل حالهم حينما
ثمّ جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمي الذين فقدوا هذه المشاعر والحواسّ، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنّهم فقدوها، فما فائدة السمع إلّا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلّا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان؛ لتتجلّى المعقولات وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلّا النظر والاعتبار؛ لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنّه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة أو يرجع إلى هدى.
ثمّ أراد سبحانه أن ينتقل إلى أسلوب آخر من الأمثال، فقال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
فضرب (١) سبحانه في هذه الآيات مثلا آخر، يشرح به حال المنافقين، ويبيّن فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم؛ زيادة في التنكيل بهم وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم، وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء، فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد، والخوف من ذمّ الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثمّ استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البيّنة والحجج القيّمة، فيعزمون على اتباع الحقّ، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشبهات، فتقيد
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآيات، نزلت (١) هذه الآيات في المنافقين: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ومعتّب بن قثير، وجدّ بن قيس، وأصحابهم. وذلك أنّهم أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا بها من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وأسرّوا الكفر
واعتقدوه، وأكثرهم من اليهود.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، سبب نزوله: ما أخرجه الواحدي، والثعلبيّ من طريق محمد بن مروان السدّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (نزلت (٢) هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله بن أبيّ: أنظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصّدّيق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب، الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد عليّ، فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه سيد بني
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ...﴾ الآية، سبب نزوله: ما أخرجه (١) ابن جرير من طريق السدي الكبير، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس وعن مرّة، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا: (كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، كلّما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما؛ من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما، فتقتلهما.
وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فأتيا مكانهما يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما). فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ فرقا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان كذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما.
﴿كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾؛ أي: فإذا كثرت أموالهم وولدهم، وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيها، وقالوا حينئذ: إنّ دين محمد صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل محمد، وارتدّوا كفارا، كما قال ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وفي «الصاوي»: والمراد من المنافقين هنا: بعض سكان البوادي؛ وبعض
التفسير وأوجه القراءة
٨ - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾؛ أي: وبعض (١) الناس يقولون بألسنتهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: صدّقنا بوحدانية الله تعالى. ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: صدّقنا بمجيء اليوم الآخر بما فيه من البعث، والحشر والجزاء، وبجميع ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البينات. وفي تكرير الباء؛ ادّعاء الإيمان بكلّ واحد على الأصالة والاستحكام، ذكره البيضاوي. وفي «العمدة»: وأعاد الجار؛ لإفادة تأكيد دعواهم الإيمان بكلّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم. فردّ الله سبحانه عليهم بأبلغ ردّ بقوله: ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ حيث أتى بالجملة الاسمية، وزاد الجار في الخبر. أي: يقولون ذلك والحال أنّهم غير مصدّقين بما ذكر؛ لأنّهم يقولون ذلك قولا لسانيّا دون اعتقاد، وكلاما خداعيا دون تصديق. والمراد باليوم الآخر: يوم القيامة، سمّي بذلك؛ لأنّه يأتي بعد الدنيا، وهو آخر الأيام المحدودة المعدودة، وما بعده فلا حدّ له ولا آخر.
قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ لمّا افتتح الله سبحانه وتعالى (٢) كتابه بشرح حاله، وساق لبيانه ذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنّى بأضدادهم الذين محّضوا الكفر ظاهرا، وباطنا. ثلّث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، وهم أي المنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله؛ لأنّهم موّهوا الكفر، وخلطوا به خداعا واستهزاء، ولذلك طوّل في بيان خبثهم.
(٢) روح البيان.
والنّاس (١): اسم جمع للناسي، سمّي به؛ لأنّه عهد إليه فنسي. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ أي: نسّاء للنعم، ذكّار للمحن. وقيل: سمي به؛ لظهوره من آنس؛ أي: أبصر؛ لأنّهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سمّوا بشرا، كما سمّي الجنّ جنا؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن أعين الناس. وقيل: هو من الأنس الذي هو ضدّ الوحشة؛ لأنّهم يستأنسون بأمثالهم، أو يستأنس أرواحهم بأبدانهم، وأبدانهم بأرواحهم. واللام فيه للجنس. ﴿ومِنَ﴾ في قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ نكرة موصوفة، إذ لا عهد، فكأنّه قال: ومن الناس ناس يقولون؛ أي: يقرّون باللسان. والقول: هو التلفظ بما يفيد، ويأتي بمعنى المقول. وللمعنى المحصور في النفس المعبّر عنه باللفظ وللرأي، وللمذهب مجازا. ووحّد الضمير في ﴿يَقُولُ﴾ باعتبار لفظ ﴿مِنَ﴾، وجمعه في قوله: ﴿آمَنَّا﴾، وقوله: ﴿وَما هُمْ﴾ باعتبار معناها؛ لأنّ كلمة ﴿مِنَ﴾ تصلح للواحد والجمع، أو اللام فيه للعهد، والمعهود: هم الذين كفروا. ﴿ومِنَ﴾ موصولة مراد بها: عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، ونظراؤه من المنافقين، حيث أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا من
واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإنّ الأجناس إنما تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها. فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني.
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أي: صدّقنا بالله. ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وهو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى؛ أي: الوقت الدائم الذي هو آخر الأوقات المنقضية، والمراد به: البعث، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ لأنّه آخر الأيام المحدودة، إذ لا حدّ وراءه، وسمّي بالآخر؛ لتأخّره عن الدنيا.
وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر له؛ ادّعاء أنّهم قد حازوا الإيمان من قطريه، وأحاطوا به من جانبيه، وإيذان بأنّهم منافقون فيما يظنّون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق؛ لأنّ القوم كانوا يهودا، وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا كلا إيمان؛ لاعتقادهم التشبيه، واتخاذ الولد، وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم، وأنّ النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة، وغيرها، ويرون المؤمنين أنّهم آمنوا مثل إيمانهم. وحكاية الله سبحانه عبارتهم؛ لبيان كمال خبثهم، فإنّ ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق، وعقيدتهم عقيدتهم الأولى، لم يكن ذلك إيمانا، فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم، فكان خبثا إلى خبث، وكفرا إلى كفر.
﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي: وما هم (١) بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين، الذين يشعرون بعظيم سلطان الله، ويعلمون أنّه مطلع على سرّهم ونجواهم، إذ كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات ظنا منهم أنّ ذلك يرضي ربّهم، ثمّ هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب، وغشّ، وخيانة، وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم، ونقله الرواة أجمعون.
دلّت الآية: على أنّ الدعوى مردودة، إذا لم يقم عليها دلائل الصحة. قال بعضهم: من تحلّى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدّعيه، فإنّ من مدح نفسه ذمّ، ومن ذمّ نفسه مدح، قال فرعون عليه لعنة الله: ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فقيل فيه: ﴿وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، وقال يونس - عليه السلام -: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فقيل له: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾.
٩ - وقوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين؟ فقيل: يخادعون الله الخ. أي: يخدعون الله سبحانه وتعالى، وإنما أخرج على زنة فاعل؛ للمبالغة، فليست المفاعلة على بابها، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره؛ لأنّه لا تخفى عليه خافية؛ ولأنّهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيكون الكلام على حذف مضاف، كقوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: يخادعون رسول الله ويغرّونه بما أظهروا من الإسلام، أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله، من حيث إنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده. ففيه رفع درجة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث جعل خداعه خداعه.
والخدع على ما ذكرنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة؛ للدلالة على المبالغة في حصول الفعل، وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال: مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدّقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلّا من
وكلا المعنيين مناسب للمقام، فإنّهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطلعوا على أسرار المؤمنين، فيحملوها إلى أعدائهم، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب بسائر الكفرة من القتل، والأسر، والنهب، وأن ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعا، كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإعطاء. وإما لأنّ صورة صنعهم مع الله من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده تعالى أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله تعالى في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين، فتكون المخادعة بين الاثنين، فتكون المفاعلة على بابها.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معطوف على الجلالة؛ أي: ويريدون بذلك القول: أن يخدعوا الذين آمنوا، ويغروهم بإظهار الإيمان، وإخفاء الكفر للاطلاع على أسرارهم، وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم.
وجملة قوله: ﴿وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يَخْدَعُونَ﴾؛ أي: يخادعون الله والمؤمنين بذلك القول، والحال أنّهم ما يضرّون بخداعهم ومكرهم في الحقيقة إلّا أنفسهم؛ لأنّ وبال خداعهم وعقوبته راجع إليهم، قال تعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، وأمره بإخراجهم من المسجد. ونزل فيهم: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ الآيات، ويعاقبون في الآخرة بالعذاب الدائم المؤبّد في الدرك الأسفل من النار.
أي: فدائرة فعلهم مقصورة عليهم. ومن راعى صيغة المفاعلة قال: وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين إلّا بأنفسهم؛ لأنّ ضررها لا يحيق إلّا
وجملة قوله: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ حال من ضمير ﴿ما يَخْدَعُونَ﴾؛ أي: يقتصرون على خدع أنفسهم والحال أنّهم ما يحسّون وما يعلمون ذلك. أي: أنّ ضرر خدعهم ووباله عليهم؛ لتمادي غفلتهم وتكامل حماقتهم، ولو علموا ذلك ما فعلوا الخداع، بل أخلصوا في إيمانهم.
والخدع، وكذا الخديعة، والحيلة، والمكر: هو ما يتوصّل به إلى المقصود بطريق خفيّ، كما ذكره القسطلاني في كتاب الحيل من «صحيح البخاري».
والشعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى، مشتق من الشعر لدقّته. وقيل: (١) هو الإدراك بالحاسّة، مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومنه: مشاعر الإنسان؛ أي: حواسه الخمس التي يشعر بها. اه. «سمين». وسميت مشاعره حواس؛ لكون كلّ حاسة منها محلّا للشعور والعظة.
والمعنى: أنّ لحوق ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له. ثمّ في هذه الآية (٢) نفي العلم عنهم، وفي قوله: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إثبات العلم لهم، فبينهما معارضة، فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: الجمع بينهما بأن يقال: إنّهم علموا به حقيقة، ولكن لم يعملوا بما علموا، فكأنّهم لم يعلموا، وهو كقوله عز وجلّ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة، لكن لم ينتفعوا بذلك، فكانوا كأنّهم صّم بكم عمي، فذو الآلة إذا لم ينتفع بها، فهو وعادم الآلة سواء، والعالم الذي لا يعمل بعلمه، فهو والجاهل سواء، والغني الذي لا ينتفع بماله، فهو والفقير سواء. فإثبات العلم للكفار إلزام الحجة، وذكر الجهل إثبات المنقصة، بخلاف المؤمنين فإنّ إثبات العلم لهم إثبات الكرامة، وذكر الجهل تلقين عذر المعصية. فعلى المؤمن أن
(٢) روح البيان.
وفي الحديث: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم»: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون لهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم خيرا). وإنّما يقال لهم ذلك: لأنّ عملهم في الدنيا كان على وجه الخداع، فيعاملون في الآخرة على وجه الخداع، كذا في «تنبيه الغافلين».
وأخرج (١) أحمد بن منيع في «مسنده» بسند ضعيف، عن رجل من الصحابة: «أنّ قائلا من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غدا؟ قال: «لا تخادع الله»، قال: وكيف نخادع الله؟ قال: «أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء، فإنّه الشرك بالله، فإنّ المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء»: يا كافر، يا فاجر، يا خاسر، يا غادر ضلّ عملك، وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا﴾ الآية، ﴿وإِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ الآية. وأخرج ابن جرير، عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾؟ قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنّهم مؤمنون بما أظهروه.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو (٢): ﴿يُخادِعُونَ﴾ بالألف في الموضعين، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وابن عامر في الثاني ﴿يَخْدَعُونَ﴾ بلا ألف.
والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنّهم يمنّونها الأماني الباطلة، وهي كذلك تمنّيهم.
والحاصل: أنّه قد نفى (٣) الشعور عنهم في مخادعتهم؛ لأنّهم لم يحاسبوا
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
والمشاهد: أنّ الإنسان إذا همّ بعمل وناجى، وجد كأنّ في قلبه خصمين مختصمين:
أحدهما: يميل به إلى اللذة، ويسير به في طريق الضلال والغواية.
وثانيهما: يأمره بالسير في الطريق القويم، وينهاه عن اتباع النفس والهوى.
ولقد جاء في كلامهم عن المتردّد: (فلان يشاور نفسه) ولا يترجّح عنده جانب الشرّ إلّا إذا خدع نفسه، وصرفها عن الحقّ، وزيّن لها اتباع الباطل. وإنّما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة، تجول في الخاطر، وتهجس في النفس، ربّما لا يلتفت إليها الإنسان، ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.
١٠ - ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: في قلوب هؤلاء المنافقين وعقولهم، فالمراد بالقلوب هنا: العقول، وهو تعبير معروف عند العرب. ﴿مَرَضٌ﴾؛ أي: مرض معنوي الذي هو الشكّ، والكفر، والنفاق. والمرض: حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق، ويوجب الخلل في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت. ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخلّ بكمالها: كالجهل، وسوء العقيدة، والحسد، والضغينة، وحبّ المعاصي، وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني؛ لأنّها مانعة عن نيل الفضائل، أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، والآية الكريمة تحتملها، فإنّ قلوبهم كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرياسة، وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستعلاء شأنه يوما فيوما.
﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ﴾ على مرضهم الأول ﴿مَرَضًا﴾ آخر بما أنزله من القرآن؛ لأنّ
والمعنى: فزاد الله غمّهم بما زاد في إعلاء أمره ورفع قدره، وأنّ نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر، وسوء الاعتقاد، ومعاداة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونحوها، فزاد الله ذلك بأن طبع على قلوبهم؛ لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثّر فيها التذكير والإنذار، وبازدياد التكاليف الشرعية، وتكرير الوحي، وتضاعف النصر؛ لأنّهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفرا، وقد كان يشقّ عليهم التكلم بالشهادة، فكيف وقد لحقتهم الزيادات، وهي وظائف الطاعات، ثمّ العقوبة على الجنايات، فازدادوا بذلك اضطرابا على اضطراب، وارتيابا على ارتياب، ويزدادون بذلك في الآخرة عذابا على عذاب. قال تعالى: ﴿زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ﴾، والمؤمنون لهم في الدنيا ما قال: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً﴾، وفي العقبى ما قال: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
قال القطب العلّامة: أمراض القلب: إمّا متعلّقة بالدين، وهو سوء الاعتقاد والكفر، أو بالأخلاق، وهي إما رذائل فعليّة، كالغلّ والحسد، وإما رذائل انفعاليّة، كالضعف والجبن. فحمل المرض أوّلا على الكفر، ثمّ على الهيئات الفعلية، ثمّ على الهيئات الانفعالية. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ دعاء عليهم.
فإن قلت: (١) فكيف يحمل على الدعاء، والدعاء للعاجز عرفا، والله تعالى منزّه عن العجز؟
قلت: هذا تعليم من الله لعباده أنّه يجوز الدعاء على المنافقين، والطرد لهم؛ لأنّهم شرّ خلق الله؛ لأنّه أعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار، وهذا كقوله تعالى: ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾.
﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بعد أن جاء النذير البشير، ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكّهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعلوّ شأنه يوما بيوم.
انتهى.
﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: ولهؤلاء المنافقين في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ يصل ألمه إلى القلوب، وهو بمعنى: المؤلم بفتح اللام على أنّه اسم مفعول من الإيلام. يقال: ألم يألم فهو أليم بمعنى: مؤلم، كسميع بمعنى: مسمع. وصف به للمبالغة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب بفتح الذال المعجمة، كما أنّ الجدّ للجادّ في قولهم: جدّ جدّه. وجه المبالغة: إفادة أنّ الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب بفتح الذال إلى العذاب المتعلّق به.
أي: ولهم عذاب موجع ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ بالتخفيف (٢)؛ أي: بسبب كذبهم في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وقرىء بالتشديد؛ أي: بسبب تكذيبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به في السرّ. والكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، كقولك: الجهل نافع والعلم ضارّ، وهو قبيح كلّه.
و (الباء) (٣) فيه للسببية، أو للمقابلة، ﴿وما﴾ مصدرية، داخلة في الحقيقة على ﴿يَكْذِبُونَ﴾ وكلمة ﴿كانُوا﴾ مقحمة؛ لإفادة دوام كذبهم وتجدده؛ أي: بسبب
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
وحاصل معنى الآية: أنّ الله سبحانه جعل (١) العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى، كالكفر وغيره من أعمال السوء؛ للتحذير منه، وبيان فظاعته، وعظم جرمه؛ وللأشعار بأنّ الكفر من محتوياته، وإليه ينتهي في حدوده وغاياته، ومن ثم حذر منه القرآن أتمّ التحذير. فما فشا في أمة إلّا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة ومنشأ كلّ كبيرة. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «إياكم والكذب، فإنّه مجانب للإيمان»؛ يعني: أنّ الإيمان في جانب والكذب في جانب آخر منه، مقابل له، وهذا كناية عن كمال البعد بينهما.
وفي الحديث (٢): «ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار». كلّ الكذب مكتوب كذبا لا محالة، إلّا أن يكذب الرجل في الحرب، فإنّ الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء، فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته ليرضيها، مثل أن يقول: (لا أحد أحبّ إليّ منك)، وكذا من جانب المرأة. فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها: ما أدّاها إذا ارتبط بمقصود صحيح له، أو لغيره، لكن هذا في حقّ الغير، وأمّا في حقّ نفسه، فالصدق أولى وإن لزم الضرر.
(٢) روح البيان.
وأمال حمزة (١) ﴿فَزادَهُمُ﴾، ووافقه ابن ذكوان، وأجمع القراء على فتح الراء في قوله: ﴿مَرَضٌ﴾، إلّا ما رواه الأصمعيّ، عن أبي عمرو: أنّه قرأ بإسكان الراء. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي ﴿يكذبون﴾ بالتخفيف. وقرأ الحرميان: نافع، وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو، وابن عامر بالتشديد.
وقد سئل (٢) القرطبيّ وغيره من المفسرين، عن حكمة كفّه صلّى الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم؟ فذكروا أجوبة عن ذلك.
منها: ما ثبت في «الصحيحين»: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر - رضي الله عنه -: «أكره أن يتحدّث العرب أنّ محمدا يقتل أصحابه».
ومنها: ما قال مالك: (إنّما كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنافقين؛ ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه).
ومنها: ما قاله بعضهم: أنّه إنما لم يقتلهم؛ لأنّه كان لا يخاف من شرّهم مع وجوده صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، يتلو عليهم آيات الله بينات. فأمّا بعده: فيقتلون إذا أظهروا النفاق، وعلمه المسلمون. انتهى.
١١ - ثمّ (٣) شرع في بيان قبائحهم وأحوالهم الشنيعة، وفي الحقيقة: هو تفصيل للمخادعة الحاصلة منهم، فقال: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: وإذا قال المسلمون لهؤلاء المنافقين: ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لا تسعوا في الأرض بالإفساد بالكفر، وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإفشاء أسرار المؤمنين إلى
(٢) ابن كثير.
(٣) العمدة.
وإسناد (١) قِيلَ إلى ﴿لا تُفْسِدُوا﴾ إسناد له إلى لفظه، كأنّه قيل: وإذا قيل لهم: هذا اللفظ، كقولك: ألّف ضرب من ثلاثة أحرف. والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته، وكونه منتفعا به، وضدّه: الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. وكلاهما يعمّان كلّ ضارّ ونافع، والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن المستتبعة؛ لزوال الاستقامة عن أحوال العباد، واختلال أمر المعاش والمعاد. والمراد بما نهوا عنه: ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم عليهم، وغير ذلك من فنون الشرور. فلمّا كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد. قيل: ﴿لا تُفْسِدُوا﴾، كما يقال للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.
وكانت الأرض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصي، فلمّا بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ارتفع الفساد، وصلحت الأرض، فإذا أعلنوا بالمعاصي، فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما في «تفسير أبي الليث».
﴿قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ جواب لإذا، وردّ للناصح على سبيل المبالغة؛ أي: نحن مقصورون على الإصلاح المحض؛ أي: ليس شأننا الإفساد أبدا، بل نحن محصورون في الإصلاح، لا نخرج عنه إلى غيره، فهو من حصر المبتدأ في الخبر.
والمعنى (٢): أنّه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإنّ شأننا ليس إلّا الإصلاح، وإنّ حالنا متمّحضة عن شوائب الإفساد، وإنّما قالوا ذلك؛ لأنّهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾. فأنكروا كون ذلك فسادا، وادّعوا كونه إصلاحا محضا. وهو من قصر الموصوف على الصفة، مثل: إنّما زيد منطلق.
(٢) روح البيان.
فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدلّ على القصر القلبيّ، وهو قوله تعالى: ﴿أَلا﴾ أيّها المؤمنون انتبهوا، واعلموا ﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ فإنّهم لمّا أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين، ونفوا الأخرى، واعتقدوا ذلك، قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه، ونفى عنهم ما أثبتوا.
والمعنى: هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، لا يتخطّون منه إلى صفة الإصلاح، من باب قصر الشيء على الحكم، فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد، ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين.
ثمّ استدرك بقوله: ﴿وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أنّهم مفسدون، للإيذان بأنّ كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسّ لهم حتى يدركوه. قال الشيخ في «تفسيره»: ذكر الشعور بإزاء الفساد أوفق؛ لأنّه كالمحسوس عادة، ثمّ فيه بيان شرف المؤمنين، حيث تولّى جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين.
١٢ - والحاصل: أنّهم أكّدوا ذلك بإنّما المفيدة للحصر، وبالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار. فردّ الله سبحانه عليهم بجملة مؤكّدة بأربع مؤكّدات: ﴿أَلا﴾ التي للتنبيه و ﴿إن﴾ وضمير الفصل، وتعريف الخبر، حيث قال: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾؛ أي: إنّهم وحدهم هم المفسدون، لا من أوماؤا إليهم من المؤمنين، ولكن لا يعلمون أنّ ما فعلوه فساد؛ لأنّه أصبح غريزة في طباعهم؛ بما تمكّن فيها من الشّبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم، والثقة بآرائهم. أو لا يعلمون أنّ الله تعالى يطلع نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على فسادهم.
١٣ - ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ من طرف المسلمين بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن
والمعنى: أي (١) وإذا قال لهؤلاء المنافقين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو بعض أصحابه بطريق الأمر بالمعروف نصيحة لهم: آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر إيمانا صادقا، لا يشوبه نفاق ولا رياء. ﴿كَما آمَنَ النَّاسُ﴾؛ أي: كما آمن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله. والكاف في محل النصب على أنّه نعت لمصدر مؤكّد محذوف؛ أي: آمنوا إيمانا مماثلا لإيمانهم، فما مصدرية أو كافّة؛ أي: حقّقوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم. واللام (٢) في النَّاسُ للجنس، والمراد به:
الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، أو للعهد، والمراد به: الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، أو من آمن من أهل بلدتهم؛ أي: من أهل ضيعتهم: كابن سلام وأصحابه.
والمعنى: آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص، متمحّضا من شوائب النفاق، مماثلا لإيمانهم.
﴿قالُوا﴾ مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان ﴿أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ الهمزة فيه للإنكار مع الاستهزاء والسخرية، واللام فيه مشار بها إلى الناس الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد. والسفه: خفّة عقل وسخافة رأي، يورثهما قصور العقل، ويقابله الحلم والأناة. وإنّما نسبوهم إليه مع أنّهم في الغاية القاضية من الرشد، والرزانة، والوقار؛ لكمال انهماك أنفسهم في السفاهة، وتماديهم في الغواية، وكونهم ممن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا،
(٢) روح البيان.
فإن قيل: كيف يصحّ النفاق مع المجاهرة بقوله: ﴿أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾.
قلنا: فيه أقوال:
الأول: إنّ المنافقين لعنهم الله، كانوا يتكلمون بهذا الكلام في أنفسهم دون أن ينطقوا به بألسنتهم، لكن هتك الله أستارهم، وأظهر أسرارهم عقوبة على عداوتهم، وهذا كما أظهر ما أضمره أهل الإخلاص من الكلام الحسن، وإن لم يتكلموا به بالألسن؛ تحقيقا لولايتهم، قال الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ إلى أن قال: ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾، وكان هذا في قلوبهم، فأظهره الله تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم. وهذا قول صاحب «التيسير».
والثاني: أنّ المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بذلك، هذا قول البغويّ.
والثالث: قول أبي السعود في «الإرشاد» حيث قال: هذا القول وإن صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم، لكن لا يقتضي كونهم مجاهرين لا منافقين، فإنّه ضرب من الكفر أنيق، وفنّ في النفاق عريق؛ لأنّه محتمل للشرّ، كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يحمل على ادّعاء الإيمان، كإيمان الناس، وإنكار ما اهتمّوا به من النفاق على معنى: أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرون بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير
وعلى الأول: ردّ الله - سبحانه - ذلك عليهم بجملة مؤكّدة بأربع تأكيدات كالسابقة، حيث قال: ﴿أَلا﴾ فانتبهوا أيّها المؤمنون ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إنّ المنافقين
فائدة: قال أبو حيان: وإذا التقت الهمزتان، أولاهما مضمومة، والثانية مفتوحة، نحو: ﴿السُّفَهاءُ أَلا﴾ ففي ذلك أوجه:
أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر.
والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو.
والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية.
والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واوا.
وأجاز قوم وجها.
خامسا: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع ذلك بعضهم.
وهذا ردّ (١) ومبالغة في تجهيلهم، فإنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع، أعظم ضلالة، وأتمّ جهالة من المتوقّف المعترف بجهله، فإنّه ربّما يعذر وتنفعه الآيات والنذر. وقال النسفيّ: وإنّما ذكر هنا ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾. وفيما تقدم ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾؛ لأنه قد ذكر السفه هنا، وهو جهل، وكان ذكر العلم أحسن طبقا له. انتهى.
وفي «الروح»: واعلم أن قوله تعالى: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ في الآية الأولى: نفي
فليسارع (١) العاقل إلى تحصيل العلم والمعرفة، حتى يصل إلى توحيد الفعل والصفة. قال الإمام القشيري - رحمه الله تعالى -: للعقل نجوم، وهي للشيطان رجوم، وللعلوم أقمار هي للقلوب أنوار واستبصار، وللمعارف شموس، ولها على أسرار العارفين طلوع، والعلم اللدنّي هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج، وللقلب بابان: باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام. فمثل القلب، كمثل الحوض الذي يجري فيه أنهار خمسة، فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة، بخلاف ما إذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى، فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو من كدرة، وشكّ، وشبهة، بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض الإلهيّ، فإنّه أصفى وأولى. انتهى.
وعبارة المراغي هنا: (١) ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ﴾ الذين اتبعوا قضيّة العقل، وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم، كعبد الله بن سلام وأشباهه من أحبارهم. ﴿قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ أرادوا بالسفهاء: أتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم. أمّا المهاجرون منهم: فلأنّهم عادوا قومهم وأقاربهم، وهجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم؛ ليتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويسيروا على هديه. وأمّا الأنصار: فلأنّهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة، وتمادى في الغواية، ومن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، وظنّ الضلال هدى أن يسمّي الهدى سفها وضلالا، كما مرّ. ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ﴾ وحدهم دون من عرّضوا بهم، ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم، واكتفوا بانتظار شفاعتهم، ولم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك المؤمنين الذين لا سلف لهم إلّا عابدي أصنام، وقد هداهم الله تعالى، وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان. ﴿وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أنّ المؤمنين سفهاء.
وقد ختمت هذه الآية بـ ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾، وسابقتها بـ ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾؛ لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالعلم اليقينيّ، والفائدة المرجوة منه، وهي السعادة في المعاش والمعاد، لا يدركها إلّا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في
أمّا نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حسّ لهم حتى يدركوه.
انتهى.
١٤ - ثمّ بيّن سبحانه وتعالى، مصانعتهم ومعاملتهم مع المؤمنين بعد ما بيّن أولا مذهبهم ونفاقهم في الواقع، ونفس الأمر بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فلا تكرار بين ما هنا وهناك، فقال: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال صاحب «الروح»: وهذا بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار، وما صدّرت به القصة، فمساقه؛ لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم، فليس بتكرير مع ما سبق؛ أي:
وإذا لقي هؤلاء المنافقون، وعاينوا، وصادقوا، واستقبلوا الذين آمنوا بالحقّ، وهم المهاجرون والأنصار ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال هؤلاء المنافقون كذبا: ﴿آمَنَّا﴾ كإيمانكم وتصديقكم، كما سبق في سبب النزول: أنّ عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - الخ.
أي: وإذا رأى هؤلاء المنافقون المؤمنين، واجتمعوا معهم، أظهروا لهم الإيمان والموالاة نفاقا ومصانعة. ﴿وَإِذا خَلَوْا﴾؛ أي: مضوا، أو اجتمعوا على الخلوة. و ﴿إِلى﴾ بمعنى: مع أو انفردوا و ﴿إِلى﴾ بمعنى: الباء، أو بمعنى: مع، تقول: خلوت بفلان، وإليه، إذا انفردت معه. ﴿إِلى شَياطِينِهِمْ﴾؛ أي: إلى أصحابهم المماثلين للشيطان في التمردّ والعناد المظهرين لكفرهم. وإضافة الشياطين إلى ضميرهم للمشاركة في الكفر، أو إلى كبار المنافقين، والقائلون صغارهم، وكلّ عات متمرّد فهو شيطان.
وقال الضحاك: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - المراد بشياطينهم: كهنتهم، وهم في بني قريظة: كعب بن الأشرف، وفي بني أسلم: أبو بردة، وفي جهينة: عبد الدار، وفي بني أسد: عوف بن عامر، وفي الشام: عبد الله بن سوداء. وكانت العرب تعتقد فيهم أنّهم مطّلعون على الغيب، ويعرفون الأسرار، ويداوون المرضى، وليس من كاهن إلّا وعند العرب أنّ معه شيطانا يلقي إليه
والمعنى: أي وإذا انفردوا عن المؤمنين، ورجعوا إلى شياطينهم؛ أي: إلى كبرائهم، ورؤسائهم في الضلال والنفاق الذين شابهوا الشياطين في تمردهم وعتوهم، أو إلى كهنتهم. ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال هؤلاء المنافقون لرؤسائهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾: أي: مصاحبوكم، وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم في حال من الأحوال. وكأنه قيل لهم عند قولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾: فما بالكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الشهادة، وتشهدون مشاهدهم، وتدخلون مساجدهم، وتحجون، وتغزون معهم؟ فقالوا: ﴿إِنَّما نَحْنُ﴾ في إظهار الإيمان عند المؤمنين ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة، فنريهم أنا نوافقهم على دينهم ظاهرا وباطنا، وإنما نكون معهم ظاهرا؛ لنشاركهم في غنائمهم، وننكح بناتهم، ونطّلع على أسرارهم، ونحفظ أموالنا، وأولادنا، ونساءنا من أيديهم.
والاستهزاء: التجهيل للغير، والسخرية به، والاستخفاف به.
والمعنى: إنّا نجهّل محمدا وأصحابه، ونسخر بهم بإظهارنا الإسلام.
وقرىء ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ بتحقيق الهمزة، وهو الأصل، وبقلبها ياء مضمومة؛ لانكسار ما قبلها، ومنهم من يحذف الياء؛ تشبيها بالياء الأصلية في نحو: يرمون، ذكره في «البحر».
١٥ - فردّ الله عليهم بقوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي: يجازيهم على استهزائهم، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم، أو ينزل الحقارة بهم والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزىء بهم، أمّا في الدنيا: فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال، والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة: فبما يروى: أنّه يفتح لهم بابا إلى الجنة، وهم في جهنّم، فيسرعون نحوه، فإذا وصلوا إليه سدّ عليهم الباب، وردّوا إلى جهنم. والمؤمنون على الأرائك في الجنة، ينظرون إليهم، فيضحكون لهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا، فذلك بمقابلة هذا،
قال ابن كثير: وهذا إخبار من الله تعالى أنّه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء، مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقّوا العقاب عليه. فاللفظ متفق والمعنى مختلف، كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾؛ لأنّ الأول ظلم والثاني عدل.
﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾؛ أي: يزيدهم، ويقويهم من مدّ الجيش وأمده؛ إذا زاده وقوّاه، لا من المدّ في العمر، فإنّه يعدى باللام كأملي لهم. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير وَيَمُدُّهُمْ. ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ متعلّق بيمدّهم. والطغيان: مجاوزة الحد في كلّ أمر، والمراد هنا: إفراطهم في العتوّ، وغلّوهم في الكفر. وفي إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم، وتأييد لما أشير إليه من ترتب المدّ على سوء اختيارهم.
والمشهور فتح الياء من ﴿يَمُدُّهُمْ﴾. وقرىء شاذا بضمّها، فقيل: الثلاثي والرباعي بمعنى واحد، ونسبت هذه القراءة إلى ابن محيص، وشبل، وابن كثير، كما مرّ.
حالة كونهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ فيه؛ أي: يتردّدون في الضلالة، متحيّرين عقوبة لهم في الدنيا لاستهزائهم. وهو حال من الضمير المنصوب، أو المجرور، لكون المضاف مصدرا، وهو مرفوع حكما. والعمه في البصيرة، كالعمى في البصر، وهو التحيّر والتردّد بحيث لا يدري أين يتوجّه.
والمعنى: أي يزيدهم بطريق الإمهال والترك في طغيانهم، وضلالتهم، وكفرهم حالة كونهم يعمهون؛ أي: يتردّدون ويتحيّرون في طغيانهم، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا، لأنّ الله طبع قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشدا، ولا يهتدون سبيلا، أو المعنى: يتردّدون في البقاء على الكفر وتركه، والدخول في الإيمان.
والمراد بالعمه: عدم معرفة الحقّ من الباطل، فمنهم: من يظهر له وجه الحقّ، ويكفر عنادا ومنهم: من يشكّ في الحقّ ويقال له: عمي أيضا. فبين العمه والعمى عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في طمس القلب، وينفرد العمى بفقد البصر.
وقرأ يحيى بن يعمر ﴿اشتروا الضلالة﴾ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي بفتحها؛ لخفة الفتحة، وأجاز الكسائي همز الواو. وقرأ الجمهور بضمّ الواو، وأمال حمزة والكسائي وخلف العاشر ﴿الهدى﴾، وهي لغة تميم، وقلله ورش والباقون بالفتح، وهي لغة قريش.
أي: أولئك المنافقون هم الذين اشتروا الضلالة، وأخذوها، واختاروها، وهي الكفر والعدول عن الحقّ، والصواب بدل الهدى، وهو الإيمان والسلوك في الطريق المستقيم، والاستقامة عليه أخذا متّصفا بالرغبة فيها والإعراض عنه؛ أي: اختاروها عليه، واستبدلوها به، وأخذوها مكانه، وجعل الهدى كأنّه في أيديهم لتمكنهم منه، وهو الاستعداد به، فبميلهم إلى الضلالة عطلوه، وتركوه. والباء تدخل على المتروك في باب المعاوضة. وهذا دليل: على أنّ الحكم في البيع ونحوه، يثبت بالتعاطي من غير تكلم بالإيجاب والقبول على ما ذهب إليه الأحناف، فإنّ هؤلاء سمّوا مشترين، بترك الهدى وأخذ الضلال من غير تكلّم بصيغة المبادلة، كما في «التيسير». فيكون دليلا لهم على أنّ من أخذ شيئا من غيره، وترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم.
﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ أي: (١) ما ربحت صفقتهم في هذه المعاوضة؛ أي:
﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى طريق التجارة، فإنّ المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح، ولئن فات الربح في صفقة، فربّما يتدارك في صفقة أخرى؛ لبقاء الأصل، وأمّا اتلاف الكلّ بالمرة، فليس من باب التجارة قطعا، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين؛ لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختلّ عقلهم، ولم يبق لهم رأس مال يتوسّلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح، فاقدين الأصل نائين عن طريق التجارة بألف منزل.
واعلم: أنّ المهتدي: هو الذي ترك الدنيا والعادة، ثمّ اشتغل بوظائف الطاعة والعبادة، لا من اتبع كلّ ما يهواه، وخلّط هواه بهداه.
فإن قلت (١): مقتضى هذه الآية: أنّ الهدى كان موجودا ثمّ دفعوه، وأخذوا الضلالة.
قلت: الأمر كذلك؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه» الحديث؛ ولأنّهم في العهد يوم ألست بربكم أجابوا بالإيمان جميعا؛ أو لأنّهم لمّا تمكنوا من الإيمان جعلوا كأنّ الهدى بأيديهم، فتركوه، وأخذوا الضلالة. فمثلهم، كمثل من عنده كنز عظيم ينفع في الدنيا والآخرة، فاستبدله بالنار؛ لأنّ الضلالة سبب النار.
وحاصل معنى الآيات: أي (٢) وإذا رأى المنافقون المؤمنين، واجتمعوا بهم
(٢) المراغي.
فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح، وإنّ من كانت هذه حالتهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإنّ التاجر إن فاته الربح في صفقة، فربّما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.
١٧ - ولمّا بيّن الله سبحانه وتعالى قبائحهم وعاقبة أمرهم، شرع يضرب أمثالهم، ويبيّن فيها وصفهم وما هم عليه، فقال: ﴿مَثَلُهُمْ...﴾ إلخ، والمثل في الأصل: بمعنى النظير، ثمّ قيل: للقول السائر الممثل بمورده، كما ورد من غير تغيير، ولا يضرب إلّا بما فيه غرابة، ولذلك حوفظ عليه من التغيير، ثمّ استعير لكل حال، أو قصة، أو صفة لها شأن عجيب، وفيها غرابة، كقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾، وقوله أيضا: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى﴾؛ أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال.
وعبارة «الروح»: ولمّا جاء الله بحقيقة حال المنافقين، عقّبها بضرب المثل؛ زيادة في التوضيح والتقرير، فإنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع ثورة الجامح الأبيّ، كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف، وإراءة للمخيّل محقّقا، وللمعقول محسوسا، وتصوير للمعاني بصورة الأشخاص، ومن
والمعنى (١): مثلهم؛ أي: حالهم وصفتهم العجيبة الشأن ﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾؛ أي: كحال الذين من باب وضع مفرد الموصول موضع الجمع منه؛ تخفيفا للكلام؛ لكونه مستطالا بصلته، كقوله: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا﴾، والقرينة ما قبله وما بعده، لكن إنّه وحّد الضمير في قوله: اسْتَوْقَدَ نارًا نظرا إلى صورة اللفظ، وجمع في الأفعال الآتية نظرا إلى المعنى. والاستيقاد: طلب الوقود، والسعي في تحصيله، وهو سطوع النور، وارتفاع لهبها. والنار: جوهر لطيف مضيء محرق حارّ، والنور ضوؤها وضوء كلّ نيّر، وهو نقيض الظلمة؛ أي: كمثل الذي أوقد في مفازة في ليلة مظلمة نارا عظيمة؛ خوفا من السباع وغيرها.
﴿فَلَمَّا أَضاءَتْ﴾ الإضاءة: فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾. وقرأ ابن السميقع، وابن أبي عبلة ﴿فلما ضاءت﴾ ثلاثيا فيتخرّج على زيادة ما، أو على أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة، أو موصوفة؛ أي: أنارت النار ﴿ما حَوْلَهُ﴾؛ أي: ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على أنّ ﴿ما﴾ مفعول ﴿أَضاءَتْ﴾ إن جعلته متعدّيا و (حول) نصب على الظرفية، وإن جعلته لازما، فهو مسند إلى ﴿ما﴾، والتأنيث؛ لأنّ ما حوله أشياء وأماكن، وأصل الحول: الدّوران، ومنه الحول للعام؛ لأنّه يدور. وجواب ﴿لما﴾ قوله سبحانه ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾؛ أي: أذهبه بالكلية، وأطفأ نارهم التي هي مدار نورهم. وإنّما علّق الإذهاب بالنور دون نفس النار؛ لأنّه المقصود بالاستيقاد. وقرأ اليمانيّ ﴿أذهب الله نورهم﴾، وهذا يدلّ على مرادفة الباء للهمزة في التعدية.
والمعنى (٢): أنّ حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي: عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق، المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى، وظلمة يوم القيامة ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ﴾، وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو الفطري النوري، المؤيّد بما شاهدوه من دلائل الحقّ، كحال من استوقد نارا عظيمة حتى كاد ينتفع بها، فأطفأها الله تعالى، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار.
وقرأ الأعمش، والحسن، وأبو السماك ﴿ظلمات﴾ بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيليّ بفتح اللام. وقرأ الجمهور بضمّ اللام. وهذه اللّغي
(٢) روح البيان.
وفي «التيسير والعيون»: إنّ المنافقين أظهروا كلمة الإيمان، فاستناروا بنورها، واستعزّوا بعزّها، وأمنوا بسببها، فناكحوا المسلمين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فإذا بلغوا إلى آخر العمر كلّ لسانهم عنها، وبقوا في ظلمة كفرهم أبد الآباد، وعادوا إلى الخوف والظلمة.
وعبارة «العمدة» هنا: ﴿مَثَلُهُمْ﴾؛ أي: صفة هؤلاء المنافقين في نفاقهم وحالهم الشنيعة، كصفة الشخص الذي أوقد نارا ليستدفىء بها، ويستضيء.
﴿فَلَمَّا﴾ اتقدت تلك النار، ﴿وأَضاءَتْ﴾؛ أي: أنارت له ﴿ما حَوْلَهُ﴾ أي: المكان الذي حوله، فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه من عدوّ، وسباع، وحيّات، وغير ذلك مما يضرّه، وتمّ له النفع بها، أطفأ الله تلك النار، و ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾؛ أي: أذهب الله، وأعدم نور نارهم وضوءها، ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾؛ أي: خلّاهم، وصيّرهم ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة السحاب والريح مع المطر حالة كونهم ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم متحيّرين عن الطريق خائفين.
فكذلك هؤلاء المنافقون أمنوا على أنفسهم، وأولادهم، وأموالهم من القتل والسبي، وانتفعوا بأخذ الغنائم والزكاة، حيث أسلموا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فإذا ماتوا فقد ذهب الله بنورهم، فلم يؤمنوا من النار، ولم ينتفعوا بالجنة، وتركهم في ظلمات ثلاث:
ظلمة الكفر، والنفاق، والقبر، والجامع بينهما قلّة الانتفاع، ودفع المضار في كلّ منهما.
١٨ - ﴿صُمٌّ﴾ أي: هم صمّ عن الحقّ، لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوا، فكأنّهم لم يسمعوا. والصمم: انسداد خروق المسامع، بحيث لا يكاد يصل إليها هواء يحصل الصوت بتموجه. والصّمّ: جمع أصمّ وهو من انسدّت خروق مسامعه.
وقرأ ابن مسعود، وحفصة أمّ المؤمنين (١): ﴿صمّا بكما عميا﴾ بالنصب على الذمّ
﴿بُكْمٌ﴾؛ أي: خرس عن نطق الحقّ، لا يقولونه لمّا أبطنوا خلاف ما أظهروا، فكأنّهم لم ينطقوا. وهو جمع أبكم، والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأبكم والأخرس كلاهما بمعنى واحد، والبكم: آفة في اللسان يمنع اعتماد الصوت على مخارج الحروف.
﴿عُمْيٌ﴾؛ أي: فاقدوا الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤدّيهم إلى الهدى، وفاقدوا البصيرة أيضا؛ لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له. فالعمى هنا مستعمل في عدم البصر والبصيرة جميعا، والعمى: فقدان البصر خلقة كان أم لا. والكلام في كل من الثلاثة على التشبيه البليغ، كما سيأتي. وهذه صفاتهم في الدنيا، ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها. قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾، فلا يسمعون سلام الله، ولا يخاطبون الله، ولا يرونه، والمسلمون كانوا سامعين للحقّ قائلين بالحق، ناظرين إلى الحقّ، فيكرمون يوم القيامة بخطابه، ولقائه، وسلامه.
﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه، وضيّعوه، وباعوه. أو لا يرجعون عمّا هم عليه من الغيّ، والضلال، والفساد. والفاء: للدلالة على أنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب تحيّرهم واحتباسهم. وهذه الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وأفادت أنّهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات، حيث استحقّوا الذمّ بتركه، وأنّ قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ ليس بنفي الآلات، بل هو نفي تركهم استعمالها.
١٩ - ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى مثلا آخر لهم؛ زيادة في الكشف والإيضاح، فقال: ﴿أَوْ﴾ مثلهم في حيرتهم وترددهم ويصحّ أن تكون ﴿أَوْ﴾ للتنويع، أو للإبهام، أو للشكّ، أو الإباحة، أو التخيير، أو الإضراب، أو بمعنى الواو، وأحسنها الأول. قال الشوكاني عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك؛ لقصد التخيير بين المثلين؛ أي: مثّلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل
أي: (١) كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين، والقصتان سواء في استقلال كلّ واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. وقرىء أو كصايب وهو اسم فاعل من صاب يصوب، وصيب أبلغ من صائب،
ذكره في «البحر».
وقوله: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ متعلّق بصيّب؛ أي: كأصحاب مطر نازل من السماء.
والسماء: سقف الدنيا، وتعريفها للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها؛ أي: كلّ ما يحيط به كلّ أفق منها سماء على حدة.
والمعنى: أنّه صيّب عامّ نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء. وفيه أنّ السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماؤه، لا كزعم من يزعم أنّه يأخذه من البحر.
قال الإمام: من الناس من قال: المطر إنما يتحصّل عن ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثمّ ينزل مرة أخرى، وأبطل الله ذلك المذهب هنا، بأن بيّن أنّ ذلك الصيب نزل من السماء.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ تحت العرش بحرا ينزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله، فيغربله، فليس من قطرة تقطر، إلّا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة، إلّا بكيل معلوم، ووزن
قال الشوكاني (١): وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلّا منها:
أنّه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب. وإطلاق السماء على المطر واقع كثيرا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم | رعيناه وإن كانوا غضابا |
٢٠ - لكن يمكن أن يؤخذ ظلمة الليل من سياق الآية، حيث قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ﴾ وبعده ﴿وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾. فإنّ خطف البرق البصر، إنما يكون غالبا في ظلمة الليل، وكذا وقوف الماشي عن المشي، إنما يكون إذا اشتدت ظلمة الليل، بحيث يحجب الأبصار عن إبصار ما هو أمام الماشي من الطريق وغيره، وظلمة سحمة السحاب وتكاثفه في النهار، لا يوجب وقوف الماشي عن المشي. وجعل (٢) المطر محلّا للظلمات، مع أنّ بعضها لغيره، كظلمة الغمام والليل؛ لما أنّهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة في شدّته، وتهويلا لأمره، وإيذانا بأنّه من الشدة والهول، بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام.
﴿وَرَعْدٌ﴾ هو صوت قاصف شديد يسمع من السحاب، والصحيح الذي عليه المعوّل: أنّه اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب، لما روى الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سألت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو؟ قال:
(٢) روح البيان.
قال القرطبيّ: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، والمشهور عند الحكماء: أنّ الرعد يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض، أو من إقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح إياها سوقا عنيفا، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة، وجهلة المتكلمين.
﴿وَبَرْقٌ﴾ وهو لمعان يظهر من السحاب إذا تحاكّت أجزاؤه، أو عند ضرب الملك السحاب بالمخاريق عند سوقه، وهي جمع مخراق، كما مرّ آنفا، والمخراق في الأصل: ثوب يلفّ، ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، وهي هنا: آلة تزجر بها الملائكة السحاب. وكونهما؛ أي: الرعد والبرق في الصيّب مع أنّ مكانهما السحاب، باعتبار كونهما في أعلاه ومنصبّه، وملتبسين في الجملة ووصول أثرهما إليه، فهما فيه.
والضمائر في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ﴾ للمضاف المحذوف في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ لأنّ التقدير: أو كأصحاب صيّب، كما مرّ. وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه، لكن معناه باق، فيجوز أن يعود عليه الضمير، ولا محلّ لهذه الجملة؛ لكونها مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنّه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن الشدة والهول، فكأنّ قائلا قال: كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذنهم، والمراد: أناملهم، وفيه من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، كأنّهم يدخلون من شدّة الحيرة أصابعهم كلّها في آذانهم لا أناملها
وإطلاق الأصبع على بعضها - وهو الأنملة - مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية؛ لأنّ الذي يجعل في الأذن، إنما هو رأس الأصبع لا كلها.
وقوله: ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ متعلّق بيجعلون؛ أي: يجعلون من أجل خوف الصواعق المقارنة للرعد. والصواعق (٢): ويقال لها: الصواقع، جمع صاعقة، وهي قطعة نار، تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه على السحاب وشدة ضربه لها، كما روي: إذا اشتدّ غضبه على السحاب طارت من فيه النار، فتضطرب أجرام السحاب، وترتعد. اه. «كرخي».
ويدلّ على ذلك: ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا، وبه قال كثير من علماء الشريعة، ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك، وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار، تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد، وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة: ومن قال بقولهم: إنّها نار لطيفة
تنقدح من السحاب إذا اصطكّت أجرامها، وسيأتي في (سورة الرعد) إن شاء الله تعالى في تفسير الرعد، والبرق، والصواعق، ماله مزيد فائدة وإيضاح.
وقوله: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ منصوب (٣) بيجعلون على أنّه مفعول لأجله؛ أي:
(٢) الشوكاني.
(٣) البروسوي.
﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ﴾ أصل الإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع جهاته، بحيث لا يفوت المحاط به المحيط بوجه من الوجوه؛ أي: والله سبحانه محيط محدق ﴿بِالْكافِرِينَ﴾ بعلمه وقدرته، لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة، فيحشرهم يوم القيامة، ويعذّبهم، وهذه الجملة اعتراضية منبهة، على أنّ ما صنعوا من سدّ الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا، فإنّ القدر لا يدافعه الحذر، والحيل لا تردّ بأس الله عز وجلّ. وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب؛ الإيذان بأنّ ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم.
وحاصل معنى الآية (١): صفة هؤلاء المنافقين في حيرتهم ودهشتهم، كصفة أصحاب مطر شديد نازل من السماء ﴿فِيهِ ظُلُماتٌ﴾؛ أي: مع ذلك المطر ظلمات متكاثفة مجتمعة من ثلاثة أنواع: ظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الليل.
﴿وَ﴾ معه ﴿رَعْدٌ﴾ قاصف؛ أي: شديد، وهو صوت الملك الموكل بالسحاب، ﴿وَ﴾ معه ﴿بَرْقٌ﴾ خاطف؛ أي: مسرع، وهو لمعان سوطه التي يسوق بها السحاب، وهي من نار ﴿يَجْعَلُونَ﴾؛ أي: يجعل أصحاب الصيّب أصابعهم؛ أي: رؤوس أصابعهم ويضعونها في آذانهم ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾؛ أي: من أجل شدّة صوت الرعد. ف (أل) في ﴿الصَّواعِقِ﴾ للعهد الذكري؛ لأنّه تقدم ذكرها بعنوان الرعد، فهي عين الرعد السابق، فالتعبير هنا بالصواعق، وهناك بالرعد؛ للتفنّن، ولا يضرّ في العهد الذكري اختلاف العنوان، كما هو مقرر في محلّه، كما في «الجمل». ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾؛ أي: لأجل خوف الموت والهلاك من سماعها. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾؛ أي: محيط بهم بقدرته وعلمه، وهم في قبضته، وتحت إرادته ومشيئته، لا يفوتونه، كما لا يفوت من أحاط به الأعداء من كلّ جانب.
وقوله: ﴿يَكادُ الْبَرْقُ﴾ من تمام المثل، وأمّا قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ فجملة معترضة بين أجزاء المشبّه به، كما مرّ قريبا، جيء بها تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: يقرب البرق لشدّته وقوته، وكثرة لمعانه ﴿يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ﴾؛ أي: يختلس أبصار أصحاب الصيّب ويستلبها، ويأخذها بسرعة، ويذهبها من شدّة ضوئه.
وجملة يكاد مستأنفة استئنافا بيانيا، واقعا في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل:
فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد ذلك البرق يخطف أبصارهم.
وقرأ مجاهد، وعليّ بن الحسين، ويحيى بن زيد (١): ﴿يَخْطَفُ﴾ بسكون الخاء وكسر الطاء. قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك: بأنّ أحدا لم يقرأ ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾ بالفتح. وقال الزمخشري: الفتح - يعني في المضارع - أفصح. انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء يخطف بالكسر. قال ابن عطيّة: ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن، وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود ﴿يختطف﴾. وقرأ أبيّ ﴿يتخطّف﴾، وقرأ الحسن أيضا ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضا، والجحدري، وابن أبي إسحاق ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله: ﴿يختطف﴾، وقرأ الحسن أيضا، وأبو رجاء، وعاصم، والجحدري وقتادة ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضا الحسن، والأعمش ﴿يخطّف﴾ بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي ﴿يخطّف﴾ بضمّ الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة، من (خطّف) المضعف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة.
وهذا تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيّب. وفي مصحف ابن مسعود: ﴿مضوا فيه﴾.
﴿وَإِذا أَظْلَمَ﴾ البرق ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: خفي، واستتر، فصار الطريق مظلما ﴿قامُوا﴾؛ أي: وقفوا في أماكنهم، وثبتوا على ما كانوا عليه من الهيئة، متحيّرين، مترصّدين لحظة أخرى عسى يتسنّى لهم الوصول إلى المقصد، أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم. وقرأ زيد بن قطيب، والضحاك ﴿وَإِذا أَظْلَمَ﴾ مبنيا للمفعول، ذكره في «البحر».
وهذا تصوير (٢) لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإذا صادفوا من البرق لمعة، مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوها فرصة، فيخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي، واستتر، وفتر لمعانه، وفقد: وقفوا عن السّير، وثبتوا في مكانهم؛ خشية التردّي في حفرة، فكذلك المنافقون لمّا آمنوا بألسنتهم مشوا فيما بين المؤمنين؛ لأنّه يقبل إيمانهم اللسانيّ، فلما ماتوا بقوا في ظلمة القبر والعذاب.
(٢) العمدة.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه وأراده؛ أي: على كلّ موجود بالإمكان، والله تعالى وإن كان يطلق عليه الشيء، لكنه موجود بالوجوب دون الإمكان، فلا يشكّ العاقل، أنّ المراد من الشيء في أمثال هذا الموضع ما سواه تعالى، فالله تعالى مستثنى في الآية مما يتناوله لفظ الشيء بدلالة العقل، فالمعنى: على كلّ شيء سواه قدير، كما يقال: فلان أمين، على معنى: أمين على من سواه من الناس، ولا يدخل فيه نفسه، وإن كان من جملتهم، كما في «حواشي ابن التمجيد». ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: فاعل له على قدر ما تقتضيه حكمته لا ناقصا ولا زائدا؛ أي: قادر على إيجاده وإعدامه لا منازع له فيه، ومنه إذهاب أسماعهم وأبصارهم. قال ابن جرير: وإنّما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كلّ شيء في هذا الموضع؛ لأنّه حذّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنّه محيط بهم، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر. اه.
وقرأ ابن أبي عبلة (٢): ﴿لأذهب بأسماعهم وأبصارهم﴾، فالباء زائدة، التقدير: لأذهب أسماعهم وأبصارهم.
ثمّ اعلم (٣): أنّ هذا التمثيل كشف بعد كشف، وإيضاح بعد إيضاح، أبلغ
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
هذا إذا كان التمثيل مركبا، وهو الذي يقتضيه جزالة التنزيل، فإنّك تتصوّر في المركّب، الهيئة الحاصلة من تفاوت تلك الصور، وكيفياتها المتضامّة، فيحصل في النفس منه ما لا يحصل من المفردات، كما إذا تصوّرت من مجموع الآية، مكابدة من أدركه الوابل الهطل، مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر، وصوت الرعد الهائل، والبرق الخاطف، والصاعقة المحرقة، ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من تحذّر الموت. حصل لك منه أمر عجيب، وخطب هائل، بخلاف ما (١) إذا تكلّفت لواحد واحد مشبّها به.
يعني: إن حمل التمثيل على التشبيه المفرّق، فشبه القرآن، وما فيه من العلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الأبدية بالصيّب الذي هو سبب الحياة الأرضية، وما عرض لهم بنزوله من الغموم، والأحزان، وانكساف البال بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد، بالرعد والبرق، وتصاممهم عمّا يقرع أسماعهم من الوعيد، بحال من يهوّله الرعد والبرق، فيخاف صواعقه، فيسد أذنه، ولا خلاص له منها، واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه، أو رفد يحرزونه، بمشيهم في مطرح ضوء البرق، كلما أضاء لهم،
وتحيرهم في أمرهم، حين عنّ لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم. فهذه حال المنافقين، قصارى عمرهم الحيرة والدهشة. فعلى العاقل أن يتمسّك بحبل الشرع القويم، والصراط المستقيم، كي يتخلّص من الغوائل والقيود، ومهالك الوجود، وغاية الأمر خفيّة لا يدري بم يختم.
الإعراب
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَمِنَ﴾ الواو استئنافية. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنَ﴾ اسم
﴿يَقُولُ﴾ فعل مضارع وفاعله مستتر، يعود على من، وجملة يقول صلة من الموصولة، لا محلّ لها من الإعراب، إن قلنا: ﴿مِنَ﴾ موصولة، تقديره: والذي يقول آمنا بالله كائن من الناس. أو في محل الرفع صفة لمن، إن قلنا: ﴿مِنَ﴾ نكرة موصوفة، تقديره: وفريق يقول آمنا بالله كائن من الناس. والعائد أو الرابط الضمير المستتر في ﴿يَقُولُ﴾. وردّه (١) أبو السعود فقال: أمّا جعل الظرف خبرا مقدما، كما هو الشائع في الاستعمال، فيأباه جزالة معنى القرآن؛ لأنّ كون القائل: آمنا بالله من الناس ظاهر معلوم، فالإخبار به عار عن الفائدة، والحقّ أن يقال في إعرابه: ﴿مِنَ﴾ اسم بمعنى: بعض في محل الرفع مبتدأ، مبني بسكون مقدر؛ لشبهها بالحرف شبها وضعيا، و ﴿مِنَ﴾ مضاف. ﴿النَّاسِ﴾ مضاف إليه مجرور بها. ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ من اسم موصول، أو موصوف في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكن المقصود بالإخبار الصلة لا الموصول، والمعنى: وبعض الناس يقول آمنا بالله وباليوم الآخر الخ. والجملة الإسمية على كلا التقديرين مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مقول محكيّ ليقول، لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، والمقول منصوب بالقول، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية. وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، وحدّ الفعل آمن، آمن فعل ماض مبني بفتحة ظاهرة على النون المدغمة في نون نا. ﴿نا﴾ ضمير لجماعة المتكلمين في محل الرفع فاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلّق بآمنا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ليقول. ﴿وَبِالْيَوْمِ﴾ جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله.
﴿الْآخِرِ﴾ صفة لليوم. ﴿وَما﴾ الواو حالية. ﴿ما﴾ نافية حجازية، تعمل عمل ليس.
﴿هُمْ﴾ ضمير منفصل لجماعة الغائبين في محل الرفع اسمها. ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ الباء حرف جرّ زائد للتوكيد؛ لأنّه ليس في القرآن حرف زائد خال عن الفائدة.
﴿مؤمنين﴾ خبر ما الحجازية، منصوب وعلامة نصبة الباء المقدرة، منع من
﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾.
﴿يُخادِعُونَ﴾ فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل. ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به، منصوب بالفتحة، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا؛ لوقوعها في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما الحامل لهم على إظهار الإيمان وإخفاء الكفر؟ فأجاب بقوله: لأنّهم يريدون مخادعة الله سبحانه والمؤمنين. أو بدل من صلة من في قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ بدل اشتمال؛ لأنّ قولهم ذلك مشتمل على الخداع؛ أي: ومن الناس من يقول آمنا بالله ويخادع الله والذين آمنوا. ﴿وَالَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب معطوف على الجلالة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول.
﴿وَما﴾ الواو حالية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿يَخْدَعُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من فاعل يخادعون؛ أي: يخادعون الله والمؤمنين حال كونهم غير مخادعين إلّا أنفسهم. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به، وهو مضاف، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. ﴿وَما﴾ الواو حالية، أو استئنافية، أو عاطفة. ما نافية. ﴿يَشْعُرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل يخدعون؛ أي: وما يخدعون إلّا أنفسهم حالة كونهم غير شاعرين بذلك، أو مستأنفة، أو معطوفة على جملة يخدعون، ومفعول ﴿يَشْعُرُونَ﴾ محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أنّ خداعهم راجع إلى أنفسهم، ويسمّى هذا الحذف حذف اختصار. وهو حذف الشيء لدليل.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ﴾ الفاء عاطفة. ﴿زادهم الله﴾ فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿مَرَضًا﴾ مفعول ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ عطف فعلية على اسمية. ويحتمل أن تكون الفاء استئنافية، وتكون جملة ﴿زادهم﴾ جملة دعائية لا
﴿عَذابٌ﴾ مبتدأ مؤخّر. ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة معطوفة على جملة قوله في قلوبهم مرض، أو مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: ما عاقبة خداعهم؟ فقال: عاقبتهم عذاب أليم. ﴿بِما﴾ الباء حرف جرّ وسبب. ﴿ما﴾ مصدرية. ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْذِبُونَ﴾ في محل النصب خبر كان؛ أي: بما كانوا كاذبين أو مكذبين، وجملة كان صلة (ما) المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالياء؛ أي: بسبب كذبهم أو تكذيبهم، الجار والمجرور متعلّق بالنسبة الكائنة بين المبتدأ والخبر في قوله: ولهم عذاب أليم، أو صفة ثانية لعذاب.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)﴾.
﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه متعلّق بالجواب الآتي. ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بقيل. ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ نائب فاعل محكي لقيل؛ لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، وإن شئت قلت: ﴿لا﴾ ناهية جازمة.
﴿تُفْسِدُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلّق بتفسدوا، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ولكنّها لا تؤول بمفرد؛ لأنّها محكية، وجملة قيل في محل الجرّ مضاف لإذا على كونها فعل شرط لها. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول الواقعة صلة لمن الموصولة. ﴿إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ مقول محكيّ لقالوا، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾ أداة حصر ونفي بمعنى (ما) النافية، وإلّا المثبتة. ﴿نَحْنُ﴾ ضمير لجماعة المتكلمين في محل الرفع مبتدأ. مُصْلِحُونَ خبر مرفوع بالواو، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لقالوا. ﴿أَلا﴾ حرف استفتاح وتنبيه.
﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل حرف لا محل له من الإعراب، أو
﴿وَلكِنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكِنْ﴾ حرف استدراك لا عمل لها. ﴿لا﴾ نافية.
﴿يَشْعُرُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة إنّ.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، متعلّق بالجواب الآتي. ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، مبني على الفتح. ﴿لَهُمْ﴾ متعلّق بقيل. ﴿آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ﴾ نائب فاعل محكي لقيل؛ لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وجملة قيل في محل الجرّ مضاف إليه لإذا على كونه فعل شرط لها. وإن شئت قلت: ﴿آمِنُوا﴾ فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ولكنّها لا تؤوّل؛ لأنّها محكية. ﴿كَما﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه.
﴿ما﴾ مصدرية. ﴿آمَنَ النَّاسُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لما المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: آمنوا إيمانا كائنا، كإيمان الناس في كونه قلبيّا لا لسانيّا. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسابقتها. ﴿أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ مفعول محكي لقالوا، منصوب بفتحة مقدرة. وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري.
نُؤْمِنُ فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، تقديره:
نحن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. ﴿كَما﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه. ﴿آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لما المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور متعلّق بمحذوف صفة لمصدر
﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾.
﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان.
﴿لَقُوا الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلّق بالجواب الآتي، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿قالُوا﴾ جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسوابقها. ﴿آمَنَّا﴾ مقول محكيّ لقالوا منصوب بفتحة مقدرة، وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قالوا. ﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان متعلّق بالجواب الآتي. ﴿خَلَوْا﴾ فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿إِلى شَياطِينِهِمْ﴾ متعلّق بخلوا. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، جواب إذا، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسوابقها.
﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ مقول محكيّ لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿مَعَكُمْ﴾ مع منصوب على الظرفية الاعتبارية بالفتحة الظاهرة.
﴿مع﴾ مضاف، والكاف ضمير المخاطبين في محل الجرّ مضاف إليه، مبني على الضمّ، والميم حرف دالّ على الجمع، والظرف متعلّق بمحذوف خبر إنا، تقديره: إنّا كائنون معكم، وجملة إنا في محلّ النصب مقول قالوا. ﴿إِنَّما﴾ كافّة ومكفوفة. ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ. ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ خبر المبتدأ مرفوع بالواو، والجملة في محل النصب مقول قالوا.
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ متعلّق بيمدهم. ﴿يَعْمَهُونَ﴾ فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير يمدهم، أو من ضمير طغيانهم، وجاءت الحال من المضاف إليه؛ لأنّ المضاف مصدر مضاف إلى فاعله.
﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾.
﴿أُولئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾ خبره، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿اشْتَرَوُا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿الضَّلالَةَ﴾ مفعول به. ﴿بِالْهُدى﴾ متعلّق باشتروا. ﴿فَما﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب. ﴿ما﴾ نافية.
﴿رَبِحَتْ﴾ فعل ماض، و (التاء) لتأنيث الفاعل. ﴿تِجارَتُهُمْ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة اشتروا. ﴿وَما﴾ الواو عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿مُهْتَدِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة ربحت. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه. ﴿كَمَثَلِ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مثلهم كائن كمثل الذي استوقد نارا، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿مثل﴾ مضاف. ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول في محل الجرّ مضاف إليه. ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول، واستعمل ﴿الَّذِي﴾ في موضع الذين، ولذلك قال فيما بعد: ﴿بِنُورِهِمْ﴾. ﴿نارًا﴾ مفعول به. ﴿فَلَمَّا﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب. ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿أَضاءَتْ﴾ فعل ماض، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على النار، والجملة فعل شرط للمّا لا محل لها من الإعراب. ﴿ما﴾ اسم موصول بمعنى المكان في محلّ النصب، مفعول به. ﴿حَوْلَهُ﴾ منصوب على الظرفية المكانية. ﴿حول﴾ مضاف، والهاء
﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول أول؛ لأنّ (ترك) هنا بمعنى صيّر. ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ جار ومجرور متعلّق بترك على كونه مفعولا ثانيا له، تقديره: وصيّرهم كائنين في ظلمات، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ذهب، ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُبْصِرُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من ضمير تركهم، أو من الضمير المستكن في الجار والمجرور؛ أعني: في ظلمات، ومفعول يبصرون محذوف، تقديره: ما حولهم، ويحتمل كون (ترك) بمعنى: خلّى وأهمل، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وهو الضمير البارز في تركهم وفي ظلمات لا يبصرون حالان من الضمير في تركهم.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)﴾.
﴿صُمٌّ﴾ خبر لمبتدأ محذوف جوازا، تقديره: هم صمّ، والجملة مستأنفة.
﴿بُكْمٌ﴾ خبر ثان. ﴿عُمْيٌ﴾ خبر ثالث، وهذه الأخبار وإن تباينت في اللفظ متحدة في المدلول والمعنى؛ لأنّ مآلها إلى عدم قبول الحقّ مع كونهم سمع الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين. فليس المراد نفي الحواسّ الظاهرة. وقرىء شاذّا بالنصب على الحال من الضمير في ﴿يبصرون﴾. ﴿فَهُمْ﴾ الفاء حرف عطف وتفريع. ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَرْجِعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محلّ الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: (هم صمّ بكم عمي).
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ أو حرف عطف وتفصيل؛ أي: إنّ الناظرين في حالهم منهم من يشبّههم بحال المستوقد، ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيب.
﴿كَصَيِّبٍ﴾ جار ومجرور معطوف على كمثل، ولا بدّ من تقدير مضاف؛ أي:
كأصحاب صيّب، بدليل قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ﴾ على كونه خبر المبتدأ، تقديره: أو مثلهم كائن كمثل أصحاب صيّب. ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ جار ومجرور متعلق
﴿يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿يَكادُ﴾ فعل مضارع من أفعال المقاربة تعمل عمل كان، وفيها لغتان: فعل وفعل، ولذلك يقال فيها عند اتصال ضمير الرفع بماضيه: كدت كبعت، وكدت كقلت. ﴿الْبَرْقُ﴾ اسمها مرفوع. ﴿يَخْطَفُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر فيه جوازا، تقديره: هو، يعود على البرق، وجملة يخطف في محل النصب خبر يكاد، وجملة يكاد مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: ما حالهم مع تلك الصواعق؟ فأجاب بقوله: يكاد البرق، أو معطوفة بعاطف مقدر على يجعلون. ﴿أَبْصارَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿كُلَّما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويّا، والظرف متعلق بالجواب، وهو ﴿مَشَوْا﴾ ﴿أَضاءَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على البرق. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بأضاء، والجملة الفعلية فعل شرط لكلما، لا محل لها من
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ الناس اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ومادّته عند سيبويه والفرّاء همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذا، وأصله: أناس، وقد نطق القرآن بهذا الأصل، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾. وذهب الكسائي إلى أنّ مادّته: نون وواو وسين، مشتق من النوس، وهو الحركة، يقال: ناس ينوس نوسا، والنّوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه: نوس القرط في الأذن، وسمي أبو نواس بذلك؛ لأنّ ذؤابتين له كانتا تنوسان عند أذنيه، واسمه
وقيل: أصله من نسي، فوقع فيه القلب المكاني بتقديم الياء على السين، فصار نيس بوزن فعل، تحركت الياء عندئذ وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فقيل: ناس، فدخلت الألف واللام للتعريف، فصار الناس. وعلى هذا سمّوا بذلك لنسيانهم، ووزن الفعل عليه فلع، وعلى القول الأول وزنه فعال، وعلى القول الثاني أجوف واويّ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، وقيل غير ذلك.
﴿مَنْ يَقُولُ﴾ أصله: يقول بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت الواو، فصارت حرف مدّ. ﴿آمَنَّا﴾ أصله: أأمنّا بوزن أفعلنا، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدّ مجانسا لحركة الأولى، وهكذا كلّ همزة ساكنة وقعت فاء للفعل ودخلت عليها همزة مفتوحة، وقوله ﴿الْآخِرِ﴾، الألف فيه مبدلة من همزة ساكنة.
﴿يُخادِعُونَ﴾ الخداع في الأصل: الإخفاء. ومنه سمّي البيت المفرد في المنزل مخدعا تستر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه: الأخدعان: وهما العرقان المستبطنان في العنق، وسمّي الدهر خادعا؛ لما يخفي من غوائله.
﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ الشعور؛ إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى، وهو مشتقّ من الشعر لدقّته، كما مرّ. وقيل: هو الإدراك بالحاسّة، فهو مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه، وشعر بالأمر من بابي: نصر وكرم: علم به وفطن له، ومنه يسمي الشاعر شاعرا؛ لفطنته ودقّة معرفته. والتحقيق: أنّ الشعور إدراك ما دقّ من حسي وعقلي.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ المرض مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، وقالوا المرض في القلب: الفتور عن الحقّ، وفي البدن فتور الأعضاء، وفي العين فتور النظر. ويطلق المرض فيراد به الظلمة، كقوله:
في ليلة مرضت من كلّ ناحية | فما يحسّ بها نجم ولا قمر |
ببذل وحلم ساد في قومه الفتى | وكونك إيّاه عليك يسير |
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مبني للمجهول واوي العين، أصله: قول استثقلت الكسرة على الواو، والانتقال من ضمّ إلى كسر، فحذفت حركة الفاء التي هي القاف، ونقلت إليها حركة العين التي هي الواو، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ، وهكذا كلّ فعل من هذا النوع معتل العين بني للمجهول. ﴿قالُوا﴾ أصله: قولوا، تحركت الواو وفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار: قالوا.
﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته،
﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من اللقاء، وهو المصادفة، يقال: لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه: ألقيته إذا طرحته، فإنّك بطرحه جعلته بحيث يلقى. اه. «بيضاوي». وأصل لقوا: لقيوا بوزن شربوا، استثقلت الضمة على الياء، ثمّ نقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركته، فالتقى ساكنان، وهما الياء وواو الجماعة، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثمّ ضمّت القاف؛ لمناسبة الواو، فصار لقوا بوزن فعوا بعد أن كان على وزن فعلوا.
﴿وَإِذا خَلَوْا﴾ أصله: خلووا بوزن نصروا، تحركت الواو الأولى التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا فالتقى ساكنان وهما الألف وواو الضمير، ثمّ حذفت الألف؛ لبقاء دالّها وهو فتحة اللام، فصار خلوا بوزن فعوا.
﴿إِلى شَياطِينِهِمْ﴾ جمع شيطان، نحو: غرانين في جمع غرنان، حكاه الفراء.
والشيطان فيعال عند البصريّين، فنونه أصلية من شطن؛ إذا بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أميّة:
أيّما شاطن عصاه عكاه | ثمّ يلقى في السّجن، والأكبال |
قد تظفر العير في مكنون قائلة | وقد تشيط على أرماحنا البطل |
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها | وشيطانة قد جنّ منها جنونها |
اه. «أبو السعود».
﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ من مدّ الجيش من باب ردّ، وأمده إذا زاده وقواه، ومنه: مددت السراج والأرض؛ إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، أصله: يمددهم نقلت حركة الدال الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية.
﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ الطّغيان: مصدر طغى يطغى طغيانا بضم الطاء، وطغيانا بكسرها ولام طغى. قيل: ياء وقيل: واو. يقال: طغيت وطغوت، وأصل المادّة مجاوزة الحدّ، ومنه: قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ﴾.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ من العمه، وهو التردّد والتحيّر، وهو قريب من العمى، إلّا أنّ بينهما عموما وخصوصا مطلقا؛ لأنّ العمى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلّا على الخطأ في الرأي، يقال عمه يعمه من باب طرب عمها وعمهانا، فهو عمه وعامه اه. «سمين».
﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾ الاشتراء، والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلّا أنّ الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو ممّا جاء فيه افتعل بمعنى: الفعل المجرّد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل، وأصل اشترى اشتري بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، ثمّ أسند الفعل إلى واو الجماعة فالتقى ساكنان: الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالّة عليها، ثمّ تحركت الواو لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها؛ لأنّ همزة الوصل ساقطة في الدرج، وخصّت بالضمة؛ لأنّها أخت الواو، وأخفّ
﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ الربح: ما يحصل من الزيادة على رأس المال.
والتجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرّف في المال لطلب النّمو والزيادة.
﴿وَما كانُوا﴾ أصله: كونوا؛ لأنّه أجوف واويّ تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. ﴿مُهْتَدِينَ﴾ وزنه مفتعين، أصله: مهتديين بياءين: الأولى لام الكلمة، والثانية ياء إعراب الجمع، استثقلت الحركة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء الأولى لام الكلمة. وهو جمع مهتد، وهو اسم فاعل من اهتدى الخماسي، وافتعل فيه للمطاوعة، يقال: هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم، والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، ولا يكون افتعل للمطاوعة، إلّا إذا كان من الفعل المتعدّي.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ المثل في أصل كلام العرب بمعنى: المثل، والمثيل، كالشّبه والشّبه والشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل، والمثل على أمثال، قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل؛ الوصف. يقال: هذا مثل كذا؛ أي: وصفه مساو لوصف الآخر بوجه من الوجوه. وأما المثل في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ فهو القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه، ولذلك حوفظ على لفظه فلم يغيّر، فيقال لكلّ من فرّط في كل أمر عسر مدركه: (الصيف ضيّعت اللبن) سواء كان المخاطب به مفردا، أو مثنى، أو مجموعا، أو مذكرا، أو مؤنّثا. ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ والاستيقاد بمعنى: الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار: ارتفاع لهبها. وَ ﴿النَّارُ﴾: جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، والنار مؤنثة، وهي واويّة العين؛ لأنّ تصغيرها نوير، والجمع نور ونيران، وأصل الثاني نوران، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة، وعليه فوزنها فعل بفتح العين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، وقس على هذا ما ورد من هذا اللفظ.
﴿فَلَمَّا أَضاءَتْ﴾ من الإضاءة، وهو الإشراق، وهو فرط الإنارة، أصله: أضوأ بوزن أفعل من الضوء، نقلت حركة حرف العلة (الواو) إلى الساكن الصحيح قبله (الضاد)، فتحركت الضاد بالفتح، ثم أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها في
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ جموع كثرة على وزن فعل، كأحمر وحمر. والصّمّ جمع أصمّ، وهو الذي لا يسمع، يقال: صمّ يصمّ بفتح الصاد فيهما؛ إذا ثقل السمع منه. قيل: أصله السدّ، تقول: صممت القارورة؛ إذا سددتها، والصمم: داء يحصل في الأذن يسد العروق، فيمنع من السمع، وقيل: أصله الصّلابة، قالوا: قناة صمّاء، والأصمّ أصله: أصمم نقلت حركة الميم الأولى إلى الصاد، فسكنت، فأدغمت في الميم الثانية، فوزنه أفعل. ﴿بُكْمٌ﴾ جمع أبكم، والبكم: آفة في اللسان تمنع من الكلام. قاله أبو حاتم، وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام، ولا يهتدي إلى الصواب، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. ﴿عُمْيٌ﴾ جمع أعمى، والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والفعل منها على وزن فعل بكسر العين، واسم الفاعل على أفعل، وهو قياس الآفات والعاهات. فوزن الكلمات الثلاث بعد الجمع فعل بضمّ الفاء وسكون العين، ووزن مفردها أفعل، ويجمع أفعل قياسا على فعل بضمّ الفاء، فالأوصاف الثلاثة صفات مشبهة، جاءت على هذا الوزن، قال ابن مالك في «الخلاصة»: فعل لنحو أحمر وحمراء.
﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ والرجوع إن لم يتعدّ فهو بمعنى العود، وإن تعدّى فبمعنى الإعادة. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ فيه إعلال بالقلب والإدغام. أصله: صيوب من الصّوب، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار صيّب، كما فعل في ميّت وسيّد. قال ابن مالك في باب التصريف:
إن يسكن السّابق من واو ويا | واتّصلا ومن عروض عريا |
فياء الواو اقلبنّ مدغما | وشذّ معطى غير ما قد رسما |
فلو رفع السّماء إليه قوما | لحقنا بالسّماء مع السّحاب |
﴿مُحِيطٌ﴾ وزنه: مفعل اسم فاعل من أحاط الرباعيّ، فأصله: محوط واويّ العين، إذ يقال: حاطه يحوطه حوطا وحوّط تحويطا، فالمصدر ظهرت فيه الواو، ولمّا كان أصله محرط، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ.
﴿يَكادُ الْبَرْقُ﴾ أصله: يكود بفتح العين بوزن يفعل؛ لأنّ الصحيح أنّه من باب فعل مكسور العين، نقلت حركة حرف العلّة إلى الساكن الصحيح قبله، ثمّ أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ أصله: مشيوا بوزن ضربوا، قلبت الياء ألفا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان: الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف. ﴿وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾ أصل قام قوم، بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، ثمّ أسند الفعل إلى واو الجماعة، فضمّ آخره. ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ أصله: شيء بوزن فعل بكسر العين، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، دلّ على ذلك كون مضارعه يشاء، وسيأتي بيان تصريف مضارعه إن شاء الله تعالى في محلّه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة، والبيان، والبديع:
فمنها: الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، حيث لم يقل: وما آمنوا المطابق لقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ لإفادة انتفاء الإيمان عنهم في جميع الأزمنة؛ لإفادتها الدوام والاستمرار؛ أي: لم يتصفوا
«أبو السعود».
ومنها: إعادة الجار في قوله: ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ لإفادة تأكّد دعواهم الإيمان، بكلّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليهم المولى بأبلغ ردّ بقوله: ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، حيث أتى بالجملة الإسمية وزاد الجار في الخبر.
ومنها: المشاركة في قوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾؛ لأنّ المفاعلة تقتضي المشاركة في المعنى، وقد أطلق عليه تعالى مقابلا؛ لما ذكره من خداع المنافقين، كمقابلة المكر بمكرهم، ومن أمثلة هذا الفنّ في الشعر قول بعضهم:
قالوا التمس شيئا نجد لك طبخه | قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا |
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، حيث استعير المرض لما ران على قلوبهم، من جهل وسوء عقيدة؛ لأنّ المرض حقيقة في الأجسام.
ومنها: زيادة كان في قوله: ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾؛ لتأكيد الكلام؛ ولإفادة دوام كذبهم وتجدّده.
ومنها: جمع المؤكدات في هذه الجملة؛ لتأكيد الردّ عليهم، حيث أكد بألا، وبأنّ، وبضمير الفصل، وتعريف الخبر مبالغة في الردّ عليهم، لما ادّعوه من قولهم: ﴿إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾؛ لأنّهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكّدة بإنما، ليدلّوا بذلك على ثبوت الوصف لهم، فردّ الله عليهم بأبلغ وأوكد مما ادعوه. اه. «سمين». وكذا جملة قوله: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ﴾.
ومنها: المفارقة بين الجمل في قوله: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا﴾ وقوله: ﴿وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾. فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وهي جملة ﴿آمَنَّا﴾، وخاطبوا شياطينهم بالجملة الإسمية، وهي جملة ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾؛ وذلك لأنّ الجملة الإسميّة أثبت من الجملة الفعلية، فإيمانهم قصير المدى لا يعدو تحريك اللسان، أو مدة التقائهم بالمؤمنين وركونهم إلى شياطينهم، دائم الاستمرار والتجدّد، وهو أعلق بنفوسهم وأكثر ارتباطا بما رسخ فيها.
ومنها: المخالفة بين جملة مستهزؤن، وجملة يستهزىء؛ لأنّ هزء الله بهم متجدد وقتا بعد وقت، وحالا بعد حال، يوقعهم في متاهات الحيرة والإرتباك، زيادة في التنكيل بهم.
ومنها: الفصل الواجب في قوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ لأنّ في عطفها على شيء من الجمل السابقة مانعا قويّا؛ لأنّها تدخل حينئذ في حيّز مقول المنافقين، والحال: أنّ استهزاء الله بهم وخذلانه إيّاهم ثابتان مستمرّان، سواء خلوا إلى شياطينهم أم لا. فالجملة مستأنفة على كلّ حال، واجبة الفصل عمّا قبلها؛ لأنّها مظنة سؤال ينشأ، فيقال: ما مصير أمرهم؟ ما عقبى حالهم؟. فيستأنف جوابا عن هذا السؤال.
ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ، وسوء الحال.
ومنها: الاستعارة التصريحية الترشيحية في قوله: ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾، حيث استعار الشراء الذي هو بذل الثمن؛ لتحصيل ما يطلب لاختيارهم الضلالة بدل الهدى، ورشّح تلك الاستعارة وقوّاها، بذكر الريح والتجارة، لأنّ الترشيح ذكر ما يلائم المستعار منه الذي هو الشراء هنا.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ حيث أسند الربح إلى التجارة؛ لكونها سببه، وحقّ الإسناد أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾، وهو أن يأتي المتكلم في آخر كلامه بكلمة أو جملة، تتمّ معنى الكلام السابق، فقوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ تتميم لما قبله؛ لأنّه أفاد أنّهم ضالّون مخطئون في جميع ما فعلوه من عمل الشراء، وغيره.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ نارًا الخ، وكذلك في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾. والتشبيه التمثيلي: هو أن يكون وجه
ومنها: المخالفة بين الضميرين، فقد وحّد الضمير في قوله: ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ وفي قوله: ﴿ما حَوْلَهُ﴾ نظرا إلى جانب اللفظ؛ لأنّ المنافقين كلّهم على قول واحد وفعل واحد، وجمع في قوله: ﴿بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ رعاية للمعنى لكون المقام مقام تقبيح أحوالهم، وبيان صفاتهم وضلالهم، فإثبات الحكم لكلّ فرد منهم واقع.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ فقد شبّههم بالصمّ، والبكم، والعمي، وطوى ذكر المشبّه، وجعله بعضهم من التشبيه البليغ؛ أي: هم كالصمّ البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس، فحذف أداة التشبيه ووجه الشبه، فصار تشبيها بليغا، وهو في كلامهم كثير، كقوله:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به | وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا |
ومنها: جمع الأصابع إشارة إلى أنّه لم يرد أصبعا معيّنة؛ لأنّ الحالة حالة دهش وحيرة، فأيّة أصبع اتّفق لهم أن يسدّوا بها آذانهم، فعلوا غير معرّجين على ترتيب معتاد، أو تعيين مفترض.
ومنها: إفراد البرق والرعد، وجمع الصواعق، لكونهما في الأصل مصدرين، والمصادر لا تجمع. يقال: رعدت السماء رعدا وبرقت برقا، فراعى فيهما حكم الأصل، فترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع، ولا يخفى أنّ من
ومنها: تعريف السماء في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾؛ للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها سماء على حدة، والمعنى: أنّه نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء كلها.
ومنها: التعبير بالأصابع دون الأنامل في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ﴾ إشارة إلى أنّهم لشدّة حيرتهم ودهشتهم، يدخلون أصابعهم كلّها في إذانهم لا أناملهم فقط، كما هو المعتاد.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ حيث لم يقل: والله محيط بهم بالضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب، إيذانا. بأنّ ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكيّة بسبب كفرهم.
ومنها: إيثار المشي في قوله: ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾ على ما فوقه من السّعي والعدو؛ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم وحيرتهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
فائدة: والحاصل: أنّ الله وصف المنافقين في هذه الآيات، بثمان صفات كلّها قبيحة شنيعة تدلّ على رسوخهم في الضلال، وهي: الكذب، والخداع، والسفه، والاستهزاء، والإفساد في الأرض، والجهل والضلال، والمرض.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (١)، لما ذكر أصناف الخلق، وبيّن أنّ منهم المهتدين والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك.. دعا الناس إلى دين التوحيد الحقّ، وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنّهم ينظرون إليه، ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنّه يراهم، فإن
ثمّ عدّد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثمّ خلق الأرض مستقرّا ومهادا؛ لينتفعوا بخيراتها، ويستخرجوا معادنها ونباتها. ثمّ بنى لهم السماء التي زيّنها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء، فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها، أفليس في كلّ هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدي الفكر إلى أنّ خالق هذا الكون البديع المثال، لا ندّ له ولا نظير، وأنّ ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شيء مما خلق، وأنّهم يعلمون ذلك حقّ العلم، فكيف يدعون غير الله من الأصنام والأحجار، ويستشفعون به، ويتوسّلون إليه مع أنّه لا خالق ولا رازق إلّا الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر (١) أنّ الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون معرضون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك.. طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي أنّ القرآن معجزته، أن يتعرّفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعي هو أو من عند نفسه كما يدّعون، فيروّزوا أنفسهم، ويحاكموه، لعلّهم يأتون بمثل سورة من أقصر سورة، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم، فهو لم يمرّن عليه، ولم يبار أهله، ولم ينافسهم فيه.
فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون، وإن تظاهر أنصارهم وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجنّ جميعا، فليعلموا أنّ ما جاءهم به، فأعجزهم لم يكن إلّا بوحي سماوي وإمداد إلهيّ، لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا
قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر الكافرين، وما أعدّ لهم من العقاب. قفّى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعدّ لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة، وقد جرت سنّة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب؛ تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله؛ وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه (١)، لما ذكر الدليل القاطع على أنّ القرآن كلام الله، لا يتطرّق إليه شكّ ولا ريب، وأنّه كتاب معجز، أنزله على خاتم المرسلين، وتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله. ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه، وهي: أنّه جاء في القرآن ذكر النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل، وهذه الأمور لا
يليق ذكرها بكلام الفصحاء، فضلا من كلام ربّ الأرباب. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردّ عليهم: بأنّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإعجازه، إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي...﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما (٢) ذكر أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل، ووصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر
(٢) المراغي.
وجاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالّة على قدرته تعالى، من مبدأ الخلق إلى منتهاه من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذّرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق ما في الأرض جميعا لهم؛ ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتّى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزيّنة بمصابيح؛ ليهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر.
أفبعد هذا كله يكفرون به، وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال؛ ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: (١) ما أخرجه ابن جرير عن السدي بأسانيده، لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، وهما قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾، قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ إلى قوله: ﴿الْخاسِرُونَ﴾. وما أخرجه الواحدي من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفيّ، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إنّ الله ذكر آلهة المشركين، فقال: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا﴾، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمدّ، أيّ شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية). وعبد الغني واه جدّا، وقال عبد الرزاق في «تفسيره»: أخبرنا معمر، عن قتادة: لمّا ذكر الله العنكبوت
التفسير وأوجه القراءة
٢١ - ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ أي: يا أيّها المكلّفون من الإنس والجنّ ﴿اعْبُدُوا﴾؛ أي: وحّدوا، وأفردوا بالعبادة، والطاعة، والاستغاثة، والدعاء ﴿رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: خالقكم الذي ابتدع خلقكم على غير مثال سابق؛ لأنّه الذي يستحقّ العبادة منكم دون غيره من الأصنام، والأحجار، لأنّ تعليق الحكم بمشتقّ يؤذن بعليّة ما منه الاشتقاق، فكأنّه قال: اعبدوه لخلقه إيّاكم، فإنّه هو الذي يعبد دون غيره.
وهذه الآية (١) مسوقة لإثبات التوحيد، وتحقيق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم - اللذين هما أصل الإيمان. والناس يصلح اسما للمؤمنين، والكافرين، والمنافقين. والنداء فائدته؛ تنبيه الغافلين، أو إحضار الغائبين، وتحريك الساكنين؛ وتعريف الجاهلين، وتفريغ المشغولين، وتوجيه المعرضين، وتهييج المحبّين، وتشويق المريدين.
قال بعضهم: أقبل عليهم بالخطاب جبرا؛ لما في العبادة من الكلفة بلذّة الخطاب؛ أي: يا مؤنس لا تنس أنسك بي قبل الولادة، أو يا ابن النسيان تنبّه، ولا تنس حيث كنت نسيا منسيا، ولم تك شيئا مذكورا، فخلقتك وخمرتك طينا،
قال ابن عباس - رضي الله عنهما (١) -: يا أيّها الناس: خطاب لأهل مكة، ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب لأهل المدينة. وهو هنا خطاب عامّ لسائر المكلّفين؛ لأنّ ذلك أمر أغلبي على أنّ السورة مدنية.
واعلم (٢): أنّ النداء الواقع في القرآن على سبعة مراتب:
الأول: نداء مدح، كقوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾.
والثاني: نداء ذمّ، كقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا﴾، ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
والثالث: نداء تنبيه، كقوله: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ﴾، ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
والرابع: نداء إضافة، كقوله: ﴿يا عِبادِيَ﴾.
والخامس: نداء نسبة، كقوله: ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾، ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾.
والسادس: نداء تسمية، كقوله: ﴿يا داوُدُ﴾، ﴿يا إِبْراهِيمُ﴾.
والسابع: نداء تعنيف، كقوله: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ﴾.
(٢) الخازن.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ أي: اعبدوه وحده؛ لتجعلوا عبادته وقاية وسترا بينكم وبين عذابه، هذا إن جرينا على أنّ (لعلّ) للتعليل. ويحتمل كونها على أصل معناها من الترجيّ، فتكون جملتها حالا من فاعل ﴿اعْبُدُوا﴾؛ أي: أفردوه بالعبادة حالة كونكم راجين أن تدخلوا، وتنظّموا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح، المستوجبين لجوار الله تعالى. و (لعلّ) للترجّي والإطماع، وهي من الله تعالى واجب؛ لأنّ الكريم لا يطمع إلّا فيما يفعل. والأولون والآخرون مخاطبون بالأمر بالتقوى. وخصّ المخاطبين بالذكر؛ تغليبا لهم على الغائبين، كما في «الكواشي».
وقرأ ابن السميفع (٢) ﴿وخلق من قبلكم﴾ جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ بفتح ميم (من) قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة، ووجهها على إشكالها بأن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته؛ تأكيدا، كما أقحم جرير في قوله:
(٢) البحر المحيط.
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في (لا أبالك). انتهى كلامه. ذكره في «البحر».
وفيه تنبيه: على أنّ التقوى منتهى درجة السالكين، وهو التبرّي من كلّ شيء سوى الله تعالى، وأنّ العابد ينبغي له أن لا يغترّ بعبادته، ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾.
وحاصل المعنى: أي أنّ هذا الربّ العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها، هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، وربّاكم وربّى أسلافكم، ودبّر شؤونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (٢١)؛ أي: فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإنّ العبادة على هذا السنن هي التي تعدّكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى.
٢٢ - ثمّ ذكر بعض خصائص الربوبيّة التي تقتضي الاختصاص به تعالى، فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وصيّر ﴿لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا﴾ صفة ثانية لربّكم؛ أي: بساطا تقعدون، وتنامون عليها، وتتقلّبون فيها، كالفراش المبسوط.
وقدم (١) ذكر الأرض على السماء وإن كانت أعظم في القدرة، وأمكن في الحكمة، وأتمّ في النعمة، وأكبر في المقدار؛ لأنّ السقف والبنيان فيما يعهد، لا بدّ له من أساس وعمد مستقرّ على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس، وتستقرّ القواعد، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولا قبل ذكر الأرض التي تستقرّ عليها قواعده؛ أو لأنّ خلق الأرض متقدم على خلق السماء، ذكره في «البحر».
قال أهل اللغة: الأرض: بساط العالم وبسيطها، من حيث إنّه يحيط بها
وسمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة المشرفة، وأمّا وسط الأرض كلّها عامرها وخرابها، فهو الموضع الذي يسمّى قبّة الأرض، وهو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحرّ والبرد، ويستوي الليل والنهار أبدا، لا يزيد أحدهما على الآخر، كما في «الملكوت».
وروي عن عليّ - كرم الله وجهه -: أنّه قال: (إنّما سميت الأرض أرضا؛ لأنّها تتأرّض ما في بطنها)؛ يعني: تأكل ما فيها. وقال بعضهم: لأنّها تتأرّض بالحوافر والأقدام.
ومعنى جعلها ﴿فَرْشًا﴾ جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب، وجعلها متوسّطة بين الصلابة واللين، صالحة للقعود عليها والنوم فيها، كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا، وهو الذي له طول وعرض، فإنّ كرويّة شكلها مع عظم جرمها مصّححة لافتراشها.
وعبارة النسفي هنا: وليس فيه دليل على أنّ الأرض مسطّحة أو كروية، إذ الافتراش ممكن على كلا التقديرين.
﴿وَ﴾ جعل ﴿السَّماءَ﴾ وهو ما علاك وأظلّك؛ لأنّه من السموّ بمعنى: العلوّ. ﴿بِناءً﴾ أي: سقفا مبنيا فوق الأرض مرفوعا فوقها، كهيئة القبّة؛ أي: جعلها قبّة مضروبة عليكم. وكلّ سماء مطبقة على الأخرى، مثل: القبّة، والسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض، كما في «تفسير أبي الليث».
قيل (١): إذا تأمّل الإنسان المتفكّر في العالم، وجده كالبيت المعمور فيه كلّ
فيا عجبا كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له آية... تدلّ على أنّه الواحد
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿ماءً﴾؛ أي: مطرا عذبا فراتا، أو أنزل من السماء مطرا ينحدر منها على السحاب، ومنه على الأرض. وفيه ردّ لزعم من قال: إنّه يأخذه من البحر. ﴿فَأَخْرَجَ﴾ سبحانه وتعالى بفضله وقدرته، وأنبت ﴿بِهِ﴾؛ أي: بسبب ذلك الماء الذي أنزل من السماء ﴿مِنَ﴾ أنواع ﴿الثَّمَراتِ﴾ والفواكه والنباتات، فالمراد بالثمرات ههنا: المأكولات كلّها من الحبوب والفواكه، وغيرها مما يخرج من الأرض والشجر، كما في «التيسير».
﴿رِزْقًا﴾ وغذاء وقوتا ﴿لَكُمُ﴾ وعلفا لدوابّكم.
وذلك (١) أنّه أودع في الماء قوة فاعليّة، وفي الأرض قوة منفعلة، فتولّد من تفاعلهما أصناف الثمار، فبين المظلّة والمقلّة شبه عقد النكاح، بإنزال الماء منها عليها، والإخراج به من بطنها، أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبني آدم، ولسائر الأنعام والدوابّ. و ﴿مِنَ﴾ للبيان، و ﴿رِزْقًا﴾؛ أي: طعاما وعلفا لكم ولدوابّكم، كما مرّ آنفا، ففيه تقديم البيان على المبيّن؛ لغرض الاهتمام.
والمعنى (٢): أنّ الله تعالى أنعم عليكم بذلك كلّه، لتعرفوه بالخالقيّة والرازقيّة، فتوحّدوه.
(٢) روح البيان.
والحال أنكم تعلمون أنّها لا تخلق شيئا، ولا ترزق أحدا، وأنّ الله هو الخالق الرازق. أو تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد. والأنداد: جمع ندّ، وهو المثل؛ أي: لا تجعلوا له أمثالا تعبدونهم كعبادة الله؛ يعني: لا تقولوا له شركاء تعبد معه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (لا تقولوا لولا فلان لأصابني كذا، ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا)، وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إيّاكم ولو فإنّه من كلام المنافقين» قالوا: ﴿لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا﴾.
وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل الله ندّا وهو خلقك» الحديث، وكذا حديث معاذ «أتدري ما حقّ الله على عباده؟ حقّ الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» الحديث.
قال البيضاويّ: واعلم أنّ مضمون الآيتين: هو الأمر بعبادة الله وتوحيده، والنهي عن الإشراك به، والإشارة إلى ما هو العلّة والمقتضي لذلك. انتهى.
وفي «المراغي»: الأنداد (١): هم الذين خضع الناس لهم، وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركوا العرب يسمّون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله تعالى، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا، كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمّون ذلك الاتخاذ عبادة، ولا أولئك المعظّمين آلهة وأندادا، بل يسمّون دعاءهم غير
الله، والتقرب إليه توسّلا واستشفاعا، ويسمّون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل
وقرأ زيد بن عليّ، ومحمد بن السميفع (١): ﴿ندا﴾ على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به: العموم، إذ ليس المعنى: فلا تجعلوا لله ندّا واحدا، بل أندادا.
٢٣ - ولمّا احتجّ سبحانه وتعالى، عليهم في إثبات توحيد الألوهية والربوبيّة بما تقدم، احتجّ عليهم في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بما قطع عذرهم، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ أيّها الناس ﴿فِي رَيْبٍ﴾ وشكّ ﴿مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ أي: في كون القرآن المعجز الذي نزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وحيا منزّلا من عند الله تعالى، أو مفترى من عند نفسه. والتنزيل (٢): هو النزول على سبيل التدريج، وأنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا إلى بيت العزّة، ثمّ منه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مفرّقا منجما في ثلاث وعشرين سنة؛ ليحفظ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أمّيّا لا يقرأ ولا يكتب، ففرّق عليه؛ ليثبت عنده حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظ الجميع من الكتاب، ولذا قالوا: إنّ سائر الكتب الإلهية أنزلت جملة.
وفي إضافة العبد إليه تعالى: تنبيه على عظم قدره صلّى الله عليه وسلّم واختصاصه بخالص العبودية ورفع محلّه. وإضافته إلى نفسه تعالى واسم العبد عامّ وخاصّ، وما هنا من الخاص، كقوله:
لا تدعني إلّا بيا عبدها... لأنّه أشرف أسمائي
(٢) روح البيان.
وقوله: ﴿فَأْتُوا﴾ جواب الشرط، وهو أمر تعجيز ﴿بِسُورَةٍ﴾ واحدة كائنة ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾؛ أي: من مثل هذا القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في البلاغة، والفصاحة، والبيان الغريب، وعلوّ الطبقة في حسن النظم، والتركيب، والإخبار عن المغيّبات؛ أي: فهاتوا وجيئوا بسورة واحدة مماثلة له فيما ذكر، فأنتم بشر فصحاء مثله، هذا إن جرينا على أنّ الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ عائد على ما نزلنا، وهو المتبادر.
والمعنى: أي (١) ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو، إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر، إذ أنتم وهو سواء في الجوهر، والخلقة، واللسان، وليس هو أولى بالاختلاق منكم. ثمّ القرآن وإن كان لا مثل له؛ لأنّه صفة الله وكلامه ووحيه، ولا مثل لصفاته، كما لا مثل لذاته، لكن معناه من مثله على زعمكم، فقد كانوا يقولون: لو شئنا لقلنا مثل هذا، كما في «التيسير».
ويحتمل (٢) عود الضمير على ﴿عَبْدِنا﴾، والمعنى حينئذ: فهاتوا بسورة واحدة واقعة من بشر مماثل لعبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في كونه عربيّا فصيحا. وحدّ السورة: هي قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر، مترجم عنها باسم خاصّ، أقلّها ثلاث آيات. وإنّما سميت سورة؛ لكونها أقوى من الآية من سورة الأسد والشراب؛ أي: قوته. والآية قطعة من السورة مميزا بفصل يسمّى الفاصلة، هذا إن كان واوها أصلية، وإن كانت منقلبة عن همزة، فهي مأخوذة من السؤر الذي هو البقية من الشيء، فالسورة قطعة من القرآن مفرزة باقية من غيرها.
قال القاضي زكريا: إن قلت: لم ذكرت ﴿مِنْ﴾ هنا، وحذفت في سورتي: يونس وهود؟
قلت: لأنّ ﴿مِنْ﴾ هنا للتبعيض، أو للتبيين، أو زائدة على قول الأخفش:
(٢) العمدة.
وقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ﴾ معطوف على جواب الشرط، جمع شهيد بمعنى: الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إما متعلّقة بادعوا، فالمعنى: ادعوا متجاوزين الله من حضركم كائنا من كان، للاستظهار في معارضة القرآن، أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم من الملمّات، وتعوّلون عليهم في المهمّات. أو القائمين بشهادتكم الجارية فيما بينكم من أمثالكم المتولّين، لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة. أو القائمين بنصركم حقيقة أو زعما من الإنس والجنّ، ليعينوكم. وقال القاضي: معنى ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: من غيره، وهو بهذا المعنى في جميع ما جاء في القرآن.
وإما متعلّقة بشهداءكم، والمراد بهم: الأصنام. و ﴿دُونِ﴾ بمعنى: التجاوز على أنّها ظرف مستقرّ وقع حالا من ضمير المخاطبين، والعامل ما دلّ عليه ﴿شُهَداءَكُمْ﴾؛ أي: ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة، وزعمتم أنّهم يشهدون لكم يوم القيامة أنّكم على الحقّ، متجاوزين الله في اتخاذها كذلك.
والمعنى عليه: وادعوا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ليساعدوكم في معارضة هذا القرآن والإتيان بمثله. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في مقالتكم: إنّ محمّدا افتراه من عند نفسه، فإنّكم عربيون فصحاء مثله. وسميّت الآلهة شهداء؛ لزعمهم
الخلاف المذكور في علم المعاني.
ودلّت الآية: على أنّ الاستعانة بالخلق لا تغني شيئا، وما يغني رجوع العاجز عن العاجز، فلا ترفع حوائجك إلّا إلى من لا يشّق عليه قضاؤها، ولا تسأل إلّا من لا تفنى خزائنه، ولا تعتمد إلّا على من لا يعجز عن شيء ينصرك من غير معين، ويحفظك من كلّ جانب ومن غير صاحب، ويغنيك من غير مال، فيقلّ أعداد الأعداء الكثيرة إذا حماك، ويكثر عدد المال القليل إذا كفاك.
وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في أنّ محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، وفي أنّ فيه مجالا للريب، وأنّ آلهتكم شهداؤكم. شرط جوابه محذوف، تقديره: فافعلوا؛ أي: فأتوا بسورة من مثله.
وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة، أوّلها: ما في سورة الإسراء ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ الآية، ثمّ ما في سورة هود ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾، ثمّ ما في سورة يونس ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾، وما جاء في هذه السورة المدنية.
فائدة: وأصل (١) معنى ﴿دُونِ﴾: أدنى مكان من الشيء، واتسع فيه حتى استعمل في تخطّي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وله معان أخر:
منها: التقصير عن الغاية والحقارة. يقال: هذا الشيء دون؛ أي: حقير، ومنه قوله:
إذا ما علا المرء رام العلا | ويقنع بالدّون من كان دونا |
دونك زيدا؛ أي: خذه من أدنى مكان.
٢٤ - ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود، يعني: فيما مضى وغبر، وحضر من الزمان، والجملة فعل شرط لإن.
وقوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾. فيما يستقبل أبدا؛ وذلك لظهور إعجاز القرآن. اعتراض بين الشرط وجوابه، وهذه الجملة المعترضة معجزة باهرة، أخبر بها القرآن قبل وقوعها، حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وتعالى، وقد وقع القرآن كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء بداية في الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف، فلم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيّام النبوة وفيما بعدها إلى الآن. وقوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقيام بفرائضه، واجتناب مناهيه. جواب الشرط.
والمعنى: أي (١) فإن لم تأتوا الآن بسورة من مثل المنزل على محمدّ صلّى الله عليه وسلّم لعجزكم عنها، ولن تقدروا على أن تأتوا بمثله في المستقبل لتحقّق عجزكم الآن ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أي: فاجعلوا لأنفسكم وقاية وسترا من النار المذكورة، بتصديق هذا القرآن، ومن جاء به. وعبّر عن الإتيان بالفعل؛ لأنّ الإتيان فعل من الأفعال، ولقصد الاختصار.
والخلاصة: أي (٢) وحين عجزتم عن معارضة القرآن، وعن الإتيان بمثله، لزمتكم الحجة على أنّ محمدا رسولي، والقرآن كتابي، ولزمكم تصديقه والإيمان به، وإن لم تؤمنوا صرتم من أهل النار، فاتقوها.
وفي «الكشاف»: لصيق اتقاء النار، وضميمة ترك العناد من حيث إنّه من نتائجه؛ لأنّ من اتّقى النار ترك المعاندة، فوضع ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ موضع فاتركوا العناد. اه.
(٢) روح البيان.
قلت: لأنّ الخطاب في هذه السورة مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذين يعذّبون من عصاتهم بالنار يكونون في جزء من أعلاها. فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت في مكة قبل هذه، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة، فنكّرها ثمّ، وهذه نزلت بالمدينة، فعرفت إشارة إلى ما عرفوه أوّلا. وردّ هذا: بأنّ آية التحريم نزلت بالمدينة بعد هذه الآية التي هنا.
﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ وحطبها الذي توقد به ﴿النَّاسُ﴾؛ أي: العصاة من الكفار وغيرهم. وقدم الناس على الحجارة؛ لأنّهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذّبون؛ أو لكونهم أكثر إيقاد للنار من الجماد، لما فيهم من الجلود، واللحوم، والشحوم، والعظام، والشعور؛ أو لأنّ ذلك أعظم في التخويف، فإنّك إذا رأيت إنسانا يحرق، اقشعرّ بدنك وطاش لبّك، بخلاف الحجر. ﴿وَالْحِجارَةُ﴾ أي: (١) حجارة الكبريت، وإنما جعل حطبها منها؛ لسرعة اتقادها؛ أي التهابها، وبطىء خمودها، وشدة حرها، وقبح رائحتها، ولصوقها بالبدن. أو الحجارة هي الأصنام التي عبدوها، وإنما جعل التعذيب بها؛ ليتحققوا أنهم عذبوا بعبادتها؛ وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزّها وعظمتها، قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، والكافر عبد الصنم، واعتمده، ورجاه، فعذّب به، إظهارا لجهله وقطعا لأمله، كأتباع الكبراء خدموهم، ورجوهم، وفي النار يسحبون معهم؛ ليكون أشق عليهم وأقطع لرجائهم.
فإن قلت: أنار الجحيم كلّها توقد بالناس والحجارة، أم هي نيران شتّى منها نار بهذه الصفة؟
قلت: بل هي نار شتّى منها: نار توقد بالناس والحجارة، يدلّ على ذلك
وفي هذا من (١) التهويل ما لا يقادر قدره، من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها. ﴿أُعِدَّتْ﴾ أي: هيّئت ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ أي: للذين كفروا بما نزلناه على رسلنا، وجعلت عدّة لعذابهم. وفيه دلالة على أنّ النار مخلوقة موجودة الآن خلافا للمعتزلة، وفيه أيضا: دلالة على أنّ الكافرين هم المقصود بخلقها أصالة.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أنّ ثمرة الأخذ بالقرآن والإقرار به، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس والحجارة، وفيه زيادة فضل القرآن وأهله.
قال البغوي عند قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ قيل: السورة اسم للمنزلة الرفيعة، وسمّيت سورة؛ لأنّ القارىء ينال بقراءتها منزلة رفيعة،
حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن. اه.
وخلاصة معنى الآية (٣): إذا ظهر عجزكم عن المعارضة، صحّ عندكم صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وإذا صحّ ذلك فاتركوا العناد، وإذا لزمتم العناد استوجبتم العقاب بالنار.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿وَقُودُهَا﴾ بفتح الواو، وهو الحطب الذي تتقد به، وقد جاء بالفتح مصدرا أيضا. وقرأ الحسن باختلاف، ومجاهد، وطلحة، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر الهمدانيّ بضمّ الواو، وهو مصدر بمعنى: التوقد، وهو حينئذ على حذف مضاف؛ أي: ذو وقودها، لأنّ الناس والحجارة ليسا نفس الاتقاد،
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
وعبارة المراغي هنا: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ الآية، والنار (١) موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها، والوقود بفتح الواو: ما توقد به النار، والمراد بالناس: العصاة، والمراد بالحجارة هنا: الأصنام، كما قال: ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، وقوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾؛ أي: هيّئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل، أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدي الدين، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين من الخرافات والبدع.
والخلاصة: فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فليس في استطاعتكم، فاحذروا من العناد، واعترفوا بكونه منزلا من عند الله تعالى، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدّت لأمثالكم من الكافرين. اه.
٢٥ - ولمّا ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الكافرين، عقّبه بجزاء المؤمنين؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز؛ لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الخ. وقال ابن كثير: (٢) لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى، ما أعدّه لأعدائه من الأشقياء الكافرين بالله وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصحّ أقوال العلماء، وهو أن يذكر الإيمان، ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء، ثمّ الأشقياء أو عكسه. وحاصله: أنّه ذكر الشيء ومقابله. انتهى.
(٢) ابن كثير.
والمأمور بالتبشير هنا، قيل: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: هو كل أحد ممن يتأتّى منه التبشير، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بشّر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي، بالنور التامّ يوم القيامة»، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر بذلك واحدا بعينه، بل كلّ أحد ممّن يتأتّى منه ذلك، كالعلماء وولاة الأمور. والأمر على الأول للوجوب؛ لأنّ البشارة من جملة ما أمر بتبليغه.
أي: فرّح يا محمد قلوب الذين آمنوا، وصدّقوا بأنّ القرآن منزل من عند الله تعالى، وبجميع ما أرسلت به. ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ من الفرائض والنوافل، جمع صالحة؛ أي: وعملوا الفعلات الصالحات، وهي كلّ ما كان لله تعالى. وفي عطف (١) العمل على الإيمان، دلالة على تغايرهما، وإشعار بأنّ مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين، فإنّ الإيمان أساس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناء بأساس لا بناء عليه. وطلب الجنة بلا عمل حال السفهاء؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى، جعل العمل سببا لدخول الجنة، والعبد وإن كان يدخله الله الجنة بمجرّد الإيمان، لكن العمل يزيد نور الإيمان، وبه يتنوّر قلب المؤمن، وكم من عقبة كؤود تستقبل العبد إلى أن يصل إلى الجنة، وأوّل تلك العقبات عقبة الإيمان، أنّه هل يسلم من السلب أم لا؟ فلزم العمل لتسهيل العقبات.
أي: أخبر يا محمد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بشارة بـ ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ أي: حدائق وبساتين ذات أشجار مثمرة، ومساكن مزيّنة. والجنة: ما فيه النخيل، والفردوس: ما فيه الكرم، كذا قال الفراء. ولفرط التفاف أغصان أشجارها، وتستّرها بالأشجار سمّيت جنة، كأنّها سترة واحدة، لأنّ الجنة بناء مرّة. وإنّما سميت دار الثواب بها مع أنّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور؛ لما أنّها مناط نعيمها ومعظم ملاذّها.
قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلّها، وهي مشتملة على جنّات كثيرة مرتّبة مراتب على استحقاقات العاملين، لكلّ طبقة منهم جنة من تلك الجنات.
والمراد بالجنة هنا (١): دار الخلود في الحياة الآخرة، أعدّها الله للمتقين، كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. ثمّ (٢) الجنان ثمان: دار الجلال كلّها من نور مدائنها، وقصورها، وبيوتها، وأوانيها، وشرفها وأبوابها، ودرجها، وغرفها، وأعاليها، وأسافلها، وخيامها، وحليها، وكلّ ما فيها. ودار القرار كلّها من المرجان، ودار السلام كلّها من الياقوت الأحمر، وجنة عدن من الزبرجد كلّها، وهي قصبة الجنة، وهي مشرفة على الجنان كلّها، وجنة المأوى من الذهب الأحمر كلّها، وجنّة الخلد من الفضّة كلّها، وجنة الفردوس من اللؤلؤ كلّها، وجنة النعيم من الزمردّ كلّها، كذا قالوا، والله أعلم.
وجملة قوله: ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها ومساكنها على ظهر الأرض من غير حفيرة. ﴿الْأَنْهارُ﴾ الأربعة المذكورة في (سورة محمد)؛ أي: المياه المعهودة في الجنة المذكورة في قوله تعالى: ﴿فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ الآية. وهي أنهار الخمر، واللبن، والعسل، والماء. صفة لقوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾.
والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها وهو (٣) المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل وهو نهر مصر، والمراد بها: الماء الجاري فيها، وأسند الجري إليها مجازا، والجاري حقيقة هو الماء، كما في قوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: أهلها، وكما قال الشاعر:
ونبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت | واستبّ بعدك يا كليب المجلس |
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
فإن قلت (١): كيف جري الأنهار من تحتها؟
قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية. وعن مسروق: أنّ أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهو الشقّ من الأرض بالاستطالة، وأنزه البساتين، وأكرمها منظرا، ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطّردة. ولولا أنّ الماء الجاري من النعمة العظمى، وأنّ الرياض وإن كانت أحسن شيء، لا تجلب النشاط حتى يجري فيها الماء، وإلّا كان السرور الأوفر مفقودا، وكانت كتماثيل لا أرواح لها، وصورا لا حياة لها، لما جاء الله بذكر الجنات ألبتة مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها.
وقوله: ﴿كُلَّما رُزِقُوا﴾ وصف (٢) آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّ سائلا قال: كيف ثمارها؟. و ﴿كُلَّما﴾ ظرف زمان ضمّن معنى الشرط؛ أي: متى أطعموا ﴿مِنْها﴾؛ أي: من تلك الجنات ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾؛ أي: من أيّ ثمرة من أنواع ثمراتها. وليس المراد بالثمرة (٣): التفاحة الواحدة أو الرمّانة الفذّة، وإنما المراد: نوع من أنواع الثمرات. و ﴿مِنْ﴾ الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، لأنّ الرزق قد ابتدىء من الجنات، والرزق من الجنّات قد ابتدىء من ثمرة. ﴿رِزْقًا﴾ مفعول رزقوا. والرزق: ما ينتفع به الحيوان طعاما.
﴿قالُوا﴾؛ أي: قال أصحاب الجنة للملائكة والولدان: ﴿هذَا﴾ الطعام الذي أتيتمونا به هو ﴿الَّذِي رُزِقْنا﴾ به ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: مثل الطعام الذي رزقنا به من قبل هذا في الدنيا، ولكن لمّا استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته.
وإنّما (٤) جعل ثمر الجنة كثمر الدنيا؛ لتميل النفس إليه حين تراه، فإنّ
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
ولا يقدح فيه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (أنّه ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الاسم)، فإنّ ذلك، لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذّة، والحسن، والهيئة، لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلا، كيف لا وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعا.
وجملة قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ حال من فاعل قالوا؛ أي: قالوا ذلك والحال أنّهم أتوا به، أي: جيئوا بذلك الرزق، أو المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا.
والضمير عائد إلى ما دلّ عليه فحوى الكلام، مما رزقوا في الدارين حال كون ما أتوا به وأعطوه في الدارين. ﴿مُتَشابِهًا﴾ بعضه بعضا في اللون والجودة، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك أجود وألذّ، يعني: لا يكون فيه رديء، فقوله: ﴿مُتَشابِهًا﴾ حال من ضمير ﴿بِهِ﴾.
وقيل المعنى: (١) كلّما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا: هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان، وصالح الأعمال، فهو من وادي قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
وقيل المعنى: (١) ﴿كُلَّما رُزِقُوا﴾ وأعطوا، واطعموا ﴿مِنْها﴾؛ أي: من تلك الجنات ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾؛ أي: عطاء وطعاما من ثمرة من ثمارها. ﴿قالُوا﴾ للملائكة والولدان: ﴿هذَا﴾ الطعام الذي أتيتمونا به في هذه المرّة، مثل الطعام. ﴿الَّذِي رُزِقْنا﴾ وأعطينا به ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذه المرّة في الجنة؛ أي: مثله في الشكل واللون، فتقول الملائكة: كل يا عبد الله، فاللون واحد، والطعم مختلف. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾؛ أي: والحال أنّهم أعطوا بذلك الطعام، حال كونه متشابها بعضه بعضا في اللون والمنظر دون الطعم؛ أي: تأتيهم الملائكة والولدان برزق الجنة متشابها بعضه بعضا في اللون مختلفا في الطعم.
وقرأ الجمهور ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الخدم والولدان، يبيّن ذلك قراءة هارون الأعور، والعتكي ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ على البناء للفاعل، ذكره في «البحر».
وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يتمخّطون، ولا يبزقون، ويلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النّفس طعامهم جشاء، ورشحهم كرشح المسك. وفي رواية: ورشحهم المسك. وعن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها؛ أي: منضود بعضها على بعض؛ أي: متراكب ومجتمع ليس كأشجار الدنيا متفرّقة أغصانها وثمرتها أمثال القلال، كلّما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، والعنقود اثنا عشر ذراعا، ولو اجتمع الخلائق على عنقود لأشبعهم. وجاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم - فقال: يا أبا القاسم! تزعم أنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون، فقال: «نعم والذي نفس محمد بيده، إنّ أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع»، قال: فإنّ الذي يأكل له
وجملة قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيها﴾؛ أي: في الجنة ﴿أَزْواجٌ﴾؛ أي: نساء وحور.
معطوفة على جملة قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾. على كونها صفة لجنات؛ أي: وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وجنات لهم فيها أزواج. ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾؛ أي: (١) مهذّبة منقّاة من الأحوال المستقذرة، كالحيض، والنفاس، والبول، والغائط، والمنيّ، والمخاط، والبلغم، والورم، والدّرن، والصّداع، وسائر الأوجاع، والولادة، ودنس الطبع، وسوء الخلق، وميل الطبع إلى غير الأزواج، وغير ذلك.
وقوله: ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ أبلغ من طاهرة ومتطهرة؛ للإشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ، وما هو إلّا الله سبحانه وتعالى. وقرأ الجمهور (٢) ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ صفة للأزواج، مبنيّة على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي ﴿مطهّرات﴾ فجمع بالألف والتاء على معنى: طهّرن. قال الزمخشري: وهما لغتان فصيحتان. يقال: النساء فعلن وهنّ فاعلات، والنساء فعلت وهي فاعلة. وقرأ عبيد بن عمير ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ بتشديد الطاء المفتوحة وتشديد الهاء المكسورة. أصله: متطهرة، وهي مناسبة لقراءة الجمهور. قال الحسن: هنّ عجائزكم العمص العمش طهّرن من قاذورات الدنيا. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب؛ أي: الأبيض، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور، إذ أقبلت يتلألأ نور وجهها، كما يتلألأ نور الشمس لأهل الدنيا).
وجملة قوله: ﴿وَهُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ حال من ضمير لهم؛ أي: ولهم فيها أزواج مطهّرة خالصة من الأدناس الحسية والمعنوية، حالة كونهم خالدين في تلك
(٢) البحر المحيط.
قال عكرمة: (١) أهل الجنة ولد ثلاث وثلاثين سنة، رجالهم ونساؤهم، وقامتهم ستون ذراعا على قامة أبيهم آدم، شباب جرد مرد، مكحلون، عليهم سبعون حلّة، تتلوّن كلّ حلة في كلّ ساعة سبعين لونا، لا يبزقون، ولا يتمخّطون، وما كان فوق ذلك من الأذى، فهو أبعد، يزدادون كلّ يوم جمالا وحسنا، كما يزداد أهل الدنيا هرما وضعفا، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم.
واعلم: أنّ معظم اللذات الحسيّة، لما كان مقصورا على المساكن، والمطاعم، والمناكح حسبما يقضي به الإستقراء، وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات، إذ كلّ نعمة وإن جلّت حيث كانت في شرف الزوال، ومعرض الاضمحلال، فإنّها منغّصة غير صافية من شوائب الألم، بشّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلا للبهجة والسرور، ولذلك قيل:
أشدّ الغمّ عندي في سرور | تيقّن عنه صاحبه انتقالا |
وقد ورد في الحديث الصحيح (٣)، ما يدلّ على كثرة الأزواج من الحور وغيرهنّ، وأريد بالأزواج هنا القرناء من النساء اللاتي تختصّ بالرجل، لا يشركه فيها غيره، فمعنى تطهيرهنّ: (إن كنّ من الحور، كما روي عن عبد الله: خلقهنّ على الطهارة لم يعلق بهنّ دنس ذاتيّ ولا خارجيّ) (وإن كنّ من بني آدم، كما روي عن الحسن: تطهيرهنّ من الأدناس الّتي كانت بها في الدنيا، ذاتيّة كانت
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
٢٦ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي﴾. الخ. أنزل الله سبحانه هذه الآية ردّا على الكفار، لمّا أنكروا ما ضربه من الأمثال، كقوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾. وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾، فقالوا: الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال. وقال الحسن وقتادة: لمّا ذكر الله سبحانه الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية، كما مرّ في الأسباب بسطه.
والظاهر (١) ما ذكرناه أوّلا؛ لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك، لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز.
والحياء: تغيّر وانكسار، يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ، كذا في «الكشاف»، وتبعه الرازي في «مفاتيح الغيب». وقال القرطبي: أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء، والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء، فقيل: ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكي عن الكفّار، وقيل: هو من باب المشاكلة، وقيل: هو جار على سبيل التمثيل. قال في «الكشاف»: مثّل تركه تخييب العبد، وأنّه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه، بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. اه.
والمعنى: أنّ الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. وما (٢) الأمثال إلّا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء
(٢) المراغي.
والناس إزاء هذا فريقان: مؤمنون يقولون: إنّ الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها، فالكلّ لديه سواء، وكافرون يستهزؤن بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربّهم، فأصبحوا من الخاسرين.
فمحلّ ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾؛ أي: يذكر. نصب (١) على المفعولية؛ أي: إنّ الله لا يترك أن يذكر مثلا وشبها لآلهتهم، وما في قوله: ﴿ما بَعُوضَةً﴾ اسمية إبهامية؛ أي: موجبة لإبهام ما دخلت عليه؛ أي: تزيد ما تقارنه من الاسم المنكّر إبهاما وشيوعا، حتى يكون أعمّ مما كان عليه أوّلا، وأكثر شيوعا في أفراده، فكأنّه قيل: يضرب مثلا ما من الأمثال أيّ مثل كان، فهي في موضع نصب، صفة لما قبلها، و ﴿بَعُوضَةً﴾ بدل من ﴿مَثَلًا﴾. ﴿فَما فَوْقَها﴾ معطوف على بعوضة؛ أي: إنّ الله لا يترك أن يذكر مثلا وشبها لآلهتهم أيّ مثل كان، ولا يترك أن يذكر بعوضة، فيذكر الذي هو أزيد منها في الكبر، كالذباب والعنكبوت، أو يذكر ما دونها في الصغر، كالذرّة، وجناح بعوضة. قيل: إنّه من الأضداد، ويطلق على الأعلى والأدنى. وقيل: أن يضرب بمعنى: يجعل، فتكون. ﴿بَعُوضَةً﴾ المفعول الثاني، كما سيأتي.
فإن قلت (٢): مثّل الله آلهتهم ببيت العنكبوت وبالذباب، فأين تمثيلها بالبعوضة فما دونها؟
قلت: في هذه الآية كأنّه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثل آلهتكم بالبعوضة فما دونها، فما ظنّكم بالعنكبوت والذباب؟.
والبعوضة: فعولة من بعض إذا قطع. يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: الناموس، والواحدة: بعوضة. قال الربيع بن أنس: ضرب المثل
(٢) روح البيان.
قال بعضهم: (١) إنّ الله تعالى قوّى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الأجناس، وعرّف الخلق قدرته في خلق الضعفاء على هيئات الأقوياء، فإنّ البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره، وفي البعوض زيادة جناحين، فلا يستبعد من كرمه، أن يعطي على قليل العمل ما يعطي على كثير العمل من الخلق، كما أعطى صغير الجثة ما أعطى كبير الجثة من الخلقة، ومن العجب أنّ هذا الصغير يؤذي هذا الكبير، فلا يمتنع منه.
ومن لطف الله تعالى: أنّه خلق الأسد بغاية القوة، والبعوض والذباب بغاية الضعف، ثمّ أعطى البعوض والذباب جراءة أظهرها في طيرانهما في وجوه الناس، وتماديهما في ذلك مع مبالغة الناس في ذبّهما بالمذبّة، وركّب الجبن في الأسد، وأظهر ذلك
بتباعده عن مساكن الناس وطرقهم، ولو تجاسر الأسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس. فمنّ الله تعالى، وجعل في الضعيف التجاسر، وفي القوي الجبن، ومن العجب عجزك عن هذا الضعيف، وقدرتك على ذلك الكبير.
وتقدّم لك أنّ المراد بالبعوض هنا: الناموس، وهو من عجيب خلق الله تعالى، فإنّه في غاية الصغر، وله ستّة أرجل، وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم
قال القشيري - رحمه الله تعالى - (١): الخلق في التحقيق بالإضافة إلى قدرة الخالق، أقلّ من ذرّة من الهباء في الهواء، وسيّان في قدرته العرش والبعوضة، فلا خلق العرش عليه أعسر، ولا خلق البعوضة عليه أيسر، سبحانه وتقدّس عن لحوق العسر واليسر. انتهى.
أي: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يَسْتَحْيِي﴾ ولا يترك ﴿أَنْ يَضْرِبَ﴾ ويذكر، ويبيّن للخلق ﴿مَثَلًا ما﴾؛ أي: شبها ما أيّ مثل كان ﴿بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾؛ أي: فوق البعوضة في الذات والكبر، كالذباب والعنكبوت، أو فوقها في الغرض المقصود من التمثيل، كجناح البعوضة، أو دونها في الذات، كالذرة صغار النمل، وكيف يستحيي الله سبحانه من ذكر شيء، لو اجتمع الخلائق كلّهم على تخليقه ما قدروا عليه.
والمعنى: أنّ الله تعالى، لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها، إذا علم أنّ فيه عبرة لمن اعتبر، وحجة على من جحد. والخلاصة: أي: إنّ الله جلّت قدرته، لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنّه هو الخالق لكلّ شيء جليلا كان أو حقيرا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَسْتَحْيِي﴾ بياءين، والماضي استحيا، وهي لغة أهل الحجاز، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد، كاستنكف، واستأثر، واستبدّ، واستعبر، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. قال الزمخشري: يقال: حيي الرجل من الحياء، كما يقال: نسي، وخشي، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرّد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب ﴿يستحي﴾ بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، وبكر بن وائل، يجرونها مجرى
(٢) البحر المحيط.
ألا تستحي منّا ملوك وتتقي | محارمنا لا يبوء الدّم بالدم |
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه | كرعن بستّ في إناء من الورد |
وقرأ الجمهور (١): بنصب ﴿بَعُوضَةً﴾، واختلف في توجيه النصب على أوجه:
أحدهما: أن تكون صفة لـ ﴿ما﴾، إذا جعلنا ﴿ما﴾ بدلا من ﴿مَثَلًا﴾، و ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ﴿يَضْرِبَ﴾.
والثاني: أن تكون ﴿بَعُوضَةً﴾ عطف بيان، و ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ﴿يَضْرِبَ﴾.
والثالث: أن تكون بدلا من ﴿مَثَلًا﴾.
والرابع: أن تكون مفعولا لـ ﴿يَضْرِبَ﴾، وانتصب ﴿مَثَلًا﴾ حالا من النكرة مقدّمة عليها.
والخامس: أن تكون مفعولا لـ ﴿يَضْرِبَ﴾ ثانيا، والأول هو ﴿مَثَلًا﴾ على أنّ ﴿يَضْرِبَ﴾ بمعنى يجعل يتعدّى لاثنين.
والسادس: أن تكون مفعولا أوّل لـ ﴿يَضْرِبَ﴾، و ﴿مَثَلًا﴾ المفعول الثاني.
والسابع: أن تكون منصوبا على تقدير إسقاط الجار، والمعنى: أن يضرب
وقرأ الضحاك (١)، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب ﴿بَعُوضَةً﴾ بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك: أنّ ﴿ما﴾ اسم بمنزلة الذي و ﴿بَعُوضَةً﴾ رفع على إضمار المبتدأ، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ استفهامية في محلّ الرفع بالابتداء، و ﴿بَعُوضَةً﴾ وما بعدها خبرها، وقيل غير ذلك.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدّقوا بالقرآن، وبما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو محمد وأصحابه. والفاء؛ للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها، كأنّه قيل: فيضربه فأما الذين آمنوا ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾؛ أي: أنّ ضرب المثل بالبعوضة والذباب هو الأمر الْحَقُّ الثابت الذي لا يسوغ إنكاره حال كونه ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لا من محمد، فلا يسوغ إنكاره؛ لأنّه ليس عبثا، بل هو مشتمل على الحكم والفوائد، فيؤمنون به. والجار والمجرور (٢) حال من الضمير المستكن في ﴿الْحَقُّ﴾، أو من الضمير العائد إلى المثل؛ أي: كائنا منه تعالى، فيتفكرون في هذا المثل الحقّ، ويوقنون أنّ الله هو خالق الكبير والصغير، وكلّ ذلك في قدرته سواء، فيؤمنون به.
والمعنى: أي (٣) فالمؤمنون يقولون: ما ضرب الله هذا المثل إلّا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحقّ، والأخذ به، فهو إنّما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود والمشركون، ﴿فـ﴾ يتعجّبون من ذلك المثل، و ﴿يقولون﴾ إنكارا له: ﴿ماذا﴾؛
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قال في «الروح» (١): الأصل: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فلما حذف الألف واللام نصب على الحال؛ أي: ماذا أراد الله بهذا حال كونه ممثّلا به، أو على التمييز؛ أي: من جهة كونه مثلا.
والمعنى (٢): وأمّا الذين كفروا، وهم اليهود والمشركون، وكانوا يجادلون بعد أن استبانت الحجة، وحصحص الحقّ، ويقولون: ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك، وما أعرضوا، وانصرفوا ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾.
فأجابهم الله تعالى، ردّا عليهم بقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾؛ أي: يخذل بهذا المثل والإضلال: هو الصرف عن الحقّ إلى الباطل، وإسناد الإضلال؛ أي: خلق الضلال إليه سبحانه، مبنيّ على أنّ جميع الأشياء مخلوقة له تعالى، وإن كانت أفعال العباد مستندة إليهم من حيث الكسب؛ أي: أراد الله بهذا المثل أن يضلّ به ﴿كَثِيرًا﴾ من أهل الكفر والنفاق؛ وذلك. لأنّهم ينكرونه، ويكذّبونه، فيزيدون بإنكاره ضلالا على ضلالهم الأول. ﴿وَيَهْدِي بِهِ﴾؛ أي: بهذا المثل ﴿كَثِيرًا﴾ من أهل الإيمان والإخلاص؛ لأنّهم يعرفون، ويصدّقون به، فيزيدون به إيمانا على إيمانهم. يعني: (٣) يضلّ به من علم منهم أنّه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أنّه يختار الهدى.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقد جعل الله سبحانه، المهتدين في الكثرة كالضالين مع أنّ هؤلاء أكثر، كما قال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾. إشارة إلى أنّ المؤمنين المهتدين على قلّتهم، أكثر نفعا وأجل فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين، وما أحسن قول بعضهم:
إنّ الكرام كثير في البلاد وإن | قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا |
قلت: أهل الهدى كثير في أنفسهم، وحين يوصفون بالقلّة إنّما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال، وأيضا: فإنّ القليل من المهديّين كثير في الحقيقة، وإن قلّوا في الصورة؛ لأنّ هؤلاء على الحقّ، وهم على الباطل. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (السواد الأعظم هو الواحد على الحقّ).
ثمّ أكمل الجواب، وزاد في البيان، فقال: ﴿وَما يُضِلُّ﴾ الله سبحانه ﴿بِهِ﴾؛ أي: بهذا المثل؛ أي: لا يخذل، ولا يذلّ بهذا المثل وتكذيبه ﴿إِلَّا الْفاسِقِينَ﴾؛ أي: إلّا الخارجين عن حدّ الإيمان والإخلاص إلى الكفر والنفاق، كاليهود والمنافقين.
أي: (٣) وما يضلّ بضرب المثل إلّا الذين خرجوا عن سنّة الله في خلقه،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والفسق في اللغة (١): الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة، وله طبقات ثلاث:
الأولى: التغابي، وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها.
والثانية: الانهماك في تعاطيها.
والثالثة: المثابرة عليها مع جحود قبحها، وهذه الطبقة من مراتب الكفر، فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن، لاتصافه بالتصديق الذي يدور عليه الإيمان.
٢٧ - ثمّ زاد في ذمّ الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ أي: يخالفون، ويتركون أمر الله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾؛ أي: من بعد توثيق ذلك العهد، وتوكيده بالقبول. فالضمير للعهد، أو من بعد توثيق الله سبحانه ذلك العهد، بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فالضمير إلى الله. فالمراد بالميثاق هنا: نفس المصدر لا نفس العهد.
أي: الذين يخالفون أمر الله ووصيّته في الكتب المتقدمة، بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ميثاقه وتوكيده عليهم، وإيجاب وفائه عليهم المذكور في آية ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ﴾ الآية.
وقيل (٢): المراد بالعهد: هو الحجة القائمة على عباده الدالّة على وجوب
(٢) العمدة.
قيل (١): عهد الله ثلاثة:
الأول: ما أخذه على ذرّيّة آدم - عليه السلام - بأنّ يقرّوا بربوبيته تعالى.
والثاني: ما أخذه على الأنبياء - عليهم السلام - أن أقيموا الدين، ولا تتفرّقوا فيه.
والثالث: ما أخذه على العلماء بأن يبيّنوا الحقّ، ولا يكتموه.
والنقض: الفسخ، وفكّ التركيب.
فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين.
وعبارة المراغي هنا: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾؛ أي: (٢) الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل، ومشاعر، وحواس ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له، حتى كأنّهم فقدوها، كما قال: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ﴾.
وهذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطريّ، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع، وهو العهد الدينيّ، وقد وثّق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهيّة التي في الكون، كما وثّق الثاني، بما أيّد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم، فمن أنكر بعثة الرسل، ولم يهتد بهديهم، فهو ناقض لعهد الله، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشريّة والنفسيّة حدّ الكمال الإنسانيّ الممكن لها.
(٢) المراغي.
﴿وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ محلّ ﴿أَنْ يُوصَلَ﴾ الجرّ على أنّه بدل من الهاء في ﴿بِهِ﴾ العائد إلى ﴿ما﴾ الموصولة؛ أي: (٢) يقطعون ما أمر الله بوصله، من الأرحام والقرابات الدينية والنسبية. وذلك أنّ قريشا قطعوا رحم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعاداة، والله أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين، فهم انقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفّار. فلفظ (٣) القطع عامّ في كلّ قطيعة لا يرضى الله بها، كقطع الرحم، وقطع موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب السماوية في التصديق، وترك الجماعات المفروضة، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ، فإنّه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد، من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كلّ وصل وفصل.
وفي الحديث: «إذا أظهر الناس العلم، وضيّعوا العمل به، وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام لعنهم الله عند ذلك، فأصمّهم وأعمى أبصارهم». وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «ثلاثة في ظلّ عرش الله يوم القيامة:
امرأة مات عنها زوجها، وترك عليها يتامى صغارا، فخطبت فلم تتزوج، وقالت:
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالمعاصي، والفتن، وتعويق الناس من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن، والاستهزاء بالحقّ، وقطع الصلة التي عليها يدور فلك نظام العالم، وصلاحه. ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بنقض العهد وبما بعده ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾؛ أي: المغبونون بفوات المثوبة والجنة لهم، والمصير إلى العقوبة والنار المؤبّدة عليهم؛ لأنّهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إلى النار المؤبّدة؛ لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل والفساد بالصلاح.
وروي: أنّه ليس من مؤمن ولا كافر إلّا وله منزل، وأهل، وخدم في الجنة، فإن أطاع الله تعالى أعطي أهله، وخدمه، ومنزله في الجنة، وإن عصاه ورّثه الله المؤمن فقد غبن عن أهله، وخدمه، ومنزله.
٢٨ - ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ كيف (١) نصب حالا من الضمير في ﴿تَكْفُرُونَ﴾؛ أي: حالة كونكم معاندين تكفرون، وتجحدون ﴿بِاللَّهِ﴾؛ أي: بوحدانية الله، ومعكم ما يصرفكم عن الكفر إلى الإيمان من الدلائل الأنفسيّة والآفاقية. والاستفهام في ﴿كَيْفَ﴾ إنكاري، لا بمعنى: إنكار الوقوع، بل بمعنى: إنكار الواقع واستبعاده، والتعجيب منه، والتوبيخ عليه؛ لأنّ التعجّب من الله يكون على وجه التعجيب، والتعجيب: هو أن يدعو إلى التعجب، وكأنّه يقول: ألا تتعجّبون أنّهم يكفرون الله، كما في «تفسير أبي الليث». وقال القاضي: هو استخبار، والمعنى: أخبروني على أيّ حال تكفرون.
﴿وَكُنْتُمْ أَمْواتًا﴾؛ أي: والحال أنكم كنتم أمواتا؛ أي: أجساما لا حياة
قال في «الكشاف»: فإن قلت: كيف قيل لهم: أموات حال كونهم جمادا، وإنما يقال: ميت فيما تصحّ منه الحياة من البنى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة لقوله تعالى: ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾.
﴿فَأَحْياكُمْ﴾ بخلق الأرواح، ونفخها فيكم في أرحام أمهاتكم، ثمّ في دنياكم. وهذا إلزام لهم بالبعث، والفاء (١) للدلالة على التعقيب، فإنّ الإحياء حاصل إثر كونهم أمواتا، وإن توارد عليهم في تلك الحالة أطوار مترتّبة بعضها متراخ عن بعض، كما أشير إليه آنفا.
ثمّ لما كان المقام في الدنيا قد يطول، جاء بثمّ الدالة على التراخي، فقال: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء آجالكم، وكون الإماتة من دلائل القدرة ظاهر، وأمّا كونها من النعم، فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية التي هي الحيوان الأبدي والنعمة العظمى. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ للسؤال في القبور، فيحيى الميت حتى يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين، ويقال: من ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟. ودلّت ﴿ثُمَّ﴾ التي للتعقيب على سبيل التراخي على أنّه لم يرد به حياة البعث، فإنّ الحياة يومئذ يقارنها الرجوع إلى الله بالحساب والجزاء، وتتصل به من غير تراخ. فلا يناسب ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. ودلّت الآية على إثبات عذاب القبر وراحة القبر، كما في «التيسير». ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الحشر لا إلى غيره، فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، وإليه تنشرون من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.
فإن قيل: إن علموا أنّهم كانوا أمواتا، فأحياهم ثمّ يميتهم، لم يعلموا أنّه يحييهم ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. قلت: تمكنهم من العلم بهما، لما نصب لهم من
وحاصل المعنى على هذا التفسير الذي قرّرناه: ﴿كُنْتُمْ أَمْواتًا﴾؛ أي: نطفا في أصلاب الرجال. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ حياة الدنيا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بعد هذه الحياة ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في القبور ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في القبور ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الحياة التي ليس بعدها موت. قال القرطبي: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال. فعلى هذا يجيء أربع موتات، وأربع إحياءات.
وقيل معنى الآية: (١) ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ وتجحدون أيّها العباد إنسكم وجنّكم ﴿بـ﴾ وحدانية ﴿الله﴾ سبحانه وتعالى، وتعبدون معه غيره، ﴿وَ﴾ الحال أنّه قد وجد فيكم ما يدلّ على وحدانية الله؛ لأنّكم ﴿كُنْتُمْ أَمْواتًا﴾؛ أي: أجساما لا حياة لها نطفا علقا ومضغا ﴿فَأَحْياكُمْ﴾ بنفخ الأرواح فيكم، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في الدنيا بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في الآخرة بالبعث والنشور. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة، فمن بعدهم. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين، ثمّ أحياء في الدنيا، ثمّ أمواتا فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى.
وقال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا.
﴿ثُمَّ﴾ بعد بعثكم ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى لقائه ﴿تُرْجَعُونَ﴾ وتردّون، فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ؛ أي: ثمّ إليه تنشرون من قبوركم للحساب.
وعبارة المراغي هنا: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: على (٢) أيّ حال
(٢) المراغي.
﴿وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ﴾؛ أي: والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا، أجزاؤكم متفرّقة في الأرض بعض منها في الطبقات الجامدة، وأخرى في الطبقات السائلة، وقسم في الطبقات الغازية تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات في ذلك، ثمّ خلقكم في أحسن تقويم، وفضّلكم على غيركم بنعمة العقل، والإدراك، والفهم، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم، وحينئذ تنحلّ أبدانكم، وتعود سيرتها الأولى، وتنبثّ في طبقات الأرض، وينعدم هذا الوجود الخاصّ الذي لها. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، وأكمل لمن زكّى نفسه، وعمل صالحا، ودونها لمن أفسد فطرته والتدبّر في سنن الكون، وأنكر الإله والرسل، وفسق عن أمر ربّه. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للحساب والجزاء على ما قدمتم من عمل، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تُرْجَعُونَ﴾ مبنيا للمفعول من رجع المتعدي. وقرأ مجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، والفيّاض بن غزوان، وسلّام، ويعقوب ﴿تُرْجَعُونَ﴾ مبنيا للفاعل، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم؛ لأنّ (رجع) يكون لازما ومتعديّا. وفي قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية، ويردّه عن بعض ما يرتكبه، ويزيد المحسن رغبة في الخبر، ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان.
٢٩ - وبعد أن عدّد سبحانه آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى، ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكلّ شيء، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيّأ لهم ومعدّا لمنافعهم. فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾ هذا بيان نعمة أخرى؛ أي: (٢) قدّر خلقها لأجلكم ولانتفاعكم بها في دنياكم
(٢) روح البيان.
واستدلّ بعضهم بقوله: ﴿ما فِي الْأَرْضِ﴾ على تحريم أكل الطين، قال: لأنّه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ذكره في «البحر».
﴿ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ﴾؛ أي: قصد إليها؛ أي: إلى خلقها بإرادته ومشيئته قصدا سويّا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من إرادة شيء آخر في تضاعيف خلقها، أو غير ذلك. وسيأتي في مبحث الفائدة البسط في معنى الاستواء.
ولا تناقض بين هذا وبين قوله (١): ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها﴾؛ لأنّ - الدّحو هو البسط. وعن الحسن: (خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس، كهيئة الفهر - أي: الحجر ملء الكفّ - عليها دخان يلتزق بها، ثمّ أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعه ثمّ بسط منه الأرض)، كذا في «الكواشي».
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أوّل ما خلق الله جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة، فنظر إليها بالهيبة، فذابت، واضطربت، ثمّ ثار منها دخان، فارتفع واجتمع زبد، فقام فوق الماء، فجعل
وقرأ أهل الحجاز ﴿اسْتَوى﴾ بالفتح، وأهل نجد بالإمالة، وقرىء في السبعة بهما.
﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾؛ أي: أتمّهنّ، وقوّمهنّ، وخلقهنّ ابتداء مصونات عن العوج والفطور؛ لأنّه سوّاهنّ بعد أن لم يكن كذلك. والضمير فيه مبهم، فسّر بقوله تعالى: ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ فهو منصوب على أنّه تمييز، نحو: ربّه رجلا. وفي هذا تصريح بأنّ السموات سبع، وأمّا الأرض فلم يأت في ذكر عددها، إلّا قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾.
قال سلمان: (هي سبع. اسم الأولى: رفيع، وهي من زمرّد خضراء، واسم الثانية: أرفلون، وهي من فضة بيضاء، والثالثة: قيدوم، وهي من ياقوتة حمراء، والرابعة: ماعون، وهي من درّة بيضاء، والخامسة: دبقاء، وهي من ذهب أحمر، والسادسة: وفناء، وهي من ياقوتة صفراء، والسابعة: عروباء، وهي من نور يتلألأ).
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تعليل لما قبله، كأنّه قال: ولكونه عالما بكنه الأشياء كلّها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليما، فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها، وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصور إلّا من عالم حكيم رحيم. وإزاحة لما يختلج في صدورهم، من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت وتكسرت وتبدّدت أجزاءها، واتصلت بما يشاكلها كيف يجمع أجزاء كلّ بدن مرّة ثانية، بحيث لا يشذّ شيء منها، ولا ينضمّ إليها ما لم يكن معها، فيعاد منها كما كان.
وقرأ بتسكين ﴿وهو﴾ أبو عمرو والكسائي، وقالون. وقرأ الباقون بضمّ الهاء على الأصل. ووقف يعقوب على ﴿وهو﴾ بالهاء، نحو: وهوه، وتسكين الهاء في هو، وهي، بعد الواو والفاء واللام قراءة أبي عمرو والكسائي وقالون
وحاصل معنى الآية: ﴿هُوَ﴾؛ أي: (١) الإله الذي ثبتت وحدانيته، ووجبت عبادته هو الخالق ﴿الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾؛ أي: لأجل انتفاعكم في الدين والدنيا، بالاستدلال على موجدكم وإصلاح الأبدان ﴿ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾؛ أي: الأرض، وجميع ما فيها، بعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار. ﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾؛ أي: قصد، ووجّه إرادته بعد خلق الأرض ﴿إِلَى﴾ خلق طباق ﴿السَّماءِ﴾ ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾؛ أي: صيّرهنّ سبع طباق مستويات، لا شقوق فيها، ولا فطور، ولا تفاوت. ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الموجودات ﴿عَلِيمٌ﴾؛ أي: عالم به، إذ بالعلم يصحّ الفعل المحكم، فلا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها، وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب، إلّا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها
وكلّياتها، أفلا تعتبرون بأنّ القادر على خلق ذلك وهنّ أعظم منكم قادر على إعادتكم. بلى إنّه على كلّ شيء قدير.
والخلاصة: أنّ هذا النظام المحكم لا يكون إلّا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحي إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده، يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته جلّ أو حقر، عظم أو صغر.
فائدة: وفي معنى الاستواء هنا سبعة أقوال للعلماء (٢):
أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها، وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، قاله الفرّاء، واختاره الزمخشري.
وثانيها: علا، وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره ابن جرير.
(٢) البحر المحيط بتصرف.
فلمّا علونا واستوينا عليهم | تركناهم صرعى لنسر وكاسر |
وخامسها: معناه: استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول هذا المعنى إلى القول الأول.
وسادسها: معناه: كمّل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه.
وسابعها: أنّ الضمير في ﴿اسْتَوى﴾ عائد على الدخان، وهذا بعيد جدّا، يبعده قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ﴾ واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسّره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلّها فرار عما تقرّر في العقول، من أنّ الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث، أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش إن شاء الله تعالى، ذكره في «البحر».
والقول الأرجح الأسلم: أن يقال في تفسير الاستواء هنا: ثمّ استوى سبحانه وتعالى إلى السماء، وارتفع، وعلا استواء يليق به، نثبته ولا نعطله، نعتقده ولا نكيّفه، ولا نمثّله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
الإعراب
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
﴿يا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء للمتوسط، ولم يقع النداء في القرآن بغيرها من
﴿خَلَقَكُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. ﴿وَالَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب، معطوف على الكاف من ﴿خَلَقَكُمْ﴾، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ أي: وخلق الذين من قبلكم. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف صلة الموصول، تقديره: والذين مضوا من قبلكم. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ لعلّ حرف نصب وترج، أو حرف نصب وتعليل بمعنى: كي، مبنيّ على الفتح، والكاف ضمير المخاطبين في محل النصب اسمها. ﴿تَتَّقُونَ﴾ فعل وفاعل مرفوع بثبات النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لعلّ، تقديره: لعلكم متقون، ومفعول التقوى محذوف، تقديره: لعلّكم تتقونه، وجملة لعلّ من اسمها وخبرها لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ موقعها مما قبلها موقع الجزاء من الشرط؛ لأنّه في تقدير: إن عبدتم ربّكم ترجى لكم التقوى. أو في محلّ النصب حال من فاعل ﴿اعْبُدُوا﴾، تقديره: يا أيها الناس اعبدوا ربّكم حالة كونكم راجين نيل التقوى. أو في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلّقة باعبدوا تقديره: يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم لوقاية أنفسكم من عذاب الله تعالى.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً﴾.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَأَنْزَلَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على جعل ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ جار ومجرور متعلّق بأنزل ﴿ماءً﴾ مفعول به لأنزل ﴿فَأَخْرَجَ﴾ الفاء عاطفة سببية ﴿أخرج﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على أنزل. ﴿بِهِ﴾ متعلّق بأخرج ﴿مِنَ الثَّمَراتِ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال من رزقا؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿رِزْقًا﴾ مفعول به لأخرج ﴿لَكُمُ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف صفة ثانية لرزقا ﴿فَلا تَجْعَلُوا﴾ الفاء عاطفة تفريعية، أو فصيحية؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنّه خالق السموات والأرض وخالق ما فيهما لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: لا تجعلوا. ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَجْعَلُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف، مفعول ثان لجعل، مقدم على الأول وجوبا؛ لأنّ المفعول الأول نكرة ولم يوجد له مسوّغ إلا تقديم الجار والمجرور، ومعنى تجعلوا: لا تصيّروا، أو لا تسمّوا ﴿أَنْدادًا﴾ مفعول أول لتجعلوا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة اعبدوا ربكم، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو استئنافية ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه وحدّ الفعل: كن (كن) فعل ماض في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير لجماعة المخاطبين في محل الرفع اسمها، مبني على الضمّ، والميم: حرف دالّ على الجمع. ﴿فِي رَيْبٍ﴾ جار ومجرور، متعلّق بمحذوف خبر كان، تقديره: وإن كنتم كائنين في ريب.
فائدة: ولا تدخل ﴿إِنْ﴾ الشرطية على فعل ماض في المعنى، إلّا على كان؛ لكثرة استعمالها؛ ولأنّها لا تدلّ على حدث، ذكره أبو البقاء العكبري.
﴿مِمَّا﴾ من حرف جرّ، مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾، و ﴿ما﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة، في محل الجرّ بمن، الجار والمجرور متعلّق بمحذوف صفة لريب، تقديره: في ريب كائن من الذي نزلناه، أو كائن في شيء نزلناه على عبدنا. ﴿نَزَّلْنا﴾ فعل وفاعل، صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: من الذي نزلناه، أو من شيء نزلناه. ﴿عَلى عَبْدِنا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلّق بنزّلنا. ﴿فَأْتُوا﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبا: لكون الجواب جملة طلبية ﴿أتوا﴾ فعل أمر، مبني على حذف النون؛ لأنّه أمر من الأفعال الخمسة، والواو ضمير لجماعة المخاطبين، في محل الرفع فاعل، والألف تكتب للفرق، والجملة الفعليّة في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة مسوقة؛ للردّ على من ارتابوا في القرآن تعنّتا ولجاجا. ﴿بِسُورَةٍ﴾ جار ومجرور، متعلّق بأتوا، ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف صفة (لسورة) إن قلنا: إنّ الضمير عائد على القرآن، والمعنى على هذا يتناول عدة أمور:
٢ - فأتوا بسورة من مثله في غيبوبة أخباره، وأحاديثه عن الماضين، وتحدّثه عما سيكون.
٣ - فأتوا بسورة من مثله فيما انطوى عليه من أمر ونهي، ووعد وعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأمثال.
٤ - فأتوا بسورة من مثله في صدقه وصيانته من التحريف والتبديل.
الجار والمجرور متعلّق بأتوا إن قلنا: إنّ الضمير عائد على ﴿عَبْدِنا﴾، وفي معناه أيضا عدّة أمور:
(أ) فأتوا من مثل الرسول في كونه أمّيّا على الفطرة الأصلية، لا يقرأ ولا يكتب.
(ب) فأتوا من مثل الرسول في كونه لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يتعاط أخبار الأولين، ولم يؤثر ذلك عنه بحال من الأحوال.
(ج) فأتوا من مثل الرسول؛ أي: من كلّ رجل، كما تحسبونه في زعمكم شاعر أو مجنون. وكلا المعنيين واضح صحيح.
﴿وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.
﴿وَادْعُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على (أتوا) ﴿شُهَداءَكُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف حال من شهدائكم، تقديره: حال كونهم منفردين عن الله، أو مغايرين لله، أو متعلّق بادعوا؛ أي: وادعوا من دون الله شهداءكم. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، والتاء ضمير المخاطبين في محل الرفع اسمها ﴿صادِقِينَ﴾ خبرها، منصوب بالياء، وجواب الشرط معلوم مما قبله، تقديره: فافعلوا ذلك، كذا قال السيوطي قال
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ (الفاء) استئنافية أو فصيحية؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم فأقول: إن لم تفعلوا. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم ﴿لَمْ﴾ حرف جزم وقلب ونفي ﴿تَفْعَلُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿وَلَنْ﴾ الواو اعتراضية ﴿لَنْ﴾ حرف نفي ونصب واستقبال ﴿تَفْعَلُوا﴾ فعل مضارع منصوب بلن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الشرط وجوابه، قصد بها تأكيد العجز. ﴿فَاتَّقُوا﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبا، ﴿اتقوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محلّ الجزم بإن الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿النَّارَ﴾ مفعول به منصوب ﴿الَّتِي﴾ اسم موصول في محل النصب، صفة للنار ﴿وَقُودُهَا﴾ مبتدأ ومضاف إليه ﴿النَّاسُ﴾ خبر المبتدأ ﴿وَالْحِجارَةُ﴾ معطوف على الناس، والجملة الإسمية صلة الموصول ﴿أُعِدَّتْ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، والتاء علامة تأنيث نائب الفاعل، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على النار ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ جار ومجرور متعلّق بأعدّت، والجملة الفعلية في محل النصب حال لازمة من النار، تقديرها: حالة كونها معدّة مهيّئة للكافرين، أو مستأنفة، كما قاله أبو حيان، وابن عطية.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾.
﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾.
﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ﴾.
﴿أَنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد ومصدر ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم؛ لأنّ جَنَّاتٍ اسمها مؤخّر منصوب بالكسرة؛ لأنّه جمع مؤنّث سالم، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض المتعلّق ببشّر، تقديره: وبشّر الذين آمنوا بكون جنات تجري من تحتها الأنهار لهم؛ لأنّ حذف الجار مع أنّ وأن مطرد، كما قال في «الخلاصة»:
نقلا وفي أنّ وأن يطّرد | مع أمن لبس كعجبت أن يدوا |
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها منصوب ﴿لا﴾ نافية ﴿يَسْتَحْيِي﴾ فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يَضْرِبَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة ﴿يَضْرِبَ﴾ مع ﴿إِنَّ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، إن كان ﴿يَسْتَحْيِي﴾ يتعدّى بنفسه؛ أي: إنّ الله لا يستحيي ضرب مثل، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: من ضرب مثل، إن كان غير متعدّ بنفسه و ﴿يَضْرِبَ﴾ إما بمعنى: يبيّن متعدّ لواحد ﴿مَثَلًا﴾ مفعول به ﴿ما﴾ اسم مبهم بمعنى: أيّ مثل في محل النصب صفة لمثلا، أو زائدة زيدت؛ لتأكيد الخسّة، ﴿بَعُوضَةً﴾ بدل من مثلا، بدل كلّ من كلّ ﴿فَما فَوْقَها﴾ الفاء عاطفة ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب، معطوفة على ﴿بَعُوضَةً﴾، ﴿فوق﴾ منصوب على الظرفية المكانية، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه، والظرف متعلّق بمحذوف صلة لما، أو صفة لها، تقديره: فالذي استقرّ فوقها، أو فشيئا مستقرّا فوقها، وإما بمعنى: يجعل فمتعدّ لاثنين. ﴿مَثَلًا﴾ مفعول أول، و ﴿ما﴾ زائدة بَعُوضَةً مفعول ثان، فَما فَوْقَها معطوف عليه، ويحتمل كون بَعُوضَةً مفعولا أوّل مؤخرا، ومَثَلًا مفعولا ثانيا مقدّما للاهتمام به. وقرىء بَعُوضَةً بالرفع شاذا، كما مرّ، على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو بعوضة، والجملة الإسمية في محل النصب صفة لـ ﴿مَثَلًا﴾، و ﴿ما﴾ زائدة، تقديرها: مثلا موصوفا بكونه بعوضة فما فوقها. ﴿فَأَمَّا﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّ الله لا يستحيي من ضرب المثل، وأردت بيان فائدة ذلك المثل فأقول لك: أمّا. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿فَيَعْلَمُونَ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿أما﴾، واقعة في غير موضعها للثقل، لأنّ موضعها موضع ﴿أما﴾. ﴿يعلمون﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: فأمّا الذين آمنوا فعالمون أنّه الحقّ، والجملة الاسمية جواب ﴿أَمَّا﴾ لا محلّ لها من الإعراب، وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب مقول
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ الواو عاطفة ﴿أَمَّا﴾ حرف شرط وتفصيل ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿فَيَقُولُونَ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿يقولون﴾ خبر المبتدأ، تقديره: (وأمّا الذين كفروا فقائلون ماذا أراد الله بهذا مثلا). والجملة الإسمية جواب ﴿أَمَّا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب معطوفة على جملة أمّا الأولى ﴿ماذا﴾ ما: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ذا اسم موصول بمعنى: الذي، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ليقولون ﴿أَرادَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لذا الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما الذي أراده الله، وإن شئت قلت: ﴿ماذا﴾ اسم استفهام مركب في محلّ النصب مفعول به مقدم وجوبا لأراد الله، وجملة ﴿أَرادَ اللَّهُ﴾ في محلّ النصب مقول ليقولون؛ أي: يقولون: أيّ شيء أراد الله بهذا مثلا. ﴿بِهذا﴾ جار ومجرور، متعلّق بأراد ﴿مَثَلًا﴾ تمييز ذات لاسم الإشارة، منصوب به، ﴿يُضِلُّ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، ﴿بِهِ﴾ متعلّق بيضلّ، ﴿كَثِيرًا﴾ مفعول به، منصوب، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا، جارية مجرى التفسير، والبيان للجملتين المصدّرتين بأمّا، وهي على هذا من كلام الله تعالى. وقيل: في محل النصب صفة لمثلا، تقديره: مثلا يفترق به الناس إلى ضالّين ومهتدين، وهي على هذا من كلام الكفار، وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من اسم الله؛ أي: مضلّا به كثيرا وهاديا به كثيرا. ﴿وَيَهْدِي﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على يضلّ
﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محلّ نصب صفة للفاسقين ﴿يَنْقُضُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿عَهْدَ اللَّهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور، متعلّق بينقضون ﴿مِيثاقِهِ﴾ مضاف إليه، والضمير إما عائد على الله، أو على العهد، كما مرّ. ﴿وَيَقْطَعُونَ﴾ فعل
وفاعل، معطوف على ﴿يَنْقُضُونَ﴾. ﴿ما﴾ اسم موصول في محلّ النصب مفعول به. ﴿أَمَرَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ﴿بِهِ﴾ متعلّق بأمر، والجملة الفعلية صلة لما الموصولة. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يُوصَلَ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بأن، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مجرور على أنّه بدل من ضمير ﴿بِهِ﴾ بدل كلّ من كلّ؛ أي: ويقطعون ما أمر الله بوصله، أو مفعول لأجله، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: كراهية وصله، أو لئلّا يوصل.
﴿وَيُفْسِدُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿وَيَقْطَعُونَ﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلّق بيفسدون ﴿أُولئِكَ﴾ اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل، أو حرف عماد لا محل له من الإعراب ﴿الْخاسِرُونَ﴾ خبر المبتدأ، ولك أن تعرب ﴿هُمُ﴾ مبتدأ. و ﴿الْخاسِرُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محلّ الرفع خبر ﴿أُولئِكَ﴾ وجملة ﴿أُولئِكَ﴾ مستأنفة.
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل النصب على الحال من
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿خَلَقَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾ متعلّق بخلق، والجملة صلة الموصول ﴿ما﴾ اسم موصول في محلّ النصب مفعول خلق ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف صلة لما الموصولة، ﴿جَمِيعًا﴾ حال من المفعول الذي هو ما الموصولة، ولكنه في تأويل مشتقّ، تقديره: مجتمعين. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿اسْتَوى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ﴿إِلَى السَّماءِ﴾ متعلّق باستوى، والجملة معطوفة على جملة خلق، وعطف بثمّ؛ إشعارا بأنّ خلق السماء متأخر عن خلق الأرض بأعمال أخر، كجعل الجبال رواسي، وتقدير الأقوات فيها. ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب (سوّى) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والهاء ضمير لجماعة الإناث الغائبات في محل النصب مفعول به
التصريف ومفردات اللغة
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ والناس أصله: أناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، وعوّض عنها (أل)، فلا يجمع بينهما. اه. شيخنا. ﴿اعْبُدُوا﴾ والعبادة: خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود. ﴿رَبَّكُمُ﴾ والربّ: هو الذي يسوس من يربيه، ويدبر شؤونه. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وفي «السمين» ما نصه: وإذا ورد (لعلّ) في كلام الله تعالى فللناس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ لعلّ على بابها من الترجي والإطماع، ولكنه بالنسبة إلى المخاطبين؛ أي: لعلكم تتقون على رجائكم وطمعكم. وقد نصّ على هذا التأويل سيبويه في «كتابه» في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾؛ أي: اذهبا على رجائكما، وكذا نصّ عليه الزمخشري في «كشافه».
والثاني: أنّها للتعليل؛ أي: اعبدوا ربّكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب، واختاره الطبري في «تفسيره الكبير».
والثالث: أنّها للتعريض للشيء، كأنّه قيل افعلوا ذلك متعرّضين لأن تتقوا، نصّ عليه أبو البقاء، واختاره المهدوي في «تفسيره» الممتع. وهذه الجملة على كلّ قول متعلّقة من جهة المعنى باعبدوا؛ أي: اعبدوه على رجائكم التقوى، أو لتتقوا، أو متعرّضين للتقوى.
﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا﴾ والفراش: واحد الفرش، وفرش الشيء يفرشه بالضمّ فراشا إذا بسطه. ﴿وَالسَّماءَ بِناءً﴾ أصله: بناي بدليل قوله: بنيت بنيانا، فلما تطرّفت الياء بعد ألف زائدة قلبت همزة، وهذا مطّرد في كلّ واو أو ياء تطرّفتا بعد ألف زائدة. وفي «السمين»: والبناء مصدر بنيت، وإنّما قلبت الياء همزة؛ لتطرّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول. اه. وأصل معنى البناء:
وضع شيء على شيء آخر، بحيث يتكوّن من ذلك شيء بصورة خاصة، كوضع حجر على حجر ليتكوّن البيت. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ فيه إعلال بالقلب والإبدال. أصله: موه، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فصار ماه، فاجتمع حرفان ضعيفان: الألف والهاء، فأبدلت الهاء حرفا قويا وهو الهمزة؛ ليتقوى بها الضعيف، ودليل ذلك: أنه يصغر على مويه، أما جمعه على مياه، فلإبدال الواو ياء لانكسار ما قبلها، كما فعلوا في ديار إذ الأصل مواه ودوار، وقد جمع على الأصل فقيل: أمواه ﴿أَنْدادًا﴾ جمع ند بكسر النون وهو المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المساوي قال جرير:
أتيم تجعلون إليّ ندّا | وهل تيم لذي حسب نديد |
﴿فَأْتُوا﴾ أصله: ائتيوا أمر من أتى الثلاثي يائيّ اللام اتصل به واو الجماعة، فوزنه الأصلي افعلوا، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء لمّا سكّنت؛ لالتقاء الساكنين على حد قول ابن مالك في «الكافية»:
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق | وإن يكن لينا فحذفه استحق |
﴿بِسُورَةٍ﴾ السورة: الطائفة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، ومن معانيها: المرتبة الرفيعة، قال النابغة الذبياني:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة | ترى كلّ ملك دونها يتذبذب |
﴿شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ والشهداء: جمع شهيد، كشرفاء جمع شريف، وعليم وعلماء، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد، كشاعر وشعراء، وليس فعلاء مقيسا لباب فاعل، كما في «البحر» والشهيد الحاضر، أو الناصر، أو القائم بالشهادة، أو الإمام، وكأنه سمّي به؛ لأنه يحضر المجالس، وتبرم بمحضره الأمور ومعنى ﴿دُونِ﴾ أدنى مكان من الشيء، ومنه: تدوين الكتب؛ لأنه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا؛ أي: خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للتفاوت في الرتب، فقيل: زيد دون عمرو؛ أي: في الشرف، ومنه: الشيء الدّون، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد، وتخطى أمر إلى أمر قال الله تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين، وهي من الظروف المكانية الملازمة الحقيقية، أو المجازية، ولا يتصرف فيه بغير من، وتجىء دون صفة بمعنى: ردىء، يقال: ثوب دون؛ أي: ردىء. حكاه سيبويه في أحد قوليه. فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون مشتركا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ والصدق يقابله الكذب وهو: مطابقة الخبر للمخبر عنه. ﴿فَاتَّقُوا﴾ أصله: اتقيوا، استثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء، ثم ضم ما قبلها؛ لمناسبة الواو ﴿وَقُودُهَا﴾ بفتح الواو وهو: ما توقد به النار من حطب، أو غيره. وأما بضمها فهو: مصدر وقد، وكذا يقال فيما جاء على هذا الوزن، كالوضوء والطّهور والسّحور، وهذه التفرقة على المشهور في أن المفتوح: اسم للآلة والمضموم مصدر، وبعضهم قال: كل من الضم والفتح يجري في الآلة
﴿وَالْحِجارَةُ﴾ جمع الحجر، والتاء فيها لتأكيد تأنيث الجمع، كالفحولة.
﴿أُعِدَّتْ﴾ أصله: أعددت، نقلت حركة الدال الأولى إلى العين، فسكّنت فأدغمت في الدال الثانية.
﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ أصل الكلمة: أتيوا بوزن فعلوا بالبناء للمجهول، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فسكنت الياء فحذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي أسند إليها الفعل، فوزنه الأصلي فعلوا، ووزنه الحاليّ فعوا؟
﴿وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ﴾ جمع زوج، والزوج: ما يكون معه آخر، فيقال: زوج للرجل والمرأة، وأمّا زوجة بالتاء فقليل. ونقل الفراء أنها لغة تميم، والزوج أيضا: الصنف والتثنية زوجان.
﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ والطهارة النظافة، والفعل منها: طهر بالفتح من باب قتل، ويقل الضم من باب قرب، واسم الفاعل: طاهر فهو مقيس على الفتح شاذ على الضم، كخاثر، وحامض من خثر اللبن، وحمض بضم العين. اه. «سمين». ﴿وَهُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ والمراد بالخلود هنا: الدوام لما يشهد له من الآيات والأحاديث، وأصله: ثبات طويل المدة دام أو لم يدم، ولذا يوصف بالأبدية. اهـ. كرخي.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي﴾ بياءين أولاهما عين الكلمة، والثانية لامها والحاء فاؤها، وفي «السمين»: واستفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد؛ أي: إنه موافق له، فإنه قد ورد حيي واستحيا بمعنى واحد، والمشهور استحيا يستحيي فهو مستحي ومستحي منه من غير حذف، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح، مثل: استقى يستقي، وقد قرىء به كما مر، واختلف في المحذوف، فقيل: عين الكلمة فوزنه يستفل، وقيل: لامها فوزنه يستفع، ثم نقلت حركة اللام على القول الأول، وحركة العين على القول الثاني إلى الفاء وهي الحاء. والحياء لغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، أو يذم عليه، واشتقاقه من الحياة؛ ومعناه على ما قاله الزمخشري: نقصت حياته واعتلت مجازا واستعماله هنا في حق الله
يريد، وسقطت في المصدر؛ لاجتماعها مع ألف الإفعال على أن المحذوف هي لا ألف الإفعال، أما على مقتضى قول ابن مالك:
وألف الإفعال واستفعال أزل.
فلم تحذف في المصدر، والهاء عوض عن المحذوفة منهما ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ أصله: يضلل بوزن يفعل، فنقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أصله: يهدي بوزن يفعل، سكنت الياء؛ لوقوعها إثر كسرة، فصارت حرف مد ﴿إِلَّا الْفاسِقِينَ﴾؛ أي:
الخارجين عن طاعة الله تعالى، وفي «المصباح»: فسق فسوقا من باب قعد خرج عن الطاعة، والاسم: الفسق، وفسق يفسق بالكسر من باب جلس. لغة حكاها الأخفش، فهو فاسق، والجمع فساق وفسقة. اهـ.
﴿مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ أصل ميثاق: موثاق من الموثق بوزن مفعال، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة. ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ جمع. خاسر، والخاسر: من خسر أحد أمور ثلاثة المال، والبدن، والعقل، وهؤلاء من الثالث. اه. كرخي.
وفي «القاموس»: خسر، كفرح وضرب، خسرا وخسرا، وخسرا، وخسرا وخسرانا، وخسارة، وخسارا: ضلّ، فهو خاسر، وخسير، وخسر التاجر إذا غبن في تجارته، والخسر: النقص، كالإخسار والخسران. اه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: ذكر عنوان الربوبية في قوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ مع إضافته إلى المخاطبين؛ للتفخيم والتعظيم.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً﴾ فقد قابل بين الأرض والسماء، والفراش والبناء.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿عَلى عَبْدِنا﴾؛ لأنه أشرف أسمائه صلّى الله عليه وسلّم.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا﴾ الخ.
إلى التكلم في قوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ لما فيه من التفخيم للمنزّل والمنزل عليه، ما لا يؤدّيه ضمير غائب لو قال مما نزل على عبده، لا سيما كونه أتى بـ (نا) المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر، ونظيره ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا﴾.
ومنها: تنكير السورة؛ لإرادة العموم والشمول.
ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾؛ لبيان التحدي في الماضي والمستقبل، وبيان العجز التام في جميع العصور
والأزمان، ومن أمثلة الاعتراض، قول عوف بن محلّم الخزاعيّ:
إنّ الثمانين قد بلّغتها | قد أحوجت سمعي إلى ترجمان |
ومنها: إيجاز القصر في قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ والإيجاز: هو جمع المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل، مع الإبانة والإفصاح؛ لأن المعنى: فإن عجزتم عن الإتيان بما ذكر في الحال، والمستقبل، والماضي، فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ والعلاقة المحلية، هذا إذا كان النهر مجرى الماء، كما قال بعض علماء اللغة، أما إذا كان بمعنى الماء في المجرى، فلا مجاز فيه.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ﴾ وسمي بليغا؛ لأنّ أداة التشبيه فيه محذوفة، فساوى طرفا التشبيه في المرتبة.
ومنها: وصف الأزواج بمطهرة في قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ ولم يقل: طاهرة أو متطهرة؛ للإشعار بأنّ لهن مطهّرا طهرهن، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي﴾ من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. المعنى: إن الله لا يترك أن يبين مثلا، فعبّر بالحياء عن الترك؛ لأنّ الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه، كما أفاده الزمخشري.
ومنها: زيادة ما في قوله: ﴿مَثَلًا ما بَعُوضَةً﴾ لتأكيد خسة الممثّل به وهو البعوض، وغيره، والمراد بقولنا: زيادة ما؛ لتأكيد الخسة رفع ما يقال، إن القرآن مصون عن الحشو والزائد حشو. وعبارة ابن السبكي: ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة، خلافا للحشوية، ومحصل جوابه: أنّ زيادتها لفائدة، وهي التأكيد، فليست حشوا محضا. وعبارة البيضاوي: ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى وبيان، بل مرادنا بالمزيد، هو الذي لم يوضع لمعنى يراد منه، وإنما وضع ليذكر مع غيره فيفيد الكلام وثاقة وقوّة، وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه. انتهت. أفاده في «الفتوحات».
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النقض، على سبيل الاستعارة المكنية، لأنه إحدى حالتي الحبل، وهما النقض والإبرام.
ومنها: الإلتفات من الغيبة في قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الخ. إلى الخطاب في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ لغرض التوبيخ، والتقريع، والتعجيب.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ وقوله: ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، وبين ﴿يَقْطَعُونَ﴾ و ﴿يُوصَلَ﴾.
ومنها: تقديم الإضلال فيهما على الهداية، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب، أمرا فظيعا يسوؤهم ويفتت أكبادهم.
ومنها: إيثار صيغة الاستقبال فيهما؛ إيذانا بالتجدد والاستمرار. اه. «أبو السعود».
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله أعلم
* * *
﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى، لما امتنّ على العباد بنعمة الخلق والإيجاد، وأنه سخرّ لهم ما في الأرض جميعا، أتبع ذلك بذكر بدء خلقهم، وامتنّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة في الأرض، وإسكانه دار الكرامة، وأمر الملائكة بالسجود له؛ تعظيما لشأنه، ولا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء.
فائدة: والحكمة في إخبار الله تعالى للملائكة، عن خلق آدم واستخلافه في الأرض؛ تعليم لعباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها.
وفي «المراح» روى الضحاك عن ابن عباس: أنه تعالى إنما (٤) قال هذا القول، للملائكة الذين كانوا في الأرض محاربين مع إبليس، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا، بعث الله إبليس مع جند من الملائكة، فقتلهم إبليس مع عسكره حتى أخرجوهم من الأرض، وألحقوهم بجزائر البحر، وهؤلاء خزّان الجنان، أنزلهم الله تعالى من السماء إلى الأرض؛ لطرد الجن إلى الجزائر والجبال، وسكنوا الأرض، فخفف الله عنهم العبادة، وكان إبليس يعبد الله، تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة، فدخله العجب، فقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه، فقال تعالى له ولجنده هذا الكلام.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها:
(٢) شهيل.
(٣) ابن جرير.
(٤) المراح.
قوله تعالى: ﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما شرف آدم برتبة العلم بإسجاد الملائكة له، امتّن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم وأباح له جميع ما فيها إلا الشجرة، على ما سيأتي فيها إن شاء الله تعالى. ذكره في «البحر».
التفسير وأوجه القراءة
٣٠ - ﴿وَإِذْ﴾ مفعول اذكر مقدرا؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك وأخبرهم ﴿إذ قالَ رَبُّكَ﴾؛ أي: قصة ذلك الوقت، وتوجيه (١) الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث، مع أنها المقصودة بالذات؛ للمبالغة في إيجاب ذكرها؛ لما أن إيجاب ذكر الوقت، إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني؛ ولأن الوقت مشتمل عليها، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها، كأنّها مشاهدة عيانا، واللام في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ للتبليغ وتقديم الجار والمجرور في هذا الباب مطرد؛ لما في المقول من الطول غالبا مع ما فيه من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر، والملائكة (٢): جمع ملك بوزن فعل، قاله ابن كيسان، وقيل: جمع ملأك بوزن مفعل، قاله أبو عبيدة من لأك إذا أرسل، والألوكة: الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلته أمّه... بألوك فبذلنا ما سأل
وقال عديّ بن زيد:
(٢) الشوكاني.
أبلغ النّعمان عنّي مألكا | أنّه قد طال حبسي وانتظار |
واعلم (١) أن الله تعالى، يحفظ العالم بالخليفة، كما يحفظ الخزائن بالختم، فالبدء كان آدم، والختام يكون بعيسى عليه السلام، والحكمة في الاستخلاف: قصور المستخلف عليه عن قبول فيضه، وتلقّي أمره بغير واسطة؛ لأن المفيض
الأول: تعليم المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة، ويقال: أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولى الألباب، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط، وأورع النساء لا تستغني عن الزوج.
والثاني: إظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم، وهو قوله: ﴿أَتَجْعَلُ﴾. إلخ. وجوابه وهو قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
والثالث: تعظيم شأن المجعول، بأن بشر بوجوده سكان ملكوته، ولقّبه بالخليفة قبل خلقه.
والرابع: بيان أن الحكمة تقتضي ما يغلب خيره، فإن ترك الخير الكثير، لأجل الشر القليل، شرّ كثير، كقطع العضو الذي فيه أكلة شرّ قليل، وسلامة جميع البدن، خير كثير، فلو لم يقطع ذلك العضو، سرت تلك الآفة إلى جميع البدن، وأدّت إلى الهلاك الذي هو شرّ كثير.
﴿قالُوا﴾؛ أي: قالت الملائكة استكشافا عما خفي عليهم من الحكمة، لا اعتراضا على الله تعالى، ولا طعنا في بني آدم على سبيل الغيبة، وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا، كأنه قيل: فماذا قالت الملائكة حينئذ، فقيل: قالوا:
وفي قوله: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ إيماء (٢) إلى أن ملائكة الأرض هم الطاعنون، إذ الظن لا يصدر إلا ممن هو في معرض ذلك المنصب، وأهل السموات مدبّرات للعالم العلوي، فما قالت الملائكة الأرضية إلا بمقتضى نشأتهم التي هم عليها، من غبطة منصب الخلافة في الأرض، والغيرة على منصب ملكهم وتعبّدهم، بما هم عليه من التسبيح والتقديس، فكلّ إناء يترشّح بما فيه، وأما الاعتراض على فعل الحكيم، والنزاع في صنعه عند حضرته، فمعفو عنه؛ لكمال حكمته، وفي «الفتوحات»: إن هاروت وماروت من الملائكة الذين نازعوا آدم، ولأجل هذا ابتلاهما الله تعالى بإظهار الفساد، وسفك الدماء، فافهم سرّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «دع الشّماتة عن أخيك، فيعافيه الله تعالى، ويبتليك» وأيضا من تلك الملائكة الطاعنين بسفك الدماء: الملائكة التي أرسلها الله تعالى نصرة للمجاهدين، وسفك الدماء غيرة على دين الله وشرعه، كذا في «حل الرموز وكشف الكنوز».
﴿وَنَحْنُ﴾؛ أي: والحال إنّا ﴿نُسَبِّحُ﴾؛ أي: ننزهك عن كل ما لا يليق
(٢) روح البيان.
والحاصل: أنه سبحانه وتعالى، لما أخبر (٢) الملائكة عن وجه الحكمة في
(٢) البحر المحيط.
﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ﴾ وهل التعليم بتكليم الله تعالى له في السماء، كما كلم موسى في الأرض، أو بواسطة ملك، أو بالإلهام (١) أقوال أظهرها: أن الباري سبحانه هو المعلم، لا بواسطة، ولا إلهام. وقرأ اليمانيّ، ويزيد اليزيديّ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ﴾ مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل؛ للعلم به. والتضعيف في علّم؛ للتعدية، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد، فعدّي به إلى اثنين، وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازما، أم كان متعديا، نحو: علّم المتعدية إلى واحد، وأما إن كان متعديا إلى اثنين، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاثة.
فصل في قصة خلق آدم عليه السلام
قال وهب بن منبه (٢): لما أراد الله أن يخلق آدم، أوحى إلى الأرض؛ أي: أفهمها وألهمها أني جاعل منك خليفة، فمنهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار، فقالت الأرض: مني تخلق خلقا يكون للنار؟ قال: نعم، فبكت فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، وبعث إليها جبريل عليه السلام؛ ليأتيه بقبضة من زواياها الأربع، من أسودها، وأبيضها، وأحمرها، وأطيبها، وأخبثها، وسهلها، وصعبها، وجبلها، فلما أتاها جبريل ليقبض منها، قالت الأرض: بالله الذي أرسلك، لا تأخذ مني شيئا، فإن منافع التقرب إلى
(٢) روح البيان.
وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا! فقبض قبضة من وجه الأرض، مقدار أربعين ذراعا من زواياها الأربع، فلذلك يأتي بنوه أخيافا؛ أي: مختلفين على حسب اختلاف ألوان الأرض وأوصافها، فمنهم الأبيض، والأسود، والأحمر، واللين، والغليظ، فصار كل ذرة من تلك القبضة أصل بدن للإنسان، فإذا مات يدفن في الموضع الذي أخذت منه، ثم صعد إلى السماء، فقال الله سبحانه له: (أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك)، فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها، فقال: أنت تصلح لقبض أرواح ولده. قال في «روضة العلماء»: فشكت الأرض إلى الله تعالى، وقالت: يا رب نقص مني! قال الله تعالى: (عليّ أن أرد إليك أحسن وأطيب ممن كان) فمن
ثمّة يحنط الميت بالمسك والغالية. انتهى.
فأمر الله تعالى عزرائيل، فوضع ما أخذ من الأرض في وادي نعمان بين مكة والطائف، بعد ما جعل نصف تلك القبضة في النار، ونصفها في الجنة، فتركها إلى ما شاء الله، ثم أخرجها، ثم أمطر عليها من سحاب الكرم، فجعلها طينا لازبا، وصور منه جسد آدم.
واختلفوا في خلقة آدم عليه السلام، فقيل: خلق في سماء الدنيا، وقيل:
في جنة من جنات الأرض بغربيتها، كالجنة التي يخرج منها النيل، وغيره من الأنهار، وأكثر المفسرين: أنه خلق في جنة عدن، ومنها أخرج، كما في «كشف الكنوز». وفي الحديث القدسي: (خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا) يعني أربعين يوما، كل يوم منه ألف عام من أعوام الدنيا، فتركه أربعين سنة حتى يبس وصار صلصالا، وهو الطين المصوت من غاية يبسه، كالفخار، فأمطر عليه مطر
وكانت الملائكة يمرون عليه، ويتعجبون من حسن صورته، وطول قامته؛ لأن طوله كان خمس مئة ذراع، الله أعلم بأيّ ذراع، وكان رأسه يمسّ السماء، ولم يكونوا رأوا قبل ذلك صورة تشابهها، فمرّ به إبليس فرآه، ثم قال: لأمر ما خلقت، ثم ضربه بيده فإذا هو أجوف، فدخل من فيه وخرج من دبره، وقال لأصحابه الذين معه من الملائكة: هذا خلق أجوف لا يثبت ولا يتماسك، ثم قال لهم: أرأيتم إن فضّل هذا عليكم ما أنتم فاعلون. قالوا: نطيع ربنا، فقال إبليس في نفسه: والله لا أطيعه إن فضّل عليّ، ولئن فضّلت عليه لأهلكنه، وجمع بزاقه في فمه وألقاه عليه، فوقع بزاق اللعين على موضع سرة آدم عليه السلام، فأمر الله جبريل، فقور بزاق اللعين من بطن آدم، فحفرة السرة من تقوير جبريل، وخلق الله من تلك القوارة كلبا، وللكلب ثلاث خصال، فأنسه بآدم؛ لكونه من طينه، وطول سهره في الليل؛ من أثر مس جبريل عليه السلام، وعضه الإنسان، وغيره، وأذاه من غير خيانة من أثر بزاق اللعين، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة، وسمي بآدم؛ لكونه من أديم الأرض؛ لأنه مؤلّف من أنواع ترابها، ولمّا أراد الله سبحانه أن ينفخ فيه الروح، أمره أن يدخل فيه، فقال: الروح موضع بعيد القعر، مظلم المدخل، فقال له: ثانيا: أدخل، فقال كذلك، فقال له ثالثا:
فقال كذلك، فقال: أدخل كرها؛ أي: بلا رضى، واخرج كرها، ولذا لا يخرج من البدن إلا كرها، فلما نفخه فيه مرّ في رأس آدم، وجبينه، وأذنيه، ولسانه، ثم مرّ في جسده كله حتى بلغ قدميه، فلم يجد منفذا، فرجع إلى فخذيه، فعطس، فقال له ربّه: قل الحمد لله رب العالمين، فقالها آدم، فقال سبحانه له: يرحمك الله، ولذا خلقتك يا آدم، فلما انتهى إلى ركبتيه أراد الوثوب فلم يقدر فلما بلغ قدميه وثب، فقال تعالى: ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا﴾ فصار بشرا لحما ودما، وعظاما وعصبا، وأحشاء، ثم كساه لباسا من ظفر يزداد جسده في كل يوم، وهو في ذلك منتطق متوج، وجعل في جسده تسعة أبواب، سبعة في رأسه، أذنين يسمع بهما،
بتسمية الأشياء من عنده، فعلمه جميع أسماء المسميات بكل اللّغات، بأن أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وعلّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينية والدنيوية، وعلمه أسماء الملائكة، وأسماء ذريته كلهم، وأسماء الحيوانات والجمادات وصنعة كل شيء، وأسماء المدن والقرى، وأسماء الطير والشجر وما يكون، وكل نسمة يخلقها إلى يوم القيامة، وأسماء المطعومات والمشروبات، وكل نعيم في الجنة، وأسماء كل شيء حتى القصعه والقصيعة، وحتى الجنّة والمحلب - والقصعة إناء الأكل معروف، والقصيعة تصغيرها يعني: حتى الوضيع والحقير، والجنة الترس، والمحلب إناء يحلب فيه.
وفي الخبر: لما خلق الله آدم، بثّ فيه أسرار الأحرف، ولم يبث في أحد من الملائكة، فخرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات، فجعلها الله صورا له ومثلت له بأنواع الأشكال. وفي الخبر: علّمه سبعمائة ألف لغة، فلما وقع في أكل الشجرة سلب اللغات إلا العربية، فلما اصطفاه بالنبوة رد الله عليه جميع اللغات، فكان من معجزاته، تكلمه بجميع اللغات المختلفة التي يتكلّم بها أولاده إلى يوم القيامة، من العربية، والفارسية، والرومية، والسريانية، واليونانية، والعبرانية، والزنجية، والآراميّة، وغيرها.
قال بعض المفسرين: علم الله آدم ألف حرفة من المكاسب، ثم قال: قل لأولادك: إن أردتم الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف، ولا تطلبوها بالدين وأحكام الشرائع. وكان آدم حراثا؛ أي: زراعا، ونوح نجارا، وإدريس خياطا، وصالح تاجرا، وداود زرّادا، وسليمان كان يعمل الزنبيل في سلطنته، ويأكل من ثمنه ولا
٣١ - وقال العلماء: الأسماء في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ﴾ تقتضي الاستغراق واقتران قوله ﴿كُلَّها﴾ يوجب الشمول، فكما علمه أسماء المخلوقات علّمه أسماء الحق تعالى، فإذا كان تخصيصه بمعرفة أسماء المخلوقات يقتضي أن يصح سجود الملائكة له، فما الظنّ بتخصيصه بمعرفة أسماء الحق، وما الذي يوجب له؟!
﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾؛ أي: ثم عرض الله سبحانه وتعالى مسميات تلك الأسماء وأظهرها عَلَى الْمَلائِكَةِ وسألهم عن أسمائها تبكيتا لهم، وإظهارا لفضل آدم عليه السلام، وذكّر (١) الضمير في قوله: ﴿عَرَضَهُمْ﴾؛ لأن في المسميات العقلاء فغلّبهم على غيرهم، والعرض: إظهار الشيء للغير ليعرف العارض منه حاله.
وفي الخبر: أنه عرضهم أمثال الذر، ولعله سبحانه وتعالى، عرض عليهم من أفراد كل نوع، ما يصلح أن يكون أنموذجا يتعرف منه أحوال البقية وأحكامها.
والحكمة في التعليم والعرض؛ تشريف آدم واصطفاؤه، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى، على لسان من يشاء من عباده، وهو المعلّم المكرّم آدم الصفيّ، كيلا يحتجّ الملك وغيره عليه بعلمه ومعرفته، وذلك رحمة الله التي وسعت كل شيء. وثمّ (٢): حرف تراخ ومهلة؛ يعني: علّم آدم، ثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال: أنبئهم بأسمائهم ليتقرّر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم؛ ثم أخبرهم عما تحقق به واستيقنه. وأما الملائكة، فقال لهم على وجه التعقيب من غير مهلة: نبئوني، فلما لم يتقدّم لهم تعريف، لم يخبروا، ولمّا تقدم لآدم التعليم، أجاب وأخبر ونطق؛ إظهارا لعنايته السابقة به سبحانه.
(٢) البحر المحيط.
﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾؛ أي: ثم أطلع الملائكة على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام، أو غيره، مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها، كما مرّ. وتقدم لك أن الحكمة في التعليم والعرض؛ تشريف آدم واصطفاؤه، كي لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم؛ وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده.
﴿فَقالَ﴾ الله سبحانه وتعالى للملائكة تبكيتا وتعجيزا لهم، وخطاب (٣) التعجيز جائز، وهو الأمر بإتيان الشيء، ولم يكن إتيانه مرادا ليظهر عجز المخاطب، وإن كان ذلك محالا، كالأمر بإحياء الصورة التي يفعلها المصورون يوم القيامة، ليظهر عجزهم ويحصل لهم الندم، ولا ينفعهم الندم. والفاء (٤) في قوله: ﴿فَقالَ﴾ للتعقيب؛ أي: ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
وقرأ الأعمش (١): ﴿نبّوني﴾ بغير همز. وقد استدل بقوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ على جواز تكليف ما لا يطاق، وهو استدلال ضعيف؛ لأنه على سبيل التبكيت، ويدل عليه قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ وظاهر قوله: ﴿هؤُلاءِ﴾ حضور أشخاص من الموجودات حالة العرض على الملائكة، ومن قال إن المعروض إنما هي أسماء فقط، جعل الإشارة إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها سبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم: لأيّ شخص هذا الاسم؟
وهذا فيه بعد وتكلّف، وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته، كما ينبىء عنه مقالكم، وهذا شرط (٢) جوابه محذوف، تقديره: فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبئوني السابق هو الجواب. هذا مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، وخالف الكوفيون، وأبو زيد، وأبو العباس، فزعموا: أن جواب الشرط هو المتقدم في نحو هذه المسألة، والصدق هنا هو الصواب، أي: إن كنتم مصيبين، كما يطلق الكذب على الخطأ، كذلك يطلق الصدق على الصواب، ومتعلق الصدق فيه أقوال: إن كنتم صادقين في أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه؛ لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض، أو فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أفضل منه، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم، أو إني إن استخلفتكم فيها سبحتموني وقدستموني، وإن استخلفت غيركم عصاني، أو في قولكم: إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق، إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به. قاله ابن مسعود، وابن عباس، أو في ذلك الإنباء، وجواب السؤال بالأسماء.
وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف؛ لعصمة
(٢) البحر المحيط.
وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو: ﴿هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فورش، وقنبل، يبدلان الثانية ياء ممدودة، إلا أن ورشا في ﴿هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ﴾ و ﴿عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ﴾ أبدل الهمزة الثانية ياء خفيفة الكسر، أي: مختلة الكسر، وقالون، والبزي، يسهّلان الأولى، ويحققان الثانية. ذكره في «البحر».
ويقال: هذه الآية دليل (١) على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد، تعلم علم اللغة؛ لأنه تعالى أراهم فضل آدم بعلم اللغة، ودلت أيضا: أن المدعي يطالب بالحجة، فإن الملائكة ادعوا الفضل، فطولبوا بالبرهان، وبحثوا عن الغيب، فقرعوا بالعيان؛ أي: لا تعلمون أسماء ما تعاينون، فكيف تتكلمون في فساد من لا تعاينون. فيا أرباب الدعاوي! أين المعاني؟ ويا أرباب المعرفة! أين المحبة؟ ويا أرباب المحبة! أين الطاعة؟ قال أبو بكر الواسطي: من المحال أن يعرفه العبد، ثم لا يحبه، ومن المحال أن يحبه، ثم لا يذكره، ومن المحال أن يذكره، ثم لا يجد حلاوة ذكره، ومن المحال أن يجد حلاوة ذكره، ثم يشتغل بغيره. قال أبو عثمان المغربي: ما بلاء الخلق إلا الدعاوي، ألا ترى أن الملائكة لمّا قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا: ﴿لا علم لنا﴾ ذكره في «البحر».
٣٢ - وقوله: ﴿قالُوا﴾ استئناف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا حينئذ؟ هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أولا؟ فقيل: قالوا؛ أي: قالت الملائكة اعترافا لعجزهم وقصورهم ﴿سُبْحانَكَ﴾؛ أي: تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك، وتبنا إليك من ذلك القول، أو نسبّحك عما لا يليق بشأنك الأقدس، من الأمور التي من جملتها خلوّ أفعالك عن الحكم والمصالح، وهي كلمة تقدّم على التوبة. قال موسى عليه السلام: ﴿سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ وقال يونس عليه السلام: ﴿سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وسبحان: اسم واقع
أقول لمّا جاءني فخره | سبحان من علقمة الفاخر |
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به | وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد |
والمعنى: أي (١) لا معلوم عندنا إلا المعلوم الذي علمتناه من المسميات، فلا علم لنا بأسمائها؛ أي: وإنما قلنا لك: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها﴾؛ لأنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقلنا لك ذلك، وأمّا هذه الأسماء، فإنك ما أعلمتنا إياها فكيف نعلمها، ثم أكدوا ما تقدم بقولهم: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ ضمير فصل لا محل له من الإعراب، أو في محل النصب تأكيد لاسم إن ﴿الْعَلِيمُ﴾ الذي أحاط بعلمه كل الأشياء فلا تخفى عليه خافية، وهذه إشارة إلى تحقيقهم لقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾. ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه، المحكم
وقال العلماء: قول الشخص لا أدري نصف العلم، وسئل (٣) أبو يوسف القاضي عن مسألة؟ فقال: لا أدري، فقالوا له: ترتزق من بيت المال كلّ يوم كذا وكذا، ثم تقول لا أدري، قال: إنما أرتزق بقدر علمي، ولو أعطيت بقدر جهلي لم يسعني مال الدنيا، وحكي: أن عالما سئل عن مسألة وهو فوق المنبر؟ فقال:
لا أدري، فقيل له: ليس المنبر موضع الجهّال، فقال: إنما علوت بقدر علمي ولو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء.
٣٣ - وقوله: ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى لآدم كلام مستأنف أيضا ﴿يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ﴾؛ أي: أخبر الملائكة وأعلمهم ﴿بِأَسْمائِهِمْ﴾ التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها؛ أي: أخبرهم بأسماء هؤلاء المسمّيات، فسمّى لهم كل شيء باسمه حتى القصعة والقصيعة، وبين لهم أحوال كل من المسميات، وخواصّه، وأحكامه المتعلقة بالمعاش، والمعاد.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ذكره أبو حيان في «البحر المحيط».
﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ﴾ أي أنبأ آدم الملائكة ﴿بِأَسْمائِهِمْ﴾؛ أي: بأسماء تلك المسميات مفصلة، وبين لهم أحوال كل منها، وخواصّه، وأحكامه. روي (٢) أنه رفع على منبر، وأمر أن ينبىء الملائكة بالأسماء، فلما أنبائهم بها وهم جلوس بين يديه، وذكر منفعة كل شيء ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى، للملائكة توبيخا لهم وتقريرا منهم ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا ملائكتي، والاستفهام للتقرير مع التوبيخ؛ أي: قد قلت لكم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم ممّا كان ومما يكون، مما لا دليل عليه، ولا طريق إليه، وقيل: غيب السموات أكل آدم وحواء من الشجرة؛ لأنها أوّل معصية وقعت في السماء، وغيب الأرض قتل قابيل هابيل؛ لأنها أوّل معصية كانت في الأرض، وقيل غير ذلك. وذلك أنه سبحانه وتعالى، علم أحوال آدم قبل أن يخلقه، فلهذا قال لهم أعلم ما لا تعلمون ﴿وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾؛ أي: ما تظهرون من قولكم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها﴾ الآية.
(٢) روح البيان.
وفي استخلاف (٢) آدم في الأرض، معنى سام من الحكمة الإلهية، خفي على الملائكة، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون، وما أودع فيه من الخواص، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شيء مما في الأرض، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع، ولا تستخرج المعادن من باطنها، ولا تعرف خواصّها الكيمائية والطبيعية، ولا تعرف الأجرام الفلكية، ولا المستحدثات الطبية، ولا شيء من العلوم التي تفنى السنون، ولا يدرك الإنسان لها غاية.
وقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ﴾ (٣) ياء المتكلم المتحرك ما قبلها، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة جاز فيها وجهان: التحريك والإسكان، وقرىء بالوجهين في السبعة
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
٣٤ - ﴿وَ﴾ اذكر يا محمد لأمتك قصة ﴿إِذْ قُلْنا﴾؛ أي: قصة وقت قولنا: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ الذين أنزلهم الله سبحانه إلى الأرض؛ لطرد الجن، أو لجميع الملائكة، وهو الظاهر من قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)﴾ وقرأ الجمهور (١) ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ بجر التاء، وقرأ أبو جعفر، يزيد بن القعقاع، وسليمان بن مهران، بضم التاء إتباعا لحركة الجيم، ونقل أنها لغة أزد شنوءة، وقال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، ولكن لا ينبغي أن يغلّط؛ لأنّ القارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضا، عن عبد الله بن عباس، وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علّل ضمّ التاء؛ لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبه: أنّ الهمزة تسقط في الدرج؛ لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضا؛ لأنها ليست بأصل، ألا تراهم قالوا الملائك، وقيل:
ضمت؛ لأنّ العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.
﴿اسْجُدُوا﴾ لله سبحانه وخروا له سجودا شرعيا بوضع الجبهة مستقبلين إلى ﴿آدم﴾ عليه السلام قبلة لسجودهم؛ تعظيما لشأنه وإظهارا لفضله، فجعل آدم قبلة لسجودهم، والسجود لله، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة، والصلاة لله، أو اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء من غير وضع الجبهة على الأرض.
والسجود لغة (٢): الخضوع والانقياد. وشرعا: وضع الجبهة على الأرض مع أعضائه بقصد العبادة. والمأمور به؛ إما المعنى الشرعي، كما ذكرناه أولا، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم، تفخيما لشأنه؛ وإما المعنى اللغوي، كما ذكرناه آنفا، وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف له، وكان سجود التحية جائزا فيما مضى من الأمم، ثم نسخ
(٢) روح البيان.
وكان هذا القول الكريم بعد إنبائهم بالأسماء (١). قيل: لما خلق آدم، أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم، فلما سألهم عن الأسماء فلم يعرفوا، وسأل آدم فأخبر بها، ظهر لهم أن آدم أعلم منهم، ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم، فلما أمرهم بالسجود له، ظهر لهم فضله، ومن لطف الله تعالى بنا، أن أمر الملائكة بالسجود لأبينا، ونهانا عن السجود لغيره، فقال: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ نقل الملائكة المقربين إلى آدم وسجدته، ونقلنا إلى سجدته وخدمته.
وفائدة هذه السجدة راجعة إلى الإنسان لمعنيين:
أحدهما: أنّ الإنسان يقتدي بهم في الطاعة، ويتأدّب بآدابهم في امتثال الأوامر، وينزجر عن الإباء والاستكبار، كيلا يلحق به الطرد واللعن، كما لحق بإبليس، ويكون مقبولا ممدوحا مكرما، كما كان الملائكة في امتثال الأمر، كما قال تعالى: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾.
وثانيهما: أن الله تعالى من كمال فضله ورحمته مع الإنسان، جعل همة الملائكة في الطاعة، والتسبيح، والتحميد مقصورة على استعداد المغفرة للإنسان، كما قال تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ فلذلك أمرهم بالسجود لأجلهم، وليستغفروا لهم.
واعلم: أن (٢) الملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف لكل صنف عمل، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام
(٢) المراغي.
﴿فَسَجَدُوا﴾؛ أي: سجدت الملائكة كلهم أجمعون؛ أي: لآدم، دل عليه قوله: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾؛ لأنهم خلقوا من نور، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «خلقت الملائكة من نور» والنور من شأنه الانقياد والطاعة، وكان هذا السجود قبل دخول آدم الجنة؛ لأن الظاهر من السياق وقوع التعليم لآدم، فإنباؤه للملائكة، فأمر الملائكة بالسجود له، فإسكانه الجنة، ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض.
وأول من سجد منهم (١): جبريل، فأكرم بإنزال الوحي على النبيين، وخصوصا على سيد المرسلين، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم عزرائيل، ثم سائر الملائكة، وقيل: أول من سجد: إسرافيل، فرفع رأسه، وقد ظهر كل القرآن مكتوبا على جبهته كرامة له على سبقه إلى الائتمار.
والفاء في قوله: ﴿فَسَجَدُوا﴾ للتعقيب؛ لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال، وعدم تلعثمهم في ذلك، وهذه القصة ذكرت في القرآن في سبع سور، في هذه السورة، والأعراف والحجر، والإسراء، والكهف، وطه، وص. والحكمة (٢) في تكريرها؛ تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه كان في محنة عظيمة في قومه وأهل زمانه، فكأنه تعالى يقول لنبيه: ألا ترى أن أول الأنبياء وهو آدم عليه السلام، كان في محنة عظيمة في مبدأ خلقه، فاصبر كما صبر.
(٢) العمدة.
وللعلماء في هذا الاستثناء قولان:
القول الأول: أنه استثناء متصل؛ لأن إبليس كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة، مغمورا بهم، متصفا بصفاتهم، فغلبوا عليه في قوله: ﴿فَسَجَدُوا﴾ ثم استثني منهم استثناء واحد منهم، وأكثر المفسرين: أن إبليس من الملائكة؛ لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، فعلى هذا كان منهم ثم أبلس وغضب عليه، ولعن، فصار شيطانا. قال البغوي: وهو الأصح وعليه الجمهور، وابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، وغيرهم. قال في «التيسير»: أما وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون، فذلك دليل تصوّر العصيان منهم، ولولا التصوّر لما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع، وعصيانهم تكلّف، وطاعة البشر تكلّف، ومتابعة الهوى منهم طبع، ولا يستنكر من الملائكة تصوّر العصيان، فقد ذكر من هاروت وماروت ما ذكر.
والقول الثاني: أنه منقطع؛ لأنه لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن بالنص، قال تعالى: ﴿كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ وروى ابن مسعود، وشهر بن حوشب. أنه من الجن الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبّد مع الملائكة، وخوطب معهم. وعن الحافظ: أن الجن والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن ﴿أَبى﴾؛ أي: امتنع عما أمر به من السجود والإباء إمتناع باختيار ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾؛ أي: تعظم وأظهر كبره، ولم يتخذه وصلة في عبادة ربه، أو تعظيمه، وتلقيه بالتحية والتكبر، أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره، والاستكبار طلب ذلك بالتشبّع؛ أي: بالتزين بالباطل وبما ليس له، ولكن السين هنا للمبالغة لا للطب، وتقديم الإباء على الاستكبار مع كونه مسبّبا عنه؛ لظهوره ووضوح أثره، فعطفه عليه من عطف العلة على المعلول؛ أي: أبى وامتنع لكبره، كما في «الصاوي».
خمسمائة سنة ورفعوا رؤوسهم، وهو قائم معرض لم يندم من الامتناع، ولم يعزم على الاتباع، فلمّا رأوه عدل ولم يسجد، وهم وفّقوا للسجود، سجدوا لله تعالى ثانيا، فصار لهم سجدتان، سجدة لآدم، وسجدة لله تعالى، وإبليس يرى ما فعلوه وهذا إباؤه، فغيّر الله تعالى صفته، وحالته، وصورته، وهيئته، ونعمته، فصار أقبح من كل قبيح، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ قال بعضهم: جعل ممسوخا على مثال جسد الخنازير، ووجهه كالقردة، وللشيطان نسل وذرية، والممسوخ وإن كان لا يكون له نسل، لكن لما سأل النظرة وأنظر، صار له نسل. وفي الخبر: قيل له من قبل الحق: اسجد لقبر آدم أقبل توبتك، وأغفر معصيتك، فقال: ما سجدت لقالبه وجثته، فكيف أسجد لقبره وميتته. وفي الخبر أيضا: إن الله تعالى يخرجه على رأس مائة ألف سنة من النار، ويخرج آدم من الجنة، ويأمره بالسجود لآدم فيأبى، ثم يرد إلى النار.
﴿وَكانَ﴾ إبليس اللعين ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾؛ أي: في علم الله تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر الله إياه بالسجود لآدم، اعتقادا بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوصل به، كما أشعر به قوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ جوابا لقوله تعالى: ﴿ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ﴾ لا بترك الواجب وحده، وإنما قال: ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ ولم يكن حينئذ كافر غيره؛ لأنه كان في علم الله أن يكون بعده كفار، فذكر أنه كان من الكافرين؛ أي: من الذين يكفرون بعده، وهذا كما في قوله: ﴿فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وقال (٢) أبو العالية: ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾؛ أي: من العاصين، وصلة (أل) هنا ظاهرها الماضي؛ أي: من الذين كفروا، فيكون قد سبق إبليس كفار، وهم الجن الذين كانوا في الأرض، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقا، إذ لم يصح أنه كان كفار
(٢) البحر المحيط.
ومن فوائد هذه الآية (١): استقباح الاستكبار، وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر، والحثّ على الائتمار لأمره، وترك الخوض في سره، وأنّ الأمر للوجوب، وأنّ الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر حقيقة، إذ العبرة بالخواتم، وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهي مسألة الموافاة؛ أي: اعتبار تمام العمر الذي هو وقت الوفاة، فإذا كان العبرة بالخاتمة، فليسارع العبد إلى الطاعات، فكل ميسر لما خلق له، كما ورد في الخبر الصحيح، خصوصا في آخر السنة، وخاتمتها، كي يختم له الدفتر بالعمل الصالح. وفي الخبر: قيل يا رسول الله: من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» قيل: فأي الناس شر؟
قال: «من طال عمره، وساء عمله، وخيف شره، ولم يرج خيره». وقال الحسن البصري لجلسائه: يا معشر الشيوخ، ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، قال: يا معشر الشباب، فإن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يبلغ، وأنشد بعضهم:
ألا مهّد لنفسك قبل موت | فإنّ الشّيب تمهيد الحمام |
وقد جدّ الرّحيل فكن مجدّا | لحطّ الرّحل في دار المقام |
٣٥ - وقوله: ﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ (٢) معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنا﴾ لا على ﴿قُلْنا﴾ وحده لاختلاف زمانيهما ومعمول القول المنادى وما بعده، وفائدة النداء؛ تنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر،
(٢) البحر المحيط.
قال القرطبي في «تفسيره»: لا خلاف أنّ الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال: ﴿يا آدَمُ اسْكُنْ﴾؛ أي؛ أقم وامكث، ولازم الجنة، واتخذها مسكنا لك، وهو محل السكون، وليس المراد به ضدّ الحركة، بل اللّبث والاستقرار و ﴿أَنْتَ﴾ تأكيد للضمير المستكن في ﴿اسْكُنْ﴾ وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوبا ﴿وَزَوْجُكَ﴾ معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، كما هو مذكور في محله؛ أي: اسكن أنت وزوجك حواء ﴿الْجَنَّةَ﴾ يقال للمرأة الزوج والزوجة، والزوج أفصح، كما في «تفسير أبي الليث» وإنما لم يخاطبهما أوّلا؛ تنبيها على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف عليه تبع له، والجنة هي دار الثواب بإجماع المفسرين، خلافا لبعض المعتزلة، والقدرية، حيث قالوا: المراد بالجنة بستان كان في أرض فلسطين، أو بين فارس وكرمان، خلقه الله تعالى امتحانا لآدم، وأوّلوا الهبوط بالانتقال منه إلى أرض الهند، كما في قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾، وفيه نظر؛ لأن الهبوط قد يستعار للانتقال إذا ظهر امتناع حقيقته وابتعادها، وهناك ليس كذلك، وقوله: ﴿وَقُلْنا يا آدَمُ﴾ هو من خطاب الأكابر والعظماء، فأخبر الله تعالى عن نفسه بصيغة الجمع؛ لأنه ملك الملوك؛ أي: اتّخذا جنة الخلد مأوى ومنزلا كلّها، وسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض؛ أي: ترابها، كما مر. وسميت زوجه حوّاء؛ لأنها خلقت من حي؛ لأنها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فلذا كان كل إنسان ناقصا ضلعا من الجانب الأيسر، فجهة اليمين أضلاعها ثمانية عشر، وجهة اليسار أضلاعها سبعة عشر.
واختلفوا (١) في خلق حواء: هل كان قبل دخول الجنة أو بعده؟ ويدل على
قال: لأنها خلقت من حي، أو لأنها أصل كل حي، أو لأنها كانت في ذقنها حوّة؛ أي: حمرة مائلة إلى السواد، وقيل: في شفتها، وسميت مرأة؛ لأنها خلقت من المرء، كما أن آدم سمي بآدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، وعاشت بعد آدم سبع سنين وسبعة أشهر، وعمرها تسعمائة وسبع وتسعون سنة.
واعلم: أن الله تعالى، خلق واحدا من أب دون أم وهو حواء، وآخر من أم دون أب وهو عيسى، وآخر من أب وأم وهم أولاد آدم، وآخر من غير أب وأم وهو آدم عليه السلام، فسبحان من أظهر من عجائب صنعه ما يتحيّر فيه العقول.
ثم اعلم (١): أن الله تعالى، خلق حواء لأمر تقتضيه الحكمة؛ ليدفع آدم وحشته بها لكونها من جنسه؛ وليبقي الذرية على ممر الأزمان والأيام إلى ساعة القيام، فإن بقاءها سبب لبعثه الأنبياء، وتشريع الشرائع والأحكام، ونتيجة لأمر معرفة الله تعالى، فإن الله تعالى خلق الخلق لأجلها.
وفي الزوجية منافع كثيرة دينية، ودنيوية، وأخروية، ولم يذكر الله تعالى في
﴿وَكُلا﴾ أنتما ﴿مِنْها﴾؛ أي: من ثمار الجنة. وجّه الخطاب (١) إليهما؛ إيذانا بتساويهما في مباشرة المأمور به، فإن حواء أسوة له في الأكل بخلاف السكن فإنها تابعة له فيها، ثمّ معنى الأمر بهذا والشغل به مع أنه اختصّه واصطفاه، وللخلافة أبداه أنه مخلوق، والذي يليق بالخلق هو السكون بالخلق، والقيام باستجلاب الحظّ؛ أي: وكلا أنتما من ثمار الجنة أكلا ﴿رَغَدًا﴾؛ أي: أكلا واسعا رافها بلا تقدير، ولا تقتير ﴿حَيْثُ شِئْتُما﴾؛ أي: من أيّ مكان من الجنة شئتما وأردتما الأكل منه، وسّع عليهما؛ إزاحة للعلّة والعذر، في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر.
فإن قلت: لم قال هنا ﴿وَكُلا﴾ بالواو وفي الأعراف ﴿فَكُلا﴾ بالفاء؟
قلت: لأن اسكن معناه هنا استقر، لكون آدم وحواء كانا في الجنة، والأكل يجامع الاستقرار غالبا، فلهذا عطف بالواو الدالّة على الجمع والمعنى، اجمعا بين الأكل وبين الاستقرار، وفي الأعراف معناه ادخل، لكونهما، كانا
وقرأ الجمهور (١): ﴿رَغَدًا﴾ بفتح الغين، وقرأ إبراهيم النخعي، ويحيى بن وثاب بسكونها ﴿رَغَدًا﴾، والتسكين لغة تميم؛ أي: أكلا واسعا كثيرا لا عناء فيه ولا حجر. قال امرؤ القيس:
بينما المرء نراه ناعما | يأمن الأحداث في عيش رغد |
﴿وَلا تَقْرَبا﴾ بالأكل ولو كان (٢) النهي عن الدنو لضمت الراء ﴿هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ الشجرة منصوب على أنه بدل من اسم الإشارة، أو نعت له بتأويلها بمشتق؛ أي: هذه الحاضرة من الشجر؛ أي: لا تأكلا منها، وإنما علق النهي بالقربان منها؛ مبالغة في تحريم الأكل ووجوب الاجتناب عنه، والشجرة: هي البر والسنبلة.
قاله ابن عباس، وأبو مالك، وقتادة، وهو الأشهر، والأجمع، والأنسب؛ لأنّ النوع الإنساني ظهر في دور السنبلة، وعليها من كل لون، وثمرها أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأشد بياضا من الثلج، كل حبة من حنطتها، مثل كلية البقرة، وقد جعلها الله سبحانه رزق أولاده في الدنيا، ولذلك قيل: تناول سنبلة فابتلي بحرث السنبلة، وقيل: الكرمة، ولذلك حرّمت علينا الخمر. قاله ابن
(٢) روح البيان.
شجرة من أكل منها أحدث. قاله أبو العالية، وقال علي: شجرة الكافور، وقال بعض أهل الكتاب: شجرة الحنظل، وقال أبو مالك: النخلة، والأولى عدم تعينها؛ لعدم ورود النص القاطع فيها.
وقرىء (١): ﴿ولا تقربا﴾ بكسر التاء، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون، وأكثرهم لا يكسر الياء، ومنهم من يكسرها، وقرأ ابن محيصن ﴿هذي﴾ بالياء، وقرأ الجمهور بالهاء وقرىء ﴿الشجرة﴾ بكسر الشين، حكاها هارون الأعور، عن بعض القراء، وقرأ أيضا ﴿الشيرة﴾ بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال: يقرأ بها برابر مكة وسوادنها، وينبغي أن لا يكرهها؛ لأنها لغة منقولة فيها، وقال الأصمعي: نحسبه بين الأنام شيره.
وفي نهي (٢) الله سبحانه آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليل: على أن سكناهما في الجنة لا تدوم لأن المخلد لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يمنع من شيء.
وقوله: ﴿فَتَكُونا﴾ إما معطوف على تقربا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وهذا هو الأظهر، والتقدير عليه: لا يكن منكما قربان الشجرة فكونكما ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: من الذين ظلموا أنفسهم وأضروها بمعصية الله تعالى، أو بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتما عنها، أو بالفضيحة في الملأ الأعلى، أو بمتابعة إبليس، أو بترك الأولى. وقال قوم: هما أول من ظلم نفسه من الآدميين. وقال قوم: كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم، ونسبوا إليهم، وفي قوله: ﴿فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ دلالة
(٢) البحر المحيط.
وقال بعض أهل الإشارات (١): الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية، فلما جاءه الشّكل والزوج، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة، وحين ساكن حواء، أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل، فوقع فيما وقع ولقد قيل:
داء قديم في بني آدم... صبوة إنسان بإنسان
قال القشيري: نبه سبحانه، على أن عاقبة دخول آدم الجنة خروجه منها بارتكاب الخطيئة بقوله: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ فإذا أخبر سبحانه بجعله خليفة في الأرض، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة. كان آدم لا يساويه أحد في الرتبة، يتوالى عليه النداء بيا آدم، ويا آدم، فأمسى وقد نزع عنه لباسه، وسلب استئناسه، والقدرة لا تكابر، وحكم الله لا يعارض، وقال الشاعر:
لله درّهم من فتية بكروا... مثل الملوك وراحوا كالمساكين
تتمة (٢): واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا: فمن قائل: إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدل عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها. ومن قائل: إنها جنة أخرى، خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بفلسطين، وليست هي الجنة المعروفة، وعلى هذا جرى أبو حنيفة، وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى «بالتأويلات»، فقال: نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة عن الغياض، كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها، ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل
(٢) المراغي.
قال الألوسي في تفسيره «روح المعاني»: (١) ومما يؤيد هذا الرأي:
١ - أن الله خلق آدم في الأرض؛ ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة.
٢ - أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر؛ لأنه أمر عظيم.
٣ - أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.
٤ - أنها دار للنعيم والراحة لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه أن لا يأكلا من الشجرة.
٥ - أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها.
٦ - أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة؛ لأنها دار طهر لا دار رجس، وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع، لا تنطبق على جنة آدم.
﴿وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما﴾؛ أي: كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما، وأباح لهما الأكل كذلك، إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها، من بين أشجارها التي لا حصر لها ﴿وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ الخ. لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعينها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع؛ ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول إن النهي لحكمة، كأن يكون في أكلها ضرر، أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر.
فإن قلت (١): إبليس كافر، والكافر لا يدخل الجنة، فكيف دخل هو؟
قلت: إنما منع من الدخول على وجه التكرمة، كما تدخلها الملائكة، ولم يمنع من الدخول للوسوسة؛ ابتلاء لآدم وحواء. وقيل: إنه دخلها على صورة دابة من دواب الجنة. وقيل: وسوس إليهما وهو خارج عنها، وهما داخلها، لكن أتوا على بابها. وقيل: غير ذلك. وقرأ حمزة، والحسن، وأبو رجاء، فأزالهما، ومعنى: الإزالة التنحية. وروي عن حمزة، وأبي عبيدة إمالة فأزالهما ﴿فَأَخْرَجَهُما﴾؛ أي: تسبب إبليس في إخراجهما ﴿مِمَّا كانا فِيهِ﴾ من الكرامة والنعيم الواسع الذي كانا فيه في الجنة أولا، بأن قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد، وقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين، فأكلا منها، ولم يقصد إبليس إخراج آدم من الجنة؛ وإنما قصد إسقاطه من مرتبته، وإبعاده، كما أبعد، فلم يبلغ مقصده، فقال تعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى﴾.
﴿وَقُلْنَا﴾ نحن لآدم، وحواء، وإبليس ﴿اهْبِطُوا﴾؛ أي: انزلوا إلى الأرض، فالمأمور بالهبوط آدم، وزوجه، وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس، ومجاهد، وكثير من السلف، ويشهد له قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ إذ العداوة بين الشيطان والإنسان.
وقيل: الخطاب لآدم وحواء، ورجحه الزمخشري وجمع الضمير؛ لأنهما أصلا الجنس، فكأنهما الجنس كله، ويدل له قوله تعالى في سورة طه: ﴿اهْبِطا مِنْها جَمِيعًا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾. وقيل: الخطاب لأربعة،
وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمس مئة عام مما يعد أهل الدنيا، ولكن لا أصل له.
والأشبه أن قوله (١): ﴿اهْبِطُوا﴾ أمر تكليف؛ لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة. وقرأ الجمهور ﴿اهْبِطُوا﴾ بكسر الباء، وقرأ أبو حيوة ﴿اهبطوا﴾ بضم الباء، وهما لغتان. قال القرطبي (٢) في تفسيره: إن الصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض، ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك، وهي نثر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم، ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي، إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطهما من الجنة فأخرجهما؛ لأنهما خلقا منها؛ وليكون آدم خليفة الله في الأرض، ولله أن يفعل ما يشاء، وقد قال: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ وهذه منقبة عظيمة، وفضيلة كريمة شريفة. انتهى كلام القرطبي. فهبوطه من الجنة هبوط التشريف، والامتحان، والتمييز بين قبضتي السعادة والشقاوة؛ لأن ذلك من مقتضيات الخلافة الإلهية، وأكثر المفسرين على أن المعنى: انزلوا استخفافا بكم، لكن القول ما قالت حذام. وجملة قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾؛ أي:
(٢) القرطبي.
﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾؛ أي: موضع استقرار على وجهها بالإقامة فيها، أو في القبور. والمستقر ثلاثة:
الأول: رحم الأم. قال تعالى: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أودع في صلب الأب، واستقر في رحم الأم.
والثاني: الدنيا قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾.
والثالث: العقبى، إما في الجنة. قال تعالى: ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ وإما في النار. قال تعالى: ﴿إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا﴾ (٦٦) ﴿وَمَتاعٌ﴾؛ أي: تمتع بنعيمها، وانتفاع به ﴿إِلى حِينٍ﴾؛ أي: إلى وقت انقضاء آجالكم؛ يعني: إلى الموت.
والمعنى (٢): أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها، ينتهيان إلى وقت محدد، وليسا بدائمين، كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد، وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض؛ للعمل فيها، لا للفناء، ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها، ولا للخلود فيها.
(٢) المراغي.
يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة، فخانته بأن مكنت عدوه من نفسها، وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة، فقيل لها: أنت عدو بني آدم، وهم أعداؤك، وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك.
٣٧ - قيل: إنها أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تنذره ما تركها تدخل به، وقال إبليس: أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلها ولو في الصلاة، والفاء في قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ للدلالة على أن التوبة، حصلت عقب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به، ومن ثمة قال القرطبي: إن آدم تاب، ثم هبط، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا﴾ ثانيا؛ ومنه يعرف أن الأمر بالهبوط ليس للاستخفاف، ومشوبا بنوع سخط، إذ لا سخط بعد التوبة، فآدم أهبط بعد أن تاب الله عليه، ومعنى تلقّي الكلمات: استقبالها بالأخذ، والقبول، والعمل بها حين علمها، فإن قلت: ما هن؟
قلت: هي قوله تعالى: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا﴾ وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - إن أحب الكلام إلى الله تعالى، ما قال أبونا آدم حين اقترف الخطيئة، وهي: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وتلقى من باب تفعّل الخماسي، وهو هنا بمعنى المجرد؛ أي: بمعنى: لقي آدم من ربه كلمات وأخذها. وقرأ الجمهور برفع آدم ونصب كلمات، والمعنى عليه: حفظ آدم، وألهم من ربه
وقرأ الجمهور (٢): ﴿إِنَّهُ﴾ بكسر الهمزة، وقرأ نوفل بن أبي عقرب ﴿أنه﴾ بفتح الهمزة، ووجهه: أنه فتح على التعليل، والتقدير: لأنه، فالمفتوحة مع ما بعدها فضله، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته، لا يمكن فيه نزاع منازع، وأما الكسر، فهي جملة ثابتة تامة، أخرجت مخرج الإخبار المتقبل الثابت.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما (٣) - قال: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا، ولم يشربا أربعين يوما، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة، وقال شهر بن حوشب: بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض،
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
قالوا: لو أن دموع أهل الأرض جمع، لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود، ودموع أهل الأرض جمع، لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة، فإذا كان حال من اقترف خطيئة دون صغيرة هذا، فكيف حال من انغمس في بحر العصيان، والتوبة بمنزلة الصابون، فكما أن الصابون يزيل الأوساخ الظاهرة، فكذا التوبة تزيل الأوساخ الباطنة، والعبد إذا رجع عن السيئة وأصلح عمله، أصلح الله شأنه وأعاد عليه نعمته الفائتة.
قلت: وما أوردوه في قصة هبوط آدم وحواء من الجنة، وما يتعلق به، قد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شيء منها عند النّقدة من أهل العلم، ورجال الدين.
فإن قلت: كيف يصح عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون؟
قلت: أجيب عنه بثلاثة أجوبة:
١ - أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها.
٢ - أن الذي وقع منه كان نسيانا؛ فسمي عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة.
٣ - أن ذلك من المتشابه، كسائر ما جاء في القصة مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله تعالى، كما هو رأي
سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل، كما هو رأي الخلف.
٣٨ - ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾؛ أي: انزلوا ﴿مِنْها﴾؛ أي: من الجنة إلى الأرض حالة كونكم ﴿جَمِيعًا﴾ نصب على الحال من ضمير الجمع؛ تأكيد في المعنى للجماعة من آدم، وحواء، وإبليس، والحية، وكأنه قيل: اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان؛ أي: اهبطوا منها حال كونكم مجتمعين
قال في «الإرشاد» (٢) والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة والنجاح، وما فيه من وعيد العقاب، فليس بمقصود من التكليف قصدا أوليا، بل إنما هو دائر على سوء اختيار المكلفين، ثم إن في الآية دليلا على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها؛ لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصية واحدة، وهذا كما قال القائل:
إذا تمّ أمر دنا نقصه | توقّع زوالا إذا قيل تم |
إذا كنت في نعمة فارعها | فإن المعاصي تزيل النعم |
وجواب الشرط الأول، هو الشرط الثاني مع جوابه، وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ﴾؛ أي: اقتدى برسولي، وتمسك بشريعتي. وكرّر (٣) لفظ الهدى، ولم
(٢) أبو السعود.
(٣) روح البيان.
«كرخي». أي: لا يعتريهم ما يوجب ذلك، لا أنه يعتريهم ذلك، لكنهم لا يخافون ولا يحزنون، ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلا، بل يستمرون على السرور والنشاط، كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال الله تعالى، وهيبته، واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية، من خصائص الخواص والمقربين.
والمعنى (٢): فبعد هبوطكم إلى الأرض، إن يأتكم من جهتي هدى، وشريعة، وبيان حق، ودعوة إليه على ألسنة رسلي، فمن تبع هداي الذي أرسلت به رسلي، واستمسك بالشرائع التي أتوا بها، وراعى ما يحكم العقل بصحته، بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس، فلا خوف عليهم في الآخرة من العذاب، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا؛ أي: إن المهتدين بهدي الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى، سهل عليه كل ما أصابه، أو فقده؛ لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضي ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاه عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى، وتنسيه لذة الربح آلام التعب.
والأديان قد حرّمت بعض اللذات، التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها، لضررها إما بالشخص، أو بالمجتمع، فمن تمثلت له المضارّ التي تعقب
(٢) المراغي.
والخلاصة: أن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة، وبعد عنه الحزن، والخوف يوم الحساب، والجزاء والعرض على الملك الديان يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قرأ الأعرج (١): هداي بسكون الياء، وفيه الجمع بين الساكنين كقراءة من قرأ (محياي)، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم الجحدري، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن أبي عمر ﴿هدي﴾ بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء؛ لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل يقلبون ألف المقصور ياء، ويدغمونها في ياء المتكلم، وقال شاعرهم:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم | فتخرّموا ولكل قوم مصرع |
أحدهما: أنّ إعمال (لا) عمل ليس قليل جدا.
٣٩ - والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ، ولم تعمل فيهما. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا برسلنا المرسلة
(٢) البحر المحيط.
﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة عليهم، أو كفروا بالآيات جنانا، وكذبوا بها لسانا ﴿أُولئِكَ﴾ إشارة إلى الموصول، باعتبار إتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾؛ أي: ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها، وفي الصحبة معنى الوصلة، فسموا أصحابها لاتصالهم بها وبقائهم فيها، فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها ﴿هُمْ فِيها﴾؛ أي: في النار ﴿خالِدُونَ﴾؛ أي: دائمون، والجملة في حيز النصب على الحالية.
وعبارة أبي حيان هنا قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (٢) قسيم لقوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ﴾؛ أي: وهو أبلغ من قوله: (ومن لم يتبع هداي) وإن كان التقسيم يقتضيه؛ لأنّ نفي الشيء يكون بوجوه: منها: عدم القابليّة بخلقة، أو غفلة. ومنها: تعمد ترك الشيء فأبرز القسيم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في صورة ثبوتية، ليكون مزيلا للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قد يعني به كفر النعمة، وكفر المعصية، بين أن المراد هنا الشرك بقوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ وبآياتنا متعلق بقوله:
﴿وَكَذَّبُوا﴾ وهو من إعمال الثاني، إن قلنا إن كَفَرُوا يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال.
والآيات هنا الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليه السلام، أو القرآن، أو دلائل الله في مصنوعاته أقوال، وفي قوله: ﴿أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ﴾ (٣) دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار، فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة، وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وإني لتعروني لذكراك هزّة | كما انتفض العصفور بلّله القطر |
وفي هاتين الآيتين (١)، دلالة على أن الجنة في جهة عالية، دل عليه قوله: ﴿اهْبِطُوا مِنْها﴾ وأن متّبع الهدى مأمون العاقبة، لقوله تعالى فلا خوف. إلخ. وأن عذاب النار دائم، والكافر مخلد فيه، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى: ﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ فإنه يفيد الحصر. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي: أن رجلا قال: يا رسول الله! أنبيّ كان آدم؟ قال: نعم. قال: كم بينه وبين نوح. قال: عشرة قرون. قال: كم بين نوح وبين إبراهيم. قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قال: يا رسول الله! كم كانت الرسل في ذلك؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا.
الإعراب
﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، والظرف متعلق بمحذوف جوازا، تقديره: واذكر يا محمد لأمتك قصة إذ قال ربك.. إلخ.
والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بقال ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، إن حرف نصب وتوكيد مبني بفتحة مقدرة على الأخير منع
﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَنَحْنُ﴾ الواو حالية نَحْنُ ضمير منفصل لجماعة المتكلمين في محل الرفع مبتدأ ﴿نُسَبِّحُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر وجوبا، تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ ﴿بِحَمْدِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل نسبح، والتقدير: ونحن مسبحون إياك ملتبسين بحمدك، والجملة الإسمية حال من مفعول فعل محذوف، تقديره: وتركتنا عن الخلافة حالة كوننا مسبحين إياك بحمدك ﴿وَنُقَدِّسُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على نسبح ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بنقدس، ويجوز أن تكون زائدة زيدت؛ لبيان المفعول به؛ أي: ونقدسك كاللام في سقيا لك. قال العكبري: ويجوز أن تكون اللام زائدة؛ لتأكيد التخصيص؛ أي: نقدسك. وقال الصاوي: ويحتمل أنها للتعدية والتعليل؛ أي: ننزهك لا طمعا في عاجل ولا آجل، فتنزيهنا لذاتك فقط. اه.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)﴾.
﴿وَعَلَّمَ﴾ الواو استئنافية ﴿عَلَّمَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ﴿آدَمَ﴾ مفعول أول لعلم ﴿الْأَسْماءَ﴾ مفعول ثان له كُلَّها تأكيد للأسماء، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿عَرَضَهُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قال ﴿عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بعرض ﴿فَقالَ﴾ الفاء عاطفة (قال) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة عرض ﴿أَنْبِئُونِي﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو ضمير المخاطبين يعود على الملائكة في محل الرفع فاعل، والنون نون الوقاية، والياء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول ﴿بِأَسْماءِ﴾ جار ومجرور متعلق بأنبئوني على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال: ﴿أسماء﴾ مضاف ﴿هؤُلاءِ﴾ ﴿ها﴾ حرف تنبيه ﴿أولاء﴾ اسم إشارة للجمع المطلق في محل الجر مضاف إليه مبني على الكسر؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿صادِقِينَ﴾ خبر كان منصوب بالياء، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فأنبئوني، وجملة إن الشرطيّة في محل النصب مقول قال ﴿قالُوا﴾ فعل
﴿قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿يا آدَمُ﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء للمتوسط ﴿آدَمُ﴾ منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني على الضم، وجملة النداء في محل النصب مقول قال ﴿أَنْبِئْهُمْ﴾ فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على الله، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول ﴿بِأَسْمائِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بأنبئهم على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال. ﴿فَلَمَّا﴾ الفاء فاء الفصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال الرب جل جلاله لآدم، وأردت بيان ما قال للملائكة بعد ذلك فأقول لك لما أنبأهم.
﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة أو استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ قلنا، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة سابقا، أو مستأنفة. ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ متعلق بقلنا.
﴿اسْجُدُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل ﴿لِآدَمَ﴾ اللام حرف جر ﴿آدم﴾ مجرور باللام وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة، والجار والمجرور متعلق باسجدوا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قلنا ﴿فَسَجَدُوا﴾ الفاء حرف عطف وتفريع (سجد) فعل ماض والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة قلنا ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿إِبْلِيسَ﴾ مستثنى بإلا متصل إن كان إبليس في الأصل من الملائكة، وقيل: منقطع؛ لأنه ليس من الملائكة، وهو منصوب بالفتحة الظاهرة ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة ﴿أَبى﴾ فعل ماض معتل بالألف مبني بفتحة مقدرة، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة الفعلية في محل النصب حال من إبليس؛ أي: حالة كونه آبيا وممتنعا من السجود ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ فعل وفاعل مستتر معطوف على أبى؛ أي: ومستكبرا ﴿وَكانَ﴾ الواو عاطفة، أو حالية، أو استئنافية ﴿كانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على إبليس ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة أبى، أو حالية، أو مستأنفة.
﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَقُلْنا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على قلنا الأول، واختلاف الزمانين ليس علة مانعة من عطف الفعل على الفعل ﴿يا آدَمُ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: ﴿يا آدَمُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول قلنا ﴿اسْكُنْ﴾ فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره ﴿أنت﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قلنا أَنْتَ أن ضمير رفع منفصل في محل الرفع مؤكد للضمير المستتر في اسكن، ليصح العطف عليه ﴿وَزَوْجُكَ﴾ معطوف على الضمير المستتر في اسكن، كما قال ابن مالك:
وإن على ضمير رفع متصل | عطفت فافصل بالضمير المنفصل |
وإن لحرفين ذا الإعلال استحقّ | صحّح أوّل وعكس قد يحق |
ومذهب الكسائي: أن آية أصله آيية بوزن فاعلة، حذفت الياء الأولى؛ لئلا تدغم
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعريض بعنوان الربوبية في قوله: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ﴾ مع الإضافة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتشريف والتكريم لمقامه العظيم.
ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ على المقول؛ للاهتمام بما قدم؛ وللتشويق إلى ما أخر.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ﴾.
ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾؛ لأن المراد بهم هنا، سكان الأرض من الملائكة بعد الجان على ما قيل.
ومنها: عطف الخاص في قوله: ﴿وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ على العام في قوله:
﴿مَنْ يُفْسِدُ﴾؛ اهتماما بشأن الدماء.
ومنها: العطف للتأكيد في قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾؛ لأنه كالتوكيد للتسبيح؛ لأن التقديس هو التطهير، والتسبيح هو التنزيه والتبرئة من السوء، فهما متقاربان في المعنى ذكره في «البحر».
ومنها: الأمر الذي أريد به التعجيز في قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ مبالغة في التبكيت.
ومنها: إطلاق الأسماء مرادا بها المسميات في قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ﴾؛ أي: مسميات الأسماء، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ﴾؛ لأن قبله محذوف، تقديره: فأنبأهم بها، فلما أنبأهم بأسمائهم.
ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾؛
ومنها: الحذف في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾؛ لأن جوابه محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فأنبئوني، يدل عليه أنبئوني السابق.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا﴾.
ومنها: إبراز الفعل في قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ﴾ ثمّ قال: ﴿وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ للاهتمام بالخبر، والتنبيه على إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، ويسمى هذا بالإطناب.
ومنها: الطباق بين السموات وبين الأرض في قوله: ﴿غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وبين ﴿ما تُبْدُونَ﴾ وبين ﴿ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ في قوله: ﴿وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ هذا وإنّ الطباق من الألفاظ التي خالفت مضمونها، ولذلك سماه بعضهم بالتضادّ والتكافؤ، وهو الجمع بين معنيين متضادين، ولا مناسبة بين معنى المطابقة لغة، وبين معناها اصطلاحا، فإنها في اللغة الموافقة يقال: طابقت بين الشيئين، إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر، وابن الأثير يعجب من هذه التسمية؛ لأنه لا يعرف من أين اشتقت هذه التسمية، إذ لا مناسبة بين الاسم ومسماه، وابن قدامة يسميه التكافؤ، ولا فرق بين أن يكون التقابل حقيقيا، أو اعتباريا، أو تقابل السلب والإيجاب، ومن طباق السلب، قول السموءل اليهوديّ:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم | ولا ينكرون القول حين نقول |
فإذا حاربوا أذلّوا عزيزا | وإذا سالموا أعزّوا ذليلا |
ومنها: التعبير في النهي عن الأكل بالنهي عن القربان في قوله: ﴿وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ لقصد المبالغة في النهي عن الأكل، إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ، كقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى﴾ فنهى عن القرب من الزنا؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿مِمَّا كانا فِيهِ﴾ فإنه أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات، مما لو قيل من النعيم أو الجنة؛ لأنّ من أعظم أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء وفخامته، أن يعبّر عنه بلفظ مبهم، كما هنا، لتذهب نفس السامع في تصوّر عظمته إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه.
ومنها: التعبير بقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾؛ أي: كثير التوبة واسع الرحمة؛ لأن فعالا وفعيلا من صيغ المبالغة.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا﴾ تأكيدا لما قبله، وتوطئة لما بعده.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فائدة: قال بعض العارفين: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحطّ عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة، لم تخرجه عن حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية، فقال: ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ﴾.
وقال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد | جاءت محاسنه بألف شفيع |
* * *
﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) خطاب المكلفين عموما في أول السورة، ثم ثنّى بمبدأ خلق آدم عليه السلام، وقصته مع إبليس اللعين، ثلّث هنا بذكر بني إسرائيل، سواء كانوا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم أو قبله، وما يتعلق بهم من هنا إلى قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ فعدّد عليهم نعما عشرا، وقبائح عشرا، وانتقامات عشرا.
والحكمة في ذكر بني إسرائيل (٢)، الذين تقدموا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنهم لم يخاطبوا بالإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ من كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم يدّعي أنه على قدمهم، وأنه متبع لهم، وأن أصولهم كانوا على شيء، فلذلك تبعوهم. فبين
(٢) الصاوي.
وحكمة تخصيصهم بالخطاب: أن السورة أول ما نزل بالمدينة، وأهل المدينة كان غالبهم يهودا، وهم أصحاب كتاب وشوكة، فإذا أسلموا، أو انقادوا، انقاد جميع أتباعهم، لذلك توجّه الخطاب لهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى أولا نعمه على بني إسرائيل إجمالا، ذكر هنا أنواع تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في ذكرها وأدعى لشكرها، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم، واذكروا إذ فرقنا بكم البحر، واذكروا إذ واعدنا موسى، وإذ آتينا موسى الكتاب، إلى آخر ما عدده من النعم عليهم، وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا، لا كفرانه وعصيانه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الواحدي، والثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: (نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذوي قرابته، ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين، أثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل، فإنّ أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه).
وعبارة أبي حيان هنا قوله تعالى: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ...﴾ الآيات، هذا (٢) افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن إلى غير ذلك مما ذكره،
(٢) البحر المحيط.
وللشوكاني هنا: كلام في الرد على من يبحث عن المناسبة بين السور وبين الآيات فلا يغتر بكلامه؛ لأنه إذا ثبت أن ترتيب الآيات والسور في وضع المصاحف، على غير ترتيب النزول، والحال أن ذلك وضع توقيفي، فلا بدّ من معرفة حكمة تغيير الترتيب النزولي إلى هذا الترتيب الوضعي، ويتوصل إلى معرفتها بالبحث عن المناسبة الموصل إلى معرفة بلاغات القرآن وإعجازه، فحينئذ لا بد من البحث عنها ويقال:
وكم من عائب بحثا صحيحا
لعدم اطّلاعه على ما فيها ولا نطيل الكلام في الرد عليه، كما أطاله وخطّأ غيره، وحمّقه، ولا نقول فيه إلا كما قيل:
وهو بسبق حائز تفضيلا | مستوجب ثنائي الجميلا |
٤٠ - ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾؛ أي: يا أولاد يعقوب، وهذا خطاب مع جماعة اليهود
ونقل عن أبي الفرج ابن الجوزي: أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم اسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل ونقل الجوهري في «صحاحه»: أن المسيح اسم علم لعيسى لا اشتقاق له. وذكر البيهقيّ عن الخليل بن أحمد، خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: محمد وأحمد نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل.
والمراد بقوله: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ من كان بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود وآمن
ويحتمل قوله: ﴿اذْكُرُوا﴾ الذكر باللسان، والذكر بالجنان، فعلى الأول يكون المعنى: أمرّوا النّعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى تنبّهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها وفي النعمة (١) المأمور بشكرها، أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون، وإهلاك عدوّهم، وإيتائهم التوراة، ونحو ذلك قاله الحسن، والزجاج، أو إدراكهم مدّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه، وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال: أنها ما اختصّ به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: ﴿الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظّمة، وظلّل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى. قال ابن عباس (أعطاهم عمودا من النّور ليضيء لهم باللّيل) وكانت رءوسهم لا تتشعّث، وثيابهم لا تبلى، وإنما ذكّروا بهذه النعم؛ لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو التوراة، والإنجيل، والزبور. وليحذروا مخالفة ما دعوا إليه، من الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن، ولأنّ تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالفة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة، وهذه النعم وإن كانت على آبائهم فهي أيضا نعم عليهم؛ لأن هذه النعم حصل بها النسل؛ ولأنّ الانتساب إلى آباء شرّفوا بنعم، تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر
(٢) البحر المحيط.
وقيل: المراد بالنعمة نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا، حتى
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقرأ الزهري (١): ﴿أوف﴾ بعهدكم مشددا، ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقا للمجرد. وقرأ ابن أبي إسحاق ﴿فارهبوني﴾ بالياء على الأصل. ولما كان من مواضع الوفاء بالعهد، خوف بعضهم من بعض، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله تعالى وحده، فقال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
٤١ - وبعد أن ذكر الوفاء بالعهد العام، انتقل إلى العهد الخاص المقصود من السياق، فقال: ﴿وَآمِنُوا﴾ يا بني إسرائيل: ﴿بِما أَنْزَلْتُ﴾ إفراد الإيمان (٢) بالقرآن بالأمر به، بعد اندراجه تحت العهد؛ لمّا أنّه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهد؛ أي: صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلته على محمد صلّى الله عليه وسلّم ﴿مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾؛ أي: حال كون القرآن مصدقا للتوراة؛ لأنه نازل حسبما نعت فيها، وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم؛ لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإن إيمانهم بما معهم، مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ﴾ فريق ﴿كافِرٍ بِهِ﴾؛ أي: بالقرآن، فإن وزر المقتدي يكون على المبتدىء كما يكون على المقتدي؛ أي (٣): لا تسارعوا إلى الكفر به؛
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى (٢): وآمنوا يا أهل الكتاب! بما أنزلته على محمد صلّى الله عليه وسلّم، من القرآن، وصدقوا أنه من عندي، حالة كون ذلك المنزل مصدقا، وموافقا لما معكم؛ أي: للكتاب الذي معكم من التوراة والإنجيل في التوحيد، وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعض الشرائع، ولا تكونوا أيها اليهود أول من يكفر بهذا القرآن من أهل الكتاب؛ لأنكم إذا كفرتم به كفر أتباعكم، فتكونوا أئمة في الضلال، أو لا تكونوا أول من جحد مع المعرفة؛ لأن كفر قريش مع الجهل لا مع المعرفة.
(٢) العمدة.
ومعنى الآية: لا تكفروا به، فتكونوا أولا بالنسبة لمن بعدكم من ذريتكم، فتبوءوا بإثمكم وإثمهم، فهذا أبلغ من قوله ولا تكفروا؛ لأن فيه إثما واحدا؛ أي: بل يجب أن تكونوا أول من آمن به، لأنكم أهل نظر في معجزاته وعلم بشأنه ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي﴾؛ أي: لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هي الحظوظ الدنيوية، فإنها وإن جلّت قليلة مسترذلة بالنسبة إلى ما فاتهم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان. قيل: كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويعطونهم الرّشا على تحريفهم الكلم، وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع. وكان ملوكهم يجرون عليهم الأموال؛ ليكتموا ويحرفوا، فلما كانت لهم رياسة عندهم، ومآكل منهم، خافوا أن يذهب ذلك منهم؛ أي: من الأحبار لو آمنوا بمحمد واتبعوه، وهم عارفون صفته وصدقه، فلم يزالوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويغيرون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما حكي أن كعب بن الأشرف قال لأحبار اليهود: ما تقولون في محمد؟ قالوا: إنه نبيّ. قال لهم: كان لكم عندي صلة وعطية لو قلتم غير هذا. قالوا: أجبناك من غير تفكر، فأمهلنا نتفكر وننظر في التوراة، فخرجوا، وبدّلوا نعت المصطفى بنعت الدّجال، ثم رجعوا وقالوا ذلك، فأعطى كلّ واحد منهم صاعا من شعير، وأربعة أذرع من الكرباس، فهو القليل الذي ذكره الله سبحانه في هذه الآية الكريمة.
والمعنى: ﴿وَلا تَشْتَرُوا﴾؛ أي: لا تأخذوا بكتمان آياتي؛ أي: بكتمان محمد صلّى الله عليه وسلّم المذكور في كتابكم ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؛ أي: عوضا يسيرا من الدنيا من سفلتكم يعني: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم.
وعبارة «الجمل» هنا (٢): وذلك أن كعب بن الأشرف، ورؤساء اليهود، وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم، وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئا معلوما من زرعهم، وثمارهم، ونقودهم، فخافوا أنهم إن بيّنوا صفة
(٢) الفتوحات.
٤٢ - ﴿وَلا تَلْبِسُوا﴾؛ أي: ولا تخلطوا ﴿الْحَقَّ﴾ المنزّل من عندي في أوصاف محمد صلّى الله عليه وسلّم ﴿بِالْباطِلِ﴾ المخترع من عندكم؛ أي: لا تخلطوا الحقّ الذي أنزلت عليكم في التوراة، من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالكذب الذي تكتبونه بأيديكم، من تغيير صفته، وتبديل نعته، وهو معطوف (٢) على ما قبله. واللّبس بالفتح: الخلط؛ أي: لا تخلطوا الحقّ المنزّل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميّز بينهما، أو لا تجعلوا الحقّ ملتبسا، بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله، أو تذكرونه في تأويله.
وفي «البحر» ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ﴾؛ أي: الصدق (٣) بالكذب، قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها، أو بما بدّلوا فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانة؛ لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى غيرهم، وجحدهم أنه ما بعث إليهم، قاله أبو العالية، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم بصفة
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَ﴾ لا ﴿تَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ مجزوم (١) عطفا على تلبسوا، والمعنى: النّهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا: لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالجزم، نهيا عن كل واحد من الفعلين، أو منصوب بإضمار أن، وعلى الأول يكون كل واحد من اللّبس والكتم منهيا عنه، وعلى الثاني يكون المنهيّ عنه هو الجمع بين الأمرين، ومن هذا يظهر رجحان دخوله تحت حكم النهي، وأنّ كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد: النهي عن كتم حجج الله التي أوجب تبليغها، وأخذ عليهم بيانها. وجملة قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حالية من واو الفاعل في الفعلين؛ أي: حالة كونكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون، أو أنتم تعلمون أنه حق نبي مرسل، قد أنزل عليكم ذكره في كتابكم، فجحدتم نبوته مع العلم به، أو المعنى: وأنتم تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم، وليس إيراد الحال لتقييد المنهي به، بل لزيادة تقبيح حالهم، إذ الجاهل قد يعذر.
وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء، فقد جاء في كتبهم (٢):
١ - التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب.
٢ - أن الله سبحانه يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل، يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية هاجر، وبيّن علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه، فأخذ الأحبار والرهبان يلبسّون على العامّة الحقّ بالباطل، ويوهمونهم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم من أولئك الأنبياء الكذبة، الذين وصفوا في التوراة بالكذب، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين. وسبيل دعوتهم إلى الله أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم، بعدم الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم،
(٢) المراغي.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تعلّم علما لا يبتغي به وجه الله، لا يتعلّمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»؛ أي: ريحها.
فمن (٢) رهب وصاحب التقوى، لا يأخذ على علمه عوضا، ولا على وصيته ونصيحته صفدا، بل يبين الحق ويصدع به، ولا يلحقه في ذلك خوف ولا فزع.
وفي الحديث: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان»، وفي التنزيل ﴿يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ قال القرطبي: وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والعلم لهذه الآية ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ والفتوى في هذا الزمان، على جواز الاستئجار لتعليم القرآن، والفقه، وغيره؛ لئلا يضيع. وفي الحديث «إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». والآية في حق من تعيّن عليه التعليم، فأبى حتى يأخذ عليه
(٢) روح البيان.
وقالوا في زماننا: تغيّر الجواب في بعض المسائل، لتغيّر الزمان، وخوف اندراس العلم والدّين.
منها: ملازمة العلماء أبواب السلاطين.
ومنها: خروجهم إلى القرى لطلب المعيشة.
ومنها: أخذ الأجرة لتعليم القرآن، والأذان، والإمامة.
ومنها: العزل عن الحرّة بغير إذنها.
ومنها: السلام على شربة الخمور، ونحوها، فأفتى بالجواز فيها، خشية الوقوع فيما هو أشدّ منها وأضرّ. كذا في «نصاب الأحساب»، وغيره.
٤٣ - ثم ذكر لزوم الشرائع لهم بعد الإيمان، فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ خطاب (١) لبني إسرائيل؛ أي: اقبلوا يا بني إسرائيل! وجوب الصلوات الخمس المفروضة، واعتقدوا فرضيتها، وأدوها بشرائطها، وأركانها، وآدابها في أوقاتها المحدودة لها، كصلاة المسلمين، فإن غيرها ك: لا صلاة ﴿وَآتُوا الزَّكاةَ﴾؛ أي: اعطوا
وخصّ الله سبحانه وتعالى الركوع بالذكر؛ تحريضا لليهود على الإتيان بصلاة المسلمين، فإن اليهود لا ركوع في صلاتهم، فكأنّه تعالى قال: صلّوا الصلاة ذات الركوع في جماعة. وقيل: لكونه ثقيلا على أهل الجاهلية. وقيل:
إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة، والركوع الشرعيّ: هو أن ينحني المصلّي، ويمدّ ظهره وعنقه، ويفتح أصابع يديه، ويقبض على ركبتيه، ثم يطمئن راكعا ذاكرا بالذكر المشروع فيه.
والخلاصة (١): أنه سبحانه وتعالى، بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان، أمرهم بصالح عمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة؛ لتطهّر نفوسهم، كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هي: مظهر شكر الله على نعمه، والصلة العظيمة بين الناس؛ لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله، وهم الفقراء؛ ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة، فالغنيّ في حاجة إلى الفقير، والفقير في حاجة إلى الغني، كما ورد في الحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».
وبعد (٢) إذ أمرهم بالركوع مع الراكعين؛ أي: أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلّوا صلاتهم، وقد حثّ على صلاة الجماعة؛ لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين؛ ولأنه عند اجتماعهم
(٢) المراغي.
٤٤ - والخطاب في قوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ موجّه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان. فقد روي عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون من نصحوه سرا بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يؤمنون به. وقال السدّيّ: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى، وينهونهم عن معصيته، وهم يفعلون ما ينهون عنه. والاستفهام (١) فيه للتوبيخ، والتقريع لهم على ما فعلوا من أمر الناس، وترك أنفسهم المضمّن للإنكار والنهي، ونظيره في النهي، قول أبي الأسود الدؤليّ:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم |
وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها | فإن انتهت عنه فأنت حكيم |
والأمر (٢): القول لمن دونك افعل، والمراد بالناس سفلتهم. والبرّ: التوسع في الخير، من البرّ الذي هو الفضاء الواسع ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: (٣) تتركونها
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
أليس لكم عقل تعرفون به، أنه قبيح منكم عدم إصلاح أنفسكم، والاشتغال بغيركم؟!.
والعقل في الأصل: المنع والإمساك، ومنه العقال الذي يشدّ به وظيف البعير إلى ذراعيه لحبسه عن الحراك، سمي به النور الروحانيّ الذي به تدرك النفس العلوم الضروريّة، والنظرية؛ لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح، ويعقل على ما يحسن، ومحله الدماغ؛ لأنّ الدماغ محلّ الحسّ، وعند البعض محلّه القلب؛ لأنّ القلب معدن الحياة ومادّة الحواس، وعند البعض هو نور في بدن الآدمي والله أعلم. والأوّل أرجح، ثم هذا التوبيخ ليس على أمر الناس بالبر، بل لترك العمل به، فمدار الإنكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة، وهي جملة تنسون أنفسكم، دون ما عطفت هي عليه، وهي أتأمرون الناس بالبر. ولا يستقيم قول: من لا يجوّز الأمر بالمعروف لمن لا يعمل به لهذه الآية، بل يجب العمل به، ويجب الأمر به، وقد جاء في الخبر «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه»، وذلك؛ لأنه إذا أمر به مع أنه لا يعمل به، وفقد ترك واجبا، وإذا لم يأمر به، فقد ترك واجبين، فالأمر بالحسن حسن وإن لم يعمل به، ولكن قلّما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه. ومن أمر بخير، فليكن أشد الناس مسارعة إليه، ومن نهى عن شيء، فليكن أشدّ الناس انتهاء عنه.
وهذه الآية كما ترى، ناعية على من يعظ غيره، ولا يعظ نفسه سوء
ويروى أنه كان عالم من العلماء، مؤثّر الكلام، قويّ التصرف في القلوب، وكان كثيرا ما يموت من أهل مجلسه واحد، أو اثنان من شدة تأثير وعظه. وكان في بلده عجوز لها ولد صالح، رقيق القلب، سريع الانفعال، وكانت تحترز عليه، وتمنعه من حضور مجلس الواعظ، فحضره يوما على حين غفلة منها، فوقع من أمر الله تعالى ما وقع، ثمّ إن العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق فقالت:
أتهدي الأنام ولا تهتدي... ألا إن ذلك لا ينفع
فيا حجر السّنّ حتى متى... تسنّ الحديد ولا تقطع
وأشدّ (٢) ما قرّع الله سبحانه في هذا الموضع، من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أوّلا أمرهم للناس بالبرّ، مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس؛ إيهاما للناس بأنهم مبلغون عن الله ما يتحمّلونه من حججه، ومبيّنون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه،
وهم أترك الناس لذلك، وأبعدهم من نفعه، وأزهدهم فيه.
وهذا الخطاب (٣) وإن كان موجها إلى اليهود، فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم، فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح، لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد.
٤٥ - وبعد أن بيّن سبحانه
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وروى أحمد أنه صلّى الله عليه وسلّم: كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وروي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - نعي له بنت وهو في سفر، فاسترجع وقال: (عورة سترها، ومؤونة كفاها، وأجر ساقه الله، ثم تنحّى عن الطريق وصلّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾.
واعلم: أنّ الصبر (٣) الحقيقيّ إنما يكون، بتذكّر وعد الله بحسن الجزاء، لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
﴿وَإِنَّها﴾؛ أي: وإن الصلاة ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾؛ أي: لثقيلة شاقّة ﴿إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ﴾؛ أي: إلا على المتواضعين المستكينين إلى طاعة الله تعالى، الخائفين من سطوته، المصدّقين بوعده ووعيده. وقال ابن جرير: معنى الآية (١): واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين؛ أي: المتواضعين المستكينين لطاعة الله، المتذللين من مخافته. هكذا قال والظاهر (٢): أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، فإنها عامة لهم ولغيرهم. والله أعلم.
وفي «البحر»: أنّ الضمير في ﴿وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾ عائدة على الصلاة، هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية، أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. وقيل: يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ فيكون مثل: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ﴾؛ أي: العدل أقرب. وقيل: غير ذلك، وأظهرها ما بدأنا به أولا. انتهى.
والاستثناء في قوله (٣): ﴿إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ﴾ مفرغ؛ لأن المعنى: وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين؛ أي: وإن الصلاة لشاقّة صعبة الاحتمال، إلا على المخبتين لله، الخائفين من شديد عقابه، وإنما (٤) لم تثقل على هؤلاء؛ لأنهم
(٢) ابن كثير.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
٤٦ - ثمّ وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم، وتدعوهم للإخبات إليه، فقال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ ويوقنون، ويعلمون، ويعتقدون اعتقادا جازما في كل لحظة ﴿أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾؛ أي: ملاقوا جزائه بالموت. والمفاعلة هنا، ليست على بابها، ولا أرى بأسا في حملها على معناها الأصليّ من دون تقدير مضاف؛ أي: أنهم معاينوه، وراؤوه، وهو كناية عن شهودهم مشهد العرض والسؤال يوم القيامة، وهو الوجه فيما يروى في الأخبار، نحو: لقي الله وهو عليه غضبان، وما يجري مجراه؛ أي: يعتقدون في كل لحظة اعتقادا جازما أنهم يبعثون، ويرون ربهم، ويحاسبون على أعمالهم ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى ربهم ﴿راجِعُونَ﴾ في الآخرة؛ أي: إلى جزائه إياهم، فيجازيهم بأعمالهم؛ أي: يصدّقون بالبعث، والحساب، والمجازاة، وأمّا الذين لا يوقنون بالجزاء، ولا يرجون الثواب، ولا يخافون العقاب، كانت عليهم مشقة خالصة، فتثقل عليهم، كالمنافقين، والمرائين. فالصبر على الأذى والطاعات، من باب جهاد النفس، وقمعها عن شهواتها، ومنعها من تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء، والصالحين. قال يحيى بن اليمان: الصبر: أنّ لا تتمنّى حالة سوى ما رزقك الله، والرضى بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك، وهو بمنزلة الرأس من الجسد. اه.
فإن قلت: ما فائدة قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾ مع قوله: ﴿أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ مع أن الأول يغني عن الثاني؟.
قلت: لا يغني عنه؛ لأنّ المراد بالأول: أنهم ملاقو ثواب ربهم على الصبر
والخلاصة (١): أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء، وأنهم راجعون إليه بعد البعث، فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل. وعبر بالظن؛ للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشقّ عليه الصلاة، فما ظنك بمن يتيقنه، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ، فكأنّ هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله،
٤٧ - ثم ذكّرهم سبحانه وتعالى، بنعمه، وآلائه العديدة مرة أخرى، فقال: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾؛ أي: يا أولاد العبد الصالح! المطيع لربه، المسمى بإسرائيل؛ أي: بعبد الله ﴿اذْكُرُوا﴾؛ أي: اشكروا ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ﴾ بها ﴿عَلَيْكُمْ﴾؛ أي (٢): على آبائكم بإنزال المنّ والسلوى، وتظليل الغمام، وتفجير الماء من الحجر، وغيرها. وذكر النعم على الآباء، إلزام الشكر على الأبناء، فإنهم يشرفون بشرفهم، ولذلك خاطبهم، فقال: ﴿أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ ولم يقل: فضلت آباءكم؛ لأن في فضل آبائهم فضلهم، وهذا تأكيد لما تقدّم، وتمهيد لما عطفه عليه من التذكير بالتفضيل، الذي هو من أجل النعم وَاذكروا ﴿أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾؛ أي: فضّلت آباءكم عَلَى ﴿الْعالَمِينَ﴾ من عطف الخاص على العام للتشريف؛ أي: فضلت آباءكم على عالمي زمانهم؛ بما منحتهم من العلم، والإيمان، والعمل الصالح، وجعلتهم أنبياء، وملوكا مقسطين، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده، قبل أن يغيّروا، وهذا كما قال في مريم: ﴿وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ﴾؛ أي: نساء زمانك، فإن خديجة، وعائشة، وفاطمة، أفضل منها، فلم يكن لهم فضل على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال تعالى في حقهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، كما في «التيسير». فالاستغراق في ﴿الْعالَمِينَ﴾ عرفيّ لا حقيقيّ والمعنى؛ أي (٣): وأعطيتكم الفضل والزيادة على
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قال القشيري (١): أشهد الله سبحانه بني إسرائيل فضل أنفسهم، فقال: ﴿فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ﴾ وأشهد محمدا صلّى الله عليه وسلّم فضل ربه، فقال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ وشتان بين من مشهوده فضل نفسه، وبين من مشهوده فضل ربه، وشهوده فضل نفسه، قد يورث الإعجاب، وشهوده فضل ربه، يورث الإيجاب. ثم إن اليهود كانوا يقولون: نحن من أولاد إبراهيم خليل الرحمن، ومن أولاد إسحاق ذبيح الله، والله تعالى يقبل شفاعتهما،
٤٨ - ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)﴾ [البقرة: ٤٩] فرد الله عليهم، فأنزل هذه الآية وقال: ﴿وَاتَّقُوا﴾؛ أي: واخشوا يا بني إسرائيل! وخافوا ﴿يَوْمًا﴾؛ أي: حساب يوم، أو عذاب يوم، وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال، وهو يوم القيامة ﴿لا تَجْزِي﴾ فيه؛ أي: لا تغني ولا تدفع فيه، أو لا تقضي ولا تؤدّي فيه، والجملة صفة يوم، والرابط فيه محذوف، كما قدّرنا ﴿نَفْسٌ﴾ مؤمنة عَنْ ﴿نَفْسٍ﴾ كافرة ﴿شَيْئًا﴾ من
وقرأ ابن السّماك العدويّ (١): ﴿لا تَجْزِي﴾ من أجزأ؛ أي: أغنى. وقيل: جزى، وأجزأ بمعنى واحد ﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْها﴾؛ أي: من النفس الأولى المؤمنة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ﴿ولا تقبل﴾ بالتاء المثناة الفوقية، وهو القياس، والأكثر؛ لأنّ الشفاعة مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء التحتية، فهو أيضا جائز فصيح، لمجاز التأنيث، وحسنه أيضا الفصل بين الفعل ومرفوعه. وقرأ سفيان (٢): ﴿ولا يقبل﴾ بفتح الياء، ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفي ذلك التفات، وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب؛ لأن قبله ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ وبناؤه للمفعول أبلغ؛ لأنه في اللفظ أعمّ، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى؛ أي: ولا يقبل من النفس المؤمنة ﴿شَفاعَةٌ﴾ للنفس الثانية الكافرة، إن شفعت عند الله تعالى، لتخليصها من عذابه؛ أي: لا توجد منها شفاعة فتقبل، ولا يؤذن لها فيها، والشفاعة: طلب الخير من الغير للغير، فلا (٣) شفاعة في حق الكافر، بخلاف المؤمن. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فمن كذب بها لم ينلها» والآيات الواردة في نفي الشفاعة خاصّة بالكافر: وسبب الآية كما مرّ: أن اليهود كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء فآيسهم الله تعالى عن ذلك، لأن الأصول لا تنفع الفروع، إلا إذا كان مع الفروع إيمان ﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْها﴾؛ أي: من النفس الكافرة المشفوع لها، وهي الثانية العاصية ﴿عَدْلٌ﴾؛ أي: فداء من عذاب الله من مال، أو رجل مكانها، أو توبة تنجو بها من النار.
والعدل بالفتح مثل الشيء من خلاف جنسه، وبالكسر مثله من جنسه، وسمّي به
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
فإن قلت: ما الحكمة في تقديم الشفاعة على العدل هنا؟ وعكسه فيما يأتي في قوله: ﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ﴾.
قلت: للإشارة هنا إلى من ميله إلى حبّ نفسه، أشدّ منه إلى حب المال، وثم إلى من هو بعكس ذلك والمعنى؛ أي: ليس (١) لهم أنصار يمنعونهم من عذاب الله، ويدفعون عنهم عقابه يعني (٢): أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل، ولا فدية. بطلت هنالك المحابة، واضمحلت الرّشا، والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء، والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها. والخلاصة (٣): أن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا، من دفع المكروه عن النفس بالفداء، أو بشفاعة الشافعين عند الأمراء، والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق، والباطل على سواها، وتضمحل فيه جميع الوسائل، إلا ما كان من إخلاص في العمل، قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله تعالى.
وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية، يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب، بفداء يدفع، أو
(٢) العمدة.
(٣) المراغي.
٤٩ - ﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ﴾ (١) وقرىء ﴿أنجيناكم﴾ والهمزة للتعدية إلى المفعول، كالتضعيف في نجيناكم، ونسبت هذه القراءة إلى النخعي، وذكر بعضهم أنه قرأ ﴿أنجيتكم﴾ فيكون الضمير فيه موافقا للضمير في نعمتي، ﴿وَإِذْ﴾ في موضع (٢) نصب عطفا على نعمتي، عطف مفصّل على مجمل، وكذلك الظروف الآتية في الكلام المتعلق ببني إسرائيل، وينقضي عند قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ﴾ والخطاب للموجودين في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، تذكيرا لهم بما أنعم الله على آبائهم؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء، والمعنى: ويا بني إسرائيل! اذكروا إذ نجينا آباءكم، وسلمناهم، وخلصناهم ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: من بطش فرعون وأتباعه، وأهل دينه؛ أي: (٣) واذكروا قصة وقت تنجيتنا آباءكم فإن تنجيتهم تنجية لكم، ومن عادة العرب يقولون: قتلناكم يوم عكاظ، أي: قتل آباؤنا آباءكم.
والنجو: المكان العالي من الأرض؛ لأنّ من صار إليه يخلص، ثم سمي كلّ فائز ناجيا؛ لخروجه من ضيق إلى سعة؛ أي: جعلنا آباءكم بمكان حريز، ورفعناكم من الأذى. وفرعون: لقب من ملك العمالقة، ككسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وخاقان لمن ملك الترك، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبّع لمن ملك اليمن، والعمالقة الجبابرة، وهم أولاد عمليق بن لاود بن إرم، بن سام، بن نوح عليه السلام سكان الشام، منهم سمو الجبابرة. وملوك مصر، منهم سموا بالفراعنة، ولعتوه اشتق منه تفرعن الرجل، إذا عتا وتمرّد، فليس المراد الاستغراق، بل الذين كانوا بمصر. وفرعون موسى: هو الوليد بن مصعب بن الريان، وكان من القبط، وعمّر أكثر من أربعمائة سنة. وقيل: إنه كان عطارا
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
وقد روى المؤرخون: أنّ أول من دخل مصر من بني إسرائيل، يوسف عليه السلام، وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة، نحو: ستمائة ألف، حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد، ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستن لهم، ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن، والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم، لا يشركون المصريين. في شيء، ولا يندمجون في غمارهم إلى ما لهم من أنانية، وإباء، وترفع على
والعبرة من هذه القصص: أنه كما أنعم على اليهود، ثمّ اجترحوا الآثام، فعاقبهم بصنوف البلاء، ثم تاب عليهم وأنجاهم أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم، فقد كانوا أعداء، فألّف بين قلوبهم، وأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا مستضعفين في الأرض، فمكّن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية، وجعل لهم فيها السلطان والقوة، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على من فرّطوا، أو قصّروا.
ثم لما كفروا بهذه النعم (١)، أذاقهم الله تعالى ألوانا من العذاب على يد التّتار في بغداد، وفي الحروب الصليبية، إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية، ولا يزالون ينتقصون بلادهم من أطرافها، ويصبون عليهم العذاب، وهم لاهون ساهون، وكلما حلت كارثة، أو أصابتهم جائحة، أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر، دون أن يتعرّفوا أسبابها، ويبادروا إلى علاجها، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحل بهم من النكبات، ويدهمهم من الويلات. وقوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ حال من آل فرعون؛ أي: واذكروا قصة وقت تنجيتنا آباءكم من آل فرعون وقومه، حالة كونهم يذيقونكم ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ وأشده، ويكلفونكم أشقّ الأشغال، وأتعبها، وأصعبها. وقيل: حال من ضمير المفعول في نجيناكم، والمعنى: نجيناكم مسومين منهم أقبح العذاب، كقولك: رأيت زيدا يضربه عمرو؛ أي: حال كونه مضروبا لعمرو. وذلك (٢) أنّ فرعون جعل بني إسرائيل
(٢) روح البيان.
فإن قلت: ما الحكمة في ترك العاطف هنا في قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ﴾؟ وذكره في سورة إبراهيم؟.
قلت: لأن ما هنا من كلام الله تعالى فوقع تفسيرا لما قبله، وما هناك من كلام موسى، وكان مأمورا بتعداد المحن في قوله: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ فعدد المحن عليهم، فناسب ذكر العاطف. انتهى من «فتح الرحمن».
وقرأ الجمهور ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ (١) بالتشديد، وهو أولى؛ لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته. وقرأ الزهريّ، وابن محيصن ﴿يذبحون﴾ مخففا من ذبح المجرد؛ اكتفاء بمطلق الفعل، وللعلم بتكريره من متعلقاته. وقرأ عبد الله
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا | تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا |
وذلك (١) أنّ فرعون رأى في منامه، كأنّ نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحاطت بمصر، وأخرجت كل قبطيّ بها، ولم تتعرض لبني إسرائيل، فهاله ذلك، وسأل الكهنة والسحرة عن رؤياه، فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام، يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، وجمع القوابل، فقال لهن: لا يسقط على أيديكن غلام يولد في بني إسرائيل إلا قتل، ولا جارية إلا تركت، ووكل القوابل، فكن يفعلن ذلك حتى قيل: إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثنا عشر ألف صبيّ، وتسعون ألف وليد، وقد أعطى الله نفس موسى عليه السلام، من القوة على التصرف، ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء، ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة، ثم أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤوس القبط على فرعون، وقال: إن الموت وقع في بني إسرائيل، فتذبح صغارهم، ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة، ويتركوا سنة، فولد هارون عليه السلام في السنة التي لا
وقال أبو حيان: (٣) هو أضعف من القول الذي قبله؛ لما فيه من إعادة اسم الإشارة إلى أبعد مذكور، وهو المصدر المفهوم من نجيناكم. والمتبادر إلى الذهن، والأقرب في الذكر، هو القول الأول. اه.
٥٠ - ﴿وَ﴾ اذكروا يا بني إسرائيل! أيضا ﴿إِذْ فَرَقْنا﴾ وفلقنا، وشققنا، وفصلنا ﴿بِكُمُ﴾؛ أي: بسبب إنجائكم، فالباء
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
قال القرطبي: أن الله تعالى لمّا أنجاهم وأغرق فرعون، قالوا: يا موسى! إنّ قلوبنا لا تطمئن أن فرعون قد غرق، حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه.
وروي (٢) أنه: لما دنا هلاك فرعون، أمر الله سبحانه موسى عليه السلام، أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلا، فأمرهم أن يخرجوا، وأن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه، وأن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح، ومن خرج لطخ بابه بكف من دم؛ ليعلم أنه قد خرج، فخرجوا ليلا وهم ستمائة ألف وعشرون ألف مقاتل، لا يعدون فيهم ابن العشرين
لصغره، ولا ابن الستين لكبره، والقبط لا يعلمون، ووقع في القبط موت فجعلوا يدفنونهم، وشغلوا عن
(٢) روح البيان.
واعلم (١) أنّ هذه الواقعة، كما أنها لموسى عليه السلام، معجزة عظيمة لأوائل بني إسرائيل، موجبة عليهم شكرها، كذلك اقتصاصها على ما هي عليه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية، وتنقاد لها النفوس الغيبة، موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالأذهان؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم بذلك مع أنه كان أميّا لم يقرأ كتابا، وهذا غيب لم يكن له علم عند العرب، فإخباره به دلّ على أنه أوحى إليه ذلك، وذلك علامة لنبوته، فما تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها،
وفي الآية تهديد للكافرين، وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا، وينتهوا عن المعاصي في جميع الأوقات، خصوصا في الزمان الذي أنجى الله فيه موسى مع بني إسرائيل من الغرق، وهو اليوم العاشر من المحرم.
وفي سفر الخروج من التوراة (١): أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر أربعمائة وثلاثين سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم اتّبعهم فرعون وجنوده، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم، وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه، وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام، كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم.
وزعم بعض الناس: أنّ عبور بني إسرائيل البحر، كان وقت الجزر وفي بحر القلزم - البحر الأحمر - رقارق يتيسّر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقتين عظيمتين ممتدّين، كالطود العظيم، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:
﴿وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ ولم يقل فرقنا لكم وقوله: ﴿فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة، كقوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ﴾ وقوله: ﴿وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢)﴾ ألا ترى أنّ الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع (٢)، ولما اتبعهم فرعون وجنوده، ورآهم قد عبروا البحر، مشى إثرهم، وكان المدّ قد بدأ، ولم يتم خروج بني
(٢) المراغي.
ومثل هذا التأويل، ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بدّ أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي، وإرسال الرسل، وتأييدهم بالمعجزات.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَإِذْ فَرَقْنا﴾ بالتخفيف. وقرأ الزهري ﴿فَرَّقنا﴾ بالتشديد ويفيد التكثير؛ لأنّ المسالك كانت اثنتي عشرة مسلكا على عدد أسباط بني إسرائيل، ومن قرأ ﴿فَرَقْنا﴾ مجردا اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط
٥١ - ﴿وَ﴾ اذكروا يا بني إسرائيل! ﴿إِذْ واعَدْنا﴾؛ أي: قصة وعدنا ﴿مُوسى﴾ ابن عمران عليه السلام، وقت انقضاء أربعين ليلة لإيتاء التوراة، فصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي المجرد، فيكون صدور الوعد من واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، أو على أصلها، فإنّ الوعد وإن كان من الله، فقبوله كان من موسى، وقبول الوعد شبه الوعد، أو أنّ الله تعالى وعده بالوحي، وهو وعده المجيء للميقات إلى الطور (٢). قرأ الجمهور ﴿وعدنا﴾ بالألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وقرأ أبو عمرو ﴿ووعدنا﴾ بغير ألف هنا، وفي (الأعراف) و (طه) وقد رجح أبو عبيد، قراءة من قرأ ﴿وعدنا﴾ بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ ﴿واعَدْنا﴾ بالألف، ووافقه على معنى ما قال: أبو حاتم، ومكيّ، وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر. وقال أبو حاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه،
(٢) البحر المحيط.
وقوله ﴿مُوسى﴾ مفعول أوّل لواعدنا. (مو) (١) بالعبرانية الماء. و (شى) بمعنى الشجر، فقلبت الشين المعجمة سينا في العربية، وإنّما سمّي به؛ لأنّ أمّه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون، وألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغسلن، فوجدن التابوت فأخذنه، فسمّي عليه السلام، باسم المكان الذي أصيب به، وهو الماء والشجر. ونسبه: هو موسى بن عمران، بن يصهر بن قاهث بن لاوى، بن يعقوب إسرائيل، بن إسحاق، بن إبراهيم خليل الرحمن، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾؛ أي: واعدناه تمام أربعين ليلة لإيتاء التوراة، وهو مفعول ثاني لواعدنا، ولكنه على حذف مضاف كما قدرنا أمره الله سبحانه بصوم ثلاثين وهو ذو القعدة، ثم زاد عليه عشرا من ذي الحجة. قاله أبو العالية، وأكثر المفسرين.
وقيل ذو الحجة، وعشر من المحرم، وعبّر (٢) عنها بالليالي؛ لأنها غرر الشهور، وشهور العرب وضعت على سير القمر، ولذلك وقع بها التاريخ. فالليالي أولى الشّهور، والأيّام تبع لها، أو لأنّ الظّلمة أقدم من الضوء، بدليل ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلا ونهارا؛ لأنّه لو كان التفسير باليوم، أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلمّا نصّ على الليالي، اقتضت قوّة الكلام أنّه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكليم، أو لإنزال التوراة. قال المهدويّ: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوما وعشرة ليال، فقالوا:
(٢) روح البيان.
وقرأ عليّ (١)، وعيسى بن عمر، بكسر باء ﴿أربعين﴾ شاذا؛ اتباعا لكسرة العين؛ أي: جعلنا انقضاء أربعين وتمامها، ميعادا لتكليمه، وإعطاء الكتاب له، لتعملوا به لمّا عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه، والمعنى: واذكروا إذ واعدنا موسى إعطاء الكتاب المسمى بالتوراة، بعد ما تم له أربعون ليلة في الرياضة؛ لأنّ بعد تمام الخدمة من العبد، تكون العطايا من الرب سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ﴾ وجعلتم ﴿الْعِجْلَ﴾ الذي صاغه السامريّ من الحلي الذي استعاروه من القبط، بسبب العرس المسمّى بالبهموت إلها ومعبودا لكم ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد ذهاب موسى إلى محل المناجاة ﴿وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ﴾؛ أي: والحال أنكم ظالمون أنفسكم، وضارّون لها بعبادة العجل، أو واضعون العبادة في غير موضعها؛ أي: بوضع عبادة الله تعالى في غير موضعها بعبادة العجل، والجملة حال من ضمير اتخذتم، وهذا تنبيه على أن كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل زمن موسى.
وأتى بثم في قوله (٢): ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ وهو ولد البقرة الذكر؛ لأنه تعالى، لمّا وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه، وفضيلة بني إسرائيل، ليكون ذلك تنبيها للحاضرين على علوّ درجتهم، وتعريفا للغائبين، وتكملة للدين، كان ذلك من أعظم النعم، فلما أتوا عقب ذلك بأقبح أنواع الكفر والجهل، كان ذلك في محل التعجب، فهو كمن يقول: إنّني أحسنت إليك، وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسوء والأذى
٥٢ - ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ﴾؛ أي: محونا عنكم جريمتكم التي هي عبادة العجل حين تبتم ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾؛ أي: من بعد الاتخاذ الذي هو متناه في القبح، فلم نعاجلكم بالإهلاك، بل أمهلناكم إلى مجيء موسى، فنبهكم وأخبركم بكفارة ذنوبكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لكي
(٢) روح البيان.
وأصل الشكر: تصوّر النعمة وإظهارها، وحقيقته العجز عن الشكر، والمعنى؛ أي: ثم محونا تلك الجريمة بقبول التوبة، ولم نعاجلكم، بل أمهلناكم حتى جاءكم موسى، وأخبركم بكفارة ذنوبكم؛ ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر على النعم. قاله الجمهور وفي «البحر» ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي (١): تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرون النعمة بالثناء. وقالوا: الشكر باللسان؛ وهو الحديث بنعمة المنعم والثناء عليه بذلك، وبالقلب؛ وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه وبالعمل، كما قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا﴾ وبالله؛ أي: شكر الله بالله؛ لأنّه لا يشكره حق شكره إلا هو. وقال بعضهم:
وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة | وبالقلب أخرى ثمّ بالعمل الأسنى |
وشكري لربّي لا بقلبي وطاعتي | ولا بلساني بل به شكره عنّا |
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيّدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع، ليعدّكم للاسترشاد بها، حتى لا تقعوا في وثنيّة أخرى، وأن من كمال الاستعداد لفهم الكتاب، أن تعرفوا أنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم دليل على صحة نبوته، فتؤمنوا به، وتهتدوا بهديه، وتتبعوا سبيل الرشاد الذي سلكه.
واعلم: أنه روي (٢): أن بني إسرائيل، لمّا أمنوا من عدوهم بإغراق الله آل فرعون، ودخلوا مصر، لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله سبحانه موسى أن ينزل عليه التوراة، فقال موسى لقومه: إني ذاهب لميقات ربي، آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون، وما تذرون، ووعدهم أربعين ليلة، واستخلف عليهم أخاه هارون، فلما أتى الوعد جاءه جبريل على فرس، يقال له: فرس الحياة، لا يصيب شيئا إلا حيي؛ ليذهب بموسى إلى ربه، فلما رآه السامريّ، وكان رجلا صائغا من أهل باجرمي، واسمه ميحا، ورأى مواضع الفرس تخضرّ من ذلك، وكان منافقا، أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، فلما رأى جبريل على ذلك، قال: إنّ لهذا شأنا، وأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل.
وقيل: إنه عرف جبريل، لأنّ أمه حين خافت عليه أن يذبح سنة ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل، خلفته في غابة، وكان جبريل يأتيه فيغذيه بأصابعه، فكان السامريّ يمصّ من إبهام يمينه عسلا، ومن إبهام شماله سمنا، فلمّا رآه حين عبر البحر عرفه، فقبض قبضة من أثر فرسه، فلم تزل القبضة في يده حتى انطلق موسى إلى
(٢) روح البيان.
وقيل: دخل الريح في جوفه من خلفه وخرج من فيه، كهيئة الخوار، فقال للقوم:
هذا إلهكم وإله موسى، فنسي؛ أي: أخطأ موسى الطريق وربّه هنا، وهو ذهب يطلبه، فأقبلوا كلهم على عبادة العجل إلا هارون، مع اثني عشر ألفا اتبعوا هارون، ولم يتبعه غيرهم، وهارون قد نصحهم، ونهاهم، وقال: يا قوم! إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. وقيل: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة، ثمّ زيدت العشر، وكانت فتنتهم في تلك العشر، فلمّا مضت الثلاثون ولم يرجع موسى، وظنّوا أنه قد مات، ورأوا العجل وسمعوا قول السامري، عكفوا على العجل يعبدونه.
قال أبو اللّيث في «تفسيره»: وهذا الطريق أصحّ، فلما رجع موسى ووجدهم على ذلك، ألقى الألواح، فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد، وهو الحلال والحرام وما يحتاجون، وأحرق العجل وذرّاه في البحر، فشربوا من مائه حبّا للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة، وورمت بطونهم، فتابوا، ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم، وهذه حالهم. وأمّا هذه الأمة فلا يحتاجون إلى قتل النفس للتوبة في مثل هذه الصورة.
﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)﴾.
﴿يا بَنِي﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿بَنِي﴾ منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وقد تغير بناء مفرده، كما سيأتي في مبحث التصريف ﴿بَنِي﴾ مضاف ﴿إِسْرائِيلَ﴾ مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة النداء مستأنفة ﴿اذْكُرُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعل، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب ﴿نِعْمَتِيَ﴾ مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ﴿نعمة﴾ مضاف، و (الياء) ضمير المتكلم في محل الجر مضاف إليه ﴿الَّتِي﴾ اسم موصول في محل النصب صفة لنعمتي ﴿أَنْعَمْتُ﴾ فعل وفاعل و ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أنعمتها ﴿وَأَوْفُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على اذكروا ﴿بِعَهْدِي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأوفوا ﴿أُوفِ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنا يعود على الله، والجملة الفعلية جملة طلبية لا محل لها من الإعراب ﴿بِعَهْدِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأوف ﴿وَإِيَّايَ﴾ الواو عاطفة ﴿إِيَّايَ﴾ ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول به لفعل محذوف وجوبا يفسره المذكور بعده، تقديره:
وارهبوا إياي ﴿فَارْهَبُونِ﴾ ارهبوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة اذكروا ﴿فَارْهَبُونِ﴾ الفاء واقعة في جواب الأمر المحذوف، تقديره: تنبهوا. فارهبون نظير قولهم: زيدا فاضرب؛ أي: تنبه فاضرب زيدا، ثم حذف تنبه، فصار فاضرب زيدا، ثم قدم المفعول إصلاحا للفظ؛ لئلا تقع الفاء صدرا؛ وإنما دخلت الفاء لربط هاتين الجملتين؛ أو زائدة لتحسين اللفظ، وكذا يقال في قوله الآتي: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ ارهبون فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة،
﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾.
﴿وَآمِنُوا﴾ الواو عاطفة ﴿آمِنُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة اذكروا ﴿بِما﴾ الباء حرف جر ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلق بآمنوا ﴿أَنْزَلْتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: بما أنزلته ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من ما الموصولة، أو الضمير المحذوف لِما جار ومجرور متعلق بمصدقا ﴿مَعَكُمْ﴾ مع منصوب على الظرفية المكانية، والكاف مضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف صلة لما، أو صفة لها ﴿وَلا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَكُونُوا﴾ فعل ناقص واسمه، مجزوم بلا الناهية ﴿أَوَّلَ﴾ خبرها منصوب ﴿كافِرٍ﴾ مضاف إليه ﴿بِهِ﴾ متعلق بكافر، وجملة تكونوا معطوفة على جملة آمنوا ﴿وَلا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَشْتَرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية معطوف على جملة آمنوا ﴿بِآياتِي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتشتروا ﴿ثَمَنًا﴾ مفعول به لتشتروا ﴿قَلِيلًا﴾ صفة له ﴿وَإِيَّايَ﴾ الواو عاطفة ﴿إِيَّايَ﴾ ضمير نصب منفصل في محل النصب بفعل محذوف وجوبا، تقديره: واتقوا إياي ﴿فَاتَّقُونِ﴾ والجملة المحذوفة معطوفة على جملة آمنوا ﴿فَاتَّقُونِ﴾ الفاء رابطة لجواب الأمر، أو زائدة، كما مرت الإشارة إليه (اتقوا) فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، والياء المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
﴿وَلا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَلْبِسُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية ﴿الْحَقَّ﴾ مفعول به ﴿بِالْباطِلِ﴾ جار ومجرور متعلق بتلبسوا، والجملة معطوفة على
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)﴾.
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، المضمن للتوبيخ والتعجب من هؤلاء اليهود؛ لأنه ليس هناك أقبح في العقول، من أن يأمر الإنسان غيره بخير، وهو لا يأتيه تأمرون فعل وفاعل مرفوع بثبات النون ﴿النَّاسَ﴾ مفعول به ﴿بِالْبِرِّ﴾ متعلق به، والجملة جملة طلبية لا محل لها من الإعراب ﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ الواو عاطفة ﴿تَنْسَوْنَ﴾ فعل وفاعل معطوف على تأمرون ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ مفعول به ﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو حالية ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿تَتْلُونَ الْكِتابَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل تنسون، تقديره: وتنسون أنفسكم حالة كونكم تالين الكتاب ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، تقديره: أتفعلون ذلك فلا تعقلون، والجملة المحذوفة مستأنفة، والفاء عاطفة و ﴿لا﴾ نافية ﴿تَعْقِلُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على الجملة المحذوفة. ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ الواو استئنافية ﴿اسْتَعِينُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة مستأنفة ﴿بِالصَّبْرِ﴾ متعلق باستعينوا ﴿وَالصَّلاةِ﴾ معطوف على الصبر ﴿وَإِنَّها﴾ الواو حالية، على ما قيل، أو استئنافية ﴿إِنَّها﴾ ناصب واسمه ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ اللام حرف ابتداء (كبيرة) خبر إن ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، وشرطه أن يسبق بنفي، فيؤول الكلام هنا بالنفي، تقديره: وإنها لا تخف
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الجر صفة للخاشعين ﴿يَظُنُّونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿مُلاقُوا﴾ خبره مرفوع بالواو ﴿رَبِّهِمْ﴾ مضاف إليه، وجملة أن من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن، تقديره: الذين يظنون لقاء ربهم بالبعث ﴿وَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق براجعون و ﴿راجِعُونَ﴾ خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول من أن الأولى، تقديره: ويظنون رجوعهم إلى ربهم للمجازاة. ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة ﴿اذْكُرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب ﴿نِعْمَتِيَ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿الَّتِي﴾ اسم موصول للمفردة المؤنثة في محل النصب صفة لنعمتي ﴿أَنْعَمْتُ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أنعمتها ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بأنعمت ﴿وَأَنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿فَضَّلْتُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿عَلَى الْعالَمِينَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، تقديره: وأني مفضلكم على العالمين، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على نعمتي على كونه مفعولا به لاذكروا، تقديره: اذكروا نعمتي عليكم، وتفضيلي إياكم على العالمين.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ الواو عاطفة ﴿اتَّقُوا﴾ فعل، وفاعل مبني على حذف النون، معطوف على اذكروا ﴿يَوْمًا﴾ مفعول به ﴿لا﴾ نافية ﴿تَجْزِي﴾ فعل مضارع ﴿نَفْسٌ﴾ فاعل ﴿عَنْ نَفْسٍ﴾ متعلق بتجزي ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل النّصب صفة ليوما، ولكنها صفة سببية، والرابط محذوف،
تقديره: فيه ﴿وَلا﴾
﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي على كونها مفعولا به لاذكروا مبنية على السكون ﴿نَجَّيْناكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، تقديره: يا بني إسرائيل! اذكروا نعمتي، وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتي إياكم ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بنجيناكم و ﴿فِرْعَوْنَ﴾ ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به أول ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ مفعول ثاني ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آل فرعون، والرابط واو الفاعل، تقديره: حالة كونهم سائمين إياكم سوء العذاب، ويحتمل أن تكون مستأنفة ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب بدل من جملة يسومونكم، بدل تفصيل من مجمل على كونها حالا من آل فرعون، تقديره: حالة كونهم مذبحين أبنائكم، أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به معطوف على يذبحون ﴿وَفِي ذلِكُمْ﴾ الواو اعتراضية، أو استئنافية ﴿فِي ذلِكُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿بَلاءٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أولى لبلاء
﴿وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي على كونها مفعولا به لاذكروا مبني على السكون؛ لشبهها بالحرف شبها افتقاريا ﴿فَرَقْنا﴾ فعل، وفاعل ﴿بِكُمُ﴾ متعلق بفرقنا على كونه مفعولا ثانيا له ﴿الْبَحْرَ﴾ مفعول أول له، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ، والتقدير: يا بني إسرائيل! اذكروا نعمتي عليكم، وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتي إياكم من آل فرعون، ووقت فرقي بكم البحر ﴿فَأَنْجَيْناكُمْ﴾ الفاء حرف عطف وتفريع ﴿أنجيناكم﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة فرقنا بكم البحر، على كونها مضافا إليه لإذ، تقديره: واذكروا وقت فرقي بكم البحر، فإنجائي إياكم من الغرق ﴿وَأَغْرَقْنا﴾ فعل وفاعل معطوف على أنجيناكم، تقديره: وإغراقنا آل فرعون و ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَنْظُرُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من آل فرعون، تقديره: حالة كونكم ناظرين إليهم وقت إغراقهم. ﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة إِذْ ظرف لما مضى في محل النصب، معطوف على نعمتي ﴿واعَدْنا مُوسى﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿أَرْبَعِينَ﴾ مفعول ثان منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون حرف زائد؛ لشبه الجمع ﴿لَيْلَةً﴾ تمييز ذات لأربعين منصوب به، والتقدير: واذكروا وقت مواعدتنا موسى أربعين ليلة ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ ﴿اتَّخَذْتُمُ﴾ فعل وفاعل، وهو من أخوات ظن ينصب مفعولين ﴿الْعِجْلَ﴾ مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إلها ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باتخذتم، والجملة الفعلية في محل الجر، معطوفة على جملة واعدنا على كونها مضاف إليه لإذ ﴿وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل
﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ ﴿عَفَوْنا﴾ فعل وفاعل ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق بعفونا ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بعفونا أيضا، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة اتخذتم ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ لعل حرف نصب وتعليل، والكاف في محل النصب اسمها، وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ في محل الرفع خبر لعل، تقديره: لعلكم شاكرون نعمتنا عليكم، وجملة لعل جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب حال من ضمير عنكم. ﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي على أنه مفعول به لاذكروا ﴿آتَيْنا﴾ فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا يتعدى إلى مفعولين مُوسَى مفعول أول ﴿الْكِتابَ﴾ مفعول ثان ﴿وَالْفُرْقانَ﴾ معطوف على الكتاب عطف صفة على موصوف، كما مر بسط الكلام فيه في مبحث التفسير، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ، تقديره: واذكروا وقت إيتائنا موسى الكتاب والفرقان ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تَهْتَدُونَ﴾ في محل الرفع خبره، وجملة لعلّ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ وبني منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنه شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذلك عاملته العرب بعض معاملة جمع التكسير، فألحقوا بفعله المسند إليه تاء التأنيث، فقالوا: قالت بنو فلان: وهل لامه ياء؟ لأنه مشتق من البناء؛ لأن الابن فرع الأب ومبنيّ عليه، أو واو لقولهم: البنوة كالأبوة. والأخوة قولان: الصحيح الأول، وأما البنوة فلا دلالة فيها؛ لأنهم قد قالوا الفتوّة، ولا خلاف في أنها من ذوات الياء إلا الأخفش. رجح الثاني، بأن حذف الواو أكثر. واختلف في وزنه، فقيل: هو فعل بفتح العين. وقيل: هو بسكونها، وهو أحد الأسماء العشرة التي سكنت فاؤها، وعوّض من لامها همزة الوصل، وجمع ابن جمع
وقيل: لأنه أسرى بالليل مهاجرا إلى الله تعالى. وقيل: لأنه أسر جنيّا كان يطفىء سراج بيت المقدس، فعلى هذا بعض اسم يكون عربيا، وبعضه عجميا، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها، لغة القرآن، وهي قراءة الجمهور ﴿إِسْرائِيلَ﴾ بوزن إسرافيل.
﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ الذّكر والذّكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد، يكونان باللّسان وبالجنان. وقال الكسائي: هو بالكسر للّسان، وبالضم للقلب، فضدّ المكسور الصمت، وضد المضموم النسيان، وبالجملة فالذكر الذي محله القلب ضد النسيان، والذي محلّه اللسان ضد الصمت، سواء قيل: إنها بمعنى واحد، أم لا (والنعمة) اسم لما ينعم به، وهي شبيهة بفعل بمعنى مفعول، نحو: ذبح، ورعي، والمراد بها الجمع؛ لأنها اسم جنس. قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ يقال: أوفى ووفّى ووفى مشددا، ومخففا، ثلاث لغات بمعنى واحد. وقيل: يقال: وفيت ووفّيت بالعهد، وأوفيت بالكيل لا غير، والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا فحالا، والمراد منه الموثق، والوصيّة، وأصل أوفوا أوفيوا بوزن أفعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الفاء؛ لمناسبة الواو، فصار وزنه أفعوا. وقوله: ﴿أُوفِ﴾ وزنه أفع؛ لمناسبة حذف لام الكلمة، بسبب جزم الفعل الواقع جوابا للطلب ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ وزن أوّل أفعل، فاء الكلمة وعينها معتلّان، كلاهما واو، ولم يتصرف من هذا اللفظ فعل، فأصل الكلمة على هذا وول، هذا مذهب سيبويه. وقال غيره: أصله أو أل من وأل إذا نجا، أو طلب النجاة، أبدلت الهمزة الثانية واوا للتخفيف، ثم أدغمت فيها الواو الأولى، فقيل: أوّل. وقيل: إنه من آل، فهو أأول، وقع فيه قلب مكانيّ، بجعل العين مكان الفاء، والفاء مكان العين، فصار وزنه أعفل؛ أي: أو أل، ثم خفف بإبدال الهمزة الثانية واوا، وإدغام الواو الأولى فيها. انظر «الأشموني».
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ أصله: أقوموا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو إلى فاء الكلمة الساكن، فسكنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياء حرف مد ﴿الصَّلاةَ﴾ الألف فيه منقلبة عن واو، فأصله: صلوة بوزن فعلة، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح ﴿وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ والألف فيه أيضا منقلبة عن واو؛ لأنه من زكا يزكو، كنما ينمو وزنا ومعنى، فأصله: زكوة بوزن فعلة، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح.
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ الأمر طلب إيجاد الفعل، ويطلق على الشأن، والفعل منه أمر يأمر على وزن فعل يفعل، من باب نصر، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيدا، وإتمامه قليل أؤمر زيدا، فإن تقدم الأمر واو، أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة يحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازا تحفظ، ولا يقاس عليها. ذكره في «البحر» ﴿بِالْبِرِّ﴾ والبر الصلة، وأيضا الطاعة. قال الراجز:
لا همّ ربّ إنّ بكرا دونكا | يبرّك النّاس ويفجرونكا |
والبرّ بالكسر ثلاثة أقسام: برّ في عبادة الله، وبرّ في مراعاة الأقارب، وبرّ
﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ والنسيان ضد الذكر. وهو: السهو الحادث بعد حصول العلم. ويطلق أيضا على الترك، وضدّه الفعل. والفعل نسي ينسى على وزن فعل يفعل، وأصله: تنسيون بوزن تفعلون، تحركت الياء بعد فتح، فقلبت ألفا فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالّة عليها ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ﴾ من تلا يتلو واويّ اللام، أسند الفعل إلى واو الجماعة، وحذفت حركة الواو لام الفعل؛ للتخفيف، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى لام الكلمة، وأبقيت واو الجماعة للغرض الذي جيء بها له، فصار وزنه تفعون بعد أن كان تفعلون والتلاوة القراءة، وسميت بها؛ لأن الآيات، أو الكلمات، أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، والتلو التبع، وناقة متل يتبعها ولدها ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ العقل: الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير يمنعه من التحرك، والمعقل:
مكان يمتنع فيه، والعقل الدية؛ لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني، والعقل ثوب موشّى قال الشاعر:
عقلا ورقما تظلّ الطّير تتبعه | كأنّه من دم الأجواف مدموم |
﴿إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ﴾؛ أي: إلا على المتصفين بالخشوع والخوف من الله
قال المهدويّ، والمارودي، وغيرهما: الملاقاة هنا وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد، كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله. وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم: فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية، بأن اللقاء هو رؤية الله تعالى، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمون. وقيل: ذلك على حذف مضاف؛ أي: جزاء ربهم؛ لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية. وقيل: ذلك كناية عن انقضاء أجلهم، كما يقال لمن مات: لقي الله، ومنه قول الشاعر:
غدا نلقى الأحبه... محمدا وصحبه
وكنى بالملاقاة عن الموت؛ لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت. اه. من «البحر» بتصرف ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ﴾ والفضل: الزيادة واستعماله في الخير، وفعله فعل يفعل من باب نصر، وأصله: أن يتعدى بحرف الجر وهو على، ثم يحذف على، على حدّ قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين:
وجدنا نهشلا فضلت فقيماه... كفضل ابن المخاض على الفصيل
﴿يَوْمًا لا تَجْزِي﴾ الجزاء القضاء عن المفضّل والمكافأة. قال الراجز:
يجزيه ربّ العرش عنيّ إذ جزى... جنات عدن في العلاليّ العلا
والإجزاء الإغناء ﴿لا يُقْبَلُ﴾ وقبول الشيء التوجه إليه، والفعل قبل يقبل
فإبداله من همزة هاء اصلها | وقد قال بعض النّاس من واو ابدلا |
نحن آل الله في بلدتنا | لم نزل إلّا على عهد إرم |
وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس، وإلى الضمير. قال الشاعر:
وانصرّ على آل الصليـ | ـب وعابديه اليوم آلك |
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي | وآلي كما تحمي حقيقة آلكا |
إذا ما الملك سام النّاس خسفا | أبينا أن نقرّ الخسف فينا |
وقيل: يطالبونكم من مساومة البيع. وقيل: يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرعي. وقال أبو عبيدة: يولونكم. يقال: سامه خطّة خسف؛ أي: أولاه إياها، وأصله يسومونكم بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى السين، فسكّنت إثر ضمة، فصارت حرف مد ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ السّوء: اسم مصدر من أساء الرباعيّ، ومصدر لساء الثلاثي. يقال: ساء يسوء وهو متعدّ، وأساء الرجل؛ أي: صار ذا سوء.
قال الشاعر:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة | لقد سرّني أنّي خطرت ببالكا |
كأنّ بين فكّها والفكّ | فأرة مسك ذبحت في سكّ |
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم | فأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو |
وقال ابن الأثير: إنه ليس من الأخذ في شيء، وأشار بذلك إلى أنّ تخذ مادة مستقلة، وقال: إن الافتعال من الأخذ إئتخذ؛ لأنّ فاءه همزة، والهمزة لا تدغم، وغلّط الجوهريّ. وقول الجوهري أظهر. والله أعلم.
﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ﴾ لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، بني على سكون آخره، فوزنه فعلنا لا فعونا ﴿وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ﴾ آتينا أصله أأتى بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الثانية حرف مد مجانسا لحركة الأولى، وسكن آخره حين أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أصله تهتديون بوزن تفتعلون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الدال؛ لمناسبة الواو ﴿وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ في «القاموس» البحر: الماء الكثير، أو الملح، والجمع بحور، وبحار، وأبحر. انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة للتعظيم في قوله: ﴿نِعْمَتِيَ﴾ فإن فيها إشارة إلى عظم قدرها، وسعة برها، وحسن موقعها؛ لأن الإضافة إلى العظيم والشريف تفيد التعظيم والتشريف، كما في قولهم: ﴿بيت الله﴾، وقوله: ﴿ناقَةُ اللَّهِ﴾.
ومنها: فن التعطّف في قوله: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ ومعناه: إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام، ويسميه بعضهم فن المشاركة.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾؛ لأنه على حذف موصوف؛ أي: أوّل فريق كافر به.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي﴾؛ لأن الاشتراء مستعار للاستبدال بجامع الأخذ في كل، كما تقدم في قوله: {أُولئِكَ
ومنها: تكرار الحق في قوله: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾؛ لزيادة تقبيح المنهي عنه، إذ في الإظهار ما ليس في الإضمار من التأكيد، ويسمى هذا أيضا بالإطناب.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ فهو من باب تسمية الكل باسم الجزء لعلاقة الجزئية؛ أي: صلّوا مع المصلين.
ومنها: التقديم في قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾؛ لإفادة الحصر.
ومنها: حذف ياء المفعول فيهما؛ لرعاية رؤوس الفواصل.
ومنها: الاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار في قوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾.
ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ مع أنّ الأمر واقع منهم؛ لإفادة التجدد والاستمرار.
ومنها: التعبير عن تركهم البر بالنسيان في قوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ لإفادة المبالغة في تركهم، فكأنّ البر لا يخطر ببالهم، ولا يخالج نفوسهم، ولا يدور في خلدهم.
ومنها: إفراد الإيمان بالقرآن في قوله: ﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ﴾ بالأمر به مع اندراجه في العهد المذكور قبله، لما أنه العمدة القصوى في
شأن الوفاء بالعهد.
ومنها: تقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم في قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾؛ لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإنّ إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدّقه قطعا، ومنه التكرار في قوله: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾؛ توطئة لما بعده.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ﴾؛ لبيان الكمال والتشريف؛ لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فعطف التفضيل عليها من عطف الخاص على العام؛ لبيان فضلهم وشرفهم على غيرهم من أهل
ومنها: ذكر المحل وإرادة الحال في قوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾؛ أي: عذاب يوم.
ومنها: تنكير شيئا مع تنكير نفس في قوله: ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾؛ لإفادة التعميم والإقناط الكليّ.
ومنها: الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: ﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ مع أنّ الجمل التي قبلها فعلية، للمبالغة، والدلالة على الثبات والديمومية؛ أي: إنهم غير منصورين دائما، ولا عبرة بما يصادفونه من نجاح مؤقت.
ومنها: الاستعارة التصريحيّة التبعيّة في قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾؛ أي: يذيقونكم، فإنه استعارة من السوم في البيع.
ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله: ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾؛ أي: العذاب السيىء الفظيع.
ومنها: تفسير العذاب السيىء بقوله: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾؛ لأنّ التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿يَسْتَحْيُونَ﴾؛ لأنه مجاز عن الاستبقاء للخدمة.
ومنها: التنكير في كلّ من ﴿بَلاءٌ﴾، و ﴿عَظِيمٌ﴾ للتفخيم والتهويل.
ومنها: التشديد في قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ﴾؛ لإفادة التكثير. يقال: فتّحت الأبواب.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
فائدة: قال عليّ كرم الله وجهه: (قصم ظهري رجلان: عالم متهتّك، وجاهل متنسّك، ومن دعا غيره إلى الهدى ولم يعمل به، كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه). قال الشاعر:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم |
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى | بالرّأي منك وينفع التّعليم |
وصفت التّقى حتّى كأنّك ذو تقى | وريح الخطايا من ثيابك تسطع |
وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى | طبيب يداوي النّاس وهو عليل |
* * *
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلّها مصدر فخار لهم، ولها تهتزّ أعطافهم خيلاء وكبرا؛ لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم... بيّن هنا كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم، وهي: اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفّى ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا، وتجبّرا، وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله سبحانه عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصّاعقة وهم يرون ذلك رأى العين. ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما: تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة. وثانيتهما: إنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ...﴾ الآيتين، ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى؛ ذكر فيها نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها. ذلك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه، أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم، فأجاب دعوته. وقد كان من دأب بني إسرائيل، أن يعودوا باللّوم على موسى إذا أصابهم الضيق، ويمنّون عليه بالخروج معه من مصر، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا. فقد روي أنهم قالوا: من لنا بحر الشمس، فظلل عليهم الغمام. وقالوا: من لنا بالطعام، فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى. فقالوا: من لنا بالماء، فأمر موسى بضرب الحجر.
التفسير وأوجه القراءة
٥٤ - ثمّ بين سبحانه كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: ﴿وَ﴾ اذكروا أيضا يا بني إسرائيل! وهذا هو الإنعام الخامس ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى﴾؛ أي: قصة وقت قوله: ﴿لِقَوْمِهِ﴾ الذين عبدوا العجل، بعد ما رجع من الميعاد الذي وعده ربّه، فرآهم عبدوا العجل ﴿يا قَوْمِ﴾؛ أي: يا قومي! والإضافة فيه للشفقة ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ﴾ وأضررتم ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بتفويتها الثواب الواجب لها، بالإقامة على عهد موسى ﴿بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾؛ أي: بسبب اتخاذكم العجل معبودا لكم، فقالوا لموسى: فماذا تأمرنا ﴿فـ﴾ قال ﴿توبوا﴾ قلبا وقالبا؛ أي: فاعزموا على التوبة، والفاء للسببية، لأنّ الظلم سبب للتوبة ﴿إِلى بارِئِكُمْ﴾؛ أي: إلى خالقكم الذي خلقكم بريئا من العيوب، والنقصان، والتفاوت، وميّز بعضكم من بعض بصور، وهيئات مختلفة، ولو (١) أظهرتم التوبة بالبدن دون القلب فأنتم ما تبتم إلى الله، وإنما تبتم إلى الناس. والتعرّض (٢) لعنوان البارئية؛ للإرشاد إلى أنهم بلغوا من الجهالة أقصاها، ومن الغباوة منتهاها، حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذي خلقهم
(٢) روح البيان.
وقال في «التفسير الكبير»: وليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس، بل بيان أنّ توبتهم لا تتمّ، ولا تحصل إلا بقتل النفس، وإنما كان كذلك؛ لأنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل ﴿ذلِكُمْ﴾؛ أي: القتل في التوبة ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي أنفع لكم ﴿عِنْدَ بارِئِكُمْ﴾ سبحانه من الامتناع الذي هو إصرار، وفيه عذاب، لما أن القتل طهرة من الشرك، ووصلة إلى الحياة الأبدية، والبهجة السرمدية؛ أي: إنّ التوبة أجر لكم عند خالقكم، من إقامتكم على عبادة العجل؛ لما فيها من الطهارة من الشرك. وقوله: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ خطاب منه تعالى، معطوف على محذوف؛ أي: ثم فعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم بارئكم؛ أي: قبل توبتكم، وتجاوز عنكم، وإنما لم يقل: فتاب عليهم، على أنّ الضمير للقوم؛ لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم.
فإن قلت (١): أنه تعالى أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة.
قلت: إن الله سبحانه نبّههم على عظيم ذنبهم، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون من ذلك العظيم، وذلك من النعم في الدّين؛ أي: قبل توبة من قتل منكم، وغفر لمن لم يقتل من بقية المجرمين، وعفا عنهم من غير قتل.
وروي: أنّ الأمر بالقتل من الأغلال التي كانت عليهم، وهي المواثيق اللازمة لهم لزوم الغلّ، ومن الإصر وهو الأعمال الشاقة، كقطع الأعضاء الخاطئة، وعدم جواز صلاتهم في غير المسجد، وعدم التطهير بغير الماء، وحرمة أكل الصائم بعد النوم، ومنع الطيبات عنهم بالذنوب، وكون الزكاة ربع مالهم، وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح، وكما روي: أن بني إسرائيل إذا قاموا يصلّون، لبسوا المسوح، وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم، وربّما ثقب الرجل ترقوته، وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية، وحبس نفسه على العبادة. فهذه الأمور رفعت عن هذه الأمة؛ تكريما للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وحاصل معنى الآية (١): أي
وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسونها إلى اليوم، ففيها دعاء موسى: من للربّ فإليّ، فأجابه بنو لاوى، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا، ففعلوا، فقتل في ذلك اليوم، نحو: ثلاثة آلاف رجل. والعبرة من القصة، لا تتوقّف على عدد معين، فلنمسك عنه ما دام القرآن لم يتعرّض له.
ذلكم المذكور من التوبة، والقتل، أنفع لكم عند الله من العصيان، والإصرار على الذنوب؛ لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهّركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم، ويجعلكم أهلا للثواب ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: ففعلتم ما أمركم به موسى، فقبل توبتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، إنه سبحانه هو التواب؛ أي: كثير قبول التوبة ممن تاب إليه. الرحيم: أي كثير الرحمة بمن ينيب إليه، ويرجع، ولولا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام، وكرّر البارىء باللفظ الظاهر؛ توكيدا؛ ولأنها جملة مستقلة، فناسب الإظهار. وللتنبيه على أنّ هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم، فكما رأى أن إنشاءكم راجح؛ رأي: أنّ إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح، فينبغي التسليم له في كل حال، وتلقّي ما يرد من قبله بالقبول، والامتثال. ذكره في «البحر».
وقرأ الجمهور (١): بظهور حركة الإعراب في ﴿بارِئِكُمْ﴾ وروي عن أبي
وقرأ الزهري ﴿باريكم﴾ بكسر الياء من غير همز. وروي ذلك عن نافع، وليست في المتواترات ولهذه القراءة تخريجان:
أحدهما: أنّ الأصل الهمزة، وأنه من برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف، جعلها بين بين.
والثاني: أن يكون الأصل باريكم بالياء من غير همز، فيكون مأخوذا من قولهم بريت القلم إذا أصلحته، أو من البري وهو التراب، ثم حرّك حرف العلة، وإن كان قياسه تقدير الحركة في مثل هذا رفعا وجرا. وقد ذكر الزمخشري (١) في اختصاص ذكر البارىء هنا كلاما حسنا هذا نصه: فإن قلت: من أين اختصّ هذا الموضع بذكر البارىء؟
قلت: البارىء: هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت ﴿ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ﴾ ومميّزا بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة، والصّور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم، من ترك عبادة العالم الحكيم، الذي برأهم بلطيف حكمته، على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت، والتنافر، إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة، والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور. حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله، ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم، وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها. انتهى.
وقيل معناه: لن نقرّ لك بأن التوراة من عند الله ﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿جَهْرَةً﴾؛ أي: (٢) عيانا لا ساتر بيننا وبينه، كالجهر في الوضوح والانكشاف؛ لأن الجهر في المسموعات، والمعاينة في المبصرات، ونصبها على المصدرية؛ لأنها نوع من الرؤية، فكأنها مصدر الفعل الناصب، أو حال من الفاعل؛ أي: حتى نرى الله مجاهرين، أو من المفعول؛ أي: حتى نرى الله مجاهرا بفتح
الهاء، وذلك أنّه لمّا تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل، أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالا يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم، كما قال تعالى: ﴿وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا﴾ وقال لهم: صوموا، وتطهّروا، وطهّروا ثيابكم، ففعلوا، وخرج بهم إلى طور سيناء، فقالوا لموسى: أطلب لنا أن نسمع كلام ربنا، فقال موسى: أفعل، فلمّا دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشّى الجبل كلّه، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام. وقعوا سجودا، فسمعوا الله سبحانه يكلّم موسى، يأمره، وينهاه، فلمّا انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، كما بيّنه تعالى بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى﴾ وقد عرفت أنّ هذا الظرف معطوف على الظروف المتقدمة، وأنّ التقدير فيه: واذكروا
(٢) روح البيان.
أحدهما: يكون جهرة مصدرا، كالغلبة، فيكون معناها ومعنى جهرة المسكّنة الهاء سواء.
والثاني: أن يكون جمعا لجاهر، كما تقول فاسق وفسقة، فيكون انتصابه على الحال؛ أي جاهرين بالرؤية. ذكره في «البحر».
والمعنى (١): واذكروا يا بني إسرائيل! حين خرجتم مع موسى إلى جبل الطور لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل، فسمعتم كلام الله مع موسى، فقلتم لموسى لمّا أقبل إليكم من المناجاة ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾؛ أي: لن نصدقك في أن المخاطب لنا هو ربنا، وأن ما سمعناه كلامه ﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾؛ أي: حتى نبصره ونراه رؤية جهرة؛ أي: ظاهرة واضحة عيانا، لا يستره عنا شيء ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾؛ أي: فأحرقتكم النار النازلة من السماء؛ أي: فأخذت الصاعقة من قال ذلك، والباقون ينظرون بأعينهم. وقد فصّل ذلك في الأعراف. وقرأ عمر، وعليّ ﴿الصّعقة﴾ بلا ألف. ذكره في «البحر». والصاعقة (٢): هي نار محرقة فيها صوت، نازلة من السماء. وقيل: هي كلّ أمر مهول مميت، أو مزيل للعقل والفهم، وتكون صوتا، وتكون نارا، وتكون غير ذلك.
وقيل: هي صوت ملك صاح عليهم، وإنما أحرقتم الصاعقة، لسؤالهم ما هو مستحيل على الله في الدنيا؛ ولفرط العناد والتعنّت، وإنما الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة، وللأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا، كما قيل: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إلى الصاعقة النازلة حين نزولها، فإن كانت نارا فقد عاينوها، وإن كانت صوتا هائلا فقد مات بعضهم
(٢) روح البيان.
وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى، يتمرّدون، ويعاندون، وسوط العذاب يصبّ عليهم صبا، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض، وسلّطت عليهم هوام الأرض وحشراتها، حتى فتكت بالعدد العديد، والخلق الكثير، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعاندوها
٥٦ - ﴿ثُمَّ بَعَثْناكُمْ﴾ وأحييناكم ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ وحرقكم بتلك النار الصاعقة، وموتكم يوما وليلة، وقاموا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيا! وعاشوا بعد ذلك؛ لأنهم (٤) لما ماتوا، جعل موسى يبكي ويتضرع إلى الله، ويقول: يا رب! إنهم خرجوا معي وهم أحياء، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلا بعد
(٢) الواحدي.
(٣) التوراة.
(٤) كرخي.
وقيّد البعث بقوله (١): ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ مع أنه إنما يكون بعد الموت، لما أنه قد يكون من الإغماء، أو من النوم. قال قتادة: أحياهم، ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكان ذلك الموت بلا أجل، وكانت تلك الموتة لهم، كالسّكتة لغيرهم قبل انقضاء آجالهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة. اه.
فإن قلت: كيف يجوز أن يكلّفهم، وقد أماتهم؟ فإن جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثوا بعد الموت؟.
قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة، هو الإماتة ثم الإحياء، وإنما منع ذلك من التكليف، لأنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ومعرفة ما في الجنة من اللذات، وما في النار من الآلام، وبعد العلم الضروري لا تكليف، فإذا كان المانع هو هذا، لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصعقة، أن لا يكون قد اضطرهم، وإذا كان كذلك صحّ أن يكلفوا من بعد، ويكون موتهم، ثم الإحياء بمنزلة النوم، أو بمنزلة الإغماء ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لكي تشكروا الله سبحانه وتعالى، نعمة إحيائه لكم بعد موتكم بالصاعقة بالتوحيد والطاعة، أو لعلكم تشكرون وقت مشاهدتكم بأس الله بالصاعقة، نعمة الإيمان التي كفرتموها بقولكم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فإن ترك النعمة لأجل طلب الزيادة كفران لها؛ أي: لعلكم تشكرون نعمة الإيمان، فلا تعودون إلى اقتراح شيء بعد ظهور المعجزة.
وفي «المراغي» (٢): يرى بعض المفسرين: أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة، أو غيرها؛ ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبيّة لغيرهم. ويرى آخرون، أن المراد بالبعث: كثرة النسل؛ أي: إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتّى الأسباب، وظنّ أنهم ينقرضون، بارك الله في
(٢) المراغي.
قالوا: إن موسى (١) عليه السلام، سأل الرؤية في المرة الأولى في الطور، ولم يمت، لأن صعقته لم تكن موتا، ولكن غشية، بدليل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَفاقَ﴾ وسأل قومه في المرة الثانية، حين خرجوا للاعتذار وماتوا، وذلك؛ لأنّ سؤال موسى كان اشتياقا وافتقارا، وسؤال قومه كان تكذيبا واجتراء، ولم يسألوا سؤال استرشاد، بل سؤال تعنّت، فإنهم ظنّوا أنه تعالى يشبه الأجسام، وطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات، والأحياز المقابلة للرائي، وهي محال. وليس في الآية دليل على نفي الرؤية، بل فيها إثباتها، وذلك أنّ موسى عليه السلام، لمّا سأله السبعون لم ينههم عن ذلك، وكذلك سأل هو ربه الرؤية، فلم ينهه عن ذلك، بل قال: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي﴾ وهذا تعليق بما يتصوّر، قال بعض العلماء الحكماء: الحكمة في أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وجوه:
الأول: أن الدنيا دار أعدائه؛ لأن الدنيا جنة الكافر.
الثاني: لو رآه المؤمن لقال الكافر: لو رأيته لعبدته، ولو رأوه جميعا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
الثالث: أنّ المحبة على غيب، ليست كالمحبة على عين.
الرابع: أن الدنيا محلّ المعيشة، ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معاشهم، فتعطلت.
الخامس: أنه جعلها بالبصيرة دون البصر؛ ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين.
السابع: إنما منعها رحمة بالعباد؛ لما جبلوا عليه في هذه الدار من الغيرة، إذ لو رآه أحد تصدّع قلبه من رؤية غيره إياه، كما تصدّع الجبل غيرة من أن يراه موسى. والله أعلم.
٥٧ - ﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ﴾ هذا هو الإنعام السابع؛ أي: جعلنا السحاب الرقيق ظلا عليكم، يحفظكم من حر الشمس، وكان يسير بسيرهم، وكانوا يسيرون ليلا ونهارا، وذلك في التيه، وهو: واد بين الشام ومصر وقدره تسعة فراسخ، وقيل: اثنا عشر فرسخا، مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين، لا يهتدون إلى الخروج منه، وسبب ذلك؛ مخالفتهم أمر الله تعالى إياهم بقتال الجبارين الذين كانوا بالشام؛ أي: جعلنا (١) الغمام ظلّة عليكم يا بني إسرائيل. وهذا كما ذكرنا جرى في التيه، واد بين مصر والشام، فإنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر، وقعوا في صحراء لا أبنية فيها، وأمرهم الله تعالى بدخول مدينة الجبّارين، الذين كانوا في الشام وقتالهم، فقبلوا أمره، فلما قربوا منها سمعوا بأنّ أهلها جبارون أشدّاء، قامة أحدهم سبعمائة ذراع، ونحوها، فامتنعوا، وقالوا لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ فعاقبهم الله تعالى، بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وكانت المفازة يعني: التيه، اثني عشر فرسخا، فأصابهم حرّ شديد، وجوع مفرط، فشكوا إلى موسى، فرحمهم الله تعالى، فأنزل عليهم عمودا من نور يدلى له من السماء، فيسير معهم بالليل يضيىء لهم مكان القمر إذا لم يكن قمر، وأرسل غماما أبيض رقيقا. أطيب من غمام المطر، يظللهم من حر الشمس في النهار. وسمّي السحاب غماما؛ لأنه يغمّ السماء؛ أي: يسترها. والغمّ: حزن يستر القلب. ولم يكن لهم في التيه شيء يسترهم، ويستظلّون به، وكانت ثيابهم لا تتسخ، ولا تبلى، ثم سألوا موسى الطعام، فدعا ربه فاستجاب له، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾؛ أي: الترنجبين بفتح
وخاصّيّته: أنّ أكل لحمه يليّن القلوب القاسية، وكانت تحشره عليهم ريح الجنوب، وكانت الريح تقطع حلقومها، وتشق بطونها، وتمعط شعورها، وكانت الشمس تنضجها، فكانوا يأكلونها مع المنّ. وأكثر المفسرين على أنهم يأخذونها، فيذبحونها، فكان ينزل عليهم المنّ نزول الثلج، من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السلوى، فيأخذ كل إنسان منهم كفايته إلى الغد، إلا يوم الجمعة يأخذ ليومين؛ لأنه لم يكن ينزل يوم السبت؛ لأنه كان يوم عبادة، فإن أخذ أكثر من ذلك دوّد وفسد.
وقوله: ﴿كُلُوا﴾ مقول (١) لقول محذوف، معطوف على فعل محذوف، تقديره: أنعمنا عليكم بأنواع النعم من الطعام والشراب، من غير كدّ ولا تعب، وقلنا لكم كلوا ﴿مِنْ طَيِّباتِ﴾ وحلالات ﴿ما رَزَقْناكُمْ﴾ وأعطيناكم؛ أي: كلوا من لذائذ ما رزقناكموه من المنّ والسلوى، ولا ترفعوا منه شيئا ادخارا لغد، ولا تعصوا أمري، فرفعوا، وادّخروا، وجعلوا اللحم قديدا مخافة أن ينفد، فقطع الله عنهم، ودوّد ما ادّخروه، ولو لم يرفعوا لدام عليهم ذلك. والطيبات: جمع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا بنوا إسرائيل، لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم»؛ أي: لم ينتن ولم يتغيّر «ولولا حواء، لم تخن أنثى زوجها الدّهر». وقوله: ﴿وَما ظَلَمُونا﴾؛ أي: وما نقصونا بما ادخروا، معطوف على محذوف، تقديره: فظلموا بأن كفروا تلك النعمة الجليلة، وادّخروا بعد ما نهوا عنه، وما ظلمونا؛ أي: ما بخسوا بحقّنا ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾؛ أي: يضرّون باستيجابهم عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم، بلا مؤونة في الدنيا، ولا حساب في العقبى، فرفعنا ذلك عنهم؛ لعدم توكلهم علينا.
فإن قلت: ما الحكمة في ذكر كانوا هنا وفي الأعراف، وحذفها في آل عمران؟
فالجواب: أن ما في السورتين إخبار عن قوم انقرضوا، وما في (آل عمران) مثل منبّه عليه بقوله: ﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ﴾ إلخ. اه «كرخي». وقوله في الحديث: لم يخنز اللحم ولم تخن أنثى زوجها؛ أي: واستمرّ نتن اللحم من ذلك الوقت، لأنّ البادي للشيء كالحامل للغير على الإتيان به، وكذلك استمرت الخيانة من النساء؛ لأنّ أمّ النساء خانت بأن أغواها إبليس قبل آدم حتى أكلت من الشجرة، ثم أتت آدم، فزيّنت له ذلك حتى حملته على أن أكل منها، فاستمرّت تلك الخيانة من بناتها لأزواجها.
قال في «الأشباه والنظائر»: الطعام إذا تغيّر واشتدّ تغيره تنجّس، وحرم أكله واللّبن، والزّيت، والسمن، إذا أنتن لا يحرم أكله. انتهى.
وفي سفر الخروج من التوراة (١): أنهم أكلوا المن أربعين سنة، وأنّ طعمه كالرّقاق بالعسل، وكان لهم بدل الخبز إذ كانوا محرومين من البقول، والخضر.
وفي هذا إيماء إلى أنّ كلّ ما يطلبه الله من عباده، فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم
٥٨ - ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ هذا هو الإنعام الثامن؛ لأنه تعالى أباح لهم دخول البلدة، وأزال عنهم التيه. وَإِذْ (١) معطوف على نعمتي على كونها مفعولا لا ذكروا، كما مرّ مرارا؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي التي أنعمت بها عليكم، ووقت قولنا لآبائكم إثر ما أنقذتم من التيه ﴿ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ منصوب على الظرفية؛ أي: مدينة بيت المقدس، كما قاله مجاهد، أو قرية أريحاء، كما قاله ابن عباس، وهي قرية قريبة من بيت المقدس. وجزم القاضي، وغيره بالأول، ورجّح الثاني بأنّ الفاء في قوله ﴿فَبَدَّلَ﴾ تقتضي التعقيب، فيكون واقعا عقب هذا الأمر في حياة موسى عليه السلام، وموسى توفّي في التيه، ولم يدخل بيت المقدس. قاله الرازيّ. اه.
«كرخي».
وعبارة الخازن: قال ابن عباس: القرية هي أريحا قرية الجبارين، بفتح الهمزة وكسر الراء وبالحاء المهملة، قرية بالغور قريبة من بيت المقدس. قيل: كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم: العمالقة، ورأسهم عوج بن عنق، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون؛ لأنه الذي فتح أريحا بعد موسى؛ لأن موسى مات في التيه. وقيل: هي بيت المقدس، وعلى هذا فيكون القائل موسى، والمعنى: إذا خرجتم بعد مضيّ الأربعين سنة، فادخلوا بيت المقدس. اه.
والقرية (٢): اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وقد تطلق عليهم مجازا، كما في قوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: أهلها، والمعنى؛ أي: واذكروا قصة، إذ قلنا لكم بعد خروجكم من التيه على لسان موسى، أو على لسان يوشع، ادخلوا هذه القرية ﴿فَكُلُوا مِنْها﴾؛ أي: من ثمارها، وطعامها ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ وأنى شئتم أكلا ﴿رَغَدًا﴾؛ أي: واسعا لا حجر فيه، على أنّ النصب على
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): (حطة) بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة بالنصب، على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. وقيل معناه: الاستغفار، ومنه قول الشاعر:
فاز بالحطّة الّتي جعل اللّ | هـ بها ذنب عبده مغفورا |
والحاصل (٢): أنّ من قرأ بضم الياء، أو التاء، كان خطاياكم، أو خطيئاتكم، أو خطيئتكم مفعولا، لم يسمّ فاعله. ومن قرأ بفتح التاء، أو الياء، أو بالنون، كان ذلك مفعولا به، وجزم هذا الفعل؛ لأنه جواب الأمر. والمعنى: أي إذا فعلتم ما ذكر استجبنا دعاءكم، وكفرنا عنكم خطاياكم. ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالطاعة والامتثال لأمرنا ثوابا من فضلنا، وهم الذين لم يعبدوا العجل، جمع محسن، والمحسن (٣): من أحسن في فعله، وإلى نفسه، وغيره. وقيل: المحسن من صحّح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٥٩ - ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: غيرّ الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية، ما قيل لهم من التوبة، والاستغفار ﴿قَوْلًا﴾ آخر مما لا خير فيه، فأحد مفعولي بدّل محذوف ﴿غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ غير نعت لقولا، وإنما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة؛ تحقيقا لمخالفتهم، وتنصيصا على المغايرة من كلّ وجه، والمعنى: أنهم غيروا تلك الكلمة التي أمروا بها، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم، فقالوا: حنطة بدل حطّة، وكذلك بدلوا الفعل الذي أمروا به من دخولهم سجدا، فدخلوا زحفا. فالحاصل: أنهم دخلوا الباب زاحفين على أدبارهم، قائلين حنطة على شعيرة؛ استخفافا بأمر الله تعالى. وقيل: قالوا (١): بالنبطية، وهي لغتهم (حطّا سمقانا) يعنون حنطة حمراء. وقال مجاهد: طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فأبوا أن يدخلوه سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم مخالفة في الفعل، كما بدّلوا القول، وأما المحسنون ففعلوا ما أمروا به، ولذا لم يقل: فبدّلوا بصيغة العموم، بل قال: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وظاهر نظم القرآن أنّهم بدّلوا القول فقط دون العمل، وبه قال جماعة. وقيل: بل بدلوا العمل والقول جميعا، فمعنى قوله: ﴿قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ أي: أمرا غير الذي أمروا به، فإن أمر الله قول، وهو تغيير جميع ما أمروا به ﴿فَأَنْزَلْنا﴾؛ أي: فعقيب ذلك التبديل أنزلنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتغيير ما أمروا به قولا وفعلا، ولم (٢) يقل: عليهم على الاختصار. وقد سبق ذكر الذين ظلموا في الآية؛ لأنه سبق ذكر المحسنين أيضا، فلو أطلق وأضمر، لوقع احتمال دخول
(٢) روح البيان.
روي: أنه مات منهم بالطاعون في ساعة واحدة، أربعة وعشرون ألفا، ودام فيهم حتى بلغ سبعين ألفا. وقال أبو حيان (١): واختلفوا في الرجز هنا، فقال أبو العالية: هو غضب الله تعالى. وقال ابن زيد: طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفا. وقال وهب: طاعون عذبوا به أربعين ليلة، ثمّ ماتوا بعد ذلك. وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا. وقال ابن عباس: ظلمة وموت، مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا. وهلك سبعون ألفا عقوبة. والذي يدل عليه القرآن: أنه أنزل عليهم عذاب، ولم يبين نوعه، إذ لا كبير فائدة في تعيين النوع، فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين على أنه الطاعون. وقوله: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ إن فسر الرجز بالثلج، كان كونه من السماء ظاهرا، وإن فسر بغيره، فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم، أو مبالغة في علوّه بالقهر والاستيلاء. وقال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله: ﴿عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾. وفائدة التكرار التأكيد؛ لأنّ الوصف دالّ على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم، وأنّ إنزال الرجز سببه الظلم أيضا. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرّرا لوجهين: أحدهما: أنّ الظلم قد يكون من الصغائر، كما في قوله: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا﴾ ومن الكبائر كما في قوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ والفسق لا يكون
والثاني: أنه يحتمل أنهم استحقّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل، ونزول الرجز عليهم من السماء، لا بسبب ذلك التبديل، بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى.
وقرأ ابن محيصن (١): ﴿رجزا﴾ بضم الراء، وقد تقدم أنها لغة في الرجز بكسر الراء. وقرأ النخعي، وابن وثاب، وغيرهما ﴿يفسقون﴾ بكسر السين وهي لغة فيه، واستدل بعضهم بقوله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وترتيب العذاب على هذا التبديل، على أن ما ورد فيه التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره، ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ مسدها، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى، وفي تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة، والبيع، والتمليك، وفي نقل الحديث بالمعنى.
فائدة: وذكروا أنّ في الآية سؤالات (٢):
الأول: قوله هنا: ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ وفي الأعراف ﴿وَإِذْ قِيلَ﴾ وأجيب: بأنه صرح بالفاعل في البقرة، لإزالة الإبهام، وحذف في الأعراف؛ للعلم به في (سورة البقرة).
الثاني: قال هنا: ﴿ادْخُلُوا﴾ وهناك ﴿اسْكُنُوا﴾. وأجيب: بأنّ الدخول مقدم على السكنى، فذكر الدخول في السورة المتقدمة، والسكنى في المتأخرة.
الثالث: قال هنا: ﴿خَطاياكُمْ﴾ وهناك ﴿خَطِيئاتِكُمْ﴾. وأجيب: بأنّ الخطايا جمع كثرة، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة، لمّا لم يضف ذلك إلى نفسه.
(٢) البحر المحيط.
الخامس: قدم هنا دخول الباب على القول، وهناك عكس. وأجيب: بأن الواو للجمع، والمخاطبون بهذا مذنبون، فاشتغاله بحط الذنب، مقدّم على اشتغاله بالعبادة، فكلّفوا بقول حطة أولا، ثم بالدخول غير مذنبين، فاشتغاله أوّلا بالعبادة، ثم بذكر التوبة ثانيا، على سبيل هضم النفس، وإزالة العجب، فلما احتمل الانقسام، ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ.
السادس: إثبات الواو في ﴿وَسَنَزِيدُ﴾ هنا، وحذفها هناك. وأجيب: بأنه لما تقدّم أمران كان المجيء بالواو، مؤذنا بأن مجموع الغفران، والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا.
السابع: لم يذكر ههنا ﴿منهم﴾ وذكر هناك. وأجيب: بأنّ أول القصة في الأعراف مبنيّ على التخصيص بلفظ من قال: ومن قوم موسى أمة، فذكر لفظ من آخرا؛ ليطابق آخره أوله. وهنا لم تبن القصة على التخصيص.
الثامن: قال هنا ﴿فَأَنْزَلْنا﴾ وهناك ﴿فَأَرْسَلْنا﴾. وأجيب: بأنّ الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم، واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث بالآخر.
التاسع: هنا ﴿يَفْسُقُونَ﴾ وهناك ﴿يَظْلِمُونَ﴾. وأجيب: بأنه لمّا بين هنا، كون ذلك الظلم فسقا، اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف؛ لأجل ما تقدم من البيان هنا. ذكره في «البحر».
٦٠ - ﴿وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ هذا هو (١) الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين، أما في الدنيا؛ فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء، ولولا هو لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الإنعام؛ لأنهم في مفازة
عبارة «الروح» هنا: اللام (٢) فيه، إما للعهد، والإشارة بها إلى معلوم. فقد روي أنه كان حجرا طوريا حمله معه، وكان خفيفا مربعا كرأس الرجل، له أربعة أوجه، في كل وجه ثلاث أعين، أو هو الحجر الذي فرّ بثوبه، حين وضعه عليه ليغتسل، وبرأه الله تعالى مما رموه به من الأدرة، فأشار إليه جبريل أن ارفعه، فإن لله فيه قدرة، ولك فيه معجزة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان بنوا إسرائيل ينظر بعضهم إلى سوءة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي يا حجر! حتى نظرت بنوا إسرائيل إلى سوءة موسى، فقالوا: والله ما بموسى أدرة» وهي بالمد: نفخة بالخصية، وإما للجنس؛ أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وهو الأظهر في الحجة؛ أي: أبين في القدرة، وأدلّ عليها. فإنّ إخراج الماء بضرب العصا من جنس الحجر، أيّ حجر كان، أدلّ على ثبوت نبوة موسى عليه السلام، من إخراجه من حجر معهود معين، لاحتمال أن يذهب الوهم إلى تلك الخاصية في ذلك الحجر
(٢) روح البيان.
﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾؛ أي: كل سبط من الأسباط الاثني عشر مَشْرَبَهُمْ؛ أي: موضع شربهم، ونهرهم من تلك الأنهار التي جرت من الحجر، فكان كل سبط يأتي عينهم الخاصة بهم، لا يدخل سبط على غيره في شربه. والمشرب: إما مصر، أو اسم مكان. والحكمة في ذلك: أن الأسباط كانت بينهم عصبية، ومباهاة، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر، وكل سبط يريد تكثير نفسه، فجعل الله لكل سبط منهم نهرا على حدة، ليستقوا منها، ويسقوا دوابهم؛ لكيلا يقع بينهم جدال، ومخاصمة. وكان ينبع من كل وجه من الحجر، ثلاث أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط، وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثني عشر ميلا. ثم إن الله تعالى، قد كان قادرا على تفجير الماء، وفلق البحر من غير ضرب، لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب، حكمة منه للعباد، في وصولهم إلى المراد، ويترتب على ذلك ثوابهم، وعقابهم في المعاد. ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله، وقلة تدبره في عجائب صنعه، فإنه
واعلم (١): أنّ المعجزات كلها من صنع الله تعالى، وهي سنّة جديدة غير ما نشاهد كل يوم، فحركة الشمس، وطلوعها من المشرق مع عظمها، لا تحدث دهشة؛ لتعودنا إياها، ولكن إذا طلعت من المغرب دون المشرق كان معجزة، وأحدث غرابة، ودهشة، مع أن الحركتين من صنع الله تعالى، لا فارق بينهما.
ولئلا تحدث الصدمة حين حصول المعجزة، يهيّىء الله الظروف لتحمّلها، ويهيّىء النبيّ لقبولها، ويهيّىء الحاضرين لمشاهدتها، وقبولها. فأمر الله موسى بإدخال يده جيبه، وإخراجها بيضاء، تهيئة لمعجزاته الأخرى. وليس للعقل أن يحكم أيّ المعجزات أعظم من الأخرى؛ لأنه يتكلم عن مجهول هو من صنع الله لا يعرفه، فلا يمكن الإنسان مهما ارتقى عقله، أن يصل إلى صنعها، بل هي فوق قدرته.
أمّا (٢) المخترعات العلمية، فهي مبنيّة على السّنن العلمية مهما ظهرت مدهشة، كالكهرباء، والمسرّة - التليفون - وغاية ما هناك: أن العلماء سخروها لأغراضهم، فالذي يتكلم في أوروبا، ويسمع صوته في مكة المكرمة، أو في مصر مثلا بوساطة الراديو، إنما استطاع ذلك؛ لأنه استخدم الهواء الذي يحمل أمواج الصوت إلى العالم كلّه، وهكذا حال سائر المخترعات، إنما هي كشف لناموس إلهي، يتكرّر دائما على يد كل إنسان، لكن المعجزات تجري على طراز آخر، فهي خلق سنة جديدة في الكون، ولا تتكرر إلا بإذن الله، ولا يعرف الإنسان لها قاعدة، ولا يدرك طريقا لصنعها. وقوله: ﴿كُلُوا﴾ على تقدير القول؛ أي:
(٢) الطب الحديث.
وقرأ ابن الفضل الأنصاري (٣)، والأعمش بفتح الشين. وروي عن الأعمش الإسكان، والكسر أيضا. قال الزمخشري: الفتح لغة. وقال ابن عطية: هي لغة ضعيفة. وقال المهدويّ: فتح الشين غير معروف، وإضافة المشرب إليهم في قوله: ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾؛ لأنه لمّا تخصص كلّ مشرب بمن تخصّص به، صار كأنه ملك لهم، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل، لا على لفظها، ولا يجوز أن
يعود على لفظها، فيقال: مشربه؛ لأن مراعاة المعنى هنا لازمة؛ لأن كل قد
(٢) البيضاوي.
(٣) البحر المحيط.
وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم | ونحن حللنا قيده فهو سارب |
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم | دويهية تصفرّ منها الأنامل |
والحكمة في قوله: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ أنهم (١) لما أمروا بالأكل، والشرب من رزق الله، ولم يقيّد ذلك عليهم بزمان، ولا مكان، ولا مقدار من مأكول، أو مشروب، كان ذلك إنعاما، وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المآكل، والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوة الاستعلائية تنهاهم عمّا يمكن أن ينشأ عن ذلك، وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها، وهو الفساد في الأرض. وقال ابن عباس، وأبو العالية معناه: ولا تسعوا. وقال قتادة: ولا تسيروا. وقيل: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم؛ لأن كل سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل معناه: لا تتمادوا في فسادكم. وقال ابن زيد: لا تطغوا. وهذه الأقوال كلها متقاربة. وقوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ الجمهور على أنها أرض التيه، ويجوز أن يريدها، وغيرها، ممّا قدّر أن يصلوا إليها، فينالها فسادهم، ويجوز أن يريد الأرضين كلّها. وأل لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها، من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات، والبطر يؤذن بانقطاع الغيث، وقحط البلاد،
وحاصل المعنى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾. أي وقلنا لهم (١): كلوا مما رزقناكم من المن والسلوى، واشربوا ممّا فجرنا لكم من الماء من الحجر الصّلد. وقد عبّر عن الحال الماضية بالأمر؛ ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى، حتى كأنّهم حاضرون الآن، والخطاب موجّه إليهم ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾؛ أي: ولا تنشروا فسادكم في الأرض، وتكونوا قدوة لغيركم فيه، وقد جاء هذا النهي عقب الإنعام عليهم بطيب المأكل، والمشرب؛ خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما؛ ولئلا يقابل النعم بالكفران، وقد أراد موسى عليه السلام أن يجتث أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه، ويربأ بهم عن الذّلّ الذي ألفته نفوسهم، بتقادم العهد، واستعباد المصريين إياهم، ويعودهم العزة، والشّمم، والإباء بعبادة الله وحده. وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة، وكلّما عرض لهم شيء من مشاق السفر، برموا بموسى، وتحسّروا على فراق مصر، وتمنّوا الرجوع إليها، واستبطئوا وعد الله، فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله، وصنعوا عجلا وعبدوه، وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين، كما قصه الله سبحانه وتعالى: ﴿قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا ما دامُوا فِيها﴾ فضرب الله سبحانه عليهم التيه أربعين سنة، حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية، ويخرج جيل جديد يتربّى على العقائد الحقّة، وفضائل الأخلاق، فتاهوا هذه المدة، وقضى الله أمرا كان مفعولا.
الإعراب
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، على كونها مفعولا به لاذكروا، كما مرّ مرارا، تقديره: وقت قولكم يا موسى ﴿قُلْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿يا مُوسى﴾ منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية، مبني بضم مقدر منع من ظهوره التعذر؛ لأنه اسم مقصور، وجملة النداء في محل النصب مقول لقلتم ﴿لَنْ﴾ حرف نفي ونصب ﴿نُؤْمِنَ﴾ فعل مضارع منصوب بلن، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: نحن يعود على قوم موسى ﴿لَكَ﴾ متعلق بنؤمن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقلتم ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿نَرَى﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى الجارة، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها التعذر؛ لأنه فعل معتل بالألف، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: نحن يعود على قوم موسى، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية ﴿جَهْرَةً﴾ منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: حتى نرى الله رؤية جهرة، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، تقديره: إلى رؤيتنا الله جهرة، الجار والمجرور متعلق بنؤمن؛ لأنه فعل مضارع ﴿فَأَخَذَتْكُمُ﴾ الفاء حرف عطف وتفريع ﴿أخذتكم﴾ فعل ومفعول به، والتاء علامة تأنيث الفاعل ﴿الصَّاعِقَةُ﴾ فاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قلتم، على كونها مضافا لإذ ﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو حالية ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَنْظُرُونَ﴾ خبره، ومتعلق النظر محذوف، تقديره: وأنتم تنظرون ما حل بكم، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ضمير المخاطبين، تقديره: حال كونكم ناظرين ما حل بكم.
﴿ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿بَعَثْناكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به،
﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق ببعثناكم ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ لعل حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف في محل النصب اسمها، وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ خبرها، تقديره: لعلكم شاكرون، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بلعل التعليلية المتعلقة ببعثناكم، تقديره: ثم بعثناكم لشكركم إيانا على نعمة بعثكم. ﴿وَظَلَّلْنا﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَيْكُمُ﴾ متعلق بظللنا ﴿الْغَمامَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر، معطوفة على جملة بعثنا.
﴿وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
﴿وَأَنْزَلْنا﴾ فعل وفاعل معطوف على بعثناكم ﴿عَلَيْكُمُ﴾ متعلق بأنزلنا ﴿الْمَنَّ﴾ مفعول به ﴿وَالسَّلْوى﴾ معطوف عليه ﴿كُلُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية مقول لقول محذوف معطوف على أنزلنا، تقديره: وقلنا لكم كلوا مِنْ ﴿طَيِّباتِ﴾ جار ومجرور متعلق بكلوا ﴿طَيِّباتِ﴾ مضاف ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه ﴿رَزَقْناكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما رزقناكموه، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول، ورزق هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين.
﴿وَما﴾ الواو عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿ظَلَمُونا﴾ فعل ماض وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على مقدر، تقديره: فظلموا أنفسهم بكفران النعم، وما ظلمونا على كونها مقولا لمحذوف، تقديره: قال الله تعالى: فظلموا أنفسهم. إلخ. ﴿وَلكِنْ﴾ الواو عاطفة ﴿لكِنْ﴾ حرف استدراك مهمل؛ لتخفيف النون ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول مقدم ليظلمون، وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾ في محل النصب خبر كان، تقديره: ولكن كانوا ظالمين أنفسهم، وجملة كان معطوفة على جملة قوله: ﴿وَما ظَلَمُونا﴾.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، كما مرّ مرارا، تقديره: يا بني إسرائيل! اذكروا نعمتي، ووقت قولنا لكم... إلخ. ﴿قُلْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذ إليها ﴿ادْخُلُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقلنا ﴿هذِهِ﴾ ها حرف تنبيه، ذه: اسم إشارة في محل النصب على الظرفية عند سيبويه، وعلى المفعول به عند الأخفش، كما في «الفتوحات» ﴿الْقَرْيَةَ﴾ نعت لهذه، أو عطف بيان منه، أو بدل عنه. ﴿فَكُلُوا﴾ الفاء عاطفة ﴿كلوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ادخلوا ﴿مِنْها﴾ متعلق بكلوا ﴿حَيْثُ﴾ ظرف مكان في محل النصب، مبني على الضم ﴿شِئْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لحيث، والظرف متعلق بمحذوف حال من فاعل كلوا؛ أي كلوا منها حال كونكم متنقلين في أي مكان شئتم ﴿رَغَدًا﴾ مفعول مطلق منصوب بكلوا، لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلا رغدا ﴿وَادْخُلُوا﴾ فعل وفاعل ﴿الْبابَ﴾ مفعول به على السعة، والجملة معطوفة على كلوا ﴿سُجَّدًا﴾ حال من فاعل كلوا؛ أي: متواضعين متطامين، كحال الساجد ﴿وَقُولُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ادخلوا ﴿حِطَّةٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مسألتنا حطة، أو أمرنا حطة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قولوا، والأصل فيها النصب؛ لأن معناها حط عنا ذنوبنا، ولكنه عدل إلى الرفع؛ للدلالة على ديمومية الحط، والثبات عليه ﴿نَغْفِرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير مستتر فيه؛ تقديره: نحن يعود على الله، والجملة الفعلية جواب الطلب لا محل لها من الإعراب ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بنغفر ﴿خَطاياكُمْ﴾ مفعول به ﴿وَسَنَزِيدُ﴾ الواو عاطفة، والسين حرف استقبال ﴿نزيد﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ مفعول به منصوب بالياء، والجملة معطوفة على جملة نغفر، على كونها جواب الطلب لا محل لها من الإعراب، وإنما لم يجزم؛ لأن الطلب عامل ضعيف فلا يقوى على العمل في المعطوف، أو الجملة مستأنفة.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا
﴿فَبَدَّلَ﴾ الفاء استئنافية، أو فصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم أمروا بقول حطة، وأردت بيان ما قالوا، فأقول لك: بدّل الذين ظلموا ﴿بدل﴾ فعل ماض ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿قَوْلًا﴾ مفعول به منصوب ﴿غَيْرَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْلًا﴾ منصوب وهو مضاف ﴿الَّذِي﴾ مضاف إليه ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بقيل، والجملة صلة الموصول ﴿فَأَنْزَلْنا﴾ الفاء عاطفة ﴿أنزلنا﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة بدّل، على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾ متعلق بأنزلنا ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿رِجْزًا﴾ مفعول به لأنزلنا ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ صفة لرجزا ﴿بِما﴾ الباء حرف جر وسبب ﴿ما﴾ مصدرية ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْسُقُونَ﴾ خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها، صلة ﴿ما﴾ المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بكونهم فاسقين، أو بفسقهم الجار والمجرور متعلق بأنزلنا.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ﴾ أصل قال: قول بوزن فعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، وهو أجوف واويّ. يا قوم! أصله: يا قومي، حذفت ياء المتكلم، وبقيت الكسرة دالّة عليها، وهكذا حيثما ورد في القرآن. والقوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرؤ، وقياسه: أن لا يجمع، وشذّ جمعه حيث قالوا: أقوام، وجمع جمعه قالوا: أقاويم. قيل: يختصّ بالرجال.
قال تعالى: ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ ولذلك قابله بقوله: ﴿وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ﴾ وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
قومي هم قتلوا أميم أخي | فإذا رميت يصيبني سهمي |
لا يبعدنّ قومي الذين هم | سمّ العداة وآفة الجزر |
والمرسل إليهم يشمل النساء والرجال، وصاحب هذا القيل يقول: أمّا إذا قامت قرينة على التخصيص، فيبطل العموم، ويكون المراد ذلك الشيء المخصّص. والقول الأول أصوب، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع، وتغليب الرجال على النساء، والمجاز خير من الاشتراك. وسمّي الرجال قوما؛ لأنهم يقومون بالأمور اه. من «البحر».
﴿إِلى بارِئِكُمْ﴾ البارىء: هو الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرأ، إذا خلقهم.
وفي الجمع بينهما في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ ما يدلّ على التباين، إلا أن يحمل على التوكيد. وقد فرّق بعض الناس بينهما، فقال: البارىء: هو المبدع المحدث. والخالق: هو المقدّر الناقل من حال إلى حال. وقال بعض العلماء: برأ، وأنشأ، وأبدع نظائر. وأصل مادة برأ يدلّ على انفصال شيء من شيء، وتميّزه عنه. يقال: برأ المريض من مرضه، إذا زال عنه المرض وانفصل، وبرىء المدين من دينه، إذا زال عنه الدين وسقط. ومنه البارىء في أوصاف الله تعالى؛ لأنه الذي أخرج من العدم، (وفصلهم عنه إلى الوجود). وفي «المختار»: أنّ برىء المريض، من بابي سلم، وقطع، وأنّ برأ الله الخلق، من باب قطع لا غير. اه.
﴿فَتُوبُوا﴾ أمر من تاب يتوب، والأمر قطعة من المضارع، وأصل مضارعه يتوبون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى التاء، فسكنت الواو إثر ضمة، فصارت حرف مد، فلما بني منه الأمر، حذفت نون الرفع، وحرف المضارعة،
﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ أصله؛ توب بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ قلتم بوزن فلتم، وذلك أنّ أصله: قول بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم لمّا أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك؛ سكن آخره لبنائه على السكون، فالتقى ساكنان الألف ولام الفعل، فحذفت الألف عين الفعل، فصار اللفظ هكذا. قلت: فاحتيج للتنبيه على نوع عين الفعل المحذوفة، هل هي واو؟ أو ياء؟ فحذفت حركة فاء الفعل، وعوض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة التي هي الواو، فضم أول الفعل، فقيل: قلت: ﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ﴾ أصله: نرأي بوزن نفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء فاء الفعل، ثم حذفت الهمزة؛ تخفيفا، فقيل: نرى، وهذا الحذف لعين هذا الفعل، مطرد في الماضي من الرباعي، والمضارع منه، والأمر، كما تحذف من الثلاثي في المضارع، والأمر، وهذا الحذف الذي ذكرناه، هو إذا كان مدلول رأى الإبصار في يقظة، أو منام، أو الاعتقاد، وأمّا إذا كانت رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يراه؛ أي: أصاب رئته. نقله صاحب كتاب الأمر ﴿جَهْرَةً﴾ الجهرة العلانية، ومنه الجهر ضدّ السر، وفتح عين هذا النحو مسموع
إذا وردنا آجنا جهرنا | أو خاليا من أهله غمرنا |
أنيخها ما بدا لي ثمّ أبعثها | كأنّها كاسر في الجوّ فتخاء |
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة | فقاموا جميعا بين عان ونشوان |
فلو كنت مولى الظلّ أو في ظلاله | ظلمت ولكن لا يدي لك بالظّلم |
وإنّي لتعروني لذكراك سلوة | كما انتقض السّلواة من بلل القطر |
وشذّ بالحذف مر وخذ وكل وفشا | وأمر ومستندر تميم خذ وكلا |
شئت بوزن فلت ﴿وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا﴾ والباب معروف وهو المكان الذي
المدّ زيد ثالثا في الواحد | همزا يرى في مثل كالقلائد |
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ التبديل: تغيير الشيء بآخر.
تقول: هذا بدل هذا؛ أي: عوضه، ويتعدى لاثنين، الثاني أصله حرف جر.
تقول: بدّلت دينارا بدرهم؛ أي: جعلت دينارا عوض درهم، وقد يتعدّى لثلاثة، فتقول: بدّلت زيدا دينارا بدرهم؛ أي: حصلت له دينارا عوضا من درهم ﴿قِيلَ﴾ أصله: قول بضم أوله وكسر ثانيه، استثقل الانتقال من ضمة إلى كسرة، فحذفت حركة فاء الفعل، ونقلت إليه حركة العين، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، وهكذا كلّ من شاكل هذا النوع من معتل العين، إلا أن الياء تسلم فيما عينه ياء، كجيىء، وبيع، وتقلب الواو ياء فيما عينه واو، كقيل. ﴿رِجْزًا﴾ الرجز: العذاب، وتكسر راؤه وتضم، والضم لغة بني الصّعدات.
﴿وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ والاستسقاء: طلب سقيا الماء، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وأصله: استسقي بوزن استفعل، قلبت الياء ألفا؛ لتحركها بعد فتح ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ﴾ أصل قلنا: قولنا، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فلما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، وبني آخره على السكون، التقى ساكنان الألف واللام، فحذفت الألف، وحذفت أيضا حركة فاء الفعل، وعوض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة، فصار قلنا، كما مر ﴿بِعَصاكَ﴾ العصا الألف فيها منقلبة عن واو، لتثنيته على عصوين، وقولهم: عصوته؛ أي: ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذا، فقالوا: أعص أصله: أعصو، وعلى فعول قياسا.
قالوا: عصيّ أصله: عصوو، يتبع حركة العين حركة الصاد و ﴿الْحَجَرَ﴾ الجسم الصلب المعروف عند الناس، ويجمع على أحجار وحجار، وهما جمعان مقيسان
﴿وَلا تَعْثَوْا﴾ قيل أصل هذه الكلمة: عثى يعثي، كرمى يرمي. وقيل أصلها: عثى يعثى، كسعى يسعى. وقيل أصلها: عثى يعثى، كرضى يرضى. وقيل أصلها: عثا يعثو، كسما يسمو، والموجود في القرآن يوافق الثانية والثالثة من اللغات، وعليه يكون التغيير الذي وقع فيها، أنّ واو الجماعة اتصل بلام الفعل، سواء أكانت من باب سعى، أم من باب رضي، تحركت الياء وفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. أمّا التي من باب رمى وسما، فلا داعي للكلام عليهما، لعدم ورودهما في القرآن، والعثو والعثيّ أشدّ الفساد.
يقال: عثا يعثو عثوا، وعثيا، وعثى يعثى عثيا، وعثى يعثى عثيا لغة شاذّة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة في قوله: ﴿يا قَوْمِ﴾ للشفقة عليهم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ علاقته اعتبار ما يؤول إليه؛ أي: أسلموها للقتل تطهيرا لها.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ والالتفات هنا من التكلم الذي يقتضيه سياق الكلام إلى الغيبة، إذ كان مقتضى المقام أن يقول: فوفقتكم فتبت عليكم، وفيه أيضا مجاز بالحذف، تقديره: ففعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم بارئكم.
ومنها: العدول من ضمير الغائبين العائد إلى القوم، إلى ضمير المخاطبين في قوله: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ حيث لم يقل: فتاب عليهم العائد إلى الأسلاف؛ إشعارا بأنها نعمة، أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم.
ومنها: تقييد البعث بكونه من بعد الموت، مع أن البعث لا يكون إلا بعد الموت؛ لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي؛ ولدفع ما عساه يتوهم أنّ بعثهم كان بعد إغماء، أو بعد نوم.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾؛ أي: قلنا لهم كلوا، وفي قوله: ﴿وَما ظَلَمُونا﴾، تقديره: فظلموا أنفسهم بكفرهم تلك النعمة، وما ظلمونا بذلك دل على هذا المحذوف قوله: ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
ومنها: الجمع بين صيغتي الماضي والمضارع في قوله: ﴿ظَلَمُونا﴾ وقوله: ﴿يَظْلِمُونَ﴾؛ للدلالة على تماديهم في الظلم، واستمرارهم على الكفر.
ومنها: تقديم المفعول على عامله في قوله: ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾؛ للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه أيضا ضرب تهكم بهم.
ومنها: تنكير ﴿رِجْزًا﴾؛ لإفادة التهويل والتفخيم.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿كلوا من رزق الله﴾؛ تعظيما للمنّة والإنعام، وإيماء إلى أنه رزق حاصل من غير تعب، ولا مشقة.
ومنها: ذكر ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ في قوله: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ مبالغة في تقبيح الفساد.
ومنها: الإتيان بالحال؛ لتأكيد معنى عامله في قوله: ﴿مُفْسِدِينَ﴾؛ لأنّ معناها قد فهم من عاملها، وحسن ذلك اختلاف اللفظين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥)
فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنها في تعداد قبائحهم، كسوابقها. والحاصل منها: أنهم لما (١) سئموا من الإقامة في التيه، والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك، وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم، وأكثر أهل الظاهر من المفسرين، على أن هذا السؤال كان معصية، قالوا: لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى، وتلك الكراهة معصية؛ ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى، وما كانوا عليه بأنه خير، وبأن قوله: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ هو على سبيل الإنكار. ذكره في «البحر».
قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما
وعبارة المراغي هنا مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر (٢) باللائمة على اليهود في الآيات السالفة، وبين ما حاق بهم من الذل والمسكنة، وما نالهم من غضب الله جزاء ما اجترحوه من السيئات، من كفر بآيات الله تعالى، وقتل للنبيين، وعصيان لأوامر الدين، وترك لحدوده، ومخالفة لشرائعه. ذكر هنا حال المستمسكين بحبل الله - الدين المتين - من كل أمة، وكل شعب، ممن اهتدى بهدي نبي سابق، وانتسب إلى شريعة من الشرائع الماضية، وصدق في الإيمان بالله واليوم الآخر، وسطع على قلبه نور اليقين، وأرشد إلى أنهم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ...﴾ الآيتين، ذكر (٣) سبحانه في هاتين الآيتين، جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾. إلخ. فقبلوها، وأراهم من الآيات ما فيه مقنع لهم؛ رفع الجبل فوقهم كالظلة حتى ظنوا أنه واقع بهم، وطلب إليهم التمسك بالكتاب، والعمل بما فيه بالجد والنشاط كي يعدّوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك، وانصرفوا عن طاعته، ولولا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا، وخسروا سعادة الآخرة، وهي خير ثوابا، وخير أملا، لكن وفقهم الله تعالى بعد ذلك فتابوا، ورحمهم فقبل توبتهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ...﴾ الآيتين، وفي هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد تعداد لنكث العهود، والمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل، الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، وحل بهم جزاء ما عملوا، من
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخسّ أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية بأنواع المنكرات جهارا عيانا بلا خجل، ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم، والعدني في مسنده من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال سلمان: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أهل دين كنت معهم؟ فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا...﴾ الآية إلى قوله: ﴿يَحْزَنُونَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٦١ - ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ﴾؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! حين كنتم في التيه تأكلون من المن والسلوى، فمللتم منه، وذكرتم عيشا كان لكم بمصر، وقلتم لنبيكم عليه السلام ﴿يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾؛ أي: على نوع واحد من الطعام الذي هو المن والسلوى، ولن نكتفي به. وهذا (١) تذكير لجناية أخرى لأسلاف بني
وفي «تفسير البغوي» والعرب تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين؛ لقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ﴾ وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقيل: المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء، فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض، لاستغناء كل واحد بنفسه، وكان فيهم أوّل من اتخذ العبيد والخدم ﴿فَادْعُ لَنا﴾؛ أي: فاسأل لأجلنا ﴿رَبَّكَ﴾ أن يخرج لنا من نبات الأرض. ولغة بني عامر بكسر العين، جعلوا دعا من ذوات الياء، كرمى يرمي؛ والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء؛ أي: إن دعوته ﴿يُخْرِجْ لَنَا﴾ أي يظهر لنا ويوجد شيئا ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ ومفعول يخرج محذوف، كما قدّرنا والجزم في جواب الطلب، فإنّ دعوته سبب الإجابة؛ أي: إن تدع لنا ربك يخرج لنا شيئا مما تنبته الأرض من الحبوب والبقول، فقد سئمنا المن والسلوى وكرهناه، ونريد ما تخرجه الأرض كعادتنا في مصر. وفي قوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ (١) إسناد مجازي بإقامة القابل وهو الأرض، مقام الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، ومن تبعيضية، وما موصولة، ومن في قوله: ﴿مِنْ بَقْلِها﴾ بيانية واقعة موقع الحال من الضمير العائد إلى ما المحذوف؛ أي: مما تنبته الأرض، أو من ما الموصولة؛ أي: حال كون ذلك النابت من
وقال أبو حيان: وأحوال (٣) هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة، فذكروا أولا: ما هو جامع للحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، إذ البقل منه ما هو بارد رطب، كالهندبا، ومنه ما هو حار يابس، كالكرفس والسذاب، ومنه ما هو حار
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
وقوله: ﴿قالَ﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله لهم، أو موسى عليه السلام، فقيل: قال إنكارا عليهم. إلخ. والظاهر (١) عود الضمير في قال إلى موسى، ويحتمل عوده على الرب تعالى، ويؤيده ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ﴾. والهمزة في قوله: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾؛ للإنكار، والاستبدال: الاعتياض. وقرأ أبيّ ﴿أتبدلون﴾ وهو مجاز؛ لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى، لكن لما كان حصول التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى: أتسألون تبديل ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنى﴾؛ أي: أتأخذون لأنفسكم، وتختارون لها الطعام الذي هو أدنى، وأخسّ من البقل وما بعدها ﴿بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾؛ أي: بدل الذي هو خير وأنفس؛ لأن الباء تدخل على المتروك دون المأخوذ، وخيريّة المن والسلوى في اللّذاذة، أو سقوط المشقة والسعي في تحصيلها، وغير ذلك. ولا كذلك الفوم، والعدس، والبصل، وأمثالها. قال بعضهم: الحنطة وإن كانت أعلى من المن والسلوى، لكن خساستها ههنا بالنسبة إلى قيمتها، وليس في الآية ما يدل على قطعها عنهم على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى. وحصول ما طلبوا مكانه؛ لتحقق الاستبدال في صورة المناوبة؛ لأنهم أرادوا بقولهم لن نصبر على طعام واحد أن يكون لهم هذا تارة وذاك أخرى.
وقرأ زهير الفرقبيّ، ويقال له: زهير الكسائيّ ﴿أدنأ﴾ بالهمزة.
والمعنى: أي (٢) قال لهم موسى منكرا عليهم ويحكم: أتريدون استبدال الطعام الذي هو أخسّ، من البقل، والقثاء، والفوم، والبصل، عن الطعام الذي هو أنفس، وأفضل، وأعلى، الذي هو المن والسلوى، فإنه خير في اللذة، والنفع، وعدم الحاجة إلى السعي، فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا لهم: {اهْبِطُوا
(٢) العمدة.
أريد به مصر فرعون، وإنما صرف؛ لسكون وسطه، كهند، ودعد، ونوح؛ أو لتأويله بالبلد دون المدينة، فلم يوجد فيه غير العلمية. انتهى. قال أبو حيان:
فتلخّص من قراءة التنوين أن يكون مصرا غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصرا غير معين من أمصار الشام، أو معينا وهو بيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال. انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿اهْبِطُوا﴾ بكسر الباء، لأنه من باب ضرب. وقرىء بضم الباء على أنه من باب دخل وهما لغتان، والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصرا هنا. وقرأ الحسن، وطلحة، والأعمش، وأبان بن تغلب بغير تنوين، وبيّن كذلك في مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان ﴿فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ﴾ تعليل للأمر بالهبوط؛ أي: فإن لكم فيه ما سألتموه من بقول الأرض ونباتها، ثم قال تعالى منبها على ضلالهم، وفسادهم، وبغيهم، وعدوانهم: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: جعلت على فروع بني إسرائيل الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم ﴿الذِّلَّةُ﴾؛ أي: الذل والهوان بضرب الجزية عليهم، وإلزامهم
(٢) البحر المحيط.
﴿وَباؤُ﴾؛ أي: رجعوا ﴿بِغَضَبٍ﴾ وسخط عظيم كائن ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: استحقّوا الغضب واللعنة من الله تعالى بسبب طغيانهم، وكفرهم نعمة الله تعالى. وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب من الله، وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور في قوله: ﴿بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾؛ أي: بسبب أن اليهود كانوا يجحدون على الاستمرار بآيات الله الباهرة؛ التي هي المعجزات الساطعة الظاهرة على يدي موسى عليه السلام؛ التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر، وما لم يعدّ، كاليد، والعصا، والضفادع، والقمّل، والجراد، أو بسبب أنهم يجحدون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وينكرون صفته في التوراة، والإنجيل، وبالقرآن، وآية الرجم التي في التوراة والإنجيل ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ عندهم؛ أي: وبسبب قتلهم الأنبياء ظلما حتى عندهم، كشعياء، وزكريا، ويحيى، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام. وفائدة (١) التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل: أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق، إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحدهم عليهم السلام، فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من
فإن قلت: لم عرّف الحق هنا ونكره في آل عمران والنساء؟
قلت: لأن ما هنا لكونه وقع أولا إشارة إلى ﴿الْحَقِّ﴾ الذي أذن الله أن تقتل النفس به، وهو قوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ فكان التعريف به أولى، وهناك أريد به ﴿بغير حق﴾ في معتقدهم ودينهم، فكان بالتنكير أولى انتهى. من فتح الرحمن.
﴿ذلِكَ﴾ المذكور من كفرهم بآيات الله العظام، وقتلهم أنبياء الله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿بِما عَصَوْا﴾؛ أي: بسبب عصيانهم بترك المأمورات ﴿وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾؛ أي: وبسبب اعتدائهم ومجاوزتهم الحد بارتكاب المنهيات؛ أي: ذلك بسبب مجاوزتهم أمري وارتكابهم محارمي؛ أي: جرّ بهم العصيان والتمادي في العدوان إلى المشار إليه، فإن صغار الذنوب إذا دووم عليه أدت إلى كبارها، كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها، وسقم القلب بالغفلة عن الله تعالى منعهم عن إدراك لذاذة الإيمان وحلاوته؛ لأن المحموم ربما وجد طعم السّكر مرّا، فالغفلة سمّ للقلوب مهلك، فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله نفرتك عن الطعام المسموم و (ما) في قوله:
﴿بِما عَصَوْا﴾ مصدرية، كما أشرنا إليه في الحل؛ أي: ذلك بعصيانهم، ولم (١) يعطف الاعتداء على العصيان؛ لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي؛ وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائما، والمعنى {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ
وفي قوله: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ مع أن قتل غير النبيين لا يكون إلا كذلك، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم، ولا متأوّلين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم.
﴿ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾؛ أي: إن كفرهم بآيات الله، وجرأتهم على النبيين بالقتل إنما كانا بسبب عصيانهم، وتعدّيهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدّى حدوده مرة ضعف ذلك السلطان الدينيّ في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة، وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه،
٦٢ - ثم دعا الله سبحانه وتعالى أهل الملل من المؤمنين بألسنتهم، واليهود، والنصارى، والصابئين إلى الإيمان الصادق وإخلاص العمل لله، وساقه بصيغة الخبر، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهذه الآية معترضة بين قصص بني إسرائيل؛ أي إنّ (٢) الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب، وهم المنافقون بقرينة انتظامهم في سلك الكفرة، والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق؛ للتصريح بأنّ تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا، ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا،
(٢) روح البيان.
اه. من الشوكاني.
وقيل المعنى (٣): إن الذين آمنوا بالأنبياء الماضين قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، كبحيرا الراهب، وورقة بن نوفل، وقسّ بن ساعدة، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، ووفد النجاشي، وغيرهم ﴿وَالَّذِينَ هادُوا﴾؛ أي: تهودوا وصاروا يهود من هاد إذا دخل في اليهودية، ويهود إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل، وخصّوا به، لما كانت توبتهم توبة هائلة، وإما معرب من يهوذا بالذال المعجمة اسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، فقلبتها العرب دالا مهملة. وقيل: إنما سمي اليهود يهودا؛ لأنهم إذا جاءهم رسول، أو نبيّ هادوا إلى ملكهم فدلّوه عليه فيقتلونه ﴿وَالنَّصارى﴾ جمع (٤) نصران، كندامى جمع ندمان، سمّوا بذلك؛ لأنهم نصروا المسيح عليه السلام؛ أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: ناصرة، فسموا باسمها، أو لاعتزائهم إلى نصرة، وهي قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام، والمعنى؛ أي: والذين كانوا على الدين المحرّف الباطل الذي كان لليهود والنصارى ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾؛ أي: الخارجين من دين إلى دين، وهم قوم من اليهود، أو النصارى صبئوا من دينهم. وقرأ نافع
(٢) الشوكاني.
(٣) العمدة.
(٤) روح البيان.
فإن قلت: لم قدم النصارى على الصابئين هنا. وعكس في المائدة والحج؟.
قلت: لأن النصارى مقدمون على الصابئين في الرتبة؛ لأنهم أهل كتاب، فقدموا في البقرة لكونها أولا، والصابئون مقدمون على النصارى في الزمن، فقدموا في الحج، وروعي في (المائدة) المعنيان فقدموا في اللفظ وأخروا في المعنى إذ التقدير: والصابئون كذلك، كما في قول الشاعر:
فمن يك أمس في المدينة رحله | فإنّي وقيّار بها لغريب |
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)﴾ ودخلت الفاء في قوله: ﴿فَلَهُمْ﴾؛ لتضمن اسم إنّ معنى الشرط ﴿أَجْرُهُمْ﴾ الموعود لهم؛ أي: ثواب أعمالهم مدّخرا لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: مالك أمرهم
٦٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ﴾ تذكير (١) لجناية أخرى لأسلاف بني إسرائيل؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! وقت أخذنا لعهد آبائكم على العمل بما في التوراة، وذلك قبل التيه حين خرجوا مع موسى من مصر ونجوا من الغرق؛ أي: واذكروا قصة حين أخذنا وطلبنا من آبائكم العهد المؤكد باليمين على قبول التوراة، والعمل بما فيه، واتباع موسى، وأبيتم من إقراره وقبوله ﴿وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ كأنه ظلّة حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. والطور: جبل معروف بفلسطين، والطور معناه: الجبل بالسريانية، وذلك أنّ موسى عليه السلام جاءهم بالألواح، فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقّة، فكبرت عليهم، وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه، وظلّله فوقهم، وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقى عليكم، فلما رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا، وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود؛ لئلا ينزل عليهم، فصارت عادة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، ويقولون بهذا السجود رفع عنا العذاب، ثم رفع الجبل ليقبلوا التوراة لم يكن جبرا على الإسلام؛ لأن الجبر ما يسلب الاختيار وهو جائز، كالمحاربة مع الكفار ليدخلوا في الإسلام، وأما قوله تعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ وأمثاله فمنسوخ بالقتال. قال ابن عطية: والذي لا يصحّ
﴿وَاذْكُرُوا ما فِيهِ﴾؛ أي: وادرسوا ما في الكتاب من الثواب والعقاب، واحفظوا ما فيه من الحلال والحرام، ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ أي: لكي (١) تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى، وإلّا رضخت رؤوسكم بهذا الجبل، أو رجاء (٢) منكم أن تكونوا متقين، فلمّا رأوا ذلك نازلا بهم قبلوا، وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصار ذلك سنة في سجود اليهود، كما مر آنفا
٦٤ - ﴿ثُمَّ﴾ بعد ما رفعنا فوقكم وقبلتم الميثاق ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾؛ أي: أعرضتم عن الوفاء بالميثاق، وتركتم العمل بكل ما أمرتم به ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ أي من بعد أخذ الميثاق منكم على العمل بما في الكتاب، وهذا تأكيد لما يفهم من ثمّ ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ﴾؛ أي: تفضله سبحانه وتعالى عليكم بتأخير العذاب عنكم ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ لكم بقبول التوبة منكم ﴿لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾؛ أي: لصرتم من الهالكين في الدنيا والآخرة، أو من المغبونين بذهابكم، وانعدامكم في الدنيا والعذاب في العقبى، ولكن تفضّل عليكم حيث رفع الطور فوقكم حتى تبتم فزال الجبل عنكم، ولولا ذلك لسقط عليكم، والخسران في الأصل: ذهاب رأس المال وهو ههنا هلاك النفس؛ لأنها الأصل.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَاذْكُرُوا﴾ أمرا من ذكر الثلاثي. وقرأ أبيّ ﴿واذّكّرو ما فيه﴾ أمرا من اذّكّر، وأصله: واذتكروا، ثم أبدل من التاء دال، ثم أدغم الذال في
(٢) نسفي.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: أي ثمّ توليتم، وأعرضتم، وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق، وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر، فلولا لطف الله بكم، وإمهاله إياكم، إذ لم يعاملكم بما تستحقون لكنتم من الهالكين بالانهماك في المعاصي. والخلاصة: إنكم بتوليكم استحققتم العقاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم، ولولا ذلك لخسرتم سعادتي الدنيا والآخرة، وقد منّ الله تعالى على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث فرض عليهم الفرائض واحدة بعد واحدة، ولم يفرض عليهم جملة، فإذا استقرّت الواحدة في قلوبهم فرض عليهم الأخرى، وأما بنو إسرائيل فقد فرض عليهم بدفعة واحدة، فشق عليهم ذلك، ولذا لم يقبلوا حتى رأوا العذاب، ثمّ إن (٣) الله تعالى أمر بحفظ الأوامر والعمل، وبعدم النسيان
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٦٥ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ خطاب لمعاصري النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود؛ أي: وبالله قد عرفتم يا بني إسرائيل! ﴿الَّذِينَ اعْتَدَوْا﴾؛ أي: تجاوزوا الحد ظلما ﴿مِنْكُمْ﴾؛ أي: من أسلافكم، محلّه نصب على أنه حال ﴿فِي﴾ يوم ﴿السَّبْتِ﴾؛ أي: جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه، واشتغلوا بالصيد، وأصل السبت القطع؛ لأنّ اليهود أمروا بأن يسبتوا فيه؛ أي: يقطعوا الأعمال، ويشتغلوا بعبادة الله، ويسمّى النوم سباتا؛ لأنه يقطع الحركات الاختيارية، وفيه تحذير وتهديد؛ فكأنّه يقول: إنكم تعلمون ما أصابهم من العقوبة، فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم ﴿فَقُلْنا لَهُمْ﴾ قهرا ﴿كُونُوا قِرَدَةً﴾ جمع قرد، كالديكة جمع ديك، وهذا أمر تحويل وتكوين، فهو عبارة عن تعلق القدرة بنقلهم من حقيقة البشرية إلى حقيقة القردة؛ لأنهم لم يكن لهم قدرة على التحول من صورة إلى صورة، وهو إشارة إلى قوله: ﴿إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾؛ أي: لمّا أردنا ذلك صاروا كما أردنا من غير امتناع ولا لبث ﴿خاسِئِينَ﴾؛ أي: ذليلين، هو وقردة خبران لكان؛ أي: كونوا جامعين بين القرديّة والخسىء، وهو الصغار والطرد.
فإن قلت: كيف أمروا بذلك مع أنه ليس في وسعهم؟.
قلت: هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، كقوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ والمعنى؛ أي (١): وعزتي وجلالي، لقد عرفتم عقوبة الذين تجاوزوا الحد في الاصطياد باصطيادهم في يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه، وأمروا بالتفرّغ فيه للعبادة، فقلنا لهم: كونوا وصيروا بقدرتنا قردة؛ أي: حيوانا معروفا خاسئين؛
وأصل هذه القصة (١): أنهم كانوا في زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها: أيلة بين المدينة والشام على ساحل بحر القلزم، فحرّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك، إمّا ابتلاء لأولئك القوم، وإما لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس بن متى، في كل سبت يجتمعن لزيارتها، ويخرجن خراطيمهن من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها، وإذا مضى السبت تفرقن ولزمن مقل البحر فلا يرى شيء منها، ثمّ إن الشيطان وسوس إليهم، وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فعمد رجال من أهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر، وشرعوا منه إليها الأنهار، فإذا كانت عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلا يقدرون على الخروج؛ لبعد عمقها؛ وقلة مائها، فإذا كان يوم الأحد يصطادونها، فأخذوا، وأكلوا، وملّحوا، وباعوا، فكثرت أموالهم، ففعلوا ذلك زمانا أربعين سنة، أو سبعين لم تنزل عليهم عقوبة، وكانوا يتخوّفون العقوبة، فلمّا لم يعاقبوا استبشروا وتجرّءوا على الذنب، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أحل لنا، ثم أستنّ الأبناء سنة الآباء، فلو أنهم فعلوا ذلك مرة أو مرتين لم يضرهم، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية - وكانوا نحوا من سبعين ألفا - ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفا فنهوهم عن ذلك، وقالوا: يا قوم! إنكم عصيتم ربكم وخالفتم سنة نبيكم، فانتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم البلاء، فلم يتعظوا وأبوا قبول نصحهم، فعاقبهم الله بالمسخ، وذلك قوله تعالى: ﴿فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ ثمّ إنّ المجرمين لما أبوا قبول النصح قال الناهون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وصيّروها بذلك ثنتين، فلعنهم داود، وغضب الله عليهم؛ لإصرارهم على المعصية، فمسخوا ليلا، فلما أصبح الناهون أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت ولا يعلو منها دخان،
٦٦ - ﴿فَجَعَلْناها﴾ (١)؛ أي: صيّرنا مسخة تلك الأمة وعقوبتها ﴿نَكالًا﴾؛ أي: عبرة تنكل من اعتبر بها؛ أي: تمنعه من أن يقدم على مثل صنيعهم ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها﴾؛ أي: لما قبلها وما بعدها من الأمم والقرون؛ لأنّ مسختهم ذكرت في كتب الأولين واعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، فاستعير ما بين يديها للزمان الماضي، وما خلفها للمستقبل ﴿وَمَوْعِظَةً﴾؛ أي: تذكرة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متّق سمعها، فاللام للاستغراق العرفيّ على كلا التقديرين، وخصّ المتقين بالذكر؛ لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير.
قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والمعنى: ﴿فَجَعَلْناها﴾؛ أي (٢): جعلنا تلك العقوبة، والمسخة التي مسخناهم بها ﴿نَكالًا﴾؛ أي: عقوبة رادعة زاجرة ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْها﴾؛ أي: للأمم التي في زمانها، التي ترى تلك الفرقة الممسوخة عن الإتيان بمثل فعلهم ﴿وَما خَلْفَها﴾؛ أي: وزاجرة للأمم التي تأتي بعدها إلى يوم القيامة أن يعملوا بمثل ما عملوا، فيمسخوا مثل ما مسخوا ﴿وَمَوْعِظَةً﴾؛ أي: عبرة وتذكرة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ المؤمنين من هذه الأمة؛ لئلّا يفعلوا مثل فعلهم؛ فإن كلّ من سمع تلك الواقعة يخاف أن ينزل به مثل ما نزل بهم إن فعل مثل فعلهم، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمن اليهود،
(٢) العمدة.
واعلم: أن عقوبة الأمم الماضية بالخسف والمسخ على الأجساد، وعقوبة هذه الأمة على القلوب، وعقوبات القلوب أشدّ من عقوبات النفوس. قال الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ...﴾ الآية. ثم علامة (١) مسخ القلوب ثلاثة أشياء: لا يجد حلاوة الطاعة، ولا يخاف من المعصية، ولا يعتبر بموت أحد، بل يصير أرغب في الدنيا كل يوم. كذا في «زهرة الرياض». وروي عن عوف بن عبد الله أنه قال: كان أهل الخير يكتب بعضهم بثلاث كلمات: من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته. وقال محمد بن علي الترمذي: صلاح أربعة أصناف في أربعة مواطن: صلاح الصبيان في الكتّاب، وصلاح القطّاع في السجن، وصلاح النساء في البيوت، وصلاح الكهول في المساجد. انتهى.
الإعراب
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! إذ قلتم ﴿قُلْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿يا مُوسى﴾ منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني بضمة مقدرة منع من ظهورها التعذر، وجملة النداء في محل النصب مقول لقلتم ﴿لَنْ﴾ حرف نصب ونفي واستقبال ﴿نَصْبِرَ﴾
﴿قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، أو على الرب سبحانه، والجملة مستأنفة ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ إلى قوله ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ مقول محكي لقال، لأن مرادنا لفظه لا معناه، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري المضمن
﴿وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
﴿وَباؤُ﴾ فعل وفاعل معطوف على ضربت ﴿بِغَضَبٍ﴾ متعلق بباؤا ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صفة لغضب ﴿ذلِكَ﴾ اسم إشارة للمفرد البعيد في محل الرفع مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ الباء
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿وَالَّذِينَ﴾ في محل النصب معطوف على الموصول الأول وجملة ﴿هادُوا﴾ صلة للموصول الثاني ﴿وَالنَّصارى﴾ معطوف على اسم إن، وكذلك قوله: ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ معطوف على اسم إن ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب بدل من اسم إن، وجملة ﴿آمَنَ﴾ صلة من الموصولة ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بآمن ﴿وَالْيَوْمِ﴾ معطوف على لفظ الجلالة ﴿الْآخِرِ﴾ صفة لليوم ﴿وَعَمِلَ﴾ معطوف على آمن ﴿صالِحًا﴾ مفعول به لعمل، أو مفعول مطلق لعمل؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: وعمل عملا صالحا ﴿فَلَهُمْ﴾ الفاء رابطة الخبر باسم إن؛ لما في الموصول من معنى الشرط، أو رابطة الجواب بالشرط إن قلنا ما شرطية ﴿لهم﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ﴿أَجْرُهُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الرفع خبر إن إذا
﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)﴾.
﴿وَإِذْ أَخَذْنا﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي على أنه مفعول به لاذكروا ﴿أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به ومضاف إليه والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿وَرَفَعْنا﴾ الواو عاطفة، أو حالية ﴿رَفَعْنا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل الجر معطوف على ﴿أَخَذْنا﴾ أو في محل النصب حال من فاعل ﴿أَخَذْنا﴾ ولكن بتقدير: قد ﴿فَوْقَكُمُ﴾ فوق منصوب على الظرفية المكانية متعلق برفعنا، والكاف في محل الجر مضاف إليه ﴿الطُّورَ﴾ مفعول به ﴿خُذُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف معطوف على ﴿أَخَذْنا﴾ تقديره: وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم، أو حال من فاعل رفعنا، تقديره: ورفعنا فوقكم الطور قائلين خذوا... إلخ: ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول لخذوا ﴿آتَيْناكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف؛ لأن آتى بمعنى أعطى، تقديره: آتيناكموه، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة صلة لما الموصولة ﴿بِقُوَّةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿خُذُوا﴾ تقديره: ملتبسين بقوة واجتهاد ﴿وَاذْكُرُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿خُذُوا﴾ ﴿ما﴾ اسم
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ فعل وفاعل معطوف على محذوف، تقديره: فقبلتم الميثاق ثم توليتم ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتوليتم ﴿فَلَوْلا﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أخذ الميثاق منكم، ثم توليكم بعد ذلك وأردتم بيان ما يترتب على ذلك، فأقول لكم: لولا فضل الله ﴿لولا﴾ حرف امتناع لوجود مضمن معنى الشرط ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه وخبره محذوف وجوبا، تقديره: موجود، والجملة الإسمية قائمة مقام الشرط لا محل لها من الإعراب ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بفضل الله ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ معطوف على فضل الله ﴿لَكُنْتُمْ﴾ اللام واقعة في جواب لولا ﴿كنتم﴾ فعل ناقص واسمه ﴿مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ متعلق بمحذوف خبر كان، وجملة كان جواب لولا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة لقسم محذوف، تقديره: وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿عَلِمْتُمُ﴾ فعل وفاعل ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، وعلم هنا بمعنى عرف يتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب ﴿اعْتَدَوْا﴾ فعل ماض وفاعل، والجملة
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ ادع وزنه أفع لحذف لامه لبناء الأمر ﴿مِنْ بَقْلِها﴾ والبقل: كلّ ما تنبته الأرض من النجم؛ أي: مما لا ساق له، وجمعه بقول ﴿وَقِثَّائِها﴾ والقثاء: اسم جنس معروف، الواحدة قثاءة، وفيها لغتان: المشهور منهما كسر القاف، وقرىء بضمها، والهمزة أصل بنفسها لثبوتها في قوله: أقثأت الأرض؛ أي: كثر قثاؤها، ووزنها فعّال. اه. «سمين». وقال الخليل: وهو الخيار، ويقال:
أرض مقثاة؛ أي: كثيرة القثاء ﴿وَفُومِها﴾ قال الكسائي، والفراء، والنضر بن شميل، وغيرهم. الفوم هو الثوم، أبدلت الثاء فاء، كما قالوا في مغفور: مغثور، وفي جدث: جدف، وفي عاشور: عافور. قال أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة | فيها القراديس والفومان والبصل |
وأنتم أناس لئام الأصول | طعامكم الفوم والحوقل |
الأثاثي وكلا البدلين لا ينقاس؛ أعني: إبدال الثاء فاء والفاء ثاء، وقال ابن قتيبة، والزجاج: هي الحبوب التي تؤكل، وقال أبو مالك وجماعة: الفوم: الحنطة، ومنه قول أحيحة بن الجلّاح:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد | قدم المدينة عن زراعة فوم |
أحدها: وهو الظاهر، وهو قول الزجاج أن أصله: أدنو من الدنو هو القرب، فقلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدنو في ذلك القرب؛ لأنه أقرب وأسهل تحصيلا من غيره لخساسته، وقلة قيمته.
والثاني: أصله: أدنأ مهموز من دنأ يدنأ دناءة، إلا أنه خففت همزته بقلبها ألفا.
﴿اهْبِطُوا﴾؛ أي: انزلوا وانتقلوا من هذا المكان إلى مكان آخر فيه ما تطلبون، فالهبوط لا يختص بالنزول من المكان العالي إلى الأسفل، بل قد يستعمل في الخروج من أرض إلى أرض مطلقا. اه. من «الشهاب» وفي «المصباح» وهبطت من موضع إلى موضع من بابي ضرب وقعد، انتقلت وهبطت الوادي هبوطا نزلته.
اه. ﴿مِصْرًا﴾ والمصر في أصل اللغة: الحد الفاصل بين الشيئين، وحكي عن أهل هجر أنهم إذا كتبوا بيع دار، قالوا: اشترى فلان الدار بمصورها؛ أي: حدودها اه.
«سمين» وفي «الخطيب» المصر البلدة العظيمة. اه. وقال عديّ بن زيد:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به | بين النهار وبين الليل قد فصلا |
﴿وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ وأصل باء بوأ بوزن فعل، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم أسند الفعل إلى واو الجماعة فبني على الضم، فألف باء منقلبة عن واو لقولهم: باء يبوء، مثل: قال يقول، وقال صلّى الله عليه وسلّم: (أبوء بنعمتك) والمصدر البواء، ومعناه: الرجوع. يقال: باء بكذا؛ أي: رجع قاله الكسائيّ، أو اعترف قاله أبو عبيدة، أو استحقّ قاله أبو روق، أو نزل وتمكّن قاله المبرد، أو تساوى قاله الزجاج، وانشدوا لكل قول ما يستدل به من كلام العرب، وحذفنا ذلك. اه. من «البحر».
إن يسكن السّابق من واو ويا | واتّصلا ومن عروض عريا |
فياء الواو اقلبنّ مدغما | وشذّ معطى غير ما قد رسما |
تقوى، وبعد هذا الإعلال يصير الإفتعال منه، كما هنا توتقوون بواوين، فتبدل الواو الأولى ياء؛ لكسر ما قبلها وهي في الطرف،
واستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان الياء، وواو الجماعة، فحذفت الياء، ثم ضمت القاف؛ لمناسبة الواو، وسبب تشديد التاء؛ أنّ فاء الكلمة التي هي واو، كما مر آنفا أن المادة من الوقاية، أبدلت تاء، ثم أدغمت في تاء الافتعال؛ لأنّ فاء الكلمة إذا كان حرف لين وبني منها افتعال، أبدل تاء، وأدغم في تاء الافتعال على حدّ قول ابن مالك:
ذو اللّين فاتا في افتعال أبدلا
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ التولي تفعّل من الولي، وأصله: الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا ومجازا. اه. «سمين» ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ علمتم بمعنى عرفتم فيتعدّى لواحد فقط. والفرق بين العلم والمعرفة: أنّ العلم يستدعي معرفة الذات، وما هي عليه من الأحوال، نحو: علمت زيدا قائما، أو ضاحكا، والمعرفة تستدعي معرفة
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿رَبَّكَ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾؛ لما فيه من إسناد ما للفاعل إلى المحل؛ لأن المنبت الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، علاقته
ومنها: الإجمال ثم التفصيل في قوله: ﴿مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها﴾. إلخ؛ لأنه أوقع في النفس.
ومنها: الاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ في قوله: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى﴾.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾؛ لأن ضربهما عليهم كناية عن إحاطتهما بهم، كما تحيط القبة بمن ضربت عليه نظير قول الشاعر:
إنّ السّماحة والمروءة والنّدى | في قبّة ضربت على ابن الحشرج |
ومنها: التنوين في قوله: ﴿وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾؛ للتعظيم.
ومنها: تقييد قتل الأنبياء بغير الحق في قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾؛ للإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق، إذ لم يكن أحد منهم معتقدا بحقية قتل نبي من الأنبياء، وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى، كما يفصح عنه قوله تعالى: ﴿ذلِكَ بِما عَصَوْا...﴾ إلخ. اه. من «أبي السعود».
ومنها: تكرير اسم الإشارة في قوله: ﴿ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾؛ للتأكيد إن قلنا: إن الثاني مشار به إلى ما أشير إليه بالأول.
ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: ﴿بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾. الخ؛ لإفادة الاستمرار والدوام.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ﴾؛ لأنه على تقدير القول؛ أي: قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة واجتهاد.
ومنها: استعمال الأمر في الإهانة والتحقير في قوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾؛ لأنه ليس لهم قدرة على تحولهم إلى القردة، بل المراد بالأمر الإخبار عن تعلق القدرة، بنقلهم من حقيقة البشرية إلى حقيقة القردة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها﴾؛ لأنه استعير فيه ما بين يديها للزمان الماضي، وما خلفها للمستقبل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) فيما سبق بعض قبائح بني إسرائيل، وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، أردفه بذكر نوع آخر من مساوئهم وقبائحهم، ألا وهو مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إليهم، مع كثرة اللجاج والعناد للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وجفائهم في مخاطبة نبيهم موسى عليه السلام.
وعبارة أبي حيان هنا: ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم، وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم، فناسب ذلك ذكر هذه الآية؛ لما تضمنت من المراجعة، والتعنت، والعناد مرة بعد مرة. اهـ.
(٢) البحر المحيط.
٦٧ - ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ وهذا توبيخ آخر لأخلاق بني إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت من أسلافهم؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! قصة إذ قال موسى عليه السلام، لأسلافكم وأجدادكم الذين نكثوا ميثاقي: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾؛ أي: إن ربكم يأمركم أن تذبحوا بقرة حين تدافعوا في القتيل الذي وجد فيهم، ولم يظهر قاتله، فترافعوا إلى موسى، فاشتبه أمر القتيل على موسى، وكان (١) ذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله تعالى ليبين لهم بدعائه، فدعاه لهم، فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها، فيحيا فيخبرهم بقاتله. واسم القتيل عاميل، وكان القاتل ابن عم المقتول، وكان مسكينا والمقتول كثير المال، فاستعجل ميراثه. وقيل: كان أخاه. وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه. وقال عطاء: كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال؛ فقتله لينكحها. كذا في «البحر». وأول هذه القصة، قوله سبحانه وتعالى الآتي: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها﴾ وإن كان مؤخرا في التلاوة، فحق (٢) ترتيبها أن يقال: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ إلخ. ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ إلخ. ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها﴾ إلخ. وقوم موسى أتباعه وأشياعه.
فإن قلت: إذا كان حق الترتيب هكذا، فما وجه عدول التنزيل عنه؟
قلت: وجهه أنه لما ذكر سابقا خبائثهم وجناياتهم ووبخوا عليها، ناسب أن يقدم في هذه القصة ما هو من قبائحهم، وهو تعنتهم على موسى، لتتصل قبائحهم بعضها ببعض. اه. من «الخازن».
روي عن ابن عباس، وسائر المفسرين (٣): أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل
(٢) الخازن.
(٣) المراح.
وقد روى الحسن مرفوعا: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (والذي نفس محمد بيده، لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم) (١) وإنّما اختصّ البقر من سائر الحيوانات، لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله، فاختبروا بذلك إذ هذا من الابتلاء العظيم، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه؛ أو لأن أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارا بأمه، كما سيأتي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ بضم الراء، وعن أبي عمرو السكون والاختلاس، وإبدال الهمزة ألفا ﴿قالُوا﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ هل سارعوا إلى الامتثال أولا؟ فقيل: قالوا: ﴿أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾؛ أي: أتجعلنا مكان هزء وسخرية، وتستهزىء بنا وتلعب بنا يا موسى؟ حيث نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة، ولا جامع بينهما، وإنما قالوا ذلك: لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة، وإخباره بقاتله. قال بعض العلماء: كان ذلك هفوة منهم وجهالة، فما انقادوا للطاعة وذبحها، وقد كان الواجب عليهم أن يمتثلوا أمره ويقابلوه بالإجلال والاحترام، ثم ينتظروا ما يحدث بعد ﴿قالَ﴾ موسى وهو استئناف أيضا {أَعُوذُ
(٢) البحر المحيط.
وأين وجدت المزاح جهلا؟ فتلا هذه الآية، فأعرض عنه عبيد الله؛ لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزاح من الاستهزاء، أو المعنى من المبلّغين عن الله الكذب. اه. «صاوي».
وأصل هذه القصة (٢): أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم! إني استودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل، فصارت العجلة في الغيضة عوانا؛ أي: نصفا بين المسنّة والشابّة، وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن كان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك قد ورثك عجلة استودعها في غيضة كذا، فانطلق وادع إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، أن يردها عليك،
وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمّى المذهبة؛ لحسنها وصفرتها؛ لأن صفرتها كانت صفرة زين لا صفرة شين، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها فتكلّمت البقرة بإذن الله تعالى، وقالت: أيها الفتى البارّ لوالدته! اركبني، فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمّي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله
(٢) روح البيان.
وفي هذه القصة (١) بيان نوع آخر من مساويهم، لنعتبر به ونتعظ، وفيه من
١ - أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال، مما يقضي التشديد في الأحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ وبما جاء في الأحاديث الصحيحة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال».
٢ - أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان؛ لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بأجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
٣ - استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
٤ - أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدداها.
٦٨ - ثم إن القوم (١) لما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله وجدّ، استوصفوها من موسى فـ ﴿قالُوا﴾ كأنه قيل: فماذا قال قوم موسى بعد ذلك؟ فقيل: توجهوا نحو الامتثال، وقالوا: يا موسى! ﴿ادْعُ لَنا﴾؛ أي: سل لأجلنا ﴿رَبَّكَ﴾ أن يبين لنا سنّها إن دعوته ﴿يُبَيِّنْ﴾ ويوضح ﴿لَنا﴾ ويعرّف ويعيّن ﴿ما هِيَ﴾؛ أي: جواب ما تلك البقرة؛ أي: ما سنّها؟ أصغيرة أم كبيرة. وهذا تشديد منهم على أنفسهم.
و ﴿ما﴾ مبتدأ و ﴿هِيَ﴾ خبره، والجملة في حيز النصب بيبين؛ أي: يبين لنا جواب السؤال. وقد سألوا عن حالها وصفتها، لمّا قرع أسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى، فما ههنا سؤال عن الحال والصفة. تقول: ما زيد، فيقال: طبيب أو عالم؛ أي: ما سنّها وما صفتها من الصغر والكبر ﴿قالَ﴾؛ أي: موسى عليه السلام، بعد ما دعا ربه بالبيان وأتاه الوحي ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى ﴿يَقُولُ إِنَّها﴾؛ أي: إن البقرة المأمور بذبحها ﴿بَقَرَةٌ لا﴾ هي ﴿فارِضٌ﴾؛ أي: مسنة هرمة من الفرض وهو القطع، كأنها قطعت سنّها وبلغت
٦٩ - قالوا: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾؛ أي: سل لنا ربك ما لونها؟ أهي سوداء أم صفراء أم حمراء؟ ﴿يُبَيِّنْ لَنا﴾ جواب ﴿ما لَوْنُها﴾ من الألوان حتى تتبين لنا البقرة المأمور بها، واللون عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر.
﴿قالَ﴾ موسى عليه السلام، بعد المناجاة إلى الله تعالى ومجيء البيان منه تعالى ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿يَقُولُ إِنَّها﴾؛ أي: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها ﴿بَقَرَةٌ صَفْراءُ﴾ والصفرة لون بين البياض والسواد وهي الصفرة المعروفة، وليس المراد بها هنا السواد، كما في قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)﴾؛ أي: سود، والتعبير عن السواد بالصفرة؛ لما أنها من مقدماته؛ وإما لأن سواد الإبل يعلوه صفرة ﴿فاقِعٌ لَوْنُها﴾؛ أي: صافية صفرتها لم يخالطها لون آخر، وهو مبتدأ وخبر، والجملة صفة ثانية لبقرة، والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها. يقال في التأكيد: أصفر فاقع، كما يقال: أسود حالك. وفي إسناده إلى اللون مع كونه من أحوال اللون؛ لملابسته به ما لا يخفى من فضل التأكيد، كأنه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها، كما في جد جده، وجنونك جنون. قيل: كانت صفراء الكل حتى القرن والظلف ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ إليها وتبهجّهم، أي: تعجبهم لحسن صورتها، ومنظرها، وهيئتها، وشدة صفرتها لغرابتها وخروجها عن المعتاد، والمعنى: يعجبهم حسنها، وصفاء لونها، ويفرّح قلوبهم لتمام خلقتها، ولطافة قرونها وأظلافها، والسرور: لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقعه، وعن علي - رضي الله عنه - (من لبس نعلا صفراء قلّ همّه)؛ لأن الله تعالى قال: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ ونهى ابن الزبير، ومحمد بن كثير عن لباس النعال السود؛ لأنها تهمّ. وذكر أنّ الخفّ الأحمر خفّ فرعون، والخفّ
٧٠ - ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾؛ أي: سل لنا ربك ما حالها؟ أعاملة هي أم سائمة؟ إن دعوته ﴿يُبَيِّنْ لَنا﴾ جواب ﴿ما هِيَ﴾؛ أي: ما حال تلك البقرة؟ أعاملة أم سائمة؟ وفي «الكشاف» هذا تكرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستكشاف زائد؛ ليزدادوا بيانا لوصفها، والاستقصاء شؤم. وعن عمر بن عبد العزيز: إذا أمرتك أن تعطي فلانا شاة، سألتني أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني وفي الحديث: «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم لأجل مسألته».
﴿إِنَّ الْبَقَرَ﴾؛ أي: إن (١) جنس البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فـ ﴿تَشابَهَ﴾ أي: تشاكل ﴿عَلَيْنا﴾؛ أي: فاشتبه أمرها علينا، فلم ندر ما البقرة المأمور بذبحها ﴿وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ﴾ هدايتنا ﴿لَمُهْتَدُونَ﴾ إلى وصفها، وسنعرف ما التبس علينا من أمرها وتشابه، أو لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها. وعن عطاء: لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد؛ أي: لو لم يقولوا إن شاء الله. وقال الطبري: لما زادوا نبيهم أذى وتعنتا، زادهم الله عقوبة وتشديدا، ولو أنّ بني إسرائيل، كما قال ابن عباس (أخذوا أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدد الله عليهم) والمراد بالاستثناء هنا التعليق بالمشيئة، وسمي التعليق بها استثناء؛ لصرفه الكلام عن الجزم، وعن الثبوت في الحال من حيث التعليق بما لا يعلمه إلا الله تعالى. اه. «كرخي» قال أبو عبد الله (٢)، محمد بن أبي الفضل المرسيّ في «ريّ الظمآن»: وجه الاشتباه عليهم: أنّ كلّ بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية؛ لما علموا من ناقة صالح، وما كان فيها من العجائب، فظنّوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب، وذلك لمّا نبّئوا أنها آية سألوا عن ماهيتها وكيفيتها، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات، وإنما سألوا عن
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور (١) ﴿تَشابَهَ﴾ جعلوه فعلا ماضيا على وزن تفاعل مسندا لضمير البقر على أنّ البقر مذكر. وقرأ الحسن ﴿تشابه﴾ بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء، وماضيه ﴿تَشابَهَ﴾ وفيه ضمير يعود على البقر على أنّ البقر مؤنث. وقرأ الأعرج كذلك، إلا أنه شدّد الشين جعله مضارعا وماضيه ﴿تشابه﴾ أصله: تتشابه، فأدغم، وفيه ضمير يعود على البقر. وروي عن الحسن أيضا. وقرأ محمد المعيطيّ المعروف بذي الشامة (تشبّه علينا) جعله ماضيا على تفعل. وقرأ ابن مسعود ﴿يشّابه﴾ بالياء وتشديد الشين جعله مضارعا من تفاعل، ولكنه أدغم التاء في الشين. وقرىء ﴿متشبّه﴾ اسم فاعل من تشبّه. وقرأ بعضهم ﴿يتشابه﴾ مضارع تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر. وقرأ أبيّ ﴿تشابهت﴾ وقرأ الأعمش متشابه ومتشابهة وقرأ ابن أبي إسحاق ﴿تشّابهت﴾ بتشديد الشين مع كونه فعلا ماضيا وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنتا عشرة قراءة، وتوجيه هذه القراءات ظاهر إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض الناس: لا وجه لها، وتبيين ما قاله: أنّ تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيها، والماضي لا يكون فيه تاءان، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى، ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصله: إن البقرة اشابهت علينا، فأدغمت التاء في الشين فاجتلبت همزة الوصل. وقد أطال الكلام هنا أبو حيان، فراجعه فإنه لا يليق بمختصرنا هذا.
٧١ - ﴿قالَ﴾ موسى عليه السلام ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿يَقُولُ إِنَّها﴾؛ أي: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها ﴿بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ﴾؛ أي؛ لا مذللة ذللها العمل. يقال: دابة ذلول بيّنة الذل بالكسر، وهو خلاف الصعوبة، وهو صفة لبقرة، بمعنى: أنها بقرة غير مذللة بأيّ عمل، ولا مهيّأة لأي خدمة. قال الحسن: كانت البقرة وحشية، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث، ولا يسنى عليها فتسقي، ولم يقل: ذلولة بالتاء؛ لأن فعولا إذا كان وصفا لم تدخله الهاء، كصبور وقوله: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أي تقلب الأرض للزراعة صفة ذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة للأرض، وقوله: ﴿وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ معطوف على تثير على كونه صفة لذلول؛ أي: ليست بسانية يسقي عليها بالسواني، ولا الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى؛ لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية، كذا في «الكشاف» والمعنى؛ أي: ولا تحمل الماء إلى الأرض المهيأة للزراعة، يعني: أنها فارغة من أي عمل ليست مسخرة لحرث الأرض، ولا لسقاية الزرع، ولا لغيرهما.
قال الإمام أبو منصور - رحمه الله تعالى -: دلت الآية على أن البقرة كانت ذكرا؛ لأن إثارة الأرض وسقي الحرث من عمل الثيران، وأما الضمائر الراجعة إليها على التأنيث فللفظها، كما في قوله: ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ﴾ فالتاء للتوحيد لا للتأنيث خلافا لأبي يوسف، إلا أن يكون أهل ذلك الزمان يحرثون بالأنثى، كما يحرث أهل هذا الزمان بالذكر ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾؛ أي: سليمة من جميع العيوب، سلمها الله تعالى منها، أو معافاة من العمل وآثاره، سلّمها أهلها منه، أو مخلصة اللون
والمعنى: أي في هذا الوقت الحاضر الذي قلت فيه: ﴿مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها﴾ نطقت بالبيان الشافي، وأتيت بالوصف التام الذي تتميّز به عن أجناسها، فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار لأمه، فاشتروها بملىء جلدها ذهبا ﴿فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم ما قاربوا أن يذبحوها، لأجل غلاء ثمنها؛ أو لخوف الفضيحة بإظهار الله نبيه موسى على القاتل؛ أي: قاربوا أن يتركوا ذبحها لأجل ذلك، والجملة حال من ضمير ذبحوا؛ أي: فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه. والخلاصة: أنهم ذبحوها بعد توقف وبطء. قيل: مضى من أول الأمر إلى الامتثال أربعون سنة، فعلى العاقل أن يسارع إلى الامتثال، وترك التفحص عن حقيقة الحال، فإن قضية التوحيد تستدعي ذلك،
٧٢ - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعمّا شاهدوه من آيات الله الباهرة، فقال: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ وهذا مؤخر لفظا مقدّم معنى؛ لأنه أول القصة؛ لأنّ أصيل
قال أبو حيان (٢): ويحتمل هذا التدارؤ وهو التدافع أن يكون حقيقة، وهو أن يدفع بعضهم بعضا بالأيدي لشدة الاختصام، ويحتمل المجاز بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح، أو بأن دفع بعضهم بعضا بالتّهمة والبراءة. اه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ بالإدغام. أصله: تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال فتعذّر الابتداء بالمدغم الساكن، فاجتلبوا همزة الوصل، فصار ادرأتم. وقرأ أبو حيوة، وأبو السوار الغنويّ ﴿فادّرأتم﴾ بغير ألف قبل الراء، وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُخْرِجٌ﴾؛ أي: مظهر لا محالة ﴿ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ـه،
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
٧٣ - ﴿فَقُلْنا﴾ لموسى ﴿اضْرِبُوهُ﴾؛ أي: اضربوا هذا القتيل، والضمير راجع إلى النفس بمعنى القتيل، أو بمعنى الشخص، أو بمعنى الإنسان ﴿بِبَعْضِها﴾؛ أي: ببعض البقرة أيّ بعض كان؛ أي: بعضو من أعضائها. قيل: بلسانها؛ لأنه آلة الكلام، أو بعجب الذنب؛ لأنه أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى، ويركّب عليه الخلق. وقيل: بفخذها الأيمن. وقيل: غير ذلك من الأعضاء، والبعض أقلّ من النصف، وفي الكلام حذف، تقديره: فضربوه ببعضها، فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه، فقتل قاتله، فحرم ميراثه الذي استعجله؛ لأن من استعجل بالشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. وفي الحديث: «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة» ثمّ إنّ موسى عليه السلام، أمرهم بضربه ببعضها وما ضربه بنفسه؛ نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر، أو الحيلة. والخطاب في قوله: ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الإحياء العجيب ﴿يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى﴾ يوم القيامة لمنكري البعث في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، والحاضرين عند نزول الآية الكريمة، فلا حاجة إلى تقدير القول، كما في القول الآتي، بل تنتهي الحكاية عند قوله: فـ ﴿اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها﴾ وقيل: الخطاب للحاضرين عند حياة القتيل، والكلام حينئذ على تقدير القول؛ أي: فضربوه فحيي وقلنا كذلك. إلخ؛ أي: كما أحيا الله سبحانه هذا القتيل بعد موته في الدنيا يحيي الله الموتى في الآخرة من غير احتياج إلى آلة.
فإن قلت: إن بني إسرائيل كانوا مقرين بالبعث، فما معنى إلزامهم بقوله: ﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى﴾؟.
قلت: كانوا مقرين قولا وتقليدا، فثبته عيانا وإيقانا، وهو كقول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.
﴿وَيُرِيكُمْ﴾ أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو أيها الحاضرون حياة القتيل ﴿آياتِهِ﴾؛ أي: دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير، ويجعلكم مبصرين براهين قدرته وتوحيده، وإحيائه للموتى عند البعث، وصدق رسله ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لكي تعلموا وتفهموا قدرة الله، وأن محمدا محقّ صادق،
واعلم: أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة، أو من يقول: إنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه. قيل: على قبره. والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر،
٧٤ - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم، فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ خطاب لأهل عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحبار، و ﴿ثُمَّ﴾؛ لاستبعاد القسوة من بعد ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها. وعبارة «الصاوي» هنا: نزّل استبعاد قسوة قلوبهم؛ لظهور خوارق العادات العظيمة منزلة التراخي، فأتى بثم، وأكده بالظرف بعده. اه. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ والقسوة والقساوة: عبارة عن الغلظ والصلابة، كما في الحجر، ووصف القلوب بالقسوة والغلظ؛ مثل لنبوّها وتكبرها عن الاعتبار، وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها، أي ثمّ صلبت وغلظت قلوبكم يا كفار بني إسرائيل! فلم تقبل الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾؛ أي: من بعد سماع تلك الآيات الباهرة، أو رؤيتها من إحياء القتيل وإخباره بقاتله، والمسخ قردة وخنازير، ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من حجر، وغيرها من الآيات، والقوارع التي تميع منها الجبال، وتلين بها الصخور ﴿فَهِيَ﴾؛ أي: القلوب ﴿كَالْحِجارَةِ﴾؛ أي: مثل الحجارة في
فإن قلت: لم قيل: ﴿أَشَدُّ قَسْوَةً﴾؟ وفعل القسوة مما يبنى فيه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟
قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة من لفظ أقسى؛ لأن دلالته على الشدة بجوهر اللفظ الموضوع لها مع هيئة موضوعة للزيادة في معنى الشدة، بخلاف لفظ الأقسى، فإن دلالته على الشدة والزيادة في القسوة بالهيئة فقط.
والحكمة في ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة، وتشبيهها بها دون غيرها من الأشياء الصلبة من الحديد، والصفر، وغيرهما؛ لأن الحديد تلينه النار وهو قابل للتليين، كما لان لداود عليه السلام، وكذا الصفر حتى يضرب منها الأواني والحجر لا يلينه نار ولا شيء آخر، فلذلك شبّه قلب الكافر بها، وهذا والله أعلم في حقّ قوم علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، والمعنى؛ أي: إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحقّ وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهي كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشدّ
منها. وقوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ﴾ (١) بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة، وتقرير لقوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ و ﴿مِنَ الْحِجارَةِ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ والاسم قوله: ﴿لَما﴾ واللام لام الابتداء؛ أي: لأحجارا ﴿يَتَفَجَّرُ﴾؛ أي: يتفتح بكثرة وسعة ﴿مِنْهُ﴾ عائد إلى ما ﴿الْأَنْهارُ﴾ جمع
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَتَفَجَّرُ﴾ بالياء مضارع تفجر. وقرأ مالك بن دينار ﴿ينفجر﴾ بالياء، والنون مضارع انفجر، وكلاهما مطاوع، أمّا يتفجر فمطاوع فجّر بالتشديد، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففا، والتفجّر التفتّح بالسعة والكثرة، والانفجار دونه، والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر. وقرأ أبيّ، والضحاك ﴿منها الأنهار﴾ بتأنيث الضمير. وقرأ الجمهور ﴿مِنْهُ﴾ بتذكيره، فالقراءة الأولى حمل على المعنى، وقراءة الجمهور حمل على اللفظ؛ لأنّ ما، لها هنا لفظ ومعنى؛ لأن المراد به الحجارة، ولا يمكن أن يراد به مفرد المعنى فيكون لفظه ومعناه واحدا، إذ ليس المعنى وإن من الحجارة للحجر الذي يتفجر منه الأنهار؛ إنما المعنى وإن من الحجارة للأحجار التي يتفجر منها الأنهار، كما مرّ. وقرأ الجمهور (٢) ﴿يَشَّقَّقُ﴾ بتشديد الشين، وأصله: يتشقق، فبه قرأ الأعمش، فقلبت التاء شينا وأدغمت الشين في الشين، فصار يشقق. وقرأ الأعمش أيضا تشقق بالتاء والشين المخففة، ورأيتها معزوة لابن مصرف، ورأيت في بعض نسخ تفسير ابن عطية ما نصه: وقرأ ابن مصرف ﴿ينشقق﴾ بالنون وقافين، والذي يقتضيه اللسان بقاف واحدة مشددة، وقد يجىء
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أن الحجارة تتأثر وتنفعل، فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء، ويتفجر منه الأنهار، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به، وقلوب هؤلاء اليهود لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى ﴿وَمَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِغافِلٍ﴾؛ أي: بساه ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عن العمل الذي تعملونه، أو عن عملكم، فما إما موصول اسمي أو حرفي، وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب، وما يترتّب عليها من الأعمال السيئة، فقلب الكافر أشدّ في القساوة في الحجارة، وإنها مع فقد أسباب الفهم والعقل منه، وزوال الخطاب عنها تخضع له تعالى وتتصدع. قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وقلب الكافر مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة هيئة القبول لا يخضع، ولا يلين، والمعنى (٢)؛ أي: وليس الله سبحانه غافلا عن أفعالكم الخبيثة، ولا ساهيا عنها، بل هو محص لها وحافظ إياها، وسيعاقبكم عليها في الآخرة؛ أي: وإن الله لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، وحافظ لأعمالهم حتى يجازيهم عليها في الآخرة.
قرأ الجمهور (٣): ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء، وهو الجاري على نسق قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وقرأ ابن كثير، ونافع، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر بالياء؛ نظرا
(٢) العمدة.
(٣) البحر المحيط.
الإعراب
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، والمعنى: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي، وحين قال موسى لقومه ﴿قالَ مُوسى﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿لِقَوْمِهِ﴾ متعلق بقال ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ فعل ومفعول به، والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول قال. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿تَذْبَحُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بحذف النون ﴿بَقَرَةً﴾ مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بباء محذوفة متعلقة بيأمركم، تقديره: إن الله يأمركم بذبح
﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨)﴾.
﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة المستأنفة ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ مقول محكي منصوب بقالوا، وإن شئت قلت: ﴿ادْعُ﴾ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وهي الواو، وفاعله ضمير مستتر يعود على موسى، والجملة في محل النصب مقول قالوا ﴿لَنا﴾ جار ومجرور متعلق بادع ﴿رَبَّكَ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿يُبَيِّنْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَنا﴾ متعلق بيبين، والجملة جواب الطلب لا محل لها من الإعراب ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿هِيَ﴾ ضمير للمفردة المؤنثة الغائبة في محل الرفع خبر لما الاستفهامية، والجملة الإسمية في محل النصب مفعول به ليبين، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: يبين لنا جواب ما هي ﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿إِنَّهُ يَقُولُ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَقُولُ﴾ خبره، وجملة إن في محل النصب مقول قال ﴿إِنَّها﴾ ناصب واسمه ﴿بَقَرَةٌ﴾
إنّ للخير وللشرّ مدى... وكلا ذلك وجه وقبل
﴿فَافْعَلُوا﴾ الفاء فاء الفصيحة مبنية على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما يقول الرب تعالى، وأردتم بيان ما هو الأصلح واللازم لكم، فأقول لكم: افعلوا ما تؤمرون ﴿افعلوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به وجملة ﴿تُؤْمَرُونَ﴾ صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تؤمرون به.
﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)﴾.
﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿ادْعُ لَنا﴾ إلى قوله: ﴿قالَ﴾ مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿ادْعُ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر ﴿لَنا﴾ متعلق به ﴿رَبَّكَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. ﴿يُبَيِّنْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الرب لَنا متعلق بيبين، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب ﴿ما﴾ اسم استفهام في
﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)﴾.
﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ مقول محكي لقالوا، وإن أردت بسط إعرابه، فقد تقدّم لك قريبا، فجدّد به عهدا ﴿إِنَّ الْبَقَرَ﴾ ناصب واسمه ﴿تَشابَهَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على البقر ﴿عَلَيْنا﴾ متعلق بتشابه، وجملة تشابه في محل الرفع خبر إن، وجملة إن جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، ولكن في محل النصب مقول قالوا ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿إِنَّ﴾ حرف شرط جازم ﴿شاءَ﴾ في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، وجواب الشرط محذوف، تقديره: اهتدينا، وجملة إن الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين إن وخبرها لَمُهْتَدُونَ اللام حرف ابتداء ﴿مهتدون﴾ خبر إن مرفوع بالواو وجملة إن معطوفة على جملة قوله ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا﴾ على كونها مقولا لقالوا، وعلى كونها تعليلية.
﴿قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَقُولُ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال ﴿إِنَّها بَقَرَةٌ﴾ ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول يقول ﴿لا﴾ نافية ﴿ذَلُولٌ﴾ صفة لبقرة، وإن شئت قلت ﴿لا﴾ اسم بمعنى غير في محل الرفع صفة
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة قصة على قصة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في
فإن قلت: كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضي؟
قلت: قد حكي ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ، كما حكي الحاضر في قوله: ﴿باسِطٌ ذِراعَيْهِ﴾.
﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)﴾.
﴿فَقُلْنا﴾ الفاء عاطفة ﴿قلنا﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: فذبحوها ﴿اضْرِبُوهُ﴾، فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مقول القول ﴿بِبَعْضِها﴾ جار ومجرور متعلق باضربوه ﴿كَذلِكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف وجوبا؛ لوقوعه صفة لمصدر محذوف، تقديره: يحيي الله الموتى يوم القيامة إحياء مثل إحياء هذا القتيل ﴿يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين قصتي بني إسرائيل ردا على مشركي العرب المنكرين للبعث، كما سبق في مبحث التفسير ﴿وَيُرِيكُمْ﴾ الواو عاطفة ﴿يُرِيكُمْ﴾ فعل مضارع ومفعول أول، والفاعل ضمير مستتر يعود على الله ﴿آياتِهِ﴾ مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله كذلك: ﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى﴾ على كونها معترضة لا محل لها من الإعراب ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ لعل حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبرها،
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿قَسَتْ﴾ فعل ماض مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والتاء علامة تأنيث الفاعل ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على مقدر، تقديره: فضربوه فحيي القتيل، ثم قست قلوبكم، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ﴾ والأول أوضح وأولى ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقست ﴿فَهِيَ﴾ الفاء حرف عطف وتفريع ﴿هي﴾ مبتدأ ﴿كَالْحِجارَةِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، أو الكاف اسم بمعنى مثل في محل الرفع خبر المبتدأ ﴿الحجارة﴾ مضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة مفرّعة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف بمعنى بل ﴿أَشَدُّ﴾ بالرفع معطوف على الكاف إذا كانت اسما، أو على ﴿كَالْحِجارَةِ﴾؛ لأن الجار والمجرور في موضع رفع. وقرىء أشد بالفتح على أنه معطوف على الحجارة ﴿قَسْوَةً﴾ تمييز نسبة منصوب بأشد ﴿وَإِنَّ﴾ الواو استئنافية ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد ﴿مِنَ الْحِجارَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم لأنّ ﴿لَما﴾ اللام حرف ابتداء ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب اسم إن مؤخر، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿يَتَفَجَّرُ﴾ فعل مضارع ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به ﴿الْأَنْهارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، وتقدير الكلام: وإن الذي يتفجر منه الأنهار لكائن من الحجارة.
﴿وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ الواو عاطفة ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿مِنْها﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ مقدم على اسمها ﴿لَما﴾ اللام حرف ابتداء ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر ﴿يَشَّقَّقُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ما، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، وتقدير الكلام: وإن الذي يشقق فيخرج منه الماء لكائن من الحجارة، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ الأولى
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ الذبح: قطع أعلى العنق. والنحر: طعن أسفله. والبقرة واحد البقر تقع على الذكر والأنثى، نحو: حمامة وحمام، والصفة تميّز الذكر من الأنثى. تقول: بقرة ذكر وبقرة أنثى. وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصة من هذا الجنس، والذكر الثور، نحو: ناقة وجمل، وأتان وحمار، وسمي هذا الجنس بذلك؛ لأنه يبقر الأرض؛ أي: يشقها بالحرث، أو بقرنه، ومنه: بقر بطنه إذا شقّه، ومنه سمي محمد الباقر، وهو محمد بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب، وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء.
وفي «المصباح» وبقرت الشيء بقرا من باب قتل، شققته وبقرته فتحته، والمراد بقرة مبهمة، كما هو ظاهر النظم، فكانوا يخرجون من العهدة بذبح أي بقرة كانت، كما في الحديث السابق، لكن ترتب على تعنتهم فسخ الحكم الأول بالثاني، والثاني بالثالث تشديدا عليهم، لكن لا على وجه ارتفاع حكم المطلق
أحدها: على حذف مضاف، أي: ذوي هزؤ.
والثاني: أنه اسم مصدر واقع موقع المفعول؛ أي مهزوا بنا.
والثالث: أنهم جعلوا نفس الهزؤ مبالغة وهذا أولى. اه. «سمين». ﴿قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ والعياذ والمعاذ: الاعتصام والالتجاء، والفعل.
منه عاذ يعوذ، وأصل أعوذ: أعوذ بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى العين، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد ﴿أَكُونَ﴾ أصله: أكون، نقلت حركة الواو إلى الكاف، فسكنت الواو وضمت الكاف فجعلت الواو حرف مد، كما مر في أعوذ ﴿مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ الجهل معروف وهو ضد العلم، والفعل منه جهل يجهل. قيل: وقد جمع على أجهال وهو شاذ. قال الشّنفرى:
ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى | سؤولا بأطراف الأقاويل أنمل |
لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا | تساق إليه ما تقوم على رجل |
ولم تعطه بكرا فيرضى سمينه | فكيف تجازى بالمودّة والفضل |
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد | أصبحت منّي كذراع من عضد |
﴿ما لَوْنُها﴾ واللون: عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر، كما مر. وجمعه على القياس ألوان، واللون أيضا النوع، ومنه ألوان الطعام؛ أي: أنواعه. وقالوا: فلان متلوّن إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه قولهم: يتلون تلون الحرباء، وذلك أن الحرباء لصفاء جسمها أيّ لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون ﴿صَفْراءُ﴾ والصّفرة: لون بين البياض والسواد وقياس الفعل من هذا المصدر صفر فهو أصفر وهي صفراء، كقولهم: شهب فهو أشهب
من حرف لين آخر بعد ألف | مزيد ابدل همزة وذا ألف |
يثرن الحصى حتّى يباشرن تربه | إذا الشّمس مجّت ريقها بالكلاكل |
﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ المسلمة: المخلصة المبرأة من العيوب. يقال: سلم له كذا؛ أي: خلص سلاما، وسلامة مثل لذاذا ولذاذة ﴿لا شِيَةَ فِيها﴾ والشّية: مصدر وشي الثوب يشيه وشيا وشية، إذا حسّنه وزيّنه بخطوط مختلفة الألوان، ومنه قيل للساعي في الإفساد بين الناس: واش؛ لأنه يحسّن كذبه عندهم حتى يقبل. والشية: اللّمعة المخالفة للون البدن، كما مر. ومنه ثور موشّى القوائم، والشية في الأصل: مصدر وشي من باب وعد وشيا وشية، إذا خلط لونا بلون آخر، والمراد هنا نفس اللون، والتصرّف فيها كالتصرف في عدة. اه. شيخنا. وفي «السمين» وشية مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا وشية، فحذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكسرة في المضارع، ثم حمل ما في الباب عليه وعوّض عنها تاء التأنيث في المصدر، ووزنها علة، ومثلها صلة وعدة وزنة ومنه ثوب موشى؛ أي: منسوج بلونين فأكثر، وثور موشى القوائم؛ أي: أبلقها، ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، كلّ ذلك بمعنى أبلق. اه.
﴿الْآنَ﴾ ظرف زمان يقتضي الحال ويخلص المضارع له عند جمهور البصريين، وهو لازم للظرفية لا يتصرّف غالبا بني؛ لتضمنه معنى حرف الإشارة، كأنك قلت: هذا الوقت؛ أو لتضمنه معنى حرف التعريف، كأنك قلت: الوقت الحاضر. واختلف في أل التي فيه، فقيل: للتعريف الحضوريّ. وقيل: زائدة لازمة. اه. «كرخي» وزعم الفراء أنه منقول من الفعل. يقال: آن يئين أينا؛ أي: حان ﴿جِئْتَ﴾ أصل الفعل: جيأ بوزن فعل من باب ضرب، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، فصار جاء، فأسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرّك فسكّن آخره، فصار جاءت، فالتقى ساكنان الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف فصار
﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ﴾ فيه حذف همزة أفعل من اسم الفاعل، إذ القياس مؤخرج ﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى﴾ أصله يحيي بوزن يفعل، حذفت منه همزة أفعل وسكنت ياؤه الأخيرة؛ للتخفيف، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ﴿وَيُرِيكُمْ آياتِهِ﴾ مضارع الرباعي، والرؤية هنا بصرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولا ثانيا وهو آياته، والمعنى: ويجعلكم مبصرين آياته، والكاف هو المفعول الأول، وأصله: يرئيكم بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء فائه، ثم حذفت الهمزة تخفيفا، فقيل: يرى، فالعين من أرى الرباعي في الماضي والمضارع محذوفة دائما ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ القساوة والقسوة: غلظ القلب وصلابته وعدم لينه لقبول الخير. يقال: قسا يقسو من باب عدا قسوا، وقساوة وقسوة، وفيه إعلال بالحذف. أصله: قسو، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، فلما اتصلت
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرير للسؤال والجواب وهو داخل في باب الإطناب، كأنهم يكررون السؤال استكناها لحقيقة البقرة.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾؛ لأنّ قبل هذه الجملة جمل محذوفة، تقديرها: فطلبوها ووجدوها عند فتى بار لوالدته، فاشتروها فذبحوها.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾؛ لأن هذه الجملة معترضة بين قوله: ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ وقوله: ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ﴾ والجملة المعترضة بين ما شأنهما الاتصال، تجيء تحلية يزداد بها الكلام البليغ حسنا. وفائدة الاعتراض هنا: إشعار المخاطبين بأنّ الحقيقة ستنجلي لا محالة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ حيث شبه عدم الإذعان بالقسوة بجامع عدم قبول التأثير في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من القساوة قست بمعنى لم تذعن، فلم تقبل المواعظ ولم تؤثر فيها. اه. «صاوي» وقيل: فيه الاستعارة المكنية التبعية تشبيها لحال القلوب في عدم الاعتبار والاتعاظ بما هو ماثل أمامها، ناطق بلسان الحال بالحجارة النابية التي من خصائصها القسوة والصلابة.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ﴾ حيث أطلق المحلّ الذي هو المجرى المسمّى بالنهر، وأراد الحالّ فيه وهو الماء، والقرينة حالية؛ لأن التفجر إنما يكون للماء لا للنهر.
ومنها: المجاز العقليّ في إسناد الخشية إلى الحجارة، ؛ لأنه مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى، وأنها لا تمتنع عمّا يريد منها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد، ولا تلين، ولا تخشع، ولا تفعل ما أمرت به.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، ومنه يرجى نجاح كل الآراب، لا سيما تفسير أفضل الكتاب (١).
* * *
انتهى المجلد الأول على الحزب الأول من تفسير حدائق الروح والريحان، ويليه المجلد الثاني وأوّله قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ...﴾ الآية.
تم تصحيح هذا المجلد بيد مؤلفه ليلة السبت بعيد العشاء الموافق تاريخ ١١/ ٤/ ١٤٢٠ هـ.
العَبْدُ ذُو ضَجَرٍ والربُّ ذُو قدَرٍ | والدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ والعِلْمُ مَقْسُوم |
والخَيْرُ أجْمعُ فيما اخْتار خالِقُنَا | وفي اختيار سواه اللُّومُ والشُّوم |
فَلَيْتَكَ تَحْلُو والحياةُ مَرِيْرَةٌ | وَلَيْتَكَ تَرْضَى والأنامُ غِضَابُ |
ولَيْتَ الذي بَيْنِي وبَيْنَكَ عَامِرٌ | وبَيْني وبَيْنَ العَالَمِين خَرَابُ |
فَزادِي قَلِيلٌ ما أُراه مُبلِّغي | على الزادِ أبكي أم لِبُعْدِ مَسافَتي |
أتَيْتُ بأعمالٍ قِبَاحٍ رَدِيئَةٍ | وَمَا في الوَرى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايتي |
الصَّبْرُ مفتاحُ ما يُرَجَّى | وكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُونُ |
وَرُبَّما نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ | مَا قِيْل هَيْهَاتَ لا يَكونُ |
إنَّما النَفْس كالزُّجَاجَةِ والعِلْـ | ـمُ سِرَاجٌ وحِكْمةُ الله زَيْتُ |
فَإذَا أَبْصَرَت فَإنَّكَ حَيُّ | وَإِذَا أظْلَمَتْ فَإنَّكَ مَيْتُ |
أخو العِلْم حيٌّ خالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ | وَأوْصَالُه تَحْتَ التُّراب رمِيمُ |
وَذُو الجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ ماشٍ عَلَى الثَّرَى | يُظَنُّ مِنَ الأحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيْمُ |
تَعلَّم يا فَتَى فالجَهْلُ عارُ | وَلاَ يَرْضَى بِهِ إلاَّ الحِمَارُ |
وَهَلْ رَجَّعَ التَّسْلِيمَ أوْ يَكْشِفُ العَمَى | ثَلاثُ الأثافِي والرُّسُومُ البَلاقِعُ |
قال أبو حيان: و ﴿إِنْ﴾ (٣) هنا هي: النافية بمعنى ما، و ﴿هُمْ﴾ مرفوع بالابتداء، و ﴿إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ في موضع الخبر وهو من الاستثناء المفرَّغ، وإذا كانت إن نافية فدخلت على المبتدأ والخبر لم تعمل عمل ما الحجازيّة؛ لانتقاض نفيها هنا بإلا الاستثنائيّة، ومن أجاز شَرَطَ نَفْيَ الخبرِ وتأخيرَهُ، والصحيح أنّه لا يجوز إعمالها؛ لأنّه لم يحفظ من ذلك إلا بيتٌ نادرٌ، وهو قوله:
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
إنْ هُو مُسْتَوْلِيًا عَلَى أحدِ | إلّا عَلَى أضْعَفِ المَجَانِين |
وفي هذه الآية (١): دليلٌ على أن المعارف كسبيَّةٌ، وعلى بطلان التقليد، وعلى أنّ المغترَّ بإضلال المُضِلّ مذمومٌ، وعلى أنَّ الاكتفاء بالظنّ في الأصول غير جائز، وعلى أنَّ القول بغير دليل باطلٌ، وعلى أنَّ ما تساوى وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلّا بدليل سمعيّ، وتمسَّك بها أيضًا منكروا القياس وخبر الواحد؛ لأنَّهما لا يفيدان العلم. ثُمَّ ذكر الله سبحانه وتعالى، جريمة هؤلاء الرؤساء المُضلين الذين أضلُّوا العوامَّ،
٧٩ - فقال: ﴿فَوَيْلٌ﴾؛ أي: عذابٌ شديد، أو وادٍ في جهنّم، والويل كلمةٌ يقولها كُلُّ مَنْ وقع في هلكة بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب؛ أي: عقوبةٌ عظيمةٌ وهلكةٌ شديدة، أو هو وادٍ في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا، قبل أن يبلغ قعره، كما روي عن أبي سعيد الخدريِّ. وقال سعيد بن المسيّب إنه وادٍ في جهنّم لو سُجّرت فيه جبال الدنيا، لذابت من شدّة حرّه. رواه الترمذي وغيره مرفوعًا. وهو مبتدأ خبره ما بعده، وسوَّغ الابتداء به مع كونه نكرة؛ ما فيه من معنى الدعاء، إذ الدعاء أحد المسوغات للابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغًا، كما هو مبسوط في كتب النحو؛ أي: فعذابٌ شديدٌ وعقوبةٌ عظيمة كائنة ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾؛ أي: يُحرِّفون التوراة عمَّا أنزلت عليه، ويكتبونه كتابةً مختلقةً من عند أنفسهم موافقةً لهواهم، وهم أحبار اليهود، وقوله: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ تأكيدٌ؛ لأنَّ الكتابة لا تكون إلّا بالأيدي؛ أو لأنّه يحتمل أن يأمر غيره بأن يكتب، فقال: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ لرفع هذه الشُّبهة، والمراد (٢) بالذين يكتبون الكتابَ اليهودُ، وذلك أنَّ رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم، وزوال رياستهم حين قدم النبيُّ - ﷺ - المدينة، فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن
(٢) خازن وأبو سعود.
والكتابة معروفة ويقال: أوّل من كتب بالقلم إدريس عليه السلام. وقيل: آدم أبو البشر عليه السلام. وقيل: كتبوا في التوراة ما يدلُّ على خلاف صفة رسول الله - ﷺ -، وبثُّوها في سفهائهم، وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل، وصار سفهاؤهم ومن يأتيهم من مشركي العرب إذا سألوهم عن صفة رسول الله - ﷺ - يقولون: ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدَّلة المغيَّرة، ويقرؤونها عليهم، ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا بها ثمنًا قليلًا. وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم إذا آمن الناس كُلُّهم، فجاؤوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوها من التوراة وكتبوا بأيديهم كتابًا، وحلَّلوا فيه ما اختاروا، وحرَّموا ما اختاروا.
وقوله: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ قال أبو حيان: تأكيدٌ يَرْفَعُ توهُّمَ المجاز؛ لأنّ قولك: زيد يكتب، ظاهره أنّه يباشر الكتابة، ويحتمل أن يُنسب إليه على طريقة المجاز، ويكون آمرًا بذلك، كما جاء في الحديث: (إن رسول الله - ﷺ - كتب)، وإنّما المعنى أمر بالكتابة؛ لأنّ الله تعالى قد أخبر أنّه النبيُّ الأمّيُّ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)﴾ ونظير هذا التأكيد ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ و ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وقوله:
نظَرْتَ فلم تَنْظُر بَعْينيك مَنْظرًا
فهذه كلَّها أُتى بها؛ لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ ولرفع المجاز الذي كان يحتمله، وفي هذا التأكيد أيضًا تقبيحٌ لفعلهم إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم واجترحوه بأيديهم ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ﴾ لأتباعهم (١) وسفلتهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قُرىء لهم، ومعمول
وقد جمعوا (٢) في هذا الفعل أنّهم ضلوا وأضلُّوا، وكذبوا على الله، وضمُّوا إلى ذلك حُبَّ الدنيا، وهذا الوعيد مرتَّب على كتابة الكتاب المحرَّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى وكلاهما منكرٌ، والجمع بينهما أنكر، وهذا يدلُّ على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾؛ أي: العقوبة العظيمة ثابتةٌ لهم ﴿مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: من أصل كتابهم إيّاه ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ﴾؛ أي: عذابٌ شديد حاصلٌ لهم ﴿مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾؛ أي: من أصل كسبهم وأخذهم الرشوة، وعملهم المعاصي، وأصل الكسب: الفعل لجر نفعٍ أو دفع ضرٍّ، ولهذا لا يوصف به سبحانه وتعالى.
وكتابتهم (٣) مقدّمةٌ نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرَّر الويل في كل
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وفي الآيات إشاراتٌ (١):
الأولى: أنَّ علم الرجل، ويقينه، ومعرفته، ومكالمته مع الله لا يفيده الإيمان الحقيقيّ، إلّا أن يتداركه الله سبحانه بفضله ورحمته، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ وأنَّ الله تعالى كلَّم إبليس وخاطبه بقوله: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وما أفاده ذلك الإيمان الحقيقيُّ، إذ لم يكن مؤيَّدًا من الله بفضله ورحمته، ولم يبق على الإيمان بعد العيان، فكيف يؤمن بالبرهان.
والثانية: أنَّ العالم المعاند، والعاميَّ المُقلِّد سواءٌ في الضلال؛ لأنَّ العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكنٌ من العلم، وأنَّ الدين ليس بالتَّمَنِّي، فالذين ركنوا إلى التقليد المحض واغترُّوا بظنونٍ فاسدةٍ، وتخميناتٍ مبهمةٍ، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلّا قراءتها دون معرفة معانيها، وإدراك أسرارها وحقائقها، وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدّعي الإِسلام بلا معرفة قواعده، وامتثال مأموراته واجتناب منهيّاته، فالمدَّعي والمُتمنِّي عاقبتهما خسرانٌ وضلالٌ، وحسرةٌ وندامة، ووبال وأنكال.
والثالثة: أنَّ من بدَّل، أو غيَّر، أو ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخلٌ في الوعيد المذكور، وقد حذَّر رسول الله - ﷺ - أمته عن ذلك؛ لما علم ما يكون في آخر الزمان، فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين
فحذَّرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله، أو سنّة رسوله - ﷺ -، أو سنّة خلفائه، فيضلُّوا به الناس، وقد وقع ما حذره، وشاع، وكثر، وذاع، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.
فعلى العاقل أن يجتهد في الوصول إلى الحق، ويتخلَّص من الموهوم الباطل، ولا يغترَّ بظواهر الحالات غافلًا عن بطون الاعتبارات، فإنَّ طريق الحق أدقُّ من كُلِّ دقيقٍ، وماءٍ عَمِيقٍ، وفجٍّ سحيقٍ، وأجهلُ (١) الناس من يترك يقين ما عنده من صفات نفسه التي لا شكّ فيها، لظنِّ ما عند الناس من صلاحية حاله.
قال الحارث المحاسبيُّ رحمه الله تعالى: الراضي بالمدح الباطل كمن يهزأ به، ويقال له: إنّ العذرة التي تخرج من جوفك لها رائحةٌ كرائحة المسك، وهو يفرح ويرضى بالسُّخرية به، فالعاقل لا يغترُّ بمثله، بل يجتهد إلى أن يصل إلى رضا ربّه، ويفتح له باب قربه بأن يكون سمعه، وبصره، ولسانه، ورجله، ويده التي يبطش بها، فويلٌ لواعظٍ تكبر وافتخر بتقبيل الناس يده، ورأى نفسه خيرًا من السامعين، ويتقيَّد بالمدح والذمّ، اللهم إلّا أن يخرج ذلك من قلبه، والمعيار مساواة المقبِّل، واللَّاطم عنده، بل رجحان اللاطم والضارب عنده. قال الجُنيد البغداديُّ في مجلس وعظه: لو لم أسمع قول النبي - ﷺ -: "إن الله يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر لما اجترأت على الوعظ، فأنا ذلك الرجل الفاجر. اهـ. ولمَّا أوعدهم رسول الله - ﷺ - بالنار عند تكذيبهم إيّاه
٨٠ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت اليهود زعمًا منهم ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾؛ أي: لن تصيبنا النار، ولن تصل إلينا في الآخرة ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾؛ أي: أيامًا قلائل محصورةً يسهل عدُّها قدر سبعة أيّام، فإنّهم يقولون: إنّ أيّام الدنيا سبعة آلاف سنة، فنعذَّب مكان كُل ألف سنةٍ يومًا واحدًا، أو قدر أربعين يومًا مقدار عبادة آبائهم العجل، ثم يزول عنّا العذاب.
والضمير في قوله (٢): ﴿وَقَالُوا﴾ عائد على الذين يكتبون الكتاب، جمعوا إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم على أنّه من عند الله، الإخبار بالكذب البحت عن مدّة إقامتهم في النار.
فإن قلت (٣): لِمَ قال هنا ﴿مَعْدُودَةً﴾ بالإفراد، وفي آل عمران ﴿معدودات﴾ بالجمع؟.
قلت: إشارةً إلى الجمع بين الأصل والفرع، إذ الأصل في الجمع بالألف والتاء: إذا كان واحده مذكّرًا أن يقتصر في الوصف على تأنيثه مفردًا، كقوله تعالى: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣)﴾ وقد يقال: (سرر مرفوعات) على الجمع، فهو فرعٌ عن الأول، فذكر في البقرة على الأصل؛ لكونها أوّل، وفي آل عمران على الفرع؛ لكونها آخرًا، ثُمَّ قال تعالى رَدًّا عليهم وتكذيبًا لهم: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد!
(٢) البحر المحيط.
(٣) فتح الرحمن.
أحدهما: هل عندكم خبرٌ عن الله تعالى؟ أنّكم لا تعذَّبون أبدًا لكن أيامًا معدودة، فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده ووعده.
والثاني: ألكم عند الله أعمالٌ صالحةٌ، ووعدكم بها الجنة؟ فهو لا يخلف وعده ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ ذلك مفترين ﴿عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وقوعه؛ أي: أم لم تتَّخذوا من الله عهدًا، بل تتقولون على الله الباطل والكذب، وأم معادلةٌ لهمزة الاستفهام، بمعنى: أيُّ الأمرين المتساويين كائنٌ على سبيل التقرير؟ لأنَّ العلم واقعٌ يكون أحدهما. خلاصته: إن لكم عنده عهد فلا ينقض، ولكنّكم تخرصون وتكذبون. روي أنهم إذا مضت تلك المدة عليهم في النار، يقول لهم خزنة جهنّم: يا أعداء الله! ذهب الأجل وبقي الأبد، فأيقنوا بالخلود. انتهت.
والمعنى: قل لهم يا محمد (٢) أعَهِد إليكم ربُّكم بذلك، ووعدكم به وعدًا حقًّا؟ إن كان كما تقولون، فلن يخلف الله وعده، أم أنتم تقولون على الله شيئًا لا
(٢) المراغي.
وخلاصة هذا (١): إنّ مثل ذلك القول لا يصدر إلّا عن أحد أمرين: إمّا اتخاذ عهدٍ من الله، وإمّا افتراءٌ وتقوُّلٌ عليه، وإِنْ كان اتخاذُ العهد لم يحصل، فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدَّعون أنَّكم أبناء الله وأحبّاؤه.
٨١ - ثُمَّ ردَّ الله سبحانه وتعالى على اليهود قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ بقوله: ﴿بَلَى﴾ تمسُّكم النار، وتخلدون فيها أبدًا، و ﴿بَلَى﴾ (٢) إثباتٌ لما بعد النفي، فهو جواب النفي، ونعم: جواب الإيجاب؛ أي إنّكم قلتم: لن تمسَّنا النار سوى الأيام المعدودة، بلى تمسُّكم أبدًا بدليل ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وبيَّن ذلك بالشرط والجزاء، وهما قوله: ﴿مَن...﴾ إلخ. ومن يحتمل أن تكون موصولة، ودخلت الفاء حينئذٍ في الخبر، لما في المبتدأ من العموم؛ لشبه الموصول بالشرط في العموم ﴿كَسَبَ﴾ وعمل وارتكب ﴿سَيِّئَةً﴾ من السيئات يعني: كبيرةً من الكبائر، والمراد بالسيئة هنا: الكفر والشرك، قاله ابن عباس، ومجاهد. والكسب: استجلاب النفع، والاكتساب: استجلاب الضرّ. واستعمال الكسب هنا في استجلاب الضرّ، كالسيئة، على سبيل التهكُّم، ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ تلك واستولت عليه من جميع جوانبه، من قلبه، ولسانه، ويده، كما يحيط العدوُّ، وهذا إنّما يتحقق في الكافر، ولذلك فسَّر السلف السيئة بالكفر ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات، وإحاطة خطاياهم بهم، أشير إليهم بعنوان الجمعيَّة؛ مراعاةً لجانب المعنى في كلمة ﴿مَن﴾ بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾؛ أي: ملازموها في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا؛ لما يستوجبها من الأسباب التي من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات الله، وتحريف كلامه، والافتراء عليه، وغير ذلك، وهو خبر أولئك، والجملة خبر للمبتدأ {هُمْ
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿خَطِيئَتُهُ﴾ بالإفراد، ونافع: ﴿خطيئاته﴾ جمع سلامة، وقرأ بعض القرَّاء: ﴿خطاياه﴾ جمع تكسير. وقريء: ﴿خطيَّته﴾ و ﴿خطيَّاته﴾ على القلب والإدغام فيهما، والمعنى: أنَّها أخذته من جميع جوانبه، ومعنى الإحاطة به: أنّه يوافي على الكفر والإشراك، هذا إذا (٢) فسرت الخطيئة بالشرك، ومن فسَّرها بالكبيرة، فمعنى الإحاطة به: أن يموت وهو مُصِرٌّ عليها، فيكون الخلود على القول الأوّل، المراد به الإقامة لا إلى انتهاء، وعلى القول الثاني المراد به: الإقامة دهرًا طويلًا؛ إذ مآله إلى الخروج من النار. قال الكلبيُّ: أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس: أحبطت حسناته. وقال مجاهد: غشيت قلبه. وقال مقاتل: أصرَّ عليها. وقال الربيع: مات على الشرك. وقال الحسن: كل ما توعَّد الله عليه بالنار، فهو الخطيئة المحيطة.
ومعنى الآية: ليس (٣) الأمر كما ذكرتم، بل تمسُّكم النار وتمسُّ غيركم دهرًا طويلًا، فكلُّ من أحاطت به خطيئته، وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه، واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدًا فيها أبدًا؛ لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب.
وعبارة "العمدة" (٤): ﴿بَلَى﴾ تمسُّكم النار، وتخلدون فيها أبدًا ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي عمل شركًا ﴿وَأَحَاطَتْ﴾؛ أي: أحدقت ﴿بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ وذنوبه،
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) العمدة.
٨٢ - ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ أي: دائمون فيها، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله تعالى، وصدَّقوا بما جاء به محمد - ﷺ - بقلوبهم ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: وأطاعوا الله تعالى بأداء فرائضه، واجتناب محارمه ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾؛ أي: ملازموا الجنّة ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ أي: مخلَّدون فيها، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أبدًا.
والمعنى (١): أي وأمَّا الذين صدَّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال، فأدُّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي، فأولئك جديرون بدخول الجنّة؛ جزاءً وفاقًا على إخباتهم لربّهم، وإنابتهم إليه، وإخلاصهم له في السرّ والعلن.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ دخول الجنّة منوطٌ بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح معًا، كما روي: أنَّ النبي - ﷺ -، قال لسفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - وقد قال له: يا رسول الله؛ قل لي في الإِسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" رواه مسلم. وقد جرت سنّة الله في القرآن، أن يَشْفَع الوعد بالوعيد؛ مراعاةً لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارةً، والترهيب أخرى، والتبشير مرّة، والإنذار أخرى؛ إذ باللُّطف والقهر يَرْقَى الإنسان إلى درجة الكمال، ويفوز برضوان الله، وحسن توفيقه ورضوان الله أكبر. وأتى (٢) في الشقّ الأوّل؛ أعني: أصحاب النار، بالفاء دون
(٢) الفتوحات.
٨٣ - ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ في التوراة، والميثاق: العهد المؤكَّد باليمين، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرةٍ، وعهد نبوّةٍ ورسالةٍ، وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم وجعل على لسان موسى، وغيره من أنبيائهم. قال أبو السعود: وهذا شروع في تعداد بعضٍ آخر من قبائح أسلاف بني إسرائيل، بما ينادي بعدم إيمان أخلافهم. وكلمة ﴿إِذْ﴾ نصبت بإضمار فعل خوطب به اليهود الموجودون في عهد النبي - ﷺ -؛ توبيخًا لهم بسوء صنيع أسلافهم، تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! الموجودين في عهد محمد - ﷺ - إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل الموجودين في زمن موسى عليه السلام، الذين هم أسلافكم وأصولكم، أو خوطب به النبيُّ - ﷺ - والمؤمنون؛ ليؤدِّيهم التأمُّل في أحوالهم إلى قطع الطمع في إيمان أخلافهم؛ لأنَّ قبائح أسلافهم ممَّا يؤدِّي إلى عدم إيمانهم، ولا تلد الحيّة إلّا الحيَّة، ومن ها هنا قل: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه؛ أي: واذكروا يا أيها الرسول والمؤمنون! حين جعلنا عليهم الميثاق.
ثم بيَّن الميثاق، فقال: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: بأن لا تعبدوا إلّا الله تعالى، ولا تشركوا به شيئًا؛ أي: فاعبدوه دون غيره؛ لأنّه المستحقّ للعبادة، فلمّا أسقط (أن) رفع تعبدون لزوال الناصب، أو على أن يكون إخبارًا بمعنى النهي؛ أي: لا تعبدوا إلّا الله، ولا تجعلوا الألُوهيَّة إلّا لله، كأنَّ المخاطب سيمتثل النهي حتمًا، ويسارع إلى الترك، فيخبر به الناهي، وقيل: إنّه جواب قسم دلَّ عليه المعنى، كأنَّه قيل: واستحلفناهم، أو قلنا بالله لا تعبدون إلّا الله، وقد نهوا عن عبادتهم غير الله تعالى، مع أنّهم كانوا يعبدون الله خوفًا من أن يشركوا به سواه، من ملك، أو بشر، أو صنم بدعاء، أو غيره من أنواع العبادات، ودين الله على ألسنة الرسل جميعًا، فيه الحثُّ على عبادة الله وعدم
وقرأ عبدُ الله، وأُبيٌّ: ﴿لا تعبدوا﴾ بصريح النهي، وهذه قراءة شاذة، ﴿و﴾ تحسنون ﴿بالوالدين إحسانًا﴾ على لفظ تعبدون؛ لأنّه إخبارٌ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانًا على معناه؛ لأنّه إنشاءٌ؛ أي: وأحسنوا بالوالدين، وإنْ عَلَيا إحسانًا كثيرًا؛ أي (٣): برًّا، وعطفًا، ورحمةً لهما، ونزولًا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى، ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه ولا يؤذيهما ألبتة، وإن كانا كافرين، بل يجب عليه الإحسان إليهما، ومن الإحسان إليهما. أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين، يأمرهما بالمعروف بالرفق واللين من غير عُنْفٍ.
وإنّما عطف (٤) برّ الوالدين على الأمر بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ شكر المنعم واجبٌ، ولله على عبده أعظم النعم؛ لأنّه أوجده بعد العدم، فيجب تقديم شكره على شكر غيره، ثُمَّ إنّ للوالدين على الولد نعمةً عظيمة؛ لأنّهما السبب في وجوده، ولهما عليه حقُّ التربية أيضًا، فحقُّهما يلي حقّ المنعم بالوجود الحقيقيِّ. وقد جاء في التوراة: أنَّ من يسبَّ والديه يقتل. والحكمة في البرّ بهما: أنّهما قد بذلا للولد وهو صغير كُلَّ عنايةٍ وعطفٍ، بتربيته، والقيام بشؤونه حين كان عاجزًا
(٢) النسفي.
(٣) الخازن.
(٤) جمل.
ولِحُبِّ الوالدين لولدهما أسبابٌ:
١ - الحنان الفِطريُّ الذي أودعه الله فيهما، إتمامًا لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدَّره في سابق علمه.
٢ - التفاخر بالأبناء، كما قال ابن الروميِّ:
وَكَمْ أبٍ قَدْ عَلاَ بابْنٍ ذُرَى شَرَفِ | كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ الله عَدْنَانُ |
أحسن إلى الناسِ تَسْتَعْبِد قُلُوبهم | فَطالمَا اسْتَعْبَدَ الإنْسَانَ إحسانُ |
ونظام الفطرة (١) قاضٍ بأنَّ صلة القرابة أَمْتَنُ الصِلات، وجاء الدين حاثًّا عليها، مؤكِّدًا لأوَاصِرها، مقوِّيًا لأركانها، مقدِّمًا لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة، وعَطَف على برِّ الوالدين بر ذوي القربى؛ لأنَّ حقَّ القرابة تابعٌ لحقّ الوالدين، والإحسان إليهم إنّما هو بواسطة الوالدين ﴿و﴾ أحسنوا بـ ﴿اليتامى﴾ أو وتحسنون إلى ﴿اليتامى﴾، بأن (٢) تتعطَّفوا عليهم بالرأفة والرحمة
(٢) العمدة.
والحكمة في وجوب الإحسان إلى اليتيم: أنّه لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته، والقيام بشؤونه، وحفظ أمواله، والأُمُّ وإن وُجدت، تكون في الغالب عاجزةً عن تنشئته وتربيته التربيةَ المُثْلى، إلى أنَّ الأيتام أعضاءٌ في جسم الأُمة، فإذا فسدت أخلاقهم، وساءت أحوالهم، تسرَّب الفساد إلى الأُمَّة جمعاء، إذ يُصْبِحُون قُدْوةً سيّئةً بينَ نَشئْها، فيدِبُّ فيها الفساد، ويتطرَّقُ إليها الانحلال، وتأَخذ في الفناء ﴿و﴾ أحسنوا بـ ﴿المساكين﴾ أو وتحسنون إلى ﴿المساكين﴾ المتذلِّلين من الفاقة والحاجة، وعجزوا عن الكسب بأن تُواسوهم، وتؤتوهم حقوقَهم التي فُرض لهم في أموالكم، جمع مسكين بوزن مفعيل من السكون، كأنَّ الفقر أسكنه عن الحراك؛ أي: الحركة، وأثقله عن التقلّب، والمراد بهم (١): ما يشمل الفقراء، فإنّ الفقير والمسكين متى اجتمعا افترقا، ومتى افترقا اجتمعا، وإنّما تأخَّرت درجة المساكين عن اليتامى؛ لأنّه قد يُمْكِن أن ينتفع بنفسه، وينفع غيره بالخدمة، بخلاف اليتيم، فإنّ الصغر مانعٌ له من ذلك، والحاصل: أن الإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم، ومواساتهم حين البأس والضراء. روى مسلم، عن أبي هريرة أنّ النبي - ﷺ - قال: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر" ﴿و﴾ قلنا لهم ﴿قولوا للناس﴾ عمومًا قولًا ﴿حُسْنًا﴾ ونَحْوُه الحديثُ: "وخالق الناس بخلق حسن" وسمَّاه حسنًا بفتحتين مبالغةً، لفرط حسنه؛ أي: هو حسنٌ في
وقيل المعنى: قولوا للناس صدقًا وحقًّا في شأن محمد - ﷺ -، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبيِّنوا صفته، ولا تكتموها، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - إن كان الخطاب للحاضرين في زمن النبي - ﷺ -، وفي القيام بهذه الفرائض إصلاحٌ لحال المجتمع، وسعيٌ في رُقيِّه وتقدُّمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب (٢): ﴿حَسَنًا﴾ بفتحتين على أنّه صفة مشبهة لمصدر محذوف، تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا. وقرأ الباقون: ﴿حُسْنًا﴾ بضمّ الحاء وسكون السين على أنّه مصدر وصف به مبالغةً. وقرأ عطاء بن أبي رباح، وعيسى بن عمر: ﴿حُسُنًا﴾ بضمّهما، فضمّة السين اتباع بضمّة الحاء، وهي قراءة شاذة. وقرأ أبي، وطلحة بن مصرف: ﴿حُسْنَى﴾ على وزن فُعْلى على أنّه مصدر كالرُّجْعَى، والعُقْبَى، والبشرى. وقرأ الجحدريّ: ﴿إحسانًا﴾ على أنّه نعت لمصدر محذوف؛ أي: قولًا إحسانًا، وإحسانًا مصدرٌ من أحسن الذي همزته للصيرورة؛ أي: قولًا ذا حسنٍ، كما تقول أعشبت الأرض إعشابًا؛ أي: صارت ذات عُشْبٍ.
وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصَّل بعضًا من ذلك ممَّا لا يُهتدى إليه إلّا بهُدًى إلهيّ، ووحيٍ سماويٍّ، فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: أدّوا الصلاة التي فرضت عليكم في ملتكم وشريعتكم، فقبلتم
(٢) البحر المحيط بتصرف.
وذكر الصلاة والزكاة مع دخولهما في عموم العبادة المذكور أوّلًا، من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ؛ إظهارًا لمزيته وفضله على غيره؛ لأنَّ الصلاة أفضل عبادات البدن، والزكاة أفضل عبادات المال؛ لأنّ الصلاة هي التي تصلح النفوس، وتنقّيها من أدران الرذائل، وتحلِّيها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله، والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورًا ورسومًا لا تغني فتيلًا، وهم ما تولَّوا ولا أعرضوا عن تلك الصُّور والرسوم إلى عصر التنزيل ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾؛ أي: وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم في ملّتكم، أو ادفعوا زكاة أموالكم إلى المُسْتَحقّين؛ لما (١) في الزكاة من إصلاح شؤون المجتمع، وقد كان لهم ضروبٌ من الزكاة:
منها: مالٌ خاصٌّ يؤدَّى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللَّاوِيِّين - سبطٌ من أسباطهم -.
ومنها: مالٌ للمساكين.
ومنها: ما يؤخذ من ثمرات الأرض.
ومنها: سَبْتُ الأرض، وهو تركها في كلِّ سبع سنين مرَّةً بلا حرث ولا زرعٍ، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقةٌ.
ولمَّا أمرهم الله تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به، أخبر عنهم أنّهم ما وَفَوا بذلك بقوله: ﴿ثُمَّ﴾ بعدما قبلتم الميثاق أوّلًا ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ وأعرضتم، ورفضتموه ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾؛ أي: إلّا قليلًا من أسلافكم، وهم الذين أقاموا اليهوديَّة على طريقتها قبل النسخ، أو من أخلافكم،
وقيل هذه الجملة: تذييليَّةٌ (٢)؛ أي: وأنتم قومٌ عادتكم الإعراض عن الطاعة، ومراعاة حقوق الميثاق، وليس الواو للحال؛ لاتحاد التولِّي والإعراض، فالجملة اعتراضٌ؛ للتأكيد في التوبيخ، وأصل الإعراض: الذهاب عن المواجهة، والإقبال إلى جانب العرض. وعبارة المراغي: وفي قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ مبالغةٌ (٣) في الترك المستفاد من التولّي؛ لأنّ الإنسان قد يتولَّى عن شيء وهو عازمٌ على أن يعود إليه، ويؤدِّي ما يجب عليه، فليس كُلُّ من تولَّى عن شيء يكون معرضًا عنه، وقد كان من تولّيهم وإعراضهم، أن تخذوا الأحبار والرهبان أربابًا مشرِّعين، يُحِلُّون، ويحرّمون، ويبيحون، ويحظرون، ويزيدون، ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينيَّة، فكأنّهم شركاء لله، يشرِّعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توّليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينيَّة، كالنفقة على ذوي القربى، وأداء الزكاة، وتركوا النهي عن المنكر، إلى نحو ذلك بما يدل على الاستهتار بأمور الدين.
وفائدة ذكر قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾؛ إفادة عدم بخس العاملين حقَّهم،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
فصلٌ فيما يتعلَّق بهذه الآية
واعلم: أنَّ في هذه الآية عدَّة أشياء (٢):
منها: العبادة، فمِنْ شَرْط العُبودية: تفَرُّد العبد لعبادة المعبود، وتجرُّده عن كل مقصود، فمن لاحظ خلقًا، أو استحلى ثناءً، أو استجلب بطاعته إلى نفسه حظًّا من حظوظ الدنيا والآخرة، أو داخله بوجهٍ من الوجوه مزجٌ، أو شوبٌ، فهو ساقطٌ عن مرتبة الإخلاص برؤية نفسه.
ومنها: الإحسان إلى الوالدين، وقد عظَّم الله حقَّ الوالدين، حيث قرن حقَّه بحقّهما في آياتٍ من القرآن؛ لأنَّ النَّشْأة الأولى من عند الله سبحانه، والنشأة الثانية وهي التربية من جهة الوالدين، ويقال: ثلاث آيات أنزلت مقرونةً بثلاث آيات، ولا تقبل إحداها بغير قرينتها إحداها، قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ والثانية: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ والثالثة ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، والامتثال إلى أمرهما، وصلة أهل وُدِّهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما. وفي "التأويلات النجمية": إنّ في قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ إشارةٌ إلى أنَّ أعزَّ الخلق على الولد والداه، لأجل أنَّهما سُدَا وجوده في الظاهر، ولكن ينبغي أن يحسن
(٢) روح البيان.
وقال - ﷺ -: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة". وأشار بالسبابة والوسطى، والسبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهليّة تدعى بالسبَّابة؛ لأنّهم كانوا يسبُّون بها، فلما جاء الله بالإِسلام كرهوا هذا الاسم، فسمَّوها بالمشيرة؛ لأنّهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد، والمُشيرة من أصابع رسول الله - ﷺ - كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثمّ البنصر أقصر من الوسطى، فقوله - ﷺ -: "أنا وهو كهاتين في الجنة" وقوله في الحديث الآخر: "أُحْشر أنا، وأبو بكر، وعمر يوم القيامة هكذا". وأشار بأصابعه الثلاث، فإنّما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق، فقال: نحشر هكذا، ونحن مشرفون، وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلةٌ رفيعةٌ، فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله - ﷺ - حمل تأويل الحديث على الانضمام، واقتراب - بعضهم من بعض في محل القربة، وهذا معنى بعيد؛ لأنّ منازل الأنبياء، والمرسلين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين، مراتب متباينة، ومنازل مختلفةٌ. كذا في "تفسير القرطبي".
ومنها: البِرُّ إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وذلَّلتهم، وهذا يتضمَّن الحضَّ على الصدقة، والمواساة، وتفقد أحوال المساكين والضعفاء، وفي الحديث: "السَّاعي على الأرملة والمساكين، كالمجاهد في سبيل الله" وكان طاووسٌ يرى السعي على الأخوات، أفضل من الجهاد في سبيل الله.
الإعراب
﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)﴾.
﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الهمزة فيه للاستفهام الاستبعاديّ، وتدخل على ثلاثة من حروف العطف، الفاءُ كما هنا، والواو كقوله الآتي: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾، وثُمَّ كقوله: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾. واختلف في مثل هذه التراكيب بين الجمهور والزمخشري، فذهب الجمهور: إلى أنّ الهمزة مقدّمة من تأخير؛ لأنّ لها الصدر، ولا حذف في الكلام، والفاء زائدة عندهم، والتقدير:... (أتَطُمْعَوُن) و (أَلاَ يعلمون)، و (ثُمَّ إذا ما وقع). وذهب الزمخشري: إلى أنها داخلة على محذوف دلَّ عليه سياق الكلام، والتقدير هنا: أتسمعون أخبارهم، وتعلمون أحوالهم، فتطمعون في إيمانهم. انتهى من "أبي السعود". ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الهمزة فيه للاستفهام الإنكاريِّ، المضمّن للنهي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف؛ أي: أتسمعون، وتعلمون أحوالهم فتطمعون ﴿تطمعون﴾ فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة على كونها إنشائيّة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمعنى: لا تطمعوا في إيمان هؤلاء العتاة الجفاة القاسية قلوبهم، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يُؤمِنُوا﴾ فعل وفاعل منصوب
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦)﴾.
﴿وَإِذَا لَقُوا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلّق بالجواب الآتي ﴿لَقُوا الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا
﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧)﴾.
﴿أَوَلَا﴾ الهمزة للاستفهام التقريريّ المضمّن للتوبيخ داخلة على محذوف، والاستفهام التقريري: هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرّ عنده ثبوته، مع التوبيخ والتقريع له، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره:
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ الواو عاطفة أو استئنافية منهم جار ومجرور خبر مقدّم ﴿أُمِّيُّونَ﴾ مبتدأ مؤخّر مرفوع بالواو؛ لأنّه جمع مذكر سالم، تقديره: وأمّيون كائنون منهم، والجملة الإسمية مستأنفة، أو في محل النصب على الحالية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ وقال أبو السعود: هذه الجملة معطوفة على الجمل الثلاث الحالية؛ لمشاركتها لهنّ، فإنّ مضمونها مناف لرجاء الخير منهم، وإن لم يكن فيها ما يحسم مادة الطمع في إيمانهم، كما هو مضمون الجمل الثلاث، فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام الله تعالى، ولا بمثابة النفاق، ولا بمثابة النهي عن إظهار ما في التوراة. اهـ. ﴿لَا﴾ نافية ﴿يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لأمّيون، تقديره: ومنهم أمّيون عادمون علم الكتاب ﴿إلّا﴾ أداة استثناء منقطع بمعنى لكن ﴿أَمَانِيَّ﴾ منصوب على الاستثناء، ولكن بعامل محذوف، تقديره: لكن يعتقدون أماني، كما أشار إليه البيضاوي في "الحلّ"، ولا يصحّ نصبه بيعلمون؛ لأنّ إدراك الأماني؛ أي: الأكاذيب لي علمًا، بل هو جهل مركّب، أو اعتقاد ناشيء عن تقليد. اهـ. "جمل". ﴿وَإِنْ﴾ والواو استئنافية، أو حالية ﴿إِنْ﴾ نافية لا عمل لها عند الجمهور؛
إن هو مستوليًا على أحد | إلّا على أضعف المجانين |
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)﴾.
﴿فَوَيْلٌ﴾ الفاء استئنافية، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفت هؤلاء اليهود يسمعون كلام الله، ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وأردت بيان عاقبة من فعل ذلك، فأقول لك: ويل للذين يكتبون الكتاب ﴿ويل﴾ مبتدأ مرفوع، وسوّغ الابتداء بالنكرة ما فيه من معنى الدعاء ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيكتبون ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يَكْتُبُونَ﴾ على كونه صلة الموصول ﴿هَذَا﴾ مبتدأ ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلقّ بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ليقولون ﴿لِيَشْتَرُوا﴾ اللام حرف جرّ وتعليل ﴿يشتروا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي ﴿به﴾ جار ومجرور متعلق بيشتروا ﴿ثَمَنًا﴾ مفعول به ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لثمنا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لاشترائهم به ثمنًا قليلًا، الجار والمجرور
﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو استئنافية ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لَنْ﴾ حرف نفي ونصب ﴿تَمَسَّنَا﴾ فعل مضارع ومفعول به منصوب بلن ﴿النَّارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرّغ ﴿أَيَّامًا﴾ منصوب على الظرفية الزمانيّة بالفعل المذكور قبله متعلق به، والتقدير: لن تمسّنا النار أبدًا إلّا في أيام قلائل يحصرها العدّ؛ لأنّ العدّ يحصر القليل ﴿مَعْدُودَةً﴾ صفة ﴿أَيَّامًا﴾ ﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -،
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)﴾.
﴿بَلَى﴾ حرف جواب يجاب بها النفي، فيصير إثباتًا بخلاف نعم، وجير، وأجل، وإيْ، فإنها لتقرير ما قبلها إثباتًا أو نفيًا ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أوّل، ويصحّ كونها شرطيّة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله ﴿كَسَبَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر صلة لمن الموصولة، أو في محل الجزم بمن الشرطيّة على كونها فعل شرط لها ﴿سَيِّئَةً﴾ مفعول به ﴿وَأَحَاطَتْ﴾ الواو عاطفة ﴿أحاط﴾ فعل ماض،
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إذْ﴾ ظرفٌ لما مضى من الزمان في محل النصب معطوفة على ﴿نِعْمَتِيَ﴾ كالظروف السابقة ﴿أَخَذْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقًا قويًّا، وهو أشدّ من الرجاء؛ لأنّه لا يحدث إلّا عن قوّة رغبة، وشدّة إرادة، وإذا اشتدّ صار طمعًا، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء، يقال: طمع يطمع طمعًا وطماعة وطماعية مخفّفًا، كطواعية، كقول الشاعر:
واسم الفاعل طَمِعٌ وطامعٌ، ويعدَّى بالهمزة، ويقال: طامعه مطامعةً، ويقال: طمُع بضم الميم كثر طمعه، وضِدُّ الطمع اليأس، قال كُثيِّرٌ:
لاَ خَيْرَ في الحُبِّ وَقْفًا لا يُحرِّكُهُ | عَوَارِضُ اليَأْسِ أوْ يَرْتَاجُهُ الطَّمَعُ |
﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، وقوم. اهـ. "سمين".
﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ والكلام: هو القول الدالُّ على نسبةٍ إسناديَّةٍ مقصودةٍ لذاتها، ويطلق أيضًا على الكلمة، ويُعبَّر به أيضًا عن الخَطِّ والإشارة، وما يفهم من حال الشيء، وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبّر عنها بالكلام في ذلك خلاف، ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ التحريف: إِمالة الشيء من حال إلى حال، والحرف الحدُّ المائل. ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾ والتحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه: يُحدِّث، وأصله: من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالثٍ بالباء، فقال: حدثت زيدًا عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمَّن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدّية إلى اثنين، فيتعدَّى إلى ثلاثة، ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ والفتح: القضاء بلغة اليمن، ومنه الفتَّاح العليم والإِذْكَار، ومنه فتَحَ على الإِمام والظفُرُ، فمنه ﴿فقد جاءكم الفتح﴾. قال الكلبي: وبمعنى القصص. قال الكسائي: وبمعنى التبيين. قال الأخفش: وبمعنى المنِّ، وأصل الفتح: خرق الشيء، والسدُّ ضدُّه.
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أصلُ لقوا: لقيوا بوزن فعلوا، استثقلت الحركة على الياء فحذفت للتخفيف، فسكنت الياء لمَّا حذفت حركتها، فالتقت ساكنةً مع واو الجماعة فحذفت، ثُمَّ ضُمّت القاف؛ لمناسبة الواو، فصار وزنها فَعُوا بعد أن كان فعلوا، كما مرّ ﴿خَلَا﴾ أصله: خلَوَ من الخلوة فعلٌ ناقصٌ، واويُّ اللام، قُلبت الواو ألفًا؛ لتحرّكها بعد فتح، ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أصله يحاجِّجونكم حذفت نون الرفع لمَّا دخلت لام التعليل على الفعل، ونصب بأن
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ جمع أُمِّي، والأمّيُّ: هو الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأُمّ؛ لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن، أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدَتْه أُمُّه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمّة وهي القامة والخلقة، كأنَّ الذي لا يكتب ولا يقرأ قائمٌ على الفطرة والجِبلَّة، أو إلى الأُمَّة، إذ هي سَاذجَةٌ قبل أن تَعِرف المعارف ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ الأماني: جمع أُمنيَّة بضم الهمزة، وكسر النون، وتشديد الياء، وأصلها: أُمْنُوية بوزن أفُعولة، اجتمعت الواو والياء، وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وكسرت النون؛ لمناسبة الياء، فجمعت على أفاعيل، وما روي من تخفيفها فجَمْعُه على أفاعِل، كما يقال: في جمع مفتاح مفاتحِ، وكأنَّ من قرأ بالتخفيف لم يعتد بحرف المدّ الذي في المفرد، كما مرّ مِن مَنَى إذا قدَّر؛ لأنّ المُتَمنِّي يقدِّر في نفسه، ويَحْزَرُ ما يتمنَّاه، أو من تمنَّى إذا كذب، قال أعرابي لابن دأبٍ في شيء حدَّث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي: اختلقته، وقال عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمنَّى إذا تلا، قال تعالى: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾؛ أي: إذا تلا وقرأ، وقال الشاعر:
تَمَنَّى كِتابَ الله أوَّل لَيْلهِ | وآخِرَه لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ |
وَلاَ تَقُولَنَّ لشيءٍ سَوْف أَفْعَلُه | حتَّى تَبَيَّنَ ما يُمْنِي لَكَ المَانِي |
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْر خِدْرَ عُنيزةٍ | فقالَتْ لك الوَيْلاَتُ إنّك مُرْجل |
فَويْلًا لِتَيْمٍ مِنْ سَرابِيْلها الخُضْرِ
والوَيْلُ معناه: الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: الوَيْلُ: شِدَّةُ الشرِّ، وقال غيره: الويل: الهلكة، وكُلُّ مَنْ وقع في هلكةٍ دعا بالوَيْلِ، وقال الأصمعيُّ: هي كلمة تفجُّعٍ، وقد يكون ترحُّمًا، ومنه قوله:
وَيْلَ أُمِّه مِسْعَرُ حَرْبِ
﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ والأيدي جمع يدٍ، ويدٌ مما حذف منه اللام، كدم، ووزنه فعلٌ، وقد صرح بالأصل، فقالوا يَدْيٌ، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة، قالوا: قطع الله أَدْيَهُ، وأبدلوا منها أيضًا جيمًا، قالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدهر، يريدون يد الدهر، وهي حقيقةٌ في الجارحة مجازٌ في غيرها، وأمَّا الأيادي فجمع الجمع، وأكثر استعمال الأيادي في النعم، وأَصْلُ الأيْدي أيْدُي، استثقلت الضمّةُ على الياء، فحذفت، فسكنت الياء، وقبلها ضمّةٌ، فانقلبت واوًا، فصار الأيْدُوُ، كما قيل: في مِيقنٍ موقِنٌ، ثمّ إنّه لم يوجد في لسانهم واوٌ ساكنةٌ قبلها ضمَّةٌ في اسم، وإذا أدَّى القياسُ إلى ذلك قُلِبَت تلك الواو ياءً، وتلك الضمَّةُ قبلها
فأكْسَبَني مَالًا وأكْسبته حمدًا
﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ المَسُّ: الإصابة، المسُّ: الجمع بين الشيئين على نهاية القرب، واللَّمْسُ مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيءُ المسُّ مع الإحساس، وحقيقة المسّ واللَّمس باليد، ونقل من الإحساس إلى المعاني، مثل: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ﴾ كـ ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ ومنه سمّي المجنون مسًّا.
وقيل: المسُّ واللَّمْسُ والجسُّ متقاربٌ، إلّا أنّ الجسَّ عامٌ في المحسوسات، والمسُّ فيما يخفى ويدقُّ، كنَبْضِ العروق، والمسُّ واللَّمْسُ بظاهر البشرة، والمَسُّ كنايةٌ عن النكاح وعن الجنُون، وقد تقدّم أنَّ ﴿النَّارُ﴾ ألفها منقلبةٌ عن واو؛ بدليل تصغيرها على نويرة، وأصل أيَّامٍ: أيوامٌ بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء فصار أيَّامًا. المعدود: اسم مفعول من عدَّ بمعنى حَسَب، والعدد هو الحساب.
﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ ﴿قُلْ﴾ فيه إعلال بالحذف، أصله: قُوْلْ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ﴿أَتَّخَذْتُمْ﴾ حذفت منه همزة الوصل؛ للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام؛ لأنّها إنّما جيء بها للتوصُّل إلى النُّطق بالساكن، وهمزة الاستفهام حصل بها ذلك، وتقدَّم الكلام على مادَّة الاتخاذ عند الآية: (٥١)، والإخلاف عدم الإيفاء بالشيء الموعود.
فائدة: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ بلى حرف جواب، مثل: نعم، وجير، وأجل، وإي، والفرق بينها وبين بلى: أنَّ بلى جواب لنفي متقدّمٍ، أي: إبطالٍ،
بَلَى سَوْفَ نُبْكِيْهِمْ بِكُلِّ مُهَنَّدِ | وَنُبْكِي نُمَيْرًا بالرِّمَاحِ الخَواطِرِ |
ألا فَاسْأَل الجَحَّافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ | بِقَتْلَى أُصِيْبَتْ مِنْ نُميْر بنِ عَامِرِ |
وأمَّا حَسَنٌ بفتحتين على قراءة حمزة والكسائي، فهو صفة مشبَّهة لا مصدرٌ، كما فهم من عبارة "القاموس"، فسقط ما للكرخي هنا.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أصله: أَقْوِمُوا بوزن أَفْعِلُوا، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ آتوا أصله: أَأْتِيوا، أمرٌ من آتى الرباعيّ، حذفت منه نون الرفع لبناء الأمر، ثُمَّ أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى، ثُمَّ استثقلت الضمة على الياء،
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ استبعادًا لعدم قبولهم الإيمان مع مشاهدة الآيات الباهرة، وتسليةً للنبي - ﷺ -، وللمؤمنين؛ لأنّهم كانوا شديدي الحرص على إيمانهم.
ومنها: الإتيان بالجملة الحالية في قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إفادةً لكمال قُبْحِ صنيعهم، وأنَّ تحريفهم للتوراة كان عن قصدٍ وتصميمٍ، لا عن جهل ونسيانٍ، ومن يرتكب المعصية عن علم يستحقُّ الذمَّ والتوبيخ، أكثر ممن ارتكبها وهو جاهل.
ومنها: الاستفهام بمعنى النهي في قوله: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾؛ لأنَّ المعنى: لا تحدِّثوهم يعنون المؤمنين.
ومنها: التعبير بالفتح في قوله: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾؛ للإيذان بأنّه سِرٌّ مكنون، وبابٌ مغلقٌ لا يقف عليه أحدٌ.
ومنها: التوبيخ والعتاب في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يسرون ويعلنون﴾ حيث قابل بين لفظتي يسرّون ويعلنون، وهو نوع طباق الإيجاب.
ومنها: ذكر الأيدي في قوله: ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ مع أنَّ الكتابة لا تكون إلّا بالأيدي؛ لدفع توهُّم المجاز بأنَّ المراد أَمْلَوْهُ لغيرهم، وللتأكيد بأنَّ الكتابة باشروها بأنفسهم، كما يقول القائل: كتبته بيميني وسمعته بأذني، وفيه الإطناب أيضًا لتصوير حالة الكتابة في النفس، كما وقعت، وتجسيدها أمام السامع حتى يكاد يكون مشاهدًا لها، ولتسجيل الأمر عليهم، كما تقول لمن ينكر معرفته: ما كتب ووقع أنت كتبته بيمينك.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾، وقوله: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾، وقوله: ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ للتوبيخ، والتقريع، ولبيان أنَّ جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى.
ومنها: التهكُّم في قوله: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾؛ لأنّ الكسب حقيقةٌ في استجلاب النفع، فاستعماله في استجلاب الضُرّ، كالسيئة على سبيل التهكّم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ حيث شبَّه الخطايا بعدوٍ نزل بقوم، وأحاطوا بهم من كل الجوانب إحاطة السِوَار بالمعصم، واستعار لفظة الإحاطة؛ لغلبة السيّئات على الحسنات، فكأنَّها أحاطت بها من جميع الجهات.
ومنها: الإشارة بعنوان الجمع في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ مراعاةً لجانب المعنى في كلمة (مَنْ) بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة قبله.
ومنها: المقابلة بين فريقي الأشقياء والسعداء في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾.
ومنها: الإتيان بالفاء في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ دون قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ إشارة إلى أنَّ خلود النار تسبَّب عن الكفر، بخلاف خلود الجنّة، فلا يتسبَّب عن الإيمان، بل بمحض فضل الله تعالى كذا قاله بعض الأشياخ. اهـ. "صاوي".
ومنها: الإتيان بالجملة الخَبَريَّة في قوله: ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ مرادًا بها النهي؛ لأنّها أبلغ من صريح النهي؛ لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكُّد طلب امتثاله حتى كأنّه امتثل وأخبر عنه.
ومنها: الالتافات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ وفي قوله: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ على قراءة التاء؛ لأن ذكر بني إسرائيل إنّما وقع بطريق الغيبة، ومن فوائد الالتفات: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والإملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقُّلات، والسآمة
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر بني (١) إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أُمروا به، من إفراده تعالى بالعبادة، والإحسان إلى الوالدين وذي القربى، ثُمَّ بيَّن أنهم لم يأتمروا بذلك. ذكّرهم في هذه الآيات بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "الدلائل" بسند ضعيف، عن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلّما التقوا هزموا يهود، فعاذت يهود بهذا الدعاء: اللهمّ! إنّا نسألك بحقّ محمدٍ النبيّ الأمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا فيهزمون غطفان، فلمَّا بعث النبيُّ - ﷺ - كفروا به، فأنزل الله سبحانه ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيدٍ، أو عكرمة عن ابن عباس: (أنَّ يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - ﷺ - قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء، وداود بن سلمة: يا معشر اليهود! اتَّقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمدٍ - ﷺ - ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنَّه مبعوثٌ، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني نضير: ما جاءنا بشيءٍ نعرفه، وما هو بالذي كنَّا نذكر لكم) فأنزل الله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...﴾ هو الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٨٤ - ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ وهذا شروع في بيان ما فعلوا بالعهد المتعلِّق بحقوق
الأوّل: لا يسفك بعضهم دماء بعضٍ.
الثاني: لا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم.
الثالث: لا يتظاهر بعضهم على بعض بالإثم والعدوان.
الرابع: إن وجد بعضهم بعضًا أسيرًا فداه ولو بجميع ما يملك.
والخطاب (٢) هنا لليهود المعاصرين له - ﷺ -، والمراد أسلافهم المعاصرون لموسى عليه السلام، على سنن التذكيرات السابقة.
أي: واذكروا أيّها اليهود المعاصرون لمحمد - ﷺ - وقت أن أخذنا الميثاق، وجعلنا العهد على آبائكم في التوراة، وقلنا لهم: ﴿لَا تَسْفِكُونَ﴾ ولا تريقون ﴿دِمَاءَكُمْ﴾ أي: لا يُرقْ بعضكم دم بعض، ولا يقتله ظلمًا وعدوانًا، فهو إخبارٌ بمعنى النهي، كأنّه سورع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه، وإنّما جعل (٣) قتل الرجل غيره قتل نفسه؛ لاتصاله به نسبًا أو دينًا؛ أو لأنَّ من أراق دم غيره فكأنَّما أراق دم نفسه؛ لأنّه يوجب قصاصًا.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿تَسْفِكُونَ﴾ بفتح التاء، وسكون السين، وكسر الفاء، وقرأ طلحة، وشعيب بن أبي حمزة كذلك، إلّا أنهما ضَمَّا الفاء، وقرأ أبو نهيك، وأبو مجلز بضمّ التاء، وفتح السين، وكسر الفاء المشدّدة، وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك، إلّا أنّه سكَّن السين وخفف الفاء. قال أبو حيان: وظاهر قوله: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾؛ أي: لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدَّةٍ تُصِيبكُم، وحَنَق يَلْحَقُكم،
(٢) الفتوحات.
(٣) الخازن.
(٤) البحر المحيط.
وقيل معناه: لا تسفكوا دماءَ الناس، فإنَّ من سَفك دماءهم سُفك دمه، قال الشاعر:
سَقَيْناهُمُ كَأْسًا سَقُونَا بِمِثْلِهَا | وَلَكِنَّهم كانوا على الموت أصبرا |
قال ابن عطيّة: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقًا أن لا يقتل بعضهم بعضًا، ولا ينفيه، ولا يسترقّه، ولا يدعه يُسترق، إلى غير ذلك من الطاعات. اهـ. ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ وأوطانكم، والديار: جمع دار، وهو المنزلة الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال؛ أي: لا يخرج (١) بعضكم بعضًا من منزله ووطنه، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم، فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنّة التي هي داركم، أو لا تخرجون أنفسكم؛ أي: إخوانكم؛ لأنّكم كنفسٍ واحدةٍ، أو لا تفسدوا فيكون سببًا لإخراجكم من دياركم، كأنَّه يشير إلى تغريب الجاني، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين، فيكتب عليكم الجلاء، أقوالٌ ستّةٌ.
وفي اقتران الإخراج من الديار بالقتل (٢)، إيذانٌ بأنّه بمنزلة القَتْلِ.
(٢) روح البيان.
﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ ذلك الميثاق، وقبلتموه، واعترفتم بلزومه، وبوجوب المحافظة عليه، يعني: قَبِلَ ذلك الميثاق، وأقرّ به أسلافكم ﴿وَأَنْتُمْ﴾ أيّها المعاصرون لمحمدٍ - ﷺ - ﴿تَشْهَدُونَ﴾ على أسلافكم قَبُولَهم ذلك الميثاقَ والعهدَ، وتعلمون ذلك، أو المعنى؛ أي: ثمّ أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون، واعترفتم به، ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة قائمةٌ عليكم، وقد يراد وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه السلام، إِمَّا بالنقل المتواتر، وإمّا بما تتلونه في التوراة، وإن كان معنى الشهادة الحضور، فيتعيَّن أن يكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين: ثمّ أقررتم عائدٌ إلى الخلق، وأنتم تشهدون عائد إلى السَّلفِ؛ لأنّهم عاينوا سَفْكَ دماءِ بعضهم بعضًا، وقال: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾؛ لأنَّ الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة. وقيل: إنَّ قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ تأكيدٌ للإقرار،
٨٥ - ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿هَؤُلَاءِ﴾؛ خبرٌ، أي: ثم بعد ذلك الإقرار والشهادة، أنتم أيها المعاصرون لمحمد - ﷺ -! هؤلاء المشاهدون، الحاضرون، الناقضون، الذين يخالفون ما أخذه الله تعالى عليهم في التوراة، فتقتلون أنفسكم وأهل دينكم مع المشركين إلى آخر الآية؛ يعني: أنكم - أيُّها المعاصرون لمحمد - ﷺ - قومٌ آخرون غير أولئك المقرّين الذين هم أسلافكم، وكأنّهم قالوا: كيف نحن، فقيل لهم: إنّكم ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: أهل دينكم مع حلفائكم من المشركين؛ أي: تقتلون الفريق الجارين مجرى أنفسكم باتحادكم في الدين، وهذا وما بعده من الإخراج، والمظاهرة، والمفاداة بيانٌ لقوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾؛ لأنّ معنى قوله: ﴿أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ أنّكم على حالة أسلافكم من نقض الميثاق، وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين؛ أي: ثمّ أنتم الذين تقتلون أنفسكم... إلخ.
وقيل: ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، و ﴿هَؤُلَاءِ﴾ منادى، حذف منه حرف النداء، وجملة ﴿تَقْتُلُونَ﴾ وما بعده خبرٌ له، والمعنى عليه، ثُمَّ بعد إقرار أسلافكم الميثاق، وشهادتكم على أسلافكم بقبول الميثاق، أنتم - يا هؤلاء المعاصرون لمحمد - ﷺ - تقتلون أنفسكم؛ أي: أهل دينكم مع المشركين، أي: ثُمَّ أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد، فتقتلون أنفسكم؛ أي: يقتل بعضكم بعضًا، كما كان يفعل مَن قبلكم، مع أنّكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم، ومن أمثلة ذلك: أنَّ بني قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس، وأعداءً لإخوانهم في الدين بني قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإِسلام أعداء يقتتلون، ومع كلٍّ حلفاؤه، وهذا ما نعاه الله على اليهود بقوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ كما سيأتي بسط هذه القصة عن السدّي.
وقرأ الجمهور ﴿تَقْتُلُونَ﴾ مخففًا من قَتَلَ الثلاثي. وقرأ الحسن ﴿تُقَتِّلونَ﴾ مشدَّدًا من قَتَّل الرباعيِّ، هكذا في بعض التفاسير، وفي تفسير المهدويّ: إنّها قراءة أبي نَهِيْك، قال: والزهريِّ والحسنِ ﴿تُقَتِّلونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ﴾ من قتَّلَ؛ يعني: مشدّدًا. والله أعلم بصواب ذلك.
تَعاطسون جميعًا حولَ دارِكُمُ | فكلُّكُمْ يا بني حمدانَ مزكومُ |
والأسير: من أُخذ قهرًا، فهو فعيل بمعنى مفعول من الأسر بمعنى الشدِّ والإيثاق، كما سيأتي بسط الكلام فيه في مبحث اللغة. وقرأ الجمهور (١) ﴿أُسَارَى﴾ بضمّ الهمزة بوزن فعالى. وقرأ حمزة أسرى بفتح الهمزة بوزن فَعْلَى، وقوله: ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ جواب إن الشرطيّة؛ أي: تخرجوهم من الأسر بأعطاء الفداء، والمفاداة تجري بين الفادي وبين قابل الفداء. وقرأ عاصم (٢)، ونافع، والكسائي ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ بضمّ التاء وفتح الفاء، من فادى الرباعي. وقرأ الباقون ﴿تَفْدُوهُم﴾ بفتح التاء وسكون الفاء من فدى، ومعنى تفادوهم: تفدوهم إذ المفاعلة تكون من اثنين ومن واحدٍ، ففاعل بمعنى فعل المجرد وهو أحد معانيه وقيل: معنى فادى بادل أسيرًا بأسير، ومعنى فدى: دفع الفداء، ويشهد للأوّل قول العباس: (فادَيْتَ نَفسي وفاديت عقيلًا) ومعلوم أنّه ما بادل أسيرًا بأسير. وقيل: معنى تفدوهم بالصلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل. تفادوهم: تطلبوا الفدية من الأسير، الذي في أيديكم من أعدائكم، ومنه قوله:
قِفِي فَادِي أَسِيْرَكِ إنَّ قَوْمِي | وَقَوْمَكِ ما أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا |
والمعنى: أي وإن يقع ذلك الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه أسيرًا في يد حلفائكم المشركين، تُخلِّصونه من الأسر بدفع مال الفداء
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (٢): أي وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم، والحال أنَّ الشأن محرَّم عليكم إخراجهم من ديارهم أوّل مرّةٍ، وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى، أخذ على بني إسرائيل في التوراة أربعة عهودٍ: ترك القتل؛ أي: أن لا يقتل بعضهم بعضًا، وترك الإخراج؛ أي: لا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، وترك المظاهرة على أهل دينهم مع أعدائهم، وفك أسراهم من أيدي أعدائهم، وأيما عبدٍ، أو أمةٍ، وجدتموه من بني إسرائيل، فاشتروه، وأعتِقوه، فأَعْرَضوا عن الكلِّ إلّا الفداء.
وكان النضير (٣)، وقريظة أخوين، كالأوس والخزرج، فافترقوا، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة، فكان كُلُّ فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا خرَّبوا ديارهم، وأخرجوهم من ديارهم، ثُم إذا أُسِرَ رجلٌ من الفريقين فدوه، كما لو أُسِرَ واحدٌ من النضير، ووقع في يد الأوس، افتدته قريظة منهم بالمال، وهكذا يقال في عكس ذلك، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنّةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حلالًا، ولا حرامًا، يُعيِّرون قريظة والنضير، ويقولون لهم: كيف تقاتلونهم أوَّلًا ثم تفادونهم؟ فيقولون: أُمِرْنَا أن نفديهم، وحُرِّم علينا قتالهم، ولكن نستحي أن تُذَلَّ حلفاؤنا، فذمَّهم الله تعالى بقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ﴾ ما في ﴿الْكِتَابِ﴾ والتوراة، وتصدِّقونه، وتمتثلونه وهو
(٢) العمدة.
(٣) المراح.
والهمزة في قوله (١): ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي المضمَّن للإنكار، داخلةٌ على محذوف يستدعيه المقام، والفاء عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتفعلون ذلك، فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ، مع أنَّ قضيَّة الإيمان، الإيمان بالباقي؛ لكون الكل من عند الله تعالى داخلًا في الميثاق، فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض ﴿فَمَا جَزَاءُ﴾ نفي؛ أي: ليس جزاء ﴿مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ﴾؛ أي: الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان بالبعض ﴿مِنْكُمْ﴾ يا معشر اليهود: حالٌ من فاعل يفعل، ﴿إِلَّا خِزْيٌ﴾ استثناءٌ (٢) مفرع وقع خبرًا للمبتدأ؛ أي: ذُلٌّ وهوانٌ مع الفضيحة، وهو قتل بني قريظة، وأسرهم، وإجلاء بني النضير إلى أذرعات، وأريحا من الشام، وقيل: هو أخذ الجزية ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ صفة خزي، ولعلَّ بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر؛ لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب، وإظهار أنَّه لا أثر له أصلًا مع الكفر بالبعض ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: ويوم تقام فيه الأجزية، وهو عبارةٌ عن زمانٍ مُمْتَدٍّ إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار، ﴿يُرَدُّونَ﴾؛ أي: يرجعون، والردُّ: الرَّجع بعد الأخذ ﴿إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ وهو التعذيب في جهنّم، وهو أشدُّ من خزيهم في الدنيا، وأشدُّ من كل عذاب كان قبله، فإنَّه ينقطع وهذا لا ينقطع، وفي الحديث: "فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، وإنّما كان أشدَّ؛ لما أنَّ معصيتهم كانت أشدَّ المعاصي.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُرَدُّونَ﴾ بالياء، وهو مناسب لما قبله من قوله: ﴿مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ﴾ ويحتمل أن يكون التفاتًا، فيكون راجعًا إلى قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن، وابن الهرمز باختلاف عنهما (تُردُّون) بالتاء، وهو مناسبٌ لقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ ويحتمل أن يكون التفاتًا بالنسبة إلى قوله: ﴿مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ﴾ فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، وأشدُّ العذاب الخلود في النار، وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو أنواع عذاب جهنّم؛ لأنّها دركاتٌ مختلفةٌ، وفيها أوديةٌ، وحَيَّاتٌ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا رَوح مع اليأس من التخلُّصِ، أو الأشدِّية بالنسبة إلى عذاب الدنيا، أو الأشدِّية بالنسبة إلى عذاب عامَّتهم؛ لأنّهم الذين أضلُّوهم ودلَّسُوا عليهم، أقوالٌ خمسةٌ. وقرأ نافع (٢)، وابن كثير، وأبو بكر: (عمّا يعملون) بالياء، والباقون بالتاء من فوق، فبالياء ناسب ﴿يُرَدُّونَ﴾ قراءة الجمهور، وبالتاء تُناسب قراءةَ ﴿تُردُّون﴾ بالتاء، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطبًا في الآية قبل، ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّةِ محمد - ﷺ -، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنَّ بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تُعنَوْن بهذا يا أُمّة محمدٍ! وبما يجري مجراه). وهذه الآية من أوعظ الآيات إذ المعنى: إنّ الله بالمرصاد لكل كافرٍ وعاصٍ، ثُمَّ أكَّد عظيم حماقتهم وسيىء، إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا، فقال:
٨٦ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة التي منها الجمع بين
(٢) البحر المحيط.
وهذا (٤) إخبار من الله سبحانه وتعالى، بأنَّ اليهود لا يزالون في عذاب موفَّر، لازم لهم بالجزية، والصغار، والذلّة، والمهانة، فلا يُخفَّف عنهم ذلك أبدًا ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوِّهم.
واعلم: أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنعٌ غير
(٢) البيضاوي.
(٣) ابن كثير.
(٤) الشوكاني.
قال أبو حيان: وقد تضمّنت (١) هذه الآيات الكريمة من قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ إلى هنا، إخبار الله تعالى، أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة لله تعالى، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنّهم نقضوا الميثاق بتولِّيهم، وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا، والتزموا ذلك، فإن الميثاق الأول يتضمَّن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمَّن النواهي؛ لأنَّ التكاليف الإلهيّة مبنيَّةٌ على الأوامر والنواهي، وكان البدء بالأوامر آكد؛ لأنّها تتضمَّن أفعالًا والنواهي. تتضمَّن تُروكًا، والأفعال أشقُّ من التروك، وكان من الأوامر: الأمر بإفراد الله بالعبادة وهو رأس الإيمان، إِذ مُتعلَّقه أشرف المتعلَّقات، فكان البدء به أولى، ثمَّ نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدَّم إخباره أنَّهم خالفوا في الأوامر بقوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ لأنَّ فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات؛ لأنَّها تروك، كما ذكرنا.
ثمّ قرَّعهم بمخالفة نواهي الله، وأنّهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان، ثمَّ ذكر تناقض آرائهم، وسخف عقولهم بفداء من أتى إليهم
٨٧ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾؛ أي: بالله لقد أعطينا يا بني إسرائيل ﴿مُوسَى﴾ بن عمران؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد أعطينا موسى بن عمران ﴿الْكِتَابَ﴾ أي: التوراة جملةً واحدةً.
ومناسبة هذه الآية لِمَا قبلها (١): أنّ إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم، إذْ فيه أحكامهم وشرائعهم، ثُمَّ قابلوا تلك النعمة بالكفران، وذلك جَرْيٌ على ما سبق من عادتهم، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء، فخالفوا أمر الله ونهيه، فناسب ذكْرُ هذه الآية ما قبلها، والإيتاء (٢): الإعطاء، فيحتمل أن يراد به الإنزال؛ لأنَّه أنزله عليه جملةً واحدةً، ويحتمل أن يراد آتيناه: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود، والأحكام، والأنباء، والقصص، وغير ذلك ممَّا فيه، فيكون على حذف مضاف؛ أي: آتينا موسى علم الكتاب، أو فهم الكتاب، وموسى هو نبيُّ الله موسى بن عمران صلى الله على نبيّنا وعليه وسلّم، وهو لغةٌ عبرانيةٌ، قد سبق عند قوله: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى...﴾ الآية. والكتاب هنا: التوراة في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد إذ قرن بموسى، وانتصابه على أنّه مفعول ثان
(٢) البحر المحيط.
قيل (١): إنّ الرسل بعد موسى هم: يوشع بن نون، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرميا، وعزيرٌ، وحزقيلٌ، وإلياسُ، واليسعُ، ويونسُ، وزكريا، ويحيى، وغيرهم، ومنْ في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ لابتداء الغاية وهو ظاهرٌ؛ لأنَّه يُحْكَى: أنَّ موسى لم يَمُتْ حتى نُبِّىء يوشعُ، والباء في قوله: ﴿بِالرُّسُلِ﴾ متعلقةٌ بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد؛ لما استفيد من القرآن وغيره، أنَّ هؤلاء بعثوا من بعده، ويحتمل أن تكون التقفية هي كونهم يتَّبعون في العمل بالتوراة، وأحكامها، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها. وقرأ الجمهور (٢). ﴿بِالرُّسُلِ﴾ بضمّ السين. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر بتسكينها، وهما لغتان فيه، ووافقهما أبو عَمْرو إن أُضيف إلى ضمير جمع، نحو: (رُسْلهم ورُسْلكم ورُسْلنا)؛ استُثقل توالي أربع متحركات، فسُكِّن تخفيفًا ﴿وَآتَيْنَا﴾؛ أي: أعطينا ﴿عِيسَى﴾ بالسريانة (٣) اليسوع، ومعناه: المبارك، والأصحّ: أنّه لا اشتقاق له ولأمثاله في العربية، وأضافه إلى مريم أمّه؛ ردًّا على اليهود فيما أضافوه إليه. ﴿ابْنَ﴾ بإثبات الألف، وإن كان واقعًا بين العلمين؛ لندرة الإضافة إلى الأمّ ﴿مَرْيَمَ﴾ بالسريانية بمعنى الخادمة والعابدة، قد جعلتها أمّها محرّرة لخدمة المسجد، ولكمال عبادتها
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وقد أجمل (١) الله سبحانه ذكر الرسل، وفصل ذكر عيسى؛ لأنّ من قبله كانوا متّبعين شريعة موسى، وأمّا عيسى فنسَخَ شَرْعُه كثيرًا من شرع موسى؛ أي: وآتينا عيسى ابن مريم ﴿الْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات الدَالَّة على نُبوّته، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه السلام، وهذا هو الظاهر. وقيل: الإنجيل. وقيل: الحجج التي أقامها الله على اليهود، كإحياء الموتى وهو أربعةٌ: سامُ بن نوح، والعازِرو ابنُ العَجوز، وبنتُ العَشَّار، ومن الطير الخفاش. قيل: لم يكن مِنْ قَبْلِ عيسى، بل هو صوَّرهُ، والله نفخ فيه الروح، وقيل: كان قَبْلَهُ، فوضَع عيسى على مثاله. قالوا: وإنّما اختصَّ هذا النوع من الطير؛ لأنّه ليس شيءٌ من الطير أشدَّ خلقًا منه؛ لأنّه لحمٌ كلُّه، وكإبراء الأكمه سواء كان كمهه خلقيًّا، أو طارئًا، وإبراء الأبرص، والإخبار بالمغيَّبات.
فائدة: ولفظ عيسى (٢) لغةٌ عبرانيةٌ معناه: السَّبُوح بفتح السين وضمّ الباء المخفّفة بمعنى: السَّابح، وهو من الخيل السريعُ الجري، وبالسريانية اسمه: أيشوع، ومعناه: المبارك، ولفظ مريم لغة سريانية معناه: خادمة الله، وفي كتاب "لسان العرب" هي: المرأة التي تكره مخالطة الرجال، وإنّما خصَّ عيسى بالذكر مع دخوله في قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾؛ إشعارًا بفضله، ومزيَّته على غيره لكونه رسولًا مستقلًّا بشرع يخصه: لأنّه نسخ بعض ما في التوراة، وردًّا على اليهود حيث ادَّعوا أنهم قتلوه، وما بين موسى وعيسى: أربعة آلاف نبيٍّ، وقيل: سبعون ألف نبيٍّ، ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ أي: قوَّينا عيسى عليه السلام. وقرأ الجمهور (٣) على
(٢) العمدة.
(٣) البحر المحيط.
قال أبو حيان: والرُّوح هنا: اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يُحيي الموتى. قاله ابن عباس، أو الإنجيل، كما سَمَّى الله تعالى القرآن روحًا في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ قاله ابن زيد، أو الروح الَّتي نفخها الله تعالى في عيسى عليه السلام، أو جبريل عليه السلام. قاله قتادة، والسديّ، والضحاك، والربيع، ونسب هذا القول لابن عباس. قاله ابن عطيّة.
وهذا أصحُّ الأقوال، وقد قال النبيُّ - ﷺ - لحسَّان بن ثابت: "أُهْجُ قُريشًا وروح القدس معك" ومرَّةً قال له: "وجبريل معك". انتهى كلامه.
(٢) البحر المحيط.
وجبريلُ رسولُ اللهِ فينا | وروحُ القُدْسِ لَيْس لَهُ كِفَاءُ |
وخلاصة معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...﴾ إلخ؛ أي (١): ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهي التوراة، ثمّ أتبعنا من بعده رسولًا بعد رسول مقتفين إثره، فلم يمض زمنٌ إلّا كان فيه نبيٌّ، أو أنبياء، يأمرون وينهون، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع، أو تحريفها، وتغيير أوضاعها، ثُمَّ خصَّ من أولئك الرسل عيسى عليه السلام، فقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾.. الخ؛ أي: وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدلُّ على صدق نُبوّته، وأنّه مُوحًى إليه من ربّه، وأيّدناه بروح الوحي الذي يُؤيِّد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم، ومعارفهم، وأرسلناه بعد ظهور كثيرٍ من الرسل، ولم يكن حظّهُ بينهم أحسن من حظِّ سابقيه، ثُمَّ بين ماذا كان حظُّ الرسل من بني إسرائيل، فقال: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ خاطب بهذا أهل عصر محمد - ﷺ -، وقد فعله أسلافهم؛ يعني: لم يوجد منهم القتل، وإن وجد منهم الاستكبار؛ لأنّهم يتولَّونهم ويرضون بفعلهم، والراضي بفعل الغير كفاعله، وقد كذَّبوا رسول الله - ﷺ - فيما جاء به، وسقوه السُمَّ ليقتلوه، وسحروه. ويجوز أن (٢) يكون الخطاب عامًّا لجميع بني إسرائيل،
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أدمتم يا معشر اليهود! على التكذيب، فاستكبرتم عن الإيمان كُلَّما جاءكم رسولٌ من الرسل بما لا تهوى، ولا تُحِبُّ أنفسكم؛ أي: استكبرتم عن الإيمان، ودمتم على التكذيب كُلَّ وقتٍ جاءكم رسولٌ منهم بالحقِّ الذي لا يوافق هواكم. ﴿فَفَرِيقًا﴾؛ أي: طائفةً منهم ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ كعيسى، ومحمدٍ عليهما السلام، والجملة معطوفة على قوله: ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾؛ أي: فنشأ عن الاستكبار مبادرتهم فريقًا من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، ولم يتمكَّنوا منه ﴿وفريقًا﴾ منهم ﴿تَقْتُلُونَ﴾ كزكريا، ويحيى، وغيرهما عليهم السلام؛ أي: وفريقًا منهم بادروه بالقتل إذ قدروا على قتله، وتهيَّأ لهم ذلك، ومعلوم (٢) أنَّ من قتلوه فقد كذّبوه، واستغنى عن التصريح بتكذيبه؛ للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ﴾ معطوفًا على قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ ويكون قوله: أفكُلَّمَا مع ما بعده اعتراضًا بينهما على سبيل الإنكار، والأظهرُ في ترتيب الكلام الأوّلُ، وهذا أيضًا محتملٌ. وقدَّم المفعول وأخر العامل في قوله: ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾؛ ليتَواخى رؤُوسُ الآي، وثَمَّ محذوف،
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: إنَّه نشأ من استبكارهم مبادرتهم لفريق من الرسل بالتكذيب، ومبادرتهم لآخرين بالقتل. وعبارة "الروح" هنا؛ وقدَّم (١) فريقًا في الموضعين؛ للاهتمام، وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم، لا للقصر، ولم يقل قتلتم، وإن أريد الماضي؛ تفظيعًا لهذه الحالة، فكأنَّها - وإن مضت - حاضرةٌ لشناعتها، ولثبوت عارها عليهم، وعلى ذرِّيتهم بعدهم، أو يراد: وفريقًا تقتلونهم بعد، وإنّكم على هذه النيَّة؛ لأنّكم حاولتم قتل محمد - ﷺ -، لولا أنَّي عصمته منكم، ولذلك سحرتموه، وسممتم له الشاة حتى قال - ﷺ - عند موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني"؛ أي: يراجعني أثر سُمِّها في أوقاتٍ معدودة: "فهذا أوان قَطعَتْ أبهري" وهو عرقٌ منبسطٌ في القلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقصته: أنّه لمّا فتحت خيبر وهو موضع بالحجاز قرب المدينة، أهديت لرسول الله - ﷺ - شاةٌ فيها سُمٌّ، فقال رسول الله - ﷺ -: "إنّي سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقيّ فيه" قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا" قالوا: نعم، قال: "فما حملكم على ذلك" قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت صادقًا لم يضرَّك.
واعلم: أنَّ اليهود أَنِفُوا من أن يكونوا أتباعًا، وكانت لهم رئاسةٌ، وكانوا متبوعين، فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرئاسة، فما دام لم يخرج حُبُّ الرئاسة من القلب، لا تكون النَّفس مؤمنةً بالإيمان الكامل.
وللنفس صفاتٌ سبعٌ مذمومةٌ: العجب، والكبر، والرياء، والغضب، والحسد، وحُبُّ المال، وحبّ الجاه. ولجهنَّم أيضًا أبوابٌ سبعةٌ: فمن زكى نفسه
٨٨ - ثُمَّ أخبر سبحانه وتعالى عن اليهود المعاصرين لمحمد - ﷺ - وبين ضلالهم في اقتدائهم بأسلافهم، فقال حكايةً عنهم: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: اليهود المعاصرون لمحمد - ﷺ - ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أغلف، كحمر جمع أحمر، مستعارٌ من الأغلف الذي لم يختن؛ أي: قلوبنا مغشّاة مغطّاة بأغشيةٍ جِبِليَّةٍ، وأغطية خِلْقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - ﷺ -، ولا تفقهُهُ، ولا تفهمُهُ. وقرأ الجمهور (٢) ﴿غُلْفٌ﴾ بإسكان اللام، واختلف في سكون اللام، أهو سكونٌ أصليٌّ، فيكون جمع أغلف، كحمر وأحمر؟ أم هو سكون تخفيف، فيكون جمع غلاف؟ وأصله: الضُمُّ، كحمار وحمر. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وابن هرمز، وابن محيصن ﴿غُلُف﴾ بضمّ اللام وهي مرويّةٌ عن أبي عمرو - وليست في المتواتر عنه - وهو جمع غلاف، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف؛ لأنّ تثقيل فُعَّل الصحيح العين لا يجوز إلّا في الشعر، يقال: غلفت السيف، جعلت فيه غلافًا، وأمّا من قرأ ﴿غُلْفٌ﴾ بالإسكان، فمعناه: أنَّها مستورة عن الفهم والتمييز، وقال مجاهد؛ أي: عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابعٌ. وقال الزجاج: ذوات غلفٍ؛ أي: عليها غُلْفٌ لا تصل إليها الموعظة.
(٢) البحر المحيط.
وأمّا من قرأ بضمّ اللام (١)، فمعناه: أنّها أوعيةٌ للعلم، أقاموا العلم مقام شيءٍ مجسَّدٍ، وجعلوا الموانع التي يمنعهم غلفًا له؛ ليستدلّ بالمحسوس على المعقول، ويحتمل أن يريدوا بذلك أنَّها أوعية للعلم، فلو كان ما تقوله حقًّا وصدقًا لوَعَتْهُ، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، ويحتمل أنّ يكون المعنى: أنَّ قلوبنا غُلُفٌ؛ أي: مملوءة علمًا فلا تسع شيئًا، ولا تحتاجُ إلى علمٍ غيرِه، فإنَّ الشيء المغلق لا يسع غلافه غيره، ويحتمل أن يكون المعنى: إنّ قلوبهم غُلْفٌ على ما فيها من دينهم وشريعتهم واعتقادهم؛ أي: أنَّ دوامَ ملَّتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها، وقوَّتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلاف الذي يَصُونُ المُغَلَّف أن يصل إليه ما يغيِّره. وقيل المعنى: كالغلاف الخالي الذي لا شيء فيه. اهـ. من "البحر".
والغرض (٢): إقناطه - ﷺ - من إيمانهم، رَدَّ الله تعالى أن تكون قلوبهم مخلوقةً كذلك؛ لأنها خلقت على الفطرة، والتمكُّن من قبول الحق، وأضرب وقال: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ﴾ وطردهم وأبعدهم ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى عن رحمته ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾؛ أي: بسبب كفرهم وضلالهم: أي: ليس عدم قبولهم لخللٍ في قلوبهم، ولكنَّ الله سبحانه أبعدهم عن رحمته، وخَذلَهم، وخلَّاهُم وشَأنَهم بسبب كفرهم العارض، وإبطالهم لاستعدادهم بسوءِ اختيارهم بالمرَّةِ. وقال أبو حيَّانْ و ﴿بَلْ﴾ هنا (٣) للإضراب الإبطاليّ عن النسبة التي تضمَّنها قولهم: إنّ قلوبهم غُلفٌ، وليس
(٢) العمدة.
(٣) البحر المحيط.
٨٩ - ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: ولما جاء اليهود المعاصرين لمحمد - ﷺ - ﴿كِتَابٌ﴾ وقرآن نازلٌ ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، ووصفه بقوله: من عند الله؛ للتشريف؛ وللدلالة على أنَّه جديرٌ بأن يقبل، ويُتَّبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو واردٌ من عند خالقهم، وإلههم الذي هو ناظرٌ في مصالحهم، ﴿مُصَدِّقٌ﴾؛ أي: موافقٌ ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾؛ أي: لكتابهم؛ أي: للتوراة التي في أيديهم في التوحيد، وبعض الشرائع، وصفة محمد - ﷺ -، وهو صفةٌ ثانيةٌ، وقُدّمت (٢) الأولى عليها؛ لأنّ الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشيءٌ عن كونه
(٢) البحر المحيط.
قال ابن التمجيد: المصدَّق به: ما يختصُّ ببعثة محمد - ﷺ -، وما يدلُّ عليها من العلامات لا الشرائع والأحكام؛ لأنَّ القرآن نسخَ أكثرها.
وجواب (١) ﴿لِمَا﴾ محذوفٌ دلَّ عليه جواب ﴿لِمَا﴾ الثانية تقديره: ولمَّا جاءهم كتابٌ من عند الله مصدّق لما معهم كذَّبوه. وقيل: جوابها جملة قوله الآتي: ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ كما سيأتي قريبًا. ﴿و﴾ قد ﴿كانوا﴾؛ أي: اليهود ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل مبعث محمد - ﷺ -، ونزول القرآن، وبُني لقطعِه عن الإضافة إلى معرفة ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ ويستنصرون؛ أي: يطلبون من الله الفتح والنصر ﴿عَلَى﴾ أعدائهم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأشركوا بالله؛ أي: يستنصرون به على مشركي العرب، وكفار مكة من أَسَدٍ، وغَطَفَانَ، ومُزَيْنَةَ، وجُهَيْنَةَ، ويقولون: اللهمّ! انصرنا عليهم بالنبيِّ الأميّ المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة، فكانوا يُنصَرون عليهم، وكانوا يقولون: لأعدائهم المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قَتلَ عاد وإرم ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾ وظهر لهم ﴿مَا عَرَفُوا﴾ وما سبق لهم تعريفه للمشركين؛ أي: الحقُّ الذي عرفوه أوّلًا من كتابهم حقَّ المعرفة، وأخبروه للمشركين من بعثة محمد - ﷺ -، ونزول القرآن: لأنَّ معرفة من أنزل هو عليه معرفةٌ له، والفاء (٢) للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلَّل بينهما مدّةٌ مَنْسِيَّةٌ ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ أي: بذلك الحق؛ أي:
(٢) روح البيان.
واعلم: أنّ (٢) اللعنة في حقّ الكفار: الطرد والإبعاد من الرحمة، والكرامة، والجنّة على الإطلاق، وفي حقّ المذنبين من المؤمنين: الإبعاد عن الكرامة التي وعد بها من لم يَخُضْ في ذلك الذنب، ومنه قوله - ﷺ -: "مَن احتكر فهو ملعون"؛ أي: من ادّخر ما يشتريه وقت الغلاء لبيعه وقت زيادة الغلاء، فهو مطرودٌ من درجة الأبرار لا من رحمة الغفار.
واعلم: أن الصفات المقتضية للعن ثلاثٌ: الكفر، والبدعة، والفسق، وله في كل واحدة ثلاث مراتب:
الأولى: اللعن بالوصف الأعم، كقولك: لعنة الله على الكافرين، أو المبتدعة والفسقة.
والثانية: اللعن بأوصافٍ أخصَّ منه، كقولك: لعنة الله على اليهود والنصارى، أو على القدريّة، والخوارج، والروافض، أو على الزُّناة والظلمة، وآكل الربا، وكُلُّ ذلك جائزٌ.
والثالثة: اللعن علي الشخص، فإن كان ممن ثبت كفرهم شرعًا، يجوز لعنه
(٢) روح البيان.
قال بعضُهم: لَعْنُ يزيد على اشتهارِ كفره، وتواترِ فظاعةِ شرّه؛ لَمَّا أنَّه كفَرَ حين أمر بقتل الحُسين - رضي الله عنه - ولمَا قال في الخمر:
فإنْ حُرِّمَتْ يومًا على دينِ أَحمدٍ | فخُذْهَا على دينِ المسيحِ ابنِ مريمِ |
ثم اعلم (١): أن اللعنة ترتدُّ على اللاعن إن لم يكنْ الملعون أهلًا لذلك، ولعن المؤمن كقتله في الإثم، وربَّما يلعن شيئًا من ماله، فتنزع منه البركة، فلا يلعن شيئًا من خلق الله تعالى، لا للجماد ولا للحيوان، ولا للإنسان، قال - ﷺ -: "إذا قال العبد لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربّه" فالأولى أن يترك، ويشتغل بدله بالذكر والتسبيح، إذ فيه ثوابٌ، ولا ثواب في اللعن، وإن كان يستحقُّ اللعن.
٩٠ - ﴿بِئْسَمَا﴾ نكرةٌ موصوفة منصوبةٌ على التمييز، مفسّرةٌ لفاعل بئس المحذوف وجوبًا، تقديره: بئس وقبح الشيء شيئًا ﴿اشْتَرَوْا﴾ صفة لما، واشترى بمعنى: باع وابتاع، والمراد هنا الأوَّل ﴿بِهِ﴾ عائد إلى ﴿مَا﴾؛ أي: بذلك الشيء ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ المرادُ (٣) بها الإيمان، وإنَّما وضع الأنفسَ موضع الإيمان؛ إيذانا بأنّها إنّما خُلقت للعلم، والعملِ به المُعبَّر عنه الإيمان، ولمّا بدّلوا الإيمان بالكفر كانوا كأنّهم بدَّلوا الأنفس به؛ أي: بئس الشيء شيئًا باعوا به أنفسهم؛ أي: إيمانَهم، والمخصوص بالذمِّ ما ذكره بقوله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على محمد - ﷺ -؛ أي: بالكتاب المصدِّق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته؛ أي: والمخصوص بالذمّ كفرهم بالقرآن الذي أنزل الله سبحانه على محمد - ﷺ -، المصدّق للتوارة التي معهم ﴿بَغْيًا﴾ علّة (٤) لأنْ يَكْفُروا أي: حسدًا وطلبًا لما ليس لهم، كما أنّ الحاسد يطلب ما ليس له لنفسه مما للمحسود من
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
وقرأ أبو عمرو (١)، وابن كثير: جميع المضارع مخفَّفًا من أنزل، إلّا ما وقع الإجماع على تشديده وهو في الحِجْرِ ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ﴾ إلّا أن أبا عمرو شدَّد ﴿على أن ننزل﴾ آيةٌ في الأنعام، وابن كثير شدد، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ و ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا﴾ وشدَّد الباقون المضارع حيثما وقع إلّا حمزة، والكسائي فخفَّفا ﴿وينزل الغيث﴾ في آخر لقمان ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ في الشورى والهمزة والتشديد كُلٌّ منهما للتعدية.
﴿فَبَاءُوا﴾ أي: رجعوا وانصرفوا من الله ملتبسين ﴿بِغَضَبٍ﴾ كائنٍ ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ أي: احتملوا بلعنةٍ من الله بسبب كفرهم بمحمد - ﷺ -، وبالقرآن مع غضبٍ استحقُّوه، أوَّلًا بتضييع التوراة وبتبديله، وبالكفر بعيسى؛ أي: استحقُّوا غضبًا لاحقًا مع غضبٍ سابقٍ لهم، فاستحقُّوا لعنةً بعد لعنةٍ لأمور صدرت منهم،
ودلَّت الآية على أنَّ عذاب المؤمنين تأديبٌ وتطهيرٌ، وعذاب الكافرين إهانةٌ وإذلالٌ، وأنّ المراتب الدُّنيويَّة والأخرويَّة كُلَّها من فيض الله وفضله، فليس لأحدٍ أن يعترض عليه، ويحسده على الألطاف الإلهيَّة، فإنَّ الكمالات، مثل: النبوّة والولاية، ليست من الأمور الاكتسابيَّة التي يصل إليها العبد بجهد كثير، وكمال اهتمامٍ.
والمعنى: أي (٢) ولهم بسبب كفرهم عذابٌ يصحبه إهانةٌ وإذلالٌ في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فيما يصيبهم من الخزي، والنكال، وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأمّا في الآخرة فبخلودهم في جهنَّم وبئس المصير. ثمَّ ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله - ﷺ -، فقال:
٩١ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: وإذا قال المسلمون لليهود الموجودين في عصر النبي - ﷺ - في المدينة وما حولها، ومعنى اللام: الإنهاء، والتبليغ. وإسناد ﴿قِيلَ﴾ إلى ﴿آمِنُوا﴾ إسنادٌ له إلى لفظه، كأنّه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول، كقولك: أُلِّف (ضَرَبَ) من
(٢) المراغي.
ثمَّ اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادِّعَائهم الإيمانَ بالتوراة (١)، والتوراة لا تسوِّغ قتل نبي بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد! تبكيتًا لهم من جهة الله تعالى، ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم؛ أي: إلزامًا وبيانًا لكفرهم بالتوراة التي ادَّعوا الإيمان بها، إذا كان إيمانكم بالتوراة صحيحًا ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ أي فلم قتلتم أنبياء الله ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل نزول القرآن، كزكريَّا ويحيى ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالتوراة حقًّا، فإنَّ في التوراة تحريمَ القتل بغير حقّ، فأيُّ كتاب جوَّز لكم قتلهم؟ والمعنى: أنّهم لو آمنوا بالتوراة لما قتلوا الأنبياء، فآلَ أمْرُهُم إلى كفرهم بجميع ما أنزل الله تعالى، لا بالبعض فقط كما ادَّعوه.
فإن قلت: الخطاب (١) مع الموجودين في زمن النبي - ﷺ -، فلم خوطبوا بالقتل مع أنَّ قتل الأنبياء ليس واقعًا منهم، بل من أسلافهم؟.
قلتُ: خوطبوا بذلك؛ لأنّهم رضوا بفعل أسلافهم، والرضا بالكفر كفرٌ؛ أو لأنّهم أصرُّوا على قتل محمدٍ - ﷺ -، وقد تسبَّبُوا في ذلك مرارًا، كما مرّ. وعبارة "الروح": وأسند فعل الآباء وهو القتل إلى الأبناء؛ للملابسة بين الآباء والأبناء. اهـ.
قال أبو الليث: وفي الآية دليل على أنّ من رضي بالمعصية، فكأنَّه فاعلٌ لها؛ لأنّ اليهود راضون بقتل آبائهم، فسمَّاهم الله تعالى قاتلين، حيث قال: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ الآية. وقرأ نافع وحده ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ مهموزًا في جميع القرآن، ووقف (٢) البزّيُّ (فَلِمَهْ) بالهاء، ووقف غيره بغير هاء، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار، أو لانقطاع النفس. وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ شرط جوابه محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم، وهو تكريرٌ للاعتراض؛ لتأكيد الإلزام، وتشديد التهديد. وقيل: ﴿إن﴾ نافية؛ أي: ما كنتم مؤمنين؛ لأنَّ من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمنًا، فأخبر تعالى: أنَّ الإيمان لا يجامع مع قتل الأنبياء؛ أي ما اتَّصف بالإيمان مَنْ هذه صفته. قيل: والأظهر أنَّ ﴿إن﴾ شرطية، والجواب محذوف كما مرَّ آنفًا.
٩٢ - ثمّ ذكر سبحانه: أنّهم كفروا بالله مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه
(٢) البحر المحيط.
الإعراب
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجرّ بإضافة ﴿إذ﴾ إليها، والظرف في محل النصب معطوف على الظروف السابقة المعطوفة على ﴿نِعْمَتِيَ﴾ تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! وقت أخذنا ميثاقكم ﴿لَا﴾ نافية ﴿تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جملة مفسّرة للميثاق لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وإذ أخذنا ميثاقكم وقلنا: لا تسفكون دماءَكم ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة ﴿لَا﴾ نافية ﴿تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتخرجون، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تَسْفِكُونَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجرّ معطوفة على جملة ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو حالية ﴿أنتم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَشْهَدُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من تاء ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾، تقديره: حالة كونكم شاهدين على آبائكم قبول ذلك الميثاق.
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ ها حرف تنبيه ﴿أولاء﴾ اسم إشارة للجمع المطلق في محل النصب منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء للتخفيف، مبني بضمّ مقدّر على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة البناء الأصلي، وجملة النداء جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به
أحدها: عوده على ما بعده لزومًا، إذ لا يجوز للجملة المفسِّرة له أن تتقدَّم عليه، ولا شيءٌ منه.
الثاني: أنَّ مفسِّره لا يكون إلّا جملةً.
الرابع: أنّه لا يعمل فيه إلّا الابتداء، أو ناسخٌ.
الخامس: أنّه ملازم للإفراد، ومن أمثلته: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾. اهـ. "كرخي".
﴿مُحَرَّمٌ﴾ خبر مقدّم، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بمحرّم. ﴿إِخْرَاجُهُمْ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبرٌ لضمير الشأن، ولم يحتج هنا إلى عائدٍ على المبتدأ؛ لأنَّ الخبر نفس المبتدأ وعينه. اهـ. "كرخي"، والجملة الاسمية من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ على كونها حالًا من فاعل ﴿تخرجون﴾، تقديره: وحالة كونكم محرّمًا عليكم إخراجهم، ولكنّها حالةٌ سببيّةٌ، أو من مفعوله، أو منهما، وما بينهما اعتراض.
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، تقديره: أتفعلون ذلك، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ﴿تؤمنون﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة ﴿بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتؤمنون ﴿وَتَكْفُرُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تؤمنون﴾ ﴿بِبَعْضٍ﴾ متعلق بتكفرون ﴿فَمَا﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفتم قبح صنيعكم، وأردتم بيان جزاء من يفعل ذلك، فأقول لكم: ما جزاء ﴿مَا﴾ نافيةٌ مهملةٌ؛ لانتقاض نفيها بإلَّا ﴿جَزَاءُ﴾ مبتدأ، وهو مضاف ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الجرّ مضاف إليه ﴿يَفْعَلُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾ مفعول به، والجملة صلةُ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد ضمير الفاعل ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوفٍ حالٍ من فاعل ﴿يَفْعَلُ﴾، تقديره: حالة كونه كائنًا منكم ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرّغ ﴿خِزْيٌ﴾ خبر
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)﴾:
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿الَّذِينَ﴾ خبره، والجملة مستأنفة ﴿اشْتَرَوُا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل ﴿الْحَيَاةَ﴾ مفعول به ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة للحياة ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ متعلّق باشتروا ﴿فَلَا﴾ الفاء حرف عطف وتفريغ، ﴿لَا﴾ نافية ﴿يُخَفَّفُ﴾ فعل مضارع مغيَّر الصيغة ﴿عَنْهُمُ﴾ متعلق به ﴿الْعَذَابُ﴾ نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اشْتَرَوُا﴾ على كونها صلة الموصول ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة ﴿لَا﴾ نافية ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُنْصَرُونَ﴾ خبره، تقديره: ولا هم منصورون، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ﴾ عطف إسميةٍ على فعليّة.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو استئنافية ﴿لقد﴾ اللام موطِّئةٌ للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿آتَيْنَا﴾ فعل وفاعل، وهو بمعنى، أعطينا يتعدَّى لمفعولين ﴿مُوسَى﴾ مفعول أوّل ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلٌ لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ الواو عاطفة قفينا فعل وفاعل معطوفٌ على آتينا وهو بمعنى جئنا يتعدّى إلى المفعول بواسطة حرف الجر ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقفَّيْنا، أو متعلقٌ بمحذوفٍ حال من الرُّسل ﴿بِالرُّسُلِ﴾ جار ومجرور متعلِّق بقفينا أيضًا ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل معطوف على ﴿قفينا﴾. ﴿ابْنَ﴾ هو بدل أو صفة لعيسى ﴿مَرْيَمَ﴾ مضاف إليه مجرور بالفتحة للعَلَميَّة والعجمية، أو التأنيث المعنوي ﴿الْبَيِّنَاتِ﴾ مفعول ثان منصوب بالكسرة ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آتينا﴾. ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأيدناه ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ﴾ الهمزة للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة لجواب كلّما على ذلك المحذوف؛ لأنّ حقَّ الهمزة والفاء أن يدخلا على الجواب؛ لأنّه المستفهم عنه، والموبَّخ عليه، والمعيَّر به، والتقدير: أدمتم على التكذيب يا معشر اليهود! واستكبرتم عن الإيمان كلّما ﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ﴾. ﴿كلّما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبنيٌّ على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلِّق بالجواب ﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ فعل ومفعول به وفاعل، و ﴿جاء﴾ هنا بمعنى: أتى يتعدَّى إلى المفعول بلا واسطة حرف جرٍّ، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿كلّما﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بجاءكم ﴿لَا﴾ نافية ﴿تَهْوَى﴾ فعل مضارع ﴿أَنْفُسُكُمُ﴾ فاعل، والجملة صِلةٌ لما الموصولة لا محل لها من الإعراب، والعائد محذوف، تقديره: بما لا تهواه أنفسكم ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿كُلَّمَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كلّما﴾ من فعل شرطها وجوابها، جملةٌ إنشائيّة لا محل لها من الإعراب ﴿فَفَرِيقًا﴾ الفاء عاطفة ﴿فَرِيقًا﴾ مفعول به مقدَّم لكذبتم؛ قُدِّم للاهتمام به ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو استئنافية ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وعطف، للإضراب الإبطالي ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ماض ومفعول مقدّم وفاعل مؤخر وجوبًا ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ مُتعلِّق بلعنهم، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾، ﴿فَقَلِيلًا﴾ الفاء استئنافية، أو عاطفة ﴿قليلًا﴾ منصوب على المصدرية بيؤمنون، قدّم عليه؛ لرعاية الفاصلة؛ لأنّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: يؤمنون إيمانًا قليلًا، أو منصوب على الظرفية بيؤمنون أيضًا؛ لأنّه صفة لزمان محذوف، تقديره: أي يؤمنون زمانًا قليلًا، أو على الحالية من فاعل ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: حال كونهم جمعًا قليلًا و ﴿مَا﴾ زائدة؛ زيدت لتأكيد القلّة، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أو مستأنفة.
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو استئنافية ﴿لمَّا﴾ حرف شرط غير جازم ﴿جَاءَهُمْ﴾ فعل ومفعول به ﴿كِتَابٌ﴾ فاعل، والجملة فعل شرطٍ للمَّا لا محل لها من الإعراب ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة أولى لكتاب، تقديره: منزَّلٌ من عند الله ﴿مُصَدِّقٌ﴾ صفة ثانية لكتاب، وفي قراءة: بالنصب على الحال من ﴿كِتَابٌ﴾ كما مرّ ﴿لِمَا﴾ اللام حرف جرٍ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجرّ باللام متعلِّق بمصدق ﴿مَعَهُمْ﴾ (مع) منصوب على الظرفية، والهاء ضمير الغائبين في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوفٍ صلة ﴿لِمَا﴾ الموصولة، وجواب ﴿لِمَا﴾ محذوف؛ لعلمه من جواب ﴿لمَّا﴾ الآتية، تقديره: كذّبوه وأنكروه، وجملة ﴿لِمَا﴾ مع جوابها المحذوف مستأنفة ﴿وَكَانُوا﴾ الواو حالية ﴿كانوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿مِن﴾ حرف جر ﴿قَبْلُ﴾ ظرف زمان في محل الجر بمن، مبني على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا؛ لافتقاره إلى المضاف إليه
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠)﴾.
﴿بِئْسَمَا﴾ ﴿بئس﴾ فعل ماض من أفعال الذمّ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: يعود على شيء ﴿مَا﴾ نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب تمييز لفاعل ﴿بئس﴾. ﴿اشْتَرَوْا﴾ فعل وفاعل ﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق باشتروا، والجملة صفة لما، والرابط ضمير ﴿بِهِ﴾. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لما، ولكنّها سببية، والتقدير: بئْسَ الشيء شيئًا مشترًى به أنفسهم ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يَكْفُرُوا﴾ فعل مضارع منصوب بأن، والواو فاعل ﴿بِمَا﴾ جار - ومجرور متعلق بيكفروا ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: بما أنزل الله به، وجملة ﴿يَكْفُرُوا﴾ صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية و ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، على كونه
ويُعْرَبُ المَخْصُوص بَعْدَ مُبْتَدَا | أوْ خَبَر اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أبدَا |
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)﴾.
وفي "الفتوحات الإلهية" قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ في ﴿إن﴾ قولان:
أحدهما: أنّها شرطيّة، وجوابها محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين، فَلِم فعلتم ذلك، ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين، فحذف الشرط من الجملة الأولى، وبقي جوابها وهو فلِمَ تقتلون، وحذف الجواب من الثانية، وبقي شرطه، فقد حُذف من كل واحدٌ ما أثبت في الأخرى، فيُسمَّى هذا احتباكًا، عند البديعيين، وقال ابن عطيّة: جوابها متقدّم وهو قوله: ﴿فَلِمَ﴾ وهذا إنّما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأبي زيد.
والقول الثاني: أَنّ ﴿إِن﴾ نافية بمعنى (ما)، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاة ما صدر منكم للإيمان. اهـ. "سمين".
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو عاطفة جملة القسم على جملة قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ على كونها مقولًا لقل، أو استئنافية، واللام موطِّئة للقسم ﴿قَدْ﴾ حرف
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا تَسْفِكُونَ﴾ السفك: الصبُّ والإراقة، وفي "المصباح"؛ سفكت الدمع والدمّ سَفْكًا من باب ضرب، وفي لغةٍ من باب قتل، أَرَقْتُه، والفاعل السَّافِكُ وسَفَّاكٌ مبالغةٌ. اهـ. وفي "السمين": وقرىء: ﴿لَا تَسْفُكُون﴾ بضم الفاء، وتُسْفِكُون من أسفك الرباعيِّ. اهـ.
﴿دِمَاءَكُمْ﴾ جمع دم، والدم معروفٌ وهو محذوف اللام، وهي ياءٌ لقول الشاعر:
لَقَدْ جَرَى الدَّمْيانِ بِالخَبرِ اليْقِينِ
أو واوٌ لقولهم: (دَمَوان) ووزنه فَعْلٌ، وقيل: فَعَلٌ، وقد سمع مقصورًا، قال:
غفلَتْ ثُمَّ أتَتْ تَطْلُبُهُ | فَإذا هِيَ بعِظَامٍ وَدَمَا |
في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدَّد الميم، قال الشاعر:
أَهَانَ دَمَّكَ فَرْغًا بَعْدَ عِزَّتِهِ | يَا عَمْرُو نَعْيُكَ إصْرارًا عَلَى الحَسَدِ |
﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ أقرَّ الشي اعترف به، والإقرار: شهادة المرء على نفسه وهو مجازٌ عن القبول، والرضا بالشيء. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ﴾ تتعاونون عليهم كأنَّ المتظاهرين يسند كُلُّ واحد منهم ظهره إلى صاحبه، والظهر المعين، قريء
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِى قدْ يُقْتَصَرْ | فِيهِ عَلَى تَا كَـ (تَبَيَّنُ) العِبَرْ |
﴿أُسَارَى﴾ وفي "المصباح": أنَّ كُلًّا من أسرى، وأُسارى جمع أسير، وفي "السمين": يحتمل أنَّ أُسارى جمع أسرى، وأسرى جمع أسير. اهـ. وفي "البحر": الأسرى: جمع أسير، وفعلى مقيسٌ في فعيلٍ بمعنى: مُمْسَكٍ، أو مُوجَعٍ، كقتيلٍ، وجريحٍ، وأمّا الأُسارى فقيل: جمع أسير، وسمع الأَسارى بفتح الهمزة، وليست بالعالية، وقيل أُسارى: جمع أسرى، فيكون جمع الجمع، قاله المفضَّلُ. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى من في اليد، والأسارى من في الوِثاقِ، والأسير هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة ﴿تُفَادُوهُمْ﴾؛ أي: تنقذوهم. من الأسر بالمال، وفي "المختار": فاداه، وفداه: أعطى فداءه من المال، أو الرجال، فأنقذه. اهـ. وفي "البحر" الفداء بالكسر فيُمدُّ، كما قال النابغة:
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الأقْوَامُ كُلُّهُم | وَمَا أثْمَرُوا مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ |
فِدًا لله مِنْ رَبِّ طَرِيْفِي وَتالِدِي
وإذا فُتح أوّلهُ قصر يقال قُمْ فَدًا لَكَ أَبِي قاله الجوهري، ومعنى: فَدَى فلانٌ فلانًا أي أعطى عوضه.
﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾ المحرَّم: اسم مفعول من حرَّم، وهو راجع إلى معنى المنع، تقول: حرَّمه يحرِّمه إذا منعه ﴿فَمَا جَزَاءُ﴾ الجزاء: المقابلة، ويطلق في الخير والشرّ، والهمزة فيه مبدلة من ياء؛ لتطرّفها إثر ألفٍ زائدة، فالأصل: جزايُ ﴿إِلَّا خِزْيٌ﴾ الخزي: الهوان، قال الجوهري: خَزِي بالكسر يخزَى خِزْيًا، وقال ابن السكيت: وقع في بليّةٍ، وأخزاه الله أيضًا، وخزِي الرجل في نفسه، يخزى خزايةً إذا استحيا وهو خزيانٌ، وقومٌ خَزَايا، وامرأةٌ خَزْيا، وفي "المصباح": خَزِي خِزْيًا من باب علم، إذا ذَلَّ وهان، وأخزاه الله أذلَّه وأهانه، وخَزِي خَزايةً بالفتح وهو الاستحياء، فهو خَزْيانٌ. اهـ. ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾ تقدَّم أن ألف الحياة منقلبةٌ عن واو ﴿الدُّنْيَا﴾ وصفٌ جاء على وزن فعلى هو من الدُّنُوِّ بمعنى: القرب، والمعروف أنَّ فُعلى إذا كانت وصْفًا، وكانت لامُها واوًا أُعِلَّت؛ أي: أبدلت ياءً، كما في الدنيا، أصلها: الدُّنْو، أبدلت الواو ياءً، وسلمت في الاسم فلم تُبْدَل، ولم يأت ذلك في القرآن، ولكن ورد في "لسان العرب"، قال ذُو الرُّمَّةِ:
أَدَارٌ بِحُزْوَى هُجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً | فَمَاءُ الهَوَى يَرْفَضُّ أوْ يَتَرَقْرَقُ |
مِنْ لاَمِ فَعْلَى اسْمًا أتَى الوَاوُ بَدَلْ | يَاءٍ كَتَقْوَى غَالِبًا جَا ذَا البَدَلْ |
بِالعَكْسِ جَاءَ لاَمُ فُعْلَى وَصْفاَ | وَكَوْنُ قُصْوَى نَادِرًا لا يَخْفَى |
قَالَتْ لأخْتٍ لَهُ قُصِّيْهِ عَنْ جُنُبٍ | وَكيَفْ تَقْفُو ولا سَهْلَ ولا جُدَدُ |
﴿بِالرُّسُلِ﴾ جمع رسول بمعنى: المرسل، ولا ينقاس فُعْلٌ في فعول بمعنى مفعول، وتسكين عينه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة بني تميم ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ عيسى: اسمٌ أعجميٌّ، علم لا يصرف للعجمة والعَلَميَّة، ووزنه عند سيبويه: فِعْلى، والياء فيه مُلْحَقةٌ ببنات الأربعة بمنزلة ياء معزى؛ يعني: بالياء، الألف سمَّاها ياءً؛ لكتابتهم إيّاها ياءً. قال أبو علي: وليست، ألفه للتأنيث، كالتي في ذكرى؛ بدلالة صرفهم له في النكرة، ومن زعم أنّه مشتقٌّ من العيس وهو بياضٌ يخالطه شُقْرةٌ، فغير مُصيب؛ لأنَّ الاشتقاق العربيَّ لا يدخل الأسماء الأعجمية ﴿ابْنَ مَرْيَمَ﴾ مريم باللُّغة السريانية، معناه: الخادم، وسُمّيت به أمُّ عيسى، فصار علمًا، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية، ومريم باللِّسان العربي من النساء، كالزِّيْرِ من الرجال، وبه فُسِّر قول رؤْبة:
قُلْتُ لِزِيْرٍ لَمْ تَصلْهُ مَرْيَمُهْ
والزِّيْرُ: الذي يُكْثِرُ خُلطةَ النساء وزيارتَهنّ، والياء فيه مبدلة من واو، كالريح، إذ هما من الزَّوْرِ، والرَّوْحِ، فصار هذا اللفظ مشتركًا بالنسبة إلى اللِّسانين، ووزن مَرْيَم عند النحويِّين مَفْعَلٌ؛ لأنَّ فَعْيَلًا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية، كما ثبت نحو: عَثْبَرٍ، وعَلْبَبٍ. قاله الزمخشري، وغيره ﴿الْبَيِّنَاتِ﴾ جمع بَيِّنَة بوزن فَيْعِلَة، فأصلها: بَيْيَنَةٌ بوزن فيْعَلَة، أدغمت ياء فيعل في عين الكلمة، وكذلك بَيِّنَاتٌ وَزْنُه فَيْعِلاتٌ، والبَيّنُ: الواضح من كل شيء من بان إذا وضح وظهر. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ وفي "المختار": آد الرجل: اشتدَّ وقوى، وبابه: باع، والأيد والآد بالمدِّ: القوَّةُ، تقول: أيَّده تأييدًا، والفاعل منه مُؤيِّد بوزن مُكَرِّم، وتأيَّد الشيء تقوَّى، ورجلٌ أيِّدٌ بوزن جَيّدٍ؛ أي: قَوِيٌّ. اهـ. يقال: أيَّد تأييدًا من باب
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ وفي "السمين": وغُلْفٌ بسكون اللام: جمع أغلف، كأحمر وحُمْرٍ، وأصفر وصفر، وهو الذي لا يفقه، والمعنى على هذا: إنّها خلقت وجبلت مُغشَّاةً لا يصل إليها الحق. اهـ. أو جمع غلافٍ وهو الغشاء، فيكون أصله التثقيل فخفِّف. اهـ. من "البحر" ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ واللَّعْنُ: الطَّرد والإبعاد، يقال: شَأْوٌ لَعِينٌ؛ أي: بعيدٌ، وقال الشَّمَّاخُ:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنُغَيْتُ عَنْهُ | مَقامَ الذِئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِيْنِ |
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾؛ أي: لا تُسَبِّبُوْا في إراقة دمائكم؛ لأنَّ من أراق دم غيره، فكأنَّما أراق دم نفسه، فهو من باب المجاز بأدنى ملابسةٍ؛ أو لأنّه يوجب قصاصًا، فهو من باب إطلاق المسبَّب وإرادة السبب.
ومنها: الاستعارة التصريحيَّة التبعيَّة في قوله: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾؛ لأنّه استعار الإقرار لقبول الميثاق ورضاه، ثُمَّ اشتقَّ منه أقررتم بمعنى: قبلتم على طريقة الاستعارة التصريحية التبعيَّة.
ومنها: الإسناد العقليُّ في قوله: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾؛ لأنَّ الإقرار إنَّما وقع للأسلاف، فأسنده إلى الأخلاف الذين خوطبوا بهذا الكلام؛ لرضاهم بما فعل أسلافهم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ عبَّر عن قتل الغير
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾.
ومنها: بيان جزائهم بطريق القصر في قوله: ﴿إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم بِبَعْضِ الكتاب، وإظهار أنّه لا أثر له أصلًا مع الكفر ببعض.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿إِلَّا خِزْيٌ﴾؛ لإفادة التهويل والتفخيم.
ومنها: الاستعارة المكنية التبعية في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ حيث استعار الشراء للاستبدال تقدّم نظيرها.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ فإنّه أطلق الملزوم الذي هو الإيمان، وأراد لازمه الشرعي وهو فعل الواجبات، وترك المنهيات، وقد فعلوا بعض الواجبات، وهو الفداء، ولم يتركوا المحرم، وهو القتال والإخراج.
ومنها: تقديم المفعول على عامله في قوله: ﴿فريقا كذّبتم﴾ وقوله: ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾؛ للاهتمام به، وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه؛ وللفاصلة.
ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: ﴿فريقا تقتلون﴾ ولم يقل قتلتم، كما قال ﴿كذبتم﴾؛ لأنّ الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة، يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغًا عظيمًا، فكأنّه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السَّامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم، ويسمَّى هذا عند البلغاء: حكايته الحال الماضية، وصورتها: أن يُقدَّر، ويفرض الواقع في الماضي واقعًا وقت التكلُّم، ويخبرَ عنه بالمضارع الدال على الحال اهـ. من "الفتوحات".
ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ أي:
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أغلف مستعارٌ من الأغلف الذي لا يُختَن؛ أي: مغشَّاةٌ بالغشاء المعنويِّ، كما أنَّ الحشفة مُغطَّاةٌ بالقُلْفة.
ومنها: زيادة ما في قوله: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ لإفادة المبالغة في القِلَّة.
ومنها: وصف الكتاب بكونه من عند الله في قوله: ﴿كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ للتشريف.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ حيث لم يقل: عليهم؛ للدلالة على أنَّ اللَّعنة لحقتهم لكفرهم.
ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾؛ حكايةً للحال الماضية، واستحضارًا لفعلهم الشَّنِيع.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ حيث لم يقل: ولهم؛ للإشعار بعِلِّية كفرهم لما حاق بهم.
ومنها: المجاز العقليُّ في قوله: ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ حيث أسند الإهانة إلى العذاب؛ لكونه سببها.
ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ حيث لم يقل: فلم قتلتم أنبياء الله؛ لحكاية الحال الماضية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في الآيات السالفة معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد - ﷺ -، وما جاء به من الآيات البينات، كقولهم: إنهم مؤمنون بكتابٍ من ربّهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فَنَقَض دعواهم، وأَلْزمَهم الحجة، وقولَهم: إنّهم ناجون حتمًا في الآخرة؛ لأنّهم شَعْبُ الله وأبناؤُه، فأبطل مزاعمهم، ودَحضَ حُجَجهم... ذكر (٢) هنا تَعِلَّةً أخرى هي أعجبُ من كل ما تقدَّم، وفنَّدَها كما فنَّد ما قبلها، تلك هي قولهم: إنَّ جبريل الذي يَنِزل على محمد - ﷺ - بالوحي عدوُّهم، فلا يؤمنون بما يجيء به منه، وقد أُثِر عنهم عدَّة روايات تشرحُ هذه المقالةَ:
منها: أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا، سأل النبي - ﷺ - عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال: هو جبريل، فقال ابن صوريا: هو عدو اليهود؛ لأنّه أنذرهم بخراب بيت المقدس، فكان ما أنذر به.
ومنها: أنّ عمر بن الخطاب دخل مِدْراسهم، فذكر جبريل، فقالوا: ذاك
(٢) المراغي.
ولا شكّ أنّ هذا منهم دليل على خطل الرأي، وعدم التدبُّر، وإنّما ذكره الكتاب الكريم؛ ليستبين للناس حجج أهل الكتابِ، ويعرفوا مِقدارَ مِرائهِم وسخفهم في جَدَلهِم، وأنهم ضعات الأحلام، قليلوا التَدبرِ في عواقب ما يقولون.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذَكَّر فيما سبق ببعض أحوالهم الشَّنيعة، ومقالاتهم القبيحة.. بيَّن في هذه الآيات حالًا من أحوالهم هي عِلَّةُ ما يصدر عنهم من جحود، وعناد، ومعاداةٍ للنبي - ﷺ -، هي أنَّ فريقًا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يَفْخَروُن حين جاء الرسول بكتابٍ مصدِّقٍ لما بين أيديهم، فإنَّ ما في كتابهم من البشارة بنبيٍّ يجيءُ من ولد إسماعيل لا ينطبق إلّا على هذا النبي الكريم، وليس المراد (١): أنّهم نبذوا الكتاب جملةً وتفصيلًا، بل نبذوا منه ما يُبشّر بالنبي - ﷺ -، ويُبيِّن صفاته، وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه، ولا شك أنَّ ترك بعضه كترك كله، إذ إنَّه يُذْهِب باحترام، ويفتح البابَ لترك الباقي، وهذا الجحود لم يكن بِضَائرٍ للنبي - ﷺ -، ولا لدعوته، وقد قبلها، واهتدى بها كثيرٌ من اليهود، ومن غيرهم، وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات، وأعمال صادَّةٍ عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجنّ، فاشتغلوا بالسحر، والشَّعوذة، والطلسمات التي نسبوها إلى سليمان، وزعموا أنَّ ملكه كان قائمًا عليها، وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين، فصدَّقوهم فيما زعموا منها، وكذّبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم، ويخطُّون خطوطًا، ويعملون طلسمات يسمُّونها خاتم سليمان، وعهودًا يزعمون أنّها تحفظ
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى، لما فرغ من الأحاديث الخاصَّة باليهود، انتقل إلى حديثٍ مشترك بينهم وبين المؤمنين، والنصارى في أمرٍ من أمور الدِّين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة إلّا من كان هودًا، فأنزل الله سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمع عبد الله بن سلام، مقدم رسول الله وهو في أرضٍ يخترف، فأتى النبي - ﷺ -، فقال: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيٌّ ما أوّلُ أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه؟ قال: أخبرني بهنّ جبريل آنفًا، قال جبريل: قال نعم، قال: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ...﴾.
قال شيخ الإِسلام ابن حجر العسقلانيُّ في "فتح الباري": ظاهر السياق: أن النبي - ﷺ - قرأ الآية ردًّا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد: فقد صحَّ في سبب نزول الآية: قصّةٌ غير قصّة عبد الله بن سلام، فأخرج أحمد، والترمذي، والنسائي من طريق بكر بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن
(٢) لباب النقول.
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده، وابن جرير عن طريق الشعبي: أنَّ عمر كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة، فيتعجَّب كيف تُصدِّق ما في القرآن، فمرَّ بهم النبيُّ - ﷺ -، فقلت: نشدتكم بالله، أتعلمون أنّه رسول الله؟ فقال عالمهم: نعم نعلم أنَّه رسول الله، قلت: فلم لا تتبعونه؟ قالوا: سألناه عمَّن يأتيه بنبوّته، فقال: عدوُّنا جبريل؛ لأنّه ينزل بالغلظة، والشدّة، والحرب، والهلاك، قلت: فمن رسلكم من الملائكة؟ قالوا: ميكائيل ينزل بالقطر، والرحمة، قلت: وكيف منزلتهما من ربّهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن الجانب الآخر قلت: فإنّه لا يحلُّ لجبريل أن يعادي ميكائيل، ولا يحلُّ لميكائيل أن يسالم عدوَّ جبريل، وإنني أشهد أنَّهما وربَّهما سِلْمٌ لمن سالموا، وحَرْبٌ لمن حاربوا، ثمَّ أتيت النبيَّ - ﷺ -، وأنا أريد أن أخبره، فلمَّا لقيته قال: ألا أخبرك بآياتٍ - أنزلت عليَّ؟ فقلت: بلى يا رسول الله! فقرأ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ حتى بلغ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ قلت: يا رسول الله! والله ما قمت من عند اليهود إلّا إليك، لأخبرك بما قالوا لي وقلت لهم، فوجدت الله سبقني. وإسناده صحيح إلى الشعبي، لكنّه لم يدرك عمر، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم من طريق آخر عن الشعبي، وأخرجه ابن جرير من طريق السدي، عن عمر، ومن طريق قتادة عن عمر، وهما أيضًا منقطعان.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آخر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنَّ يهوديًّا لقي عمر بن الخطاب، فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم هو عدوّ لنا، فقال عمر: من كان عدوًّا لله، وملائكته، ورسله، وجبريل، وميكائيل فإنَّ الله عدوُّه، قال: فنزلت على لسان عمر، فهذه طرقٌ يقوِّي بعضها بعضًا. وقد نقل ابن جرير الإجماع على أنَّ سبب الآية ذلك؛ أي: أنّها نزلت جوابًا لليهود، إذْ زعموا
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ...﴾ الآيتين، سبب نزولهما (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال ابن صوريا للنبيِّ - ﷺ -: يا محمد! ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة، فأنزل في ذلك: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ الآية. وقال: مالكُ بن الصيف حِينَ بُعِثَ رسول الله - ﷺ -، وذكَرَ ما أُخذ عليهم من الميثاق، وما عُهد إليهم في محمد، والله ما عُهِدَ إلينا في محمدٍ، ولا أُخذَ علينا ميثاق، فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا...﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن شهر بن حوشب، قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلُط الحقَّ بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، أفما كان ساحرًا يركب الريح؟! فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية: أنَّ اليهود سألوا النبيَّ - ﷺ -: زمانًا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلّا أنزل الله عليه ما سألوا عنه، فلمَّا رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منّا، وأنَّهم سألوا عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر (٢)، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود مالك ابن الصيف، ورفاعة بن زيد، إذا لقيا النبي - ﷺ - قالا وهما يكلِّمانه: راعنا سمعك، واسمع غير مسمع، فظنَّ المسلمون أنّ هذا اللفظ كان أهل الكتاب يعظِّمون به أنبيائهم، فقالوا للنبي - ﷺ - ذلك، فأنزل تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(٢) لباب النقول.
وأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن ابن عباس قال: راعنا بلسان - اليهود: السَّبُّ القبيح، فلمَّا سمعوا أصحابه يقولون، أعلنوا بها له، فكانوا يقولون ذلك، ويضحكون فيما بينهم، فنزلت هذه الآية، فسمعها منهم سعد بن معاذ، فقال لليهود: يا أعداء الله! لئن سمعتها من رجل منكم بعد هذا المجلس لأضربنَّ عنقه. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: كان الرجل يقول: أرعني سمعك، فنزلت الآية.
وأخرج عن عطية قال: كان أناسٌ من اليهود يقولون: أرعنا سمعك، حتى قالها أناسٌ من المسلمين، فكره الله لهم ذلك، فنزلت الآية. وأخرج عن قتادة قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك؛ فكان اليهود يأتون، فيقولون مثل ذلك، فنزلت الآية. وأخرج عن عطاء قال: كانت لغة الأنصار في الجاهليّة، فنزلت. وأخرج عن أبي العالية قال: إنّ العرب كانوا إذا حدَّث بعضهم يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك، فنهوا عن ذلك.
التفسير وأوجه القراءة
٩٣ - ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾؛ أي: العهد منكم؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! قصّة حين أخذنا العهد المؤكَّد باليمين منكم، على العمل بما في التوراة ﴿وَرَفَعْنَا﴾ أي: قلعنا وحبسنا ﴿فَوْقَكُمُ﴾؛ أي: فوق رؤوسكم ﴿الطُّورَ﴾ أي: جبله ليسقط عليكم حين أبيتم، وامتنعتم من قبول التوراة قائلين لكم: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾؛ أي: اعملوا بما أعطيناكم من الكتاب ﴿بِقُوَّةٍ﴾؛ أي: بجدٍّ واجتهادٍ ﴿وَاسْمَعُوا﴾ ما أمرتم به في الكتاب سماع قبول وطاعةٍ ﴿قَالُوا﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا: ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك بآذاننا، ولكن لا سماع طاعةٍ وقبولٍ ﴿وَعَصَيْنَا﴾ وخالفنا أمرك بقلوبنا، ولولا مخافة الجبل ما قبلنا في الظاهر، فإذا كان حال أسلافهم هكذا فكيف يتصوَّر من أخلافهم الإيمان؟ وقيل: إنّهم يقولون ذلك بألسنتهم، ولكن لَمَّا سمعوه وتلقَّوه، تلقوه بالعصيان، فنسب ذلك إليهم. وقيل كأنَّهم يقولون: لولا
وحقيقة (١) أُشربَه كذا جعله شاربًا لذلك، فالمعنى: جُعلوا شاربين حبَّ العجل نافذًا فيهم نفوذ الماء فيما يَتغَلْغَلُ فيه. قال الراغب: من عاداتهم إذا أرادوا محاصرة حبِّ، أو بغضٍ في القلب، أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ مساغًا في البدن، ولذلك قالت الأطباء: الماء مطيَّة الأغذية والأدوية ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بسبب كفرهم السابق لهم في مصر من الوثنية الموجب لذلك، والمعنى: حُبّب إليهم العجل، وخالط حبُّه قلوبهم، كما يخالط الشراب أجزاء البدن الباطنة. قيل: كانوا مُجسِّمةً، أو حُلُوليَّةً، ولم يروا جسمًا أعجب منه، فتمكَّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ، وجَعَل حلاوةَ عبادةِ العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم. وفي القصص: أنَّ موسى عليه السلام، لمَّا خرج إلى قومه أمَرَ أَنْ يُبْرَدَ العجل بالمِبْرد ثم يُدرَّى في النهر، فلم يبق نهرٌ يجري يومئذٍ إلّا وقع فيه منه شيءٌ، ثم قال لهم: اشربوا منه فمن بقي، في قلبه شيءٌ من حبّ العجل ظهَرَتْ سُحَالة الذَهب على شاربه؛ أي: خَرَجت بُرادَتهُ على شاربه، وهذا (٢) قولٌ يردُّهُ قولهُ: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾ وروي أنَّ الذين تبيَّن لهم حُبُّ العجل أصابهم من ذلك الماء الجُبْنُ، وبناؤه للمفعول في قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ دليلٌ على أنَّ ذلك فُعِل بهم، ولا يفعلُه إلّا الله تعالى. وقال أبو حيان: ومعناه: أنَّه داخلهم حبُّ عبادته، كما داخل الصبغُ الثوبَ، وأنشدوا:
(٢) البحر المحيط.
إِذا مَا القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ | فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ عَنْهُ انْصِرَافا |
جَرَى حُبُّها مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي | فَأصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بهَا شُغْلُ |
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِيْ | فَبَادِيْه مَعَ الخَافِي يَسِيرُ |
(٢) روح البيان.
والخلاصة: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل؛ يعني آباءهم، وكذلك كذبهم في قولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾ حيث قال:
٩٤ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد! أيضًا: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾؛ أي: نعيمها وهي الجنة مُدَّخرةً ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، ظَرْفٌ للاستقرار في الخير؛ أعني: لكم حالة كونها ﴿خَالِصَةً﴾؛ أي: خاصَّةً بكم منصوبٌ على الحالية من الدار؛ أي: إن كانت لكم الدار الآخرة حالة كونها سالمةً لكم خاصَّةً بكم ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ في محل النصب بـ ﴿خَالِصَةً﴾؛ أي: من دون محمد وأصحابه، فاللام في الناس للعهد، وتستعمل هذه اللفظة للاختصاص، يقال: هذا إليَّ من دون الناس؛ أي: أنا مختصُّ به؛ أي: ليس لأحد سواكم فيها حقٌّ بأن صحَّ قولكم ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾.
والمعنى: إن صحّ قولكم لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودًا ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾؛ أي: أَحِبُّوه، واسألوه بالقلب واللسان، وقولوا: اللهم! أمتنا، فإنَّ من أيقن بدخول الجنّة اشتاق إليها، وتمنَّى سرعة الوصول إلى النعيم، والتخلُّص من دار البوار، وقرارة الأكدار، ولا سبيل إلى دخولها إلّا بعد الموت، فاستَعْجِلُوه بالتَّمنِّي ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم: إنّ الجنة خاصَّةٌ لكم فتمنَّوه، وأصل التمنّي: تقدير شيء في النفس، وأكثر ما يستعمل فيما لا حقيقة له. قوله: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ فسَّرُوا الدار الآخرة بأنّها هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا، وسميت آخرة؛ لأنّها متأخّرة عن الدنيا، أو هي آخر ما يسكن، فتشمل الجنة والنار، ولكن الكلام هنا على تقدير مضاف؛ أي: نعيم الآخرة.
وقرأ الجمهور ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ بضمّ الواو، وهي اللغة المشهورة في مثل: اخشوا القوم، ويجوز الكسر؛ تشبيهًا لهذه الواو بواو لو استطعنا، كما شبَّهوا واو
وقد روي عن كثير من الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - تمنّي الموت عند القتال، معبِّرين بألسنتهم عمّا يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعدَّ الله للمؤمنين في الدار الآخرة، فقد جاء في الأخبار: أنَّ عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم:
يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ واقْتِرابها
طَيِّبةٌ وَبارِدٌ شَرابُها
والرُّومُ رُوْمٌ قَدْ دَنَا عَذابُهَا
وأنَّ عمَّار بن ياسر في حرب صفين قال:
غَدًا نَلْقَى الأحِبَّهْ... مُحمَّدًا وصَحْبَه
وروي عن حذيفة أنّه كان يتمنَّى الموت، فلما احتُضِر قال: (حبيبٌ جاء على فاقةٍ). وعن علي أنّه كان يطوف بين الصفين بغلالةٍ، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزيِّ المحاربين، فقال: يا بني! لا يبالي أبوك، أعلى الموت سقط أم عليه سقط الموت. وفي قصتي قتل عثمان، وسعيد بن جبير ما يدلُّ على اختيارهما
وروي عن النبي - ﷺ - (١): لو تمنَّوا الموت - يعني: اليهود - لغص كل إنسانٍ منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ، وذلك: أنَّ الله سبحانه، أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمنّي الموت، وأن يعلمهم أنَّه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيُّ - ﷺ - فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه فرقًا من الله سبحانه، وهذا من المعجزات؛ لأنّه إخبارٌ بالغيب، وكان كما أخبر به ولو وقع من أحد منهم تمني موته لنقل واشتُهر.
وحاصل معنى الآية: أي إن صدق (٢) قولكم وصحت دعواكم: أنَّ الجنة لا يدخلها إلّا من كان هودًا، وفي أنّكم شعب الله المختار، وأنَّ النار تمسُّكم أيامًا معدودات، فتمنَّوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم، الخالص، الدائم، الذي لا ينازعكم فيه أحدٌ، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة، ويختار الشقاء، فإن لم تتمنَّوه، بل كنتم شديدي الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقي الإيمان، وهذه حجةٌ تنطبق على الناس عامَّة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانًا يزنون بها دعواهم اليقين بالإيمان، والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل الله، والذود عن الدين، كانوا مؤمنين حقًّا، وإن ضنُّوا بها وكانوا شديدي الحرص على الحياة إذا جدَّ الجِدُّ، ودعا الداعي، كانوا بعكس ما يدَّعون.
٩٥ - ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾؛ أي: الموت ﴿أَبَدًا﴾ أي: في جميع الزمن المستقبل؛ لأنّ
(٢) المراغي.
فإن قلت: لِمَ قال هنا (لن) وفي الجمعة (لا)؟
قلت: لأنَّ (لن) أبلغ في النفي من (لا) حتى قيل: إنّها لتأبيد النفي، ودعواهم في (البقرة) بالغةٌ قاطعةٌ، وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص، فناسب ذكر (لن) فيها، ودعواهم في الجمعة قاصرةٌ مردودة، وهي زعمهم أنّهم أولياء لله، فناسب ذكر (لا) فيها. انتهى من "فتح الرحمن".
والمعنى: أي ولن يقع منهم هذا التمنِّي بحالٍ؛ لأنّهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي، والذنوب التي يستحقون بها العقوبة، كتحريف التوراة وتبديلها، وتكذيب محمد - ﷺ - مع البشارة به في كتابهم.
وخصَّ الأيدي بالذكر (٢)؛ لأنّ الأعمال غالبًا تكون بها، وهي من بين جوارح الإنسان مناط عامَّة صنائعه، ومدار أكثر منافعه، ولذا عبَّر بها تارةً عن النفس، والشخص، كما هنا، والأخرى عن القدرة ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾؛ أي: بالكافرين من اليهود، والنصارى، وغيرهم؛ أي: محيط علمه بهم، وبما صدر عنهم، وسيجازيهم عليه، ففيه معنى التهديد، والتخويف لهم، وإنّما (٣) خصَّهم بالظلم؛ لأنّه أعمّ من الكفر عمومًا وخصوصًا مطلقًا؛ لأنّ كلَّ كافر ظالم، وليس كل ظالم كافرًا، فلهذا كان أعم، وكانوا أولى به.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
فإن قلت: الذين أشركوا قد دخلوا في الناس في قوله: ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ﴾ ولمَ أفردهم بالذكر؟
قلت: أفردهم بالذكر؛ لشدَّة حرصهم على الحياة، وفيه توبيخٌ عظيم لليهود؛ لأنَّ الذين أشركوا لا يؤمنون بالمعاد، ولا بالمجازاة، ولا يعرفون إلّا الحياة الدنيا، فلا يستبعد حرصهم عليها؛ لأنّها جنّتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتابٌ، وهو مقرٌّ بالبعث والجزاء، كان حقيقًا بالتوبيخ العظيم.
فإن قلت: لِمَ زاد حرصهم على حرص المشركين؟
قلت: لأنّهم علموا لعلمهم بحالهم أنّهم صائرون إلى النار لا محالة، والمشركون لا يعلمون ذلك. وقيل: إنّ الواو في قوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ استئنافية، تقديره: ومن الذين أشركوا أُناسٌ يودُّون تعميرهم ألف سنة، أو أُناسٌ
(٢) الخازن.
وقوله: ﴿أَحَدُهُمْ﴾؛ أي: واحدٌ (٢) منهم، وليس أحدٌ هنا هو الذي في قولهم: (ما قام أحدٌ)؛ لأنَّ هذا مستعملٌ في النَّفْي، أو ما جرى مجراه، والفرق بينهما: أنَّ أحدًا هذا أصوله همزةٌ وحاءٌ ودالٌ، وأصول ذلك واو وحاء ودال، فالهمزة في أحدهم بدلٌ من واو، والإتيان (٣) بالمضارع في ﴿يَوَدُّ﴾ حكايةٌ لودادهم و ﴿لَوْ﴾ مصدريَّةٌ فيه معنى التمنِّي، كأنَّه قيل: ليتني أُعمَّر، إلّا أنَّه جرى على لفظ الغيبة لقوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ كقولك: حلف بالله ليفعلنّ، ومحلُّه النصب على أنه معمول ليودُّ إجراءً له مجرى القول؛ لأنّه فعلٌ قلْبيٌّ، والمعنى: تمنَّى أحدهم أن يعطى البقاء والعمر ألف سنة، وهي للمجوسي، وخصَّ هذا العدد؛ لأنّهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العُطَاس والتحية: عشر ألف سنةٍ وألف نورٍ، وصحَّ إطلاق المشركين على المجوس؛ لأنّهم يقولون بالنور والظلمة، ﴿وَمَا هُوَ﴾؛ أي: وما طول عمره وتعميره ألف سنة، ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ أي: بمبعده، ومنجيه ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾؛ أي: من عذاب الله؛ لأنّه لا بدَّ للعمر، وإن طال من الفناء، والعمر: مدَّةٌ أجلها الله تعالى لعباده في دار الفناء، وجملة قوله: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بدلٌ من الضمير الذي فسَّرناه سابقًا بالتعمير، ويحتمل عود الضمير على أحدهم، وهو اسم ﴿مَا﴾ ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ خبر ﴿مَا﴾ والباء زائدة، و ﴿أنْ يُعَمَّرَ﴾ فاعلُ بمزحزحه.
والمعنى عليه: وما أحدهم بمن يزحزحه ويبعده من العذاب والنار تعميره
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
مَا زَالَ يَلْهَجُ بِالرَحِيْلِ وذِكْرِهِ | حَتَّى أناخَ بِبَابِهِ الجَمَّالُ |
فأصَابَهُ مُسْتَيْقِظًا مُتَسَمِّرًا | ذَا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمَالُ |
وقد تضمَّنت هذه الآية الكريمة: الامتنان على بني إسرائيل، وتذكارهم بنعم الله تعالى، إذ أتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور، ووالى بعده بالرسل؛ لتجديد دين الله وشرائعه، وأتى عيسى الأمور الخارقة للعادة من إحياء الأموات، وإبراء الأكمه والأبرص، وإيجاد المخلوق، ونفخ الروح فيه، والإنباء بالمغيَّبات، وغير ذلك، وأيَّده بمن ينزل الوحي على يديه وهو جبريل عليه
ثُمَّ أخبر تعالى بكذبهم في قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ وذلك بأنّهم قتلوا الأنبياء، والتوراة ناطقةٌ باتّباع الأنبياء، والاقتداء بهم، فقد خالف قولهم فعلهم، ثُمَّ كرَّر عليهم؛ توبيخًا لهم أنَّ موسى الذي أنزل عليه التوراة، وأنّهم يزعمون أنهم آمنوا بها، قد جاءهم بالأشياء الواضحة، والمعجزات الخارقة، من نجاتهم من فرعون، وفلق البحر، وغير ذلك، ومع ذلك اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاةِ ربِّه إلهًا من أبعد الحيوان ذهنًا، وأبلدها، وهو العجل المصنوع من حُليِّهم، المشاهد إنشاؤهُ وعمله، وموسى لم يَمُتْ بَعْدُ، وكتاب الله طريٌّ نزولُه عليهم، لم
مَلأْتُ بِبَعْضِ حُبِّكَ كُلَّ قَلْبِي | فَإنْ تُرِدْ الزِيَادَة هَاتِ قَلْبَا |
ثُمَّ ختم الآيات بأنَّ الله تعالى، مطلع على قبائح أفعالهم، ومجازيهم عليها، وتبيَّن بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم، وتناقض أفعالهم وأقوالهم، ونقص عقولهم، وكثرة بهتهم، أعاذنا الله من ذلك، وسلك بنا أنهج المسالك
٩٧ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد! لهؤلاء اليهود الذين زعموا أنَّ جبريل عدوٌّ لهم من بين الملائكة؛ لأنّه ينزل بالعذاب والشدّة ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ بِسَبَب نزوله بالقرآن المشتمل على سبِّهم وتكذيبهم، فليمت غيظًا؛ لأنَّ من عاداه فقد
وخصَّ القلب ولم يقل عليك؛ لأن القلب هو محلُّ العقل، والعلم، وتلقِّي الواردات؛ أو لأنَّه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها؛ أو لأنَّه سلطان الجسد. وفي الحديث: "إنَّ في الجسد مضغةً، ثُمَّ قال أخيرًا: ألا وهي القلب"؛ أو لأنَّ القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنّه بيت الله؛ أو لأنّه كنى به عن العقل إطلاقًا للمحلِّ على الحالِّ؛ أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
(٢) البحر المحيط.
وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يُضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلم يقتضيه ظاهرًا؛ لأنَّ قوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ هو معمولٌ لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد! قال الله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأمر الله (١) اختاره في المنتخب، ومنه: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وقد صرَّح ذلك في قوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾، أو بعلمه وتمكينه إيّاه من هذه المنزلة، قاله ابن عطيّة، أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري.
وقوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ حالٌ من الضمير المنصوب في ﴿نَزَّلَهُ﴾ إن كان يعود على القرآن، والمعنى: أي: حالة كون القرآن مصدِّقًا وموافقًا ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: لما قبله من الكتب الإلهية في التوحيد وبعض الشرائع، وإن قلنا: إنّ ضمير ﴿نَزَّلَهُ﴾ عائد على جبريل، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون حالًا من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والمعنى: فإنّ الله نزّل جبريل بالقرآن حال كون القرآن مصدِّقًا لما بين يديه.
والثاني: أن يكون حالًا من جبريل، وما في قوله: ﴿لِمَا﴾ موصولةٌ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل. والهاء في ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يحتمل أن تكون عائدةً على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل، فالمعنى: مصدّقًا لما بين يديه من الرسل والكتب ﴿و﴾ حالة كون القرآن ﴿هُدًى﴾؛ أي: هاديًا للناس من الضلالة إلى دين الحق ﴿و﴾ حالة كونه ﴿بُشْرَى﴾؛ أي: مبشِّرًا ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: للموحِّدين بالجنة، فلا وجه لمعاداته، فلو أنصفوا لأحبُّوه، وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم، ويَنْصَحُ المُنزَّل عليهم.
والخلاصة: أنَّه وصف القرآن بتصديقه لِمَا تقَّدمه من الكتب الإلهية، وأنّه هدى، إذ فيه بيان ما وقع التَّكْليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنّه بشرى لمن حصل له الهدى، فصار هذا الترتيب اللفظيُّ في هذه الأحوال؛ لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبًا وجوديًّا:
فالأوّل: كونه مصدِّقًا للكتب، وذلك؛ لأنَّ الكتب كلَّها من ينبوع واحد.
والثاني: أنَّ الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق.
والثالث: أنَّه بشرى لمن حصلت له به الهداية، وقوله: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ خصَّ الهدى والبشرى بالمؤمنين؛ لأنَّ غير المؤمنين لا يكون لهم هُدًى به ولا بشرى، كما قال: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾؛ ولأنَّ المؤمنين هم المبشَّرون، كما قال: ﴿فبشِّر عبادي﴾ ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ﴾. ودلَّت هذه الآية على تعظيم جبريل، والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزَّل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى.
وهذه الآية (٣) تعلَّقت بها الباطنية حيث قالوا: إنّ القرآن إلهامٌ، والحروف
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
٩٨ - ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ بمخالفته أمر الله عنادًا، وخروجه عن طاعته مكابرةً، أو بمعاداة المقرَّبين من عباده، وصدَّر (١) الكلم بذكر الله؛ تفخيمًا لشأنهم ﴿و﴾ لـ ﴿ملائكته﴾ ﴿و﴾ لـ ﴿رسله﴾ ﴿و﴾ لـ ﴿جبريل و﴾ لـ ﴿ميكال﴾ أفردهما بالذكر مع كونهما داخلين في جملة الملائكة؛ لبيان شرفهما؛ وإظهار فضلهما؛ وعلوِّ منزلتهما، فكأنَّهما جنسٌ آخر أشرف ممَّا ذكر تنزيلًا؛ للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الجنس، وللردّ على اليهود حيث قالوا: جبريل عدوُّنا، وميكال ولِيُّنا. قال عكرمة: جبرَ، وميك، وإسراف، معناها: العبد بالسُّريانية، وإيل، وآيْل، معناهما: الله، ومعنى هذه الأسماء: عبد الله، أو عبد الرحمن، وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن جبر بمعنى: عبد بالتكبير، وميكا بمعنى: عبيدٍ بالتصغير، فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله، قال: ولا نعلم لابن عباس في هذا مخالفًا. اهـ. "سمين".
أي: من عادى هؤلاء المذكورين، فقد كفر، والكافر عدوٌّ لله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ جواب الشرط (٢)، ولم يقل: فإنَّه؛ لاحتمال أن يعود إلى جبريل، أو ميكال ﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾؛ أي: عدوٌّ لهؤلاء اليهود، وغيرهم من الكفرة، وأظهر في موضع الإضمار؛ لأنَّ مقتضى السياق، فإنَّ الله عدوٌّ لهم؛ ليدلَّ على أنَّ الله إنّما عاداهم لكفرهم، والمعنى: من عاداهم عاداه الله، وعاقبه أشدَّ العقاب، أي: فإنّ الله سبحانه تولَّى بنفسه عداوة ذلك الكافر بالانتقام منه، وكفى رسله، وملائكته عن أمر من عاداهم.
قال الواحديُّ: والمعنى: أنَّ من كان عدوًّا لأحد من هؤلاء، فإنَّ الله عدوٌّ له؛ لأنَّ عَدُوَّ الواحد منهم عدوٌّ للجمع، وعدوُّ محمدٍ - ﷺ - عدوُّ الله، وليس
(٢) روح البيان.
وليس المراد (١): من كان عدوًّا لجميع الملائكة، وجميع الرسل، بل هذا من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع، كقوله: (إنْ كلَّمْتِ الرجال فأنتِ طالق) لا يريد بذلك إن كلمت كُلَّ الرجال، ولا أقلَّ ما ينطلق عليه الجمع، وإنّما علَّق بالجنس، وإن كان بصورة الجمع، فلو كلَّمَتْ رجلًا واحدًا طلقتْ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل.
فالمعنى: أن من عادى الله، أو ملكًا من ملائكته، أو رسولًا من رسله، فالله عدوٌّ له، والعداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقةً، وعداوة العبد لله تعالى مجازٌ. ومعناها: مخالفة أمره، وعداوة الله للعبد مجازاته على مخالفته. وقرأ حمزة (٢)، والكسائي: جبرائيل بفتح الجيم والراء وهمزةٍ مكسورةٍ بعد الراء. وقرأ شعبة كذلك، إلّا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء، والباقون بكسر الجيم والراء من غير همزٍ بعد الراء، إلّا أنَّ ابن كثير: فتح الجيم. وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ: ﴿ميكال﴾ بغير همزة، ولا ياءٍ بين الألف واللام. وقرأ نافع بهمزةٍ بعد الألف، ولا ياء بعد الهمزة، والباقون بهمزةٍ بعد الألف وياءٍ.
والخلاصة: أي إنَّ (٣) من عادى الله وعادى هؤلاء المقرَّبين عنده، فالله عدوٌّ له؛ لأنَّه كافرٌ به ومعادٍ له، وهو الظالم لنفسه حين دعاه فلم يجب، وفي هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى، إذ فيه تصريحٌ بأنّهم أعداء الحق، وأعداء كلِّ من يدعو إليه، ومعاداة القرآن، كمعاداة سائر الكتب السماويّة؛ لأنَّ المقصد من الجميع واحدٌ، وهو هداية الناس، وإرشادهم إلى سبيل الخير، ومعاداة محمد - ﷺ -، كمعاداة سائر الأنبياء؛ لأنَّ رسالتهم واحدة، والمقصد واحدٌ. والواو في قوله:
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
واعلم: أنَّ القرآن هو النور الإلهيُّ الذي كشف الله به الظُّلمات، واليهود أرادوا أن يُطفِئُوا نور الله، والله متم نوره، وليس لهم في ذلك إلا الفضاحة والخزي، كما إذا دخل الحمام ناسٌ في ليلٍ مظلم، وفيهم الأصحاء وأهل العيوب، فجاء واحدٌ بسراج مضيءٍ لا يسارع إلى إطفائه إلّا أهل العيوب، مخافة أن يُظهر عيوبهم للأصحَّاء، ويلحق بهم مذمَّةً (أو) الهمزة (١) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلةٌ على محذوف معلوم من السياق، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، كما هو مذهب الزمخشري، والتقدير: أكفروا بهذه الآيات البيِّنات مع كونها في غاية الوضوح؟
١٠٠ - ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا﴾؛ أي: أعطوا ﴿عَهْدًا﴾ لله سبحانه في حقِّ محمد - ﷺ - وهو مصدرٌ مؤكِّد لعاهدوا من غير لفظه بمعنى: معاهدةً. وقرأ أبو السمال العدويُّ (٢)، وغيره ﴿أوْكُلَّما﴾ بسكون الواو، وخرَّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين وقدَّره: وما يكفر بها إلّا الذين فسقوا، أو
(٢) البحر المحيط.
أي: أكفروا (١) بتلك الآيات البينات؟ وكلَّما عاهدوا وأعطوا عهد الله في حق محمد - ﷺ - نقضه، ورماه جماعةٌ منهم، وقوله: ﴿نَبَذَهُ﴾ جواب ﴿كلما﴾ وهو محلُّ الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أنقضوا العهد كُلَّما عاهدوا عهدًا، ولا ينبغي ولا يليق بهم ذلك النقض، وذلك (٢) العهد، كقولهم قبل مبعث محمد - ﷺ -: لئن خرج نبيُّ آخر الزمان لنؤمننَّ به، ولنخرجنَّ المشركين من ديارهم، وككونهم عاهدوا الله على أن لا يعينوا عليه - ﷺ - أحدًا من المشركين، ثم أعانوا عليه قريشًا يوم الخندق.
وفي "المراغي": والمراد بالعهود هنا: هي عهودهم للنبي - ﷺ -، ولمَّا كان لفظ الفريق يُوهم قلّةَ العدد، مع أن الناقِضينَ للعهد هم أكثر، أَضْرَبَ عنه،
(٢) المراح.
وقيل المعنى: بل أكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، فلا يعتدُّون - نقض العهد والمواثيق ذنبًا، ولا يبالون، وهذا ردٌّ لما يتوهَّم من أنَّ الفريق النابذين هم الأقلُّون، أو أنّ من لم ينبذ جهارًا فهم مؤمنون به خفاءً. وهذا من (١) إخبار الغيب، إذ أنَّ أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي - ﷺ - ولن يؤمنوا به، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلّا ممَّن يعلم خفيَّات الأمور.
والخلاصة: أنَّ الله سبحانه وتعالى، بيَّن في هذه الآية حالين لأهل الكتاب.
أولاهما: أنّه لا يوثق بهم في شيء؛ لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان.
ثانيتهما: أنّه لا يرجى إيمان أكثرهم؛ لأنّ الضلال قد استحوذ عليهم، وجعلهم في طغيانهم يعمهون.
١٠١ - ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: ولمَّا أتى اليهود ﴿رَسُولٌ﴾ هو محمد - ﷺ - ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ متعلِّق بجاء ﴿مُصَدِّقٌ﴾؛ أي: مُقرِّرٌ ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾؛ أي: لما مع اليهود من التوراة من (٢) حيث إنّه - ﷺ - قرَّر صحتها، أو حقَّق حقيقة نبوّة موسى عليه السلام بما أنزل الله تعالى عليه، أو من حيث إنه - ﷺ - جاء على وفق ما نعت له فيها ﴿نَبَذَ﴾؛ أي: طرح ورمى جواب ﴿لَمَّا﴾ ﴿فَرِيقٌ﴾؛ أي: طائفةٌ ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا﴾ وأعطوا ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة، وتمسَّكوا به أوَّلًا، يعني: علماء اليهود وأحبارهم ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ الذي أوتوه وهو مفعول نبذ؛ أي: التوراة؛ أي، طرح
(٢) المراغي.
(٣) كرخي.
قيل (٢): أصل اليهود: أربع فرقٍ: فرقةٌ آمنوا بالتوراة، وقاموا بحقوقها، كمؤمن أهل الكتاب، وهم الأقلُّون المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وفرقةٌ جاهروا بنبذ العهود تمردًا وفسوقًا، وهم المعنيُّون بقوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ﴾ وفرقةٌ لم يجاهروا بنبذها، ولكن نبذوها لجهلهم، وهم الأكثرون، وفرقةٌ تمسَّكوا بها ظاهرًا، ونبذوها خفيةً وهم المتجاهلون. وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ فَعَل فِعْل الجاهل، وتعمَّدَ الخلافَ مع علمه، يلتحقُ بالجُهَّال، وهو والجاهل سواءٌ، فكما أنَّ الجاهلَ لا يجَيِءُ منه خيرٌ، فكذا العالم لا يعمل بِعلْمِه، ولذا قال النبي - ﷺ -: "واعظُ اللِّسان ضائعٌ كلامه، وواعظ القلب نافذٌ
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أيْ: إنّه حين جاء النبيُّ - ﷺ - بكتابٍ مصدِّقٍ للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة، نبذ فريقٌ من اليهود كتابهم وهو التوراة؛ لأنّهم حين كفروا بالرسول المصدِّق لما معهم، فقد نبذوا التوراة التي فيها أنَّ محمد رسول الله، وأهملوها إهمالًا تامًّا كأنَّهم لا يعلمون أنها من عند الله تعالى، وقد جعل تركهم إيَّاها، وإنكارهم لها إلقاءً لها وراء الظهر؛ لأنَّ من يلقي الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكَّره.
فعلى العاقل (٢): أن يسارع إلى الامتثال خوفًا مِنْ بطشِ يدِ ذي الجلال، ويقال: الندامةُ أربعٌ: ندامةُ يومٍ: وهي أنْ يَخْرُج الرجلُ من منزله قبل أن يتغدَّى، وندامةُ سنة: وهي تَرْكُ الزراعة في وقتها، وندامةُ عُمْر: وهو أن يتزوَّج امرأة غير موافقة، وندامةُ الأبَدِ: وهي أن يترك أَمْرَ الله، ومجرَّدُ قراءة الكتاب بِترْياقِ الظاهر لا يدفع سُمَّ الباطن، فلا بدّ من العمل بما علم، كما أنَّ من كان ينظر إلى كُتُب الطبّ، وكان مريضًا، فما دام لم يباشر العلاج لا يفيد نظره بالأدوية، وكان خُلقه - ﷺ -: القرآن؛ يعني: يعملُ بأوامره، وينتهي عن نواهيه. وقال السدي (٣) لمَّا جاءهم محمدٌ - ﷺ - خاصموه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها، وأخذوا بكتابِ آصفِ بن بَرْخِيَا، وسِحْر هاروت وماروت، فلم يوافق ذلك القرآن، كما قال تعالى:
١٠٢ - ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ معطوف على نَبَذ؛ أي: ولمَّا جاءهم كتاب مِنْ عند الله، نبذ فريق من أهل الكتاب كتاب الله وراءَ ظهورهم واتَّبعوا؛ أي: واتبع أولئك الفريق؛ يعني: علماءَهم وأحبارَهم ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾؛ أي: تَلَتْهُ الشياطين وقرأَتْهُ، والإتيان (٤) بصيغة المضارع في تَتْلُوا؛
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) روح البيان.
أي: واتَّبعوا ما كانت الشياطين تتلوه وتقرؤه ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ بن داود عليهما السلام؛ أي: في عهده وزمان ملكه من السحر، وتكذيبه على سليمان، والكلام على حذف مضاف، وعَلَى بمعنى: في، وكانت الشياطين دفنتهُ تحت كرسيه لمَّا نُزِع ملكه، فلم يشعر بذلك سليمان، فلمَّا مات استخرجوه، وقالوا للناس: إنّما مَلككم سليمان بهذا، فتعلَّموه، وأقبلوا على تعلُّمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشَتْ الملامةُ على سليمان، فلم تزل هذه حالَهم حتى بعث الله تعالى محمدًا - ﷺ - وأنزل الله عليه براءةَ سليمان، فقال: وما كفر سليمان الخ.
قال السديُّ (٢): كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت، وغيره، ويأتون الكهنة ويُخلِّطون بما سمعوا في كُلِّ كلمة سبعين كذبةً، ويخبرونهم بها، فاكتتبت الناس ذلك، وفشا في بني إسرائيل: أنَّ الجنّ تعلم الغيب، وبعث سليمان في الناس، وجمع تلك الكتب، وجعلها في صندوق، ودفنه تحت كرسيه، وقال: لا أسمع أحدًا يقول: إنّ الشيطان يعلم الغيب إلّا ضرَبْتُ عنقهَ، فلما مات سليمان، وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أَمْرَ سليمان، ودَفْنَه الكُتبَ، وخَلفَ من بعدهم خلفٌ تمثَّل الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلُّكم على كنزٍ تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، قال: تحت الكرسي، وذهب معهم، فأراهم المكان، وقام ناحيةً، فقالوا: ادْنُ، قال: لا ولكني ها هنا، فإِنْ لم تجدوه، فاقتلوني، وذلك أنَّه
(٢) روح البيان.
أي: ما كتب سليمان السحر، وما عمل به؛ لأنّ عمل السحر كفر في شريعته، وأمّا في شريعتنا (١)، فإن اعتقد فاعله حِل استعماله كَفَر، وإلّا فلا، وأمّا تعلّمه، فإن كان ليعمل به فحرام، أو ليتوقّاه فمباح أولًا، ولا، فمكروه، والسحرُ (٢): كُلُّ ما دَقَّ ولَطُفَ، يقال: سحره إذا أبدى له أمرًا يَدِقُّ عليه، ويَخْفَى. وعرَّفه ابنُ العربي (٣): بأنّه كلام مؤلَّف يُعظَّم به غير الله، وتُنْسَب له المقادير، فعليه فهو كفر، حتى في شَرْعِنا ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ باستعمال السحر، وتعليمِه، وتدوينِه، وِإمّا بتكفيرهم سليمانَ به، ويحتمل كفرهم بغير ذلك، واستعمالُ لكن هنا حَسَنٌ؛ لأنّها بين نفي وإثبات. وقرىء ﴿وَلَكِنَّ﴾ بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو. وقرىء بتخفيفِ النون، ورفعِ ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وإذا خُففت، فهل يجوز إعمالُها؟ مسألةُ خلافٍ: الجمهورُ على المنع، وقال الكسائي، والفراء: الاختيارُ التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو؛ ذلك لأنّها مخفّفة تكون عاطفة، ولا تحتاجُ إلى واو كبَلْ، وإذا كانت قبلها واوٌ لم تشبه بل؛ لأنَّ بل لا تدخل عليها الواو،
(٢) الفتوحات.
(٣) الصاوي.
واعلم: أَنَّهُ (١) قد جاء ذِكْرُ السحر في القرآن في مواضع كثيرة، ولا سيما في قصَص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداعٌ، وتخييلٌ للأعين، حتى ترى ما ليس بكائنٍ كائنًا، كما قال تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ وقال في آية أخرى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ والآية نصٌّ صريح على أنَّ السحر يُعلَّم، ويُلقَّن، والتاريخ يؤيِّد هذا.
والسحر (٢): إمَّا حيلةٌ وشعوذةٌ، وإما صناعةٌ، وعلمٌ خفيٌّ يعرفه بعض الناس، ويجهله الكثير منهم، ومن ثَمَّ يسمُّون العمل به سحرًا؛ لخفاء سببه عليهم، وقد روى المؤرِّخون: أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحِبَال والعِصي بصُوَر الحيَّاتِ والثَّعابِين، حتى خُيِّل إلى الناس أنَّها تَسْعى. وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعةً للمعاش، أن يتكلَّموا بأسماءٍ غريبةٍ، وألفاظ مبهمةٍ اشتهر بين الناس أنها من أسماءِ الشياطين، وملوكِ الجن، لِيوهموُهم أنَّ الجنَّ يَسْتَجِيبون دُعاءهم، ويُسخرِّون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامَّة أنَّ السحر عملٌ يستعان عليه بالشياطينِ، وأرواحِ الكواكب، ولمثل هذا تأثيرٌ في إثارة الوهم دلَّت التجربة على وجوده، وهو يُغْنِي مُنتحِلَ السحر عن توجيهِ هِمتِه، وتأثير إرادته فيمن يُعملُ له السحرُ، وسيأتي بَسْطهُ أواخرَ هذه الآيات ﴿و﴾ حالة كونهم يعلِّمونهم أيضًا ﴿ما أنزل على الملكين﴾ فهو معطوف على السحر؛ أي: (٣) ويُعلِّمُون الناسَ
(٢) المراغي.
(٣) الواحدي.
وقيل: معطوفٌ على تتلو الشياطين، والمعنى عليه، وكما اتَّبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتَّبعوا ما أنزل على الملكين، وقرىء في الشواذ المَلِكينِ بكسر اللام، قيل: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقيل: عِلْجَان، والقراءة (١) المشهورة بفتح اللام، وهما ملكان من الملائكة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو الأسود الدؤلي، والضحَّاك، وابن أبزي المَلِكين بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران ببابل، واعلم أنَّ الملكيَنِ أنزلا لتعليم السحر امتحانًا من الله تعالى للناس، هل يتعلَّمونه أم لا؟ كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر، فمَنْ تعلَّمه منهم وعَمِلَ به كان كافرًا، ومن تَجنَّبه أو تعلَّمه لا يعمل به، ولكن ليتوقَّاه كان مؤمنًا، كما قيل:
عَرَفْتُ الشَرَّ لا للشَّرِّ ولكن لِتوَقِّيه
وهذا كما إذا أتى عرَّافًا فسأله عن شيء؛ لِيَمْتَحِن حالَه؛ ويختبر باطنَ ما عنده، وعنده ما يَميِّزُ بهِ صدقُه من كذبه، فهذا جائزٌ. قال الإِمام فخر الدين الرازيُّ: كانت الحكمة في إنزالهما: أنَّ السَّحرة كانوا يسترقُون السمعَ من الشياطين، ويُلقون ما سمعوا بين الخلق، وكانوا بسببِ ذلك يُثْبِتُون لأنفسهم الوَحْي النازلَ، على الأنبياء، فأَنْزلَهما إلى الأرضِ ليعلِّما الناسَ كيفيةَ السحر، ليظهر بذلك الفَرْقُ بين لام الله، وكلام السحرة؛ لئلا يغترَّ الناس بالسحر؛ لأنَّ السحرةَ كثرُوا في ذلك الزمن، واستنبطوا أبوابًا - غريبةً من السحر، وكانوا يدَّعون النبوة، فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلِّما الناس أبواب السحر، حتّى يتمكنوا
﴿بِبَابِلَ﴾ الباء (١) بمعنى في، وهي متعلقةٌ بأنزل، أو بمحذوف وقع حالًا من الملكين، وهي: بابل العراق، أو بابل أرض الكوفة، ومنع الصرف للعجمة والعلمية، وأحسن ما قيل في تسميتها ببابل: أنَّ نوحًا عليه السلام، لمَّا هبط إلى أسفل الجوديِّ، بَنَى قريةً وسمَّاها ثمانين، فأصبح ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربيُّ، وكان لا يفهم بعضهم من بعض. كذا في "تفسير القرطبي"، واختصت بابل بالإنزال؛ لأنّها كانت أكثر البلاد سحرًا ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ عطف بيان للملكين؛ لأنَّهما علمان لملكين نَزَلا من السماء، كما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، ومُنع صرفهما للعلمية والعجمية، وما روي في قصتهما من أنَّها شربا الخمر، وسفكا الدم، وزنيا، وقتلا نفسًا، وسجدا للصنم، فَمِمَّا لا تعويل عليه؛ لأنَّ مداره رِوايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلَّة النقل والعقل.
يقول الفقير: قد تصَفَّحْتُ كتبَ أرباب الخبر والبيان، وأصحاب الشهود والعيان، فوُجدتُ عامَّتَها مشحونةً بذكر ما جرى من قصتهما، وكيف يجوز الاتِّفاق من الجمِّ الغفير على ما مداره - روايةُ اليهود، خُصوصًا في مثل هذا الأمر الهائل، فأقول: وَصْفُ الملائكِةِ بأنَّهم لا يعصون، ولا يستكبرون، يسبِّحون الليل والنهار، لا يفتُرون، ويفعلون ما يؤمرون، دليلُ تصوُّرِ العصيان منهم، ولولا ذلك لما مدحوا به، إذ لا يُمْدَح أحدٌ على الممتنع، لكن طاعتهم طبعٌ، وعصيانهم تكلُّفٌ، على عكس حال البشر، كما في "التيسير"، فهذا يقتضي جوازُ الوقوع مع أنَّ فيما روي في سبب نزولهما ما يزيل الإشكال قطعًا، وهو أنَّهم لمَّا عيَّروا بني آدم بقلّة الأعمال، وكثرة الذنوب في زمن إدريس عليه السلام، قال الله تعالى: (لو أنزلتكم إلى الأرض وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا)، فقالوا: سبحانك ربَّنا، ما كان ينبغي لنا أن نعصيك، قال الله تعالى:
وفي الحديث: إنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "اتقوا الدُّنيا، فوالذي نفسي بيده، إنَّها لأَسْحَرُ من هاروت وماروت" قال العلماء: إنّما كانت الدنيا أسحر منهما؛ لأنّها تدعوك إلى التَّحارص عليها، والتَّنافس فيها، والجمع لها، والمنع حتى تُفرِّق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتُفرِّق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، وسحر الدنيا محبتها، وتلذُّذك بشهواتها، وتمنِّيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال النبيُّ - ﷺ -: "حُبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ" أَرَادَ النبيُّ - ﷺ -: أنَّ من الحُبِّ ما يعمي عن طريق الحقّ والرَّشدِ، ويُصِمُّكَ عن استماع الحق، وإنَّ الرجل إذا غلب الحُبُّ على قلبه، ولم يكن له رادعٌ من عقلٍ، أو ديْنٍ أصمَّهُ حُبُّه عن
أي: فلا تتعلَّم السحر (٣)، ولا تعمل به؛ لأنَّ عمله كفرٌ باللهِ؛ أي: لا يصفان السحر لأحدٍ حتى يبذلا - النصيحةَ له أوَّلًا، فيقولا لَهُ: هذا الذي نَصِفُه
(٢) روح البيان.
(٣) عمدة التفاسير.
وفي هذا (١) إيماءٌ إلى أنَّ تعلُّم السحر، وكُلِّ ما لا يجوز اتباعه، والعمل به ليس محظورًا، وإنّما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحَسْبُ. وإنما كانا يقولان ذلك إِبْقاءً على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان: إنّهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين يحترفون مثل ذلك، لمن يعلِّمونهم الكتابة للحبِّ، والبغض، نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأةٍ إلى حبِّ غير زوجها، ولا تكتب لأحد زوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامَّة، كالحُبِّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهامٌ بأنَّ علومهم إلهِيَّةٌ، وقرأ الجمهور ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ بفتح التاء، وهما بدلٌ من الملكين، وتكون الفتحة علامةً للجر؛ لأنّهما ممنوعان من الصرف لما مرَّ. وقرأ الحسن، والزهريُّ: ﴿هاروتُ وماروتُ﴾ بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هما هاروت وماروت ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ عطف (٢) على الجملة المنفيَّة، فإنّها في قوَّة المثبتة، كأنّه قيل: يعلِّمانهم بعد قولهما، إنما نحن فتنة... الخ، والضمير لأحد حملًا على المعنى، والمراد به: السحرة؛ أي: فالنَّاس يتعلَّمون ﴿مِنْهُمَا﴾؛ أي: من الملكين، أو من السحرِ، والمنزَّلِ على الملكين، أو من الفتنة والكفر؛ أي: فيأتي السحرة من الناس الملكين، فيتعلَّمون من الملكين ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾، أي: بسببهِ واستعمالهِ ﴿بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾؛ أي: يتعلَّمون منهما من علم السحر ما يكون سببًا في التفريق بين الزوجين ببغض كل واحدٍ منهما إلى الآخر، فبعد أن كانت المودَّة، والمحبة بينهما، يُصبح الشقاق، والفراق، والخِلاف بينهما، عند ما فعلوا من السحر، كالتَّمويه، والتَّخييل، والنَّفث في العقد، ونحو ذلك ممَّا يُحدث الله عنده البغضاء، والنشوز، والخلافَ بين الزوجين، ابتلاءً من الله تعالى؛ لأنَّ
(٢) روح البيان.
قال السدي (١): كانا يقولان لمن جاءهما: إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت الرَّماد فَبُلْ فيه، فإذا بال فيه خرج نورٌ يَسْطَعُ إلى السماء، وهو الإيمان، والمعرفةُ، وينزل شيءٌ أسود شِبهُ الدُّخان، فيدخل في أذنيه، ومسامعه، وهو الكفر، وغضبُ الله، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك، علَّماه ما يفرِّق به بين المرء وزوجه، ويقدر الساحر على أكثر ممَّا أخبر الله عنه من التفريق؛ لأنَّ ذلك خُرِّج على الأغلب. قيل: يُؤخذ الرجلُ عن المرأة بالسحر لا يقدر على الجماع. قال في نصابِ الاحتساب: إنَّ الرجل إذا لم يَقْدِر على مجامعة أهله، وأطاق ما سواها، فإنّ - المُبْتلى بذلك يأخذ حُزْمَة قصبات، ويطلب فأسًا ذا فقارين، ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجِّجُ نارًا في تلك الحزمة، حتى إذا أُحمي الفأس استخرجه من النار، وبال على حدّه، يبرأ بإذن الله تعالى. انتهى.
والآية (٢) لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلَّمُونه من السحر أمؤثرٌ بطبعه، أو بسببٍ خفيٍّ، أو بخارقٍ من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنَّها لم تُبيِّن نوعَ ما يتعلَّمونه، أتمائمٌ وكتابةٌ هو، أم تلاوةُ رُقًى وعزائمَ، أم أسَالِيب سِعَايةٍ، أم دسَائسُ تنفيرٍ ونكايةٍ، أم تأثيرٌ نفسانيٌّ أم وسواسٌ شيطانيٌّ؟ فأيُّ ذلك أثبته العِلْمُ، كان تفِصيلًا لما أَجْملَه القرآن، ولا نتَحكَّم في حَمْله على نوعٍ منها، ولو علم الله الخَيْر في بيَانهِ لبينه، ولكنَّه وَكَل ذلك إلى بُحُوث الناس، وارتقائهم في العلم، فهو الذي يُجلِّي الغوامضَ، ويكشف الحقائق ﴿وَمَا هُمْ﴾؛ أي: ليس السَّاحرون
(٢) المراغي.
وإن أردت التفصيلَ وحقيقةَ الحال (٢)، فاستمع لما نَتْلُو عليك من المقال، وهو أن السحر: إظهار أمرٍ خارقٍ للعادة، من نفسٍ شِرِّيرةٍ خِبَيثةٍ، بمباشرة أعمال مخصوصةٍ، يَجْرِي فيه التعلُّم والتعليم، وبهذين الاعتبارين يُفارق المعجزة، والكرامة؛ وذلك لأنَّ المعجزة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد من يدَّعي النبوة والرسالة عند ردِّ الملحدة، والكرامة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد عبدٍ من عباد الله الصالحين، والسِّحر: أمرٌ خارقٌ للعادة، يظهر على يد نفسٍ شريرةٍ خبيثةٍ، بمباشرة أعمالٍ مخصوصة.
فَصْل في بيان حقيقة السحر
واختلف العلماء في حقيقة السحر بمعنى ثبوته في الخارج:
(٢) روح البيان.
قال العلماء: إن كان في السحر ما يخل شرطًا من شرائط الإيمان، من قول، وفعل، كان كفرًا، وإلا لم يكن كفرًا، وعامَّة ما بأيدي الناس من العزائم، والطَّلاسم، والرُّقي التي لا تفهم بالعربية، فيها ما هو شِرْكٌ وتعظيمٌ للجن، ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرُّقي التي لا يفهم معناها بالعربية؛ لأنَّها مظنَّة الشرك، وإن لم يعرف الرَّاقي أنّها شركٌ، وفي الصحيح عن النبي - ﷺ -: أنَّه رخّص في الرُّقي ما لم تكن شركًا، وقال "مَن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" ولذا نقول: إنه يجوز أن يكتب للمصاب، وغيره من المرضى شيءٌ من كتاب الله تعالى، وذكره. بالمداد المباح، ويُسقى، أو يعلَّق عليه، وفي أسماء الله تعالى، وذكره خاصَّةً قمع الشياطين، وإذلالهم، ولأنفاس أهل الحق تأثيراتٌ عجيبةٌ؛ لأنّهم تركوا الشهوات، ولزموا العبادات على الوجه الشرعيِّ، وظهر لهم حكم قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولذا يطيعهم الجنُّ والشياطين، ويستعبدونهم، كما استعبدها سليمان عليه السلام، بتسخير من الله تعالى، وإقداره.
واعلم: أنَّ حكم الساحر القتل ذكرًا كان أو أنثى، إذا كان سعيه بالإفساد، والإهلاك في الأرض، وإذا كان سعيه بالكفر، فيقتل الذكر دون الأنثى، فتضرب، وتحبس؛ لأنَّ الساحرة كافرةٌ، والكافرةُ ليست من أهل الحرب، فإذا كان الكفر
قوله ﴿بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ قرأ الجمهور (١) بفتح الميم وسكون الراء والهمزة. وقرأ الحسن، والزهري، وقتادة ﴿المَرِ﴾ بغير همز مخففًا. وقرأ ابن أبي إسحاق: ﴿المُرءُ﴾ بضمّ الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي ﴿المِرْءِ﴾ بكسر الميم والهمزة، ورُويت عن الحسين. وقرأ الزهري أيضًا ﴿المَرِّ﴾ بفتح الميم وإسقاط الهمزة وتشديد الراء، فأمَّا فتح الميم وكسرها وضمُّها، فلغاتٌ، وأمَّا المرِ بكسر الراء، فوجهه أنّه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وخفَّف الهمزة، وأمّا تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنّه نوى الوقف فشدَّد، كما روي عن عاصم مستطرّ بتشديد الراء في الوقف، ثُمَّ أُجري الوصل مجرى الوقف، فأقرَّها على تشديدٍ فيه، قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ قرأ الجمهور بإثبات النون في ﴿بِضَارِّينَ﴾ وقرأ الأعمش بحذفها، وخرج ذلك على وجهين: أحدهما: أنّها حذفت تخفيفًا، والثاني: أنَّ حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو ﴿بِهِ﴾ كما قال:
هما أخوا في الحرب من لا أخا لَهُ
وكما قال:
كما خُطَّ الكتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ
وهذا التخريج ليس بجيد؛ لأنَّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف
قَطَاقطَا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مائتا
يُريدُون ثِنْتَان ومِائتَانِ ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ منهما ﴿مَا يَضُرُّهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة، ولا ينفعهم، صرَّح (١) بذلك؛ إيذانًا بأنّه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضَّرر، بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ، لأنّهم لا يقصدون به التخلُّصَ عن الاغترار بأكاذيب من يدَّعي النبوَّة مثلًا من السحرة، أو تخليصَ النَّاس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة. وعبارة أبي حيان: لمَّا ذكر أنّه يحصل به الضرر لمن يفرَّق بينهما، ذكر أيضًا أنَّ الضرر لا يقتصر على من يُفعل به ذلك، بل هو أيضًا يضرُّ مَن تعلَّمه، ولمَّا كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النَّفع؛ لأنّه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر، ويحصل به النفع، نَفَى النفع عنه بالكليَّة وأتى بلفظ لا؛ لأنّها يُنفى بها الحال والمستقبل، والظاهر أنَّ ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ معطوفٌ على ﴿يَضُرُّهُمْ﴾ وكلا الفعلين صلةٌ لما، فلا يكون لها موضعٌ من الإعراب، وجوَّز بعضهم أن يكون ﴿لا ينفعهم﴾ على إضمار هو؛ أي: وهو لا ينفعهم فيكون في موضع رفعٍ، وتكون الواو للحال، وتكون جملةً حاليَّةً، وهذا الوجه ضعيفٌ، وقد قيل: الضرر وعدم النفع مختصٌّ بالآخرة.
وقيل: هو في الدنيا والآخرة، فإنَّ تعلُّمه إن كان غير مباح، فهو يجرُّ إلى العمل به، وإلى التنكيل به إذا عُثِر عليه، وإلى أنَّ ما يأخذه عليه حرامٌ، هذا في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فلِمَا يترتَّب عليه من العقاب. انتهى. قال المراغي: وهذا مِما يعاقبُ الله عليه، ومَنْ عُرِف بإيذاء الناس أبغضوه، واجتنبوه، ولا نفع لهم فيه، فإنَّا نرى منتحلي هذه المِهَنِ مِنْ أفقر الناس وأَحْقِرهم، وذلك حالُهم في
وفي الآية: إيماءٌ إلى أنَّ الاجتناب عما لا يؤمن غوَائلِهُ واجب، كتعلُّم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرَّ إلى الغَواية، وإن قال مَنْ قال:
عرفت الشرَّ لا للشرِّ لكنْ لِتَوَقِّيهِ | ومَنْ لا يعرف الشرَّ مِنَ الناسِ يَقَعْ فيهِ |
وقال أبو حيان (١): الضمير في علموا قيل: عائدٌ على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان بن داود عليه السلام، وكانوا حاضرين استخراجَ الشياطين السحرَ ودفنه، أو أَخْذَ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيّه، ولمَّا أخرجوه بعد موته، قالوا: والله ما هذا مِن عمل سليمان، ولا من ذخائره، وقيل: عائدٌ على من بحضرة رسول الله - ﷺ - من اليهود، وقيل: يعود على اليهود قاطبةً؛ أي: علموا ذلك في التوراة، وقيل: عائدٌ على علماء اليهود، وقيل: عائدٌ على الشياطين، وقيل: على الملكين؛ لأنَّهما كانا يقولان لمن يتعلَّم السحر فلا تكفر، فقد علموا أنَّه لا خَلاق له في الآخرة وأتى بضمير الجمع على قول: مَنْ يرى ذلك وعَلِم هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين وعُلِّقت عن الجملة، ويحتمل أن تكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضًا كما علقت عرفتُ، والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. انتهى.
كَذاكَ أُدِّبْتُ حتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي | إنّي وجدتُ مِلاكُ الشِيمةِ الأَدبُ |
والمعنى (٢): أي إنَّهم عالمون بأنَّ من اختار هذا، وقدَّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين، فليس له حظٌّ في الآخرة؛ لأنّه خالف حكم التوراة التي حظَرت تعلُّم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنَّ، والشياطين، والكهان، كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان، واللام في قوله: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ موطئةٌ (٣) لقسم محذوف، والشراء هنا بِمَعْنَى: البيعِ؛ لأنَّ الشراء من الأضداد، والمخصوص بالذمّ محذوف.
والمعنى (٤): وعزّتي وجلالي: لبئس وقَبُح الشيء شيئًا باعوا به حظوظ أنفسهم في الآخرة، والمخصوص بالذمّ تعلُّم السحر، أو الكفر حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله تعالى؛ يعني: أنَّ اليهود لمَّا نبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم، وأقبلوا على التَّمسُّكِ بما تتلو الشياطين، فكأنَّهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) العمدة.
وعبارة "الخازن" هنا: فإن قلت (٢): كيف أثبت الله لهم العلم أوَّلًا في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ على - التوكيد القسميّ، ثُمَّ نفاه آخرًا في قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، ففيه تناقضٌ؟
قلت: إنّهم قد علموا أنَّ من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق، ثُمَّ مع هذا العلم خالفوا واشتغلوا بالسحر، وتركوا العمل بكتاب الله تعالى، وما جاءت به الرسل؛ عنادًا منهم وبغيًا، وذلك على معرفةٍ منهم بما لِمَنْ فعَلَ ذلك منهم من العقاب، فكأنَّهم حين لم يعملوا بعلمهم كانوا منسلخين منه، والمعنى هنا: لو كانوا يَعْمَلُون بعلمهم ذلك ما تعلَّموه؛ فالمثبت أوّلًا العلم، والمنفيُّ هنا العمل به. انتهى. وهذا هو ما يفعلُ مِثْلهَ بعضُ المسلمين اليوم، إِذْ يَنْتَهِكون بعض حرماتِ الدين بمثل تلك التأويلات، فيمنعون الزكاة بحيلةٍ، ويأكلون أموال الناس بحيلةٍ أخرى ويشهدون الزور بحيلةٍ ثالثة، وهكذا.
١٠٣ - ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ أي ولو أنَّ اليهود الذين اتَّبعوا ما تتلوا الشياطين، وتعلَّموا السحر ﴿آمَنُوا﴾ بمحمدٍ - ﷺ - وبالقرآن ﴿وَاتَّقَوْا﴾؛ أي: واجتنبوا اليهوديَّة، والسحر، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف دَلَّ عليه قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، تقديره: لأُثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسحر، والمثوبةُ مَفْعُلةٌ (٣) من الثواب، مِنْ ثاب يثوب إذا رجع، وسُمِّي الجزاء
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ بضم الثاء، كالمَشُورة. وقرأ قتادة، وأبو السمال، وعبد الله بن بريدة بسكون الثاء، كمَشْوُرةٍ، ومعنى قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾؛ أي: لثَوابٌ وهو الجزاء، والأَجر على الإيمان، والتقوى بأنواع الإحسان. وقيل: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ لرجعةٌ إلى الله خيرٌ، والجارُّ والمجرور في قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ في موضع الصفة؛ أي: كائنةٌ من عند الله تعالى، وهذا الوصف هو المسوِّغ لجواز الابتداء بالنكرة، وفي وصف المثوبة بكونها من عند الله تفخيمٌ وتعظيمٌ لها، ولمناسبة الإيمان والتقوى لذلك كان المعنى: إنّ الذي آمنتم به، واتقيتم محارمه هو الذي ثوابكم منه على ذلك، فهو المُتكفِّل بذلك لكم، وحذف المفضَّل عليه؛ إجلالًا للمفضَّل من أن ينسب إليه ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ خيريةَ ثوابِ الله وجزاءه، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، تقديره: ما اختاروا السحر على الإيمان بمحمد - ﷺ -.
فإن قلت (٢): قد علموا ذلك من كتابهم، فكيف جهَّلهم؟.
قلت: جهَّلهم لعدم عملهم بعلمهم، فإنَّ من لم يعمل بما علم، فهو كمن لم يعلم، ومجرد العلم باللسان لا ينفع بدون أن يصل التأثير إلى القلب، ويظهر ذلك التأثير بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة، والاتباع للكتاب والسنة، فمن أمَّر السُّنَّة على نفسه أخذًا وتركًا، حُبًّا وبغضًا، نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. قال بعض (٣) العلماء: زيادة العلم في الرجل السوء، كزيادة الماء في أصول الحنظل، كلما ازداد، ريًّا ازداد مرارةً ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا، وتحصيل الرفعة فيها، كمثل من رفع العذرة بملعقة من الياقوت،
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
ومعنى الآية: أي ولو أنَّهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم، وفيه البشارة بمحمد - ﷺ -، والأمر باتّباعه، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاءً على أعمالهم الصالحة، خيرًا لهم من كلِّ ما يتوقَّعُون من المنافع، والمصالح الدنيوية. ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: إنّهم (١) ليسوا على شيء من العلم الصحيح، إذْ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي - ﷺ - واتبعوه، وصاروا من المفلحين، لكنهم يتَّبعون الظنَّ، ويعتمدون على التقليد، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب، وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم، فوقعوا في الضلال البعيد.
١٠٤ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد - ﷺ -، وبما جاء به (٢)، وهذا النداء وقع في القرآن في ثمانية وثمانين موضعًا، وهذا أوَّل خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإقبال عليه، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين، يذكرهم بأنَّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقَّى أوامر الله تعالى ونواهيه، ويحسن الطاعة والامتثال. قال أبو حيان (٣): إنَّ أوّل نداءٍ أتى عامًّا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ وثاني: نداء أتى خاصًّا ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا﴾ وهي الطائفة العظيمة، اشتملت على الملّتين اليهودية والنصرانية، وثالث نداءٍ لأمّة محمد - ﷺ - المؤمنين، فكان أوّل نداء عامًّا أمروا فيه بأصل الإِسلام، وهو عبادة الله، وثاني نداء ذُكّرُوا فيه بالنعم الجزيلة، وتُعِبِّدُوا بالتكاليف الجليلة، وخُوّفوا من حلول النقم الوبيلة،
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
﴿لَا تَقُولُوا﴾ (١) لنبيّكم محمد - ﷺ -، إذا ألقى عليكم شيئًا من العلم، وأكثر عليكم في الإلقاء وتابع فيه، وصَعُب عليكم الأَخْذُ منه مع الموالاة، وطلبتم منه الإمهال والتأنّي في الإلقاء؛ لِيُحفَظَ لكم ما سمعتم منه أوَّلًا، قبل الإلقاء الثاني ﴿رَاعِنَا﴾ يا رسول الله!؛ أي: أمهلنا وانظرنا في الإلقاء، وتأنَّ، ولا تتابعه علينا؛ لنحفظ ما سمعنا منك أوَّلًا قبل أن تُلْقي علينا ثانيًا؛ لأنَّ هذه الكلمة وإن كان معناها في لغة العرب هكذا، فإنَّها توَافق في اللفظ كلمةً عبرانيةً، أو سريانيَّةً، وضعت للمَسبَّة كانت اليهود يتسابُّون بها فيما بينهم؛ لأنَّ معنى ﴿رَاعِنَا﴾ عندهم: اشملَنْا بحُمْقِك، وأَفِدْنا ولَهَك، وخاطِبْنَا بكلامك الخسيس، فإنَّ اليهود إذا سمعت مخاطبتكم للنبي - ﷺ - بهذه الكلمة، وأنتم تريدون معناها العربيَّ، فإنَّهم يخاطبون النبيَّ بهذه.
روي: أنَّ (٢) المسلمين كانوا يقولون لرسول الله - ﷺ -: إذا تلا عليهم شيئًا من العلم: راعنا يا رسول الله! أي: تأنَّ بنا، وأمهل في الإلقاء حتى نفهم كلامك، واليهود كانت لهم كلمةٌ عبرانيةٌ يتسابُّون بها فيما بينهم، فلمَّا سمعوا المؤمنين يقولون: ﴿رَاعِنَا﴾ خاطبوا به النبيَّ - ﷺ -، وهم يريدون بها تلك المسبَّة، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ منهم، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده: لئن سمعتها من أحد منكم يقولها: لرسول الله - ﷺ -، لأضربنَّ عنقه، قالوا: أو لستم تقولون بها؟ فنهي المؤمنون عنها، فأُمِروا بلفظةٍ أخرى؛ لئلا يجد اليهود بذلك سبيلًا إلى شتم
(٢) المراح.
وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن مُحيصن: ﴿رَاعِنًا﴾ بالتنوين جعله صفةً لمصدر محذوف؛ أي: لا تقولوا قولًا راعنًا، وهو على طريق النسب، كلابن، وتامر، وقال الحسنُ: الراعن من القول، السُّخريُّ منه. اهـ. ولمّا كان القول سببًا في السَّبِّ اتَّصف بالرعْنِ، فنُهوا في هذه القراءة أن يخاطبوا الرسولَ بلفظٍ يكون، أو يوهم شيئًا من الغَضِّ والنَّقص، ممَّا يستحقُّه - ﷺ - من التعظيم، وتلطيفِ القول وأدَبِهِ، مأخوذٌ من الرُّعونة وهو الحُمْقُ، وكذا قيل: في ﴿راعونا﴾ إنّه فاعولا من الرعونة، كعاشورا. وقيل: إنّ اليهود تقول: راعنا؛ أي: رَاعِي غنمنا ﴿وَقُولُوا﴾ أيها المؤمنون عند طلب الإمهال منه، والتأني في الإلقاء ﴿انْظُرْنَا﴾؛ أي: انتظرنا وأَمْهِل لنا، ولا تُوال في الإلقاء من نظره إذا انتظره.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿انْظُرْنَا﴾ موصولَ الهمزة مضمومَ الظاء من النظرة وهي التأخير؛ أي: انتظرنا وتأنَّ علينا، نحو قوله:
فإِنَّكُمَا إنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً | مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ |
(٢) البحر المحيط.
ظَاهِراتُ الجَمَالِ والحُسْن يَنْظُرْ | نَ كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ |
أبا هند فلا تَعْجَلْ علينا | وأَنظِرنا نُخَبِّرْك اليقينا |
ولمَّا نهى أوّلًا، وأمر ثانيًا، وأمر بالسمع وحضَّ عليه إذ في ضِمْنهِ الطاعةُ، أخَذَ يُذَكِّرُ لِمَنْ خالَف أَمْرَه بقوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾؛ أي: ولليهود الذين سبُّوا رسول الله - ﷺ -، وتهاونوا بأمر الرسول، وظاهره العموم، فيدخل فيه اليهود دخولًا أوَّليًّا
(٢) المراح.
قال الأستاذ الإمام (٢): إنَّ هذا التأديب ليس خاصًّا بمن كان في عصره - ﷺ - من المؤمنين، بل يعم من جاء بعدهم أيضًا، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم، وكان يجب عليهم الاستماع له، والإنصات لتدبره، هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيءٌ، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولًا تجب طاعته، والاهتداء بهديه، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون، إنهم يلغطون في مجلس القرآن، فلا يستمعون، ولا ينصتون، ومن أنصت، واستمع؛ فإنَّما ينصت طربًا بالصوت، واستلذاذًا بتوقيع نغمات القارئ، وإنّهم ليقولون في استحسان ذلك، واستجادته ما يقولون في مجلس الغناء، ويهتزُّون للتلاوة، ويصوِّتون بأصواتٍ مخصوصة، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شيءٍ من معانيه إلّا ما يرونه مدعاةً لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام، مع الغفلة عمَّا فيها من العبرة، وإعلاء شأن الفضيلة، ولا سيما العِفَّةُ والأمانة، أليس هذا أقربَ إلى الاستهانة بالقرآن، منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة، وأمثالها؟ ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ ﴿أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾.
١٠٥ - ﴿مَا يَوَدُّ﴾ ويحبُّ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأنكروا بما جاء به محمدٌ - ﷺ - ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: من اليهود والنصارى، ككعب بن الأشرف ﴿وَلَا﴾ من
(٢) المراغي.
فائدةٌ: وقرأ أبو عمرو بالتخفيف.
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ هو قائم مقام فاعله، و ﴿مِنْ﴾ مزيدةٌ لاستغراق الخير، والخير الوحي، والقرآن، والنصرة كائنٌ ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: أن ينزَّل عليكم وحيٌ من ربّكم؛ لأنّهم يحسدونكم فيه، و ﴿مِنْ﴾ هنا لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد، ويجوز (٢) أن تكون، للتبعيض، والمعنى: من خير كائن من خيوركم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلَّقت بقوله: ﴿يُنَزَّلَ﴾، وإذا كانت للتبعيض تعلَّقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضافٍ، كما قدَّرناه آنفًا. ذكره في "البحر".
والمعنى (٣): إنّهم يرون أنفسهم أحقَّ بأن يوحى إليهم، فيحسدونكم، ويكرهون أن يُنزَّل عليكم شيءٌ من الوحي، أمَّا اليهود فَبِناءً على أنّهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياء النَّاشِئُون في مَهابِطِ الوحي، وأنتم أميُّون، وأمَّا المشركون فإدْلاَلًا بما كان لهم من الجاه والمال، زعمًا منهم أنَّ رياسة الرسالة كسائر الرياسات
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
يقال: خصَّه بالشيء. واختصه، إذا أفرده به دون غيره، ومفعول المشيئة محذوفٌ، تقديره: من يشاء تخصيصه بفضله، والرحمة (١) هنا عامَّةٌ بجميع أنواعها، أو النبوة، والوحي، والحكمة، والنصرة، اختصَّ بها محمدٌ - ﷺ - قاله عليٌّ، والباقر، ومجاهدٌ، والزجَّاجُ، أو الإِسلام، قاله ابن عباس، أو القرآن، أو النبيُّ - ﷺ - ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وهو نبيُّ الرحمة أقوالٌ خمسةٌ أظهرها الأول.
والمعنى: يفرد (٢) سبحانه برحمته من يشاء إفراده بها، ويجعَلها مقصورة عليه؛ لاستحقاقه الذاتيِّ الفائض عليهِ بحُبِّ إرادته عزّ وجلّ، لا تتعدَّاه إلى غيره، لا يجب علِيه شيءٌ، وليس لأحدٍ عليه حقٌّ، وسبب (٣) عدم ودهم ذلك، أمَّا في اليهود، فلِكون النبوة كانت في بني إسماعيل؛ ولخوفهم على رئاستهم، وأمَّا النصارى؛ فلتكذيبهم في ادعائهم ألوهيَّة عيسى، وأنّه ابنُ الله؛ ولخوفهم على رئاستهم، وأمَّا المشركون؛ فلسبِّ آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، ولحسدهم أن يكون رجلٌ منهم يختصُّ بالرسالة، واتباع الناس له. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: صاحب المَنِّ الكبير، والعطاء الكثير بالوحي على محمد - ﷺ -، وبالإِسلام بلا غرض، ولا علَّةٍ؛ يعني (٤): أنَّ الله تعالى يخصُّ بنبوّته ورسالته من يشاء من عباده، ويتفضَّل بالإيمان والهداية على من أحبَّ من خلقه
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) العمدة.
فائدةٌ: قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربَّه من خمسة أوجهٍ:
أولها: أنّه أبغض كُلَّ نعمةٍ ظهرت على غيره.
والثاني: أنّه يتسخَّطُ قسمته تعالى، ويقول لربّه: لِمَ قسمت هكذا.
والثالث: أنَّ فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضله.
والرابع: أنّه خذل وليَّ الله تعالى؛ لأنّه يريد خذلانه، وزوال النعمة عنه.
والخامس: أنّه أعان عدوَّه؛ يعني: إبليس اللعين.
واعلم: أنَّ حسدك لا ينفذ على عدوِّك، بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظةٍ، أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي حجرًا إلى عدوّه ليصيب به مقلته، فلا يصيبه، بل يرجع إلى حدقته اليُمْنى فيقلعها، فيزيد غضبه ثانيًا، فيعود ويرمي أشدَّ من الأولى، فيرجع على عينه اليسرى فيعميها، فيزداد - غضبه ثالثًا، فيعود ويرميه، فيرجع الحجر على رأسه فيشُجُّه، وعدوُّه سالمٌ في كُل حال، وهو إليه راجعٌ كرَّةً بعد أُخرى، وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون، وهذا حال الحسود، وسخرية الشياطين.
وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يأتي بعض الملوك، فيقوم بحذائه ويقول: أَحْسِنْ إلى المحسنِ بإحسانه، فإنَّ المسيء يكفيه إساءته، فحسده رجلٌ على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، وقال: إنّ هذا الرجل يَزْعُم أنَّ الملك أبْخَرُ، فقال الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك فانظر، فإنّه إذا دنا منك وضع يده على أنفه أن لا يشمّ ريح البخر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، فقام بحذاء الملك، فقال على عادته مثل ما قال، فقال له الملك: ادن منّي، فدنا منه واضعًا يده على فيه مخافة أن يشمَّ الملك منه ريح الثوم، فصدَّق الملك في نفسه قول
وخلاصة معنى الآية (١): أي إنَّ الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدةٌ لكم، لا يودُّون أن ينزل عليكم خيرٌ من ربّكم، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، به جمع الله شملكم، ووحَّد شعوبكم، وقبائلكم، وطهَّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وكذلك المشركون، إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوَّةً للإسلام، ورسوخًا لقواعده، وتثبيتًا لأركانه، وانتشارًا لهديه، وهم يودُّون أن تدور عليكم الدَّوائر، وينتهي أمركم، ويزول دينكم من صفحة الوجود. وحسد الحاسد يدلُّ على أنَّه ساخطٌ على ربّه معترضٌ عليه؛ لأنَّه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يضيره سخط الساخطين ولا يحول مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختص من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنَّة، وكُلُّ عباده غارقٌ في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحدٍ أن يحسد أحدًا على خيرٍ أصابه، وفضلٍ أوتيه من عند ربه.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على ﴿نِعْمَتِيَ﴾ كما مرّ مرارًا ﴿أَخَذْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، والتقدير: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي عليكم، وحين أخذنا ميثاقكم ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿وَرَفَعْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿فَوْقَكُمُ﴾ ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق برفعنا ﴿الطُّورَ﴾ مفعول به ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ مقول محكي لقول محذوف معطوف على ﴿رفعنا﴾، تقديره: ورفعنا فوقكم الطور فقلنا خذوا ما آتيناكم، وإن شئت قلت: ﴿خُذُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقلنا المحذوف ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به لخذوا ﴿آتَيْنَاكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما آتيناكموه؛ لأنّ آتى بمعنى: أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد المفعول الثاني المحذوف ﴿بِقُوَّةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير المخاطبين، تقديره: حال كونكم ملتبسين بقوّة وعزيمة ﴿وَاسْمَعُوا﴾ الواو عاطفة ﴿اسمعوا﴾ فعل أمر وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿خُذُوا﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ مقول محكي لقالوا منصوب بفتحة مقدّرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت: ﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: سمعنا قولك، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَعَصَيْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿سَمِعْنَا﴾، ومفعوله محذوف، تقديره: وعصينا أمرك ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ الواو حالية ﴿أشربوا﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل ﴿في قُلُوبِهِمُ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأُشربوا ﴿الْعِجْلَ﴾ مفعول به ثان لأُشربوا؛ لأن الأول كان نائب فاعل، والجملة
﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿كَانَتْ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بإن الشرطية، والتاء علامة تأنيث اسمها ﴿لَكُمُ﴾ جار ومجرور خبر لكان، مقدّم على اسمها ﴿الدَّارُ﴾ اسمها مؤخّر، ﴿الْآخِرَةُ﴾ صفة للدار ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف مكان ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، والتقدير: إن كانت الدار الآخرة كائنة
أحدها: أنّه ﴿خَالِصَةً﴾ فيكون ﴿عِنْدَ﴾ ظرفًا لخالصةً، وللاستقرار الذي في ﴿لَكُمُ﴾.
والثاني: أنَّ الخبر ﴿لَكُمُ﴾ فيتعلَّق بمحذوف، ونصب ﴿خَالِصَةً﴾ حينئذٍ على الحال.
والثالث: أنَّ الخبر هو الظرف و ﴿خَالِصَةً﴾ حال أيضًا. انتهى.
وفي "الكرخي": ﴿خَالِصَةً﴾ مصدرٌ جاء على وزن فاعلة، كالعافية، والعاقبة، وهو بمعنى الخلوص. اهـ. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ الفاء رابطةٌ لجواب ﴿إِن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية ﴿تمنّوا﴾ فعل أمر في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونها جوابًا لها مبني على حذف النون، والواو فاعل ﴿الْمَوْتَ﴾ مفعول به، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مع جوابها في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم ﴿كنتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿صَادِقِينَ﴾ خبر كان منصوب بالياء، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلومٌ مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محلِّ النصب مقول ﴿قُل﴾ أيضًا.
فائدة: ولا تدخل ﴿إِن﴾ الشرطية على فعل ماض في المعنى إلّا على كان؛ لكثرة استعمالها، وأنها لا تدلّ على حدث. ذكره العكبريُّ.
﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)﴾.
﴿وَلَنْ﴾ الواو استئنافية ﴿لن﴾ حرف نفي ونصب واستقبال ﴿يَتَمَنَّوْهُ﴾ فعل مضارع منصوب بلن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به ﴿أَبَدًا﴾ ظرف زمان متعلق بيتمنوه ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بيتمنوه أيضًا، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم ﴿لتجدنّ﴾ فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أوّل، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت يعود على محمد - ﷺ -، أو على أيِّ مخاطب ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ﴾ مفعول ثاني لتجد ومضاف إليه ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ جار ومجرور متعلقٌ بأحرص، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ﴾ الواو عاطفة ﴿من الذين﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف دل عليه السياق، معطوف ذلك المحذوف على ﴿أَحْرَصَ﴾ لغرض التخصيص بعد التعميم، والتقدير: ولتجدنّهم أحرص من جميع الناس على حياةٍ متطاولة، وأحرص من الذين أشركوا ﴿أَشْرَكُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومضاف إليه ﴿لَوْ﴾ حرف مصدر ﴿يُعَمَّرُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة مرفوع، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدُهُمْ﴾. ﴿أَلْفَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بيعمّر، وهو مضاف ﴿سَنَةٍ﴾ مضاف إليه، وجملة ﴿يُعَمَّرَ﴾ صلة ﴿لَوْ﴾ المصدرية و ﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليودّ، تقديره: يودّ أحدهم تعميره ألف سنة، وجملة ﴿يَوَدُّ﴾ من الفعل والفاعل في محل النصب حال من ضمير المفعول في ﴿تجدنّهم﴾، تقديره: لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة حالة كون أحدهم وادًّا تعميره ألف سنة، أو مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب ﴿وَمَا﴾ الواو حالية ﴿مَا﴾ حجازيّة ﴿هُوَ﴾ ضمير يعود على التعمير المفهوم من السياق، في محل الرفع اسم ﴿مَا﴾ الحجازيّة ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ الباء زائدة في خبر ﴿مَا﴾ الحجازيّة ﴿مزحزحه﴾ مجرور لفظًا منصوب محلًا على أنّه خبر ﴿مَا﴾ وهو مضاف،
﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ...﴾ إلخ مقول محكي لقل، وإن شئت قلت: ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أقوال: قيل: فعل الشرط وهو الراجح، كما في "أبي النجا على الأجرومية"، وقيل: جوابه، وقيل: هما معًا ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿عَدُوًّا﴾ خبرها ﴿لِجِبْرِيلَ﴾ اللام حرف جرّ ﴿جبريل﴾ مجرور بالفتحة للعلمية والعجمية، والجار والمجرور متعلق بعدوًّا؛ لأنّه بمعنى معاديًا، وجواب الشرط محذوف جوازًا، تقديره: فليمت غيظًا، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿فَإِنَّهُ﴾ الفاء تعليلية للجواب المحذوف ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، والهاء اسمها، وهو عائد على جبريل ﴿نَزَّلَهُ﴾ فعل ومفعول، والهاء عائد على القرآن، وفي إضماره على ما لم يسبق ذكره؛ تفخيم لشأن صاحبه، كأنّه يدلُّ على نفسه، وفاعله ضمير مستتر يعود على جبريل، ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ جار ومجرور
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾:
﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، خبره جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، كما مرّ آنفًا. ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَن﴾ ﴿عَدُوًّا﴾ خبرها منصوب ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بعدوًّا ﴿وَمَلَائِكَتِهِ﴾ معطوف على الجلالة، وهو مضاف، والضمير مضاف إليه، وكذلك ﴿وَرُسُلِهِ﴾ معطوف على الجلالة، وكذلك ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ معطوفان على الجلالة مجروران بالفتحة للعلمية والعجمة، وذكرهما من بعد الملائكة من ذكر الخاص بعد العام؛ إظهارًا لمزيّته، كما مرّ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ الفاء رابطة لجواب مَن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية ﴿إنّ الله﴾ ناصب واسمه، وأُظهِر في موضع الإضمار؛ دفعًا لإيهام أنّه يعود إلى جبريل ﴿عَدُوٌّ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ متعلق به، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط موجود، وهو الاسم الظاهر؛ أعني: لفظ الجلالة؛ لقيامه مقام الضمير؛ لأنّ الأصل من كان عدوًّا لله، وملائكته، ورسله، فإنّ الله عدوٌّ له، أو لهم، وقيل: الرابط العموم، وله في القرآن
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿أَنْزَلْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به ﴿آيَاتٍ﴾ مفعول به ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ صفة لآيات، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وعزّتي وجلالي، لقد أنزلنا إليك... الخ. وجملة القسم مستأنفة ﴿وَمَا يَكْفُرُ﴾ الواو حالية ﴿مَا﴾ نافية ﴿يَكْفُرُ﴾ فعل مضارع ﴿بِهَا﴾ متعلق بيكفر ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرّغ ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ فاعل مرفوع بالواو، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آيات، وسوّغ مجيء الحال من النكرة وصفها بما بعدها ﴿أَوَكُلَّمَا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب ﴿كلما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمّنه معنى إن الشرطية، والظرف متعلق بالجواب ﴿عَاهَدُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لكلما لا محل لها من الإعراب ﴿عَهْدًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، أو منصوب على أنّه مفعول به ثان لعاهدوا، إذا كان ﴿عَاهَدُوا﴾ بمعنى أعطوا، والأوّل محذوف، تقديره: عاهدوا الله عهدًا ﴿نَبَذَهُ﴾ فعل ومفعول ﴿فَرِيقٌ﴾ فاعل ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق، والجملة جواب ﴿كلما﴾ لا محل لها من الإعراب، وهذه الجملة هي محل الاستفهام الإنكاري، وجملة ﴿كلما﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها مستأنفة ﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة السابقة. أو مستأنفة، إن قلنا: إنّ بَلْ حرف ابتداء.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو عاطفة ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم ﴿جَاءَهُمْ﴾ فعل ماض ومفعول به ﴿رَسُولٌ﴾ فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط للمَّا لا محل لها من الإعراب ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، صفة أولى لرسول، تقديره: رسول مرسل من عند الله ﴿مُصَدِّقٌ﴾ صفة ثانية لرسول ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ اللام حرف جرّ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمصدّق ﴿مَعَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة، تقديره: مصدّق للذي استقرّ معهم ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿كلما﴾ أو مستأنفة ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور صفة لفريق ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، والواو نائب فاعل والكتاب مفعول ثانٍ لأوتوا، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ مفعول به لنبذ ﴿وَرَاءَ﴾ منصوب على الظرفية المكانية متعلق بنبذ، وهو مضاف ﴿ظُهُورِهِمْ﴾ مضاف إليه ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ كأنّ حرف نصب وتشبيه، والهاء اسمها، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿كأنّ﴾ في محل النصب حال من فريق؛ لتخصّصه بالوصف، تقديره: حالة كونهم مشبهين بمن لا يعلم.
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾.
﴿وَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: نَبَذَ فَرِيق على كونها جوابًا للمّا، وفي "الفتوحات": والأولى أن تكون هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ إلى آخرها؛ لأنّ عطفها على نَبَذَةُ يقتضي كونها جوابًا لقوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ الله. واتِّباعهم لما تتلو الشياطين ليس مترتِّبًا على مجيء الرسول، بل كان اتباعهم لذلك قبله ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول اتبعوا ﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ فعل مضارع معتلّ
وفي "الفتوحات": واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال:
أحدها: أنّها حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾؛ أي: كفروا معلمين الناس.
الثاني: أنّها حال من ﴿الشَّيَاطِينَ﴾ وردّه أبو البقاء بأن ﴿لَكِنِ﴾ لا تعمل في الحال، وليس بشيء، فإنّ ﴿لَكِنِ﴾ فيها رائحة الفعل.
الثالث: أنها في محل الرفع على أنّها خبر ثان للشياطين.
الرابع: أنها بدل من ﴿كفروا﴾ أبدل الفعل من الفعل.
الخامس: أنّها استئنافية أخبر عنهم بذلك.
هذا إذا أعدنا الضمير من ﴿يُعَلِّمُونَ﴾ على ﴿الشَّيَاطِينَ﴾، أما إذا أعدناه على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين، فتكون حالًا من فاعل اتبعوا، أو استئنافية فقط. انتهى. ﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب معطوفة على
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾.
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ الفاء استئنافية، أو فصيحة، مبني على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الملكين لا يعلمان أحدًا حتى
وفي "الفتوحات": وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه:
أحدها: أنّه الفاعل المستكن في ﴿بِضَارِّينَ﴾ والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كونهم ملتبسين بإذن الله.
والثاني: أنّه المفعول وهو أحد، وسوّغ مجيء الحال من النكرة اعتمادها على النفي، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كونه ملتبسًا بإذن الله.
والثالث: أنه الهاء في ﴿بِهِ﴾؛ أي: بالسحر، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كون ذلك السحر مقرونًا بإذن الله، وإرادته.
والرابع: أنّه المصدر المعرف وهو الضرر، إلّا أنّه حذف؛ للدلالة عليه، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا الضرر إلّا حالة كون ذلك الضرر واقعًا بإذن الله وقدرته ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا﴾ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به ﴿يَضُرُّهُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو استئنافية مسوقة للشروع في بيان حالهم بعد تعلم السحر، واللام موطئة لقسم محذوف ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿عَلِمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ اللام حرف ابتداء مُعلِّقَةٌ لما قبلها عن العمل فيما بعدها لفظًا ﴿مَنِ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿اشْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول، والفاعل ضمير مستتر يعود على ﴿مَنِ﴾ والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿مَا﴾ نافية ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بمحذوف حال مقدمة على صاحبها الذي هو ﴿خَلَاقٍ﴾. ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿خَلَاقٍ﴾ مبتدأ مؤخّر، والتقدير: ما خلاق كائن له حال كونه في الآخرة، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿لَمَنِ﴾ الموصولة.
وجملة ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ من المبتدأ والخبر في محل النصب سادّة مسدّ مفعولَي ﴿عَلِمُوا﴾ إن كان متعديًا لاثنين، ومسد مفعوله إن كان متعديًا لواحد.
﴿وَلَبِئْسَ﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة، واللام موطئة لقسم محذوف ﴿بئس﴾ فعل ماض جامد من أفعال الذم وفاعله ضمير مستتر وجوبًا يعود على الشيء المبهم ﴿مَا﴾ نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب على التمييز مفسّرة لفاعل ﴿بئس﴾. ﴿شَرَوْا﴾ فعل وفاعل ﴿بِهِ﴾ متعلق بشروا، وهذا الضمير هو الرابط بين جملة الصفة والموصوف ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به لشروا، والتقدير: ولبئس الشيء شيئًا شروا به أنفسهم، وجملة ﴿بئس﴾ من الفعل والفاعل جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، أو معطوفة على جملة
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ الواو استئنافية ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿وَاتَّقَوْا﴾ معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾ والتقدير: ولو أنّهم مؤمنون بالله ومتّقون إيّاه، وجملة أنّ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف جوازًا؛ لأنَّ لو الشرطية لا يليها إلّا الفعل، والتقدير: ولو ثبت إيمانهم وتقواهم ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ اللام رابطة لجواب لَّوْ الشرطية، وقيل: هي لام الابتداء مثوبة مبتدأ ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ وهذا الوصف سوّغ الابتداء بالنكرة، والتقدير: لمثوبة كائنة من عند الله ﴿خَيْرٌ﴾ لهم خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب لو الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة لو الشرطية مستأنفة ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها فعل شرط للو لا محل لها من الإعراب، وجواب لو محذوف دلّ عليه ما قبلها، تقديره: لو كانوا يعلمون خيرية الثواب من عند الله لما اختاروا السحر عليه، وجملة لو الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)﴾.
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)﴾.
﴿مَا﴾ نافية، ﴿يَوَدُّ﴾ فعل مضارع مرفوع ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الواو في كَفَرُوا ﴿وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ معطوف على أَهْلِ الكِتَاب وزيدت لا هنا؛ لتأكيد النفي السابق، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يُنَزَّلَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن المصدرية
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ تقدّم أن أصل الميثاق مِوْثاق، قلبت الواو ياءً لمَّا سُكِّنت بعد كسرةٍ ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أمر من أخذ، والقياس أن يسكن فاؤه، ويؤتى بهمزة وصل؛ للتوصل بها إلى النطق بالساكن، كما قالوا: اضرب، اصبر، ولكن قدَّمنا أنَّ هذا الفعل وهو أخذ، وكذلك أكَلَ، وأَمَر، أنَّ الأمر منها دائمًا، هكذا: خُذ، كُل، مُر ﴿مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أصله: أأتيناكم بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا حرف مدِّ للأولى ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ وبئس فعلٌ، وضع لإنشاء الذمّ، وأصله. فعِلَ، ولكنّهم خفَّفوا بسكون الوسط وله ولنِعْمَ باب معقود في النحو، وأصل إيمانكم: إئمانكم بهمزتين، أبدلت الثانية الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى.
﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ الدار فيه إعلال بالقلب، فألفه منقلبة عن واو، وأصله؛ دَوَرٌ تحركت الواو بعد فتح فقلبت ألفًا، ولذلك يصغر على دويرة ﴿خَالِصَةً﴾ الخالص: الذي لا يشوبه شيء، يقال: خلص يخلص خلوصًا، إذا
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ تجدنهم مضارع وجَدَ، وأصله: يَوْجِدُ من فَعَل بفتح العين في الماضي يفعِل بكسرها في المضارع، فهو مثالٌ وقعت الواو بين عدوَّتيها الياء المفتوحة والكسرة فحذفت، ثُمَّ بني الفعل على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد المباشرة، وقس على هذا ما شابهه، ومادَّة. وجد مشتركٌ بين الإصابة، والعلم، والغنى، والحرج، ويختلف بالمصادر، كالوجدان، والوجد، والموجدة، والحرص شدَّة الطلب، وفي "المصباح": وحَرَص عليه حرصًا من باب ضرب إذا اجتهد، والاسم الحِرص بالكسر، وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحَرِص حرصًا من باب تعب إذا رغب رغبةً مذمومةً. اهـ.
﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ من الود وهو المحبَّة للشيء والإيثار له، وهو مضارع وَدِدَ بكسر العين في الماضي، يَوْدَدُ بفتحها في المضارع من باب فَعِلَ يَفْعَلَ، نقلت حركة الدال إلى الواو، فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ من عمَّر المضعَّف، والتضعيف فيه للنقل، إذ هو من عَمَّر الرجل إذا طال عمره، وعمَّره الله إذا أطال عمره، والعمر مدَّةُ البقاء ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ والألف عشر من المئين، وقد يتجاوز فيه فيدلُّ على الشيء الكثير وهو من الألفة، إذ هو ما لَفَّ أنواعَ الأعداد، إذ العشرات ما لَفَّ الآحاد، والمئون ما لفَّ العشرات، والألف ما لفَّ المِئِين
خَلِيْلَيَّ ما بَالُ الدُّجَى لا يُزَحْزَحُ | وَمَا بالُ ضَوءِ الصُّبْحِ لا يتَوضَّحُ |
وَمَدًّا ابْدِل ثَانِيَ الهَمْزَيْنِ مِنْ | كِلْمَةٍ إنْ يَسْكُنْ كَآثِرْ وائتُمِينْ |
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ أصله؛ أَأْمنُوا، أبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مَدٍّ للأولى ﴿وَاتَّقَوْا﴾ أصله: أوْتَقَيُوا، أبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، ثم أبدلت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان الألف والواو، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة دالةً عليها ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ وَزْنهُ مَفْعُلَةً بضمّ العين من الثواب، نقلت حركة الواو إلى الفاء، فسكنت الواو إثر ضمة، فجعلت حرف مدّ. ونقل الواحديُّ: أنَّ المثوبة فيها قولان:
أحدهما: أنّ وزنها مَفْعُولة، والأصلُ: مَثْوُوْبةٌ بواوين، فثقلت الضمةُ على الواو الأولى، فنقلت إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان، فحذف أوّلهما الذي هو عين الكلمة، فصار مثوبة على وزن مفولة، ومحوزة، ومصونة، ومشوبة، وقد جاءت مصادر على وزن مفعول، كالمعقود، فهي مصدر نقل ذلك الواحديُّ.
والثاني: أنّها مفعُلةٌ بضم العين، وإنما نُقلت الضمة منها إلى الثاء، وكان من حقّها الإعلال، فيقال: مَثابة، كمَقالة، إلّا أنّها صحَّحوها. اهـ. "سمين". ﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ يقال: تلا يتلو إذا تبع، وتلا القرآن؛ قرأه. وتلا عليه؛ كذَب. قاله أبو مسلم، وقال أيضًا: تلا عنه؛ صدف. فإذا لم يذكر الصِلَتَين احتمل الأمرين ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾؛ أي: في زمنه، وسليمان: اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره من الأعجمية في أنَّ آخرُهُ ألفًا ونونًا هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان؛ لأنَّ زيادة الألف والنون موقوفةٌ على الاشتقاق، والتصريف، والاشتقاق، والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية ﴿السِّحْرَ﴾ مصدر سَحَر يَسْحَر سِحْرًا على وزن فِعْلٍ، ولا يوجد مصدرٌ على وزن فِعْلٍ إلّا سِحْرٌ وفِعْلٌ، قاله بعض أهل العلم، قال الجوهري: كُلُّ ما لطَفُ ودقَّ فهو سِحر، يقال: سحَرَهَ؛ أَبْدَى، له أمرًا يَدِقُّ عليه ويَخْفَى. انتهى. وقال الشاعر:
أدَاءٌ عرَانِي مِنْ حَيائِكَ أمْ سِحْرُ
ويقال: سحَرَه إذا خدَعه، ومنه قولُ امريء القيس:
أَرانَا موضعيَنِ لأمْرِ عيْب | وَنُسْحَرُ بالطَّعَامِ وَبالشرَابِ |
يَقُولُ أُناسٌ لا يَضِيْرُكَ نَابُهَا | بَلَى كُلُّ مَا شَفَّ النُّفُوسَ يضيْرُهَا |
يَدْعُوْنَ بالوَيْلِ فِيْهَا لا خَلاَقَ لَهُمْ | إلّا السَّرَابِيْلُ مِنْ قَطْرٍ وأغلاَلُ |
فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ | وَمالَكَ في غَالِب مِنْ خَلاق |
تَمِيمُ بنُ مُرٍّ لا تَكُونَنْ حَاجَتِي | بِظَهْرٍ وَلاَ يَعْيَا عَلَيْكَ جَوَابُهَا |
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ حيث شبَّه حبَّ عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبَّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الإشراب على طريق الاستعارة المكنية، قال في "تلخيص البيان"، وهذه استعارةٌ، والمراد: وصف قلوبهم بالمبالغة في حُبِّ العجل، فكأنَّها تشرَّبَتْ حُبَّه، فمازجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ، وقال بعضهم فيه: التشبيه البليغ؛ أي: جعلت قلوبهم لتَمَكُّن حب العجل منها، كأنَّها تشرب، ومثله قول زهير:
فصحوتَ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ داخِلٍ | وَالْحُبُّ يَشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَائِمًا |
ومنها: التهكُّم في قوله: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ حيث أسند الأمر إلى إيمانهم، وكذلك إضافةُ الإيمان إليهم، أمَّا الثاني فظاهرٌ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ تحقيرًا ودلالة على أنَّ مثل هذا لا يليق أن يسمَّى إيمانًا إلّا بالإضافة إليكم، وأمَّا الأوّل؛ فلأنَّ الإيمان إنّما يأمر ويدعو إلى عبادة من هو في غاية العلم والحكمة، فالإخبار بأنَّ إيمانهم يأمر بعبادة ما هو في غاية البلادة، في غاية التهكم والاستهزاء، سواءٌ جعل يأمر به بمعنى يدعو إليه أم لا. انتهى. من "الكرخي".
ومنها: التنكير في قوله: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾؛ للتنبيه على أنَّ المراد بها حياةٌ مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة التي يعمر فيها الشخص ألوفًا من السنين.
ومنها: الإتيانُ بالجملة الاسمية في جواب الشرط في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾؛ لزيادة التقبيح والتشنيع؛ لأنّها تُفِيدُ الثباتَ والدوامَ.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ حيث لم يقل: عدوٌّ لهم؛ لتسجيل صفة الكفر عليهم، وأنّهم بسبب عداوتهم للملائكة أصبحوا من الكافرين.
ومنها: الإظهار في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ حيث لم يقل: فإنه؛ دفعًا لاحتمال أن يعود الضمير إلى جبريل، أو ميكائيل.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾، إظهارًا لمزيَّتِهِ وشرفه.
ومها؛ إسناد النبذ إلى فريق منهم في قوله: ﴿نبذ فريق منهم﴾؛ إشعارًا بأنَّ منهم من لم ينبذ.
ومنها: خُروج الأمر عن معناه الأصليِّ إلى معنى التعجيز، في قوله: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ هو لأنَّ ذلك ليس من سِماتهم، ولا من ظواهرهم المألوفة، فإنَّ تمني الموت من شأن الأبرار المقرَّبين؛ لأنَّ من أيقن بالشهادة اشتاق إليها، وبكى حنينًا إليها، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب (أنّه كان يطوف بين الصفين، في غلالة، فقال ابنه الحسن: ما هذا بزيِّ المحاربين؟ فقال: يا بنيّ! لا يبالي أبوك سقط على الموت أم سقط عليه الموت)، ولمَّا احتضر خالد بن الوليد بكى، فقيل له: ما يبكيك؛ قال: (والله ما أُبالي إشفاقًا من الموت، ولكن لأنّي حضرت كذا وكذا معركةً، ثمّ أموت هكذا، كما تموت العنز، فلا نامت أعين الجبناء) وعن حذيفة أنّه كان يتمنَّى الموت، فلما احتضر قال: (حبيبٌ جاء على فاقةٍ لا أفلح من ندم! يعني: على التمنِّي، وعن النبي - ﷺ -: (لو تمنَّوا الموت لغَصَّ كُلُّ إنسان منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ).
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾؛ لأنّه كنايةٌ عن الكثرة، فليس المراد خصوص الألف.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿رَسُولٌ﴾؛ للدلالة على التفخيم والتعظيم.
ومنها: وصفه بقوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأنَّه آتٍ من عند الله، إفادةً لمزيد التعظيم.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ كناقة الله وبيت الله.
ومنها: التمثيل في قوله: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾؛ لأنّه تمثيل لتركهم وإعراضهم عن كتاب الله بالكلية، حيث رموه بالعناد، ولم يعملوا به بما يرمى به وراء الظهر استغناءً عنه، وقلَّة التفاتٍ إليه.
ومنها: حكاية حالٍ ماضيةٍ في قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ حيث لم يقل تلت الشياطين؛ لأنَّ تلاوتهم من الأمور الماضية فعبَّر عنها بالمستقبل حكايةً لها.
ومنها: زيادة مِنْ في المفعول في قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾؛ لإفادة تأكيد الاستغراق المستفاد من أحد.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾؛ لبيان أنّه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأنٌ سواها؛ لِنَصْرِفَ الناسَ عن تعلُّمِه.
ومنها: فنٌّ رفيعٌ في فنون البلاغة في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾؛ الخ. وقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وهو تنزيل العلم منزلة الجاهل، فإنَّ صدر الآية يدلُّ على ثبوت العلم في أنّه لا نفع لهم في اشتراء كتب السحر والشعوذة، واختيارها على كتب الله تعالى، وآخر الآية ينفي عنهم العلم، فإنَّ لو تدلُّ على امتناع الثاني لامتناع الأول، إلا أنَّ نفي العلم عنهم لأمرٍ خطابيٍّ، نظرًا إلى أنَّهم لا يعملون على مقتضى العلم، ولكن في ذلك مبالغةٌ من حيث الإشارة، إلى أنَّ علمهم بعدم الثواب كافٍ في الامتناع، فكيف العلم بالذمِّ والرداءة.
ومنها: الإتيان بالجملة الاسمية في جواب لو الشرطية في قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ بدل الجملة الفعلية؛ للدلالة على الثبوت والاستمرار.
ومنها: تنكير مثوبة في قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾؛ لإفادة التقليل؛ أي: شيءٌ قليلٌ من الثواب كائنٌ من عند الله خيرٌ.
ومنها: حذف المفضَّل عليه في قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾؛ إجلالًا للمفضَّل من أن ينسب إليه، وهو السحر.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ لأنَّ نفي الودِّ عنهم كنايةٌ عن الكراهة؛ أي: ما يحب الذين كفروا الخ.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
ومنها: تصدير الجملتين بلفظ الجلالة في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ﴾ وقوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ﴾ للإيذان بفخامة الأمر.
ومنها: فنُّ التهذيب في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ وهو ترداد النظر فيما يكتبه الكاتب، وينظمه الشاعر، فقد خلصت هذه الآية من الإيهام، ودلَّتْ على آداب المخاطبة ليكون الكلام بريئًا من المطاعن، بعيدًا عن الملاحن.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه، لمَّا بيَّن حقيقة الوحي (١)، وردَّ كلام الكارهين له جملةً.. بَيَّنَ سرَّ نسخه، وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنّه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثمَّ ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذٍ، فأطيعوا أمره، واتَّبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا.
قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا نهى في الآيات السابقة عن الاستماع لنصح
وقد كان لأهل الكتاب حيلٌ في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوَّل النهار، ويكفروا آخره كي يتأسَّى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين، ليشككوهم في دينهم.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها من حيث إنَّ هذه الآيات في بيان أباطيل أخر لأهل الكتاب وقبائحهم، حيث ادَّعى كلٌّ من الفريقين اليهود والنصارى أنَّ الجنّة خاصَّةٌ به، وطعن في دين الآخر، فأكذب الله الفريقين، وبيَّن أنّ الجنّة إنّما يفوز بها المؤمن التقيُّ الذي عمل الصالحات.
واعلم: أنّ الله سبحانه ذكر في هذه الآية حالين من أحوال اليهود (١):
أولاهما: تضليل من عداهم، وادعاؤهم أنَّ الحق لا يعدوهم، وأنّ النبوة مقصورةٌ عليهم.
وثانيهما: تضليل اليهود للنصارى، وتضليل النصارى لهم، كذلك مع أنَّ كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمِّمٌ لكتاب اليهود.
والعبرة من هذا القصص: أنَّهم قد صاروا إلى حال من اتباع الأهواء، لا يعتدُّ معها بقول أحد منهم، لا في نفسه، ولا في غيره، فطعنهم في النبي - ﷺ -، وإعراضهم عن الإيمان به، لا يثبت دعواهم في أنّه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى، وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة، وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذٍ يعتدُّ برأيهم في محمدٍ - ﷺ -؟ وهو من غير
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾ سبحانه الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر افتراء اليهود والنصارى وقولهم: إنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودًا أو نصارى، وإنّها خاصة بهم.. أردف ذلك بذكر بعض قبائحهم، وقبائح المشركين في ادّعائهم: أنّ لله ولدًا، حيث زعمت اليهود: أنَّ عزيرًا ابن الله، وزعمت النصارى: أنّ المسيح ابن الله، وزعم المشركون: أنّ الملائكة بنات الله، فأكذبهم الله وردَّ عليهم دعواهم الباطلة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: (كان ربما ينزل على النبي - ﷺ - الوحي بالليل وينساه في النهار، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا نَنْسَخْ﴾ الآية).
وروي أنَّ هذه الآيات نزلت حين قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرٍ، ثُمَّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول: اليوم قولا ويرجع عنه غدًا، فقد أمر في حد الزنا بإيذاء الزانيين باللِّسان حيث قال: ﴿فَآذُوهُمَا﴾ ثُمَّ غيَّره وأمر بإمساكهن في البيوت، حيث قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ ثمَّ غيَّره بقوله: ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فما هذا القرآن إلّا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضًا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين؛ ليضعِّفوا عزيمة من يريد الدخول فيه، وينضوي تحت لوائه.
قوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رفيع بن خزيمة، ووهب بن زيد لرسول الله - ﷺ -: يا محمد! ائتنا بكتابٍ تنزله علينا من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهارًا نتَّبعك ونصدِّقك، فأنزل الله في ذلك: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآية، سبب نزولها: أنّه كان حُييُّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، من أشدّ اليهود حسدًا، للعرب، إذْ خصّهم الله تعالى برسوله، وكانوا جاهدين في رد الناس عن الإِسلام، فأنزل الله فيهما: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد أنّه أخبره: أنَّ رسول الله - ﷺ - ركب على حمار، فقال لسعد: "ألم تسمع ما قال أبو الحباب" يريد عبد الله بن أبي؟ قال: "كذا وكذا"، فقال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فعفا عنه رسول الله - ﷺ -، وكان رسول الله - ﷺ - يعفو عن أهل الكتاب والمشركين، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لمَّا قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله - ﷺ -، أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله - ﷺ -، فقال رافع بن حرملة من اليهود: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى، وبالإنجيل، وقال: رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية، ما أخرجه ابن جرير، عن ابن زيد قال: نزلت هذه الآية في المشركين حين صدُّوا رسول الله - ﷺ -، عن مكة يوم الحديبية، وأخرج ابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: إنّ قريشًا منعوا النبيَّ - ﷺ - الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله سبحانه ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ الآية.
١٠٦ - ولمَّا حرَّم الله سبحانه وتعالى قولهم: ﴿رَاعِنَا﴾ بعد حلِّه، وكان ذلك من باب النسخ، قال: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ بغير عطف؛ لشدّة ارتباطه بما قبله. و ﴿مَا﴾ شرطية جازمة لننسخ، منتصبةٌ به على المفعولية؛ أي: أي شيء ﴿نَنْسَخْ﴾! ومحلُّ قوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ النَّصب تمييزًا لما الشرطيَّة، والنسخ في اللُّغة: الإزالة والنقل، يقال: نسخت الريح الأثر؛ أي: أزالته، ونسخت الشمس الظلَّ إذا أزالته، ونسخت الكتاب؛ أي: نقلته من نسخةٍ.
واصطلاحًا: بيان انتهاء حكم التعبُّد بتلاوة الآية، وقراءتها، أو انتهاء التعبُّد بالحكم المستفاد منها، أو بهما جميعًا.
فالأوَّل: أعني: نسخ التلاوة دون الحكم، كآية الرجم، كما روي أنَّ مما يتلى عليكم في كتاب الله (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتةَ) فهو منسوخ التلاوة دون الحكم، ومعنى النسخ في مثلها: انتهاء التكليف بقراءتها عند نسخ تلاوتها، وهذا القسم قليلٌ، وهو المراد بقوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾.
والثاني: أعني: نسخ الحكم دون التلاوة، فكآية عدّة الوفاة بالحول، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ نسخت بأربعة أشهر وعشرًا، المذكور في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ إلى غير ذلك من الأمثلة، كالآيات التي نسخت بآية السيف، وكمصابرة الواحد لعشرة في القتال، نسخت بمصابرة الواحد للاثنين، فهو منسوخ الحكم دون التلاوة، وهو المعروف الكثير من النسخ في القرآن، فتكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين في التلاوة، إلّا أنَّ المنسوخة لا يعمل بها، ومعنى النسخ في مثلها: بيان انتهاء التكليف بالحكم المستفاد منها عند نزول الآية المتأخِّرة عنها، وحسن بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ورفعه؛ ليبقى حصول الثواب بقراءتها، فإنّ القرآن كما يتلى لحفظ حكمه لتيسير العمل به، يتلى أيضًا؛ لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه.
وهذان القسمان هما المذكوران بقوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ فدخل تحت قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ قسمان من أقسام النسخ، وهما: نسخ الحكم واللفظ معًا، أو الحكم فقط، وتحت قوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ﴾ قسمٌ واحد، وهو نسخ اللفظ دون الحكم. قال القرطبي: الجمهور على أنَّ النسخ إنّما هو مختصٌّ بالأوامر، والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ؛ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
والمعنى: أيَّ شيء من الآيات ننسخ ونرفع حكمها مع بقاء لفظها؟ كآية عدّة الوفاة بالحول بآية أربعة أشهر وعشرة أيام، أو ننسخ ونرفع لفظها وحكمها جميعًا، كنسخ عشر رضعات بخمس رضعات ﴿أو ننسأها﴾؛ أي: نؤخِّر ونبق حكمها مع رفع تلاوتها، كآية الرجم؛ لأنّه إمّا من النَّسيء إنْ قرأنا بفتح النون والسين، أو من الإنساء إن قرأنا بضمّ النون وكسر السين، وكلاهما بمعنى التأخير، والمراد: تأخير حكمها وإبقاؤه مع نسخ تلاوتها، أو تأخيرها في اللوح المحفوظ عن الإنزال إلى وقتٍ أراد الله سبحانه إنزالها فيه، وفي "الروح" قوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾؛ أي: نذهبها عن قلوبكم، فإنساء الآية إذهابها من القلوب، كما روي إنَّ قومًا من الصحابة قاموا ليلةً ليقرؤوا سورةً، فلم يذكروا منها إلّا البسملة، فغدوا إلى النبي - ﷺ - وأخبروه، فقال - ﷺ -: "تلك سورةٌ رفعت بتلاوتها وأحكامها" ﴿نَأْتِ﴾؛ أي: نرسل جبريل ﴿بِخَيْرٍ﴾ أي: بآيةٍ هي خيرٌ وأسهل على العباد؛ أي: من المنسوخة؛ أي: نرسله (١) بما هو أنفع لكم، وأسهل عليكم، وأكثر لأجوركم، وليس معناه: أنَّ آيةً خيرٌ من آية؛ لأنَّ كلام الله تعالى واحدٌ، وكلُّه
والمعنى: إنّ كُلَّ آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة، والمصلحة من إزالة لفظها، أو حكمها، أو كليهما معًا إلى بدلٍ، أو إلى غير بدل، كما في إنسائها، وإذهابها عن القلوب بالكلية، كما روي عن قومٍ من الصحابة ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾؛ أي: نوح إليك غيرها مما هو خيرٌ للعباد، بحسب الحال من الذاهبة، أو ممَّا هو مثلها في النفع والثواب. فكلُّ ما نسخ إلى أيسر، فهو أسهل في العمل، وما نسخ إلى الأشقّ، فهو في الثواب أكثر، أمَّا الأول: فكنسخ الاعتداد بحولٍ، ونقله إلى الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، وأمَّا الثاني: فكنسخ ترك القتال بإيجابه، وقد يكون النسخ بمثل الأول لا أخفَّ ولا أشقَّ، كنسخ التوجُّه إلى بيت المقدس، بالتوجه إلى الكعبة، وهذا الحكم غير مختصٍّ بنسخ الآية التامَّة فما فوقها، بل جارٍ فيما دونها أيضًا، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب.
واعلم: أنَّ الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخًا تجوّزًا في الإسناد، بناءً على أنَّ النسخ يقع به، والمنسوخ هو الحكم المزال، والمنسوخ عنه: هو المُتعبِّدُ بالعبادةِ المُزالَةِ وهو المكلَّف، والحكمة (١) في النسخ: أنّ الطبيبَ المباشرَ لإصلاح البدن، يُغيِّر الأغذية، والأدوية، بحسب اختلاف الأمزجة، والأزمنة، كذلك الأنبياء المباشرون لإصلاح النفوس، يغيِّرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقيَّة التي هي للنفوس بمنزلة العقاقير، والأغذية
قال الأستاذ الإمام: والمعنى الصحيح الذي يَلْتَئِمُ مع السياق: أنَّ الآية هنا ما يؤيّد الله تعالى به الأنبياء، من الدلائل على نبوتهم؛ أي: ما ننسخ من آية نقيمها دليلًا على نبوّة نبيّ من الأنبياء؛ أي: نزيلها، ونترك تأييد نبيٍّ آخر بها، أو ننسها الناس؛ لطول العهد بمن جاء بها، فإنَّا بما لنا من القدرة الكاملة، والتصرّف في الملك؛ نأت بخير منها في قوّة الإقناع، وإثبات النبوة، أو بمثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته، وسعة ملكه، فلا يتقيَّدُ بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه. اهـ. وقد سبقه إلى مثله محيي الدين ابن العربي في "تفسيره". وقرأ الجمهور (٢) ﴿مَا نَنْسَخْ﴾ من نسخ الثلاثي بمعنى: أزال. وقرأت طائفة، وابن عامر من السبعة ﴿ما نُنسِخ﴾ بضمّ النون الأولى من أنسخ الرباعي، وهو بمعنى: نسخ الثلاثي.
وقرأ عُمر وابن عباس، والنخعيُّ، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، ومن السبعة ابن كثير، وأبو عمرو ﴿أو نَنْسَأْهَا﴾ بفتح نون المضارعة والسين، وسكون الهمزة. وقرأ طائفة كذلك، إلّا أنّه بغير همز، وذكر أبو عبيد البكريُّ في كتاب "اللَّالي" ذلك، عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وَهِمَ، وكذا قال ابن عطية، قال: وقرأ سعد بن أبي وقاص: ﴿تَنْسَاها﴾ بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز، وهي قراءة الحسن، وابن يعمر، وقرأت فرقة كذلك، إلّا أنهم همَّزوا. وقرأ أبو حيوة كذلك، إلّا أنّه ضمَّ التاء. وقرأ سعيدٌ كذلك، إلّا أنه بغير همز، وقرأ باقي السبعة ﴿نُنْسِها﴾ بضمّ النون وكسر السين من غير همزت، وقرأ
(٢) البحر المحيط.
ثمّ أقام الدليل على إمكان الننسخ، فقال:
١٠٧ - ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ يا محمد! الخطاب للنبي - ﷺ -، والمراد (١) غيره من المؤمنين الذين ربّما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود، وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثِّر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الرُّكونِ إلى الشُّبهة، أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك؛ تثبيتًا لهم؛ وتقويةً لإيمانهم ببيان أنَّ القادر على كل شيء، لا يستنكر عليه نسخ الأحكام؛ لأنّها ممَّا تتناولها قدرته. والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: إنك تعلم يا محمد! ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فمنه النسخ والتبديل ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر، فيقدر على النسخ، والإتيان بمثل المنسوخ، وبما هو خير منه.
والمعنى (٢): ألم تعلم يا محمد؟ أني قادر على تعويضك ممَّا نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خيرٌ لك، ولعبادي المؤمنين، وأنفع لك ولهم عاجلًا، أو آجلًا، وسبق لك آنفًا أنَّ الهمزة للاستفهام التقريري، والمعنى: أي: أَقرَّ واعترفْ يا محمد! بكون الله
(٢) الخازن.
﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَهُ﴾ لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما فيهما، وما بينهما، أي: سلطنتهما، فهو المتصرِّف فيهما دون غيره، يحكم فيهما، وفيما فيهما بما شاء من أمر، ونهي، ونسخ، وتبديل، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو كالدليل على قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الملك: تمام القدرة واستحكامها، وتخصيص السموات والأرض بالذكر، وإن كان الله تعالى له ملك الدنيا والآخرة جميعًا؛ لكونهما أعظم المصنوعات المحسوسة، وأعجبها شأنًا. وهذا الخبر (٢)، وإن كان خطابًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكن فيه تكذيبٌ لليهود الذين أنكروا النسخ، وجحدوا نبوّة عيسى، ومحمدٍ عليهما الصلاة والسلام، فأخبرهم أنَّ الله سبحانه وتعالى، له ملك السموات والأرض، وأنَّ الخلق كُلَّهم عبيده، وتحت تصرُّفه، يحكم فيهم ما يشاء، وعليهم السمع والطاعة، فعلم أنَّ هذه الجملة، كالدليل على قوله: ﴿أنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ﴾، كما مرَّ، أو على جواز النسخ، ولذلك ترك العاطف ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
(٢) العمدة.
والمعنى: إن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة وهو العلم بـ ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ والعلمُ بـ ﴿أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والعلمُ بأنْ ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ هو الجَزْمُ والإيقان، بأنّه تعالى لا يفعل بهم في أمرٍ من أمور دينهم، أو دنياهم إلّا ما هو خيرٌ لهم، والعمل بموجبه شيءٌ من الثقة والتوكّل عليه، وتفويض الأمر إليه من غير إصغاءٍ إلى أقاويلِ الكفرة، وتشكيكاتهم التي هي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ. وقيل: المعنى: ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ يا معشر اليهود والكفار! عند نزول العذاب ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾؛ أي: ممَّا سوى الله ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾؛ أي: قريبٍ وصديقٍ يحميكم من عذاب الله، وقيل: والٍ يلي أمركم ويقوم به ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾؛ أي: ولا ناصر يمنعكم من عذاب الله، وإنما هو الذي يملك أموركم، ويجريها على ما يصلح لكم، وفي هذا تحذيرٌ من عذاب الله، إذ لا مانع منه.
ولمَّا قالت اليهود: يا محمد! ائتنا بكتابٍ من السماء جملةً، كما أتى موسى بالتوراة، نزل قوله تعالى:
١٠٨ - ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ وأمْ هنا (١) منقطعةٌ تقدَّر ببل والهمزة، ويكون إضراب انتقال من قصّةٍ إلى أخرى، لا إضراب إبطالٍ،
وقيل (١): أم في قوله: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ معادِلةٌ للهمزة في ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ والخطاب للمؤمنين؛ أي: ألم تَعْلَموا؟ أيها المؤمنون! أنّه سبحانه مالك الأمور، وقادرٌ على الأشياء كلِّها، يأمر وينهى كما أراد، أم تعلمون، وتقترحون بالسؤال، كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام، والمراد: توصية المؤمنين بالثقة به، وترك الاقتراح عليه، وهو المفاجأة بالسؤال من غير رويَّةٍ وفكرٍ ﴿أَنْ تَسْأَلُوا﴾ وأنتم مؤمنون ﴿رَسُولَكُمْ﴾ محمدًا - ﷺ -، وهو في تلك المرتبة من علوِّ الشأن، وتقترحوا عليه ما تشتهون، غير واثقين بأموركم بفضل الله تعالى، حسبما يوجبه قضيّةُ علمكم بشؤونه تعالى. قيل: لعلَّهم كانوا يطلبون منه - ﷺ -، تفاصيل الحِكَمِ الداعية إلى النسخ ﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى﴾ مصدر تشبيهيٌّ! أي: نعت لمصدر مؤكّد محذوف، وما مصدرية؛ أي: تسألون رسولكم سؤالًا مشبهًا لله سؤال موسى عليه السلام، حيث قيل له: اجعل لنا إلهًا، وأرنا الله جهرةً، وغير ذلك. وقرىء (سِيْلَ بالياء) ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل محمد - ﷺ - متعلق بسئل؛ جيء به للتأكيد ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ﴾؛ أي: من يختر الكفر لنفسه، ويأخذه، ﴿بِالْإِيمَانِ﴾؛ أي: بدل الإيمان؛ أي: أخذه في مقابلة الإيمان بدلًا عنه؛ أي: ومن يختر الكفر على الإيمان، ويأخذه لنفسه بدل الإيمان.
وحاصله: من يترك الثقة بالآيات البينة المنزَّلة، بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خيرٌ محضٌ، وحقٌّ بحتٌ، واقترح غيرها {فَقَدْ
ومعنى ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي: قصد الطريق السويّ، ووسطه الذي هو بين الغلوّ والتقصير وهو الحق، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: قد أخطأ الطريق المستوي؛ أي: المعتدل الحقَّ. وقرىء ﴿يُبْدِلْ﴾ من أبدل الرباعيِّ. وقد قرئ ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ بالإدغام، وبالإظهار في السبعة، والمعنى: ومن ترك الثقة بالآيات البينات المنزَّلة، وشكّ فيها، واقترح غيرها، فقد ضَلَّ الطريق المستوي حتى وقع في الكفر بعد الإيمان، وحاصل معنى الآية: لا تقترحوا فتضِلُّوا وسط السبيل وقصده، ويؤدِّي بكم إلى البعد عن المقصد، وتبديل الكفر بالإيمان.
وأكثر المفسرين (١): على أنَّ سبب نزول الآية اليهود حين قالوا: يا محمد! ائتنا بكتاب من عند الله جملةً، كما جاء موسى بالتوارة جملةً، فنزلت هذه الآية كما قال في آية أخرى ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿جَهْرَةً﴾ فالمخاطبون بقوله: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ هم اليهود، وإضافة الرسول إليهم في قوله: ﴿رَسُولَكُمْ﴾ باعتبار أنّهم من أمة الدعوة، ومعنى تبدُّل الكفر بالإيمان، ترك صرف قدرتهم إليه مع تمكنهم من ذلك، وإيثارهم للكفر عليه. قال الإِمام: وهذا القول أصحُّ؛ لأنَّ الآية مدنيَّةٌ؛ ولأنّ هذه السورة من أوّل قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ حكايةٌ عنهم، ومحاجَّةٌ معهم، وفي الآية إشارة إلى حفظ الآداب، فمن لم يتأدَّب بين يدي مولاه، ورسوله، وخلفائه، فقد تعرَّض للكفر، وحقيقة الأدب: اجتماع خصال الخير، وعن النبي - ﷺ - قال: "حقُّ الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن مرضعه، ويحسن أدبه، فإنّه مسؤولٌ عنه يوم القيامة، ومؤاخذٌ بالتقصير فيه". وسئل ابن سيرين: أيُّ الأدب أقرب إلى الله؟ فقال: معرفة ربوبيته، والعمل بطاعته، والحمد على السراء، والصبر على الضرّاء. انتهى كلامه.
١٠٩ - ﴿وَدَّ﴾ أي: تمنَّى وأحبَّ ﴿كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛
﴿فَاعْفُوا﴾ واسمحوا عنهم أيها المؤمنون! إساءتهم، أي: اتركوهم، فلا تؤاخذوهم بهذه المقالة بالانتقام الفعلي، كالقتل والضرب ﴿وَاصْفَحُوا﴾؛ أي: أعرضوا عنهم، فلا تلوموهم على أخلاقهم، وكلامهم السيء، ولا تقابلوهم بالانتقام القولي؛ أي: فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عمّا يكون منهم من الجهل، والعداوة. وأصل (٢) العفو: ترك عقوبة المذنب، يقال: عفت الريح المنزل درسته، وعفا المنزل يعفو درس، ويتعدّى، ولا يتعدّى، ومن ترك المذنب، فكأنّه درس ذنبه من حيث إنّه ترك المكافأة والمجازاة، وذلك لا يستلزم الصفح، ولذا قال تعالى: ﴿وَاصْفَحُوا﴾ فإنّه قد يعفو الإنسان ولا يصفح. والصفح: ترك التقريع باللسان والاستقصاء، يقال: صفحت عن فلانٍ، إذ أعْرضْتَ عن ذنبه بالكلية، وقد ضربت عنه وتركته، وليس المراد بالعفو والصفح المأمور بهما: الرضى بما فعلوا؛ لأنّ ذلك كفرٌ، والله تعالى لا يأمر به، بل المراد بهما: ترك المقاتلة والإعراض عن الجواب عن مساوي كلامهم. انتهى من "الروح".
والفرق بين العفو والصفح: أنّ العفو: ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): حتى يحكم الله بحكمه الذي هو الإذن في قتالهم، وضرب الجزية عليهم، أو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير. روي أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - استأذنوا رسول الله - ﷺ -، في أن يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بأنفسهم، ودعوا المسلمين إلى الكفر، فنزلت الآية بترك القتال، والإعراض عن المكافأة إلى أن يجيء الإذن من الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾ فهو يقدر على الانتقام منهم بالقتل والإجلاء، وينتقم منهم إذا جاء أوانه، ففيه وعيدٌ وتهديدٌ لهم. والمعنى: أنّه تعالى قويٌّ قادرٌ على كل شيء، إن شاء انتقم منهم، وإن شاء هداهم. له الخلق والأمر. ولمَّا أمر الله سبحانه وتعالى، المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود، أمرهم بما فيه صلاحُ أنفسهم من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، الواجبتين، فقال:
١١٠ - ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾
(٢) روح البيان.
سَابِقْ إلى الخيرِ وبَادِر به | فإنَّما خَلْفَكَ ما تَعْلَمُ |
وقدِّمَ الخَيْرَ فكُلُّ امرئٍ | عَلَى الَّذي قدَّمَهُ يَقْدُمُ |
وعن عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه مرَّ ببقيع الغرقد، فقال: (السلام عليكم أهل القبور أخبار ما عندنا، إنَّ نساءكم قد تزوَّجْنَ، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتفٌ: يا ابن الخطاب! أخبار ما عندنا: إنّ ما قدَّمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلَّفناه فقد خسرناه). ولقد أحسن هذا القائل:
قَدِّم لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِك صَالِحًا | واعْمَلْ فَلَيْس إلَى الخُلُودِ سَبِيلُ |
١١١ - ﴿وَقَالُوا﴾ معطوف (١) على ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ والضمير لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وتقدّم لك في الأسباب: أنَّ هذه المحاورة وقعت بين يهود المدينة ونصارى نجران، حينما اجتمعوا عند رسول الله - ﷺ - ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ لم يقل كانوا؛ حملًا للاسم على لفظ من، وجمع الخبر؛ حملًا على معناه، واليهود: جمع هائدٍ، اسم فاعل من هاد إذا تاب، نظير قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ وكأنَّه في الأصل: اسم مدح لمن تاب من عبادة العجل، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازمًا لجماعتهم، كالعَلَم لهم، والنصارى: جمع نصران كسكران، والمعنى: أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، ولا دين إلّا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلّا من كان نصرانيًّا، ولا دين إلّا دين النصرانية، و ﴿أَوْ﴾ هنا للتفصيل.
وقدّمت اليهود على النصارى (٢)؛ لفظًا لتقدّمهم زمانًا ﴿تِلْكَ﴾ المقالة الباطلة وهي: أنّ الجنة لا يدخلها إلّا من كان هودًا أو نصارى. ﴿أَمَانِيُّهُمْ﴾؛ أي: متمنِّياتهم الكاذبة التي تمنّوها من الله من غير حجة ولا برهان، وشهواتهم الباطلة التي لا أصل لها، وخيالاتهم العاطلة التي لا وجود لها، والأمانيُّ: جمع أمنيَّةٍ أفعولةٌ من التَّمنِّي وهي: ما يتمنَّى، كالأضحوكة، والأعجوبة، والتَّمنِّي: التشهِّي، والعرب تُسمِّي الكلام العاري عن الحجة تمنِّيًا، وغرورًا، وضلالًا، وأحلامًا مجازًا، وجمع (٣) الأمانيّ باعتبار صدورها عن الجميع من اليهود والنصارى، وعبارة "الصاوي" هنا: وإنّما جمع الخبر مع كون المبتدأ مفردًا؛ لأنّه في المعنى جمعٌ؛ لأنّه عائد على القولة، وهي بمعنى: المقالات باعتبار القائلين. اهـ.
(٢) كرخي.
(٣) روح البيان.
١١٢ - ﴿بَلَى﴾ إثباتٌ لما نفوه من دخول غيرهم الجنة؛ لأنَّ بلى لإثبات النفي؛ أي: يدخلها غيركم، وعبارة "الروح": اعلم أنَّ قولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ...﴾ إلخ. مشتملٌ على إيجاب ونفي، أمّا الإيجاب: فهو أن يدخل الجنّة اليهود والنصارى، وأمّا النفي: فهو أن لا يدخل الجنة غيرهم، فقوله: ﴿بَلَى﴾ إثبات لما نفوه في كلامهم، فكأنّهم قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، فأجيبوا بقوله: بلى يدخل الجنة غيركم، وليس الأمر كما تزعمون ﴿مَنْ أَسْلَمَ﴾ وبذل ﴿وَجْهَهُ﴾؛ أي: نفسه (لـ) ـطاعة ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وأخلص إيمانه لا يشرك به شيئًا، وانقاد لأمره، وأخلص عبادته من شوائب الرياء والسمعة، فإنَّ إسلام (١) شيءٍ لشي جعله سالمًا بأن لا يكون لأحد حقٌّ فيه، لا من حيث التخليق والمالكية، ولا من حيث استحقاق العبادة والتعظيم، عبَّر عنها بالوجه؛ لكونه أشرف الأعضاء من حيث إنَّه معدن الحواس، والفكر، والتخيُّل، فهو مجاز من باب ذكر الجزء، وإرادة الكل، ومنهم قولهم: كرَّم الله وجهك، ويحتمل أن يكون إخلاص الوجه كنايةً عن إخلاص الذات؛ لأنَّ من جاد بوجهه لا يبخل بشيء من جوارحه، ويكون الوجه بمعنى العضو المخصوص، وقوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ حالٌ من ضمير ﴿أَسْلَمَ﴾؛ أي: وهو مع إخلاصه وتسليم النفس إلى الله بالكلية بالخضوع والانقياد، محسنٌ في جميع أعماله، بأن يعملها على وجهةٍ يستصوبها، فإنَّ إخلاصها لله لا يستلزم كونها مستحسنة بحسب الشرع، وحقيقة الإحسان: الإتيان بالعمل على الوجه اللائق، وهو حسنه الوصفيُّ التابع لحسنه الذاتيِّ، وقد فسره - ﷺ - بقوله: "أن تعبد الله كأنّك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا
وأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ... لَهُ الأرضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا
وأسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلاَلاَ
يعني بذلك: استسلمت لطاعته الأرض والمزن ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الآخرة بالخلود في النار، أمَّا في الدنيا، فالمؤمنون أشدُّ خوفًا وحزنًا من غيرهم من أجل خوفهم من العاقبة، فإنَّهم يخافون من أن يصيبهم الشدائد، والأهوال العظام قُدَّامَهَم، ويحزنون على ما فاتهم من الأعمال، والطاعات، المؤدِّية إلى الفوز بأنواع السعادات، فإنَّ المؤمن، كما لا يقنط من رحمة الله، لا يأمن من غضبه وعقابه، كما قيل: لا يجتمع خوفان ولا أمنان، فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر، وتفويت الثواب، فإنَّ الخوف إنّما يكون مما يتوقَّع في المستقبل، كما أنَّ الحزن على ما وقع سابقًا، ومن أَمِنَ في الدنيا خاف في الآخرة... وجمع الضمير هنا؛
أمَّا عابدوا الأوثان والأصنام، فهم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم، فإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، داخلهم الهلع، ولم يستطيعوا صبرًا على البأساء، وهم يَسْتَخْذُون للدجَّالين، والمُشَعْوِذين، ويعتقدون سَلْطَنةً غيبيَّة لكل من يعمل عملًا لا يهتدون إلى معرفة سببه. والآية (٢) ترشد إلى أنَّ الإيمان الخالص لا يكفي وحده للنجاة، بل لا بدّ أن يقرن بإحسان العمل، وقد جَرَتْ سنة القرآن، إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات، كقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ وقوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ ثُمَّ ذكر مقال كلٍّ من الفريقين في الآخرة بقوله:
١١٣ - ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ...﴾ إلخ. بيان لتضليل كل فريق من اليهود والنصارى صاحبه بخصوصه، إثر بيان تضليله كُلَّ من عداه على وجه العموم؛ أي: وقالت اليهود ﴿لَيْسَتِ النَّصَارَى﴾ في دينهم ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾؛ أي: على أمر يصحُّ، ويعتدُّ به عند الله؛ أي: ليسوا على صواب، فكفروا بعيسى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ في دينهم ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾؛ أي: على أمر يصحُّ، ويعتدُّ به عند الله تعالى، أي: ليسوا على صواب، فكفروا بموسى، وهذه المقالة منهما أصدق مقالةٍ قالتها اليهود والنصارى، وجملة قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ
(٢) المراغي.
﴿فَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَحْكُمُ﴾ ويَفْصِلُ، ويقضى ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين هؤلاء الفرق الثلاثة، وغيرهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: يوم الجزاء، سُمِّي يوم القيامة؛ لأنّه يوم يقوم الناس فيه لربّ العالمين ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ﴾ متعلِّقٌ بيختلفون، قدم عليه؛ للمحافظة على رؤوس الآي؛ أي: يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا
وقيل (١): معنى ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين الفرق المذكورة اليهود، والنصارى، ومشركي العرب، ومن أسلم وجهه لله وهو محسن، فيُدْخِل المحقَّ الجنة، والمبطل النار، وهذا المعنى الذي يقتضيه السياق؛ أي: فهو العليم بما عليه كُلُّ فريق من حقٍّ وباطل، فَيُحِقّ الحقَّ، ويجعل أهله في النعيم، ويبطل الباطل، ويُلْقيَ أهلَه في سواء الجحيم. وفِعْلُ الحُكْم يتعدَّى بجارّين، الباء، وفي، كما يقال: حكم الحاكم في هذه القضية بكذا، وفي الآية قد ذكر المحكوم فيه دون المحكوم به. واعلم أنَّ كُلَّ حزب بما لديهم فرحون، وليس ذلك في الفرق الضالة خاصَّةً.
١١٤ - ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ ﴿مَنْ﴾ للاستفهام الإنكاري المضَمَّن للنفي، مبتدأ، و ﴿أظلم﴾ خبره، أي: وأيُّ امرئٍ أشدُّ ظلمًا وتعدِّيًا على الله تعالى ﴿مِمَّنْ مَنَعَ﴾؛ أي: من امرئٍ منع ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾؟ والمراد بالمساجد: بيت المقدس، والمسجد الحرام، على الخلاف في سبب النزول، كما سيأتي، وصيغة الجمع؛ لكون حكم الآية عامًّا لكل من فعل ذلك في أيِّ مسجد كان، كما تقول: لمن آذى صالحًا واحدًا، ومن أظلم ممَّن آذى الصالحين؛ لأنّه لا عبرة بخصوص السبب، كما هو القاعدة في الأسباب، وقوله: ﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ ثاني مفعولَي مَنَع، فإنَّه يقتضي ممنوعًا وممنوعًا عنه، فتارةً يتعدى إليهما بنفسه، كما في قَوْلِك: مَنَعْتُه الأمر، وتارة يتعدى إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرّ، وهو كلمة عن، أو من مذكورةً كانت كما في قولك: منعته من الأمر، أو محذوفةً، كما في الآية؛ أي: من أن يسبَّح ويقدَّس ويصلَّى له فيها ﴿وَسَعَى﴾؛ أي: عمل واجتهد ﴿فِي خَرَابِهَا﴾ بالهدم، والخراب: اسم مصدرٍ للتخريب، كالسلام للتسليم، وأصله: الثَّلْمُ والتفريقُ؛ أي: لا أحد من المانعين عن الخيرات أشدُّ ظلمًا وتعديًا على الله سبحانه ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه،
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أن فَلَيْطَيُوسَ الرُّوميّ مَلِكَ النصارى، وأصحابه غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسَبَوْا ذرارِيَّهم، وأحرقوا التوراة، وخرَّبوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف، وذبحوا فيه الخنازير، ولم يزل خرابًا حتى بناه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) وذلك لمَّا استولى عُمر رضي الله عنه على ولاية كِسرى، وغنم أموالَهم، عَمَّر بها بَيْتَ المقدس، ثم صار في أيدي النصارى من الإفرنج أكثر من مائة سنة، حتى فتحه، واستخلصه من أيديهم، الملك الناصر صلاح الدين من آل أيوب، سنة خمسمائة وخمس وثمانين بعد الهجرة. وقيل: نزلت الآية في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله عن الدعاء إلى الله تعالى بمكة، وألجؤوه إلى الهجرة، فصاروا بذلك مانعين له - ﷺ -، ولأصحابه أن يذكروا اسم الله في المسجد الحرام، وأيضًا: أنّهم صدُّوا رسول الله - ﷺ -، وأصحابه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية، وهي السنة السادسة من الهجرة، والحديبية: موضعٌ على طريق مكة، فعلى هذا يكون المسجد الذي نزلت الآية فيه المسجد الحرام، فالمراد بالخراب في قوله: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ تعطيلهم المسجد الحرام عن الذكر والعبادة، دون تخريبه وهدمه حقيقةً، ويجعل تعطيل المسجد عنهما تخريبًا؛ لأنَّ المقصود من بنائه إنما هو الذكرُ والعبادةُ فيه، فما دام لم يترتَّب عليه هذا
فإن قلت: إنّ هذه الآية تقتضي: أنَّ من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، لا يساويه أحدٌ في الظلم، فهي تعارض مع قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ومع قوله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ المقتضي كُلُّ آيةٍ منها بأنّه لا أحد أظلم ممن ذكر فيها؟
قلت: إنّ معنى المفاضلة في كل منها يعتبر بالنظر إلى صلته، فكأنَّه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا، ولا أحد من الكذابين أظلم ممن كذب على الله سبحانه وتعالى، وهكذا كُلُّ ما جاء من أمثالها، وقد يجاب عنه بأجوبة أخرى، فليرجع إليها في المطولات.
أجيب عنه: بأنَّ من خرَّب مسجدًا من هذين، فكأنّما خرَّب مساجد كثيرة بالقوَّة؛ لأنَّهما أفضل المساجد، وغيرهما تبعٌ لهما ﴿أُولَئِكَ﴾ المانعون الذين يسعون في تخريب بيوت الله ﴿مَا كَانَ﴾ ينبغي ﴿لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا﴾؛ أي: أن يدخلوا المساجد ﴿إِلَّا خَائِفِينَ﴾ من المسلمين أن يبطشوا بهم فضلًا عن أن يمنعوهم منها، وهذا الحكم عامٌّ لكل من فعل ذلك في أيِّ مسجدٍ كان ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المانعين ﴿فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾؛ أي: هوان بالقتل، والسبي، وضرب الجزية عليهم ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: شديدٌ أشدَّ مما لهم في الدنيا؛ بسبب كفرهم، وظلمهم، وهو عذاب النار.
الإعراب
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)﴾.
﴿مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا؛ لأنّه من أسماء الشروط لننسخ ﴿نَنْسَخْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، واسم الشرط ليس معرفة، فلا يجوز أن يكون الجار والمجرور حالًا منه، والتقدير: أي شيء كائنًا من الآيات ننسخه، فهو مفردٌ وقع موقع الجمع، وهذا مطردٌ بعد الشرط؛ لما فيه من معنى العموم، وعلى هذا يخرَّج كُلُّ ما جاء من هذا التركيب، كقوله: ما يفتح الله للناس من رحمة وما بكم من نعمة فمن الله، وأجاز بعضهم أن تكون من آية في موضع نصب على التمييز والمُميَّز ﴿مَا﴾ وليس ببعيدٍ أيضًا، وأعربها ابن هشام في موضع نصب على الحال، وليس ببعيدٍ أيضًا ﴿أَوْ﴾ حرف
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري ﴿لم تعلم﴾ جازم وفعل مجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدّم ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السموات، والجملة من المبتدأ والخبر في محل رفع خبر أَنَّ وجملة أَنَّ من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي ﴿تَعْلَمْ﴾. ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ الواو عاطفة مَا نافية لَكُم جار ومجرور خبر مقدّم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف حال من قوله: ﴿وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾. ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿وَلِيٍّ﴾ مبتدأ مؤخّر ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ معطوف على ﴿وَلِيٍّ﴾، والتقدير: وما وليّ ولا نصير كائنان لكم من دون الله، أو حالة كونهما كائنين من دون الله، والجملة من المبتدأ والخبر في
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والهمزة الاستفهامية أعني: الإضراب الانتقالي؛ أي: الانتقال من قصّة إلى أخرى، ولم تجعل متّصلة؛ لفقد شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام، أو التسوية ﴿تُرِيدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر ﴿تَسْأَلُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن ﴿رَسُولَكُمْ﴾ مفعول أوَّل ومضاف إليه، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إنزال الكتاب جملةً، أو الإتيان بالله والملائكة قبيلًا، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية و ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعوليَّة لتريدون، تقديره: بل أتريدون سؤال رسولكم محمدٍ - ﷺ - إنزال الكتاب جملةً مثلًا ﴿كَمَا سُئِلَ﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه ﴿مَا﴾ مصدرية ﴿سُئِلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة ﴿مُوسَى﴾ نائب فاعل، وهو المفعول الأول لسئل، والثاني محذوف، تقديره: رؤية الربّ جهرةً ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلِّق بسئل، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، و ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كسؤال أسلافكم موسى رؤية الربّ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: أم تريدون أن تسألوا رسولكم سؤالًا كائنًا، كسؤال أسلافكم موسى عليه السلام، ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ﴾ الواو استئنافية ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، والأول أصحُّ ﴿يَتَبَدَّلِ﴾ فعل مضارع مجزوم بِمَنْ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿الْكُفْرَ﴾ مفعول به ﴿بِالْإِيمَانِ﴾ جار ومجرور متعلق بيتبدل، وهو المتروك ﴿فَقَدْ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بقد ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿ضَلَّ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿سَوَاءَ﴾ مفعول به على التوسُّع، وهو مضاف ﴿السَّبِيلِ﴾ مضاف إليه وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: السبيل المستوي، والجملة الفعلية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه صفة لكثير ﴿لَوْ﴾ حرف مصدر ﴿يَرُدُّونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل مرفوع بثبات النون ﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيردّون ﴿كُفَّارًا﴾ مفعول ثان ليردّونكم؛ لأنّه من أفعال التصيير، والجملة الفعلية صلة ﴿لَوْ﴾ المصدرية، و ﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لودَّ؛ تقديره: ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب ردَّكم كفارًا من بعد إيمانكم ﴿حَسَدًا﴾ مفعولٌ لأجله منصوب بودَّ ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بمحذوف صفةٍ لحسدًا، تقديره: حسدًا كائنًا من عند أنفسهم ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور متعلّق بودَّ ﴿ما﴾ مصدرية ﴿تَبَيَّنَ﴾ فعل ماض ﴿لَهُمُ﴾ متعلق به ﴿الْحَقُّ﴾ فاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبيُّن الحق، وظهوره لهم ﴿فَاعْفُوا﴾ الفاء فاء الفصيحة، مبنيةٌ على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حسدهم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم ﴿اعْفُوا﴾ فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة ﴿وَاصْفَحُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿فَاعْفُوا﴾ ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية بمعنى إلى ﴿يَأْتِيَ﴾ فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة بعد حتى (ولفظ الجلالة) فاعل ﴿بِأَمْرِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بيأتي، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى إتيان الله بأمره، الجار والمجرور تنازع فيه كُلٌّ من الفعلين، فاعفوا واصفحوا ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلِّق بقدير، و ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿فَاعْفُوا﴾. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ معطوف على ﴿فَاعْفُوا﴾.
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو عاطفة ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ والضمير لأهل الكتاب ﴿لَنْ يَدْخُلَ﴾ ناصب ومنصوب ﴿الْجَنَّةَ﴾ مفعول به على السعة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرَّغ ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر، تقديره: هو يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿هُودًا﴾ خبرها منصوب ﴿أَوْ نَصَارَى﴾ معطوف على ﴿هُودًا﴾، والجملة صلة لِمَنْ الموصولة ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الدعوى، وهي قوله: ﴿وَقَالُوا﴾، ودليلها وهو قوله: ﴿قُلْ...﴾ إلخ. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة ﴿هَاتُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فعل
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)﴾.
﴿وَقَالَتِ﴾ الواو استئنافية ﴿قالت اليهود﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة؛ مسوقة لبيان حالة من حالات جهالتهم المتأصّلة في نفوسهم ﴿لَيْسَتِ النَّصَارَى﴾ فعل ناقص واسمه ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ جار ومجرور خبره، وجملة ليس في محل النصب مقول ﴿قَالَتِ﴾. ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى﴾ فعل وفاعل معطوف على {قالت
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة ﴿مِمَّنْ﴾ ﴿مِن﴾ حرف جرّ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ النسخ: الإزالة والنقل، يقال: نسخت الريح الأثر، أي: أزالته، ونسختَ الكتاب إذا نقلتَه من كتاب إلى آخر ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ قرئ بغير همز من أنسى ينسى إنساء، يقال: أنسى الشيء جعله منسيًّا، فهو من النسيان الذي هو ضِدُّ الذكر، وهو ذهاب الشيء من الذاكرة؛ أي: نمحها من القلوب، وقرىء ﴿نَنْسَأها﴾ بفتح النون والسين، وبالهمز من قولهم: نَسَأتُ هذا الأمر إذا أخَّرته، وأنسأ الله أجلك أخَّره وأطاله، والإنساء: تأخير الشيء أو إذهابه عن الذاكرة، والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي - ﷺ - بعد تبليغه إيّاها ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ الوليّ: القريب والصديق، وأصله: ولِيْيٌ على وزن فعِيْل، أدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة، والنصير: المعين، وتقدم الفرق بينهما في مبحث التفسير.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ وأصل تريدون: تُرْوِدون بوزن تُفْعِلون؛ لأنّه من راد لي رود، نقلت حركة الواو إلى الراء قبلها، فسكِّنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ فصار تريدون، والسؤال: الاقتراح المقصود به التعنت ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ﴾ بدَّل وتبدَّل واستبدل: جعل شيئًا موضع آخر. بعد الإيمان، أصله: إءمان بوزن إفعال، أبدلت الهمزة الساكنة حرف مد مجانسًا لحركة الأولى ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾؛ أي: عَدَلَ وجار، أصله: ضَلَلَ بوزن فعل، أدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكنت ﴿سَوَاءَ﴾ تقدم أن الهمزة فيه مبدلة عن ياء ﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ أصل ودَّ: وَدِدَ بكسر العين في الماضي، ومضارعه ودد، أدغمت الدال الأولى بعد تسكينها في الثانية، أمَّا في المضارع، فنقلت حركة الدال إلى الواو، ثمّ أدغمت الدال في الدال، فقيل: يَودُّ ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ أصله: يَرْدُدُونكم بوزن يفعُلُون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. ﴿فَاعْفُوا﴾ أمر من عفا يعفو، كصفا يصفو من باب فعل بفتح العين في الماضي، يفعُلُ بضمّها في المضارع، ولام الفعل واوٌ، وإذا أسند المضارع إلى واو الجماعة، صار يفعوون بوزن يفعلون، حذفت منه نون الرفع؛ لبناء الأمر على ما يجزم به مضارعه، ثُمَّ استثقلت الحركة على الواو، فحذفت فسكنت فالتقى ساكنان، لام الكلمة وواو الجماعة، فحذفت الأولى التي هي لام الكلمة، فصار
وفيه أيضًا: صفحت عن الذنب صفحًا من باب نفع: عفوت عنه، وصفحت عن الأمر: أعرضت عنه وتركته اهـ.
فعلى هذا يكون العطف في الآية للتأكيد، وحسَّنه تغاير اللفظين، وقال بعضهم: العفو: ترك العقوبة على الذنب، والصفح: ترك اللوم والعتاب عليه ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أصله: أَقْوِموا بوزن أَفْعِلوا، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أصله: أأتيوا بوزن أفعلوا، أمر من أتى الرباعي، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدٍّ مجانسًا لحركة الأولى، ثم استثقلت الضمة على الياء؛ فحذفت للتخفيف، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء كما حذفت نون الرفع، ثمَّ ضُمَّت التاء؛ لمناسبة الواو ﴿الزَّكَاةَ﴾ تقدَّم أنَّ ألفه منقلبة عن واوٍ؛ لأنّه من زكا يزكو زكاءً إذا نما.
﴿كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ والهود: جمع هائد على أظهر القولين فيه، نحو: بازلٍ وبُزْلٍ، وعائذٍ وعوذ، وحائل وحول، وبائر وبور، وهائدٌ من الأوصاف الفارق بين مذكَّرها ومؤنثها تاء التأنيث. اهـ. "سمين" والعوذ بالذال المعجمة، قال الجوهري: الحديثات النتاج من الظباء، والإبل، والخيل واحدها: عائذ. اهـ. زكريا، وفي "المختار": هاد إذا تاب ورجع، وبابه قال، فهو هائد، وقومُ هود. قال أبو عبيدة: التهوُّد: التوبة والعمل الصالح، يقال أيضًا: هاد وتهوَّد؛ أي: صار يهوديًّا، والهود بوزن العود: اليهود. اهـ. ﴿أَوْ نَصَارَى﴾ وفي "المختار": جمع نصران، ونصرانة كالندامى جمع ندمان، وندمانة، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. اهـ. وفي "المصباح": والنصارى. جمع نصرى، كمهرى ومهارى، فتلخص أنّ نصارى له مفردان: نصرى ونصران ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ جمع
أحدها: أنّه فعل أمر، وهذا هو الصحيح؛ لاتصاله بالضمائر المرفوعة البارزة، نحو: هاتوا هاتي هاتيا هاتين.
الثاني: أنّه اسم فعل بمعنى أحضروا.
والثالث: وبه قال الزمخشري: أنّه اسم صوت بمعنى ها الَّتي بمعنى احضروا. اهـ. "سمين".
وقيل: الهاء فيه بدل من الهمزة في آتوا. وقيل: تنبيهٌ، وحذفت همزة آتى لزومًا، كذا في "تفسير ابن عطية" ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ واختلف في برهان على قولين:
أحدها: أنّه مشتق من البره وهو القطع، وذلك أنّه دليلٌ يفيد العلم القطعيَّ، ومنه برهة الزمان؛ أي: القطعة منه، فوزنه فعلان.
والثاني: أنَّ نونه أصلية؛ لثُبُوتها في برهن يبرهن برهنةً، والبرهنة: البيان، فبرهن من باب فعلل لا من فعلن؛ لأنّ فعلن غير موجود في أبنيتهم، فوزنه فعلان، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلاف في صرف برهان وعدمه، إذا سُمِّي به. اهـ. "سمين".
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ وليس فعل ماض ناقص أبدًا من أخوات كان، ولا يتصرّف، ووزنه على فَعِل بكسر العين. اهـ. "سمين". وهو بناءٌ نادر في الثلاثي اليائي العين ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أصله: يتلوون بوزن يفعلون، الواو الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، استثقلت الحركة على الواو، فحذفت، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى، فوزنه يفعون {يَوْمَ
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التقريريُّ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما عُلِم عنده ثبوته، أو نفيه في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ أي: إنّك علمت.
ومنها: تخصيصه - ﷺ - بالخطاب في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مع أنَّ غيره داخلٌ في الخطاب أيضًا، بدليل قوله فيما بعد: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ إيذانًا بأنَّ المقصود من الخطاب تقرير علم المخاطب، وهو - ﷺ - أعلم الخلق.
ومنها: تخصيص السموات والأرض بالذكر مع أنّه تعالى له ملك الدنيا
ومنها: وضع الاسم الجليل موضع الضمير في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ﴾ وقوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ومقتضى السياق أن يقال: ألم تعلم أنّه، من دونه؛ لسبق المرجع؛ لتربية الرَّوعة، والمهابة في النفوس.
ومنها: المصدر التشبيهي في قوله: ﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾؛ لتأكيد الكلام؛ أي: سؤالًا مشبهًا بسؤال موسى عليه السلام.
ومنها: الإتيان بقوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ لتأكيد الكلام؛ لأنّ كون سؤال موسى من قبل محمد - ﷺ - من المعلوم، فالإتيان به؛ لتأكيد الكلام.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾.
ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: الطريق المستوي، وفي التعبير به نهاية التَّبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق، فعدل عنه إلى الباطل.
ومنها: الاعتراض بين الدعوى ودليلها في قوله: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ فإنّها جملة اعتراض اعترض بها بينهما؛ لغرض بيان بطلان الدعوى، وأنّها دعوى كاذبة.
ومنها: الأمر للتعجيز والتبكيت في قوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.
ومنها: التعريض بكذبهم، وبطلان دعواهم في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وفيه أيضًا: الإيجاز بالحذف؛ لأنّه حُذف فيه جواب الشرط؛ لعلمه من السابق؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم، فهاتوا برهانكم.
ومنها: تخصيص الوجه بالذكر في قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾؛ لكونه أشرف أعضاء الإنسان؛ لكونه مركز الحواس، ففيه إمّا استعارة تصريحية؛ لأنّه استعار الوجه للنفس، أو مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ومنها: العنديَّة؛ للتشريف في قوله ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ وفيه أيضًا: وضع
ومنها: تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر مع كونهما داخلين في قوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾؛ تنبيهًا على عظيم شأنهما، وعلوِّ قدرهما عند الله تعالى؛ لأنّ الصلاة قربةٌ بدنية، والزكاة قربة مالية، كما مرّ في مبحث التفسير.
ومنها: التعبير بلفظ التقديم في قوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾؛ إشارةً إلى أنّ المقصود الأصليَّ، والحكمة الكلية في جميع ما أنعم الله تعالى به على المكلفين في الدنيا، أن يقدِّموه إلى معادهم، ويدّخروه ليومهم الآجل.
ومنها: تقديم المعمول على عامله؛ لإفادة الحصر في قوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: قال الذين لا يعلمون الكتاب قولًا مثل ذلك القول بعينه، لا قولًا مغايرًا له اهـ. "أبو السعود". وفيه أيضًا: توبيخ عظيم، وتقريع لأهل الكتاب، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم أصلًا.
ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾؛ محافظةً على رؤوس الآي.
ومنها: الاستفهام الإنكاري المضمَّن معنى النفي في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾؛ أي: لا أحد أظلم منه.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾؛ للتهويل؛ أي: خزي هائل فظيع، لا يوصف لهوله.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ...﴾ الآية، قال أبو حيان (١): مناسبة هذه الآية لِمَا قبلها: هو أنَّه تعالى لما ذكر منع المساجد من ذكر الله، والسعي في تخريبها.. نبَّه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات، ولا من ذكر الله تعالى، ، إذ المشرق والمغرب كلاهما لله تعالى، فأيُّ جهةٍ أدَّيتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد، والمعنى:
قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّه تعالى لمَّا ذكر أنَّه مالكٌ لجميع من في السموات والأرض، وأنَّ كُلَّهم قانتون له، وهم المظروف للسموات والأرض، ذكر الظرفين، وخصَّهما بالبداعة؛ لأنّهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدلُّ على طواعية المخترع، وسرعة تكوينه.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لِمَا قبلها: أنّه تعالى لمَّا ذكر (٢) فيما سلف الردَّ على من أنكر الوحدانية، واتخذ لله ولدًا، ذكر هنا من أنكر نبوَّة محمد - ﷺ -، وطعن في الآيات التي جاء بها، وتجنَّى بطلب آيات أخرى؛ تعنُّتًا وعنادًا؛ كما جاء في نحو قوله حكايةً عنهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾ وقوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر فيما سلف أنَّ اليهود والنصارى لن ترضى عنك حتى تتَّبع ملَّتهم، وحذر رسوله - ﷺ -، من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأنّ هدى الله هو الهدى الذي أعطاه، وبعثه به، ذكر هنا أنَّ فريقًا منهم يرجى إيمانهم، وهم الذين يتدبَّرون كتابهم، ويُمَيِّزُونَ بين الحق والباطل، ويفهمون أسرار الدِّين، ويعلمون أنّ ما جئت به هو الحقُّ الذي يتَّفِق مع صالح البشر، فهو الذي يهذِّب نفوسهم، ويصفِّي أرواحهم، ويُنظِّم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنّه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأنَّ اليهود عيَّروا المؤمنين بتوجُّههم إلى الكعبة، وترك بيت المقدس، كما قال: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ ذَكَر حديث إبراهيم، وما ابتلاه الله، واستطرد إلى ذكر البيت، وكيفية بنائه، وأنَّهم لمَّا كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعًا لشرعه، واقتفاءً لآثاره فكان تعظيم البيت لازمًا لهم، فنبَّه الله بذلك على سوء اعتقادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنّهم وإن كانوا من نسله لا ينالون لظلمهم شيئًا من عهده.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان رسول الله - ﷺ -، يصلي على راحلته تطوّعًا أينما توجّهت به، وهو مقبل من مكّة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وقال: في هذه نزلت هذه الآية). وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: (أنّ رسول الله - ﷺ -، لمّا هاجر إلى المدينة، أمره الله سبحانه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهرًا، وكان يحبّ قبلة إبراهيم، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما رواه البخاري، وغيره، عن عمر - رضي الله عنه - قال: (وافقت ربّي في ثلاثٍ، قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلًّى، فنزلت: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ قلت: يا رسول الله! إنّ نساءك يدخل عليهنّ البرُّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله - ﷺ - نساءه في الغَيرة، فقلت لهنَّ: عسى ربُّه إن طلَّقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ، فنزلت كذلك، وللحديث طرقٌ كثيرةٌ.
التفسير وأوجه القراءة
١١٥ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْمَشْرِقُ﴾؛ أي: مكان شروق الشمس ﴿وَالْمَغْرِبُ﴾؛ أي: مكان غروبها، يريد (١) بهما ناحيتي الأرض إذ لا وجه لإرادة موضعي الشروق والغروب بخصوصهما؛ أي: له الأرض كلُّها لا يختصُّ به من حيث الملك والتصرف ولا من حيث المحلية، لعبادته مكان منها دون مكان، فإن مُنعتم أن تصلُّوا في المسجد الحرام، أو الأقصى، فقد جعلت لكم الأرض كلَّها مسجدًا.
والمعنى: أي له (٢) سبحانه وتعالى جميع نواحي الأرض شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا؛ لأنّه خالقها، فإن مُنعتم أن تصلوا في المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، فقد جعلت لكم الأرض كلّها مسجدًا، فهذه الجملة مرتبطة بقوله: ﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ يعني: أنّه إن سعى ساع في المنع من ذكره تعالى، وفي خراب بيوته، فليس ذلك مانعًا من أداء العبادة في غيرها؛
(٢) العمدة.
قال الإمام الراغب: ولَّى: إذا أقبل، ولَّى إذا أدبر، وهو من الأضداد، والمراد ها هنا: الإقبال. اهـ. ﴿فَثَمَّ﴾؛ أي: هناك ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: هناك (١) جهته التي أمر بها، ورضيها لكم قبلةً، فإنَّ إمكان التولية غير مختص بمسجدٍ دون مسجدٍ، أو مكانٍ دون آخر، أو فثمَّة ذاته تعالى، بمعنى: الحضور العِلْميِّ، فيكون الوجه مجازًا من قبل إطلاق اسم الجزء على الكل، والمعنى عليه: ففي أيِّ مكان فعلتم التولية، فهو سبحانه موجودٌ فيه، ويمكنكم الوصول إليه، إذْ ليس هو جوهرًا، ولا عرضًا حتى يكون بكونه في جانب مفرِّغًا جانبًا، ولمَّا امتنع عليه أن يكون في مكانٍ، أريد أنَّ علمه محيطٌ لما يكون في جميع الأماكن والنواحي؛ أي: فهو عالم بما يُفعل فيه، ومثيب لكم على ذلك. اهـ. من "الروح".
واعلم (٢): أنَّ ﴿أين﴾ اسم شرط في المكان، وهو ها هنا منصوب بتُوَلُّوا؛ لأنّه فعل شرطه، و ﴿ما﴾ مزيدةٌ؛ للتأكيد، و ﴿ثمَّ﴾ ظرف مكانٍ بمنزلة هناك، تقول لِمَا قَرُب من المكان هنا، ولِمَا بَعُد ثَمَّ وهناك، وهو خبر مقدَّمٌ، و ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ مبتدأٌ مؤخَّر، والجملة الإسمية في محل الجزم على أنّها جواب الشرط، كما سيأتي في مبحث الإعراب.
والمعنى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا﴾؛ أي (٣): ففي أيِّ مكانٍ وبقعةٍ، تحوِّلوا، وتوجِّهوا فيه وجوهكم في الصلاة إلى القبلة التي أمرتم بالاستقبال إليها ﴿فَثَمَّ﴾؛ أي: هناك في الجهة التي أمرتم بالاستقبال إليها ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: جهته التي ارتضاها لكم قبلةً، وأمر بالتوجُّه إليها، فإن إمكان التولية والتحوّل لا
(٢) روح البيان.
(٣) العمدة.
ومعنى الآية (١): إنَّ لله المشرق والمغرب وما بينهما خلقًا وملكًا، وإنّما خصَّ المشرق والمغرب؛ اكتفاءً بهما عن جميع الجهات؛ لأنَّ له تعالى كُلَّها، وما بينهما خلقه وعبيده، وإنَّ على جميعهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه، فالجهة التي أمرهم باستقبالها، فهي القبلة، فإنَّ القبلة ليست قبلةً لذاتها؛ بل لأنَّ الله سبحانه جعلها قبلةً، وأمر بالتوجُّه إليها، فإن جعل الكعبة قبلةً، فلا تنكروا ذلك؛ لأنّه تعالى يُدبِّر عباده كيف يريد ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾؛ أي: فَهُنَالِكَ قبلة الله التي وَجَّهَكُمْ إليها.
وقيل معناه: فثمَّ وجه الله سبحانه وتعالى بلا تأويلٍ، والوجه صفةٌ ثابتة لله تعالى، نثبتها، ونعتقدها من غير تشبيه ولا تمثيل، وهذا القول هو الصحيح الأسلم الذي ينبغي الاعتماد عليه. وقيل: المعنى: فثمَّ رضا الله؛ أي: يريدون بالتوجه إليه رضاه تعالى. وقال ابن العربي: مقتضى التوحيد أنَّ الصلاة لأيِّ جهةٍ تصحُّ، وإنّما أُمِرنا بجهةٍ مخصوصةٍ؛ تعبدًا، ولم نعقل له معنى. وقال ابن عباس (٢) - رضي الله تعالى عنهما -: (لمَّا حُوِّلت القبلة عن بيت المقدس، أنكر اليهود ذلك، فنزلت هذه الآية ردًّا عليهم). وقال أبو مسلم: إنَّ اليهود إنّما استقبلوا بيت المقدس؛ لأنّهم اعتقدوا أنَّ الله تعالى صعد السماء من الصخرة، والنصارى استقبلوا المشرق؛ لأنَّ عيسى عليه السلام ولد هناك، فردَّ الله سبحانه عليهما بهذه الآية.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَاسِعٌ﴾ بفضله، ورحمته، جميع الخلائق، يريد التوسعة على عباده في القبلة، وغيرها، أو واسعٌ بإحاطته بالأشياء ملكًا وخلقًا، فيكون تذييلًا لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وكذا إن فسرت السعة بسعة الرحمة، فإنَّ قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ لمَّا اشتمل على معنى قولنا: لا
(٢) المراح.
فقد ظهر أنَّ هذه الآية مرتبطةٌ بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ الآية، وأنَّ المعنى: إنَّ بلاد الله تعالى أيها المؤمنون! تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرَّب مساجد الله، أن تُولُّوا وجوهكم نحو قبلة الله تعالى أينما كنتم من أرضه.
فائدةٌ فقهيَّةٌ تتعلَّق بحكم الآية وهي: أنَّ المسافر إذا كان في مفازة، أو بلاد الشرك، واشتبهت عليه القبلة، فإنّه يجتهد في طلبها بنوع من الدلائل، ويصلّي إلى الجهة التي أدَّى إليها اجتهاده، ولا إعادة عليه، وإن لم يصادف القبلة، فإنّ جهة
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾؛ أي: له (١) تعالى هاتان الجهتان المعلومتان لكل أحد، والمراد ربُّ الأرض كلِّها، فهو كقوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾؛ أي: أي مكانٍ تستقبلونه في صلاتكم، فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم، ويأمركم بالتوجُّه إليها، فأينما توجه المصلِّي في صلاته، فهو متوجِّه إلى الله لا يقصد بصلاته غيره، والله تعالى راضٍ عنه، مقبلٌ عليه، والحكمة في استقبال القبلة: أنّه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله تعالى، شرع للناس مكانًا مخصوصًا يستقبلونه في عبادتهم إيّاه، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾؛ أي: إنّه تعالى لا يُحْصَر، ولا يتحدَّد، فيصحُّ أن يُتوجَّه إليه في كل مكان، وهو عليم بالمتوجِّه إليه أينما كان، فاعبدوه حيثما كنتم، وتوجَّهوا إليه أينما حللتم، ولا تتقيدوا بالأمكنة، والمعبود غير مقيَّد، وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطالٌ لما كان يعتقده أرباب الملل السابقة، من أنَّ العبادة لا تصحُّ إلّا في الهياكل، والمعابد، وإزالةٌ لما قد يتوهَّم من أنَّ الوعيد إنما كان على إبطالها في الأماكن المخصوصة، فأبان بها أنَّ الوعيد إنما كان لإبطالها مطلقًا؛ لأنَّ الله تعالى لا تحدِّده الجهات، ولا تحصره الأمكنة. انتهت. وروي (٢) عن ابن عباس ومقاتل: أنّه عبَّر عن الذات بالوجه، كقوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ وقيل المعنى: العمل
(٢) البحر المحيط.
أسْتَغْفِرُ الله ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيهِ | رَبَّ العِبَادِ إلَيْه الوَجْهُ والعَمَلُ |
وقرأ الجمهور (١). ﴿وَقَالُوا﴾ بواو العطف، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها؛ أي: معطوفًا على قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾، أو على منع، أو على مفهوم قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾؛ أي: على معناه، وكأنّه قيل: لا أحد أظلم ممَّن منع مساجد الله، ولا ممَّن قال؛ اتخذ الله ولدًا، وإن كان الثاني أظلم من الأول. وقيل: هو معطوف على قوله: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ فيكون معطوفًا على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيدٌ جدًّا ينزَّه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس، وابن عامر، وغيرهما: ﴿قالوا﴾ بغير واو، استئنافًا وملحوظًا فيه معنى العطف، واكتفى على هذا بالضمير، والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسيُّ: وبغير واوٍ هي في مصاحف أهل الشام، فالقراءتان سبعيتان، وأمَّا آية يونس، فبترك الواو لا غير؛ لعدم ما يناسب العطف؛ أي: وقالت اليهود، والنصارى، ومشركوا العرب ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ﴾؛ أي: صنع الله، وجعل لنفسه ﴿وَلَدًا﴾ ذكرًا أو أنثى، والاتخاذ (٢): إمّا بمعنى الصنع والعمل، فلا
(٢) روح البيان.
روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - ﷺ - قال: قال الله عَزَّ وَجَلَّ: (كذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له، فأمَّا تكذيبه إيَّاي، فزعم أنِّي لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمَّا شتمه إيَّاي، فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أن أتَّخذ صاحبةً أو ولدًا) ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمَّة، أو من بعضها، فإنَّ أفرادها متكافلون في كلّ ما يعملون، وما يقولون ممَّا يعود أثره من خيرٍ أو شرٍّ إلى الجميع ﴿بَل﴾ ليس الأمر كما زعموا ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى عبيدًا وملكًا ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: جميع ما فيهما، والملكية تنافي الولدية، فكيف ينسب إليه الولد، وهو داخل فيهما؟ بل هو خالق جميع الموجودات علويًّا وسفليًّا، التي من جملتها عزيرٌ، والمسيح، والملائكة، وهذا ردٌّ لما قالوه، واستدلالٌ على فساده، فإنَّ الإضراب عن قول المبطلين معناه: الردُّ، والإنكار، وفي "الوسيط" ﴿بَلْ﴾؛ أي: ليس الأمر كما زعموا، والمعنى: إنه خالق ما في السموات والأرض جميعًا، الذي يدخل فيه الملائكة، وعزيرٌ، والمسيح، دخولًا أوّليًّا، فكان المستفاد من الدليل، امتناع أن يكون شيءٌ ما مما في السموات والأرض ولدًا، سواءً كان ذلك ما زعموا أنّه
والخلاصة (٣): أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له، قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته، فما وجه تخصيص واحد منهم بالانتساب إليه، وجعله ولدًا مجانسًا له ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ ثمَّ إن الله سبحانه، يخصُّ من يشاء من عباده بما شاء من الفضل، كالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولكن هذا لا يرتقي بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق.
١١٧ - ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: هو سبحانه وتعالى مبدعهما، وموجدهما،
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وهذه حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنيعة (٢)، تقريرها: إنّ الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادّته عنه، والله تعالى مبدع الأشياء كلها على الإطلاق، منزَّهٌ عن الانفعال، فلا يكون والدًا، ومن قدر على خلق السموات والأرض من غير شيء، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟! والمعنى: هو سبحانه وتعالى، موجدهما اختراعًا وابتكارًا لا على مثال سابق، وإذا كان هو المبدع لهما، والموجد لجميع من فيهما، فكيف يصحُّ أن ينسب إليه شيءٌ منهما على أنّه مجانسٌ له؟! تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، وقرأ المنصور بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنّه بدل من الضمير في ﴿لَهُ﴾ ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾؛ أي: وإذا أراد سبحانه وتعالى إيجاد أمر من الأمور، وإحداث شيء من الأشياء ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ﴾ سبحانه ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك الذي أراد إيجاده ﴿كُنْ﴾؛ أي: احْدُث ﴿فيكون﴾؛ أي: فذلك الأمر المأمور، يكون، ويحدث من غير توقُّفٍ، ولا إباءٍ، وبلا مهلةٍ، وتأخُّرٍ، وأصل القضاء: الأحكام، أطلق هنا على الإرادة الإلهيَّة المتعلقة بوجود الشيء؛ لإيجابها إيّاه ألبتة، والأمر واحد الأمور، و ﴿كُنْ﴾ و ﴿يكون﴾ هنا: من كان التامة بمعنى:
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط بتصرف.
والمعنى: أي (٢) وإذا أراد سبحانه إحداث أمرٍ وإيجاده، فإنَّما يأمره أن يكون موجودًا، فيكون والكلام تمثيلٌ وتشبيهٌ؛ لتعلُّق إرادته بإيجاد الشيء، فيعقبه وجوده بأمرٍ يصدر، فيعقبه الامتثال، والإيجاد، والتكوين من أسرار الألوهية عبَّر عنهما بما يُقَرِّبُهما من الفهم، وهو أن يقول للشيء: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾. وقرأ ابن عامر (٣) ﴿كُنْ فَيَكُونَ﴾ بالنصب في كلِّ القرآن إلّا في موضعين: في أوّل آل عمران في قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ وفي الأنعام في قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ فإنّه رفعه فيهما، وقرأ الكسائي بالنصب في النحل ويس، وبالرفع في سائر القرآن، والباقون بالرفع في كُلِّ القرآن، أمَّا النصب فعلى جواب الأمر، وأمّا الرفع فإمّا على أنّه خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: فهو يكون، أو معطوفٌ على ﴿يَقُولُ﴾ أو معطوفٌ على ﴿كُنْ﴾ من حيث المعنى، كما هو قول الفارسي.
واعلم: أنَّ (٤) أهل السنة لا يرون تعلُّق وجود الأشياء بهذا الأمر وهو ﴿كُنْ﴾ بل وجودها متعلِّق بخلقه، وإيجاده وتكوينه، وهو صفةٌ أزليةٌ، وهذا الكلام عبارةٌ عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده، وكمال قدرته على ذلك، لكن لا يتعلق علم أحدٍ بكيفية تعلُّق القدرة بالمعدومات، فيجب الإمساك عن بحثها، وكذا عن بحث كيفية وجود الباري سبحانه، وكيفية العذاب بعد الموت، وأمثالها، فإنّها من الغوامض، والأمور المغيبة عنّا.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) روح البيان.
فإن قلت: قولهم: ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ تكذيبٌ أيضًا؛ لأنّه تعالى أخبر أنّه لا
قلت: نفي الإعادة نفي صفة كمالٍ، واتخاذ الولد إثبات صفة نقصانٍ له، والشتم أفحش من التكذيب، والكذب على الله فوق الكذب على النبي - ﷺ -.
وفي الحديث: "إنّ كذبا عليَّ ليس ككذب على أحد"؛ يعني: الكذب على النبي - ﷺ -، أعظم أنواع الكذب سوى الكذب على الله؛ لأنّ الكذب على النبي - ﷺ - يؤدِّي إلى هدم قواعد الإِسلام، وإفساد الشريعة والأحكام. وفي الصحيح أيضًا: (من كذب عليّ متعمّدًا، فليتبوَّأ مقعده من النار).
فعلى المؤمن أن يتجنب عن الزيغ والضلال، وأشنع الفعال، وأسوإِ المقال، وأن يداوم على التوحيد في الأسحار والآصال، إلى أن لا يبقى للشرك الخفي أيضًا مجالٌ. وفي الحديث: "لو يعلم الأمير ماله في ذكر الله لترك إمارته، ولو يعلم التاجر ماله في ذكر الله لترك تجارته، ولو أنَّ ثواب تسبيحة قسم على أهل الأرض لأصاب كُلَّ واحد منهم عشرة أضعاف الدنيا" ولكن لا أصل له. وفي الحديث: "للمؤمن حصونٌ ثلاثة: ذكر الله، وقراءة القرآن، والمسجد" والمراد بالمسجد: مُصلَّاه، سواء كان في بيته، أو في الخارج، ولا بُدَّ من الصدق والإخلاص حتى يظهر أثر التوحيد في الملك والملكوت، اللهمّ! أوصلنا إلى اليقين، وهيِّىءْ لنا مقامًا من مقامات التمكين! آمين.
١١٨ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ توحيد الله؛ أي: جهلة المشركين من كفار مكة لمحمد - ﷺ -؛ أي: قال مشركوا العرب الجاهلون حقيقةً، وأهل الكتاب المتجاهلون ونفى عنهم العلم؛ لعدم انتفاعهم بعلمهم؛ لأنَّ المقصود هو العمل ﴿لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ﴾ مشافهةً بأنّك رسوله؛ أي: هلا يكلِّمنا مشافهةً من غير واسطة بالأمر والنهي، كما يُكلِّم الملائكة، أو موسى، وهلّا يَنُصُّ لنا على نبوّتك، وهذا منهم استكبارٌ. و ﴿لَوْلَا﴾ (١) هنا: للتحضيض، وحرف التحضيض إذ دخلت على
وقوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ﴾ مع قوله: ﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ على (١) تشبيهين، تشبيه المقول بالمقول في المؤدَّى، والمحصول، وتشبيه القول بالقول في الصدور بلا رويّةٍ، بل بمجرد التشهي، واتباع الهوى، والاقتراح على سبيل التعنّت والعناد، لا على سبيل الإرشاد، وقصد الجدوى، والكاف في كذلك منصوب
والمعنى (٢): أي تشابهت، وتماثلت، وتوافقت، قلوب هؤلاء المكذبين لك يا محمد! مع قلوب كفار الأمم الماضية المكذِّبين لأنبيائهم؛ أي: أشبهت قلوبهم بعضها بعضًا في الكفر، والقسوة، وطلب المحال، وإلّا لما تشابهت أقاويلهم الباطلة، وفي هذا تسليةٌ له - ﷺ - ﴿قَدْ بَيَّنَّا﴾ ووضَّحنا ﴿الْآيَاتِ﴾؛ أي: الدلالات والمعجزات الدالَّة على صدقك، وصدق ما جئت به من الآيات القرآنية، والمعجزات الباهرة ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: لقوم ينصفون، فيوقنون، ويصدِّقون أنها آياتٌ يجب الاعتراف بها، والإذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها، أو المعنى ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ﴾ أي (٣): قد نزلناها بيّنة بأن جعلناها كذلك في أنفسها، كما في قولهم: سبحان من صغر البعوض، وكبَّر الفيل، لا أنّا بيَّناها بعد أن لم تكن بينةً ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: لقوم يطلبون اليقين، واليقين أبلغ العلم،
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
وفي الآيات (١): إشارةٌ إلى أنَّهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات، أو لطلب مزيد اليقين، وإنّما قالوه؛ عتوًّا وعنادًا، وحاصل (٢) الجواب من الله تعالى: إنّا قد أيَّدْنا نبوة محمد - ﷺ - بالمعجزات، وبَيَّنَّا صدق ما جاء به بالآيات القرآنية، والمعجزات الباهرة، فكان طلب هذه الزوائد من باب التَّعنُّت، فإذا كان كذلك لم تجب إجابتها.
١١٩ - ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمد! كافَةً للناس حالة كونك ملتبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالدِّين الحق، والهدى المستقيم، والقرآن العظيم، وحالة كونك ﴿بَشِيرًا﴾؛ أي: مبشِّرًا للمؤمنين بالثواب الجسيم، وجنات النعيم ﴿وَنَذِيرًا﴾؛ أي: ومنذرًا ومخوِّفًا للكافرين من العقاب الأليم، وعذاب الجحيم، فلا بأس عليك إن أصرُّوا، أو كابروا.
والمعنى: إنَّ شأنك بعد إظهار صدقك في دعوى الرسالة بالدلائل، والمعجزات، ليس إلّا الدعوة والإبلاغ، والتبشير والإنذار، لا أنْ تجبرهم على القبول والإيمان، فلا عليك إن أصرُّوا على الكفر والعناد، فإنَّ الأحوال أوصافٌ لذي الحال، والأوصاف مقيِّدةٌ للموصوف ﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ ما لَهُمْ يؤمنوا بعد أن بَلَّغْتَ، والجحيم: المكان الشديد الحرِّ، والمتأجِّجُ من النار؛ أي: ولست يا محمد! بمسؤولٍ عن أصحاب النار؛ أي: وليس عليك عهدةٌ وتبعةٌ في عدم إيمانهم بعد ما بلَّغت ما أرسلت به، وبذلت جهدك في دعوتهم، إنَّما عليك البلاغ، وعلينا الحساب، وذلك أنَّ النبيَّ - ﷺ - قال: "لو أنَّ الله عزَّ وجلّ أنزل بأسه باليهود لآمنوا" فأنزل الله هذه الآية.
(٢) المراح.
وقرأ نافعٌ، ويعقوبٌ ﴿ولا تَسْأَلْ﴾ بفتح التاء وجزم اللام على النهي؛ أي: (٢) لا تسأل يا محمد! عن حال كفار أهل الكتاب التي تكون لهم يوم القيامة، ولا يمكنك في هذه الدار الاطلاع عليها، وذلك إعلامٌ بكمال شدّة عقوبة الكفار، فلا يستطيع السامع أن يسمع خبرها، ولا يصبر على استماعه لشدّتها
١٢٠ - ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ﴾ يا محمد! ﴿الْيَهُودُ﴾ ولن تحب دينك، ولو خلَّيتهم وشأنهم حتى تتبع دينهم وقبلتهم ﴿وَلَا﴾ ترضى يا محمد! ﴿النَّصَارَى﴾ ولن تحبّ دينك، ولو تركتهم ودينهم ﴿حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ وتصلِّي إلى قبلتهم. قال الواحديُّ: الآية نزلت في تحويل القبلة، وذلك أنّ اليهود والنصارى كانوا يرجون أن يرجع محمدٌ - ﷺ - إلى دينهم، فلمَّا صرف الله القبلة إلى الكعبة، شقَّ عليهم، وأيسوا منه أن يوافقهم، فأنزل الله تعالى ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ يعني: دينهم وتُصلِّي إلى قبلتهم، وفي الآية مبالغةٌ في إقناط الرسول - ﷺ -، من طمعه في إسلامهم، حيث علَّق رضاهم عنه بما لا سبيل إليه، وما يستحيل وجوده، فإنَّهم إذا لم يرضوا عنه حتّى يتَّبع ملتهم، فكيف يتَّبعون ملَّته؟ أي: دينه، فكأنَّهم قالوا:
(٢) المراح.
﴿قُل﴾ لهم يا محمد! ردًّا لقولهم لك: لن نرضى عنك حتى تَتَّبع ملّتنا، وتصلي إلى قبلتنا، بطريق قصر القلب ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ﴾؛ أي: إنّ دين الله الذي هو الإِسلام، وقبلته التي هي الكعبة ﴿هُوَ الْهُدَى﴾؛ أي: هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ليس وراءه هدى، والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى، إنّما هو هوى، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي: لئن اتبعت، وسايرت يا محمد! على سبيل الفرض والتقدير ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ الفاسدة، وآراءَهم الزائغة، ومللهم الباطلة، وقبلتهم العاطلة، وهي التي عبَّر عنها فيما قَبْلُ بملّتهم، إذ هي التي ينتمون إليها، وأمّا ما شرعه الله تعالى من الشرعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي المعنى الحقيقيُّ للملَّة، فقد غيروها تغييرًا، والأهواء: جمع هوًى: وهو رأيٌ عن شهوة داعٍ إلى الضلال، وسُمِّي بذلك؛ لأنّه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهيةٍ، وفي الآخرة إلى الهاوية.
وإنّما قال: ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ بلفظ الجمع، ولم يقل: هواهم؛ تنبيهًا على أنَّ لكل واحد هوًى غير هوى الآخر، ثم هوى كُلِّ واحد منهم لا يتناهى، فلذلك أخبر سبحانه أنّه لا يرضى الكُلُّ إلّا باتباع أهواء الكل.
واعلم: أنّ الطريقة المشروعة تسمَّى ملّة باعتبار أنَّ الأنبياء الذين أظهروها قد أملوها، وكتبوها لأُمَّتهم، كما أنَّها تسمَّى دينًا باعتبار طاعة العباد لمن سنَّها، وانقيادهم لحكمه، وتسمَّى أيضًا شريعة باعتبار كونها موردًا للمتعطِّشين إلى زُلاَلِ ثوابه ورحمته.
﴿بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ والبيان بأنَّ دين الله هو الإِسلام، وأنَّ ما هم عليه ضلالٌ، أو بعد ما ظهر لك الحقُّ بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، أو بعد القرآن الموحى إليك، وهو حالٌ من فاعل جاءك ﴿مَا لَكَ﴾ يا محمد! ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛
لِمَيَّة موحشًا طللُ
والخطاب في قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ﴾ متوجِّهٌ إلى النبي - ﷺ - في الحقيقة، وقيل: المراد به: أمّته، والمعنى: حينئذٍ إيّاكم أُخاطب، ولكم أُؤَدِّب وأنهى، فقد علمتم أنَّ محمدًا - ﷺ - قد جاءكم بالحق والصدق، وقد عصمته، فلا تتبعوا أنتم أهواء الكافرين، ولئن اتبعتم أهواءَهم بعد الذي جاءكم من العلم والبيان، ما لكم من الله من وليّ ولا نصير، وما قيل على القول الأوّل (١): من أنّه تعالى حكم بعصمة الأنبياء، وعلم منهم أنّهم لا يعصون له، ولا يخالفون، ولا يرتكبون ما نهى عنه، فكانت عصمتهم واجبةً، فلا وجه لتحذيرهم عن اتباع هوى الكفرة، فوجب أن يكون التحذير متوجِّهًا إلى الأمّة لا إلى أنفسهم، فالجواب عنه: أنّ التكليف والتحذير؛ إنّما يعتمد على كون المكلف به محتملًا، ومتصوَّرًا في ذاته من حيث تحقُّق ما يتوقف عليه وجوده من الآلات، والقوى، والامتناع الحاصل من حكمه تعالى، بعصمتهم، وعلمه بها، امتناعٌ بالغير، وهو لا ينافي الإمكان الذاتي الذي هو شرط التكليف، والتحذير، فثبت أنّ الخطاب متوجِّهٌ إليه - ﷺ - حقيقةً، فلا اعتراض.
ولمَّا ذكر سبحانه قبائح المتعنِّتين الطالبين للرئَاسة من اليهود والنصارى،
١٢١ - ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ من قبلك يا محمد! من مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وبحيرا الراهب وأصحابه، والنجاشيِّ وأصحابه، من الذين أسلموا من اليهود والنصارى، وإنّما خصَّهم بذكر الإيتاء؛ لأنّهم هم الذين عملوا به فخُصُّوا به، والكتاب التوراة والإنجيل، واسم الموصول مبتدأ أول، خبره جملة قوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي: الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل حال كونهم ﴿يَتْلُونَهُ﴾، أي: يتلون ذلك الكتاب ويقرؤونه ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ بمراعاة لفظه عن التحريف، وبالتدبُّر في معانيه، والعمل بما فيه، وهو حال مقدَّرةٌ من الضمير المنصوب في آتيناهم، أو من الكتاب؛ لأنّهم لم يكونوا تالين له وقت الإيتاء، وقوله (١): ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ نعتٌ لمصدر محذوف دلَّ عليه الفعل المذكور؛ أي: يتلونه تلاوةً حقَّ تلاوته، واختار الكواشيُّ كونه منصوبًا على المصدرية على تقدير تلاوة حقًّا، فإنَّ نعت المصدر إذا قدم عليه، وأضيف إليه نصب المصادر، نحو: ضربت أشدَّ الضرب، بنصب أشدَّ على المصدرية، والمعنى: أي: يقرؤونه قراءةً حقَّةً، كما أنزل، لا يغيّرونه، ولا يحرّفونه، ولا يبدّلون ما فيه من نعت محمد - ﷺ -.
وقيل المعنى: أي يتبعونه حقَّ اتباعه، فيحلُّون حلاله، ويحرِّمون حرامه، ويبيِّنون أمره ونهيه لمن سألهم ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين يتلونه حقَّ تلاوته هو مبتدأٌ ثان، خبره قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، أي: بكتابهم المستلزم إيمانهم به الإيمان بمحمد - ﷺ - دون المحرِّفين، فإنّ بناء الفعل على المبتدأ، وإن كان اسمًا ظاهرًا يفيد الحصر، مثل: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أو يؤمنون بمحمد - ﷺ -، وبالقرآن المنزَّل عليه ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ﴾ أي: بالكتاب المؤتى له بأن يغيِّره، ويحرِّفه، ويجحد ما فيه من فرائض الله، ونبَّوة محمدٍ - ﷺ -؛ أي: سواءٌ كان كفرهم بنفس التحريف، أو بغيره، كالكفر بالكتاب الذي يصدِّقه، أو يكفر بمحمد - ﷺ -، وبالقرآن ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الذين كفروا بكتابهم، أو بمحمدٍ - ﷺ - ﴿هُمُ﴾ لا غيرهم ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ أي: الهالكون، المغبونون
١٢٢ - ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ لمّا صدر (١) قصّتهم بالأمر بذكر النعم، والقيام بحقوقها، والحذر من إضاعتها، والخوف من الساعة وأهوالها، كرَّر ذلك وختم به الكلام معهم؛ مبالغةً في النصح لهم؛ وإيذانًا بأنّه فذلكة القصة، والمقصود من القصة، والمعنى: يا بني إسرائيل! اذكروا أيادييّ لديكم، وصنعي بكم، واستنقاذي إيّاكم من أيدي العدو في نعم كثيرة أنعمت بها عليكم، ومن جملة النعم: التوراة، وذكر النعمة إنّما يكون بشكرها، وشكرها الإيمان بجميع ما فيها، ومِنْ لازم الإيمان بها الإيمان بمحمد - ﷺ -؛ لأنَّ نعت النبي - ﷺ - من جملة ما فيها ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: واذكروا تفضيلي إيّاكم على عالمي زمانكم بكثرة الأنبياء فيكم، وإعطاء التوراة لكم.
١٢٣ - ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾؛ أي: واخشوا، وخافوا عذاب يوم رهيب، وهو يوم القيامة ﴿لَا تَجْزِي﴾ ولا تدفع فيه، تقول: جزى عنّي هذا الأمر يجزي، كما تقول: قضى عنّي يقضي وزنًا، ومعنى؛ أي: لا تقضي في ذلك اليوم ﴿نَفْسٌ﴾ من النفوس، أو نفسٌ مؤمنةٌ ﴿عَنْ نَفْسٍ﴾ أخرى أو كافرةٍ ﴿شَيْئًا﴾ من الحقوق التي لزمتها؛ أي: لا تقضي نفسٌ ليس عليها شيءٌ شيئًا من الحقوق التي وجبت على نفسٍ أخرى؛ أي: لا تؤخذ نفسٌ بذنب أخرى، ولا تدفع شيئًا، وأمّا إذا كان عليها شيءٌ، فإنّها تجزي وتقضي بغير اختيارها، بما لها من حسناتها ما عليها من الحقوق، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - ﷺ - قال: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرض، أو غيره، فليستحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه".
﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا﴾؛ أي: من النفس الأولى أو الكافرة ﴿عَدْلٌ﴾؛ أي: فداءٌ، وهو بفتح العين: الفدية، وهي ما يماثل الشيء قيمةً، وإن لم يكن من جنسه، والعِدْل بالكسر: ما يساوي، الشيء في الوزن والجرم من جنسه.
والمعنى: لا يؤخذ منها فديةٌ تنجو بها من النار، ولا تجد ذلك لتفتدي به،
والمعنى: أي: واتقوا يا معشر بني إسرائيل! المبدِّلين كتابي، المحرِّفين له عن وجهه، المكذّبين برسولي محمد - ﷺ - عذاب يوم لا تقضي فيه نفسٌ عن نفس شيئًا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفسٌ بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئًا. وفي "الصحيحين": "يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت! لا أغني عنك من الله شيئًا" ولا يؤخذ فيه من نفسٍ فديةٌ تنجو بها من النار، إذ هي لا تجد ذلك لتفتدي به، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقٍّ شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفرات تؤخذ فديةٌ عمَّا فرَّطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله تعالى أنّه لا يقوم مقام الاهتداء به شيءٌ آخر، وأنّهم لا يأتيهم ناصر ينصرهم، فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم، وهذا ترهيبٌ لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها.
١٢٤ - ﴿و﴾ اذكر يا محمد! لقومك قصّة ﴿إذ ابتلى﴾ اختبر وكلَّف ﴿إبراهيم﴾ عليه السلام، وهو اسم أعجميٌّ معناه: أبٌ رحيمٌ، قال السهيليُّ: وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو تقاربه في اللفظ ألا ترى: أن إبراهيم تفسيره: أب رحيم؛ لمرحمته بالأطفال ﴿رَبُّهُ﴾ سبحانه وتعالى، والضمير لإبراهيم، وقُدّم المفعول لفظًا وإن كان مؤخّرًا رتبةً؛ لاتصال الفاعل بضميرٍ يعود عليه؛ وللاهتمام به، فإنّ الذهن يتشوَّق، ويطلب معرفة المبتلى، والابتلاء في الأصل: الامتحان والاختبار، والتكليف بالأمر الشاقِّ؛ ليُعلم ما جُهل من حال الإنسان، من جودته، أو رداءته، ولكن ابتلاء الله سبحانه لعباده ليس ليعلم ما خفي عليه من أحوالهم؛ لأنّه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد؛ ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة أو رداءة، فالمراد هنا: عامله معاملة المختبر؛ ليظهر ذلك للخلق، فاختبر إبراهيم، فظهر صدقه، وإبليس، فظهر كذبه؛ أي: واذكر وقت اختباري إبراهيم، والمقصود من ذكر
وقال الحسن: ابتلاه الله بذبح ولده، فصبر على ذلك، وابتلاه بالنظر في الكواكب، والشمس والقمر، إقامةً للحجة على قومه، فأحسن النظر في ذلك، وعرف أن ربّه دائم لا يزول، ثمّ ابتلاه بالهجرة من وطنه، فخرج مهاجرًا إلى الله، ثم ابتلاه بالإلقاء في النار، فصبر عليها، وبالختان بعد الكبر، فصبر عليه، وهذا القول الأخير أرجح ما قيل هنا، وفي الخبر: أنّ إبراهيم أوّل من قصّ الشارب، وأوّل من اختتن، وأوّل من قلّم الأظفار، وأوّل من رأى الشيب، فلمّا رآه قال: يا ربّ! ما هو؟ قال: الوقار، قال: يا ربّ! زدني وقارًا.
وقرأ الجمهور ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين، زاد هشام أنّه قرأ كذلك في إبراهيم والنحل ومريم
وقوله: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ كلام مستأنف أيضًا واقعٌ في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال إبراهيم عنده؟ فقيل: ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿و﴾ اجعل يا ربّ! ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾؛ أي: من بعض أولادي أئمّةً يقتدى بهم في الدين؛ أي: أنبياء وملوكًا عدولًا، وعلماء يقتدى بهم، وتخصيص البعض بذلك؛ لبداهة استحالة
ودلَّت الآية بمفهومها على أنّه ينالها ويصيبها غير الظالم؛ يعني: من كان ظالمًا من أولادك، لا يكون إمامًا وقدوة للناس؛ لأنّ الإمامة في أوليائه لا في أعدائه. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء ﴿الظالمون﴾ بالرفع على الفاعلية و ﴿عَهْدِي﴾ مفعول به؛ لأنّ العهد يَنال كما يُنال، أي: عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه، ولا يُدْرِكُونَهُ، ومعنى: عهدي نبوّتي، وفي هذا دليلٌ على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر. وفي (١) ذكر الظلم مانعًا من الإمامة، تنفيرٌ لذرية إبراهيم منه، وتبغيضٌ لهم فيه ليتحاموه، ويُنَشِّئُوا أولادهم على كراهته كيلا يَقَعُوْا فيه ويُحرَموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، كما هو تنفيرٌ من الظالمين، وعن مخالطتهم، فالإمامة الصالحة لا تكون إلّا لذوي النفوس الفاضلة التي تَسوق صاحبهَا إلى خير العمل، وتَزَعُهُ عن الشرورِ والآثام، ولا حظَّ للظالمين في شيء من هذا.
١٢٥ - ﴿و﴾ اذكر يا محمد! لقومك قصة ﴿إذ جعلنا البيت﴾؛ أي: الكعبة، أو جميع الحرم، فإنَّه تعالى وصفه بكونه آمنًا، وهذا صفة جميع الحرم ﴿مَثَابَةً﴾ أي: مرجعًا ومعادًا ﴿لِلنَّاسِ﴾ يعودون إليه، ويقضون منه وطرًا، كلما انصرفوا اشتاقوا إليه، فإنّهم يثوبون إليه كل عام بأعيانهم، وبأمثالهم، كما قاله الحسن، أو المراد: لا ينصرف عنه أحد إلّا وهو يتمنّى العود إليه، كما قاله ابن عباس ومجاهد، أو المعنى: جعلنا الكعبة موضع ثواب، يثابون بحجِّهِ واعتماره، وعبارة "الروح" هنا: أي: (١) واذكر يا محمد! لقومك قصة وقت تصييرنا الكعبة المعظَّمة ﴿مَثَابَةً﴾ كائنةً للناس؛ أي: مباءةً، ومرجعًا للحجَّاج والمعتمرين، يتفرَّقون عنه، ثم يثوبون إليه؛ أي: يرجع إليه أعيان الذين يزورونه بأن يحجوه مرّةً بعد أخرى، أو يرجع أمثالهم وأشباههم في كونهم وفد الله، وزوار بيته، فإنَّهم لما كانوا أشباهًا للزائرين أوَّلًا، كان ما وقع منهم من الزيارة ابتداءً بمنزلة عود الأوَّلين، فتعريف الناس؛ للعهد الذهنيِّ، وهم الزوار؛ أو للاستغراق، كما سيأتي، والتاء في ﴿مثابة﴾؛ للمبالغة لكثرة ما يثوب إليه، قاله الأخفش؛ أو لتأنيث المصدر؛ أو لتأنيث البقعة، كما يقال: مقامٌ ومقامةٌ، قال الشاعر:
ألَمْ تَرَ أنَّ الأرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةْ | فَهَلْ يُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِها |
مَثابًا لأفناء القبائل كُلِّها | تَخِبُّ إلَيْهَا اليَعْمُلاتُ الطَّلائِحُ |
جَعَلَ البَيْتَ مَثَابًا لَهُمُ | لَيسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ |
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور ﴿وَاتَّخِذُوا﴾ بكسر الخاء على صيغة الأمر، فلا بدّ على هذه القراءة من تقدير
أحدها: أنّه معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾ المخفوض بإذ تقديرًا، فيكون الكلام جملة واحدة.
الثاني: أنّه معطوف على مجموع قوله: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا﴾ فيحتاج إلى تقدير: إذ؛ أي، وإذ اتخذوا، ويكون الكلام جملتين.
الثالث: ذكره أبو البقاء: أن يكون معطوفًا على محذوف، تقديره: فثابوا واتخذوا.
وأمّا قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه:
أحدها: أنّه عطف على ﴿اذْكروا﴾ إذ قيل إنَّ الخطاب هنا لبني إسرائيل؛ أي: اذكروا نعمتي، واتخذوا.
الثاني: أنها عطفٌ على الأمر الذي تضمنه قوله ﴿مَثَابَةً﴾ كأنَّه قال: ثوبوا، واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المهدويّ.
الثالث: أنّه معمولٌ لقول محذوف؛ أي: وقلنا اتخذوا بأن قيل: إنّ الخطاب لإبراهيم وذرّيته، أو لمحمد - ﷺ - وأمّته.
الرابع: أن يكون مستأنفًا. اهـ. "سمين".
وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أنّ إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت، وإسماعيل يناول الحجارة، ويقول: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾! فلمَّا ارتفع البنيان، وضعف إبراهيم عن وضع الحجارة، قام على حجرٍ وهو مقام إبراهيم عليه السلام فبناء البيت كان متأخرًا من بناء مكة، وكُلّ منهما في زمن إبراهيم، أمّا الأول، فبناء إبراهيم، وأمّا الثاني، فبناء طائفة من جرهم، كما في تاريخ مكة.
ثمَّ لمَّا فرغ من بناء الكعبة قيل له: أَذِّنْ في الناس بالحج، فقال: أنادي وأنا بين الجبال! ولم يحضرني أحدٌ! فقال الله: عليك النداء، وعليَّ البلاغ، فصعد أَبَا قُبيسٍ، وصعد هذا الحجر، وكان قد خُبىءَ في أبي قُبيسٍ أيامَ الطوفان، فارتفع هذا الحجر حتى علا كُلَّ حجر في الدنيا، وجمع الله له الأرض كالسفرة، فنادى: يا معشر المسلمين! إنّ ربّكم بنى لكم بيتًا، وأمركم أن تحجُّوه، فأجابه الناس من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، فمن أجابه مرّةً حجَّ مرة ومن أجابه عشرًا حج عشرًا. وفي الحديث: "إنَّ الركنَ والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا مماسة أيدي المشركين لأضاءتا. ما بَيْنَ المشرقِ والمغربِ" والمرادُ منهما: الحجر الأسود والحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت.
﴿و﴾ اذكر يا محمد! لأمّتك قصّة إذ ﴿عهدنا﴾ وأوصينا ﴿إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ وأمرناهما بـ ﴿أن﴾ أسِّسا بيتي على التقوى و ﴿طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ من الأوثان والأنجاس كُلِّها؛ يعني: الكعبة وأضافه إليه؛ تشريفًا له؛ أي: عهدنا إليهما، وأمرناهما أمرًا مؤكَّدًا، ووصَّينا إليهما، فإنَّ العهد قد يكون بمعنى الأمر والوصيّة، يقال: عهد إليه؛ أي: أمره ووصَّاه، ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ وسمَّاه بيته؛ لأنّه جعله معبدًا للعبادة الصحيحة، وأمر المُصلِّين بأن يتوجَّهُوا إليها، وفي إبراهيم (١) سبع لغات: أشهرها إبراهيم بألفٍ وياءٍ، وإبراهام بألفين، والثالثة: إبراهم بألف بعد الراء وكسر الهاء دون ياء، الرابعة: كذلك إلّا أنّه بفتح الهاء، والخامسة: كذلك إلّا أنّه بضمّ الهاء، السادسة: أبْرَهَم بفتح الهاء
والحكمة في جعل الله سبحانه معبدًا لعباده، وهو هذا البيت؛ لأنَّ الخلق في حاجةٍ إلى التوجّه إلى خالقهم بشكر، والثناء عليه، والتوسّل إليه لاستمداد رحمته، ومعونته، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجودٍ غيبيٍّ، لا يتقيَّد بمكان، ولا ينحصر في جهة، فعيَّن لهم مكانًا نسبه إليه رمزًا إلى أنَّ ذاته المقدَّسة تحضره والحضور الحقيقيُّ مَحالٌ عليه، فالمراد: أنَّ رحمته الإلهية تحضره، ومن ثمَّ كان التوجُّه إلى هذا المكان، كالتوجُّه إلى تلك الذات العليَّة لو وجد العبد إلى ذلك سبيلًا، وانظر حكمة تخصيص هذه البقعة من بين بقاع الأرض باتخاذه معبدًا، فإنَّه من الذخائر المدفونة في قلوب خواص عباده.
﴿لِلطَّائِفِينَ﴾؛ أي: للزائرين الدائرين حوله ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾؛ أي: المقيمين عنده، والمعتكفين فيه؛ أي: المجاورين الذين عكفوا عنده؛ أي: أقاموا عنده لا يرجعون، ولا يذهبون، ولا يرتحلون منه، وهذا في أهل الحرم، والأول؛ أعني: الطائفين في الغرباء القادمين إلى مكة للزيارة والطواف، وإن كان الطواف لا
واعلم: أنّه تعالى لمّا قال: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ دخل فيه بالمعنى: جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير، والنظافة، وإنّما خصَّ الكعبة بالذكر؛ لأنّه لم يكن هناك غيرها، وفي الآية: إيماء إلى أنَّ إبراهيم كان مأمورًا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل إلى معرفة الطريق التي كانوا يؤدُّونها بها. فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجًّا، أو معتمرًا، فيطوف به، وبالعاكفين: من يقوم هناك ويجاور فيه، وبالركع السجود: من يصلّي إليه الصلوات الخمس، وغيرها. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء: إنّ الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
١٢٦ - ﴿و﴾ واذكر يا محمد! لأمّتك قصّة ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ عليه السلام؛ أي: قصّة إذ دعا إبراهيم ربَّه، فقال: في دعائه يا ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا﴾ الوادي الأقفر الخالي عن الأنيس، الذي ليس فيه زرعٌ، ولا ماءٌ، ولا بناءٌ ﴿بَلَدًا﴾ مَسْكنًا ﴿آمِنًا﴾ أي: ذا أمنٍ يأمن فيه أهله من القحط، والجدب، والخسف، والمسخ، والزَّلازل، والجذام، والبرص، ونحو ذلك من المَثُلاَتِ التي تَحُلُّ بالبلاد غيرها، فهو من باب النَّسب؛ أي: بلدًا منسوبًا إلى الأمن كلابن، وتامر، فإنّهما لنسبة موصوفهما إلى مأخذهما، كأنّه قيل: لبنيٌّ وتمريٌّ، فالإسناد حقيقيٌّ، أو المعنى: بلدًا آمنًا أهله، فيكون من قبيل الإسناد المجازي؛ لأنَّ الأمن الذي هو صفةٌ لأهل البلد حقيقةً، قَدْ أُسْنِدَ إلى مكانهم للملابسة بينهما. وكان هذا الدعاء في أوَّلِ ما قَدِم إبراهيم عليه السلام مكة؛ لأنّه لما أسكن إسماعيل وهاجر هناك، وعاد مُتوجِّهًا إلى الشام تبعته هاجر، فجعلت تقول: إلى مَنْ تكلنا في هذا البَلْقَعِ؛ أي: المكانِ الخالي من الماء، والنبات،
فإن قُلْتَ: ما الفائدة في قول إبراهيم ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ مع قوله تعالى أوّلًا: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾؟
قلت: المراد من الأمن المذكور: أوّلًا الأمن من الأعداء، والخسف، والمسخ، ومن المذكور في دعاء إبراهيم: الأمن من القحط، والجوع، وقيل: معنى بلدًا آمنًا؛ أي: كثير الخصب، يؤمن فيه من الجوع، والقحط، فإن الدنيا إذا طلبت ليُتقوَّى على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنًا، وحصل فيه الخصب تفرَّغ أهله لطاعة الله، وأيضًا إنَّ الخصب مما يدعو الناس إلى تلك البلدة، فهو سبب اتصاله في الطاعة.
والمعنى (٢): أي قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة! وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنًا في نفسه من الجبابرة، وغيرهم، أن يسلَّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان من خسف، وزلزال، وغرق، ونحو ذلك ممَّا يُنْبِىءُ عن سخط الله، ومثلاته التي تصيب سائر البلاد، وقد استجاب الله دعاءه، فلم يقصده أحدٌ بسوءٍ إلا قصم ظهره، ومن تعدَّى عليه لم يطل زمن تعدِّيه، بل يكون تعدّيًا عارضًا ثمَّ يزول.
(٢) العمدة.
قاس إبراهيم عليه السلام الرزق على الإمامة، حيث سأل الرزق لأجل المؤمنين خاصة، كما خصّ الله تعالى الإمامة بهم في قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فلمّا ردّ سؤال الإمامة في حقّ ذرّيته على الإطلاق، حسب أن يردَّ سؤاله الرزق في حقّ أهل مكة على الإطلاق، فلذلك قيد بالإيمان تأدُّبًا بالسؤال الأول، فنبَّه سبحانه على أنَّ الرزق رحمةٌ دنيويَّةٌ تعمُّ المؤمن والكافر، بخلاف الإمامة والتقدُّم؛ أي: وأَرْزُقُ أيضًا من كفر باللهِ واليوم الآخر ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾؛ أي: أمدُّ له ليتناول من لذات الدنيا؛ إثباتًا للحجة عليه، وأمتعه تمتيعًا ﴿قَلِيلًا﴾ فإنّ الدنيا بكليتها قليلةٌ، وما يتمتَّع الكافر به منها قليلٌ من القليل، فإنَّ نعمته تعالى في الدنيا
وقرأ الجمهور (١) من السبعة ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ مشدَّدًا على الخبر. وقرأ ابن عامر ﴿فأمتعه﴾ مخفَّفًا على الخبر. وقرأ هؤلاء ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ خبرًا، وقرأ يحيى بن وثاب: ﴿فأُمْتِعهُ﴾ مخفَّفًا ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بإدغام الضاد في الطاء خبرًا. وقرأ يزيد بن أبي حبيب {ثُمَّ
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: ﴿فأَمْتِعْهُ قليلًا ثم اضْطرُّه﴾ على صيغة الأمر فيهما، فأمَّا على هذه - القراءة، فيتعيَّن أن يكون الضمير في ﴿قَالَ﴾ عائدًا على إبراهيم لمَّا دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل، والإلزاز إلى العذاب، ومَنْ على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء على أن تكون موصولة، أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضًا وأمّا على قراءة الباقين، فيتعيَّن أن يكون الضمير في قال عائدًا على الله تعالى، ومَنْ يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل، تقديره: قال الله: وأرزق مَنْ كفر فأمتعه، ويكون ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ معطوفًا على ذلك الفعلِ المحذوف الناصب لِمَنْ، ويحتمل أن تكون ﴿مَنْ﴾ في موضع رفع على الابتداء إمّا موصولًا، وإمّا شرطًا، والفاء فاءُ جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول؛ لشبهه باسم الشرط. انتهى. ملخصًا من "البحر".
وحاصل مَعنى الآية: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾. الخ. أي: وارزق (١) أهله من أنواع الثمار، إمّا بزرعها بالقرب منه، وإمّا بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابةً لدعوة إبراهيم، كما هو مشاهدٌ، وقد جاء في سورة القصص ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وخصَّ إبراهيم بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته، جعل رزق الدنيا عامًّا للمؤمنين والكافرين ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾؛ لأن تمتيع الكافرين قصيرٌ محدودٌ بذلك العمر القصير، ثمَّ إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بيَّنه عز اسمه بقوله: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ...﴾ إلخ. أي: قال الله سبحانه: يا إبراهيم! قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمن أهل البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضًا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدًا قليلًا، وهو مدّة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقًا اضطراريًّا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أنَّ عملهم ينتهي بهم إليه.
الإعراب
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ الواو استئنافية ﴿لله﴾ خبر مقدّم ﴿الْمَشْرِقُ﴾ مبتدأ مؤخّر ﴿وَالْمَغْرِبُ﴾ معطوف على ﴿الْمَشْرِقُ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة، ولكنّها مرتبطة من حيث المعنى بقوله: ﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ يعني: أنّه إن سعى ساع في المنع من ذكره تعالى، وفي خراب بيوته، فليس ذلك مانعًا من أداء العبادة في غيرها؛ لأنّ المشرق والمغرب وما بينهما له تعالى. ذكره في "الفتوحات" ﴿فَأَيْنَمَا﴾ الفاء فاء الفصيحة، مبنية على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن المشرق والمغرب لله تعالى، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا﴾ ﴿أين﴾ اسم شرط جازم يجزم فعلين في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط؛ أعني:
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)﴾:
﴿وَقَالُوا﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية ﴿قالوا﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾. ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ و ﴿اتَّخَذَ﴾ هنا بمعنى: صنع، يتعدّى إلى مفعول واحد ﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿سبحان﴾ مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبّح سبحانه؛ أي: أنزّه الله تعالى عن اتخاذ الولد تنزيهًا، والهاء ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة في محل البحر مضاف إليه، وجملة التسبيح معترضة، فهو تعالى نزّه نفسه بنفسه ﴿بَل﴾ حرف عطف وإضراب، أو حرف ابتداء وإضراب ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدّم ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ متعلق بمحذوف صلة الموصول ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿قالوا﴾ عطف اسمية على فعلية، أو مستأنفة ﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة؛ ما فيه من العموم، والتنوين عوض عن مضاف إليه محذوف؛ أي: كل فرد من أفراد المخلوقات ﴿لَهُ﴾ متعلق بقانتون، و ﴿قَانِتُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)﴾:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾ هو فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: ﴿وقالوا﴾ أو مستأنفة، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ مقول محكي، لقال، منصوب بفتحة مقدرة على الأخير، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى: هلّا، والتحضيض: الطلب بحثّ وإزعاج ﴿يُكَلِّمُنَا اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قال ﴿أَوْ﴾
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، والجملة الإسمية مستأنفة ﴿بِالْحَقِّ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من المفعول في ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾؛ أي: حال كونك ملتبسًا بالحق، أو من الفاعل؛ أي: حالة كوننا ملتبسين بالحق، والأوّل أولى؛ لموافقة ما بعده ﴿بَشِيرًا﴾ حال ثانية من الكاف أيضًا، تقديره: حالة كونك مبشرًا بالجنة لمن اتبعك ﴿وَنَذِيرًا﴾ معطوف على ﴿بَشِيرًا﴾؛ أي: وحالة كونك منذرًا لمن خالفك بالعذاب ﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية على الأرجح، أو عاطفة ﴿لَا﴾ نافية ﴿تُسْأَلُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالضمّة، ونائب فاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿إن﴾ ﴿عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتسأل.
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠)﴾.
﴿وَلَنْ﴾: الواو استئنافية ﴿لن﴾ حرف نصب ونفي ﴿تَرْضَى﴾ فعل مضارع منصوب بلن ﴿عَنْكَ﴾ متعلق بترضى، ﴿الْيَهُودُ﴾ فاعل ﴿وَلَا النَّصَارَى﴾ معطوف على
واحذف لدى اجتماع شرط وقَسَمْ | جواب ما أخرّت فهو ملتَزَمْ |
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ أول ﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول ﴿يَتْلُونَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المفعول في ﴿آتَيْنَاهُمُ﴾ ولكنّها حال
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ فعل أمر معطوف على ﴿اذْكُرُوا﴾ على كونها جواب النداء ﴿يَوْمًا﴾ مفعول به ﴿لَا﴾ نافية ﴿تَجْزِي نَفْسٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ليومًا، ولكنّها سببية، والرابط محذوف، تقديره: لا تجزي فيه نفس ﴿عَنْ نَفْسٍ﴾ متعلق بتجزي ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به لتجزي ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة ﴿لَا﴾ زائدة زيدت؛ لتأكيد نفي ما قبلها ﴿يُقْبَلُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بيقبل
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)﴾.
﴿وَإِذِ﴾ الواو استئنافية ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! لأمتك قصة إذ ابتلى إبراهيم، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿ابْتَلَى﴾ فعل ماض ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ مفعول مقدّم على فاعله وجوبًا؛ لاتصال الفاعل بضميره، فلو قدم الفاعل عليه لزم عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، قال ابن مالك:
وشاع نحو خاف ربَّه عمرْ | وشذّ نحو زان نوره الشجر |
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة واقعة
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصة ﴿إذ قال ربّك﴾، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أو مستأنفة ﴿جَعَلْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿الْبَيْتَ﴾ مفعول أول ﴿مَثَابَةً﴾ مفعول ثان ﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بجعلنا، أو محذوف صفة لـ ﴿مَثَابَةً﴾. ﴿وَأَمْنًا﴾ معطوف على ﴿مَثَابَةً﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿وَاتَّخِذُوا﴾ الواو عاطفة لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم، قلنا: فعل وفاعل، والجملة في محل البحر معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿اتخذوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف ﴿مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باتخذوا ﴿مُصَلًّى﴾ مفعول ﴿اتخذوا﴾. ﴿وَعَهِدْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ متعلق بعهدنا ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ معطوف على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿أَن﴾ مفسرة، بمعنى: أي، مبني على السكون ﴿طَهِّرَا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعل ﴿بَيتِيَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ متعلق بطهِّرًا ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ معطوف على ﴿الطائفين﴾ ﴿وَالرُّكَّعِ﴾ معطوف أيضًا على ﴿الطائفين﴾ ﴿السُّجُودِ﴾ معطوف عليه أيضًا، ولما كان الركوع
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصة ﴿إذ قال إبراهيم﴾، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل البحر مضاف إليه لإذ ﴿رَبِّ اجْعَلْ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ﴾ مقول محكي لقال إبراهيم، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اجْعَلْ﴾ فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿هَذَا﴾ اسم إشارة في محل النصب مفعول أوّل لاجْعل ﴿بَلَدًا﴾ مفعول ثان ﴿آمِنًا﴾ صفة لبلدًا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على ﴿اجْعَلْ﴾. ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ متعلق بارزق ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب بدل من ﴿أَهْلَهُ﴾ بدل بعض من كل، والرابط ضمير ﴿مِنْهُمْ﴾ ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿آمَنَ﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بآمن ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معطوف على لفظ الجلالة ﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿وَمَنْ كَفَرَ...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿وَمَن﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة عطفًا تلقينيًّا على محذوف، تقديره: من آمن أرزقه من الثمرات، ومن كفر أمتعه قليلًا، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول، أو اسم شرط في محل الرفع مبتدأ ﴿كَفَرَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونه فعل شرط لها، إن قلنا:
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ هما من الألفاظ الشاذة التي انفردت بالكسر على الشذّوذ، لما علم عند الصرفيين أنّه إذا لم تكسر عين المضارع، فحق اسم المصدر، والمكان، والزمان، فتح العين قياسًا لا تلاوة ﴿أينما تولوا﴾ أصل تولّوا: تُولِّيُون، حذفت منه نون الرفع للجازم، ثم استثقلت الضمة على الياء؛ فحذفت تخفيفًا، فسكنت فالتقى ساكنان، الياء، والواو، فحذفت الياء، وصُحِّحت حركة اللام بجعلها ضمة، لتناسب الواو، فصار تولّوا ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وثَمَّ: اسم إشارة للمكان البعيد خاصَّة، مثل: هَنَّا وهِنَّا بتشديد النون، وهو مبني؛ لتضمّنه معنى حرف الإشارة، وفي "المختار": الوجه والجهة بمعنًى، والهاء عِوضٌ عن الواو؛ أي: فثمّ جهته التي ارتضاها قبلةً، وأمر بالتوجه نحوها ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ واتخذ افتعَلَ من تَخِذَ بكسر العين يَتْخَذُ، بفتحها، في المضارع،
قلت: قول ابن الأثير: إنّ فاء الكلمة إذا كان همزة لا يبدل تاء إن كان يعني قياسًا، فمسلَّمٌ، وإلّا فإبدال الهمزة ياءً، وإبدال الياء تاءً، وإدغامها في تاء الافتعال واردٌ، لكنّه شاذٌّ كما عقد ذلك ابن مالك في باب التصريف بقوله:
ذو اللِّيْنِ فَاتَا في افْتِعالٍ أُبْدِلا | وَشذّ في ذي الهمز نَحْوُ ائْتَكَلا |
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من باب الصفة المشبهة التي أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلًا في الأصل، والأصل: بديعٌ سمواته؛ أي: بدعت لمجيئها على شكلٍ فائق حسنٍ غريب، ثمّ شبّهت هذه الصفة باسم الفاعل، فتنصب ما كان فاعلًا، ثُمَّ أضيفت إليه تخفيفًا، وهكذا كل ما جاء من نظائره بالإضافة لا بدّ، وأن تكون من نصبٍ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل. اهـ. "سمين". وفي "القاموس": وبَدُعَ، ككرم بداعةً وبدوعًا. اهـ.
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أصله: قَضَيَ بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، والقضاء له معانٍ كثيرةٌ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، فيكون
ووجب:
إبدالُ واوٍ بَعْدَ ضمٍ مِنْ ألِفْ | وَيا كَمُوقِنٍ بِذَالِها اعْتَرِف |
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ﴾ أصل ترضى: ترضَي بوزن تفعَل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، والرضا ضدُّ الغضب، وهو من ذوات الواو لقولهم: الرضوان، والمصدر رِضًى ورضاءً بالقصر والمدّ، ورضوانٌ بكسر الراء وضمّها، وقد يضمَّن معنى عطف، فيتعدَّى بعلى، كقوله:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قشير | لعمر الله أعجبني رضاها |
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أصله: ابتلَيَ بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أصله: أتممهنَّ بوزن أفعل، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء، فسكنت فأدغمت في الميم الثانية ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ جاعلك: اسم فاعل من جعل بمعنى صيَّر، فيتعدَّى لاثنين أحدهما الكاف، وفيها الخلاف المشهور، والإمام: اسمٌ لكل ما يُؤْتمُّ به؛ أي: يقصد ويتَّبع، كالإزار: اسمٌ لما يؤتزر به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام. اهـ. "سمين".
﴿يَنَالُ عَهْدِي﴾ أصله: يَنْيَل بوزن يفعل؛ لأنَّ نال أصله نيل بكسر العين في الماضي يائيُّ العين، نقلت حركة الياء إلى النون، ثمّ قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. فقيل: ينال. ﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ أصله: مَثْوُبةٌ بوزن مفعلة: اسم مكان من ثاب يثوب، نقلت حركة الواو إلى الثاء، فسكنت الواو، وتحركت الثاء بالفتح، لكن الواو قلبت ألفًا؛ نظرًا لتحركها في الأصل، ونظرًا إلى فتح ما قبلها في الحال، ويحتمل أن تكون من الثواب؛ لأنَّ الناس يثابون عند البيت على الطواف به، والصلاة حوله، أمَّا على المعنى الأول، فلأنَّ الناس يثوبون إلى البيت؛ أي: يرجعون إليه لا يقضون وطرهم منه ﴿مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ اسم مكان من قام يقوم ووزنه مفعلٌ بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت ثمّ أبدلت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن ﴿مُصَلًّى﴾ أصله: مصلوٌ؛ لأنّ ألفه منقلبةٌ عن واو؛ لأنّ الصلاة من ذوات الواو ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ أصله: للطاوفين من طاف يطوف، وأصل طاف: طَوَف، أعِلَّت بقلب الواو في الفعل ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ولمّا أُعلّ الفعل حمل عليه الوصف، فأُعِلَّ بإبدال الواو همزةً، وهو جمع طائف اسم فاعل من طاف يطوف، ويقال: أطاف رباعيًّا، وهذا من باب فعل وأفعل بمعنًى ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ جمع عاكف من العكوف، وهو لغة: اللزوم واللُّبْث، يقال: عكف يعكف، ويعكف بالفتح في الماضي، والضمّ والكسر في المضارع ﴿أَضْطَرُّهُ﴾ أصله: اضطرره بوزن افتعل، أبدلت تاء الافتعال طاء، ثمّ أدغمت الراء الأولى في الثانية ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ مصدرٌ ميميٌّ من صار،
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجملة الاعتراضية في قوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾، لغرض بيان بطلان دعوى الظالمين الذين زعموا أن لله ولدًا.
ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾؛ لأنَّ غيرهم لا يجمع هذا الجمع؛ لأن التغليب من المحسنات البديعيَّة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ بأن شبِّهت الحال التي تتصوَّر من تعلق إرادته تعالى بشيء من المكوَّنات، وسرعة إيجاده إياه بحالة أمر الآمر النافذ تصرُّفه في المطيع، لا يتوقَّف في الامتثال، فأطلق على هذه الحالة ما كان يستعمل في تلك، من غير أن يكون هناك أمر ولا قولٌ.
ومنها: التعبير عن الكافرين والمكذبين بكلمة أصحاب الجحيم في قوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾؛ إيذانًا بأنَّ أولئك المعاندِيْنَ من المطبوع على قلوبهم، فلا يرجى منهم الرجوع عن الكفر والضلال، إلى الإيمان والإذعان.
ومنها: إيراد الهدى معرَّفًا باللام، مع اقترانه بضمير الفصل في قوله: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾؛ لإفادة القصر؛ أي: قصر الهداية على دين الله، فهو من باب قصر الصفة على الموصوف، فالإِسلام هو الهدى كلُّه، وما عداه فهو هوًى وعمًى.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ...﴾ إلخ. حيث كرَّره في أوّل السورة وهنا؛ لإفادة التوكيد، وتذكيرًا للنعم.
ومنها: التعرض بعنوان الربوبية في قوله: ﴿إذ ابتلى إبراهيم ربُّه﴾؛ إيذانًا بأنّ ذلك الابتلاء تربيةٌ له، وترشيحٌ لأمرٍ خطيرٍ، إذ المعنى: عامله معاملة
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿رَبُّهُ﴾؛ لتشريف المضاف إليه الذي هو ضمير الخليل عليه السلام.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَأَمْنًا﴾؛ أي: ذا أمْنٍ، وهو أظهر من جعله بمعنى: اسم الفاعل؛ أي: آمنا على سبيل المجاز.
ومنها: الإضافة لتشريف المضاف في قوله: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ نظير ناقة الله.
ومنها: عطف أحد الوصفين على الآخر في قوله: ﴿لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾؛ إفادةً لتباين ما بينهما.
ومنها: ترك عطف إحدى الصفتين على الأخرى في قوله: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾؛ إفادة بأنَّ المراد منهما شيءٌ واحدٌ وهو الصلاة، إذ لو عطف لتوهّم أنَّ كلا منهما عبادةٌ مستقلة.
ومنها: جمع الصفتين الأوليين جمع سلامة، والأخريين جمع تكسير؛ لغرض المقابلة، وهو نوع من الفصاحة.
ومنها: تأخير صيغة فُعول عن فعَّلٍ؛ لكونها فاصلةً.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ حيث أسند الأمن إلى البلد؛ للمبالغة، مع أنّ المقصود: أمن المتلجىء إليه من إسناد ما للحال إلى المحل.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ حيث شبه حالة الكافر المذكور، بحالة من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، فاستعمل في المشبَّه ما استعمل في المشبه به.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا (١) ذكر العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت، وجَعْلِهِ مثابةً للناس وأمْنًا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطن هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءَه، إذ جعله بلدًا آمنًا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار؛ ليتمتَّع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن طهّرا بيته للطائفين، والعاكفين، والركّع السجود؛ تنبيهًا لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام، والتماثيل، وعبادتها الفاسدة انتقل بهم إلى التذكير بأنَّ الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم الخليل، بمعونة ابنه إسماعيل عليهما السلام؛ ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه، ويفاخرون به، وقد كانت قريشٌ تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدِّعي أنها على ملّة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تَبَعٌ لقريش.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ...﴾ الآية، قد روي في سبب نزول هذه الآية: أنَّ عبد الله بن سلام، دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرًا إلى الإِسلام، قال لهما: قد علمتما أنَّ الله تعالى قال في التوراة: إنّي باعثٌ من ولد إسماعيل نبيًّا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأَبَى مهاجرٌ الإِسلام، فنزلت فيه هذه الآية، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هي القاعدة، عندهم وفيه تعريضٌ لليهود، والنصارى، ومشركي العرب.
التفسير وأوجه القراءة
ثُمَّ قال تعالى: حكايته عن قصة بناء البيت العتيق:
١٢٧ - ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ﴾ فيه (٢) حكايته حالٍ ماضيةٍ، حيث عبَّر بلفظ المضارع عن الرفع الواقع في الزمان المتقدِّم على زمان نزول الوحي، بأن يقدَّر ذلك الرفع السابق واقعًا في الحال، كَأنَّكَ تُصَوِّرُه للمخاطب، وتُرِيْهِ على وَجْهِ المشاهدةِ والعِيان ﴿الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ جمع
(٢) روح البيان.
فإن قلت: رفع الشيء أن يفصل عن الأرض، ويجعل عاليًا مرتفعًا، والأساس أبدًا ثابتٌ على الأرض، فما معنى رفعه؟
قلت: المراد برفع الأساس: البناء عليه، وعبَّر عن البناء على الأساس برفعه؛ لأنَّ البناء ينقله عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، فيوجد الرفع حقيقةً إلّا أنَّ أساس البيت واحدٌ، وعبَّر عنه بلفظ القواعد باعتبار أجزائه، كأنَّ كُلَّ جزء من الأساس أساسٌ لما فوقه، والمعنى: واذكر يا محمد! وقت رفع إبراهيم أساس البيت؛ أي: الكعبة ﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ ولده، وكان له أربعة بنين: إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، ومدين، ومداين من امرأة أخرى، وهو عطفٌ على إبراهيم، وتأخيره عن المفعول مع أنَّ حقَّ ما عطف على الفاعل أن يُقدَّم على المفعول؛ للإيذان بأنَّ الأصل في الرفع هو إبراهيم وإسماعيل تبعٌ له. قيل: إنّه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها.
واعلم: أنَّ رفع الأساس الذي هو البناء عليه، يدلّ على أنَّ البيت كان مؤسَّسا قبل إبراهيم، وأنّه إنما بنى على الأساس الموجودة قبله، واختلف الناس فيمن بنى البيت أوّلًا، وأسَّسَه؟ فقيل: هو الملائكة، وذلك أنَّ الله تعالى لما قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ قالت الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه، وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم حتى رضي عنهم، وقال لهم: (ابْنُوا لي بيتًا في الأرض، يتعوَّذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضى عنهم) فبنوا هذا البيت. وقيل: إنّ الله بنى في السماء
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّه قال: (لمّا أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض، قال له: (يا آدم! اذهب فَابْنِ لي بيتًا، وطف به، واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي) فأقبل آدم يتخطَّى، وطويت له الأرض، وقيِّضت له المفاوز، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلّا صار عامرًا، حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأنَّ جبريل ضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن الأسِّ الثابت على الأرض السابعة السفلى، وقدَّمت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وأنَّه بناه من خمسة أجبل: طور سيناء؛ وطور زيتاء، ولبنان وهو جبلٌ بالشام، والجوديِّ هو جبلٌ بالجزيرة، وحراء وهو جبلٌ بمكة، وكان رَبَضُهُ من حراء؛ أي: الأساس المستدير بالبيت من الصخر، فهذا بناء آدم) وروي أنَّ الله خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زُبَيْدةً بيضاء على الماء، فدحيت الأرض من تحته، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش، فشكا إلى الله، فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتةٍ من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد أخضر، بابٌ شرقيٌّ، وبابٌ غربيٌّ، فوضعه على موضع البيت، وقال (يا آدم! إنّي أهبطت لك بيتًا، فطف به كما يطاف حول عرشي، وصلّ عنده كما يُصلَّى عند عرشي، وأنزل الحجر، وكان أبيض، فاسودَّ من لمس الحيَّض في الجاهلية. فتوجَّه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيًا، وقيَّض الله له ملكًا يدله على البيت، قيل لمجاهد: لِمَ لَمْ يركب قال: وأيُّ شيء كان يحمله إنَّ خُطْوَتَهُ مسيرة ثلاثة أيام، فأتى مكة، وحجَّ البيت، وأقام المناسك، فلمَّا فرغ تلقَّته الملائكة، فقالوا: برَّ حجُّك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام).
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (حَجَّ آدم أربعين حجةً من الهند إلى مكة على رجليه، فبقي البيت يطوف به هو والمؤمنون من ولده إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى في تلك الأيام إلى السماء الرابعة، يدخله كُلَّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون إليه، وبعث الله جبرائيل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل
وروي أنَّ إبراهيم وإسماعيل لمَّا فرغا من بناء البيت، أعطاهما الله تعالى الخيل جزاء معجَّلًا على رفع قواعد البيت، وكان الخيل قبل ذلك وحشيَّةً كسائر الوحوش، فلمَّا أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد، قال الله تعالى: (إنّي معطيكما كنزًا ادّخرته لكما، ثُمّ أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد، فادع يأتك الكنز) فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه الله تعالى، فدعا، فلم يبق على وجه الأرض فرسٌ بأرض العرب إلّا جاءته، فأمكنه من ناصيتها، وذلَّلها له وقال النبي - ﷺ -: "فاركبوها واعلفوها، فإنّها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل" وإنّما سمّي الفرس عربيًّا؛ لأنَّ إسماعيل هو الذي أمر بدعائه، وهو أتى إليه، والعربيُّ: نسبةٌ إلى عربة بفتحتين، وهي باحة العرب؛ لأنَّ أباهم إسماعيل نشأ بها. قيل: كان إبراهيم يتكلَّم بالسريانية، وإسماعيل بالعربية، وكُلُّ واحد منهما يفهم ما يقوله صاحبه، ولا يمكنه التَّفوُّه به. وأمَّا بنيان قريش إياه فمشهور، فخبر الحيَّة في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن
قيل: إنّ قريشًا وجدوا في الركن كتابًا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجلٌ من اليهود، فإذا فيه: أنا الله ذو مكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصوَّرت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاكٍ احتفاءً لا يزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء، واللبن. وعن أبي جعفر: كان باب الكعبة على عهد العماليق، وجرهم، وإبراهيم بالأرض، حتى بنته قريش. وعن عائشة - رضي الله عنها -: سألت رسول الله - ﷺ - عن الجدار، أمن البيت هو؟ قال: "نعم" قلت: فلم لَمْ يدخلوه؟ قال: "إنّ قومك قصرت بهم النفقة" قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: فعل ذلك قومك، ولو حِدْثَانُهُمْ بالجاهليَّة لهدمت الكعبة، فأُلَزِقُ بابها بالأرض، وجعلت له بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدت فيه ستَّ أذرع من الحِجْر، فإنَّ قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة، فهذا بناء قريش. ثُمَّ لمّا غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير، ووهنت الكعبة من حريقهم، هدَّمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، فجعل لها بابين بابًا يدخلون منه، وبابًا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستَّ أذرعٍ، وكان طولها قبل ذلك ثماني أذرع، ولمَّا زاد في البناء مما يلي الحجر، استقصر ما كان من طولها تسع أذرع، فلمَّا
الأول: بناء الملائكة. روي أنّ الله أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتًا، وفي كل أرض بيتًا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتًا. روي أنَّ الملائكة حين أسست الكعبة، انشقت الأرض إلى منتهاها، وقذفت الملائكة فيها حجارة، كأمثال الإبل، فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل بناءهما.
الثاني: بناء آدم. روي أنّه قيل له: أنت أوّل الناس، وهذا أوّل بيتٍ وضع للناس.
الثالث: بناء ابنه شيثٍ بالطين والحجارة، فلم يزل معمورًا به، وبأولاده، ومَن بعدهم حتى كان زمن نوح، فأغرقه الطوفان، وغيَّر مكانه.
الرابع: بناء إبراهيم، وقد كان المُبلِّغ له ببنائه جبريل من الملك الجليل، ومن ثمَّ قيل: ليس ثمَّ في هذا العالم بيت أشرف من الكعبة؛ لأنَّ الآمر ببنائها الملك الجليل، والمبلِّغ، والمهندس جبريل، والباني الخليل، والمعين إسماعيل.
الخامس: بناء العمالقة.
السادس: بناء جرهم، والذي بناه منهم هو الحارث بن مضَّاض الأصفر.
السابع: بناء قصيٍّ خامس جدِّ النبي - ﷺ -.
الثامن: بناء قريش وحضره النبيُّ - ﷺ - وهو ابن خمسٍ وثلاثين سنة.
التاسع: بناء عبد الله بن الزبير، وسببه: توهين الكعبة من حجارة المنجنيق
العاشر: بناء الحجاج، وكان بناؤه للجدار الذي من جهة الحجر بكسر الحاء، والباب الغربيُّ المسدود عند الركن اليماني، وما تحت عتبة الباب الشرقيّ، وهو أربع أذرع وشبر، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، واستمرَّ بناء الحجاج إلى الآن. انتهى ملخصًا. وهذا بحسب ما اطلع عليه رحمه الله تعالى، وإلّا فقد بناه بعد ذلك بعض الملوك سنة ألفٍ وتسعٍ وثلاثين، كما نقله بعض المؤرِّخين. اهـ. وقد نظم العشرة الأولى بعضهم، فقال:
بَنَى بَيْتَ ربِّ العَرْشِ عَشْرٌ فخذْهُمُ | ملائكةُ الله الكِرامِ وآدَمُ |
فَشِيثٌ فَإبْرَاهِيْمُ ثُمَّ عَمَالِقٌ | قُصَيٌّ قُرَيْشٌ قَبْلَ هَذَينِ جُرْهُمُ |
وَعَبْدُ الإلهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَى كَذَا | بِنَاءٌ لِحَجَّاجٍ وَهَذَا مُتمِّمُ |
ودلت الآية أيضًا (٢) على أنَّ الواجب على كُلِّ مأمور بعبادةٍ وقربةٍ إذا فرغ منها، وأدَّاها كما أمر بها، وبذل في ذلك ما في وسعه أن يتضرَّع إلى الله سبحانه، ويبتهل ليتقبَّل منه، ولا يردَّ عليه، فيضيع سعيه، وأن لا يقطع القول بأنَّ من أدَّى عبادةً وطاعةً تقبل منه لا محالةٍ، إذ لو كان هكذا لما كان لدعائهما بطريق التضرع ليقبل منهما معنًى، فالقبول والردُّ إليه تعالى، ولا يجب عليه شيءٌ
١٢٨ - ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ﴾؛ أي: منقادين لحكمك مخلصين ﴿لَكَ﴾ بالتوحيد والعبادة، لا نعبد إلّا إياك فالمراد بالمسلم: من يجعل نفسه وذاته خالصًا لله تعالى، بأن يجعل التذلُّلَ، والتعظيم الواقع منه لِلِّسانِ، والأركانِ، والجَنَان خالصًا له تعالى، ولا يُعظِّم معه تعالى غيره، ويعتقد بأنَّ ذاتَه، وصفاتِه، وأفعالَه خالصةٌ له تعالى، خلقًا، وملكًا، لا مدخل في شيءٍ منها لأحدٍ سواه، أو المعنى: واجعلنا
(٢) روح البيان.
فإنْ قلت (١): لا شكَّ أنَّهما كانا مخلصين، ومستسلمين في زمان صدور هذا الدعاء منهما.
قلت: المراد طلب الزيادة في الإخلاص، والإذعان، أو الثبات عليه، فهذا تعليمٌ منهما الناس الدعاء؛ للتثبيت على الإيمان، فإنّهما لمّا سألا ذلك مع أمنهما من زواله عنهما، فكيف غيرهما مع خوفه، وسألا أيضًا الثبات على الانقياد، فأجيبا إلى ذلك حتى أسلم إبراهيم للإلقاء في النار، إسماعيل للأمر بالذبح. ﴿وَ﴾ اجعل ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾؛ أي: بعض أولادنا ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾؛ أي: جماعةً منقادة لأمرك، مخلصةً لك بالتوحيد، والطاعة، والعبادة، خاضعةً لعظمتك؛ وإنَّما خصَّا الذريَّة بالدعاء مع أنَّ الأنسب بحال أصحاب الهمم، لا سيما الأنبياء أن لا يخصُّوا ذرّيَّتهم بالدعاء، لكنهما خصّاهم لوجهين:
الأول: كونهم أحقَّ بالشفقة، كما في قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ فدعوا لأولادهما؛ ليكثر ثوابهما بهم، وفي الحديث: "ما مِن رجلٍ من المسلمين، يخلف من بعده ذريةٌ يعبدون الله تعالى، إلّا جعل الله له مثل أجورهم ما عبد الله منهم عابدٌ حتى تقوم الساعة".
والثاني: إنّه وإن كان تخصيصًا صورةً، إلّا أنّه تعميمٌ معنى؛ لأنَّ صلاح أولاد الأنبياء سببٌ وطريقٌ لصلاح العامَّة، فكأنَّهما قالا: وأصلح عامة عبادك بإصلاح بعض ذريّتنا.
وخصَّا البعض من ذريّتهما (٢)؛ لما علما أنَّ من ذريّتهما محسنٌ، وظالمٌ
(٢) روح البيان.
وقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء: أحدها: الزراعة والغرس، والثاني: الحماية والحرب، والثالث: جلب الأشياء من مصرٍ إلى مصر، ومن أكبَّ على هذه الأشياء، ونسي الموت، والبعث، والحساب، وسعى لعمارة الدنيا سعيًا بليغًا، ودقَّق في إعمال فكره تدقيقًا عجيبًا، فهو متوغِّلٌ في الجهل، والحماقة، ولهذا قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا. ﴿وَأَرِنَا﴾ أي بصرنا، أو عرفنا ﴿مَنَاسِكَنَا﴾؛ أي: مواضع نسكنا، أو أعمال نسكنا، والمناسك: جمع منسكٍ بفتح السين وكسرها، ويحتمل أن يكون المراد به: اسم مكان، فتكون الرُّؤية حنيئذٍ بصريةً، والمعنى: بصّرنا مواضع نسكنا؛ أي: المواضع التي يتعلَّق بها النسك؛ أي: أفعال الحج، نحو: المواقيت التي يحرم منها، والموضع الذي يوقف بعرفة، ومزدلفة، وموضع الطواف، والصفا والمروة، وما بينهما من المسعى، وموضع رمي الجمار، ويحتمل أن يكون المراد به: مصدرًا لا اسم مكان؛ أي: أفعال الحج نفسها لا مواضعها، ويكون جمعه حينئذٍ لاختلاف أنواعه، وتكون الرُّؤية حينئذٍ علميَّةً؛ لأنَّ نفس الأفعال لا تدرك بالبصر بل ترى بعين القلب، والمعنى حينئذٍ: وعرِّفنا أفعال حجنا، وكيفيتها من الطواف، والوقوف، والرمي، والنُّسُك: كُلُّ ما يُتعبَّد به إلى الله تعالى، وشاع في أعمال الحج؛ لكونها أشقَّ الأعمال بحيث لا تتأتَّى إلّا بمزيد سعيٍ واجتهادٍ، فأجاب (١)
أَرْنَا إدَاوَةَ عَبْدِ الله نَمْلَؤُهَا | مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا |
١٢٩ - ﴿رَبَّنَا﴾ ﴿و﴾ يا مَالِكَ أمرِنا ﴿ابعث﴾ وأرسل ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في جماعة الأمة المسلمة من أولادنا، وهم
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ معطوف على يتلو؛ أي: يعلِّمهم بحسب قوَّتهم النظريَّة معاني الكتاب والقرآن، بتعليمهم ما فيه من دلائل التوحيد، والنبوة، والأحكام الشرعية، فلمَّا ذكر الله تعالى أوَّلًا أمر التلاوة، وهي حفظ القرآن، ودراسته؛ ليبقى مصونًا من التحريف والتبديل، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ القراءة، وما يتعلَّق به، ذكر بعده تعليم معانيه، وحقائقه، وأسراره، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ التفسير، وما يتعلَّق به ﴿وَ﴾ يعلمهم ﴿الحكمة﴾؛ أي: السنة والحديث، وفهم ما في القرآن، قاله قتادة، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ الحديث، وما يتعلَّق به درايةً وروايةً، أو يعلِّمهم ما يُكمّل به نفوسهم من المعارف الحقّة، والأحكام الشرعيَّة. قال أبو بكر ابن دريد: وكُلُّ كلمةٍ وَعَظَتْك، أودعتك إلى مكرمةٍ، أو نَهَتْك عن قبيحٍ، فهي حكمةٌ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ بحسب قوّتهم العمليَّة؛ أي: يطهِّرهم عن دنس الشرك والوثنيَّة، وفنون المعاصي، سواء كانت بترك الواجبات، أو بفعل المنكرات، وفيه إشارةٌ إلى علم العقائد. ثمَّ إنّ إبراهيم لمَّا ذكر هذه الدعوات الثلاث، ختمها بالثناء على الله تعالى؛ لأنّه أرجى للقبول، فقال: ﴿إِنَّكَ﴾ يا ربَّنا! ﴿أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يغالب ويقهر على ما يريد ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة البالغة، والمصلحة العامَّة لعباده، فهو سبحانه عزيزٌ حكيمٌ بذاته، وكُلُّ ما سواه ذليلٌ جاهلٌ في نفسه.
قلت: أجيب عنها بأجوبة كثيرة:
منها: أنّ إبراهيم دعا لمحمد بهذه الدعوات، فأجرى الله سبحانه ذكر إبراهيم على ألسنة أمَّة محمد - ﷺ - إلى يوم القيامة، أداءً لحقٍّ واجبٍ على محمد لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
ومنها: أنَّ إبراهيم سأل ربَّه بقوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾؛ أي: أبق لي ثناءً حسنًا في أمّة محمد - ﷺ -.
ومنها: أنّ إبراهيم كان منادي الشريعة في الحجِّ، ومحمدًا كان منادي الإيمان، فجمع الله بينهما في الذكر الجميل إلى غير ذلك من الأجوبة.
١٣٠ - ومَن في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخيِّ، فهو بمعنى: النفي؛ أي: لا يرغب، ولا يعرض ﴿عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام، ولا يترك دينه، وشريعته التي منها ما أرسل به محمدٌ - ﷺ - ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾؛ أي: إلا من استخفَّ، وأذلَّ، وامتهن نفسه، وأهلكها، وخسَّرها، وجهل قدرها بأن لم يعلم أنّها مخلوقةٌ لله، يجب عليها عبادة خالقها؛ لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه؛ لأنّه لم يعترف بأنَّ الله خالقها، وقد ورد: (من عرف نفسه فقد عرف ربّه). وعنى بذلك اليهود، والنصارى، ومشركي العرب لاختيارهم اليهوديَّة، والنصرانيَّة، والوثنية، على الإسلام.
فائدة: فالمِلَّة والدّين والشريعة بمعنى واحد، وهي: الأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده للتَّعبُّد بها، فمن حيث إملاء الرسول إيَّاها علينا تسمَّى ملَّةً، ومن حيث إنَّها شرعها الله على لسان رسوله تسمَّى شريعةً، ومن حيث إنّا نتديَّن بها
وقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق (٢) بقوله: ﴿لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: لمن المشهود لهم بالثبات على الاستقامة، والخير، والصلاح، فمن كان صفوة العباد في الدنيا، مشهودًا له في الآخرة بالصلاح، كان حقيقًا بالاتباع، لا يرغب عن مِلَّتَهِ إلّا سفيهٌ؛ أي: في أصل الخلقة، أو متسفِّهٌ يتكلَّف السَّفاهة بمباشرة أفعال السفهاء باختياره، فيذلُّ نفسه بالجهل، والإعراض عن النظر، والتأمُّل، وفي قوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ بشارةٌ عظيمةٌ له في الدنيا بصلاح الخاتمة، ووعد له بذلك، وكم من صالحٍ في أوَّل حاله ذهب صلاحه في ماله، وكان في
الآخرة لعذابه، ونكاله، كبلعم بن باعوراء، وبرصيصا، وقارون. والمعنى (٣): أي: إنّ ملتكم هي ملة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنسبون، وبه تفخرون، فكيف ترغبون وتحتقرون عقولكم، وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا؟! ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمةً يهدون بأمرنا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير، والصلاح، وإرشاد الناس للعمل بهذه الملّة، ولا شكّ (٤) أنَّ ملّةً هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربّه، لا يرغب عنها إلّا سفيهٌ يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
١٣١ - قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ متعلِّق باصطفيناه، وتعليلٌ له؛ أي: اصطفيناه واخترناه ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾؛ أي: أخلص دينك لربّك، واستقم على الإِسلام، واثبت عليه، وذلك حين كان في الرب، ونظر إلى الكواكب، والقمر، والشمس، فألهمه الله الإخلاص ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: أخلصت ديني له، كقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ الآية. وقد امتثل ما أمر به من الإخلاص والاستسلام، وأقام على ما قال، فسلَّم القلب، والنفس، والولد، والمال، ولمَّا قال له جبريل حين ألقي في النار: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: ألا تسأل ربَّك؟ فقال: حسبي بسؤالي علمه بحالي.
وقيل: الظرف متعلق بمحذوف، كنظائره، تقديره: واذكر يا محمد! لأمَّتك قصة ﴿إذ قال له﴾؛ أي: لإبراهيم ﴿رَبُّهُ﴾ سبحانه وتعالي ﴿أَسْلِمْ﴾؛ أي: أخلص دينك وعملك لله ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: أخلصت ديني وعملي لمالك الخلائق، ومدبِّرها، ومحدثها، ويقال: قال له ربُّه حين ألقي في النار: أسلم نفسك إليَّ. قال: أسلمت نفسي لله ربِّ العالمين؛ أي: فوَّضْتُ أمري إليه، وقد حقَّق ذلك حيث لم يستعن بأحدٍ من الملائكة حين ألقي في النار.
قال أهل التفسير (١): إنّ إبراهيم ولد في زمن النمروذ بن كنعان، وكان النمروذ أوّل من وضع التاج على رأسه، ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كُهَّانٌ ومنجِّمون، فقالوا له: إنّه يولد في بلدك في هذه السنة غلامٌ يغيِّر دين أهل الأرض، ويكون هلاكك، وزوال ملكك على يديه. قالوا: فأمر بذبح كُلِّ غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، فلمَّا دنت ولادة أُمّ إبراهيم، وأخذها المخاض خرجت هاربةً مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فولدته في نهرٍ يابسٍ، ثُمَّ لفَّته في خرقةٍ، ووضعته في حلفاء، وهو نبتٌ في الماء، يقال له بالتركي: حَصِير قَمشَي، ثُمَّ رجعت فأخبرت زوجها بأنَّها ولدت، وأنَّ الولد في موضع كذا، فانطلق أبوه، فأخذه من ذلك المكان، وحفر له سُرْبًا؛ أي: بيتًا في الأرض
والحاصل (١): أنّ إبراهيم مستسلم للربّ الكريم، وأنّه على الصراط المستقيم، لا يرغب عن طريقته إلّا من سفه نفسه؛ أي: لم يتفكَّر فيها كما تفكَّر إبراهيم في الأنفس، والآفاق، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ والسَّفاهة: الجهل وضعف الرأي، وكلُّ سفيه جاهلٌ، وذلك أنَّ من عبد غير الله فقد جهل نفسه؛ لأنّه لم يعرف الله خالقها، ولمَّا كمل إبراهيم في نفسه كمَّل غيره بالتوصية المذكورة في قوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾. قرأ نافع وابن عامر ﴿وأوصى﴾ بالهمزة
١٣٢ - ﴿وَوَصَّى﴾ وبها متعلق بوصَّى، والضمير عائدٌ على الملَّة المذكورة في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وبه قال الزمخشري، أو الكلمة التي هي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والتوصية: هي التقديم إلى الغير بما فيه خيرٌ وصلاحٌ من قول، أو فعل على وجه التفضُّل والإحسان، سواءٌ كان أمرًا دينيًّا، أو دنيويًّا، وأصلها: الوصل، يقال: وصَّاه إذا أَوْصَلَه، وهي أبلغ من الإيصاء؛ أي: وأوصى إبراهيم عليه السلام بالملّة المذكورة في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أو بكلمة: أسلمت لله ربّ العالمين، أو بكلمة: لا إله إلّا الله ﴿بَنِيهِ﴾؛ أي: أولاده الذُّكور، وقد سبق أنّهم كانوا أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن. وقيل (١): هم ثمانية: إسماعيل وهو أكبر أولاده، وأُمُّهُ هاجر القبطية، وإسحاق وأمّه سارةُ، ومدين، ومداين، وبُقْشَانُ، وزُمْرَانُ، وشَبقٌ، ونُوحٌ، وأمُّهم قنَطْوُراءُ بنتُ يَقْطَنَ الكنعانيةُ، تزوَّجها إبراهيم بعد وفاة سارة. وقيل أولادهُ: أربعة عشرة، والذي بقي نسله من هؤلاء الثمانية: إسماعيل، وإسحاق والمعنى: أي: أمر إبراهيم عليه السلام بنيه عند موته باتباع هذه الملة الحنيفية، وإنّما خصَّهم بهذه الوصية؛ لأنّ شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم، وقيل: لأنّهم كانوا أئمّة يقتدى بهم، وكان صلاحهم صلاحًا لغيرهم. ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ بن إسحاق بالرفع عطفًا على إبراهيم؛ أي: ووصّى يعقوب بنيه عند موته بهذه الملة، كوصيّة إبراهيم، وقرىءَ بالنصب عطفًا على بنيه، والمعنى: ووصى إبراهيم بنيه ويعقوب نافلته بهذه الملة عند موته. وقرأ الجمهور ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ بالرفع. وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكيُّ الضرير، وعمر بن فائد الأسواريُّ بالنصب، فأمَّا قراءة الرفع فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفًا على إبراهيم، ويكون دَاخِلًا في حكم توصية بنيه؛ أي: ووصى يعقوب بنيه.
الثاني: أن يكون مرفوعًا على الابتداء، وخبره محذوف، تقديره: ويعقوب
وأمّا قراءة النصب فيكون عليها معطوفًا على بنيه؛ أي: ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب نافلته؛ أي: ابن ابنه إسحاق، وكان (١) جملة أولاد يعقوب اثني عشر: روبين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، وشنوخون، وزبولون، وزَوَابِي، ونَفْتُونِي، وكُوْدا، وأوشيز، وبنيامين، ويوسف، وسُمّي يعقوب؛ لأنّه مع أخيه عَيْصُو كانا توأمين، فتقدَّم عيصو في الخروج من بطن أمِّه، وخرج يعقوب على أثره آخذًا بعقبه، وذلك أنَّ أُمَّ يعقوب حملَتْ في بطنٍ واحد بولدين توأمين، فلمَّا تكامل عدَّةٌ أشهر الحمل، وجاء وقت الوضع تكلَّما في بطنها وهي تسمع، فقال: أحدهما للآخر: طرِّق لي حتى أخرج قبلك، وقال الآخر: لئن خرجت قبلي لأشُقَّن بطنها حتى أخرج من خصرها، فقال الآخر: اخرج قبلي، ولا تقتل أمي. قال: فخرج الأول فسمَّته عيصو؛ لأنَّه عصاها في بطنها، وخرج الثاني وقد أمسك بعقبه فسمَّته يعقوب، فنشأ عيصو بالغلظة والفظاظة، صاحب صَيْدٍ وقَنَصٍ، ويعقوب بالرحمة واللين، صاحب زرع وماشية.
وروي: أنّهما ماتا في يوم واحد، ودُفنا في قبر واحد. قيل: عاش يعقوب مائةً وسبعًا وأربعين سنة بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدَّسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف فدفنه عند أبيه. وقال المؤرِّخون: نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيعٌ، وقيل: ابن سنتين، وقيل: ابن أربع عشرة سنة، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات إسماعيلُ وله مائةٌ وثلاثون سنة، وكان لإسماعيل حين مات أبوه إبراهيم تسعٌ وثمانون سنةً، وعاش إسحاق مائةً وثمانين سنةً، ومات بالأرض المقدَّسة، ودفن عند أبيه، وكان بين وفاة إبراهيم الخليل ومولد محمد - ﷺ - نحوٌ من ألف سنةٍ وستمائة سنة، على ما قيل واليهود تنقص من ذلك نحوًا من أربعمائة سنة، وقوله: ﴿يَا بَنِيَّ﴾ على إضمار القول عند البصريين، تقديره: ووصَّى بها بنيه، وقال ﴿يَا بَنِيَّ﴾ الخ. وذلك؛ لأنّ يا بني
أحدهما: أنّه مقول إبراهيم، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم، وهو الأظهر كما مرّ، ومقول يعقوب محذوفٌ؛ لدلالة مقول إبراهيم عليه، والتقدير: ووصَّى بها إبراهيم بنيه، وقال: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ الخ. ووصى بها يعقوب بنيه، وقال: ﴿يَا بَنِيَّ﴾ الخ.
والثاني: أنه من مقول يعقوب؛ إن قلنا رفعه بالابتداء، ومقول إبراهيم محذوف؛ لدلالة مقول يعقوب عليه، والتقدير: ووصَّى بها إبراهيم بنيه، وقال: ﴿يَا بَنِيَّ...﴾ الخ. ويعقوب وصَّى بها بنيه، وقال: ﴿يَا بَنِيَّ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اصْطَفَى﴾ واختار ﴿لَكُمُ﴾ من بين الأديان ﴿الدِّينَ﴾؛ أي: دين الإِسلام الحنيفي الذي هو صفوة الأديان، ولا دين عنده غيره، والألف واللام في الدين للعهد؛ لأنهم كانوا قد عرفوا، كما في "الكرخي" ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾؛ أي: لا يصادفنكم الموت في الظاهر، وفي الحقيقة: نهى عن ترك الإِسلام؛ لأنَّ الموت ليس في أيديهم، فكأنَّه قال: لا تموتوا على حالةٍ غير حالة الإِسلام، فليس فيه نهيٌ عن الموت الذي هو قَهْريٌّ، والاستثناء مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوال ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محلِّ النصب على الحال، والعامل فيها ما قبل ﴿إِلَّا﴾، كأنه قال: لا تموتنَّ على حالٍ من الأحوال إلّا على هذه الحالة التي هي اتصافكم بالإِسلام.
والمعنى: أي فاثبتوا على الإِسلام حتى تموتوا مسلمين مخلصين له تعالى بالتوحيد والعبادة، والمراد: نهيهم عن ترك الإِسلام، وأمرهم بالثبات عليه إلى مصادفة الموت، وإلَّا فالموت قهريٌّ ليس باختيارهم. وذلك حين دخل يعقوب مصر، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإِسلام، فإنَّ موتهم لا على حال الثبات على الإِسلام موتٌ لا خير فيه، وأنَّه ليس بموت السعداء، وأنَّ من حقّ هذا الموت أن لا يحلَّ فيهم. وتخصيص الأبناء بهذه
١٣٣ - ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ وأم فيه منقطعةٌ مقدَّرةٌ ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري. قال في "التيسير": أم إذا لم يتقدَّمها ألف الاستفهام كانت بمنزلة مجرَّد الاستفهام، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، والشهداء: جمع شهيد بمعنى حاضر؛ أي: بل كنتم يا معشر اليهود! حاضرين وصيّة يعقوب، ﴿إِذْ حَضَر﴾ وقرىء بكسر (١) الضاد ﴿يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ وقرأ الجمهور (٢) بنصب يعقوب، ورفع الموت، وقرىء بالعكس، والمعنيان متقاربان، أي: أكنتم حاضرين يعقوب حين حضره أسباب الموت ومقدّماته؟ أي: (٣) إنّكم لم تحضروا ذلك فلا تدَّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتنسبوهم إلى اليهوديَّة، فإنّي ما ابتعثت خليلي إبراهيم، وولده، وأولاده إلا بدين الإِسلام، وبذلك وصّوا أولادهم، وبه عهدوا إليهم.
ثُمَّ بيَّن ما قال يعقوب لبنيه بقوله سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ﴾ يعقوب، ﴿إِذْ﴾ بدلٌ من إذ الأولى بدل اشتمال، والعامل فيهما شهداء، أو ظرفٌ لحضر، أي: أكنتم حاضرين وصيّته؟ إذ قال: ﴿لِبَنِيهِ﴾؛ أي: لأولاده الاثني عشر ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: أيَّ شيء تعبدونه؟ ﴿مِنْ بَعْدِي﴾؛ أي: من بعد موتي، أراد به تقريرهم على التوحيد والإِسلام، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما؛ أي: فأنتم لم تحضروا وصيته، فكيف تنسبونه إلى اليهودية؟ قيل: إنّ الله تعالى لم يقبض نبيًّا حتى يخيّره بين الحياة والموت، فلمَّا خيِّر يعقوب، وكان قد رأى أهل مصر يعبدون الأوثان والنيران، قال: أنظروني حتى أسأل أولادي، وأوصيهم، فأمهل، فجمع أولاده،
(٢) العكبري.
(٣) الخازن.
وتمَّ الإنكار عليهم عند قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ ثُمَّ استأنف وبيَّن أنَّ الأمر قد جرى على خلاف ما زعموا، فقال: و ﴿قَالُوا﴾ كأنَّه قيل: فماذا قال أولاد يعقوب؟ فقيل: قالوا: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ ربَّ العالمين ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ معبود الأولين والآخرين، وأعيد ذكر الإله؛ لئلَّا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار. وقرأ الجمهور ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾. وقرأ أُبيٌّ ﴿وإلهَ إبراهيم﴾ بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدريُّ وأبو رجاء ﴿وإله أبيك﴾ وقوله: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ عطف بيان لآبائك، أو بدل تفصيل له؛ أي: نعبد الإله المتفق على وجوده، وإلهيته، ووجوب عبادته، وقدَّم إسماعيل؛ لأنّه كان أكبر من إسحاق، وجعله من جملة آبائه مع كونه عمًّا له؛ تغليبًا للأب والجدِّ؛ ولأنَّ العمَّ أبٌ، والخالة أُمٌّ؛ لانْخِرَاطِهما في سلكٍ واحدٍ، وهو الأخوَّة لا تفاوت بينهما، ولقوله - ﷺ - في العباس: "هذا بقيَّة آبائي" وفي "الصحيحين": "عمُّ الرجل صنو أبيه"؛ أي: مثله في أنَّ أصلهما واحدٌ؛ أي: لا تفاوت بينهما، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقوله: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ بدلٌ من ﴿إله آبائك﴾ كقوله تعالي: ﴿بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ﴾ وفائدته: التصريح بالتوحيد، ودفع التوهُّم الناشىء من تكرار المضاف لتعذّر العطف على المجرور، والتأكيد، أو
١٣٤ - ﴿تِلْكَ﴾ الجماعة المذكورة التي هي إبراهيم، ويعقوب، وبنوهما المُوحِّدون ﴿أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعةٌ ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت وسلفت بالموت، والأمَّة في الأصل: المقصود، كالعهدة بمعنى: المعهود، وسمّي بها الجماعة؛ لأنَّ فِرَقَ الناس تؤمُّها؛ أي يقصدونها، ويقتدون بها، وهي خبر تلك، وجملة قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ نعتٌ لأمّةٍ؛ تلك الجماعة المذكورة أمّةٌ قد خلت ومضت بالموت، وانفردت عمَّن عداها، وأصله: صارت إلى الخلاء، وهي الأرض التي لا أنيس بها ﴿لَهَا﴾؛ أي: لتلك الأمة ﴿مَا كَسَبَتْ﴾؛ أي: جزاء ما عملت من الخيرات، ودَعُوا يا معشر اليهود والنصارى! ذِكْرهم، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم، وتقديم المسند؛ لقصره على المسند إليه؛ أي: لها كسبها لا كسب غيرها ﴿وَلَكُمْ﴾ يا معشر اليهود والنصارى ﴿مَا كَسَبْتُمْ﴾ لا كسب غيركم؛ أي: جزاء ما كسبتموه من العمل، أي: إنَّ أحدًا من الناس لا ينفعه كسب غيره متقدِّمًا كان أو متأخرًا، فكما أنَّ أولئك لا ينفعهم إلّا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلّا ما اكتسبتم، فلا ينفعكم الانتساب إليهم، بل إنّما ينفعكم موافقتهم واتباعهم ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: لا تؤاخذون بسيئات الأمّة الماضية، كما أنهم لا يؤاخذون بسيئاتكم، بل كُلُّ فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره، ففي الكلام حذفٌ، تقديره ولا يسألون عما كنتم تعملون، ودلَّ على المحذوف قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ وذلك لمَّا ادعى اليهود أنَّ يعقوب عليه السلام مات على اليهودية، وأنه عليه السلام، وصَّى بها بنيه يوم مات، ورُدُّوا بقوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ...﴾ الآية، قالوا: هب أنَّ الأمر كذلك، أليسوا آباءنا، وإليهم ينتمي نسبنا؟ فلا جرم ننتفع بصلاحهم، ومنزلتهم عند الله تعالى. قالوا ذلك: مفتخرين بأوائلهم، فرُدُّوا بأنّهم لا ينفعهم انتسابهم إليهم، وإنَّما ينفعهم اتباعهم في الأعمال، فإنَّ أحدًا لا ينفعه كسب غيره، كما روي عن النبي - ﷺ -: "يا صفية عمة محمد! يا فاطمة بنت محمد! ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم، فإنّي لا أغني عنكم من الله
قال الشاعر:
أَتَفْخَرُ باتّصالِكَ مِنْ عَلِيٍّ | وَأصْلُ البَوْلَةِ الماءُ القَراحُ |
وَلَيْسَ بِنَافِعٍ نسَبٌ زكّي | يُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ القِبَاحُ |
إذا طَابَ أصْلُ المَرْءِ طَابَتْ فُرُوعُهُ
فباعتبار الغالب، فمن عادته تعالى أن يخرج الحيَّ من الميت، والميت من الحيّ.
الإعراب
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)﴾:
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصّة ﴿إذ يرفع إبراهيم﴾، والجملة معطوفة على جملة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾. ﴿يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿الْقَوَاعِدَ﴾. ﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ معطوف على إبراهيم ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء وما بعدها في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: يقولان: ربّنا تقبّل منا، وجملة القول المحذوف حال من إبراهيم وإسماعيل، كما أشرنا إليه في الحلّ ﴿تَقَبَّلْ﴾ فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه ﴿مِنَّا﴾ جار
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)﴾:
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف ﴿وَاجْعَلْنَا﴾ الواو عاطفة ﴿اجعلنا﴾ فعل ومفعول أوّل، وفاعل مستتر يعود على الله ﴿مُسْلِمَيْنِ﴾ مفعول ثان ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمسلمين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على المفعول الأول في قوله: ﴿وَاجْعَلْنَا﴾؛ أي: على كونه متعلقًا بمحذوف، تقديره: واجعل من ذرّيتنا أمّة مسلمة، وإن شئت قلت: الواو عاطفة ﴿مِنْ﴾ اسمٌ بمعنى بعض في محل النصب معطوفٌ على المفعول الأول في قوله: ﴿وَاجْعَلْنَا﴾ ﴿منْ﴾ مضافٌ ﴿ذريّة﴾ مضافٌ إليه ﴿ذرية﴾ مضافٌ (نا) مضاف إليه، ﴿أُمَّةً﴾ مفعول ثانٍ ﴿مُسْلِمَةً﴾ صفةٌ لأمة ﴿لَكَ﴾ متعلِّق بمسلمة ﴿وَأَرِنَا﴾ الواو عاطفة ﴿أرنا﴾ فعل ومفعول أوّل، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿مناسكنا﴾ مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿تقبل﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف، ﴿وَتُبْ﴾ الواو عاطفة ﴿تب﴾ فعل دعاءٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿تقبل﴾، ﴿عَلَيْنَا﴾ جار ومجرور متعلق بتب ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿أَنتَ﴾ ضمير فصل ﴿التَّوَّابُ﴾ خبر أول، لـ ﴿إنَّ﴾ ﴿الرَّحِيمُ﴾ خبر ثان لها، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف، ﴿وَابْعَثْ﴾ الواو عاطفة ﴿بعث﴾ فعل دعاء سُلُوكًا مسلك الأدب مع الباري جلَّ
﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾:
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع بدل من فاعل ﴿يَرْغَبُ﴾، أو في محل النصب على الاستثناء ﴿سَفِهَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿نَفْسَهُ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿وَلَقَدِ﴾ الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ جار ومجرور متعلق باصطفينا ﴿وَإِنَّهُ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بالصالحين، أو حال من الضمير المستكن في الظرف الخبري ﴿لَمِنَ﴾ اللام حرف ابتداء ﴿من الصالحين﴾ جار ومجرور خبر ﴿إنّ﴾؛ أي: وإنّه لكائن من الصالحين؛ أي: الفائزين في الآخرة، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، أو معطوفة على جملة القسم المذكور قبلها.
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿قَالَ﴾ فعل ماض ﴿لَهُ﴾ متعلق بقال ﴿رَبُّهُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿أَسْلِمْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر والجملة في محل النصب مقول قال (قال) فعل ماضي وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، والجملة مستأنفة ﴿أَسْلَمْتُ﴾ فعل وفاعل ﴿لِرَبِّ﴾ متعلق بأسلمت، ﴿الْعَالَمِينَ﴾ مضاف إليه، وجملة ﴿أَسْلَمْتُ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَوَصَّى﴾ الواو استئنافية ﴿وَصَّى﴾ فعل ماض ﴿بِهَا﴾ متعلق بوصى ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ فاعل ﴿بَنِيهِ﴾ مفعول به منصوب بالياء؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والهاء ضمير متصل في محل البحر مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ بالرفع معطوف على إبراهيم وهو الأظهر، ومفعوله محذوف، تقديره: ووصّى يعقوب بنيه أيضًا، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ويعقوب قال: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ ومفعول ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ﴾ محذوف؛ لعلمه ممَّا بعده، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿وصَّى بها إبراهيم﴾، وبالنصب معطوفٌ على ﴿بَنِيهِ﴾ كما سبق في مبحث التفسير في ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ مقول محكي للقول المحذوف الواقع حالًا من فاعل ﴿وصى﴾ والتقدير: ووصى بها إبراهيم حال كونه قائلًا يا بني إنّ الله. الخ. وإن شئت قلت: ﴿يَا بَنِيَّ﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء، ﴿بني﴾ منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء المدغمة في ياء المتكلم؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنّ أصله يا بنين لي ﴿بني﴾ مضاف، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لقال المحذوفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿اصْطَفَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾ ﴿لَكُمُ﴾ متعلق باصطفى، ﴿الدِّينَ﴾ مفعول به وجملة ﴿اصْطَفَى﴾ خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول لقال المحذوفة ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾، الفاء عاطفة تفريعية ﴿لَا﴾ ناهية جازمة ﴿تَمُوتُنَّ﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والنون المشددة حرف توكيد، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة مفرعة على جملة ﴿إنَّ﴾ على
﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿شُهَدَاءَ﴾ خبره، وجملة كان مستأنفة ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بشهداء ﴿حَضَرَ﴾ فعل ماض ﴿يَعْقُوبَ﴾ مفعول به ﴿الْمَوْتُ﴾ فاعل، والجملة في محل البحر مضاف إليه لإذ ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان بدل من ﴿إِذْ﴾ الأولى، فيكون متعلِّقًا بشهداء، أو متعلِّقٌ بحضر ﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير ﴿يَعْقُوبَ﴾، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذْ ﴿لِبَنِيهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقال ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا لتعبدون، ﴿تَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بتعبدون، أو بمحذوف حال من فاعل تعبدون، ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ إلى آخر الآية، مقولٌ محكيٌّ لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿نَعْبُدُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على أولاد يعقوب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِلَهَكَ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿وَإِلَهَ﴾ الواو عاطفة ﴿إِلَهَ﴾ معطوف على ﴿إِلَهَكَ﴾ ﴿إِلَهَ﴾ مضاف ﴿آبَائِكَ﴾ مضاف إليه ﴿آباء﴾ مضاف، والكاف مضاف إليه ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل من ﴿آبَائِكَ﴾ بدل تفصيل من مجمل تبعه بالجر، وعلامة جره الفتحة ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ معطوفان على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ وإنّما كرَّر إله؛ ليصحَّ عطف ﴿آبَائِكَ﴾ على ضمير المخاطب المجرور بإضافة ﴿إلهٍ﴾ إليه؛ أعني: ﴿إِلَهَكَ﴾ كما قال ابن مالك:
وعَوْدُ خَافضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى | ضَمِيرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ |
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)﴾.
﴿تِلْكَ﴾ تي: اسم إشارة يشار به للمفردة المؤنثة البعيدة في محل الرفع مبتدأ، مبنيٌّ بسكون على الياء المحذوفة، للتخلُّص من التقاء الساكنين، لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لأنَّ أصله: تِي كذِي، فالياء جزء الكلمة عند البصريين، وقال الكوفيون: التاء وحدها هي اسم الإشارة، والياء زائدةٌ، وعلى كلا المذهبين حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين مع اللام؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، واللام لبعد المشار إليه، والكاف حرف قال على الخطاب ﴿أُمَّةٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿خَلَتْ﴾ فعل ماض مبني بفتحة مقدّرة على الألف المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنّه فعل معتلٌّ بالألف، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿أُمَّةٌ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع صفةٌ أولى لأمَّةٍ ﴿لَهَا﴾ جار ومجرور خبر مقدّم ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية في محل الرفع صفة ثانية لأمّة، أو في محل النصب حالٌ من الضمير في ﴿خَلَتْ﴾ أو مستأنفة وهو أولى، وجملة ﴿كَسَبَتْ﴾ صلةٌ لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كسبته ﴿وَلَكُمْ﴾ الواو استئنافية ﴿لكم﴾ خبر مقدّم ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿كَسَبْتُمْ﴾ صلةٌ لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كسبتموه ﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية ﴿لَا﴾ نافية ﴿تُسْأَلُونَ﴾ فعل
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ قال الكسائي، والفراء: القواعد: الجدر جمع جدار، ككتاب، وكتب: الحائط. وقال أبو عبيدة: القواعد: الأساس، وأساس البناء أصله الثابت في الأرض. وقال بعضهم: القواعد: جمع قاعدةٍ، والقاعدة: هي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس، أو من السَّافات (طاقات البناء)، ورفعُها إعلاءُ البناء عليها، قال الشاعر:
في ذِرْوَةٍ مِنْ بِقَاعِ أوَّلِهِم | زَانَتْ عَوالِيهَا قَواعِدُهَا |
﴿وَأَرِنَا﴾ أصلُه: أَرْءِيْنَا، أمرٌ من أرى الرباعيِّ، فالهمزة الثانية عين الكلمة، والياء لامها، فحذفت الياء؛ لأجل بناء الفعل، فصار أرئنا بوزن أَفْعِنا، ثُمَّ نقلت
طاتا افْتِعَالٍ رُدَّ إثر مُطْبَقِ | في ادَّان وازْدَدْ وادَّكِر دالًا بَقي |
﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾ أصله: تموتونن بثلاث نونات، الأولى علامة الرفع، والثانية
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير بصيغة الاستقبال في قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾؛ لحكاية الحال الماضية، ومعنى حكاية الحال الماضية: أن يفرض ويقدَّر الواقع الماضي واقعًا وقت التكلم، ويخبر عنه بالمضارع الدال على الحال، وفي ذلك غرضٌ معروفٌ عند أهل المعاني، وهو استحضار الصورة الماضية، كأنّها مشاهدة بالعيان، فكأنَّ السامعُ ينظرُ إلى البُنْيانِ وهو يرتفعُ، والبَنَّاءِ وهو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾؛ لأنه على تقدير القول؛ أي: يقولان: ربَّنا تقبَّل منَّا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يراد به التقريع، والنفي في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ لأنَّ الجملة واردةٌ مورد التوبيخ والتقريع للكافرين، كما
ومنها: التأكيد بإنَّ واللام معًا في قوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مع أنَّه أكَّد باللام فقط فيما قبله؛ أعني: قوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾؛ إشعارًا بأنَّ الجملة الثانية محتاجةٌ لمزيد التأكيد دون الأولى، وذلك أنَّ كونه في الآخرة من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ، فاحتاج الإخبار عنه إلى زيادة تأكيد، وأمَّا اصطفاء الله تعالى له في الدنيا، فأمر مشاهدٌ نقله جيلٌ عن جيل.
ومنها: الالتفات من التكلم في قوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾؛ لأنَّ الأسماء الظاهرة من قبيل الغيبة، إذ مقتضى السياق أن يقال: إذ قلنا له أسلم، وكذا قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إذ مقتضاه أن يقال: أسلمت لك؛ لأنَّ الالتفات من المحسِّنات البديعة، ولهم فيه غرضٌ، والغرض من الالتفات في الأوَّل؛ إظهار مزيد اللُّطف به، والاعتناء بتربيتِهِ بذكر عنوان الربوبية، وفي الثاني: الإيذان بكمال قوّة إسلامه، والإشارة إلى أنَّ من كان ربًّا للعالمين لا يليق به إلّا أن يُتلقَّى أمره بالقبول، والإذعان، والخضوع...
ومنها: التعبير بما الموضوعة لغير العاقل دون مَن الموضوعة للعاقل في قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾؛ لأنَّ المعبودات في ذلك الوقت كانت من غير العقلاء، كالأوثان، والأصنام، والشمس، والقمر، فاستفهم بما التي لغير العاقل، فَعرَف بَنوُهُ ما أَرَادَ، فأجابوه بالحق، إذ الجواب على وَفْقِ السؤال، ففيه مطابقة الكلام لمقتضَى الحال.
ومنها: فنُون البلاغة التي تضمَّنها قولُه: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ إلى آخره.
ومنها: الاطراد وهو: أن يذكر المتكلم أسماء آباء المخاطب مرتَّبةً على طبق ترتيبها في الميلاد، فقد تجاوز جدَّهم الأدنى إلى جدِّهم الأعلى؛ لكونه المبتدأ بالملة المتبعة.
ومنها: حسن البيان؛ لأنَّ فيها بيانًا عن الدين بأحسن بيانٍ، لا يتوقَّف أحدٌ في فهمه.
ومنها: الاحتراس؛ لأنّه لو وقف عند آبائك ولم يذكر ما بعده لاختلَّت صحة المعنى؛ لأنَّ مطلق الآباء يتأول من الأب الأدنى إلى آدم، وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملّته، فاحترس بذكر البدل عمَّا يرد على المبدل منه، لو كان وقع الاختصار عليه، فتأمَّل واعجب، وفيه أيضًا التغليب؛ لأنّ قوله: ﴿آبَائِكَ﴾ شمل العمَّ الذي هو إسماعيل، والجدَّ الذي هو إبراهيم والأب الذي هو إسحاق، فغلَّب الأب على غيره، فعبَّر عن الكل بالآباء من المجازات المعهودة، في فصيح الكلام.
ومنها: النهي عن الموت في قوله: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مع أنَّ الموت ليس من الأمور التي تدخل تحت إرادة الإنسان؛ إشعارًا بأنَّ الموت على خلاف الإِسلام هو موتٌ لا خير فيه، وأنّه ليس بموت السعداء.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (١) ذكر أنَّ ملة إبراهيم هي الملة الحنيفية السمحة، وأنَّ من لم يؤمن بها، أو رغب عنها، فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة والسفاهة.. ذكر تعالى ما عليه أهل الكتاب من الدعاوى الباطلة، من زعمهم أنَّ الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية، وبيَّن أنَّ تلك الدعاوي لم تكن عن دليلٍ، أو شبهةٍ، بل هي مجرَّد جحود وعناد، ثُمَّ عقَّب ذلك بأنَّ الدين الحق هو التمسك بالإِسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين.
قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ الآية، قال أبو حيان: وارتبطت (٢) هذه الآية بما قبلها؛ لأنّه لمَّا ذكر في قوله: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ جوابًا إلزاميًّا، وهم ما
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لمَّا بيَّن (١) سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنَّ الملَّة الصحيحة هي ملة إبراهيم، وليست هي باليهودية والنصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهي بعيدةٌ عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاعُ الرؤساء، فطمست ما جرى عليه الأنبياء، حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله سبحانه محمدًا - ﷺ -، ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه.. شرع هنا يُبطل الشبهاتِ التي تعترض سبيل الحق، فلقَّن نبيَّه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال: (قال ابن صُوريا للنبي - ﷺ -: ما الهدى إلّا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد! تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى...﴾ الآية.
(٢) لباب النقول.
التفسير وأوجه القراءة
١٣٥ - وقوله: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ في المعنى معطوف على قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ﴾. الخ. وهو بيان فن آخر من فنون كفرهم، وإضلالهم لغيرهم إثر بيان ضلالتهم في أنفسهم قبل، نزلت هذه الآية في رؤساء يهود المدينة، وفي نصارى نجران، والضمير في ﴿قالوا﴾ لأهل الكتابين، وأو في قوله: ﴿أَوْ نَصَارَى﴾؛ لتفصيل القول المجمل بقوله: ﴿قالوا﴾؛ أي: قالت اليهود للمؤمنين: ﴿كُونُوا هُودًا﴾؛ أي: اتَّبعوا اليهوديَّة تهتدوا من الضلالة، وتصلوا إلى الخير، وتظفروا بالسعادة، فإنّ نبيَّنا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفروا بعيسى والإنجيل، وبمحمدٍ والقرآن، وقالت النصارى للمؤمنين: كونوا نصارى؛ أي: اتبعوا النصرانية تهتدوا، فإنّ نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفروا بموسى والتوراة، وبمحمدٍ والقرآن؛ أي: قال كُلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا، فلا دين إلّا ذلك، وقوله: ﴿تَهْتَدُوا﴾ جوابٌ للأمر؛ أي: إن تكونوا كذلك تجدوا الهداية من الضلالة، فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد! على سبيل الردِّ، ببيان ما هو الحقُّ لا نتَّبعُ دينكم ﴿بَلْ﴾ نتبع ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ ودينه.
وقرأ الجمهور (١): بنصب (مِلَّةَ) بإضمار فعل، إمّا على المفعول؛ أي: بل نتبع ملة إبراهيم؛ لأنَّ معنى قوله: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ اتَّبعوا اليهوديَّة والنصرانيَّة، وإمَّا على أنَّه خبر كان؛ أي: بل نكون ملة إبراهيم؛ أي: أهل ملة
وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ برفع ملَّة وهو خبر مبتدإٍ محذوف؛ أي: بل الهدى ملة إبراهيم، أو أمْرُنا ملَّتُه، أو نحن ملَّتُه؛ أي؛ أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: بل ملة إبراهيم حنيفًا ملَّتنا؛ أي: بل نتبع ملة إبراهيم حالة كون إبراهيم ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة كُلِّها من اليهودية، والنصرانية، والوثنية، إلى الدين الحق السَّمح الذي هو التوحيد، وهو حالٌ من المضاف إليه، وهو إبراهيم، كما في قولهم: رأيت وجه هندٍ قائمةً؛ لأنَّ رؤية وجه هندٍ يستلزم رؤيتها، فالحال هنا تبين هيئة المفعول، أو من المضاف وهو المِلَّة، وتذكير حنيفًا حينئذٍ بتأويل الملة بالدين؛ لأنّهما متَّحدان ذاتًا، والتغاير بالاعتبار، وإنَّما خصَّ (١) إبراهيم دون غيره من الأنبياء، وإن كان كُلُّهم مائلين إلى الحق مستقيمين في الطريقة حنفاء؛ لأنّ الله تعالى اختصَّ إبراهيم بالإمامة؛ لِمَا سنَّه من مناسك الحج، والختان، وغير ذلك من شرائع الإِسلام ممَّا يقتدى به إلى قيام الساعة ﴿وَمَا كاَنَ﴾ إبراهيم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بالله تعالى؛ أي: وما كان على دينهم، والمراد بالإشراك: مطلق الكفر، وفي هذا تعريضٌ بهم، وإيذانٌ ببطلان دعاويهم اتباع إبراهيم عليه السلام مع إشراكهم، فإشراك اليهود بقولهم: عزير ابن الله، وإشراك النصارى بقولهم: المسيح ابن الله وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان، والشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، وغيرها.
وفي الآية: إرشاد (٢) إلى اتباع دين إبراهيم، وهو الدين الذي عليه نبيُّنا محمدٌ - ﷺ - وأصحابه، وأتباعه، وبعد أن أمر الله سبحانه نبيَّه - ﷺ - أن يدعو الناس إلى اتّباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك، فقال:
١٣٦ - (قُولُوا) أيُّها المؤمنون!
(٢) روح البيان.
أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسِّرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله - ﷺ -: "لا تصدِّقوا أهل الكتاب، ولا تكذِّبوهم، ولكن قولوا: آمنا باللهِ وما أنزل إلينا، فإن كان حقًّا لم تكذبوه، وإن كان كذبًا لم تصدقوه". وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعًا: (آمِنُوا بالتوارة والإنجيل، وليسعكم القرآن) ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ من صحفه العشر، قال تعالى: ﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾ وكرَّر الموصول؛ لأنّ المنزل إلينا وهو القرآن غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم، فلو حذف الموصول لأوهم أنَّ المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم، وعطف قوله: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ على إبراهيم مع أنَّه لم ينزل إليهم شيءٌ؛ لأنّهم كلِّفوا العمل بما أنزل إلى إبراهيم، والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم كما أضيف إلينا في قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ والأسباط: جمع سبطٍ وهو في الأصل شجرةٌ واحدةٌ لها أغصانٌ كثيرةٌ، والمراد هنا: أولاد يعقوب من صلبه اثنا عشر، كما مر، سُمُّوا بذلك؛ لأنّه وُلد لكلٍ منهم جماعةٌ، وسبط الرجل: حافده؛ أي: ولد ولده، وحينئذٍ تسمية أولاد يعقوب بالأسباط بالنظر، لكونهم أولاد أولاد إسحاق وإبراهيم، وقيل: المراد: أولاد أولاد يعقوب وتسميتهم أسباطًا ظاهرةٌ، والأسباط من بني إسرائيل، كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم، وهم جماعةٌ من أبٍ وأمٍ، وكان في الأسباط أنبياء ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾؛ أي: وآمنَّا بالذي أوتي، وأعطي موسى بن عمران، كليم الله من التوراة، والآيات ﴿و﴾ ما أوتى ﴿عيسى﴾ ابن مريم من الإنجيل، والآيات، ونصَّ على موسى وعيسى؛ لأنّهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم، والكلام هنا معهم، ولم يكرِّر الموصول في عيسى؛ لأنه إنّما جاء مصدِّقًا لما في التوراة، ولم ينسخ منها إلّا نزرًا يسيرًا، فالذي أوتي عيسى هو ما أوتي موسى، وإن كان قد
﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ في الإيمان لا في الأفضليَّة ﴿بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾؛ أي: بين أحدٍ من الأنبياء؛ أي: لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضٍ، كما فعلت اليهود والنصارى، فاليهود كفرت بعيسى ومحمد - ﷺ -، وأقرَّت ببعض الأنبياء، بل نؤمن نحن بكلِّ الأنبياء، وأنَّ جميعهم كانوا على حقّ وهدى؛ لأنَّ تصديق الكُل واجبٌ، والدليل الذي أوجب علينا أن نؤمن ببعض الأنبياء، وهو تصديق الله إياه بخلق المعجزات على يديه، يوجب الإيمان بالباقين، فلو آمنَّا ببعضهم، وكفرنا بالبعض لناقضنا أنفسنا، والجملة حال من الضمير في آمنا، ولفظ أحد (٢)؛ لوقوعه في سياق النفي عامٌّ، فساغ أن يضاف إليه (بين) من غير تقدير معطوفٍ، نحو: المال بين الناس، ووجَّهَهُ في "الكشاف" بقوله: وأحدٌ في معنى الجماعة بحسب الوضع، وعلَّله التفتازانيُّ بقوله: لأنّه اسمٌ لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون استعماله مع كُلٍّ، أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد الذي هو أوَّل العدد في مثل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرةً في سياق النفي على
(٢) الفتوحات.
﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: منقادون خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية؛ أي: آمنَّا بالله، والحال أنَّا مخلصون لله تعالى جميع أعمالنا، ومذعنون له، وله متعلِّقٌ بمسلمون، وتأخَّر عنه العامل؛ لرعاية الفواصل، أو قدَّم له؛ للاعتناء بالضمير العائد على الله تعالى.
فائدةٌ: وابتدأ أوّلًا بالإيمان بالله (١)؛ لأنَّ ذلك أصل الشرائع، وقدَّم ما أنزل إلينا، وإن كان متأخِّرًا في الإنزال عن ما بعده؛ لأنّه أولى بالذكر؛ لأنَّ الناس بعد بعثة محمدٍ - ﷺ - مدعوون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملةً وتفصيلًا، وقدَّم ما أنزل إلى إبراهيم على ما أوتى موسى وعيسى؛ للتقدم في الزمان؛ أو لأنَّ المنزل على موسى ومن ذكر معه هو المنزل إلى إبراهيم، إذ هم داخلون تحت شريعته،
وأنزل (٢) يتعدَّى بعلى، وإلى، فلذا أورد بإلى، وفي آل عمران بعلى.
فائدة أخرى: وظاهر قوله (٣): ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ يقتضي التعميم في الكتب، والشرائع، وعن أبي سعيد الخدري قال: قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله من كتاب؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيثٍ خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، ثُمَّ أنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان"، وأمَّا عدد الأنبياء: فروي عن ابن عباس، ووهب بن منبه أنّهم مائة ألف نبيٍّ وأربعة وعشرون ألف نبي، كُلُّهم من بني إسرائيل إلّا عشرين ألف نبيٍّ، وعدد الرسل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، كُلُّهم من ولد يعقوب إلّا عشرين رسولًا، ذُكِر منهم في القرآن خمسةٌ وعشرون، نصَّ على أسمائهم وهم: آدم، وإدريس،
(٢) النفي.
(٣) البحر المحيط.
١٣٧ - ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾؛ أي: اليهود والنصارى ﴿بِمِثْلِ مَا﴾؛ أي: بمثل الدين الذي ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ هذا من (١) باب التعجيز والتبكيت؛ أي: إلزام الخصم، وإلجائه إلى الاعتراف بالحق بإرخاء عنانه، وسدِّ طرق المجادلة عليه، والمثل مقحمٌ هنا، كما تدلُّ عليه القراءتان الآتيتان.
والمعنى: فإن آمنوا بما آمنتم به وهو الله تعالى، فإنَّه ليس لله تعالى مثلٌ، وكذا دين الإِسلام. وقرأ عبد الله بن مسعود، وابن عباس: ﴿بما آمنتم﴾ وقرأ أُبيٌّ ﴿بالذي آمنتم به﴾ وقرأ الجمهور ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ ومثل على هذه القراءة مقحمٌ كما ذكرناه آنفًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾؛ أي: عليه، وتشهد له قراءة من قرأ ﴿بما آمنتم به﴾ ﴿وبالذي آمنتم به﴾؛ لئلّا يلزم علينا ثبوت المثل لله تعالى، وللقرآن.
وهذا مُرتب على قوله (٢): ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ إلخ. أي: وإذا قلتم ما ذكر فحال اليهود، إمَّا مساواتكم فيما ذكر، أو مخالفتكم فيه، والمعنى: أي: فإن آمنت اليهود والنصارى، وغيرهم، بجميع ما آمنتم به من سائر كتب الله تعالى، وجميع رسله ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ من الضلالة إلى الحق، وأصابوه، كما اهتديتم، وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق؛ أي: فقد صاروا مهتدين مسلمين مثلكم، وقيل:
(٢) العمدة.
وهذا (٢) لدفع ما يتوهَّم من احتمال الوفاق بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون، فقوله: ﴿فِي شِقَاقٍ﴾ خبرٌ لقوله: ﴿هم﴾ وجَعْلُ الشقاق ظرفًا لهم، هم مظروفون له مبالغةً في الإخبار باستيلائه عليهم، فإنَّه أبلغُ من قولك هم مشاقُّون، والشِقاقُ: مأخوذٌ من الشِّقِّ وهو الجانب، فكأنَّ كُلَّ واحدٍ من الفريقين في شقٍّ غير شقِّ صاحبه؛ بسبب العداوة، ولمَّا دلَّ تنكير الشقاق على امتناع الوفاق، وأنَّ ذلك ممَّا يؤدِّي إلى الجدال، والقتال لا محالة، عقَّب ذلك بتسلية رسول الله - ﷺ - وتفريح المؤمنين بوعد النصرة والغلبة، وضمان التأييد، والإعزاز بالسين الموضوعة للتأكيد الدالَّة على تحقُّق الوقوع ألبتة، فقال: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: فسيكفيك الله يا محمد! ويقيك شرَّ شقاقهم، ومكر عنادهم، والضميران منصوبا المحلِّ على أنَّهما مفعولان ليكفي، يقال: (٣) كَفَاهُ مؤونتَهُ كفايةً، وإن كثر استعماله معدًّى إلى واحد، نحو: كفاك الشيء، والظاهر: أنَّ المفعول الثاني حقيقةً في الآية هو المضاف المقدَّرُ؛ أي: فسيكفي الله إياك أَمْر اليهود والنصارى، ويدفع شرَّهم عنك، وينصرك عليهم، فإنَّ الكفاية لا تتعلَّق بالأعيان، بل بالأفعال، وقد
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
وقال أبو حيَّان: ومناسبة هاتين الصفتين هنا (١): أنَّ كُلًّا من الإيمان وضدِّه مشتملٌ على أقوالٍ وأفعالٍ، وعلى عقائد تنشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختم ذلك بهما؛ أي: وهو السميع لأقوالكم العليم بنياتكم واعتقادكم، ولمَّا كانت الأقوال هي الظاهرة لنا، الدالَّة على ما في الباطن، قُدِّمت صفة السميع على العلم؛ ولأنَّ العلم فاصلةٌ أيضًا، وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد؛ لأنَّ المعنى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فيجازيكم بما يصدر منكم.
١٣٨ - وقرأ الجمهور ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ بالنصب، فيكون إمّا على الإغراء؛ أي: إلزموا يا أهل الكتاب! صبغة الله، ودينه الذي هو دين الإِسلام، وتمسَّكوا به واتَّبعوه، لا صبغة أحباركم، ورهبانكم، وسمِّي الدين صبغةً؛ لظهور أثره على صاحبه، كظهور أثر الصبغ على الثوب؛ ولأنَّه يلزمه، ولا يفارقه، كالصبغ في الثوب؛ لأنَّ الصبغ
فأخبر الله تعالى: أنَّ دين الإِسلام ليس ما تفعله النصارى. وقيل: إنّه منصوب على كونه بدلًا من ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وقيل: إنّه منصوبٌ انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾. وقيل: عن قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. وقيل عن قوله: ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ والتقدير: قولوا آمنا بالله، وصبغنا الله صبغةً؛ أي: فطرنا، وخلقنا على استعداد قبول الحق، والإيمان فطرته، فهذا المصدر مفعولٌ مطلق مؤكِّد لنفسه؛ لأنَّه مع عامله المقدَّر بعينه، وقع مؤكّدًا لمضمون الجملة المتقدمة، وهو قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾، لا محتمل لها من المصادر إلّا ذلك المصدر؛ لأنَّ إيمانهم بالله يحصل بخلق الله إيّاهم على استعداد اتباع الحق، والتحلِّي بحلية الإيمان. وهذا الوجه؛ أعني: كونه منتصبًا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أحسنها، وأظهرها، لما سيأتي عند قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ من تنافر آخر الآية لأوَّلها إذ نَصَبْنَا على الإغراء، ولأنَّ نصبه على الإبدال من ملة إبراهيم بعيدٌ؛ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه، ويحتمل أن يكون التقدير: طهَّرنا الله تطهيره؛ لأنَّ الإيمان يُطهِّر النفوس من أوضار الكفر، وسمَّاه صبغةً؛ للمشاكلة لما فعلته النصارى، والمشاكلة: هي ذكر الشيء
وقرأ الأعرج (١)، وابن أبي عبلة: بالرفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، تقدير: ذلك الإيمان صبغة الله؛ أي: دين الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾؛ أي: دينًا. وقيل: تطهيرًا؛ لأنّه يطهِّر من أوساخ الكفر؛ أي: لا صبغة أحسن من صبغته تعالى؛ لأنّه تعالى يصبغ عباده بالإيمان، ويطهِّرهم به من أوضار الشرك. وقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأٌ (٢) وخبرٌ، والاستفهام فيه للإنكار بمعنى النفي ﴿مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ نصب على التمييز من أحسن، منقولٌ من المبتدأ، والتقدير: ومَنْ صِبْغَتُهُ أحسنُ من صبغته تعالى، فالتفضيل جارٍ بين الصبغتين لا بين فاعليهما، والمعنى: أيُّ شخصٍ تكون صبغته أحسن من صبغة الله تعالى؟ فإنّه
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): أي ونحن معاشر المسلمين له تعالى عابدون، ولا نعبد سواه، فلا نتَّخذ الأحبار والرهبان أربابًا يزيدون في ديننا، وينقصون، ويحلُّون، ويحرِّمون، ويَمْحُون مِنْ نفُوسِنا صبغةَ التوحيد، ويُثْبِتُون مكانَها صبغة البشر التي تُفْضِي إلى الإشراك بالله، واتخاذِ الأنداد له، وفي الآية إيماءٌ إلى أنَّ الإِسلام لم
(٢) المراغي.
١٣٩ - ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا﴾ والخطابُ في قل لمحمد - ﷺ -، أو لكلِّ من يصلح للخطاب، والهمزة فيه للإنكار، والتوبيخ، والمحاجَّةُ المجادلةُ، ودعوى الحق، وإقامة الحُجَّة على ذلك من كلِّ واحدٍ، وسبب نزول هذه الآية: أنَّ اليهود والنصارى قالوا: إنَّ الأنبياء كانوا منَّا، وعلى ديننا، وديننا أقدمُ، فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد! لليهود والنصارى أتجادلوننا، وتخاصموننا ﴿فِي﴾ شأن دين ﴿الله﴾ واصطفائه النَّبيَّ من العرب دونكم، وتدَّعون أنَّ دينه الحقَّ هو اليهوديَّة والنصرانيَّة، وتبنون دخول الجنَّة، والاهتداء عليهما، وتقولون تارةً: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وتارةً: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾، وتقولون: (لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا) وترونكم أحقَّ بالنبوَّة منَّا ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾؛ أي: والحال أنّه تعالى خالقنا وخالقكم، ومالك أمرنا وأمركم، لا اختصاص له بقومٍ دون قوم، يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده وهو أعلم بتدبير خلقه، وبمن يصلح للرسالة، وبمن لا يصلح لها، فلا وجه للمجادلة، فحينئذٍ لا تعترضوا على خالقكم، فإنَّ العبد ليس له أن يعترض على ربّه، بل يجب عليه تفويض الأمر. بالكلية إليه تعالى ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا﴾ فنجازى عليها خيرًا أو شرًّا، ولا يصيبكم منَّا ضررٌ ولا أجرٌ، ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ السيئة المخالفة لأمر الله، فلا يرجع علينا من أعمالكم ضررٌ، وإنما مرادنا نصحكم وإرشادكم، فكيف تدعون أنّكم أولى بالله؟! قال البيضاويُّ: كأنَّه ألزمهم على كُلِّ مذهب ينتحلونه إقحامًا وتبكيتًا، فإنّ كرامة النبوة: إمَّا تفضُّلٌ من الله تعالى على من يشاء، والكُلُّ فيه سواءٌ، وإما إفاضة حقّ على مستعدِّين لها بالمواظبة على الطاعة، والتحلِّي بالإخلاص، فكما أنَّ لكم أعمالًا ربما يعتبرها الله في إعظامها، فلنا أيضًا أعمالٌ، فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا ﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ تعالى ﴿مُخْلِصُونَ﴾ في تلك الأعمال، لا نبتغي بها إلّا وجهه، فأنّى لكم المحاجَّة، وادعاء حقيّة ما أنتم
وحاصل المعنى (٢): أي ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربُّنا وربُّكم، وربُّ العالمين. فهو الخالق، وجميعنا خلقه، وإنّما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدةٌ إلينا خيرًا أو شرًّا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا، لا نبتغي إلّا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنَّهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقرَّبون إلّا بصالح العمل، وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم، وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة.
وخلاصة مما سبق: أنَّ روح الدين هو التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبر عنه بالإِسلام، فإذا زال هذا المقصد، وحفظت الأعمال الصوريَّة، لم يغن ذلك شيئًا، وأهل كتاب أزهقوا هذا الروح، وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شيء من الدين، ولكنّ محمدًا - ﷺ - جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء، والمرسلين، فهو الذي كمَّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلِّ زمان، ومكان. وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ بنونين: إحداهما: نون الرفع، والأخرى ضمير المتكلمين. وقرأ زيد بن ثابت، والحسن،
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
١٤٠ - ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ قرأ حمزة (١)، وابن عامر، والكسائي، وعاصم في روايةِ حفصٍ: بالتاء الفوقية، وعلى هذه القراءة تكون أم هنا متَّصلة معادلةً للهمزة في قوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ أي: أتحاجوننا في الله أم تقولون: إنّ هؤلاء الأنبياء على دينكم، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجَّة في الله، والادِّعاء على إبراهيم، ومن ذكر معه أنَّهم كانوا يهودًا أو نصارى؛ أي: أيُّ الأمرين وقع منكم؟ وقرأ الباقون بالياء التحتية، فعلى هذه القراءة تكون أم منقطعةً تقدَّر ببل، وهمزة الإنكار؛ أي: بل أيقولون: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ﴾ وهم حفدة يعقوب، وهم أولاد أولاده الاثني عشر. وعن الزجَّاج أنّه قال: الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، فولد كل واحدٍ من ولد إسحاق سبطٌ، ومن ولد إسماعيل قبيلةٌ. اهـ.
﴿كَانُوا﴾ قبل نزول التوراة والإنجيل ﴿هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ فهم مقتدون بهم، والاستفهام إنكاريٌّ بمعنى: النَّفي؛ أي: لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنَّ اليهوديَّة والنصرانيَّة إنّما حدثت، ووقعت بعدهم في زمن موسى وعيسى، وإبراهيم ومن ذكر معه قبلها بزمانٍ، فكيف يقال فيهم إنَّهم كانوا هودًا أو نصارى؟ كما قال سبحانه في آيةٍ أخرى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥)﴾ عبارة "السمين". والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضًا، فيكون قد انتقل عن قوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ وأخذ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى، والمعنى: على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، ومن ذكر معه. انتهت.
والخلاصة: أي: أتقولون إنَّ اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله، وهو ربُّنا وربُّكم؟ أم تقولون: إنّ امتيازكم باليهودية والنصرانية التي أنتم عليها، إنّما كان بأنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فنحن مقتدون بهم. فإن كان هذا ما تدَّعون، فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإنَّ هذين الإسمين إنّما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلّا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلّا بعد عيسى، فكيف تزعمون أنَّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا وقضيَّة العقل شاهدةٌ بكذبكم؟ ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد! ﴿أَأَنْتُمْ﴾ الاستفهام للتقرير والتوبيخ ﴿أَعْلَمُ﴾ بدينهم ﴿أَمِ اللَّهُ﴾ أعلم به؛ أي: أأنتم أعلم بدين إبراهيم ومن ذكر معه من الله، أم الله أعلم منكم، حيث نفى عن إبراهيم ومن ذكر معه ما نسبتم إليهم من اليهودية والنصرانية، بل الله أعلم منكم، وخبره أصدق، وقد أخبر سبحانه في التوراة، والإنجيل، وفي القرآن على لسان محمد - ﷺ -، أنّهم كانوا مسلمين مبرَّئين من اليهودية والنصرانية، حيث قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)﴾ والمذكور معه تبعٌ.
والمعنى: أي أأنتم أعلم بالمرضِيِّ عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبَّله، لا شكّ أنَّ الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم، وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدِّقه قبل أن تجيء اليهودية والنصرانية، فلم لا ترضون لأنفسكم هذه الملة. وقال أبو حيان: والقول في القراءة في ﴿أَأَنْتُمْ﴾ كهو في قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وقد توسَّط السؤال عنه هنا، وهو أحسن من تقدُّمه، نحو: أعلم أنتم أم الله، أو تأخُّره، نحو: أأنتم أم الله أعلم، وهذا تهكُّم
وتعليقُ الأظلمية بمطلق الكِتْمَانِ؛ للإِيمْاء إلى أنَّ مرتبة مَنْ يَدْرِيها، ويَشْهَدُ بخلافها في الظلم، خارجةٌ عن دائرة البيان. وعن ابن عباس: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة) ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ والمراد: مَسْخُ القلب، وطَبْعُه، ونعوذ بالله من ذلك ﴿وَمَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِغَافِلٍ﴾ أي: بساهٍ ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (ما) موصولة عامّة لجميع ما يكتسب بالجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، ويدخل فيه كتمان شهادة الله دخولًا أوّليًّا؛ أي: هو سبحانه وتعالى محيط بجميع ما تأتون، وما تذرون، فيعاقبكم بذلك أشدَّ عقاب، ويجوز كونها مصدرية؛ أي: بغافلٍ عن عملكم من الكتمان، وغيره، بل محصيه عليكم، ثمّ يعاقبكم عليه في الآخرة، وفيه وعيد شديد، وتهديد ليس عليه مزيدٌ، وإعلامٌ بأنَّ الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على الظلم القبيح، والذنب الفظيع. وقرىء ﴿يعملون﴾ بالياء التحتانية؛ يعني: أنَّ الله لا يترك أمركم سُدًى، بل يعذِّبكم أشدَّ العذاب، وهو محيطٌ بما تأتون، وما تذرون.
١٤١ - ﴿تِلْكَ﴾ الجماعة المذكورة من إبراهيم، ومَنْ معه ﴿أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعةٌ ﴿قَدْ خَلَتْ﴾؛ أي: مضت وسلفت بالموت ﴿لَهَا﴾ جزاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من الأعمال خيرًا أو شرًّا ﴿وَلَكُمْ﴾ أيها اليهود والنصارى جزاء ﴿مَا كَسَبْتُمْ﴾ من الأعمال، كذلك ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ أيها اليهود والنصارى يوم القيامة ﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، كما أنَّهم لا يسألون عما تعملون.
والمعنى: أنّ جماعة الأنبياء قد مضت بالموت ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يُسأل أحدٌ عن عمل غيره، بل كُلُّ إنسان يسأل يوم القيامة عن كسبه وعمله، ويجازى به، فلا يضرُّه، ولا ينفعه سواه.
وهذه قاعدةٌ أقرَّتها الأديان جميعًا، وأيَّدها العقل، كما قال تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾ لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان، فأوَّلوهم نصوص الدين اتِّباعًا للهوى، ومن ثمَّ جاء القرآن يقرِّر ارتباط السعادة بالكتب، والعمل، وينفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجَّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم، ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم، ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة. وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا، ورائدنا في أعمالنا، تلك القاعدة: الجزاء على العمل، ولا نغترَّ بشفاعة سلفنا الصالح ونجعلها وسيلةً لنا في النجاة إذا نحن قصَّرنا في عملنا، فكلٌّ من السلف والخلف مجزيٌّ بعمله، ولا ينفع أحدًا عملُ غيره، وفَّقنا الله تعالى لما يحبّه ويرضاه ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾.
وبالجملة، ففي الآية: وعظٌ لليهود، ولكل من يتكل على فضل الآباء، وشرفهم، أن لا يتَّكلوا على فضل الآباء، فكلٌّ يؤخذ بعمله، ولا ينفعه غيره، وإنّما كُرِّرت هذه الآية؛ لأنّه إذا اختلف مواطن الحِجاج، والمجادلة، حسن
الإعراب
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ٣٥)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة ﴿قالوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ...﴾ هو الخ. ﴿كُونُوا هُودًا﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ﴾ مقولٌ محكيٌّ لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿كُونُوا﴾ فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمها ﴿هُودًا﴾ خبرها، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿أَوْ﴾ حرف عطف وتفصيل ﴿نَصَارَى﴾ معطوف على ﴿هُودًا﴾. ﴿تَهْتَدُوا﴾ فعل مضارع وفاعل مجزوم بالطلب السابق، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب ﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب ﴿مِلَّةَ﴾ مفعول به لفعل محذوف، تقديره: بل نتَّبع ملة إبراهيم، أو منصوب على الإغراء بتقدير الزموا، والجملة المحذوفة معطوفة على جملةٍ مقدّرةٍ قبلها، تقديرها: لا نتبع اليهودية، ولا النصرانية، بل نتّبع ملة إبراهيم، والجملة المقدرة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿مِلَّةَ﴾ مضاف ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة ﴿حَنِيفًا﴾ حال من إبراهيم؛ لأنّ الملة كالجزء من إبراهيم، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
ولا تُجِزْ حالًا من الْمُضافِ لَه | إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَه |
أو كانَ جُزْءَ مَا لَهُ أضيفَا | أو مِثْلَ جُزْئهِ فلا تَحِيفَا |
﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)﴾.
﴿قُولُوا﴾ فعل أمر مبنيٌّ على حذف النون، والواو فاعل، والجملة مستأنفة ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لقولوا، وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، والملة في محل النصب مقول ﴿قُولُوا﴾ ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بآمنَّا، ﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجر معطوفة على لفظ الجلالة ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل مستترٌ فيه، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد ضمير النائب ﴿إِلَيْنَا﴾ جار ومجرور متعلق بأنزل ﴿وَمَا﴾ موصول معطوف على لفظ الجلالة، وجملة ﴿أُنْزِلَ﴾ صلتها ﴿إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ متعلِّق بأنزل ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ معطوفات على إبراهيم، مجروراتٌ بالفتحة للعلمية والعجمية، والأسباط معطوف أيضًا على إبراهيم مجرور بالكسرة الظاهرة ﴿وَمَا﴾ معطوف أيضًا على الجلالة ﴿أُوتِيَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة ﴿مُوسَى﴾ نائب فاعل ﴿وَعِيسَى﴾ معطوف على ﴿مُوسَى﴾، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: وما أوتيه موسى ﴿وما﴾ معطوف على لفظ الجلالة أيضًا، ﴿أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ فعل ماض ونائب فاعل، والجملة صلة لما، والعائد محذوف، تقديره: وما أوتيه النبيون ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بأوتي ﴿لَا﴾ نافية ﴿نُفَرِّقُ﴾ فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، تقديره: نحن ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بنفرق ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة لأحد، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿آمَنَّا﴾، أو مستأنفة ﴿وَنَحْنُ﴾ الواو حالية ﴿نحن﴾ مبتدأ ﴿لَهُ﴾ متعلق بمسلمون، قدّم عليه؛ للاهتمام به ﴿مُسْلِمُونَ﴾ خبر
﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء استئنافية، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا امتثلتم ما أمرتكم به، وأردتم بيان حال أهل الكتاب، فأقول لكم: إن آمنوا. الخ. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿بِمِثْلِ﴾ الباء حرف جر ﴿مثل﴾ زائدة ﴿ما﴾ موصول في محل الجر بالباء الجار والمجرور متعلق بآمنوا؛ أي: فإن آمنوا بما آمنتم ﴿آمَنْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿به﴾ متعلق بآمنتم، وجملة ﴿آمَنْتُمْ﴾ صلةٌ لما الموصولة، والعائد ضمير ﴿بِهِ﴾. ﴿فَقَدِ﴾ الفاء رابطةٌ لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بقد، ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿اهْتَدَوْا﴾ فعل ماض وفاعل في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مع جوابها مستأنفة، أو مقولٌ لجواب إذا المقدَّرة وجملة إذ المقدرة مستأنفة ﴿وَإِنْ﴾ الواو عاطفة ﴿إن﴾ حرف شرط جازم ﴿تَوَلَّوْا﴾ فعل ماض وفاعل في محلِّ الجزم بإنْ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَإِنَّمَا﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة إسمية، ﴿إنما﴾ أداة حصر ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿فِي شِقَاقٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوفٍ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب؛ لإشعارها بوقوع الكفاية عقب شقاقهم، والسين حرف تنفيس للاستقبال القريب ﴿يكفي﴾ فعل مضارع، والكاف مفعول أوّل، والهاء مفعول ثانِ ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب، ولذا دخلت الفاء الرابطة عليه؛ لاشتماله على حرف التنفيس ﴿وَهُوَ﴾ الواو استئنافية ﴿هو﴾ مبتدأ ﴿السَّمِيعُ﴾ خبر أول ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثان، والجملة الإسمية مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكّد لفعله المحذوف، منصوب على المفعولية المطلقة، تقديره: صبغنا الله صبغته، والجملة معطوفة في المعنى على جملة ﴿آمَنَّا﴾ داخلةٌ تحت حكم الأمر في قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا﴾؛ أي: قولوا آمنَّا بالله، وصبغنا الله صبغته، وهذا أحسن الأوجه في إعرابه كما مرّ، وقيل: منصوبٌ على الإغراء؛ أي: الزموا صبغة الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ الواو استئنافية ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَحْسَنُ﴾ خبره والجملة مستأنفة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بأحسن ﴿صِبْغَةً﴾ تمييزٌ محوَّل عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والأصل: ومن صبغته أحسن من صبغة الله؛ أي: لا أحسن منها ﴿وَنَحْنُ﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة ﴿نحن﴾ مبتدأ ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿عَابِدُونَ﴾، وهو خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على ﴿آمنّا﴾ فهو داخلٌ معه تحت الأمر؛ أي: وقولوا نحن... الخ. وقوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. انتهى. "أبو السعود".
﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري ﴿تحاجُّوننا﴾ فعل وفاعل ومفعول به مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿فِي اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بتحاجون ﴿وَهُوَ﴾ الواو حالية ﴿هو﴾ مبتدأ ﴿رَبُّنَا﴾ خبر ومضاف إليه ﴿وَرَبُّكُمْ﴾ معطوف على ﴿رَبُّنَا﴾، والجملة في محل النصب حالٌ من الواو في ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾، وكذا قالوا، أو من ضمير المفعول، أو من الجلالة ﴿وَلَنَا﴾ الواو حالية ﴿لنا﴾ خبر مقدّم ﴿أَعْمَالُنَا﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة في محل النصب حال من ضمير المفعول في ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ ﴿وَلَكُمْ﴾ الواو عاطفة ﴿لكم﴾ خبر مقدّم، ﴿أَعْمَالُكُمْ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لنا أعمالنا﴾ ﴿وَنَحْنُ﴾ الواو حالية ﴿نحن﴾ مبتدأ ﴿لَهُ﴾ متعلق بمخلصون ﴿مُخْلِصُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة في محل
﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾.
﴿أَمْ﴾ عاطفة متصلة معادلة لهمزة ﴿أتحاجون﴾ ﴿تَقُولُونَ﴾ بالتاء فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿تحاجون﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الإنكار ﴿يقولون﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. وقال أبو البقاء: قرئ ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بالياء ردًّا على قوله: ﴿فسيكفكهم﴾ وبالتاء ردًّا على قوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾؛ انتهى. ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ ناصب واسمه ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ﴾ معطوفاتٌ على إبراهيم ﴿كَانُوا﴾ فعل ماض ناقص واسمه ﴿هُودًا﴾ خبره ﴿أَوْ نَصَارَى﴾ معطوف على ﴿هُودًا﴾، وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿تَقُولُونَ﴾.
﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة ﴿أَأَنْتُمْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري ﴿أنتم﴾ مبتدأ ﴿أَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿أَمِ﴾ عاطفة متّصلة ﴿اللَّهُ﴾ معطوف على ﴿أنتم﴾، ولكنه فصل بين المتعاطفين بالمسؤول عنه ﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية ﴿من﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة؛ مسوقة للتعريض بكتمانهم شهادة الله، وهذا دَيْدَنُ اليهود دائمًا ﴿مِمَّن﴾ جار ومجرور متعلق بأظلم ﴿كَتَمَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿شَهَادَةً﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لشهادة ﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة ﴿ما﴾ حجازية
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)﴾.
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿خَلَتْ﴾ فعل ماض مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿أُمَّةٌ﴾ والجملة في محل الرفع صفةٌ لأُمَّةٌ ﴿لَهَا﴾ خبر مقدم ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية مستأنفة، أو حال من ﴿أُمَّةٌ﴾ أو صفة ثانية لها، والأول أظهر، وجملة ﴿كَسَبَتْ﴾ صلة لما الموصولة، ﴿وَلَكُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مَا﴾ مبتدأ مؤخّر، وجملة ﴿كَسَبْتُمْ﴾ صلة لما الموصولة، والجملة الإسمية معطوفة على ما قبلها، ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿تُسْأَلُونَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، والواو نائب فاعله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ مسوقة؛ لتأكيد ما قبلها ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُسْأَلُونَ﴾ ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة كان صلة لما الموصولة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿حَنِيفًا﴾ الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، يقال: حَنَف حَنْفًا من باب ضرب إذا مال، وحَنِف من باب تعب حَنَفًا، وحَنُف حنافة من باب ظرف اعوجَّت رجله إلى داخلٍ، فهي حنفاء، فالحنيف في أصل اللغة الذي تميل قدماه كُلُّ واحدة إلى أختها، وقد يستعمل في اليدين ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ أصله: تهتديوا بوزن تفتعلوا من اهتدى الخماسيِّ، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلمَّا سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الدال؛ لمناسبة واو الجماعة، وهذا بعد حذف نون الرفع للجازم، وهو الطلب السابق
﴿فإن تولّوا﴾ أصله: تَوَلَّيُوا أيضًا، فُعِل به ما فعل بـ ﴿اهْتَدَوْا﴾ المذكور قبله، فوزن اهتدوا افتعوا، ووزن تَوَلَّوا تفعَّوا ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ الشقاق: المخالفة والعداوة، وأصله: من الشقِّ وهو الجانب؛ لأنّ كل واحد من المتشاققين يكون في شقٍّ غير شق صاحبه؛ أي: في ناحيةٍ منه، وهو مصدر شاقَّ شقاقًا من باب فاعَلَ، وفيما ذكر إشارة إلى بيان المراد بالشقاق هنا؛ لأنَّ له في اللغة ثلاث معان:
أحدها: الخلاف، ومنه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾.
والثاني: العداوة، ومنه قوله: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾.
والثالث: الضلال، مثل: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ والصبغ بالكسر: ما يلوَّن به الثياب، وبالفتح: المصدر، والصبغة: الحالة التي تبنى لبيان النوع، كصبغت صِبغةَ الأمير نظير جِلسةَ الإقعاء، والصَبغة بالفتح: المرَّة من الصبغ، كصبغت صبغةً. وفي "المصباح": صبغت الثوب صبغًا من بابي نفع وقتل، وفي لغة من باب ضرب. انتهى. والصبغة، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والعرب تسمِّي ديانة الشخص لشيء، واتصافه به صبغةً، قال بعض ملوكهم:
وكُلُّ أُناسٍ لهم صبغةٌ | وصِبغة همدان خير الصِّبَغْ |
صبغنا على ذاك أبناءَنا | فأَكْرِم بصبغتنا في الصِّبَغْ |
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾؛ أي: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى، وليس المعنى: إنّ الفريقين قالوا ذلك؛ لأنّ كل فريق يعدُّ دين الآخر باطلًا.
ومنها: جعل الشقاق ظرفًا لهُمْ في قوله: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾؛ مبالغةً في الإخبار عن استيلائه عليهم، فإنّه أبلغ من قولك: هم مشاقون.
ومنها: تنكير شقاق؛ دلالةً على امتناع وفاق بينهم أصلًا.
ومنها: التذييل بقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ لأنّه تذييلٌ لما سبق من الوعد، وتأكيدٌ له.
ومنها: الإيجاز بالحذف في ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾؛ لأنّ الأصل: فسيكفيك شرَّهم، وفيه تصدير الفعل بالسين دون سوف؛ إشعارًا بأنَّ ظهوره عليهم واقعٌ في زمن قريبٍ.
ومنها: التعجيز والتبكيت في قوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾؛ لأنّ المراد منه إلزام الخصم، وإلجاءَه إلى الاعتراف بالحق بإرخاء عِنانه، وسدّ طرق المجادلة عليه؛ لأنّه ليس لله سبحانه، وكذا لدين الإِسلام مثلٌ، فيؤمنون به.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ حيث شبَّه الدين الإِسلاميَّ بالصبغة، وحذف المشبَّه، وأبقى المشبه به بجامع أنَّ في كل منهما حليةً وزينةً، لِمَا قام به، وفيه أيضًا: فنُّ المشاكلة: وهو ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوع ذلك الشيء في صحبة الغير، إمّا بحسب المقال المحقَّق، أو المقدَّر بأن لا يكون ذلك الغير مذكورًا حقيقةً، ويكون في حكم المذكور؛ لكونه مدلولًا عليه بقرينة الحال، فسمي الدين هنا صبغةً؛ لوقوعه في مقابلة صبغة النصارى
وتقرير المشاكلة مبسوط في "التلخيص" وشرحه للسعد التفتازاني، فراجعهما.
ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ وقوله ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾؛ لرعاية الفواصل، وللاعتناء بالضمير المجرور العائد إلى الله سبحانه وتعالى.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ والتوبيخيُّ في قوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ والتقريري في قوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾.
ومنها: التهديد في قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
ومنها: تكرير الآية ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ بعينها؛ مبالغة في الزجر عمَّا هم عليه من الافتخار بالآباء، والاتكال على أعمالهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع (١).
* * *
١٤١٧ - هـ، في اليوم السابع عشر قبيل الظهر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: ألفٍ وأربعمائة وسبع عشرة سنة من سني الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، ويليه المجلَّد الثالث، وأوَّله قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾. وصلَّى الله وسلَّم على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه السادة الغُرِّ المحجَّلين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين.
تم تصحيح هذا المجلد بيد مؤلفه يوم الجمعة وقت الضحى من شهر ربيع الآخر في تاريخ ١٧/ ٤/ ١٤٢٠ من الهجرة المصطفية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية آمين.
إِذَا رَأيْتَ زَلِيقًا | كُنْ سَاتِرًا وحَلِيما |
يا مَنْ يُعَيِّبُ تَفْسِيري | لِمَ لا تَمُرُّ كَرِيمَا |
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثالث»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَعيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ | وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِيْ الْمَسَاوِيَا |
قَدَّمْتُهُ لِلِإخْوَانِ مُعْتَذِرَا | وَالْعُذْرُ مِنْ شِيَمِ السَّادَاتِ مَقْبُوْلُ |
نُطِيْعَ رَسُوَلَنَا وَنُطِيْعُ رَبًّا | هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَؤُوْفَا |
١٤٤ - ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ قال القرطبي في "تفسيره": قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ و ﴿قد﴾ هنا للتحقيق، أو للتكثير؛ أي: حقًّا نرى تحول وجهك إلى السماء، وتردد نظرك في السماء طالبًا قبلة غير التي أنت مستقبلها، أو كثيرًا نرى تصرف نظرك في جهة السماء انتظارًا وتطلعًا للوحي؛ وذلك أن رسول الله - ﷺ - كان يترجى من ربه أن يحوله إلى الكعبة؛ لأنها قبلة إبراهيم أبيه، وأَدْعَى للعرب إلى الإيمان؛ لأنها مفخرة لهم، ولمخالفة اليهود، فكان ينتظر نزول جبريل بالوحي بالتحويل، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾؛ أي: فلَنحولنك في الصلاة إلى قِبْلةٍ تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها في قلبك ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾؛ أي: فاصرف جملة بدنك ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: تلقاء الكعبة، وفي حرف (٣) عبد الله شذوذًا: ﴿فول وجهك تلقاء المسجد الحرام﴾؛ أي: استقبل عينها بصدرك في الصلاة إن كنت قريبًا، واستقبل جهتها
(٢) الخازن.
(٣) حرف: قراءة.
وقال القرطبي: روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - ﷺ - قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي".
﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾؛ أي: وفي أي موضع كنتم فيه يا أمة محمد، من بر أو بحر، مشرق أو مغرب، ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾؛ أي: فاصرفوا، وحولوا وجوهكم في الصلاة جهة المسجد الحرام الذي هو بمعنى الكعبة. خص (١) الرسول أولًا بالخطاب تعظيمًا له، وإيجابًا لرغبته، ثم عمم تصريحًا بعموم الحكم، وتأكيدًا لأمر القبلة، وتحضيضًا للأمة على المتابعة.
وقال (٢) ابن كثير: أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيث ما توجه قالبه، وقلبُه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا مَنْ جَهِلَ جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئًا في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها. انتهى.
وأخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي - ﷺ - البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، ولما خرج ركع ركعتين قبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة؛ يعني: أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت، فلا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إلى الكعبة أبدًا، فهي قبلتكم".
(٢) ابن كثير.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا﴾ من قبلكم؛ يعني: أحبار اليهود، وعلماء النصارى ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾؛ أي: أن التولي والتحويل إلى الكعبة هو ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: الأمر الثابت ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لمعاينتهم لما هو مسطور في كتبهم من أنه - ﷺ - يصلي إلى القبلتين، ولكن يكتمونه ﴿وَمَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿بِغَافِلٍ﴾؛ أي: بساه ﴿عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء إما خطابًا للمؤمنين؛ أي: وما الله بساه عما تعملون أيها المسلمون من امتثال أمر القبلة. وقال (١) ابن عباس رضي الله عنهما: يريد: أنكم - يا معشر المؤمنين - تطلبون مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم، فأنا أثيبكم على طاعتكم أفضل الثواب، وأجزيكم أحسن الجزاء. وإما خطابًا لأهل الكتاب؛ أي: وما الله بغافل عما تكتمون - يا أهل الكتاب - خبر الرسول، وخبر القبلة. وقرأ الباقون: ﴿يَعْمَلُونَ﴾ بالياء على أنه راجع لأهل الكتاب؛ يعني: وما أنا بساه عما يفعل هؤلاء اليهود والنصارى، فأنا أجازيهم عليه في الدنيا والآخرة، فهو على هذا القول وعلى القول الثاني: وعد للكافرين، وتهديد لهم بالعقاب على الجحود والإباء، وعلى القول الأول: وعد للمؤمنين بالثواب على القبول والأداء.
الإعراب
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾.
سَيَقُولُ: ﴿السين﴾: حرف تنفيس واستقبال، ﴿يقول السفهاء﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿السُّفَهَاءُ﴾. ﴿مَا وَلَّاهُمْ...﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَاَ﴾: استفهامية في محل الرفع
﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّهِ الْمَشْرِقُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الْمَشْرِقُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَالْمَغْرِبُ﴾: معطوف عليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة. (مَن: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾، ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يشاء هدايته. ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: جار ومجرور، صفة متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾.
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿كذلك﴾: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف. ﴿جَعَلْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أُمَّةً﴾. مفعول ثان. ﴿وَسَطًا﴾: صفة لـ ﴿أُمَّةً﴾، والتقدير: وجعلناكم أمة وسطًا جعلًا كائنًا كجَعْلِنا إياكم على صراط مستقيم؛ لأن معنى ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يجعل من يشاء على صراط مستقيم.
﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
﴿لِتَكُونُوا﴾: (اللام): لام كي. ﴿تكونوا﴾: فعل ناقص، واسمه منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿شُهَدَاءَ﴾: خبر ﴿تكونوا﴾. ﴿عَلَى النَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شُهَدَاءَ﴾، وجملة (تكونوا): صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في
﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.
﴿وَمَا جَعَلْنَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾: نافية ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿الْقِبْلَةَ﴾: مفعول ثانٍ مقدم. ﴿الَّتِي﴾: اسم موصول في محل النصب، صفة لمحذوف هو المفعول الأول، والتقدير: وما جعلنا الجهة التي كنت على استقبالها أولًا قبل الهجرة - وهي الكعبة - القبلة لك الآن بعد نسخ بيت المقدس إلا لنعلم.. إلخ. وجملة ﴿جَعَلْنَا﴾ من الفعل والفاعل مستأنفة. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَيْهَا﴾: خبر كان، وجملة (كان): صلة الموصول، والعائد ضمير ﴿عَلَيْهَا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لِنَعْلَمَ﴾: (اللام)، لام كي. نعلم: منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله، وهو بمعنى (عرف) يتعدى لمفعول واحد، والجملة صلة (أن) المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام؛ تقديره: إلا لعلمنا من يتبع، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿لِنَعْلَمَ﴾، ﴿يَتَّبِعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على (مَنْ)، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد ضمير الفاعل. ﴿الرَّسُولَ﴾: مفعول لـ ﴿يتبع﴾. ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نعلم﴾، ﴿يَنْقَلِبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿يَنْقَلِبُ﴾.
﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ تقديره: وإنها، أي: القصة. ﴿كان﴾ فعل ناقص واسمها ضمير يعود على
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كَانَ اللَّهُ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿لِيُضِيعَ﴾: (اللام): حرف جر وجحود. (يضيع): فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿إِيمَانَكُمْ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. والجملة الفعلية صلة (أن) المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، ولام الجحود متعلقة بمحذوف خبر كان؛ تقديره: وما كان الله مريدًا لإضاعة إيمانكم، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة. وهذا الإعراب على مذهب البصريين ويدل لمذهبهم التصريح بالخبر المحذوف في قوله:
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِتَسْمُوْ
وأما على مذهب الكوفيين: فاللام وما بعدها في محل الخبر، ولا يقدِّرون شيئًا، وإنّ (اللام) للتأكيد. وقد أشبعتُ الكلام على لام الجحود بإعرابها على كلا المذهبين في كتابي "الخريدة البهية في إعراب أمثلة الأجرومية" فراجعه إن شئت.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿بِالنَّاسِ﴾: جار ومجرور تنازع فيه ما بعده. ﴿لَرَءُوفٌ﴾ (اللام): لام الابتداء. ﴿رءوف﴾: خبر أول لـ ﴿إنَّ﴾.
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق أو تكثير. ﴿نَرَى﴾: فعل مضارع، وهي بصرية، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿تَقَلُّبَ﴾: مفعول به، وهو مضاف ﴿وَجْهِكَ﴾: (وجه): مضاف إليه وهو مضاف، و ﴿الكاف﴾ مضاف إليه، والجملة مستأنفة وهي في المعنى علة ثانية لقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ﴾ إلخ؛ أي: إنما حولنا القبلة؛ لنعلم... الخ، ولأنا نرى... الخ. ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقَلُّبَ﴾، وقال أبو البقاء: ولو جعل حالًا من الوجه لجاز ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية (اللام): موطئة لقسم محذوف جوازًا؛ تقديره: وعزتي وجلالي لنولينك. (نولين): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله ﴿قَدْ نَرَى﴾ و (الكاف): مفعول أول لـ (نولي) ﴿قِبْلَةً﴾: مفعول ثان. ﴿تَرْضَاهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿قِبْلَةً﴾. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾: (الفاء): عاطفة تفريعية. (ولّ): فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة القسم. ﴿وَجْهَكَ﴾: مفعول أول ومضاف إليه. ﴿شَطْرَ﴾: مفعول ثان وهو مضاف. ﴿الْمَسْجِدِ﴾: مضاف إليه. ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة له.
﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
﴿وَحَيْثُ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿حيث﴾ اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بـ ﴿كُنْتُمْ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿حيثما﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَوَلُّوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب حيثما وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية ﴿ولوا﴾ فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿حيثما﴾ على كونها جواب شرط
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية: (إن) حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها. ﴿أُوتُوا﴾: فعل ماض مغير ونائب فاعل، وهو بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين والأول منهما نائب الفاعل. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان، وجملة ﴿أُوتُوا﴾: صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. ﴿لَيَعْلَمُونَ﴾: (اللام): لام الابتداء. ﴿يعلمون﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿أَنَّهُ﴾: ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. و ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿الْحَقُّ﴾: خبرها، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي علم؛ تقديره: ليعلمون حقِيَّة التولي. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الحق؛ تقديره: حال كونه كائنًا من ربهم ﴿وَمَا اللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: حجازية. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. ﴿بِغَافِلٍ﴾: (الباء) زائدة. ﴿غافل﴾: خبر ﴿ما﴾ منصوب ﴿عَمَّا﴾: ﴿عن﴾ حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية، أو موصولة، أو موصوفة. ﴿يَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ (عن)؛ تقديره: عن عملهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿غافل﴾، أو الجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، أو صفة للموصوفة، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: يعملونه، وجملة ﴿ما﴾ الحجازية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿السُّفَهَاءُ﴾ جمع سفيه، ككرماء جمع كريم، والسفيه: هو الكذاب البهات المعتمد خلاف ما يعلم. كذا قال بعض أهل اللغة، وقال في "الكشاف": هم خفاف الأحلام، ومثله في "القاموس".
﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ يقال: ولاه عن الشيء يوليه إذا صرفه وحوله عنه، من باب فعل
﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾: الوسط: الخيار أو العدل. وقد ثبت عن النبي - ﷺ - في حديث رواه الترمذي كما مر في مبحث المناسبة تفسير الوسط هنا بالعدل، فوجب الرجوع إلى ذلك. ومنه قول الراجز:
لاَ تَذْهَبَنَّ في الأُمُوْرِ مُفْرِطَا | لاَ تَسْألنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا |
والآية تحتمل المعنيين، ومما يحتملها قول الآخر:
هُمْ وَسَطٌ تَرْضَى الأنَامُ بِحُكْمِهِمْ | إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعَظَّمِ |
﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾: جمع شهيد من الشهادة. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبِر عن حقوق الناس بألفاظٍ مخصوصةٍ على جهات.
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾: و ﴿نَرَى﴾: هنا مضارعٌ بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي ﴿قَدْ﴾ في بعض المواضع، ومنه ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾، ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾، ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾. ويقال: تَقَلَّب تقلُّبًا - من باب تفعَّل - إذا تحول عن وجهه، وتقلب على فراشه إذا تحول من جانبٍ إلى جانبٍ آخر، وتقلب في الأمور إذا تصرف فيها، وانتقل من أمرٍ إلى غيره.
﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ﴾: الشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه. ومنه
﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾: وأصلُ ولُّوا: وليوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الياء، وضم ما قبله لتجانس الضمير، فوزنه فعوا.
البلاغة
﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾؛ أي: على استقبالها، أو على اعتقادها، ففيه إيجازٌ بالحذفِ، والاستعلاء في قوله: ﴿عليها﴾ فيه مجاز بالاستعارة حيث شبه مواظبتهم على المحافظة عليها باستعلاء من استعلى على الشيء.
﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾؛ أي: خيارًا عدولًا، فالوسط مستلزِم للخيار والعدول، فأطلق الملزوم وأراد اللازم، فيكونان استعارةً. وأصل الوسط: مكانٌ تستوي إليه المساحة من سائر الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة، ثم أطلق على المتصِف بها.
﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾: والالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿الرَّسُولَ﴾ مع إيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الإتباع. قاله أبو السعود.
﴿يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾: فيه استعارةٌ تمثيليةٌ حيث مثل لمن يرتدّ عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. أفاده الفخر الرازي.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغًا فيها من حيث لام الجحود.. ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغًا فيها، فبولغ فيها بإن
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾: والوجه (١) هنا قيل: أُريد به مدلول ظاهره. قال قتادة والسدي وغيرهما: (كان رسول الله - ﷺ - يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوِّله إلى قبلة مكة)، وقيل: كُنِّي بالوجه عن البصر؛ لأنه أشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب. تقول: بذلت وجهي في كذا، وهو من الكناية بالكل عن الجزء. وفي قوله: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ مجازٌ مرسل من إطلاق اسم الكل على الجزء إن قلنا المراد منه الكعبة كما علله الأكثرون.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ...﴾ الآيات، مناسبتها (١) لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر لنبيه - ﷺ - ما يقوله السفهاء من اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وأمر رسوله - ﷺ - بأن يتوجه في صلاته نحو الكعبة، وأعلمه أنهم يعلمون أنه الحق وهم يكتمونه، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه.. سلَّاه - ﷺ - عن قبولهم الحق بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبةٍ لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق.. ما تبعوك، ولا سلكوا طريقك، وإذا كانوا لا يتبعونك مع مجيئك لهم بجميع المعجزات.. فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزةٍ واحدة، والمعنى بكل آيةٍ يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق.
التفسير وأوجه القراءة
١٤٥ - ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؛ أي: وعزَّتي وجلالتي لَئِن جئتَ يا محمدُ
وفي "بدائع الفوائد" لابن القيم: قبلةُ أهل الكتاب ليست بوحي ولا توقيف من الله تعالى، بل بمشورةٍ واجتهادٍ منهم، أما النصارى: فلا ريب أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيرِه باستقبالِ المشرقِ، وهم يُقرُّون بأنَّ قبلة المسيح عليه السلام قبلةُ بني إسرائيل وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلةَ وهم يعتذرون عنهم بأنَّ المسيحَ عليه السلام فوَّض إليهمُ التحليلَ والتحريم وشرع الأحكامِ، وأنَّ ما حلّلوه وحرّموه فقد حلّله هو وحرّمه في السماء، فهم واليهود متفقون على أنَّ الله تعالى لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدًا، والمسلمونَ شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما قبلة اليهود: فليس في التوراة الأمر باستقبالِ الصخرةِ البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت، ويصلون إليه حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرةِ وصلّوا إليه، فلما رُفع صلوا إلى موضعه، وهو الصخرة. انتهى.
ووقع في بعض كتب القصص (١): أن قبلة عيسى عليه السلام كانت بيتَ المقدس، وبَعْد رَفْعِه ظهر بولس ودسَّ في دينهم دسائسَ، منها أنه قال: لقيتُ عيسى عليه السلام فقال لي: إن الشمس كوكبٌ أحبه يبلِّغ سلامي في كل يومٍ فَمُرْ قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم، ففعلوا ذلك.
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لَئِن اتبعتَ يا محمدُ - فَرَضًا - أهواءهم وشهواتهم؛ أي: الأمورَ التي يهوونها، ويحبونها، ويطلبونها منك، ومنها: رجوعك إلى قبلتهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ والوحي من أمر القبلةِ بأنَّك لا تعود إلى قبلتهم، وأنَّ القبلةَ هي الكعبةُ، وأنَّ دينَ اللهِ هو الإِسلامُ، وقيل (٢) معناه: من بعد ما وصل إليك من العلم بأنَّ اليهود والنصارى مقيمون على باطلٍ وعنادٍ للحقِ ﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿إِذًا﴾ ولفظ ﴿إذا﴾ هنا
(٢) الخازن.
ولزم الوقف على الظالمين؛ إذ لو وصل لصار ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ صفة للظالمين، وليس كذلك.
وقال الشوكاني (٢): وفي قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إلى آخر الآية، من التهديد العظيم، والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود، وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله - ﷺ - الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون - وحاشاه - من الظالمين.. فما ظنك بغيره من أمته؛! وقد صان الله هذه الفرقة الإِسلامية بعث ثبوت قدم الإِسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ولم تبق إلا دسيسة شيطانية، ووسيلة طاغوتية؛ وهو ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة؛ لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والثمرة الثمرة، وقد تكون مَفْسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة أتباع أهويةِ أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإِسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقُلون مَنْ يميل إلى أهويتهم مِن بدعة إلى بدعة، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة حتى يسلخوه من الدين، ويخرجوه وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي
(٢) بيضاوي.
وإن كان من أهل العلم والفهم المميِزين بين الحق والباطل.. كان باتباعه لأهوتيهم ممن أضله الله على علم، وختمَ على قلبه، وصار نقمةً على عباد الله، ومصيبةً صبّها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلّا إلى الحق، ولا يتبع إلّا الصواب فيضلّون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة. نسأل الله اللطف والسلامة والهداية. انتهى.
١٤٦ - ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾؛ أي: أعطيناهم علم التوراة والإنجيل ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾؛ أي: يعرفون محمدًا - ﷺ - معرفةً جليةً واضحةً، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين الذي يجدونه في كتابهم، أو يعرفون القرآن، أو تحويل القبلة. والأول أظهر؛ لقوله: ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾؛ أي: يعرفون أنهم منهم، وأنهم من نسلهم؛ أي: يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم، لا يلتبس عليهم بغيره.
روي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام رضي الله عنه: كيف هذه المعرفة المذكورة في هذه الآية؟ فقال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمدٍ أشد من معرفتي بابني، فقال عمر: فكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله - ﷺ - حقًّا، وقد نعته الله تعالى في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقبّل عمر رأسه وقال: وفقك الله يا أبا سلام، فقد صدقت.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: وإن جماعةً من أهل الكتاب - وهم علمائهم - ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾؛ أي: ليخفون الأمر الحق الذي هو نعتُ محمد - ﷺ -، ولا يعلنونه للناس، أو ما هو أعم منه ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم ﴿يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: يعرفون ذلك الحق بما يجدونه في كتابهم، أو يعلمون أن كتمان الحق معصية.
١٤٧ - ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ قرأ الجمهور: برفع ﴿الْحَقُّ﴾ على أنه مبتدأ، والخبر ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾، و (اللام) (١): إما للعهد؛ أي: الحق الذي أنت عليه يا محمد، أو الحق
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بالنصب على أنه بدل من ﴿الحق﴾ المكتوم وهي قراءة شاذة، والتقدير: يكتمون الحق من ربك، أو منصوب على الإغراء؛ أي: الزم الحق، أو مفعول لـ ﴿يعلمون﴾ ﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾ يا محمدُ ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾؛ أي: من الشَّاكين في أنه الحق من ربك، أو في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أن علماء أهل الكتاب علموا صحة نبوءتك وشريعتك. وعلى الأول فالخطاب مع الرسول، والمراد به الأمة؛ أي: لا يكن أحد من أمته من الممترين في ذلك؛ لأنه - ﷺ - لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه وتعالى.
وقال أبو العالية (١): يقول الله سبحانه لنبيه - ﷺ -: فلا تكونن - يا محمد - في شكٍّ أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك.
١٤٨ - ﴿وَلِكُلٍّ﴾ بحذفِ المضاف إليه؛ لدلالة التنوين عليه؛ أي: ولكل أهل دينٍ سواء كان بحقٍ أو بباطلٍ ﴿وِجْهَةٌ﴾؛ أي: جهة وقبلة يستقبلها؛ أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم. والضمير في قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ راجعٌ إلى لفظ ﴿كل﴾، و (الهاء) في قوله: ﴿مُوَلِّيهَا﴾ عائد على الـ ﴿وجهة﴾ وهو المفعول الأول. والمفعول الثاني محذوفٌ؛ تقديره: موليها وجهه. والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلةً، صاحبُ تلك القبلة موليها وجهه، أو المعنى ولكل قومٍ من المسلمين جهة من الكعبة يصلي إليها، جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية، إذا كان الكلام في المسلمين. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ عائدًا على الله سبحانه، وإن لم يسبق له ذكر لعلمه من السياق؛ إذ من المعلوم أن الله
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلِكُلٍّ﴾ منوَّنًا: ﴿وِجْهَةٌ﴾ مرفوعًا، ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ بكسر اللام اسم فاعل.
وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي ﴿هوَ مُوَلَّاها﴾ بفتح اللام اسم مفعول، وهي قراءة ابن عباس، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر، والمعنى: ﴿هو﴾؛ أي: كل قوم مولَّى لتلك الجهة؛ أي: مأمور باستقبالها، وقرىء شاذًا: ﴿ولكلِّ وجهةٍ﴾ بالإضافة؛ أي: بخفض اللام من ﴿كل﴾ بلا تنوين، ﴿وجهةٍ﴾ بالخفضِ منونًا على الإضافة، قال في "الكشاف": والمعنى عليها: وكل وجهة وقبلة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول، كقولك لزيد ضربت. وقال ابن جرير: هي خطأ لا سيما وهي معزوة إلى ابن عامر أحد القراء السبعة، وقرأ أبي: (ولكل قبلة) وهي قراءة شاذة، وقرأ عبد الله: ﴿ولكل جعلنا قبلة﴾ وهي قراءة شاذة أيضًا.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾؛ أي: فبادروا - يا أمة محمد - إلى الطاعات والأعمال الصالحة، وقبول أوامرها، من التوجه إلى القبلة وغيره مما تنال به سعادة الدارين. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾؛ أي: في أي موضع تكونوا من برٍّ أو بحرٍ أنتم وأعداءكم من موافق ومخالف، مجتمع الأجزاء ومفترقها ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾؛ أي: يبعثكم الله جميعًا، ويحشركم إلى المحشر يوم القيامة للمجازاة، فيجازيكم على أعمالكم خيرًا أو شرًّا، أو (٢) أينما تكونوا من أعماق الأرض، وقلل الجبال يقبض أرواحكم، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة.. يأت بكم الله جميعًا، ويجعل صلواتكم كأنّها إلى جهةٍ واحدة ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه مِنْ جَمْعِكم وغيره ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر يقدر على الإعادة بعد الموت، والإثابة لأهل الطاعة، والعقاب لمستحق العقوبة.
(٢) البحر المحيط.
١٤٩ - ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾؛ أي: وفي أي مكانٍ خرجت إليه يا محمد لسفرٍ، أو غزو. وقرأ عبد الله بن عمير: ﴿وَمِنْ حَيْثُ﴾ بفتح المثلثة تخفيفًا، ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾؛ أي: فاصرف، وحول، ووجه ذاتك في صلاتك ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: تلقاء المسجد الحرام وجهة الكعبة. ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن التولي إلى المسجد الحرام في الصلاة ﴿لَلْحَقُّ﴾؛ أي: للأمر الموافق للحكمة الثابت الذي لا يعرض له نسخ، ولا تبديل حال كونه واقعًا ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ أبو عمرو: ﴿يعملون﴾ بالياء على الغيبة، وهو راجع للكفار؛ أي: من إنكار أمر القبلة، والباقون: ﴿تعملون﴾ بالتاء على الخطاب؛ أي: ليس هو بساهٍ عن أعمالكم، ولكنه محصيها لكم وعليكم، فيجازيكم بها يوم القيامة.
١٥٠ - ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ في الصلاة ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: تلقاءه ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾؛ أي: وفي أي مكان كنتم فيه - يا أمة محمد - من أقطار الأرض مقيمين، أو مسافرين في برٍّ أو بحرٍ ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾؛ أي: فوجِّهوا وجوهكم في الصلاة من محالكم ﴿شَطْرَهُ﴾؛ أي: شطر المسجد الحرام وتلقاءه.
وكرّر (٢) الله سبحانه وتعالى أمرَ التولي لشطرِ المسجد الحرام ثلاثَ مرات؛ لتأكيد أمر القبلة، فالثالثة مؤكدةٌ للثانية لا للأولى؛ لأنّا بينّا أن الأولى: في الإقامة، والثانية: في السفر، وأما الثالثة: ففي السفر أيضًا، فهي مؤكدةٌ للثانية، وحكمة هذا التأكيد: تثبيت هذا الحكم، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس؛ لأن النسخ من مظانِّ الفتنة والشبهة، مع أنه تعالى علق بكل آية فائدةً. أما في الآية الأولى فبيّن أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد، وأمر هذه القبله حق؛
(٢) البحر المحيط.
وَمَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ | دَارُ الْخَلِيْفَةِ إلا دَارُ مَرْوَانَا |
قلنا: تمام النعمة في كل وقتٍ بما يليق به، فلا معارضة بين الآيتين.
الإعراب
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، أو داخلة على مقسم به محذوف، تقديره: وعزتي وجلالي ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿أَتَيْتَ﴾: فعل، وفاعل في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به؛ لأن (أتى) هنا بمعنى جاء. ﴿أُوتُوا﴾: فعل ماض مُغيَّر ونائب فاعل وهو المفعول الأول. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان؛ لأن (أتى) هنا بمعنى أعطى، والجملة من الفعل المغيَّر ونائب فاعل صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَتَيْتَ﴾. ﴿مَا تَبِعُوا﴾: ﴿ما﴾: نافية. ﴿تَبِعُوا﴾ فعل وفاعل، ﴿قِبْلَتَكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه ساد مسد جواب الشرط، وجملة الشرط مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب، وإنما جعلنا المذكور جوابًا للقسم لا للشرط جريًا على القاعدة النحوية: أنه إذا اجتمع شرط وقسم فإنه يحذف جواب المتأخر
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ | جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ |
﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية. ﴿أَنْتَ﴾: في محل الرفع اسمها، أو مبتدأ. ﴿بِتَابِعٍ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿تابع﴾: خبر ﴿ما﴾ منصوب، أو خبر المبتدأ مرفوع. ﴿قِبْلَتَهُمْ﴾: مفعول لـ ﴿تابع﴾ ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على جملة الشرط وجوابه، لا على الجواب وحده، إذ لا تحل محله؛ لأن نفي تبعيتهم مقيد بشرطٍ لا يصح أن يكون قيدًا في نفي تبعيته قبلتهم.
﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية. ﴿بَعْضُهُمْ﴾: اسم ﴿ما﴾ ومضاف إليه، أو مبتدأ ﴿بِتَابِعٍ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة ﴿تابع﴾: خبر ما، أو خبر المبتدأ. ﴿قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾: مفعول ﴿تابع﴾، ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على جملة الشرط وجوابه في قوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ﴾... إلخ.
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَلَئِنِ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية فيه، أو داخلة على مقسم به محذوف، وتقديره: وعزتي وجلالي. ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿اتَّبَعْتَ﴾. فعل وفاعل في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها. ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)﴾
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آتَيْنَاهُمُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثانٍ، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائبين. ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿كَمَا﴾ (الكاف): حرف جر وتشبيه، ﴿ما﴾ مصدرية. ﴿يَعْرِفُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿أَبْنَاءَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة (ما) المصدرية. (ما) مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بالكاف، تقديره: كمعرفتهم أبناءهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: يعرفونه معرفةً كائنةً كمعرفتهم أبناءهم، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ﴿الَّذِينَ﴾ بدلًا من ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ في الآية قبلها، ويجوز أن يكون بدلًا من ﴿الظَّالِمِينَ﴾، فيكون ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ حالًا من الكتاب، ويجوز أن يكون نصبًا على تقدير: أعني، ورفعًا على تقديرهم: انتهى. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾: الواو استثنائية، ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿فَرِيقًا﴾: اسمها. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فَرِيقًا﴾، ﴿لَيَكْتُمُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿يكتمون﴾: فعل وفاعل. ﴿الْحَقَّ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية خبر (إن)، تقديره: وإن فريقًا منهم لكاتمون الحق، وجملة (إن) مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)﴾.
﴿الْحَقُّ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، وقيل: خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ تقديره: هو؛ أي: ما كتموه، وقيل: الحق. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور حال من الحق، وقيل: غير ذلك ﴿فَلَا﴾ (الفاء): عاطفة تفريعية ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ (لا) مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: جار ومجرور خبر (تكون)، وجملة (تكون) معطوفة على جملة المبتدأ.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾.
﴿وَلِكُلٍّ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (لكل): جار ومجرور خبر مقدم. ﴿وِجْهَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، وسَوَّغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ﴾: ضمير يعود على (كل) في محل الرفع مبتدأ. ﴿مُوَلِّيهَا﴾: خبر ومضاف إلى المفعول الأول، والضمير عائد على وجهة، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: وَجْهَهُ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع صفةٌ لوجهة ﴿فَاسْتَبِقُوا﴾ (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم فأقول ﴿استبقوا﴾ فعل وفاعل، ﴿الْخَيْرَاتِ﴾: منصوب بنزع الخافض تقديره: إلى الخيرات والجملة الفعلية في محل النصب مفعول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿أَيْنَ﴾: اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية مبنية على الفتح، والظرف متعلق بـ ﴿تَكُونُوا﴾. ﴿مَا﴾: زائدة. ﴿تَكُونُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿أَيْنَ﴾ على كونه فعل شرط لها، وهو من كان التامة، ﴿يَأْتِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿أَيْنَ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿بِكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به.
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
﴿وَمِنْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿من حيث﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ولِّ﴾ الآتي. ﴿خَرَجْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿فَوَلِّ﴾: ﴿الفاء﴾: زائدة، ﴿ولِّ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿وَجْهَكَ﴾: مفعول أول ومضاف إليه. ﴿شَطْرَ﴾: مفعول ثانٍ وهو مضاف. ﴿الْمَسْجِدِ﴾: مضاف إليه. ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
﴿وَإِنَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها ﴿لَلْحَقُّ﴾: اللام حرف ابتداء، الحق: خبرها، والجملة مستأنفة. ﴿مِن رَبِّكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الحق. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿ما﴾ نافية ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. أو: ﴿ما﴾: حجازية، ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. ﴿بِغَافِلٍ﴾: ﴿الباء﴾ زائدة، ﴿غافل﴾: خبر المبتدأ، أو خبر ﴿ما﴾، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: تعملونه، أو صلة ﴿ما﴾ المصدرية؛ تقديره: عن عملكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿غافل﴾.
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: تقدم إعرابه آنفًا، فلا عود ولا إعادة، فراجعه إن شئت.
﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
﴿وَحَيْثُ مَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿حيث ما﴾: اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل وفاعل؛ لأنه من كان التامة في محل الجزم بـ ﴿حيث ما﴾ على كونها فعل شرط
﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.
﴿لِئَلَّا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿أن﴾ حرف مصدري ونصب ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَكُونَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن المذكورة في ﴿لِئَلَّا﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿لِيَكُونَ﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿حُجَّةٌ﴾؛ لأنه نعت نكرة قُدِّم عليها. ﴿حُجَّةٌ﴾: اسم ﴿يَكُونَ﴾: مؤخر، وجملة ﴿يَكُونَ﴾ من اسمها وخبرها صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بلام التعليل؛ تقديره: لعدم كون حجة ثابتة للناس عليكم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ تقديره: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم وكيفية الاحتجاج في القبلة بما بيَّنا في قولنا: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ لإعدام كون حجة للناس عليكم ونفيها.
﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من الناس متصل؛ لأن ما قبل إلا ظالمون أيضًا، والمعنى: لئلا تكون حجةً لأحد من الناس - أي: اليهود والمشركين - عليكم إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلًا إلى دين قومه وحبًّا لبلده، ولو كان على الحق.. للزم قبلة الأنبياء قَبْله عليهم السلام. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿ظَلَمُوا﴾.
﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾.
﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرطٍ مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنما فعلنا بكم ذلك لقطع حجة الناس عنكم، وأردتم بيان ما يلزمكم.. فأقول لكم ﴿لا تخشوهم﴾ ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَخْشَوْهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول
﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
وَلأُتِمَّ: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿أتم﴾: منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿نِعْمَتِي﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أتم﴾، أو حال من (نعمتي)، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام؛ تقديره: ولإتمام نعمتي عليكم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، والتقدير: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم لقطع حجة الناس عنكم، ولإتمام نعمتي عليكم بتحويلكم إلى أشرف القبل، قبلة أبيكم إبراهيم عليه السلام. ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لعل﴾: حرف نصب وتعليل بمعنى كي، ﴿الكاف﴾): اسمها، وجملة ﴿تَهْتَدُونَ﴾ في محل الرفع خبرها، وجملة (لعل) في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة؛ تقديره: ولإرادتي هدايتكم إلى الحق، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، وتقدير الكلام: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم لقطع حجة الناس عنكم، ولإتمام نعمتي عليكم، ولإرادتي هدايتكم إلى الحق، والله أعلم بمعنى كلامه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ الآية: الحجة والعلامة. قيل: أصلها أيَيَة كتمرة، قلبت عينها ألفًا على غير قياس، وقيل: أصلها آئية كقائلة، حذفت همزتها تخفيفًا، وقيل: غير ذلك.
﴿مَا تَبِعُوا﴾؛ أي: لا يتبعوا، فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت ﴿مَا﴾ حملًا على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب مع كونه منفيًّا بها؛ لأن فعل
﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾: جمع هوى مقصورًا، والهوى: كل ما تحبه النفس وتميل إليه طبعًا. ﴿إِذًا﴾: حرف، والنون فيه أصل، ولا تستعمل إلا في الجواب، ولا تعمل هنا شيئًا؛ لأن عملها في الفعل، ولا فعل هنا، فهي هنا مؤكدةٌ لجواب ارتبط بمتقدم، ولا عمل لها إذا كانت مؤكدة.
﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: اسم فاعل من الامتراء؛ وهو الشك، يقال: امترى في الشيء - من باب افتعل - إذا شك فيه، ومثله: المراء والمرية.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾: وعبارة "السمين" هنا: وفي ﴿وِجْهَةٌ﴾ قولان:
أحدهما: اسم للمكان المتوجه إليه كالكعبة، وعلى هذا يكون إثبات ﴿الواو﴾ قياسًا؛ إذ هي غير مصدر.
والثاني: أنها مصدر بوزن فِعْلةٌ، وعلى هذا يكون ثبوت ﴿الواو﴾ شاذًا منبِّهًا على الأصل المتروك في عدة ونحوها. انتهت.
وقال أبو البقاء: ﴿وِجْهَةٌ﴾ مصدر جاء على الأصل، والقياس: جهة مثل (عِدَة) و (زِنَه)، و ﴿الوجهة﴾: مصدر في معنى المتوجه إليه، كالخلق بمعنى المخلوق، وهي مصدر محذوف الزوائد؛ لأن الفعل تَوجّه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه؛ لأنه لم يستعمل منه وَجْهٌ كَوْعدٌ.
﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ بكسر اللام على قراءة الجمهور اسم فاعل من ولّى يولّي توليةً من باب فَعّل المضاعف المعتل، وأما بفتح اللام: فاسم مفعول منه.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾: والخيرات جمع خيرة، وفيها احتمالان:
أحدهما: أن تكون مخففة من خيرة بالتشديد بوزن فيعلة، نحو ميِّت في ميْت.
والثاني: أن تكون غير مخففة من خَيِّرة، بل ثبتت على فَعْلَة بوزن جَفْنَة. يقال: رجل خَيْر وامرأة خَيْرَة، وعلى كلا التقديرين فليستا للتفضيل، والسبق: الوصول إلى
البلاغة
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: فيه وضع اسم الموصول موضع الضمير؛ للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد؛ يعني: أنهم قد انتهوا في العناد، وإظهار المعاداة إلى رتبةٍ لو جئتهم فيها بجميع المعجزات.. ما تبعوك، ولا سلكوا طريقك.
﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾: وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ من وجوه: كونها اسميةً، وتكرر الاسم فيها، وكون نفيها مؤكدًا بالباء.
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾: هذا من باب التهييج والإلهاب للثبات على الحق.
﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾: فيه تشبيه مرسل مفصل؛ أي: يعرفون محمدًا - ﷺ - معرفةً واضحةً كمعرفة أبنائهم الذين من أصلابهم، وخصَّ الأبناء دون البنات أو الأولاد؛ لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. والالتفات عن الخطاب إلى الغيبة؛ للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له - ﷺ - من حيث ذاته ونسبه الزاهر، بل من حيث كونه مسطورًا في الكتاب منعوتًا بالنعوت التي من جملتها أنه - ﷺ - يصلي إلى القبلتين، كأنه قيل: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وبهذا تظهر جزالة النظم الكريم وبلاغة القرآن العظيم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ...﴾ الآيات، لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة النعم التي أنعمها على بني إسرائيل التي قابلوها بالجحود والكفران فيما يزيد على ثلث السورة، وعدد جرائمهم؛ ليعتبر ويتعظ بها المؤمنون، وأنهى الكلام عليهم.. بدأ هنا بمخاطبة المؤمنين وتذكيرهم بنعمةِ الله العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين محمد - ﷺ -، وبالتشريعات الحكيمة التي بها سعادتهم في الدارين قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرًا، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. انتهى.
أسباب النزول
قوله تعالى (١): ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ الآية، أخرج ابن منده في "المعرفة" من طريق السُدِّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قتل تميم بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ...﴾ الآية. قال أبو نعيم: اتفقوا على
التفسير وأوجه القراءة
١٥١ - والكاف في قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ التشبيه المستفاد منها؛ إما عائد (١) إلى ما قبلها، والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال رسول من جنسكم ونسبكم فيكم يا معشر العرب، قاله الفراء، ورجّحه ابن عطيه، أو عائد إلى ما بعدها، والتقدير: فاذكروني بالطاعة كما ذكرتكم بإرسال رسولٍ منكم فيكم أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله الزجاج. والخطاب (٢) في الآية لأهلِ مكة ولجميع العرب، وفي إرساله رسولًا منهم نعمة عظيمة عليهم؛ لما فيه من الشرف لهم، ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير، فكان بعثه الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبولِ قوله والانقياد له.
والمعنى: كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رسولًا فيكم محمدًا - ﷺ -. ﴿يَتْلُو﴾: أي يقرأ ﴿عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي؛ لتتعبدوا بتلاوتها، وهي من أعظم النعم؛ لأنها معجزة باقية مستمرة على ممر الدهور، وفي هذا احتجاج عليهم؛ لأنهم عرفوا أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، فلما قرأ عليهم القرآن تبين صدقه في النبوة ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾؛ أي: يطهركم من دنس الشرك والمعاصي بالتوحيد والطاعات والصدقات، وقيل: معناه يحملكم على ما إذا فعلتموه صرتم أزكياء مثل محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال، وقدّمه (٣) هنا باعتبار القصد، وأخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾؛ أي: يفهمكم معاني القرآن وأحكامه لتعملوا بها، فالتعليم غير التلاوة، فليس بتكرار. ﴿وَ﴾ يعلمكم ﴿الحكمة﴾؛ أي: السنة والفقه في الدين. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: يعلمكم أمورًا لم تكونوا عالمين بها قبل بعثه - ﷺ - من
(٢) بيضاوي وشوكاني.
(٣) خازن.
١٥٢ - ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ باللسان والقلب والجوارح، فالصلاة مشملة على الثلاثة:
فالأول: كالتسبيح والتكبير.
والثاني: كالخشوع وتدبر القراءة.
والثالث: كالركوع والسجود.
﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بالإحسان والرحمة والنعمة في الدنيا والآخرة ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ بالطاعة ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾؛ أي: لا تتركوا شكرها بكفرانها وجحدها، وعصيان الأمر، فمن أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول الله عز وجل: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه". متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت" متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" أخرجه مسلم، المفردون (١): الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا، وهم يذكرون الله تعالى، ويقال: تفرد الرجل إذا تفقه واعتزل.
١٥٣ - ثم نادى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بلفظ الإيمان؛ ليستنهض هممهم إلى امتثال الأوامر الإلهية، وهو النداء الثاني الذي جاء في هذه السورة الكريمة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿اسْتَعِينُوا﴾؛ أي: اطلبوا المعونة من الله على أمور دنياكم وآخرتكم ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على مشقة أداء فرائض الله، وترك المعاصي، وحظوظ النفس وعلى المرازي والمصائب وإذاية الكفار ﴿و﴾ بـ ﴿الصلاة﴾؛ أي: وبإكثار صلاة التطوع في الليل والنهار، إنما (٢)
(٢) الخازن.
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ على مشاق التكاليف، والمصائب بالعون والنصر والتأييد؛ أي: معين وحافظ وناصر للصابرين على ذلك. وفي ذلك ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال.
ولمَّا قال المنافقون وبعض الناس لشهداء أحد وبدر: مات فلان وفلان، وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذاتها.. أنزل الله هذه الآية فقال:
١٥٤ - ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ أيها الناس ﴿لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعة الله في قتال المشركين وجهادهم لإعلاء كلمة الله؛ أي: لا تقولوا للشهداء: إنهم ﴿أَمْوَاتٌ﴾ كسائر الأموات ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْيَاءٌ﴾ أهل الجنة في الجنة يرزقون من التحف؛ أي: بل هم أحياء تصل أرواحهم إلى الجنان، كما ورد: (أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة). أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، فهم أحياء من هذه الجهة وإن كانوا أمواتًا من جهة خروج الروح من أجسادهم ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾؛ أي: لا تعلمون بحياتهم وحالهم، وما هم فيه من النعيم والكرامة.
وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوًا وعشيًّا، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد: يرزقون ثمر الجنة، ويجدون ريحها، وليسوا فيها.
إنما (١) قلله بالإضافة والنسبة إلى ما وقاهم منه؛ ليخفف عليهم ويريهم أن رحمته لا تفارقهم، أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة، وإنما أخبرهم به قبل وقوعه؛ ليوطنوا عليه أنفسهم ﴿و﴾ شيء من ﴿الجوع﴾ بسبب القحط وتعذر حصول القوت ﴿و﴾ شيء من ﴿نقص من الأموال﴾ والمواشي بسبب النقصان والخسران الحاصل في النقود والهلاك في المواشي ﴿و﴾ بشيء من نقص ﴿الأنفس﴾ بالقتل والموت، أو بالمرض والشيب ﴿و﴾ شيء من نقص ﴿الثمرات﴾ والحبوب بالجوائح والآفات.
وقال (٢) الشافعي رحمه الله تعالى: الخوف خوف الله، والجوع صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال الزكاة والصدقات، والنقص من الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمد ﴿الصَّابِرِينَ﴾ على تجرع غصص هذه المصائب والبلايا بجنات النعيم، والأجر الجسيم.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم قال: أقبضتم ثمرةَ فؤاده؟ قالوا: نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتًا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.
١٥٦ - ثم وصف تعالى الصابرين الذين يستحقون تلك البشارة وبيّنهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا
(٢) بيضاوي.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها.. إلا آجره الله في مصيبته واخلف له خيرًا منها" أخرجه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن مصباح النبي - ﷺ - طفىء فاسترجع، فقلت: إنما هو مصباح. فقال: "كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة" رواه أبو داود في مراسله.
قيل: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيه أحد لأعطي يعقوب عليه السلام، ألا تسمع إلى قوله عند فقد يوسف: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ قيل: وفي قول العبد ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
١٥٧ - تفويض منه إلى الله وأنه راض بكل ما نزل به من المصائب ﴿أُولَئِكَ﴾ الصابرون المسترجعون عند المصيبة ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ﴾ ومغفرة ﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾؛ أي: نعمة وإنما جمع الصلوات للتنبيه على كثرتها وتنوعها؛ لأنه أراد مغفرة بعد مغفرة، والرحمة من الله إنعامه وإحسانه وإفضاله، وذكر الرحمة بعد الصلاة للتأكيد. وقيل: ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ﴾؛ أي: مغفرة من ربهم في الدنيا، ﴿وَرَحْمَةٌ﴾؛ أي: مغفرة من ربهم في الدنيا، ورحمة؛ أي: سلامة من العذاب في الآخرة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إلى الحق والصواب؛ حيث استرجعوا لمصيبتهم واستسلموا لقضاء الله تعالى، وقيل: المهتدون إلى الجنة الفائزون بالثواب.
فصل
في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء، وأجر الصابرين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من يرد الله به خيرًا.. يصب منه" يعني: يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك. أخرجه البخاري.
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي - ﷺ - قال: "ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا حزَنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها.. إلا كفر الله عنه بها خطاياه" متفق عليه.
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما من مسلم يصيبه أذى، من مرض فما سواه.. إلا حط الله به عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال قال رسول الله - ﷺ -: "مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد" متفق عليه. الأرزة: شجرٍ معروف بالشام، ويعرف في العراق ومصر بالصنوبر، والصنوبر ثمر الأرزة، وقيل: الأرزة الثابتة في الأرض.
وعن أنسٍ رضي الله عنه، أن رسول الله - ﷺ - قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا.. عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد شرًّا.. أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة" أخرجه الترمذي.
وعن أنس أيضًا رضي الله عنه، عن النبي - ﷺ - قال: "إن عظم الجزاء مع عظم النبلاء، وإن الله إذا أحب قومًا.. ابتلاهم، فمن رضي.. فله الرضا، ومن سخط.. فله السخط" أخرجه الترمذي.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم أحتسبه إلا الجنة" أخرجه البخاري.
وعن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا.. اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة (١).. هون عليه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
الإعراب
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ﴾.
﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه، ما: مصدرية. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بأرسلنا. ﴿رَسُولًا﴾: مفعول به. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية، (ما) مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بالكاف؛ تقديره: كإرسالنا فيكم رسولًا ﴿مِنْكُمْ﴾، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة إتمامًا كائنًا كإرسالنا رسولًا؛ أي: إتمامًا كائنًا كإتمامها عليكم بإرسال رسول منكم ﴿يَتْلُو﴾: فعل مضارع معتل بالواو، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَسُولًا﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَيُعَلِّمُكُمُ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿يعلمكم﴾: مضارع معطوف على يتلوا. ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول به ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: معطوفة على الكتاب ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿يعلمكم﴾: فعل مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَسُولًا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَتْلُو﴾ على كونها صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة، في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿علم﴾، ﴿لم﴾ حرف نفي. ﴿تَكُونُوا﴾: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، وهو بمعنى (عرف) يتعدى إلى واحد؛ تقديره: تعلمونه، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿تَكُونُوا﴾ تقديره: ما لم تكونوا عالمين، وجملة ﴿تَكُونُوا﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من ﴿تَعْلَمُونَ﴾.
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾.
﴿فَاذْكُرُونِي﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم إتمام نعمتي عليكم بما ذكر، وأردتم بيان ما هو الواجب عليكم.. فأقول لكم: ﴿اذكروني﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مفعول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾: ﴿أَذْكُرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، و ﴿الكاف﴾: مفعول به، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَاشْكُرُوا﴾: الواو: عاطفة، ﴿اشكروا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِي﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَاذْكُرُونِي﴾، ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَكْفُرُونِ﴾: فعل مضارع
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء؛ ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾، تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿اسْتَعِينُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿بِالصَّبْرِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اسْتَعِينُوا﴾. ﴿وَالصَّلَاةِ﴾: معطوف عليه. ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه والظرف متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾ تقديره: كائن مع الصابرين، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة.
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)﴾.
﴿وَلَا تَقُولُوا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَقُولُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَن﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُوا﴾. ﴿يُقْتَلُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُقْتَلُ﴾. ﴿أَمْوَاتٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هم أموات، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول لـ ﴿تَقُولُوا﴾. ﴿بَلْ﴾ حرف ابتداء. ﴿أَحْيَاءٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: بل هم أحياء، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَشْعُرُونَ﴾ فعل وفاعل، ومفعوله محذوف؛ تقديره: ولكن لا تشعرون ما هم فيه من الكرامة والنعيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)﴾.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، أو حرف جر وقسم داخلة على مقسم به محذوف تقديره: وعزتي وجلالي، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، (نبلون): فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، و ﴿الكاف﴾: مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿بِشَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نبلونكم﴾. ﴿مِنَ الْخَوْفِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿شيء﴾؛ تقديره: بشيء كائن من الخوف، ﴿وَالْجُوعِ﴾: معطوف على الخوف. ﴿وَنَقْصٍ﴾: معطوف على شيء. ﴿مِنَ الْأَمْوَالِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمحذوف؛ تقديره: وبنقص شيء كائن من الأموال؛ لأن النقص مصدر نقصت؛ وهو متعد إلى مفعول، وقد حذف المفعول، تقديره: وبنقص شيء من الأموال، ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾: معطوف على الأموال. ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾: معطوف على الأموال أيضًا، عطف خاصٍّ على عام. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة.
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب صفة للصابرين، أو منصوب بـ (أعني) ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها، وجملة إذا صلة الموصول لا محل لها من الإعراب ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت قلت ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿نا﴾: اسمها، ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر إن، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿إنّا﴾ حرف واسمها. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿رَاجِعُونَ﴾؛ وهو خبر إن، والجملة في محل النصب
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ الثاني. ﴿صَلَوَاتٌ﴾: مبتدأ ثان. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: صفة لـ ﴿صَلَوَاتٌ﴾، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: ما الذي بشروا به؟ فقيل: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾. ﴿وَرَحْمَةٌ﴾: معطوف على ﴿صَلَوَاتٌ﴾: ﴿وَأُولَئِكَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿أولئك﴾ مبتدأ. ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل. ﴿الْمُهْتَدُونَ﴾: خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ وشكرٌ يتعدى تارةً بنفسه، وتارةً بحرف جرٍ على حدٍّ سواء على الصحيح، وقال بعضهم: إذا قلت: شكرت لزيدٍ: فمعناه: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه متعديًا لاثنين: أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف الجر، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت عليكم.
وقال ابن عطية: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ واشكروني بمعنى واحد، و ﴿لي﴾ أفصح وأشهر مع الشكر، ومعناه: اشكروا نعمتي وأياديَّ، وكذلك إذا قلت: شكرتك فالمعنى: شكرت لك صنيعك وذكرته. فَحَذَف المضاف؛ إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معًا، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف انتهى "سمين" وقيل: معنى الشكر هنا: الاعتراف بحق المنعم والثناء عليه، ولذلك قابله بقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾.
﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ هو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف؛ أي: ولا تكفروا نعمتي، ولو كان من الكفر ضد الإيمان لقال: ولا تكفروا، أو: ولا تكفروا بي، وهذه النون نون الوقاية حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفًا لتناسب الفواصل، وقيل: المعنى واشكروا لي بالطاعة، ولا تكفرون بالمعصية.
قال القفال: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ولو ظهر منه أولًا ما لا يُعد معه صابرًا ثُمَّ صبر لم يعد ذلك إلا سلوانًا.
﴿مُصِيبَةٌ﴾: اسم فاعل من أصابت، والمصيبة: كل ما أذى المؤمن في نفسٍ أو مالٍ أو أهلٍ، صغرت أو كبرت حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يُسمى: مصيبة.
البلاغة
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾: والتعبير بصيغة التكلم الدالّة على العظمة بعد التعبير بالصيغة التي لا دلالة لها عليها من قبيل التفنن، وجريًا على سَنَنِ الكبراء. أفاده أبو السعود.
وبين كلمتي ﴿أَرْسَلْنَا﴾ و ﴿رَسُولًا﴾ من المحسنات البديعية جناس الاشتقاق؛ وهو توافق الكلمتين في الحروف والأصول مع الاتفاق في أصل المعنى.
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾: فيه إيجاز بالحذف؛ أي: لا تقولوا: هم أموات، بل هم أحياء وبينهما طباق.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ﴾: والإتيان بالجملة الخبرية مقسمًا عليها تأكيدٌ لوقوع الابتلاء، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه، وأن هذه المحن من الله تعالى. ﴿بِشَيْءٍ﴾ الباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل؛ أي: بشيءٍ قليلٍ؛ إذ لو جمعه فقال: بأشياء.. لاحتمل أن تكون ضروبًا من كل واحدٍ مما بعده.
قوله: ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾: ذكره بعد ذكر الأموال من ذكر الخاص بعد العام اهتمامًا به؛ لاندراجها تحت الأموال.
قوله: ﴿إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾: فيه من المحسنات البديعية التجنيس المغاير؛ وهو أن تكون إحدى الكلمتين اسمًا، والأخرى فعلًا، ومنه قوله تعالى: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾، ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾، وفي "المنتخب" ما ملخَّصه: إن إسناد الإصابة إلى المصيبة لا إلى الله تعالى؛ ليعم ما كان من الله وما كان من غيره، فما كان من الله فهو داخل تحت قوله: ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾؛ لأن في الإقرار بالعبودية تفويضًا للأمور إليه، وما كان في غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه، ولا يتعدى. كأنه في الأول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾ يدبر كيف يشاء، وفي الثاني: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ﴾ ينصف لنا كيف يشاء انتهى.
﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾: التنوين فيهما للتفخيم، وجمع صلوات؛ ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة، بل صلاة بعد صلاة، ووصفها بكونها ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ليدل بـ ﴿من﴾ على ابتدائها من الله؛ إذ تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى، ويحتمل أن تكون ﴿من﴾ تبعيضية، فيكون ثَمَّ حذف مضاف؛ أي: صلوات من صلوات ربهم، وأتى بلفظ الرب مع إضافته إلى ضميرهم؛ لما فيه من
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾: أكّد بقوله: ﴿هُمُ﴾ وبالألف واللام؛ لإفادة الحصر، كأن الهدايةَ انحصرت فيهم، وهو من قَصْرِ الصفة على الموصوف، وأتى باسم الفاعل، ليدل على الثبوت؛ لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتًا بعد وقت فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصف ثابتٌ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)﴾.
المناسبة
لما أمر الله سبحانه وتعالى بذكره وشكره، ودعا المؤمنين إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، وأثنى على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن، وكان أحد أركان الإِسلام.. أعقب ذلك ببيان أهمية الحج، وأنه من شعائر دين الله، ثم نبه تعالى على وجوب نشر العلم، وعدم كتمانه، وذكر خطر كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، كما فعل اليهود والنصارى في كتبهم، فاستحقوا اللعنة والغضب من الله تعالى ومن عباده.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ...﴾ قال الإِمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" (ج ٤ ص ٢٤٤): حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ فوالله ما على أحد جناح ألا يطّوف بالصفا والمروة؟ فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها عليه كانت لا جناح عليه ألا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار؛ كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها بالمشلل (١)، فكان مَنْ أهلَّ يتحرج أن
وأخرج البخاري في "صحيحه" ومسلم والترمذي، وصححه عن أنس رضي الله عنه؛ أنه سئل عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإِسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ...﴾ الآية. ولا مانع من أن الآية نزلت في الجميع.
وأخرج الحاكم (١) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الشياطين في الجاهلية تطوف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكان بينهما أصنام لهم، فلما جاء الإِسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه
قوله تعالى (١): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا...﴾ الآية. أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد نفرًا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٥٨ - ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾: اسمان للجبَلَيْنِ المعروفين بمكة في طرفي المسْعى. ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ لا من شعائر الجاهلية؛ أي: من علامات مواضع عبادة الله تعالى الحج والعمرة، جمع شعيرة وهي العلامة؛ لأن الصفا والمروة كانا حدين وغايتين لطرفي المسعى، أو الكلام على حذف مضافٍ تقديره: إن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله؛ أي: من أحكام دين الله وعبادته (٢)، ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، بل إنما يكون عبادةً إذا كان بعض حج أو عمرة، بين تعالى ذلك بقوله: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾؛ أي: قصد الكعبة لعبادة مخصوصة معروفة في الشرع ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾؛ أي: أو زار الكعبة لعبادة مخصوصة معروفة في الشرع؛ لأن الحج لغة: القصد، والعمرة كذلك الزيارة، وفي الشرع: عبادتان معروفتان. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: فلا ذنب، ولا إثم على ذلك الحاج أو المعتمر ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؛ أي: أن يدور ويسعى بينهما؛ أي: فلا إثم عليه في سعيه بين الصفا والمروة سبعة أشواط.
قال ابن عباس: كان على الصفا صنم اسمه: إساف، وعلى المروة صنم آخر اسمه: نائلة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما، ويتمسحون بهما، فلما جاء
(٢) البحر المحيط.
وأخرج مسلم (١) عن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل في صفة حجة الوداع قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ "ابدأ بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا، الحديث. فإذا ثبت أن النبي - ﷺ - سعى وجب علينا السعي، لقوله تعالى: ﴿فاتَّبِعُوه﴾، ولقوله - ﷺ -: "خذوا عني مناسككم" والأمر للوجوب.
وأخرج مسلم (٢)، وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله - ﷺ - فقال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا".
فائدة (٣): اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، فذهب جماعة إلى وجوبه؛ وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الحسن، وإليه ذهب مالك والشافعي.
وذهب قوم إلى أنه تطوع؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال ابن سيرين، وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أنه ليس بركن، وعلى من تركه دم. وروي عن ابن الزبير، ومجاهد، وعطاء أنّ من تركه فلا شيء عليه، واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه أن من ترك السعي بين الصفا والمروة لم يُجْزِه حجه ولا عمرته، وروي عنه أنه لا شيء في تركه عمدًا ولا سهوًا، ولا
(٢) شوكاني.
(٣) الخازن.
وسبب هذا الاختلاف أن قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ يصدق عليه أنه لا إثم عليه في فعله، فدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، فظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، أو غير واجب. فحجة الشافعي ومن وافقه في أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة.. ما روى الشافعي وغيره عن حبيبة بنت أبي تَجْرَأَةَ قالت: رأيت رسول الله - ﷺ - يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعوا فإن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب عليكم السعي" ويؤيد ذلك حديث: "خذوا عني مناسككم".
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ﴾ أصله: يتطوف، فأدغمت التاء في الطاء، ماضيه تطوف، وقرأ أنس، وابن عباس، وابن سيرين، وشُهِر ﴿أن لا﴾ وكذلك في مصحف أُبي، وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة ﴿لا﴾ نظير: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ فتتحد معنى القراءتين، وقرأ أبو حمزة: ﴿أن يطُوف بهما﴾ مِن طاف، يطوف الثلاثي، وهي قراءة ظاهرة، وقرأ ابن عباس، وأبو السمال ﴿يَطَّاف بهما﴾ أصله يطتوف بوزن يفتعل، وماضيه اطتوف بوزن افتعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء، فصارا اطّاف، وجاء مضارعه يطّاف، ومصدره اطيافًا وكل القراءات المذكورة شاذة عدا قراءة الجمهور.
﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾؛ أي: تبرع وزاد على ما فرض الله عليه من حج وعمرة تطوعًا ونفلًا، فطاف بين الصفا والمروة في ضمن حج تطوع وعمرته، لا استقلالًا؛ لأن السعي لا يتنفل به. ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَاكِرٌ﴾ له على طاعته، وقابل منه، ومجازٍ له عليها. ﴿عَلِيمٌ﴾ بنيته، ويعلم قدر الجزاء، فلا يبخس المستحق حقه، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
١٥٩ - ونزل في أحبار اليهود قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾؛ أي: يخفون الناس ﴿مَا أَنْزَلْنَا﴾ في التوراة، وهم علماء اليهود. ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: من العلامات الواضحة الدالة على صدق محمَّد - ﷺ - ونبوته، من نعوته وأخلاقه وأفعاله. ﴿وَالْهُدَى﴾؛ أي: ومن الأحكام التي هدى الله الخلق إليها، ودعاهم لها، وشرعها لهم من الأوامر والنواهي كآية الرجم. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ﴾ وأوضحناه. ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لبني إسرائيل ﴿في الْكِتَابِ﴾؛ أي: في التوراة، والمراد بالكتم هنا: إزالة ما أنزل الله، ووضع غيره في موضعه؛ فإنهم محوا آية الرجم، ونعته - ﷺ -، وكتبوا مكان ذلك ما يخالفه. ومعلوم أن الكتم والكتمان: ترك إظهار الشيء قصدًا مع مسيس الحاجة إليه، وتحقق الداعي إلى إظهاره؛ لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد من الكتمان، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه، ويكون بإزالته ووضع شيء آخر مكانه.
وقرأ الجمهور: ﴿بَيَّنَّاهُ﴾ مطابقة لقوله: ﴿أنزلنا﴾، وقرأ طلحة بن مصرف شذوذًا: ﴿بينة﴾ بضمير مفرد غائب، ففيه حينئذٍ التفات من التكلم إلى الغيبة. ﴿أُولَئِكَ﴾ الكاتمون لما أنزلنا. ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ﴾؛ أي: يبعدهم الله من رحمته ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ من الملائكة والمؤمنين، أو جميع الخلائق؛ أي: يسألون الله أن يلعنهم ويطردهم من رحمتهم، ويقولون: اللهم العنهم.
١٦٠ - ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾؛ أي: ندموا على ما فعلوا، فرجعوا عن الكفر إلى الإِسلام ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما بينهم وبين الله تعالى بالتوحيد والطاعات ﴿وَبَيَّنُوا﴾؛ أي: أوضحوا للناس ما كتموا من العلم ﴿فَأُولَئِكَ﴾ التائبون المصلحون البيِّنون ﴿أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: أقبل منهم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًا أبدًا وهما قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾، وقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ إلى آخر الآيتين. متفق عليه.
وهل (١) إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين؟ فيه خلاف، والأصح أنه إذا ظهر للبعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتومًا، وقيل: متى سئل العالم عن شيءٍ يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره، وإلا فلا. وفي "الكرخي": وهذه الآية: تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجًا إليها، ثم تركها أو كتمها، وكتم شيئًا من أحكام الشرع مع الحاجة إليه لحقه هذا الوعيد.
١٦١ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالكتمان وغيره ﴿وَمَاتُوا﴾؛ أي: واستمروا على ذلك حتى داهمهم الموت. ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ بالله ورسوله. ﴿أُولَئِكَ﴾ المستمرون على كفرهم حتى ماتوا عليه. ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ﴾ وطرده لهم من رحمته ﴿و﴾ لعنة ﴿الملائكة والناس﴾ كلهم ﴿أجمعين﴾ حتى أهل دينهم، فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضًا، وقرأ الجمهور: ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ بالجر عطفًا على لفظ الجلالة، وقرأ الحسن: ﴿والملائكة والناس أجمعون﴾ بالرفع، وخرج على أنه مبتدأ حذف خبره تقديره: والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم حالة كونهم
الإعراب
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الصَّفَا﴾: اسمها. ﴿وَالْمَرْوَةَ﴾: معطوف عليه. ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر إن؛ تقديره: كائنان من شعائر الله، وجملة إنّ مستأنفة.
﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
﴿فَمَن﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الصفا والمروة من شعائر الله، وأردتم بيان حكم السعي بينهما.. فأقول لكم: ﴿مَن حج البيت﴾: ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿حَجَّ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على (مَن). ﴿الْبَيْتَ﴾: مفعول به. ﴿أَوِ﴾: حرف عطف وتفصيل ﴿اعْتَمَرَ﴾؛ فعل ماضٍ في محل الجزم معطوف على ﴿حَجَّ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا، وجملة ﴿لا﴾ من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها،
﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. ﴿تَطَوَّعَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾، ﴿خَيْرًا﴾: منصوب؛ إما على (١) إسقاط حرف الجر؛ أي: تطوع بخيرٍ، فلما حذف الحرف انتصب على حد قوله:
تَمُرُّوْنَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعَوِّجُوا
أو على أن يكون نعت مصدر محذوف؛ أي: تطوعًا خيرًا، أو على أن يكون حالًا من ذلك المصدر المقدر معرفةً، وهذا مذهب سيبويه. اهـ "سمين".
﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب.
﴿اللهَ﴾: اسمها. ﴿شَاكِرٌ﴾: خبر أول لها. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان. وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩)﴾.
جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَكْتُمُونَ﴾ ﴿بَعْدِ﴾: مضاف. ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿بَيَّنَّاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والضمير عائد على ﴿مَا أَنْزَلْنَا﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ تقديره: من بعد تبيننا إياه ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَيَّنَّاهُ﴾. ﴿في الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور متعلق أيضًا بـ ﴿بَيَّنَّاهُ﴾، فإن تعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى أو اللفظ مما لا خلاف في جوازه. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾، وجملة إن من اسمها وخبرها جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ويصح أن يكون ﴿أُولَئِكَ﴾ بدلًا من اسم إن، وجملة ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ﴾: خبرها. ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿يلعنهم اللاعنون﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ﴾ على كونها خبر إن.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مستثنى من المفعول في قوله: ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾. ﴿تَابُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَأَصْلَحُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ﴿تَابُوا﴾ على كونها صلة الموصول، وكذا جملة قوله: ﴿وَبَيَّنُوا﴾:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب اسمها. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَمَاتُوا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿مَاتُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿كَفَرُوا﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿كُفَّارٌ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿ماتوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿لَعْنَةُ اللهِ﴾: مبتدأ ثان ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ من اسمها وخبرها: مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿وَالْمَلَائِكَةِ﴾: معطوف على لفظ الجلالة، وكذا قوله ﴿وَالنَّاسِ﴾: معطوف على لفظ الجلالة. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد للملائكة والناس.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ {١٦٢﴾}.
﴿خَالِدِينَ﴾: حال من الضمير في ﴿عَلَيْهِمْ﴾. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُخَفَّفُ﴾: فعل مضارع مغيَّر الصيغة. ﴿عَنْهُمُ﴾: متعلق به. ﴿الْعَذَابُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستتر في ﴿خَالِدِينَ﴾ أو مستأنفة. ﴿وَلَا هُمْ﴾: الواو عاطفة، ﴿لَا﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿الصَّفَا﴾: جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، وعبارة "السمين": وألف الصفا منقلبة عن واو؛ بدليل قلبها في التثنية واوًا، فإنهم قالوا في تثنيته: صفوان، والاشتقاق يدل عليه أيضًا؛ لأنه من الصفو، وهو الخلوص، والصفا الحجر الأملس، وقيل: الذي لا يخالطه غيره من طين أو تراب، ويفرق بين واحده وجمعه بتاء التأنيث نحو: صفا كثيرة وصفاة واحدة، وقد يجمع الصفا على فعول وأفعال، فإنهم قالوا: صُفِي بكسر الصاد وضمها كعِصي وأصفاء، والأصل صفوو وأصفاو، فقلبت الواوان في صفوو يائين، والواو في أصفاو همزةً ككساء وبابه.
﴿وَالْمَرْوَةَ﴾: الحجارة الصغار، فقيل: اللينة، وقيل: الصلبة، وقيل: البيض، وقيل: السود. انتهت. وجمعها: مرو ومروات، وهذا بالنظر إلى أصلهما وإلا فهما عَلَمان للجبلين المعروفين في مكة.
﴿مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ والشعائر: جمع شعيرة؛ وهي العلامة؛ أي: من أعلام مناسكه، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله تعالى أعلامًا للناس من الموقف والمسعى والمنحر.
﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ يقال: حج يحج حجًّا - من باب رَدَّ - فهو حاجّ، والحج لغةً: القصد، وشرعًا: قصد مكة لنسك مخصوص.
﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾: من باب افتعل، والمصدر الاعتمار، وهو الزيارة، والعمرة مأخوذة منه؛ وهي زيارة مكة لنسك معلوم.
﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾: تطوع - من باب تفعَّل - من الطوع؛ وهو الانقياد، ولكن المراد هنا: التبرع بأي طاعة كانت، أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه.
البلاغة
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾: في هذا التركيب مجازٌ بالحذف؛ إما من الأول تقديره: إن السعي بين الصفا والمروة من أحكام شرع الله التي شرعها لعباده، أو من الآخر تقديره: إن الصفا والمروة من أعلام عبادة الله وحدودها.
﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾: وشكرُ اللهِ العبدَ بأحد معنيين: إما بالثواب، وإما بالثناء عليه.
قال أبو السعود: عبر عن ذلك بالشكر مبالغةً في الإحسان على العباد، فأطلق الشكر، وأراد به الجزاء بطريق المجاز. وعلمه (١) هنا؛ هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة، أو بنيته وإخلاصه في العمل، وقد وقعت الصفتان الموقَع الحسن؛ لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، وذكر العلم باعتبار القصد، وأخرت صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر، كما أن النية مقدمة على الفعل؛ لتواخي رؤوس الآي. ذكره أبو حيان.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾: فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ﴾ وتبيينه (٢) لهم تلخيصه وإيضاحه، بحيث يتلقاه كل واحد منهم من غير أن يكون له فيه شبهة، وهذا عنوان مغاير؛ لكونه بينًا في
(٢) أبو السعود.
﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ وأبرز (١) الخبر في صورة جملتين: توكيدًا وتعظيمًا، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد؛ لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾، ولذلك أتى بصلة ﴿الَّذِينَ﴾ فعلًا مضارعًا ليدل أيضًا على التجدد؛ لأن بقاءهم في الكتمان هو تجدد كتمانٍ، وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله؛ لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب، وجاءت الجملة الثانية؛ لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين، وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات؛ إذ لو جرى على نسق الكلام السابق.. لكان أولئك نلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم الشريف من الفخامة، وإلقاء الروعة والمهابة في القلب ما لا يكون في الضمير، وفي قوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ من المحسنات البديعية التجنيس المغاير؛ وهو أن يكون إحدى الكلمتين اسمًا والأخرى فعلًا.
وقوله (٢): ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾: اعتراض تذييلي محقق لمضمون ما قبله، والالتفات إلى التكلم؛ للتفنن في النظم الكريم، مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ في فعليه تعالى: السابق وهو اللعن، واللاحق وهو الرحمة.
﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾: من الإنظار لا من النظر، فإيثار الجملة الإسمية لإفادة دوام النفي واستمراره. ذكره الكرخي.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) جمل.
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها:
أنه لما كان كفر معظم الكفار المستحقين اللعنة والخلود في النار؛ لاتخاذهم آلهة مع الله | أخبر تعالى أن الإله واحد لا يتعدد، ولا يتجزأ، ولا مثيل له في صفاته، وحصر الإلهية فيه. |
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾ سبب (١) نزول هذه الآية: أن كفار قريش قالوا: يا محمَّد صف، لنا ربك، وانسبه؟ فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ سبب نزولها: ما روي عن (٢) عطاء قال: نزل على النبي - ﷺ - بالمدينة: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾ الآية. فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؛ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٦٣ - ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ روي: أنه كان للمشركين ثلاث مدّة صنم يعبدونها من دون الله، فبين الله أنه إلههم، وأنه واحد، فقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾؛ أي: معبودكم الذي يستحق العبادة منكم أيها العباد ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: إله منفرد في ألوهيته وربوبيته، ليس له شريك فيهما، ومنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله ليس له نظير فيها (٣)، وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المُتصوّر منهم العبادة؛ فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى، ويحتمل أن يكون خطابًا للمشركين الذين قالوا لرسول الله - ﷺ -:
(٢) لباب النقول.
(٣) البحر المحيط.
وقال في "المنتخب": لمّا قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ..﴾ أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم أن يزيل ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق، فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فقوله: ﴿لَا إِلَهَ﴾: يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: ﴿إلا الله﴾ أفاد التوحيد التام المطلق المحقق. انتهى.
﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: إلا الله الواحد الفرد الصمد، وهذه (١) الجملة توكيدٌ لمعنى الوحدانية، ونفي الإلهية عن غيره، وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الإلهية، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلت الجملة الأولى على نسبة الوحدانية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه.
والمعنى (٢): إلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدًا، والشرك به ضربان.
الأول: شرك في الألوهية والعبادة: بأنْ يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله، أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها، ويصده عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عندما يتوجه إلى الله ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله؛ ليكشف عنه ضرًّا، أو يجلب له نفعًا.
الثاني: شرك به في الربوبية: بأنْ يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلغه عنه الرسل استنادًا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين هم أعلم بمراد الله؛ وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾.
فواجب على علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه كما فعل مَنْ قبلَهم من أهل الكتب المنزلة حين زادوا
(٢) مراغي.
وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ خبران آخران للمبتدأ؛ أي: وإلهكم هو الرحمن؛ أي: كثير الرحمة والإنعام لعباده بحلائل النعم، الرحيم؛ أي: كثير الرحمة والإحسان لعباده بدقائق النعم.
فالله تعالى (١) هو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها، ولا يعتمد على رحمة سواه ممن يظن أنهم مقربون إليه؛ إذ كل ما يعتمد عليه من دونه، فليس أهلًا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.
والإله الذي بيده أزمة المنافع، والقادر على دفع المضار؛ واحدٌ لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته.
وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته؛ لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق بأنهم لا يجدون ملجأ غيرَ الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة، وتحول بينهم وبين اليأس من فضله بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)﴾ وفاتحة آل عمران ﴿الم (١) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)﴾ أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث صحيح.
١٦٤ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته؛ لتكون برهانًا على ما ذكر في الآية قبلها فقال: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ إلى آخر الآية، فذكر من عجائب مخلوقاته ودلائل قدرته ووحدانيته
الأول والثاني منها ذكره بقوله: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: إن في إيجادهما على غير مثال سبق مع عظمهما وكثرة أجزائهما، وقيل: الخَلْقُ هنا بمعنى المخلوق؛ إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض، وحينئذ فإضافته بيانية، وإنما جمع السموات؛ لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، وأفرد الأرض؛ لأنها جنس واحد وهو التراب.
والآيات في السماء هي: سمكها، وارتفاعها بغير عمد ولا علَّاقة، وما يُرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، وفي ذلك كله ما يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير.
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ |
وذكر الثالث منها بقوله: ﴿و﴾ في ﴿اختلاف الليل والنهار﴾؛ أي: في تعاقبهما بمجيء أحدهما، وذهاب الآخر، واختلافهما في الطول والقصر، والزيادة والنقصان، والنور والظلمة، وإنما قُدِّم الليل على النهار؛ لأن الظلمة أقدم، والآيات في الليل والنهار تعاقبهما بالمجيء والذهاب واختلافهما فيما ذكر، واختلاف انتظام أحوال العباد في معاشهم بالراحة في الليل، والسعي والكسب في النهار.
وذكر الرابع منها بقوله: ﴿و﴾ في الفلك والسفن ﴿الَّتِي تَجْرِي﴾ وتسير ﴿في الْبَحْرِ﴾ والماء العميق.
فدلالتها (٢) على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء، وقانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هي العمدة في سير السفن الكبرى في هذا العصر، وكل ذلك يجري على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام؛ هي قدرة الإله الواحد العليم كما قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ في الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾.
النوع الخامس منها: ركوب السفن، والحمل عليها في التجارة. وذكره بقوله: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾؛ أي: ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم؛ فهي تحمل أصناف المتاجر من إقليم إلى إقليم، ومن قطر إلى قطر آخر، فتجعل العالم كله مشتركًا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها، والآيات في ذلك أن الله تعالى لو لم يقوِّ قلوب من يركب هذه السفن.. لما تم الغرض في تجاراتهم ومنافعهم، وأيضًا فإن الله تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين فصار ذلك سببًا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن، وخوض البحر، وغير ذلك.
والنوع السادس منها: نزول المطر من السماء، وذكره بقوله: ﴿و﴾ في ﴿مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿مِنْ مَاءٍ﴾؛ أي: من المطر الذي به حياة البلاد والعباد، فـ ﴿من﴾ الأولى للابتداء، والثانية للبيان. قيل: أراد بالسماء السحاب، سُمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء؛ لأنه خلق الله الماء في السحاب، ومنه ينزل إلى الأرض، وقيل: أراد السماء بعينها؛ لأنه خلق الله الماء في السماء، ومنه ينزل إلى السحاب، ثم منه إلى الأرض، ثم عطف على
(٢) مراغي.
والآيات في ذلك: أنّ الله جعل الماء سببًا لحياة جميع الموجودات من حيوان ونبات، وأنه ينزله عند الحاجة إليه بمقدار المنفعة، وعند الاستسقاء، وينزله بمكان دون مكان.
والسابع منها: انتشار كل دابةٍ في الأرض، وذكره بقوله: ﴿و﴾ في ﴿بث﴾ وفرق ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾؛ أي: من كل حيوان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد كل ما دبّ على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم، فقوله: ﴿بث﴾ إما معطوف على ﴿أنزل﴾ فتقدر ﴿ما﴾ الموصولة قبلها، فتكون الآيات حينئذ تسعة أنواع، أو معطوف على ﴿أحيا﴾، فتكون الآيات ثمانية كما أشرنا إليه فيما مر، والآيات في ذلك: أن جنس الإنسان مثلًا يرجع إلى أصل واحد وهو آدم، مع ما فيهم من الاختلاف في الصور، والأشكال، والألوان والألسنة، والطبائع، والأخلاق، والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان.
والثامن منها: الريح وذكره بقوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: وفي تقليب الرياح وتحويلها، وتوجيهها مرة جنوبًا ومرة من شمالًا، وباردةً وحارةً، ولينةً وعاصفةً.
والآيات فيها: أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى؛ وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الشجر والصخر، وتخرب البنيان، وهي مع ذلك حياة الوجود، فلو أمسكها طرفة عين.. لمات كل ذي روح، وأنتن ما على وجه الأرض.
والنوع التاسع منها: السحاب وذكره بقوله: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾؛ أي: وفي الغيم المذلل لقدرة الله تعالى يسير ﴿بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ بواسطة الرياح حيث شاء الله تعالى، وهو يحمل الماء الغزير، ثم يصبه على الأرض قطرات قطرات.
﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: إن في جميع ما ذكر من خلق السموات والأرض إلى هنا لدلائل وبراهين عظيمة دالة على وحدانية الرب الحكيم، ودالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، والرحمة الواسعة. قيل: وإنما جمع آيات؛ لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقًا مدبرًا مختارًا ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم، فيعرفون بأن هذه الأمور من صنع إله قادرٍ حكيم، وفيه تعريضٌ بجهلِ المشركين الذين اقترحوا على النبي - ﷺ - آية تصدقه، وفي الحديث (٢): "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها"؛ أي: لم يتفكر فيها.
١٦٥ - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن سوء عاقبة المشركين الذين عبدوا غير الله تعالى فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: ومن الكفار أهل الكتاب، وعبدة الأوثان ﴿مَنْ يَتَّخِذُ﴾؛ أي: يعبد ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾؛ أي: من غير الله ﴿أَنْدَادًا﴾؛ أي: أصنامًا وأحبارًا أندادًا؛ أي: أمثالًا وأشباه يشبه بعضها بعضًا في العجز، وعدم النفع والضر، والأحسن (٣) حمل ﴿النَّاسِ﴾ على الطائفتين: من أهل الكتاب وعبدة الأوثان، فالأنداد باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم اتبعوا ما رتبوه وشرعوه لهم من أمر ونهي، وإن خالف أمر الله ونهيه، قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ والأنداد باعتبار عبدة الأوثان هي الأصنام اتخذوها آلهةً، وعبدوها من دون الله.
(٢) البحر المحيط.
(٣) بيضاوي.
﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾؛ أي: يود العابدون المعبودين، ويعظمونهم، ويخضعون لهم ﴿كَحُبِّ اللهِ﴾؛ أي: يحبونم حبًّا كائنًا كحب الله؛ أي: كحبهم الله تعالى؛ أي: يسوون (١) بينه تعالى وبين الأصنام في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه تعالى إذ هم لا يرجون من الله شيئًا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربًا من التوسط الغيبي فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمنٍ موحدٍ، وللمشركين أندادٌ متعددون وأرباب متفرقون، فإذا حزبه أمر، أو نزل به ضرٌّ.. لجأ إلى بشرٍ، أو حجر، فهو دائمًا مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال.
وقيل المعنى (٢): يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم عز وجل، ومن قال بالقول الأول.. فقد أثبت للكفار محبةَ اللهِ تعالى، لكن جعلوا الأصنام شركاء له في الحب، ومن قال بالثاني.. لم يثبت للكفار محبةَ الله تعالى. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾؛ أي: أكثر وأثبت وأدوم على محبتهم لله تعالى من الكفار لأصنامهم؛ لأنهم لا يختارون مع الله غيره والمشركون قد اتخذوا صنمًا، ثم رأوا آخر أحسن منه، طرحوا الأول واختاروا الثاني.
وقيل: إن الكفار يعدلون عن أصنامهم في الشدائد، ويقبلون إلى الله تعالى كما أخبر عنهم. ﴿فَإِذَا رَكِبُوا في الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ والمؤمنون لا يعدلون عن الله تعالى في السرّاء ولا في الضّراء، ولا في الشدة ولا في الرخاء.
وقيل: إن المؤمنين يوحدون ربهم، والكفار يعبدون أصنامًا كثيرة؛ فتنقص المحبة لصنم واحد، قال أبو حيان: والمفضل عليه محذوف؛ وهم المتخذون الأنداد، وهذه الجملة كالاستدراك (٣)؛ لما يفيده التشبيه من التساوي؛ أي: لكن
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قرأ الجمهور: بالياء التحتانية، و ﴿إذ﴾ في قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ بمعنى إذا الدالة على المستقبل، وقرأ الجمهور أيضًا قوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ بفتح همزة ﴿أن﴾ في الموضعين، و ﴿يَرَى﴾ بصرية، وجواب ﴿لو﴾ محذوف، وجملة ﴿أن﴾ معمولة لجواب ﴿لو﴾ المحذوف؛ والمعنى: ولو رأى وشاهد الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، واتخاذ الأنداد في الدنيا وقت رؤيتهم العذاب يوم القيامة.. لعلموا أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، وأن الأنداد عاجزة لا تنفع ولا تضر. وعلى قراءة بعض القراء، غير السبع - أي في الشواذة - بكسر الهمزة من ﴿أن﴾؛ والمعنى حينئذ: ولو يرى الذين ظلموا بعبادة الأصنام عجزها حال مشاهدتهم عذاب الله.. لقالوا: إن القوة لله جميعًا.
وقرأ نافع وابن عامر في المتواتر: ﴿ترى﴾ بالتاء الفوقية مع فتح الهمزة في ﴿أن﴾ على الخطاب للرسول - ﷺ -، أو لكل من يصلح للخطاب؛ والمعنى: ولو ترى يا محمَّد الذين ظلموا حالهم إذ يرون العذاب.. لعلمت أن القوة لله جميعًا، ولو كسرت الهمزة.. كان المعنى: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب.. لقلت: إن القوة لله جميعًا، وقرأ ابن عامر: ﴿إذ يُرون﴾ بضم الياء.
وقال أبو حيان (١): قال عطاء: المعنى: ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمس مئة عام، تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة.. لعلموا أن القوة لله والقدرة لله جميعًا.
وقيل المعنى: لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه إذ يرون العذاب.. لأقروا
١٦٦ - ﴿إِذْ﴾ في قوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ بدل من قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾؛ أي: ولو يرى الذين ظلموا حالهم إذ يتبرأ ويتخلص الرؤساء الذين اتبعوا، وأضلوا أتباعهم لعلموا أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾؛ أي: من السفلة والأتباع الذين اتبعوهم في الضلال، كما قال تعالى: ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾، ﴿و﴾ قد ﴿رأوا العذاب﴾؛ أي: والحال أن الرؤساء والسفلة كلهم قد رأوا العذاب ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾؛ أي: وقد انقطعت عنهم الأسباب والمواصلات التي كانت بينهم في الدنيا من الأرحام والمودة على الكفر، وأنكر المتبوعون إضلال الأتباع، وانقلبت مودتهم عداوة.
وقرأ الجمهور: ﴿اتُّبِعُوا﴾ الأول مبنيًّا للمفعول والثاني مبنيًّا للفاعل، وقرأ مجاهد في الشواذ: بالعكس، ومعنى تبرأ المتبوعين: قولهم إنا لم نضل هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم، وعقاب كفرهم عليهم لا علينا، ومعنى تبرأ التابعين: هو انفصالهم عن متبوعيهم، والندم على عبادتهم وطاعتهم.
١٦٧ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾؛ أي: الأتْباع ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾؛ أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾؛ أي: نتخلص من المتبوعين في الدنيا إذا رجعنا إليها، فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، ثم نعود إلى موضع الحساب، فنتبرأ من هؤلاء الضالين ﴿كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾؛ أي: كما تبرأ المتبوعون منا في هذا اليوم العصيب، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما أراهم شدة عذابه ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ السيئة من الشرك وغيره حالة كونها ﴿حَسَرَاتٍ﴾؛ أي: ندامات شديدة ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على تفريطهم فيها؛ لأنهم أيقنوا بالهلاك والعذاب الشديد عليها، والحسرة (١) الغم على ما فاته، وشدة الندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما
الإعراب
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾.
﴿وَإِلَهُكُمْ﴾: الواو استئنافية ﴿إلهكم﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَهٌ﴾: خبر. ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة له، والجملة مستأنفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر (لا) محذوف جوازًا، تقديره: موجود، وجملة ﴿لَا﴾ من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿إلهكم﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُوَ﴾: ضمير منفصل في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر لا.
وعبارة "السمين" هنا: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون بدلًا من ﴿هُوَ﴾ بدل ظاهر من مضمر، إلا أن هذا يؤدي إلى البدل بالمشتقات وهو قليل، ويمكن الجواب عنه: بأن هاتين الصفتين جريا مجرى الجوامد، ولا سيما عند من يجعل الرحمن عَلَمًا.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن، وحسّن حذفه توالي اللفظ بـ ﴿هُوَ﴾ مرتين.
الثالث: أن يكون خبرًا ثالثًا لقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ أخبر عنه بقوله: {إِلَهٌ
الرابع: أن يكون صفة لـ ﴿هُوَ﴾ وذلك عند الكسائي؛ فإنه يجيز وصف ضمير الغائب بصفة المدح، فاشترط في وصف الضمير هذين الشرطين: أن يكون غائبًا، وأن تكون الصفة صفة مدح. انتهت.
والأرجح أن يكون ﴿الرَّحْمَنُ﴾: خبرًا ثالثًا لقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾، و ﴿الرَّحِيمُ﴾ خبرًا رابعًا.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾ ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السموات. ﴿وَاخْتِلَافِ﴾: معطوف على ﴿خَلْقِ﴾، وهو مضاف. ﴿اللَّيْلِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على ﴿اللَّيْلِ﴾. ﴿وَالْفُلْكِ﴾: معطوف على ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿الَّتِي﴾: صفة للفلك. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الفلك، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فِي الْبَحْرِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾ أيضًا، أو حال من الضمير المستتر في ﴿تَجْرِي﴾؛ تقديره: حالة كونها مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس. ﴿يَنْفَعُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ ﴿النَّاسَ﴾: مفعول به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها.
﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة في محل البحر معطوفة على ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماضٍ. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنزل﴾، وجملة ﴿أَنْزَلَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة
﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾.
﴿فَأَحْيَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿أحيا﴾: فعل ماض. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَأَحْيَا﴾. ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلَ﴾ على كونها صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها.
﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
﴿وَبَثَّ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿بث﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بث﴾، والجملة من الفعل والفاعل معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلَ﴾ على كونها صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير محذوف؛ تقديره: وما بث به، وفي "السمين" ما حاصله: أن بعضهم أجاز حذف العائد المجرور بالحرف وإن لم يجر الموصول بمثله كما هنا، وذكر شواهد على ذلك. انتهى. ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من العائد المحذوف. ﴿وَتَصْرِيفِ﴾: معطوف على ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾، وهو مضاف. ﴿الرِّيَاحِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالسَّحَابِ﴾: معطوف على ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿الْمُسَخَّرِ﴾: صفة للسحاب. ﴿بَيْنَ السَّمَاءِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿المسخر﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾ ﴿لَآيَاتٍ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿آيات﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر منصوب بالكسرة، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾. ﴿يَعْقِلُونَ﴾: جملة فعلية في محل الجر صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، والرابط ضمير الفاعل.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَشَدُّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾. ﴿حُبًّا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ ﴿أشد﴾. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حبا﴾ و ﴿من﴾ الداخلة على المفضل عليه محذوفة؛ تقديره: أشد حبًّا لله من حب هؤلاء لأندادهم.
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿يَرَى الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، و ﴿يَرَى﴾ هنا بصرية تتعدى لواحد. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، ولكنها مضمنة معنى ﴿إذا﴾ الدالة على المستقبل. ﴿يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿يَرَى﴾، ومفعول ﴿يَرَى﴾ محذوف؛ تقديره: ولو رأى الذين ظلموا في الدنيا حالَهم وقت رؤيتهم العذاب في الآخرة، وجواب
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، ولكنها بمعنى ﴿إذا﴾. ﴿تَبَرَّأَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، و ﴿إِذْ﴾ بدل من ﴿إِذْ﴾ في قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾، ﴿اتُّبِعُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير نائب. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَبَرَّأَ﴾. ﴿اتَّبَعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول.
﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾.
﴿وَرَأَوُا﴾: ﴿الواو﴾ حالية، ﴿رأوا العذاب﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من الموصولين؛ تقديره: حالة كون المتبوعين والأتباع رائين العذاب. ﴿وَتَقَطَّعَتْ﴾: الواو: عاطفة، ﴿تقطع﴾: فعل ماضٍ. ﴿بِهِمُ﴾: متعلق به، والباء بمعنى (عن). ﴿الْأَسْبَابُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿رَأَوُا﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾.
﴿وَقَالَ﴾: الواو: استئنافية، ﴿قال الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة.
﴿اتَّبَعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَوْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾ وإن شئت قلت ﴿لَوْ﴾: حرف تمن. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لَنَا﴾: جار
﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: يريهم الله أعمالهم إراءةً كائنة كإراءتهم العذاب الشديد. ﴿يُرِيهِمُ﴾: فعل ومفعول أول، وهو من (رأى) البصرية تعدى بالهمزة إلى مفعولين. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿حَسَرَاتٍ﴾: حال من أعمالهم. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿حَسَرَاتٍ﴾ ﴿وَمَا هُم﴾: الواو: عاطفة. ﴿ما﴾ حجازية، أو تميمية. ﴿هُم﴾ اسمها، أو مبتدأ. ﴿بِخَارِجِينَ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿خارجين﴾: خبر ما، أو خبر المبتدأ. ﴿مِنَ النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿خارجين﴾، وجملة ﴿ما﴾ من اسمها وخبرها، أو جملة المبتدأ والخبر معطوفة على جملة ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ على كونها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ والليل: اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال: ليل وليلة كتمر وتمرة، والصحيح: أنه مفرد ولا يحفظ له جمع، ولذلك
﴿وَالْفُلْكِ﴾ ولفظ الفلك يكون مفردًا كقوله تعالى: ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ فهو حينئذٍ مذكر، ويكون جمعًا؛ أي: جمع تكسير كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ فإن قيل: إن جمع التكسير لا بد فيه من تغيرٍ ما، وهنا لا تغير.. فالجواب أن تغيره مقدر، فالضمة في حالة كونه جمعًا كالضمة في حُمر وبُدن، وفي حالة كونه مفردًا كالضمة في قُفل، وهو هنا جمع بدليل قوله: التي تجري في البحر.
﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ تصريف: مصدر صرّف المضاعف، ويجوز أن يكون مضافًا للفاعل، والمفعول محذوف؛ أي: وتصريف الرياح السحاب، فإنها تسوق السحاب، وأن يكون مضافًا للمفعول، والفاعل محذوف؛ أي: وتصريف الله الرياح، والرياح: جمع ريح جمع تكسير، وياء الريح والرياح منقلبة من واو، والأصل روح ورواح؛ لأنه من راح يروح، وإنما قلبت في ريح؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، وفي رياح؛ لأنها عين في جمع بعد كسرة، وبعدها ألف، وهي ساكنة في المفرد، وهو إبدال مطرد، ولذلك لمّا زال موجب قلبها.. رجعت إلى أصلها، فقالوا: أرواح.
﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ يتخذ: يفتعل من الأخذ، وهي متعدية إلى واحد، وهو أندادًا، والأنداد: جمع ند كأرطال جمع رطْل، والنِّد بكسر النون: الشبيه والمثل.
قال الراغب: الحب أصله من المحبة، يقال: أحببته، أصبت حبة قلبه، وأصبته بحبة القلب، وهي في اللفظ فعل، وفي الحقيقة انفعال، وإذا استعمل في الله.. فالمعنى: أصاب حبه قلب عبده، فجعلها مصونةً عن الشيطان والهوى وسائر أعداء الله انتهى. وقال عبد الجبار: حب العبد لله تعظيمه والتمسك بطاعته، وحب الله. العبد إرادة الثناء عليه وإثابته. انتهى.
﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ وجميع: في الأصل فعيل من الجميع، وكأنه اسم جمع، فلذلك يتبع تارة بالمفرد، قال تعالى: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾، وتارة بالجمع، قال تعالى: ﴿جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ وينتصب حالًا، ويؤكد به بمعنى (كل)، ويدل على الشمول كدلالة (كل) عليه.
﴿الْأَسْبَابُ﴾: جمع سبب، وأصله الحبل، والمراد به: ما يكون بين الناس من الروابط كالنسب والصداقة.
﴿كَرَّةً﴾ الكرة: الرجعة والعودة، وفعلها كر يكر كرًّا، وفي المختار الكر: الرجوع، وبابه: رَدّ.
﴿حَسَرَاتٍ﴾: جمع حسرة، وهي أشد الندم على شيء فائت، وفي المصباح: حسرت على شيء حسرًا من باب تعب، والحسرة اسم منه، وهي التلهف والتأسف، وحسَّرته بالتشديد أوقعته في الحسرة. انتهى.
البلاغة
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ورد الخبر خاليًا من التأكيد تنزيلًا للمنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن بين أيديهم من البراهين الساطعة والحجج القاطعة ما لو
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذه الجملة تقرير للوحدانية؛ لأن الاستثناء هنا إثبات من نفي، فهو بمنزلة البدل، والبدل هو المقصود بالنسبة، وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلهًا، ولكن لا يستحق منهم العبادة، ذكره الكرخي.
﴿لَآيَاتٍ﴾ التنكير في آيات للتفخيم، أي: آيات عظيمة دالة على قدرة قاهرة، وحكمة باهرة.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿إِنَّ﴾: حرف توكيد ونصب، والجار والمجرورات به خبرها مقدم، واسمها قوله: ﴿لَآيَاتٍ﴾ بزيادة لام الابتداء فيه، والتقدير: إن آيات لكائنة في خلق السموات... الخ فيفيد هذا التركيب أن في كل واحد من هذه المجرورات آيات متعددة، وهو كذلك كما بيناه فيما مر.
﴿كَحُبِّ اللَّهِ﴾: فيه تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت الأداة، وحذف وجه الشبه.
﴿أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ التصريح بالأشدِّية أبلغ أن يقال: أحب لله، كقوله: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ مع صحة أن يقال: أو أقسى.
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر، والظاهر أن يقال: ﴿ولو يرون﴾ لإحضار الصورة في ذهن السامع، وتسجيل لسبب في العذاب الشديد، وهو الظلم الفادح.
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا...﴾ إلخ في هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع؛ وهو أن يكون الكلام مسجوعًا، كقوله تعالى: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ وهو في القرآن كثير، وهو في هذه الآية في موضعين:
أحدهما: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ وهو محسن الحذف
والموضع الثاني: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ وفي استعمال السبب في المواصلة مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحبل الذي يُرتقى به للشجرة، ثم أطلق على ما يتوصل به إلى شيء عينًا كان أو معنى.
﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ الجملة اسمية وإيرادها بهذه الصيغة؛ لإفادة دوام الخلود.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمّا بين التوحيد، ودلائله، وما للمؤمنين المتقين والكفرة العاصين.. أردف ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن؛ ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الإنعام؛ لأنه سبحانه وتعالى عام إحسانه لجميع الأنام دون تمييز بين مؤمن وكافر، وبر وفاجر، ثم دعا المؤمنين إلى شكر المنعم جل وعلا، والأكل من الطيبات التي أباحها الله تعالى، واجتناب ما حرمه الله من أنواع الخبائث.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ...﴾ مناسبته (٢) لما قبله: أنّه
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمّا ذكر أن هؤلاء الكفار إذا أُمروا باتباع ما أنزل الله.. أعرضوا عن ذلك، ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشؤوا عليه، ووجدوا عليه أباءهم، ولم يتدبروا ما يقال لهم، وصموا عن سماع الحق، وخرسوا عن النطق به، وعموا عن أبصار النور الساطع النبوي.. ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهًا على حالة الكافر في تقليده أباه، ومحقرًا نفسه إذ صار هو في رتبة البهيمة، أو في رتبة داعيها على الخلاف المذكور في هذا التشبيه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا أباح لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة.. بين لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل، فلما بين ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر، وهذا مثل قوله - ﷺ - لما سئل عمّا يلبس المُحْرِم؟ فقال: "لا يلبس القميص ولا السراويل" فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور: لكثرة المباح، وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ...﴾ مناسبته (٢) لما قبله: أنه تعالى لمّا أمر بأكل الحلال في الآية السابقة.. فصل هنا أنواع الحرام، وأسند التحريم إلى الميتة وما نسق بعدها وفي المقام حذف، والظاهر أن المحذوف هو الأكل؛ لأن التحريم لا يتعلق بالعين، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فالممنوع هنا هو الأكل، وكذا غيره من سائر الانتفاعات على الراجح.
(٢) البحر المحيط.
أسباب النزول
قوله (٢) تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا..﴾ الآية، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (دعا رسول الله - ﷺ - اليهود إلى الإِسلام، ورغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال رافع بن حريطة ومالك بن عون: بل نتبع - يا محمد - ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيرًا منا، فأنزل الله في ذلك: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ...﴾ الآية).
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...﴾ الآية، أخرج (٣) ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ والتي في آل عمران: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ نزلتا جميعًا في اليهود، وأخرج الثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد - ﷺ - من غيرهم.. خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد - ﷺ -، فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ...﴾ الآية.
(٢) لباب النقول.
(٣) المراغي والخازن.
١٦٨ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قال ابن عباس (١): نزلت هذه الآية في قومٍ من ثقيف، وبني عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبني مدلج، حرموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرمتموه افتراءً على الله من الحرث والأنعام، فـ ﴿كُلُوا﴾ أمرُ إباحةٍ وتسويغ؛ لأنه تعالى هو الموجد للأشياء، فهو المتصرف على ما يريد؛ أي: كلوا أكلًا ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾، أو حال كونه حلالًا؛ أي: مباحًا طيبًا يستطيبه الشرع، أو الطبيعة السليمة، فالحلال (٢): هو المباح الذي أحله الشرع، وانحلت عنه عقدة الحظر، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب ما يُستلذ، والمسلم لا يستطيب إلا الحلال، ويعاف الحرام، وقيل: الطيب هو الطاهر؛ لأن النجس تكرهه النفس وتعافه، وقال الحسن: الحلال الطيب هو ما لا يسئل عنه يوم القيامة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا، ولا وَبَال عليه في الآخرة.
وقد بين الله سبحانه وتعالى (٣) ما حرّم من المأكل في الآية الكريمة: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ الآية. فما عدا هذا مباح بشرط أن يكون طيبًا، وهو ما لا يتعلق به حق الغير؛ وبيانه أن المحرم قسمان:
الأول: محرم لذاته لا يحل إلا للمضطر.
والثاني: محرم لعارض، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرؤوسين بلا مقابل، أو يأخذه المرؤوسون بجاه الرؤساء، وكأخذ الربا والرشوة والغصب والسرقة والغش، فكل هذا خبيث غير طيب.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
فهذا نهي عن اتباع وحي الباطل والشر؛ لأنه من إغواء الشيطان، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة البائس الفقير، فهم نفسه بالعمل، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير.. فليعلم أن هذا من وحي الشيطان، ولا ينخدع لما يسِّوله له من إرجاء هذا العطاء، ووضعه في موضع أنفع أو بذله لفقير أحوج.
وقرأ ابن عامر (١)، والكسائي، وقنبل، وحفص، وعباس عن أبي عمرو، والبرجمي عن أبي بكر: ﴿خُطُوَاتِ﴾ بضم الخاء والطاء وبالواو، وقرأ باقي السبعة بضم الخاء، وسكون الطاء، وبالواو، وقرأ أبو السمال شذوذًا: ﴿خُطَوات﴾ بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو، ونقل ابن عطية، والسجاوندي أن أبا السمال قرأ شذوذًا: ﴿خَطَوات﴾ - بفتح الخاء والطاء وبالواو - جمع خطوة، وهي المرة من الخطو، وقرأ علي، وقتادة، والأعمش، وسلام شذوذًا ﴿خُطُؤات﴾ بضم الخاء والطاء والهزة.
١٦٩ - وقد أظهر الله عداوته بآية السجود لآدم، وبيَّن هنا كيفية عداوته، وفنون شره وإفساده، فقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ الشيطان ﴿بِالسُّوءِ﴾؛ أي: القبيح من الذنوب التي لا حد فيها، ﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾؛ أي: المعاصي التي فيها حد، وقيل: العطف فيه لاختلاف الوصفين؛ فإنه سوء لاغتمام العاقل به، وفحشاء باستقباحه إياه، وقيل:
والمعنى (١): ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرّعه لكم من عقائد، وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد وتحريف الشرائع.
ألا ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل شيئًا إلا بوساطتهم، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه، وهو يقول: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾.
فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها اعتمادًا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أنَّ لهم نصيبًا من السلطة الغيبية، والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب قد ضلوا ضلالًا بعيدًا، واتبعوا أمر الشيطان، ومثلهم من اتخذ رأي الرؤساء حجةً في الدين من غير أن يكون بيانًا، أو تبليغًا لما جاء عن الله، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله، وأهملوا نعمة العقل، واتخذوا من دون الله الأنداد: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
١٧٠ - ثم بين الله سبحانه وتعالى كمال ضلالهم، وعدد جناياتهم فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين ﴿اتَّبِعُوا﴾ وتمسكوا ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على رسوله من الوحي، ولا تتبعوا من دونه أولياء.. جنحوا إلى التقليد و ﴿قَالُوا﴾ لا نتبع ما أنزل الله ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾؛ أي: وجدنا ﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ وكبرائنا، وأسلافنا من عبادة الأصنام، وتحريم الطيبات، ونحو ذلك من العقائد
وقال البيضاوي: وجواب (١) ﴿لو﴾ محذوف؛ أي: لو كان أباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون.. لاتبعوهم، وقال أبو السعود: أن ﴿لو﴾ في مثل هذا المقام لا تحتاج إلى جواب؛ لأن القصد منها تعميم الأحوال، وهو دليل على المنع من التقليد في أمر الدين لمن قدر على النظر والاجتهاد، وأما إذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على الحق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام، فهذا ليس بتقليد، بل اتباعٌ لما أنزل الله، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
١٧١ - ﴿وَمَثَلُ﴾؛ أي: وصفة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وداعيهم إلى الهدى؛ وهو محمد - ﷺ - ﴿كَمَثَلِ﴾ كصفة الراعي وبهيمته من الإبل والبقر والغنم مثلًا. ﴿الَّذِي يَنْعِقُ﴾ ويصيح ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾؛ أي: كالبهيمة التي لا تفهم معنى ما يقول: ﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾؛ أي: إلا مجرد سماع صوته بلا فهم معناه، شبه راعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا ينتفعون بما دُعوا إليه إلا مجرد سماع صوت، ففيه الحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني؛ وهو الذي ينعق، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول؛ وهو المنعوق به، وقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله ورسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفهم من الأمر والنهي غير الصوت، فيراد بـ ﴿الَّذِي يَنْعِقُ﴾ الذي
والفرق بين الدعاء والنداء (١): أن الدعاء للقريب، والنداء للبعيد، والفرق بين الكافر والضال: أن الكافر يرى الحق، ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله؛ فهو كالبهائم يرضى بأن يقوده غيره، ويصرفه كيف يشاء. والضالّ يخطيء الطريق مع طلبه، أو جهله بمعرفته بنفسه، أو بدلالة غيره.
وحاصل المعنى: أن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال، وعدم تألمهم فيما يُلقى إليهم من الأدلة مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي، ويسوقها إلى المرعى، ويدعوها إلى الماء، ويزجرها عن الحمى، فتستجيب دعوته، وتنزجر بزجره، وهي لا تعقل مما يقول شيئًا ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتًا تقبل لسماع بعضها، وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود، ولا تعقل سببًا للإقبال والإدبار.
فهم ﴿صُمٌّ﴾ عن سماع الحق سماع قبول وانتفاع به. ﴿بُكْمٌ﴾ عن النطق به. ﴿عُمْيٌ﴾ عن رؤيته؛ أي: يتصامون عن الحق، ويتباكمون عنه، ويتعامون عنه. ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لا يفقهون أمر الله، ودعوة النبي - ﷺ -، كما لا تعقل الإبل والغنم كلام الراعي، قيل: المراد به العقل الكسبي؛ لأن العقل الطبيعي كان حاصلًا فيهم، ثم بيّن أن ما حرّمه المشركون حلال. فقال:
١٧٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾؛ أي كلوا من حلالات ما أعطيناكم من الحرث والأنعام. قيل (٢): إن الأمر في ﴿كُلُوا﴾ يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس، ودفع الضرر عنها، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف، وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض.
وهذا الذي (٣) ذكره هنا تأكيدٌ للأمر السابق في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا
(٢) الخازن.
(٣) شوكاني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ثم ذكر رجلًا يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام فأنى يستجاب له"؟ أخرجه مسلم. أَشْعَثُ: هو البعيد العهد بالدهن، أَغْبَرَ: هو البعيد العهد بالغسل والنظافة، ويستفاد من هذا الحديث أن المراد بالطيبات الحلالات.
﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ الذي رزقكموها على جميع نعمه ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه إلهكم لا غيره، وأنه هو مولى جميع النعم لا غيره.. فإن الشكر رأس العبادات، وقيل: معناه: إن كنتم عارفين بالله وبنعمه.. فاشكروه عليها.
وعن النبي - ﷺ - فيما يرويه عن ربه (١): "يقول الله تعالى: إنّي والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري".
١٧٣ - ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ لمّا (٢) أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة لا تنحصر.. بيّن لهم في هذه الآية ما حرم عليهم؛ لكونه أقل، فلما بيّن ما حرم.. بيّن ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر: وهذا مثل قوله - ﷺ - لما سئل عما يلبس المُحْرِم فقال: لا يلبس القميص ولا السراويل". فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور؛ لكثرة المباح، وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ. كما مر آنفًا في محل المناسبة.
(٢) البحر المحيط.
وقد نص الفقهاء (٢) على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله، ولو مع اسم الله؛ فهو محرم، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى؛ إذ يقولون عند الذبح: باسم الله، الله أكبر، يا سيد، يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر، ويقضي حاجة صاحبه.
(٢) المراغي.
وإنما قدّم (٢) لفظة ﴿بِهِ﴾ هنا على قوله: ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ وأخره عنه في المائدة والأنعام والنحل؛ لأن ﴿الباء﴾ للتعدية كالهمزة والتشديد، فهي كالجزء من الفعل، فكان الموضع الأول أولى بها وبمدخولها، وأخَّر في بقية المواضع نظرًا للمقصود فيها من ذكر المستنكر؛ وهو الذبح لغير الله. ذكره الكرخي.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿حَرَّمَ﴾ مبنيًا للفاعل مسندًا إلى ضمير اسم الله، وما بعده منصوب، و ﴿ما﴾ في ﴿إِنَّمَا﴾ مهيئة هيأت ﴿إنّ﴾ لدخولها على الجملة الفعلية، وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا: برفع ﴿الميتة﴾ وما بعدها، فتكون ﴿ما﴾ موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف؛ تقديره: إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبر إن، وقرأ أبو جعفر في الشاذ ﴿حُرِّم﴾ مشددًا مبنيًّا للمفعول، و ﴿ما﴾ تحتمل كونها موصولة، أو مهيئة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية شاذة: ﴿إنما حَرُمَ﴾ بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازمًا ﴿الميتة﴾ وما بعدها مرفوع، وتحتمل ما للوجهين من التهيئة والوصل، و ﴿الميتة﴾ فاعل بـ ﴿حَرُم﴾ إن كانت ﴿ما﴾ مهيِّئة، وخبر إنّ إنْ كانت ﴿ما﴾ موصولة، وقرأ أبو جعفر في المتواتر: ﴿الميّتة﴾ - بتشديد الياء - في جميع القرآن.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾؛ أي: أُلجىء وأُحوج إلى أكل شيء مما ذكر بأن أصابه جوع شديد، ولم يجد حلالًا يسد به الرمق، أو أكره على تناول ذلك، وقرأ (٤) أبو جعفر في المتواتر: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ بضم النون للاتباع، وبكسرها على أصل حركة التقاء الساكنين، وقرأ ابن محيص شذوذًا بإدغام الضاد في الطاء، وقرأ أبو السمال بكسر الطاء وهي قراءة شاذة أيضًا، والمراد: مَنْ صيرةُ الجوع والعدم إلى
(٢) الجمل.
(٣) البحر المحيط.
(٤) شوكاني.
فخرج بذلك الباغي والعادي، فمن (١) خرج يقطع الرحم، أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض، أو مفارقًا للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله كالناشزة والآبق، فاضطر إلى أكل الميتة ونحوها.. لم تحل له ما لم يتب؛ لأن الرخص لا تفعل مع المعصية.
أما الباغي والعادي (٢) المقيمان المضطران إلى أكل ما ذكر: فيحل لهما أكله؛ وذلك لأن الترخيص لا يمتنع في حق المقيم العاصي إلا إذا كان مراقَ الدم، وقادرًا على توبة نفسه كالمرتد، وتارك الصلاة بشرطه، أما غيره: فتحل له سائر الرخص التي من جملتها أكل الميتة، هكذا يقتضي كلام الرملي في باب الأطعمة.
قلتُ: والظاهر من إطلاق الآية أن الباغي والعادي لا يحل لهما أكل الميتة ونحوها عند الاضطرار مطلقًا؛ أي: سواء كانا مقيمين أو مسافرين.
وعبارة المراغي هنا (٣): ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: فمن ألجىء إلى أكل شيء حيث حرم الله عليه بأن لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبًا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة.. فلا
(٢) جمل.
(٣) مراغي.
وإنما ذكر قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾؛ لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء الضرورة. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم إذ رخص لهم في تناولها، ولم يوقعم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها. انتهت.
وظاهر قوله (١): ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ نفى كل فرد فرد من الإثم عنه إذا أكل، لا وجوب الأكل. وقال الطبري: ليس الأكل عند الضرورة رخصة، بل ذلك عزيمة واجبة، ولو امتنع من الأكل كان عاصيًا.
وقال مسروق: بلغني أنه من اضطر إلى الميتة، فلم يأكل حتى مات.. دخل النار، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له.
١٧٤ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ لما بين سبحانه وتعالى فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم.. ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك، فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي - ﷺ -، وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة، كما قال في آية أخرى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ فقال: إن الذين يخفون ما أنزل الله على رسله من الكتاب المشتمل على الأحكام من المحللات والمحرمات، وعلى نعت محمد - ﷺ -، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير
﴿أُولَئِكَ﴾ الكاتمون لكتاب الله المتجرون به ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ من ثمنه ﴿إِلَّا النَّارَ﴾؛ أي: إلا الحرام الذي يكون سببًا لدخولهم النار يوم القيامة، وقد يكون (١) المعنى: إنه لا تملأ بطونهم إلا النار؛ أي: لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها، على نحو ما جاء في الحديث: "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب".
وهذا الحكم عام يصدق على علماء المسلمين الذين يعرضون عن السنن، ويظهرون البدع كما يصدق على غيرهم، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق، وخذلان أهل الباطل. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ بكلام لطف ورحمة ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: إن الله تعالى يعرض عنهم ويغضب عليهم، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا.. أعرضوا عن المغضوب عليهم، ولم يكلموهم، كما أنّهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.
﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾؛ أي: ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة، والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرون على كفرهم وكتمانهم ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: ولهؤلاء الكاتمين ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: شديد الألم والإيجاع، يخلص ألمه إلى قلوبهم.
١٧٥ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الكاتمون الذين جزاؤهم ما تقدم، هم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾؛ أي: أخذوها واختاروها لأنفسهم في الدنيا ﴿بِالْهُدَى﴾؛ أي: بدل الهدى ﴿و﴾
﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾؛ أي: فما (١) الذي صَبَّرهم، وأيُّ شيءٍ جسرهم وأجرأهم وأدومهم على عمل أهل النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ فهو استفهام بمعنى التوبيخ لهم، وقيل: إنه بمعنى التعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، فلما أقدموا على ما يوجب النار مع علمهم بذلك.. صاروا كالراضين بالعذاب، والصابرين عليه، فتعجب من حالهم بقوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ والمراد (٢) تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم.
١٧٦ - ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب المذكور مستحق لهم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: بسبب أن الله سبحانه وتعالى ﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: أنزل كتابه - التوراة - ببيان الحق الذي منه نعت محمد - ﷺ -، فكتموا وحرفوا ما فيه، وأرادوا ستر الحق وغلبته، والحق لا يغالب، فمن غالبه غُلِب.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾؛ أي: اختلفوا في تأويله ومعانيه، فحرفوها وبدلوها، وقيل: آمنوا ببعض وكفروا ببعض. ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾؛ أي: خلاف ومنازعة ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحق والصواب مستوجب لهم أشد العذاب.
(٢) شوكاني.
وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق، فالمختلفون لا يسلكون سبيلًا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن الكريم حيث قال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فلا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يكونوا شِيَعًا ومذاهب شتى كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ﴾ فإذا وجد خلاف في الفهم - وهو ضروري في طباع البشر - وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم حيث جعلوه مذاهب وطرائق شتى؛ لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجًا على أنّ ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلفوا فيه، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد زيدت تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿النَّاسُ﴾: صفة لـ ﴿أيّ﴾ تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾، أو بمحذوف حال من ﴿حَلَالًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، فأعربت حالًا. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿حَلَالًا﴾: مفعول به
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿كُلُوا﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد، والهاء اسمها، وإنما كَسَرَ (١) همزة ﴿إن﴾؛ لأنه تعالى أراد الإعلام بحاله، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه لو فتح الهمزة.. لكان التقدير: لا تتبعوه؛ لأنه عدو لكم، واتباعه ممنوع وإن لم يكن عدوًّا لنا، ومثله: لبيك إن الحمد لك والنعمة لك، فكسر الهمزة أجود فيه لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كل حال، والمراد بالشيطان هنا الجنس، فيشمل جميع شياطين الإنس والجن، وليس المراد به واحدًا. قاله أبو البقاء. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عدو﴾. ﴿عَدُوٌّ﴾: خبر إن. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة لـ ﴿عدو﴾، وجملة إن في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة.
﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيْطَانِ﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي في قوله ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا﴾. بـ ﴿السُّوءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾. ﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾: معطوف على ﴿بِالسُّوءِ﴾. ﴿وَأَن﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، و ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَقُولُوا﴾: فعل وفاعل، ومنصوب بأن. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُوا﴾، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على ﴿بِالسُّوءِ﴾، تقديره: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء، وبقولكم على الله.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمنة معنى الشرط. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة. ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: مقول محكي في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قِيلَ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وإن شئت قلت ﴿اتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾؛ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: أنزل الله. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب الشرط لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها وجوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب. ﴿نَتَّبِعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الكفار، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة محذوفة؛ تقديرها: قالوا لا نتبع ما أنزل الله، بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿نَتَّبِعُ﴾. ﴿أَلْفَيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿ألفى﴾. ﴿آبَاءَنَا﴾: مفعول أول ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير عليه.
﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾.
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)﴾.
﴿وَمَثَلُ﴾: ﴿الواو﴾ استثنائية، ﴿وَمَثَلُ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، ولكنه على حذف مضاف؛ إما من الأول تقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق، أو من الثاني تقديره: ومثل الذين كفروا كمثل مواشي الذي ينعق، كما مرت الإشارة إليه في قسم التفسير. ﴿يَنْعِقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَنْعِقُ﴾ ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَسْمَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿دُعَاءً﴾: مفعول به. ﴿وَنِدَاءً﴾: معطوف عليه. ﴿صُمٌّ﴾: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم صمّ. ﴿بُكْمٌ﴾: خبر ثان. ﴿عُمْيٌ﴾: خبر ثالث، والجملة الإسمية في محل الجر باللام
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يَا﴾ حرف نداء، ﴿كُلُوا﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾ تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾ وهو مضاف. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن رَزَقْنا بمعنى: أعطيَنْا، يتعدى لمفعولين، والثاني محذوف تقديره: رزقناكموه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. ﴿وَاشْكُرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿كُلُوا﴾. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اشكروا﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿إِيَّاهُ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿تَعْبُدُونَ﴾، وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾: في محل النصب خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبلها؛ تقديره: إن كنتم إياه تعبدون.. فاشكروا له، وجملة الشرط جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ كافة ومكفوفة؛ لا عمل لها، وهي أداة حصر. ﴿حَرَّمَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حرم﴾. ﴿الْمَيْتَةَ﴾: مفعول به. ﴿وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾: معطوفان عليه. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوف على ﴿الْمَيْتَةَ﴾. ﴿أُهِلَّ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة:
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
﴿فَمَنِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الله حرم عليكم الميتة وما بعدها، وأردتم بيان حكم من اضطر إليها.. فأقول لكم. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿اضْطُرَّ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿غَيْرَ﴾: منصوب على الحالية من نائب فاعل ﴿اضْطُرَّ﴾ ﴿غيرَ﴾: مضاف. ﴿بَاغٍ﴾: مضاف إليه. ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة. ﴿عَادٍ﴾: معطوف على باغٍ. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿لا﴾ نافية تعمل عمل إن. ﴿إِثْمَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأن هذه الجملة سيقت لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الرفع اسمها.
﴿يَكْتُمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مَا﴾: اسم موصول، أو
﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا يَأْكُلُونَ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُكَلِّمُهُمُ﴾. ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَأْكُلُونَ﴾. ﴿وَلَهُمْ﴾: الواو: عاطفة، ﴿لهم﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة له، والجملة الإسمية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَأْكُلُونَ﴾ على كونها خبر المبتدأ.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿اشْتَرَوُا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿الضَّلَالَةَ﴾: مفعول به. ﴿بِالْهُدَى﴾: متعلق بـ ﴿اشْتَرَوُا﴾. ﴿وَالْعَذَابَ﴾: معطوف على ﴿الضَّلَالَةَ﴾. ﴿بِالْمَغْفِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿اشْتَرَوُا﴾ أيضًا. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر، ﴿أنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿نَزَّلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿نَزَّلَ﴾، أو حال من ﴿الْكِتَابَ﴾، وجملة ﴿نَزَّلَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بواجب الحذف؛ لوقوعه خبر المبتدأ، تقديره: ذلك العذاب مستحق لهم بسبب تنزيل الله الكتاب، واختلافهم فيه، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، أو عاطفة، ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب اسم إن ﴿اخْتَلَفُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فِي الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَفُوا﴾. ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿في شقاق﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر إن. ﴿بَعِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿شِقَاقٍ﴾، والتقدير: لكائنون في شقاق بعيد، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة استئنافًا نحويًّا، أو معطوفة على جملة قوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ على كونها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿خُطُوَاتِ﴾: الخُطوات - بضم الخاء والطاء -: جمع خُطوة بضم الخاء، وأما على قراءة فتحهما: فجمع خَطوة بفتح الخاء، والفرق بين الخُطوة بالضم،
﴿أَلْفَيْنَا﴾: من ألفى يلفي الرباعي، ولامه واو لا ياء؛ لأن الأصل فيما جهل من اللامات أن يكون واوًا؛ لأنه أوسع وأكثر، فالرد إليه أولى. ذكره السمين.
﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يقال: نَعَق - بفتح العين - ينعِق - بكسرها - نعيقًا، ونُعاقًا بالضم، ونَعَقَانًا بفتحتين، والنعيق: نداء الراعي وتصويته بالغنم ليزجرها، ولا يقال: نعق إلا لراعي الغنم وحدها، وأما نعق الغراب: فبالمعجمة، وحكى بعضهم بالمهملة.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ جمع أصم وأبكم وأعمى، كحمر جمع أحمر.
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ الأصل في كلوا: أأكلوا، فالهمزة الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، إلا أنهم حذفوا الفاء، فاستغنوا عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها، والحذف هنا شاذ ليس بقياس، ولم يأت إلا في (كل) و (خذ) و (مر)، كما قال ابن مالك في لامية الأفعال:
وَشَذَّ بِالْحَذْفِ مُرْ وَخُذْ وَكُلْ وَفَشَا | وَأْمُرْ وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيْمُ خُذْ وَكُلاَ |
﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ والباغي: اسم فاعل من بغى يبغي فهو باغٍ، كقاضي فهو ناقص يائي، وهو من البغي وهو الظلم، والعادي: اسم فاعل من عدا يعدو إذا تجاوز الحد، والأصل: عادو، فقلبت ﴿الواو﴾ ياء لانكسار ما قبلها، كغاز من الغزو، فهو ناقص واوي، وهو من العدوان؛ وهو مجاوزة الحد.
﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ البطن معروف، وجمعه على فعول قياس، ويجمع أيضًا على بطنان، ويقال: بطن الأمر يبطن إذا خفي، وبطن الرجل، فهو بطين إذا كبر بطنه، والبطنة امتلاء البطن بالطعام، ويقال: البطنة تذهب الفطنة.
﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ استعارة (١) عن الاقتداء به واتباع آثاره؛ وهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعته فيما يأمر به، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله.
﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ فيه استعارة تصريحية تبعية، وتقريرها أن يقال: شُبِّه تزيِّنه وبعثه لهم على الشر تسفيهًا لرأيهم وتحقيرًا لشأنهم، يأمر من يأمر بشيءٍ، ثم اشتق من الأمر بمعنى التزيين، يأمر بمعنى يزين على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
﴿بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ هو من باب عطف الخاص على العام؛ لأن السوء يتناول جميع المعاصي، والفحشاء أقبح وأفحش المعاصي.
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فيه تشبيه مرسل لذكر الأداة فيه، ومجمل لحذف وجه الشبه فيه، فقد شبه الكفار بالبهائم التي تسمع صوت المنادي من غير أن تفقه كلامه وتفهم مراده.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ فيه تشبيه بليغ حذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه؛ أي: هم كالصم في عدم سماع الحق، وكالبكم والعمي في عدم الانتفاع بالقرآن.
﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ فيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جرى على الأسلوب الأول.. لقال: واشكرونا.
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ فيه قصر قلب للرد على من استحل هذه الأربعة، وحرم الحلال غيرها كالسوائب، ومع ذلك هو، أي: ما حرم عليكم إلا هذه الأربعة لا غيرها من البحيرة.
وفي قوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم، وتصويرهم بمن يتناول رضف جهنم، وذلك أفظع سماعًا وأشد إيجاعًا.
﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ فيه استعارة تصريحية تبعية، وتقريرها أن يقال:
﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ فيه مجاز بالحذف؛ أي: على عمل أهل النار.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ...﴾ الآية، وجه (١) مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا أمر في الآيات السابقة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، طال خوض أهل الكتاب في ذلك، وأنكروا على المسلمين التحول إلى الكعبة، ووقع الجدال بينهم وبين المسلمين، حتى بلغ أشده، وادعى كل من اليهود والنصارى أن الهدى مقصور على قبلته، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى، ولا يكون صاحبها متبعًا دين الأنبياء، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يقبلها الله إلا إذا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعًا.. فلأجل هذا بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين؛ لأنه إنما شرع لتذكير المصلي بأنه يناجي ربه ويدعوه وحده، ويعرض عن كل ما سواه، وليكون شعارًا لاجتماع الأمة على مقصد واحد، فيكون في ذلك تعويدهم في سائر
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ سيأتي لك إن شاء الله تعالى بيان مناسبتها لما قبلها في محل تفسيرها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ...﴾ الآية، قال عبد (١) الرزاق: أنبأنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قِبل المغرب، والنصارى قِبل المشرق، فنزلت: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ...﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلًا سأل النبي - ﷺ - عن البر؛ فأنزل الله هذه الآية: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا﴾، فدعا الرجل، فتلاها عليه، وكان في ابتداء الإِسلام قبل نزول الفرائض، إذا شهد الرجل أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلى إلى أي ناحية كانت، ثم مات على ذلك يرجى له، ويطمع له في خير، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، وكانت اليهود توجهت قِبَلَ المغرب، والنصارى قِبَلِ المشرق.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ...﴾ الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيَّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإِسلام بقليل، وكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العُدد والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرُّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم؛ فنزل فيهم: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٧٧ - ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ قرأ حمزة وحفص بنصب
وفي مصحف أُبي وعبد الله ﴿ليس البر بأن تولوا﴾ وخرج على زيادة الباء في خبر ﴿ليس﴾ وقال الأعمش في مصحف عبد الله أيضًا: ﴿لا تحسبن البر﴾ وكلاهما شاذ.
وهذا الخطاب (١) لأهل الكتاب؛ لأن النصارى تصلي قبل مشرق بيت المقدس، واليهود قبل مغربه، وادعى كل واحد من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله تعالى عليهم، وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما بينه الله، واتبعه المؤمنون، وقيل: الخطاب عام لهم وللمسلمين، أي: ليس البر مقصورًا بأمر القبلة، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: والبر اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله الموجبة للثواب، والمؤدية إلى الجنة، فهو معنى من المعاني، فلا يصح الإخبار عنه بالذوات إلا بتجوز، إما بحذف مضاف من الأول تقديره: ولكن ذا البر وصاحبه من آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ شذوذًا: ﴿ولكن البار﴾ بالألف بعد الباء الموحدة، أو من الثاني تقديره: ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن باللهِ، وهذا أوفق وأحسن، ويحتمل (٢) كون البر اسم فاعل، يقال: بررت أبر، فأنا برّ وبارّ، فبنى اسم فاعله
(٢) البيضاوي.
وقرأ نافع وابن عامر: ﴿ولكن﴾ بسكون النون خفيفة، ورفع ﴿البرُّ﴾، وقرأ الباقون بفتح النون مشددةً، ونصب ﴿الْبِرَّ﴾، ومضمون الآية: أن البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع هذه الأمور المذكورة في هذه الآية.
ومعنى الآية: ليس البر والخير العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر العظيم الذي يجب الاهتمام به بر من آمن بالله فالمراد بالبر هنا الإيمان بالله، والتقوى من الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
والحاصل: أن البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور ثمانية.
أحدها: الإيمان بالله، وذكره بقوله: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: صَدَّق بوجوده، وقدمه وبقائه، وربوبيته وألوهيته، وسائر صفاته، وإنما قدم الإيمان بالله؛ لأنه أساس كل بر، فأهل الكتاب أخلُّوا بذلك؛ لأن اليهود تقول: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فالإيمان (١) بالله لا يكون إلا إذا كان متمكنًا من النفس مصحوبًا بالإذعان والخضوع، واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)﴾ والإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطنة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله ودعوى التشريع، والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدًا ذليلًا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه.
وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وذكره بقوله: ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ أي: ولكن البرَّ برُّ مَنْ آمن باليوم الآخر؛ أي: صدق بمجيء يوم البعث والجزاء بعلم الموت
والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبي غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها فحسب.
وثالثها: الإيمان بالملائكة، وذكره بقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةِ﴾؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالملائكة؛ أي: صدق بوجودهم، وأنهم عباد الله لا يعصون ما أمرهم، فاليهود أخلوا بذلك حيث أظهروا عدواة جبريل عليه السلام، فالإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، والنبوة، واليوم الآخر، فمن أنكرهم أنكر كل ذلك؛ لأن ملك الوحي هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين، كما قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾. وقال أيضًا: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)﴾.
ورابعها: الإيمان بكتب الله، وذكره بقوله: ﴿وَالْكِتَابِ﴾؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن وصدق بكتب الله المنزلة من السماء، فاليهود والنصارى قد أخلوا بذلك حيث لم يقبلوا القرآن، فالإيمان بالكتب السماوية التي جاءت بها الأنبياء يستدعي امتثال ما فيها من أوامر ونواه؛ إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع.. توجهت نفسه إلى قبوله والعمل به، ومن اعتقد أنه ضار.. ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.
وخامسها: الإيمان بالنبيين، وذكره بقوله: ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالنبيين؛ أي: صدق بنبوتهم وصحة ما جاؤوا به عن الله من الشرائع، فاليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء، وطعنوا في نبوة محمد - ﷺ -.
والإيمان بالنبيين يستدعي الاهتداء بهديهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم.
وقد جاء في "الصحيحين": أن جماعة من أمته - ﷺ - يردون الحوض يوم القيامة، فيذادون عنه؛ أي: يطردون دونه، فيقول: "أمتي"، فيقال: إنك لا تدري
وإنما خص الإيمان (١) بهذه الأمور الخمسة؛ لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها.
وقدم الإيمان (٢) بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن المكلف له مبدأ ووسط ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط: فلا تتم إلا بالرسالة؛ وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول.
وقدم الإيمان على أفعال الجوارح، وهو إيتاء المال والصلاة والزكاة؛ لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان، وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان حصلت حقيقة الإيمان.
فإن قلتَ: لِمَ قدم هنا ذكر اليوم الآخر وأخَّره في قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؟
قلتُ: إنما قدمه هنا وأخره هناك؛ لأجل أن الكافر لا يحرف الآخرة ولا يعتني بها، وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده، فلذلك أخره هناك، ولما ذكر هنا حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى، ثم أمر الآخرة قدم ذكره هنا تنبيهًا على أن البر مراعاة الله، ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما.
وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى، واليهود أخلوا بذلك؛
(٢) الخازن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" متفق عليه؛ أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته إياه ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: أصحاب قرابة المعطي؛ المحاويج منهم، وآثرهم به على نفسه، وإنما قيدناهم بالفقراء والمحاويج منهم؛ إذ الإعطاء للأغنياء هدية لا صدقة، كما ذكره الكرخي.
وإنما قدمهم على من بعدهم؛ لأنهم أحق بالإعطاء، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة" أخرجه النسائي.
وعن ميمونة زوج النبي - ﷺ - رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة - أي: جارية - ولم تستأذن النبي - ﷺ -، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: "أوقد فعلت"؟ قالت: نعم. قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" متفق عليه.
والمراد بذوي القربى كل من بينه وبين المعطي قرابة بولادة، ولو كان غير محرم. ﴿وَالْيَتَامَى﴾؛ أي: وأعطى يتامى المسلمين؛ يعني: الصغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب؛ لأنهم في حاجة إلى معونة ذوي اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم، وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررًا على أنفسهم وعلى الناس. ﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾؛ أي: وأعطى المحاويج الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم،
وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "أعطوا السائل ولو جاء على فرسٍ" أخرجه مالك في "الموطأ"، وعن أم نجيد رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئًا أعطيه إياه. قال: "إن لم تجدي إلا ظلفًا محرقًا فادفعيه إليه في يده" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾: معطوف على المفعول الأول، وهو ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: وأعطى المال ودفعه في فك الرقاب وتحريرها وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم. والمكاتَب: هو الرقيق الذي يشتري نفسه من مولاه بثمنٍ يجعله منجمًا بنجمين فأكثر.
والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بملك نصاب محدود من المال، ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى طاقة المعطي وحال المعطى، وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حثَّ عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العام بين المسلمين، ولو أدوها..
وسابعها: إقامة الصلاة وأداء الزكاة، فاليهود كانوا يمنعون الناس منهما، وذكره بقوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ المفروضة؛ أي: أداها في أوقاتها المحدودة لها. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾؛ أي: وأعطى الزكاة المفروضة في مصارفها المبينة شرعًا، وقوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ معطوف على ﴿آمَنَ﴾ على كونها صلة لـ ﴿مَنْ﴾؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله، وبر من أقام الصلاة وآتى الزكاة.
والمرادُ بإقامة الصلاة: أداؤها على أقوم وجه، ولا يستحق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون ذلك بوجود سرِّ الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلي المصلي بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشةً ولا منكرًا.
وقلما تجيء (١) الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة، وذلك لأن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أعمال البر، ومن ثم أجمع الصحابة على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله - ﷺ -؛ لأن مانعها يهدم ركنًا من أركان الإِسلام، وينقض أساس الإيمان، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه سبعين مرة.
وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد، وذكره بقوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ معطوف على ﴿مَنْ آمَنَ﴾ على كونه خبر ﴿لكِنِ﴾؛ أي: ولكن البرَّ المؤمنون بالله، واليوم الآخر، والموفون بعهدهم؛ أي: ولكن البرَّ برُّ المؤمنين بالله، وبر الموفين بعهدهم؛ أي: المتمِّين بعهدهم فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس. ﴿إذا عَاهَدُوا﴾ الله أو الناس، يعني: إذا وعدوا أنجزوا، وإذا نذروا أوفوا، وإذا حلفوا برّوا في أيمانهم، وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم، وإذا ائتمنوا أدوا.
وفي مصحف عبد الله (٢): ﴿والموفين﴾ نصبًا على المدح وهي قراءة شاذ شذوذًا، وقرأ الجحدري ﴿بعهودهم﴾ على الجمع، ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾: مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: وأمدح الصابرين. ﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾؛ أي: عند الشدة والفقر والفاقة. ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾؛ أي: وعند التفسير من مرض، وفقد أهل وولد ومال. ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾؛ أي: وفي وقت شدة القتال في سبيل الله، وكثرة الضرب والطعان، ومنازلة الأقران.
إنما خص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال؛ لأن من صبر فيها.. كان في غيرها أصبر، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولًا الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض؛ وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال، وهو أشد من الفقر والمرض.
وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب شذوذًا: ﴿والصابرون﴾ عطفًا على ﴿الموفون﴾، وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمر البأس.. نتَّقي به، وإن الشجاع منّا الذي يُحاذي به؛ يعني: النبي - ﷺ - متفق عليه، قوله: احمر البأس؛ أي: اشتد الحرب، ونتقي به؛ أي: نجعله وقاية لنا من العدو، ﴿أُولَئِكَ﴾
(٢) المراغي.
وقال بعض العلماء: مَنْ عمل بهذه الآية.. فقد كل إيمانه، ونال أقصى مراتب إيقانه.
١٧٨ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أنه لما حلل ما حلل من قبل، وحرم ما حرم، ثم أتبع بذكر من أخذ مالًا من غير وجهه، وأنه ما يأكل في بطنه إلا النار، واقتضى ذلك انتظام جيع المحرمات من الأموال، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها.. أخذ يذكر تحريم الدماء، ويستدعي بحفظها وصونها، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها، ونبه على جواز أخذ مالٍ بسببها، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص؛ لعموم البلوى بالمأكول؛ لأن به قوام البنية، وحفظ صورة الإنسان، ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة؛ لأن من كان يندر منه وقوع القتل.. فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك، وكان تقديم ذكر ما تعم به البلوى أهم، ونبه أيضًا على أنه وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر، فليس ذلك مخرجًا له عن البر، ولا عن الإيمان، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾؛ أي: يا أيها الذين آمنوا، وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - كتب عليكم القصاص في اللوح المحفوظ، وفرض عليكم في سابق علمي استيفاء القصاص من القاتل: ﴿الْقَتْلَى﴾؛ أي: بسبب قتل، القتلى: جمع قتيل بمعنى: مقتول بغير
إذا اتبعه، فالمفعول به يتبع ما فعل به، فيفعل به مثل ذلك، والمعنى: فرض عليكم المساواة والعدل في القصاص بسبب القتل عند مطالبة الولي بالقصاص، لا كما يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، ثم فسر المساواة بقوله: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾؛ أي: يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حرٌّ حرًّا.. قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها، ولا يقتل الحر بالعبد. ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾؛ أي: يؤخذ العبد ويقتل بالعبد، وبالحر من باب أولى، وبينت الأحاديث: أنه يقتل أحد النوعين الذكر والأنثى بالآخر، ويعتبر أن لا يفضل القاتل القتيل بالدين، والأصلية، والحرية.
ومعنى الآية (٢): أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين، أو العبيد من المسلمين، أو الأحرار من المعاهدين، أو العبيد منهم: فيُقتل كل صنف إذا قَتَل بمثله؛ الذكر بالذكر وبالأنثى، والأنثى بالأنثى وبالذكر، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا حر بعبد، ولا والد بولد، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، ويدل عليه ما روى البخاري في "صحيحه" عن جحيفة قال: سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم من النبي - ﷺ - شيء سوى القرآن؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفك
(٢) الخازن.
والخلاصة (١): أن القصاص على القاتل أيًّا كان، لا على أحد من قبيلته، ولا على فرد من أفراد عشيرته.
قال البيضاوي في "تفسيره": كان بين حيّين من العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول - أي فضل وشرف - على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد منا، والذكر بالأنثى، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله - ﷺ -؛ فنزلت الآية، وأمرهم أن يتبارؤوا؛ أي: يتساووا.
وقد جرى العمل من لدن رسول الله - ﷺ - على قتل الرجل بالمرأة، وبعد أن ذكر وجوب القصاص؛ وهو أساس العدل.. ذكر هنا العفو؛ وهو مقتضى التراحم والفضل، فقال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾؛ أي: فالقاتل الذي ترك له ﴿مِنْ﴾ دم ﴿أَخِيهِ﴾ المقتول ﴿شَيْءٌ﴾ من العفو، ولو يسيرًا، كأن عفى بعض أولياء الدم - ولو واحد. فيما إذا تعددوا.. سقط عنه القود ووجبت الدية إن حصل العفو عليها ﴿فـ﴾ حينئذٍ وجب على العافي الذي هو ولي الدم ﴿اتباع﴾ القاتل ومطالبته ﴿بـ﴾ الدية على الوجه ﴿المعروف﴾ شرعًا؛ وهو أن يطالبه بالمال من غير تشديد عليه ولا عنف، ولا يطالبه بأكثر من حقه، ويأخذه منه في ثلاث سنين إن كانت دية تامة، أو في سنتين إن كان ثلثي الدية أو نصفًا، وإن كان ثلثها ففي عامه، ﴿و﴾ على القاتل المطلوب بالمال ﴿أداء﴾؛ أي: تأدية المال ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى الولي العافي ﴿بِإِحْسَانٍ﴾؛ أي: بسهولة من غير مماطلة ولا تسويف ولا بخس، بل بطيب نفس، وطلاقة وجه، وقول جميل. ﴿ذَلِكَ﴾ الحكم الذي شرعناه لكم من جواز العفو على الدية ﴿تَخْفِيفٌ﴾؛ أي: تسهيل ورخصة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ منه للقاتل بسلامته من القتل؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى شرع لهذه الأمة المحمدية
﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ على القاتل من أولياء الدم، وظلمه باقتصاصه منه ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بعد عفوه، وأخذه الدية ﴿فَلَهُ﴾؛ أي: فلذلك المعتدي ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: شديد الألم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بأن يقتل لا محالة، ولا يقبل منه الدية، كما روي (١) عنه - ﷺ - أنه قال: "لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذه الدية".
١٧٩ - وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر.. أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص؛ لأن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة في العمل به، فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي﴾ مشروعية ﴿الْقِصَاصِ﴾ والقتل بقاءٌ و ﴿حَيَاةٌ﴾ هنيئة لكم وصيانة لأنفسكم من اعتداء بعضكم على بعض؛ لأن من علم أنه إذا قتل نفسًا يُقتل بها.. يرتدع عن القتل، فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع؛ إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه، وعبارة "الخازن": ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ هذا الحكم غير مختص بالقصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه جميع الجروح، والشجاج، وغير ذلك؛ لأن الجارح إذا علم أنه إذا جَرَحَ جُرِح.. لم يَجْرح، فيصير ذلك سببًا لبقاء الجارح، وربما أفضت الجراحة إلى الموت؛ فيقتص من الجارح. انتهى.
ولما كان القصاص حياةً لكم.. كتبناه عليكم، وشرعناه لكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ أي: لكي تتقون الاعتداء، وتكفون عن سفك الدماء، وتنتهون عن القتل مخافةَ القصاص؛ لأن العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص، ولا يريد إتلاف نفسه بتلاف غيره.
١٨٠ - ولما كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل؛ وهو ضَرْبٌ من ضروب الموت.. ناسب أن يذكر ما يطلب ممن يحضره الموت من الوصية، فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: فرض عليكم يا معشر المؤمنين ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾؛ أي: إذا حضرته ونزلت به أسباب الموت، وعلله، ومقدماته، والأمراض المخوفة ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾؛ أي: مالًا كثيرًا كان، أو قليلًا ﴿الْوَصِيَّةُ﴾ مرفوع بـ ﴿كُتِبَ﴾؛ أي: كتب عليكم الإيصاء ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾؛ أي: للأبوين وإن عليا ﴿و﴾ لو ﴿الأقربين﴾ غيرهما، وهو من عطف العام على الخاص.
كانت الوصية في ابتداء الإِسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال، وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلبًا للفخر والشرف والرياء، ويتركون الأقربين فقراء، فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث، وبما روي عن عمرو بن خارجة رضي الله عنه قال: كنت آخذ بزمام ناقة النبي - ﷺ - وهو يخطب فسمعته يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" أخرجه النسائي، وللترمذي نحوه.
وهي مستحبة في حق من لا يرث، ويدل على استحباب الوصية، والحث عليها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - ﷺ - قال: "ما حُقَّ لامرىء مسلم له شيء يوصي فيه - وفي رواية: له شيء يريد أن يوصي به - أن
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، فلا يزيد على الثلث، ولا يوصي للغني ويدع الفقير. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله - ﷺ - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله إن بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير - أو قال والثلث كبير - إنك أن تذر ذريتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه. والعالة: الفقراء.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال في الوصية: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي - ﷺ - قال لسعد: والثلث كثير. متفق عليه.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أن أوصي بالثلث، فمن أوصى بالثلث.. فلم يترك. وقيل: يوصي بالسدس أو بالخمس أو بالربع.
﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: حق ذلك الإيصاء حقًّا على المؤمنين الذين يتقون الشرك، ويمتثلون أوامري، وثبت ذلك عليهم ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب، أو ثبوت وجوب، لكنه منسوخ.
١٨١ - ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾؛ أي: فمن غيّر ذلك الإيصاء من الأولياء، أو الأوصياء، أو الشهود؛ إما بإنكار الوصية من أصلها، أو بالنقص فيها، أو بتبديل صفتها، أو بكتمان الشهادة، وإنما ذكر الضمير في ﴿بَدَّلَهُ﴾ مع أن الوصية مؤنث؛ لأن الوصية بمعنى الإيصاء كقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾؛ أي: وعظ؛ أي: فمن بدل قول الميت الموصي، أو ما أوصى به ﴿بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾؛ أي: بعدما سمع ذلك
١٨٢ - ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح، وإزالة التنازع، فقال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ قرأه شعبة وحمزة والكسائي ﴿مُوَصٍّ﴾ بفتح ﴿الواو﴾ وتشديد الصاد من وصَّى المضَعَّف، وقرأ الباقون: ﴿مُوصٍ﴾ من أوصى، وهما لغتان؛ أي: فمن علم من ميت موص ﴿جَنَفًا﴾؛ أي: خطأ في الوصية من غير عمد، وميلٍ عن الحق فيها جهلًا كأن يوصي لبعض ورثته، أو يوصي بماله كله خطأ، وقرأ الجمهور ﴿جَنَفًا﴾ بالجيم والنون، وقرأ علي شذوذًا ﴿حيفا﴾ بالحاء والياء ﴿أَوْ إِثْمًا﴾؛ أي: ميلًا عن الحق في الوصية عمدًا وعِلمًا ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ بعد موت الموصي معطوف على محذوف؛ تقديره: أي فتنازعت الورثة والموصى لهم في المال الموصى به، فتوسط بينهم من علم ذلك، وأصلح بينهم؛ أي: فعل ما فيه الصلاح بينهم بتبديل هذا الجنف أو الإثم برده الوصية إلى الثلث مثلًا. ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: فلا حرج ولا ذنب على هذا المصلح الذي أزال الجنف أو الإثم في هذا التبديل؛ لأنه تبديل باطل بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، فهو ليس بمبدل آثم، بل هو متوسط للإصلاح، وليس عليه إثم بخلاف الأول، وقلما يكون الإصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئًا مما يرونه حقًّا لهم، والظاهر (١) أن هذا المصلح هو الوصي والشاهد، ومن يتولى بعد موته ذلك من وال، أو ولي، أو من يأمر بالمعروف، فكل هؤلاء يدخل تحت قوله: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي، ودلت (٢)
(٢) الفخر الرازي.
ومعنى الآية (١): أن الميت إذا أخطأ في وصيته، أو جار فيها متعمدًا.. فلا إثم على من علم ذلك أن يغيره، ويرده إلى الصلاح بعد موته، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والربيع.
وقيل هذا (٢): في حال حياة الموصي، فالمعنى حينئذ: فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع، فنهاه عن ذلك، وحمله على الصلاح.. فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولًا.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - ﷺ - قال: إن الرجل والمرأة ليعملان بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار"، ثم قرأ أبو هريرة: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾: إلى قوله: ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾: أخرجه أبو داود والترمذي، قوله: فيضاران (٣) المضارة: إيصال الضرر إلى شخص، ومعنى المضارة: الوصية أن لا تمضي، أو ينقص بعضها، أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف في الوصية، ونحو ذلك.
الإعراب
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿الْبِرَّ﴾: بالنصب خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم على
(٢) نسفي.
(٣) الخازن.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾.
﴿وَلَكِنَّ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿الْبِرَّ﴾: اسمها. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، ولكنه على حذف مضاف كما سبق في محل التفسير. ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد ضمير الفاعل وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة ﴿لَيْسَ﴾ على كونها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾. ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة ﴿الْآخِرِ﴾ مضاف إليه. ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ معطوفات على ﴿اليوم﴾.
﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾.
﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿آتى المال﴾: فعل ومفعول أول، أو ثان مقدم على الأول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾ على كونها صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آتَى﴾، أو بمحذوف حال من فاعل ﴿آتَى﴾. ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾: مفعول ثانٍ، أو أول، ومضاف إليه. ﴿وَالْيَتَامَى﴾، وكذا ﴿وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ﴾: معطوفات على ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾: جار ومجرور في محل النصب معطوف على ﴿ذَوِي﴾؛ أي (١): وآتى المال في الرقاب؛ أي: دفعه
﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.
﴿وَأَقَامَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿أقام﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾ على كونها صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة معطوفة أيضًا على جملة ﴿آمَنَ﴾.
﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾.
﴿وَالْمُوفُونَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿الموفون﴾: معطوف على ﴿مَنْ آمَنَ﴾ على كونه خبر ﴿لكن﴾؛ أي: ولكن البر المؤمنون بما ذكر. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: وهم الموفون ﴿بِعَهْدِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿الموفون﴾. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية. ﴿عَاهَدُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿الموفون﴾ والتقدير: والموفون بعهدهم وقت معاهدتهم مع الله، أو مع الناس.
﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
﴿وَالصَّابِرِينَ﴾: الواو: استئنافية، ﴿الصابرين﴾: منصوب على المدح بفعل محذوف؛ تقديره: وأمدح الصابرين، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿الصابرين﴾. ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: معطوف على ﴿الْبَأْسَاءِ﴾. ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾. ظرف ومضاف إليه، والظرف معطوف على الجار والمجرور قبله على كونه متعلقًا بـ ﴿الصَّابِرِينَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿صَدَقُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: الواو: عاطفة، ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائدة. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿أَيّ﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ﴿كُتِبَ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة. ﴿عَلَيْكُمُ﴾: متعلق به. ﴿الْقِصَاصُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي الْقَتْلَى﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كُتِبَ﴾. ﴿الْحُرُّ﴾: مبتدأ. ﴿بِالْحُرِّ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: الحر مأخوذ بالحر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿وَالْعَبْدُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿الْعَبْدُ﴾: مبتدأ. ﴿بِالْعَبْدِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ تقديره: العبد مأخوذ بالعبد، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾. ﴿وَالْأُنْثَى﴾: مبتدأ. ﴿بِالْأُنْثَى﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: والأنثى مأخوذة بالأنثى، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾.
﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾.
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن القصاص مكتوب عليكم، وأردتم بيان حكم ما إذا عفي عنه.. فأقول لكم ﴿من عفي له﴾، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله، ويصح كونها موصولة. ﴿عُفِيَ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عُفِيَ﴾. ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال مقدم على صاحبها، وهو ﴿شَيْءٌ﴾؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، فينصب حالًا. ﴿شَيْءٌ﴾: نائب فاعل لـ ﴿عُفِيَ﴾.
﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا، أو رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا إن كانت ﴿من﴾ موصولة ﴿اتباع﴾: خبر لمحذوف جوازًا؛ تقديره: فالواجب اتباع. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: متعلق بـ ﴿اتِّبَاعٌ﴾، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَأَدَاءٌ﴾: معطوف على ﴿اتباع﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أداء﴾. ﴿بِإِحْسَانٍ﴾: متعلق أيضًا بـ ﴿أداء﴾، ويجوز أن يكون حالًا من الهاء كما ذكره العكبري. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿تَخْفِيفٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿تَخْفِيفٌ﴾. ﴿وَرَحْمَةٌ﴾: معطوف على ﴿تَخْفِيفٌ﴾.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿فَمَنِ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا عفي عن القصاص، وأردتم بيان حكم من اعتدى بعد ذلك.. فأقول لكم: ﴿من اعتدى﴾: ﴿من﴾: اسم شرط جازم، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح، أو الجملة الآتية إن كانت موصولة. ﴿اعْتَدَى﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اعْتَدَى﴾. ﴿فَلَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية، ﴿له﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، أو خبر ﴿من﴾ الموصولة، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)﴾.
﴿وَلَكُمْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِي الْقِصَاصِ﴾: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله. ﴿حَيَاةٌ﴾:
﴿يَا أُولِي﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أُولِي﴾: منادى مضاف بالياء المحذوفة. ﴿الْأَلْبَابِ﴾: مضاف إليه. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف نصب وتعليل بمعنى كي، و ﴿الكاف﴾: اسمها، وجملة ﴿تَتَّقُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف؛ تقديره: وإنما شرعنا لكم القصاص لكي تتقون القتل والاعتداء.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)﴾.
﴿كُتِبَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، أو شرطية وجوابها معلوم مما قبلها. ﴿حَضَرَ﴾: فعل ماضٍ. ﴿أَحَدَكُمُ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿الْمَوْتُ﴾: فاعل ﴿حَضَرَ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿كُتِبَ﴾؛ تقديره: كتب عليكم أن يوصي أحدكم وقت حضور الموت له ﴿إِنْ تَرَكَ﴾ ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿تَرَكَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾: على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدَكُمُ﴾. ﴿خَيْرًا﴾: مفعول به، وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبلها؛ تقديره: إن ترك خيرًا.. كتب عليكم الوصية، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل ونائبه. ﴿الْوَصِيَّةُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿كُتِبَ﴾، وجملة ﴿كُتِبَ﴾ من الفعل المغيّر ونائب فاعله. مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من
﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)﴾.
﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنه كتب عليكم الإيصاء، وأردتم بيان حكم من بدله.. فأقول لكم ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح كما مر مرارًا ﴿بَدَّلَهُ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿بعد﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿بَدَّلَ﴾. ﴿ما﴾ مصدرية، أو موصولة في محل الجر مضاف إليه. ﴿سَمِعَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، و ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ تقديره: فمن بدل ذلك الإيصاء بعد سماعه ذلك الإيصاء، أو صلة ﴿ما﴾ الموصولة؛ تقديره: فمن بدل ذلك الإيصاء بعد الإيصاء الذي سمعه ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا ﴿إنما﴾: أداة حصر. ﴿إِثْمُهُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿يُبَدِّلُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن من بدله آثم، وأردتم بيان حكم من خاف من موص جنفًا.. فأقول لكم: ﴿من خاف﴾ ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. ﴿خَافَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿مِنْ مُوصٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خاف﴾ ﴿جَنَفًا﴾: مفعول به. ﴿أَوْ إِثْمًا﴾: معطوف عليه. ﴿فَأَصْلَحَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أصلح﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم، معطوف على خاف، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بأصلح. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿إِثْمَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾ من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ﴾: قِبَل ظرف مكان، تقول: زيد قِبَلَك؛ أي: في المكان الذي هو مقابلك، وقد يتوسع فيه، فيكون بمعنى العندية المعنوية، تقول: لي قبل زيد دين؛ أي: عنده.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ وفي "السمين" (١): في هذه الجملة أربعة أوجه:
الثاني: أن الكلام على حذف مضاف من الأول؛ تقديره: ولكن ذا البرِّ مَنْ آمن.
الثالث: أن الكلام على حذف مضاف من الثاني؛ تقديره: ولكن البرَّ برُّ مَنْ آمن.
الرابع: أن المصدر الذي هو البر - بالكسر - بمعنى اسم الفاعل الصريح الذي هو ﴿البار﴾، ويؤيده القراءة، الشاذة أيضًا.
﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ والحب: مصدر حَبه يحِبه - بفتح الباء وكسر الحاء - حبًّا لغة في أحبه يُحِبه بضم الياء وكسر الحاء، ويجوز أن يكون مصدرًا للرباعي على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر لأحب الرباعي، ومصدره الأحباب.
﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ (١) والرقاب: جمع رقبة، والرقبة مؤخر العنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم، ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال أعتق الله عنقه؛ لأنها لما سميت رقبة كانت كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رقوب لأجل مراعاتها موت ولدها. قال في "المنتخب": وفِعال جمعٌ يطَّرد في فَعَلَة سواء كانت اسمًا نحو رقبة ورقاب، أو صفة نحو حسنة وحسان، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته.
﴿فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ اسمان مشتقان من ﴿البُؤس﴾ بضم الباء و ﴿الضُر﴾
﴿الْقِصَاصُ﴾: مصدر قاصّ يُقاصّ مُقَاصَّةً وقِصَاصًا، نحو قاتل يقاتل مقاتلةً وقتالًا، والقصاص: مقابلة الشيء بمثله، ومنه قتل من قُتِل بالمقتول. ﴿فِي الْقَتْلَى﴾: جمع ﴿قتيل﴾ بمعنى: ﴿مقتول﴾ يستوي فيه المذكر والمؤنث، كجَرْحَى جمع (جريح)، وفعلى ينقاس في جمع فعيل بمعنى مفعول. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾: ﴿الْحُرُّ﴾: معروف، تقول: حر الغلام يحر حرية - من باب منع - إذا عتق، يجمع على أحرار كمر وأمرار، وهو غير مقيس، والأنثى حرة، وتجمع على حرائر.
﴿الأنثى﴾: معروف، وهي فعلى، والألف فيه للتأنيث، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل المرأة، ويقال للخصيتين: أنثيان، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث، ولا تكون للإلحاق؛ لفقد فعلل في كلامهم. ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ﴾ و (الأداء): اسم مصدر بمعنى التأدية، يقال: أديت الدين - أداء وتأدية - إذا قضيته. ﴿أولوا الألباب﴾: ﴿أولو﴾ هو من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجر والنصب بالياء، ومعنى ﴿أولو﴾: ﴿أصحاب﴾، ومفرده من غير لفظه؛ وهو (ذو) بمعنى صاحب. ﴿الْأَلْبَابِ﴾: جمع لُبّ؛ وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك؛ إما لبنائه من قولهم: ألب بالمكان ولب به إذا أقام، وإما من اللباب؛ وهو الخالص، وهذا الجمع مطرد، أعني أن يجمع فعل ما على أفعال.
﴿الْوَصِيَّةُ﴾ والوصية: تبرع مضاف لما بعد الموت، وهي: إما مصدر سماعي، أو اسم مصدر لوصى توصيةً ووصية، أو أوصى إيصاءً ووصيةً. ﴿جَنَفًا﴾ الجنف: الجور، وهو مصدر لجنف بكسر النون - من باب فَرِح - يَجْنَف جَنَفًا، فهو جَنِف وجانف، ويقال: أجنف الرجل إذا جاء بالجنف، كما يقال: ألاَمَ الرجل إذا أتى بما يلام عليه، وأخَسَّ الرجل إذا أتى بخسيس.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ جعل البر نفس من آمن على طريق المبالغة، وهذا معهود في كلام البلغاء، كقولهم السَّخاءُ حاتم، والشِّعرُ زهير؛ أي: إن السخاءَ سخاءُ حاتمٍ، والشعرَ شعرُ زهير.
﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ فيه إيجاز بالحذف؛ أي: وفي فك الرقاب؛ أي: في فداء الأسرى والمكاتبين، وفي لفظ ﴿الرقاب﴾ مجاز مرسل حيث أطلق الرقبة، وأراد به النفس، وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ منصوب على الاختصاص؛ أي: وأخص الصابرين بالذكر، وإنما لم يؤت به مرفوعًا كقوله: والموفون بأن يقال: والصابرون تنبيهًا على فضيلة الصبر، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله من حيث المعنى. قال أبو علي: إذا ذكرت صفات للمدح أو الذم، وخولف الإعراب في بعضها.. فذلك تفنن، ويسمى قطعًا؛ لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور، ومزيد اهتمام بشأنه.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾: مبتدأ وخبر، وأتى بخبر ﴿أُولَئِكَ﴾ الأول موصولًا، وصل بفعل ماضٍ، إشعارًا بتحقق اتصافهم بالصدق، وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وأتى بخبر ﴿أُولَئِكَ﴾ الثاني موصولًا، وصل بجملة اسمية ليدل على الثبوت، وأنه ليس متجددًا، بل صار كالسجية لهم، ومراعاة للفاصلة أيضًا. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ من باب الإلهاب والتهييج.
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ قال أبو السعود: فيه بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته، حيث جعل الشيء؛ وهو القصاص محلًّا لضده؛ وهو الحياة، ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعًا من الحياة عظيمًا، لا يبلغه الوصف.
وبَيْنَ قوله: ﴿اتباع﴾ و ﴿أداء﴾ وكذا بين قوله: ﴿الحر﴾ و ﴿العبد﴾ الطباق.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)﴾.
المناسبة
مناسبة (١) هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى أخبر أولًا بكتب القصاص؛ وهو إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانيًا بكتب الوصية، وهو إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثًا إلى كتب الصيام؛ وهو منهك للبدن مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار؛ فابتدأ بالأشق ثم بالأشقّ بعده ثم بالشاق، فهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة الإيمان والصلاة والزكاة فأتى بهذا الركن الرابع؛ وهو الصوم، ونادى
أسباب النزول
قوله (١) تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ...﴾ الآية، أخرج ابن سعد في "طبقاته" عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾: فأفطر وأطعم لكل يوم مسكينًا.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي...﴾ الآية، عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - ﷺ -، فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه، فسكت عنه؛ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ...﴾ الآية.
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: سأل أصحاب محمد - ﷺ - النبي - ﷺ - أين ربنا؟ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...﴾ الآية. مرسل، وله طرق أخرى.
وأخرج ابن عساكر عن علي قال: قال رسول الله - ﷺ -:"لا تعجزوا عن الدعاء فإن الله أنزل علي: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ " فقال رجل: يا رسول الله، ربنا يسمع الدعاء، أم كيف ذلك؟ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾.
روى البخاري رحمه الله عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب
وفي لفظ له في كتاب "التفسير": لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم؛ فأنزل الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
وظاهر الروايتين التغاير، لكن لا مانع من أن تكون نزلت في هؤلاء وفي هؤلاء.
وروى أبو داود، وأحمد، والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كانوا يأكلون ويشربون، ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلًا من الأنصار - يقال له: قيس بن صرمة - صلى العشاء، ثم نام، فلم يأكل، ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح مجهودًا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي - ﷺ -، فذكر ذلك له، فأنزل الله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ هذا الحديث مشهور عن ابن أبي ليلى، عن معاذ لكنه لم يسمع من معاذ، وله شواهد كما أخرجه البخاري عن البراء.
وأخرجه أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى، فنام.. حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي - ﷺ -، وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: ما نمت، ووقع عليها، وصنع كعب مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي - ﷺ - فأخبره، فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ..﴾ الآية، أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان الرجل إذا اعتكف، فخرج من المسجد: جامع إن شاء، فنزلت: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٨٣ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدَّقوا بما جاء به محمد - ﷺ -، وناداهم بالإيمان تنبيهًا لهم على استماع ما يلقى إليهم من هذا التكليف. ﴿كُتِبَ﴾؛ أي: فرض ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾؛ أي: صيام شهر رمضان ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: كتب عليكم كتابته على الذين سبقوا من قبلكم من الأنبياء وأممهم، من لدن آدم إلى عهدكم هذا، لكن لا كصومنا من كل وجه، فالتشبيه في الفرضية لا الكيفية والثواب.
والمعنى: أن الصوم عبادة قديمة؛ أي: في الزمن الأول ما أخلى الله أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم، وأنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تَعَبَّد من كان قبلكم به. وحكمة ذكر التشبيه: التأكيد في الأمر والتسلي بمن كان قبلنا، وذلك لأن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عمَّ سهل عمله.
والصومُ لغةً: الإمساك عن الشيء، ولو عن الكلام كما في قول مريم: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾؛ أي: صمت، وشرعًا: الإمساك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما في وقت مخصوص، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية مخصوصة؛ وهي نية التقرب إلى الله تعالى. قال (١) الراغب: للصوم
وقيل (١): إن صيام شهر رمضان كان واجبًا على النصارى كما فرض علينا، فصاموا رمضان زمانًا، فربما وقع في الحر الشديد والبرد الشديد، وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم أن يجعلوه في فصل من السنة معتدل بين الصيف والشتاء، فجعلوه في فصل الربيع، ثم زادوا فيه عشرة أيام كفارةً لما صنعوا، فصاموا أربعين يومًا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه، فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعًا، فبرأ، فزاد فيه أسبوعًا، ثم مات ذلك الملك بعد زمان ووليهم ملك آخر، فقال: ما شأن هذه الثلاثة أيام؟ أتموها خمسين يومًا، فأتموه، وقيل: أصابهم موتان، فقالوا: زيدوا في صيامكم، فزادوا عشرًا قبله وعشرًا بعده.
وقيل: كان النصارى أولًا يصومون، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا ثم انتبهوا، وكان ذلك في أول الإِسلام، ثم نسخ بسبب عمر وقيس بن صرمة كما مر. واختلف (٢) المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل: هو قدر الصوم ووقته، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان، فغيروا، وقيل: هو الوجوب فإن الله وجب على الأمم الصيام، وقيل: هو الصفة؛ أي: ترك الأكل والشرب، ونحوهما في وقت، فعلى الأول معناه: أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني: أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم وعلى الثالث: أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ أي: لكي تخافون عقاب الله بصومكم وترككم للشهوات، فالرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في غيرهما، والاتقاء
(٢) شوكاني.
١٨٤ - صوموا ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾؛ أي: أيامًا مقدرات بعدد معلوم ثلاثين يومًا، وهي شهر رمضان، ويقال (١): إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة، وشرط وجوبه الإطاقة بأن كان صحيحًا مقيمًا.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾ أيها الأمة المحمدية ﴿مَرِيضًا﴾ مرضًا يشق معه الصوم ويضره، أو يزيد بالصوم ولو في أثناء النهار ﴿أَوْ﴾ كان عازمًا ﴿عَلَى﴾ إتمام ﴿سَفَرٍ﴾ ومتلبسًا به ولو قصيرًا، فلا يبيح (٢) السفر الفطر إذا طرأ في أثناء النهار، وهذا سر التعبير بـ ﴿عَلَى﴾ السفر دون المرض؛ أي: فمن كان مريضًا أو عازمًا على إتمام السفر، ومتمكنًا منه بأن كان متلبسًا به وقت طلوع الفجر إن لم يشق معه الصوم، فإن المسافر يباح له الفطر، وإن لم يجهده الصوم، ولا فرق في السفر بين كونه برًّا أو بحرًا أو جوًا، والحق (٣) أن ما صدق عليه مسمى السفر؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وكذا ما صدق عليه مسمى المرض؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة، واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية؛ أي: فمن كان منكم مريضًا أو مسافرًا، فأفطر في رمضان.. فعليه عدة؛ أي: فواجب عليه
(٢) جمل.
(٣) شوكاني.
وعن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي - ﷺ -، فقال: يا رسول الله، هل أصوم على السفر؟ فقال: "صم إن شئت، وأفطر إن شئت" وروى الشافعي أن عطاء قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مر الظهران؟ فقال: لا، لكن أقصر إلى جدة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾؛ أي: يقدرون على الصوم بأن لم يكن لهم عذر مرضٍ ولا سفر؛ أي: القادرين على الصوم إن أفطروا ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾؛ أي: جزاء وضمان قدر ما يأكله مسكين واحد في يوم واحد، يعطيه للمسكين بدل كل يوم من رمضان؛ وهو مدٌّ من غالب قوت بلده.
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية (١)، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شق عليهم؛ لأنهم لم يتعودوا الصيام، فرخص لهم في الإفطار، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا.. ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وهذا قول الجمهور.
وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى
وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصةً إذا كانوا لا يطيقون الصوم إلا بمشقة.
والمعنى على هذا: وعلى الذين يقدرون على الصوم مع المشقة فدية. وعن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: ﴿وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين﴾: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا، وهو حديث آحاد؛ أي لا يحتج به في إثبات القرآن الكريم.
وقراءة (١) الجمهور: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ - بكسر الطاء وسكون الياء - من أطاق، وأصله: يطوقونه، نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت ﴿الواو﴾ ياء؛ لانكسار ما قبلها. وقرأ أحمد ﴿يطوقونه﴾ على الأصل من غير إعلال، من أطوق، كقولهم أطول في أطال. وقرأ ابن عباس ﴿يطَوّقونه﴾ بفتح الطاء مخففة وتشديد ﴿الواو﴾ المفتوحة؛ أي: يكلفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس ﴿يَطّيَقونه﴾ بفتح الياء وتشديد الطاء والياء المفتوحتين بمعنى: يطيقونه، وما عدا قراءة الجمهور شاذ لا يقرأ به.
وقرأ أهل المدينة والشام: ﴿فديةُ طعامِ﴾ مضافًا إضافة بيانيةً؛ أي: بإضافة فدية إلى طعام، وعليها يتعين جمع المساكين، وأما على عدم الإضافة: فيصح الجمع والإفراد، فالقراءت ثلاث، وقرؤوا أيضًا: ﴿مساكين﴾ بالجمع، وقرأ ابن عباس: ﴿طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾؛ وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وكله في المتواتر.
و ﴿الفدية﴾ الجزاء؛ وهو القدر الذي يبذله الإنسان يقي به نفسه من تقصيرٍ
﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ﴾؛ أي: تبرع ﴿خَيْرًا﴾ فزاد في الفدية على القدر الواجب، أو صام مع إخراج الفدية، أو أطعم مع المسكين مسكينًا آخر، وقرأ عيسى ابن عمرو، ويحيى بن ثابت، وحمزة، والكسائي ﴿يَطُّوْع﴾ مشددًا مع جزم الفعل على معنى يتطوع، وقرأ الباقون: بتخفيف الطاء على أنه فعل ماضٍ: ﴿فَهُوَ﴾؛ أي: فذلك التطوع ﴿خَيْرٌ لَهُ﴾ بالثواب، ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ أيها المرخصون لكم في الإفطار من المرضى والمسافرين والذين يقدرون على الصوم مع المشقة ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الإفطار والفدية، أو تطوع الخير، أو منهما ومن التأخير للقضاء. وقرأ أبي: ﴿والصوم خير لكم﴾ وهي قراءة شاذة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ما في الصوم من الفضيلة، ومن المعاني المورثة للتقوى، وبراءة الذمة، فإن العبادة كلما كانت أشق.. كانت أكثر ثوابًا، وجواب ﴿لو﴾ محذوف دل عليه ما قبله؛ تقديره: اخترتموه. وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة.
وأخرج (١) عبد بن حميد، وابن جرير، والدارقطني، وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة: أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصوم، عليك الطعام، لا قضاء عليك. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت إليه تسأله عن صوم رمضان، وهي حامل؟ قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
١٨٥ - ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾؛ أي: تلك الأيام المعدودات التي فرضت صومها عليكم أيها المؤمنون؛ هي شهر رمضان الذي ابتدي فيه إنزال القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في محل من تلك السماء يسمى:
أو المعنى: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا احترق جوفه من شدة العطش، و ﴿القرآن﴾ اسم لهذا الكتاب الذي أنزل على رسول الله - ﷺ - حالة كونه. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾؛ أي: هاديًا للناس من الشرك والضلالة إلى التوحيد والإيمان ﴿و﴾ حالة كونه آيات ﴿بينات من الهدى﴾؛ أي: آيات واضحات من أمر الدين، من الحرام والحلال، والحدود والأحكام، فالهدى الأول: محمول على أصول الدين، والهدى الثاني: على فروع الدين ﴿و﴾ من ﴿الفرقان﴾؛ أي: ومن الفرق بين الحق والباطل، والمعنى: حالة كونها آيات واضحات كائنات مما يهدي إلى الحق، ومما يفرق بين الحق والباطل، وعطف ﴿الفرقان﴾ على ﴿الْهُدَى﴾ من عطف الخاص على العام، فكل أخص مما قبله ﴿الهدى﴾ صادق بالواضح وغيره كان معه دليل أم لا، والـ ﴿بينات﴾ من الهدى صادقة بوجود الحجج معها أم لا، ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ هو الآيات البينات التي معها حجج، ﴿فَمَنْ شَهِدَ﴾؛ أي: حضر ﴿مِنْكُمُ﴾ أيها المؤمنون هذا ﴿الشَّهْرَ﴾ يعني شهر رمضان ولم يكن في سفر، بل كان مقيمًا صحيحًا؛ أي: فمن كان حاضرًا مقيمًا غير مسافر، فأدركه الشهر ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾؛ أي: فليصم في هذا الشهر، فالخطاب للمكلف القادر غير المعذور.
وقال جماعة من السلف والخلف (٢): أن من أدركه شهر رمضان مقيمًا غير مسافر.. لزمه صيامه سافر ذلك أو أقام؛ استدلالًا بهذه الآية. وقال الجمهور:
(٢) شوكاني.
وشهود الشهر (١): إما بالرؤية، وإما بالسماع، فإذا رأى إنسان هلال رمضان، وقد انفرد بتلك الرؤية، ورد الإِمام شهادته.. لزمه أن يصوم؛ لأنه قد حصل شهود الشهر في حقه فوجب عليه الصوم، وإذا شهد عدلان على رؤية الهلال.. حكم بهما في الصوم والفطر جميعًا، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال.. لا يحكم به، أما إذا شهد على هلال رمضان: فيحكم به احتياطًا لأمر الصوم؛ أي: يقبل قول الواحد في إثبات العبادة، ولا يقبل في الخروج منها إلا قول اثنين؛ لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطًا.
﴿وَمَنْ كَانَ﴾ منكم ﴿مَرِيضًا﴾ في شهر رمضان، وإن كان مقيمًا ﴿أَوْ﴾ كائنًا ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ ومتلبسًا به وقت طلوع الفجر، وإن كان صحيحًا ﴿فَعِدَّةٌ﴾؛ أي: فعليه صيام قدر ما أفطر من رمضان ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾؛ أي: من أيام غير رمضان، وهذا الكلام تقدم مثله، وإنما كرره (٢)؛ لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح، ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فلو اقتصر على هذا.. لاحتمل أن يشمل النسخ الجميع، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر؛ ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾؛ أي: يريد الله سبحانه وتعالى التسهيل عليكم أيها المؤمنون بترخيص الإفطار لكم بعذر المرض والسفر ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾؛ أي: ولم يرد التشديد عليكم بإيجاب الصوم في السفر والمرض، وقرىء بإسكان السينين في اليسر والعسر، وبضمهما.
(٢) خازن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حقٌّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وقال الشافعي: وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الله على رخصه بالمحافظة على ما أمركم الله به من أداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده.
وإنما ختمت هذه الآية (٢) بترجي الشكر؛ لأن قبلها تيسيرًا وترخيصًا، فناسب ختمها بذلك، وختمت الآيتان قبلها بترجي التقوى، وهما قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾؛ لأن القصاص والصوم من أشق التكاليف، فناسب ختمها بذلك، وهذا مطرد في القرآن، فحيث ورد ترخيص عقب بترجي الشكر غالبًا، وحيث جاء عدم ترخيص عقب بترجي التقوى وشبهها، وهذا من محاسن علم البيان.
١٨٦ - ولما سأل الناس رسول الله - ﷺ - أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ نزل قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ يا محمد ﴿عِبَادِي عَنِّي﴾؛ أي: عن قربي أو بعدي ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾؛ أي: فقل لهم يا محمد: أني قريب منهم، بالعلم والإجابة والإنعام، والقرب هنا عبارة عن سماعه لدعائهم، وقال في "الكشاف": إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾؛ أي: أسمع وأقبل دعاء عبدي الداعي
(٢) جمل.
ثم إجابة الدعاء (١) وعد صدق من الله لا خلف فيه، غير أن إجابة الدعاء تخالف قضاء الحاجة، فإجابة الدعوة أن يقول العبد: يا رب، فيقول الله: لبيك عبدي، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن، وقضاء الحاجة إعطاء المراد، وهذا قد يكون ناجزًا، وقد يكون بعد مدة، وقد يكون في الآخرة، وقد تكون الخيرة له في غيره.
وقيل (٢): المراد من الدعاء التوبة من الذنوب؛ لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة، وإجابة الدعاء هو قبول التوبة، وقيل: المراد من الدعاء العبادة، قال - ﷺ -:"الدعاء هو العبادة" ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠)﴾: وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع: ﴿الداعي إذا دعاني﴾ بإثبات الياء فيهما مع الوصل، والباقون بحذفها على الوصل في الأولى، وعلى التخفيف في الثانية.
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾؛ أي: فليجيبوا إلى دعوتي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ومهماتهم، ولينقادوا لي وليستسلموا لأوامري، فالإجابة من العبد الطاعة، ومن الله الإثابة والعطاء ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾؛ أي: وليواظبوا على الإيمان بي وبرسولي، وهذا الترتيب يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ ويهتدون؛ أي: لكي يهتدوا إلى مصالح دينهم ودنياهم إذا استجابوا لي، وآمنوا بي وبرسولي.
ثم إنه كانت الشريعة صدرَ الإِسلام أنَّ الرجل إذا أمسى.. حلَّ له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد، فإذا صلاها، أو رقد ولم يفطر.. حَرُمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة، ثم إن عمر رضي الله
(٢) مراح.
١٨٧ - ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾؛ أي: أبيح لكم أيها الصائمون ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾؛ أي: ليالي الصيام ﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾؛ أي: إلى حلائلكم من زوجة وأمة؛ أي: المجامعة مع نسائكم والإفضاء إليها بالمباشرة ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾؛ أي: النساء سكن وستر لكم عن الحرام، وهذا الكلام مستأنف سيق تعليلًا لما قبله من الإحلال ﴿وَأَنْتُمْ﴾ أيها الرجال ﴿لِبَاسٌ﴾ وستر ﴿لَهُنَّ﴾ عن الحرام.
قيل (١): لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وسمي كل واحد من الزوجين لباسًا؛ لتجردهما عن النوم واجتماعهما في ثوب واحد، وقيل: اللباس اسم لما يواري، فيكون كل واحد منهما سترًا لصاحبه عما لا يحل، كما جاء في الحديث: "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه".
وإنما قدم (٢) قوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ على قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ تنبيهًا على ظهور احتياج الرجل إلى المرأة، وعدم صبره عنها، ولأنه هو البادىء بطلب ذلك، فحاجة الرجل إليها أكثر، لما في الحديث: "لا خير في النساء ولا صبر عنهن، يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم، وأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا، ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا". وكني باللباس عن شدة المخالطة.
﴿عَلِمَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَنَّكُمْ كُنْتُمْ﴾ أيها الصائمون قبل هذا الإحلال لكم ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: تظلمون أنفسكم بالجماع في ليالي رمضان وتنقصون حظها من الخير، والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب، فيدل على زيادة الخيانة من حيث كثرة مقدمات الجماع؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا.
(٢) سمين.
قال الشافعي: لا يعزل الرجل عن المرأة إلا بإذنها، ولا بأس أن يعزل من الأمة.
وقيل: معنى ذلك ابتغوا هذه المباشرة من الزوجة والمملوكة، فإن ذلك هو الذي كتب الله لكم؛ أي: قسم الله لكم ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ الليل كله من أوله ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ ويتضح ﴿لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾؛ أيّ: كلوا واشربوا الليل كله من أوله إلى أن يتبين ويظهر لكم بياض النهار من سواد الليل حال كون الخيط الأبيض بعضًا ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ الصادق، وسمي الصبح الصادق فجرًا؛ لأنه يتفجر وينتشر منه النور.
وهذا أمر إباحة، وسُمِّيَا (١) خيطين؛ لأن كل واحد منهما يبدو في الأفق ممتدًا كالخيط، قال الشاعر:
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ | وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا |
واعلم: أن الفجرَ الذي يُحرِّمُ على الصائم الطعامَ والشرابَ والجماعَ هو الفجر الصادق المستطير المنتشر في الأفق سريعًا، لا الفجر الكاذب المستطيل.
قلت: إن القدر الذي يبدو من البياض؛ وهو أول الصبح يكون رقيقًا صغيرًا ثم ينتشر؛ فلهذا شبه بالخيط، والفرق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب: أن الفجر الكاذب يبدو في الأفق فيرتفع مستطيلًا، ثم يضمحل ويذهب، ثم يبدو الفجر الصادق بعده منتشرًا في الأفق مستطيرًا.
وروى مسلم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا". وحكاه حماد بيديه. قال: يعني معترضًا. وفي رواية الترمذي: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق".
فإذا تحقق طلوع الفجر الثاني وهو الصادق.. حرم على الصائم الطعام والشراب، والجماع إلى غروب الشمس، وهو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾؛ أي: ثم بعد تبين الفجر الصادق أتموا الصيام والإمساك عن المفطرات في جميع النهار إلى دخول أول الليل بغروب الشمس، وهذا أمر إيجابٍ في صوم الفرض، وبيان لآخر وقت الصوم، ولإخراج الليل عنه، فينتفي صوم الوصال، ولمّا بين الله تعالى أن الجماع يحرم على الصائم نهارًا، ويباح ليلًا، فكان يحتمل أن حكم الاعتكاف كذلك؛ لأنه يشارك الصوم في غالب أحكامه.. بين الله بتحريمه على المعتكف ليلًا ونهارًا بقوله: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾؛ أي: لا تجامعوهن ليلًا ولا نهارًا ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾؛ أي: ماكثون ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾ بنية الاعتكاف للتقرب إلى الله تعالى، ولا تقربوهن ما دمتم معتكفين فيها ليلًا ونهارًا حتى تفرغوا من الاعتكاف. ﴿تِلْكَ﴾ الأحكام المذكورة في آيات الصيام من أولها إلى هنا ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾؛ أي: أوامره وزواجره، وأحكامه التي شرعها لكم؛ فلا تخالفوا الأوامر منها ولَا تَقْرَبُوا الزواجر والممنوعات منها؛ أي: من تلك الحدود كالأكل والشرب والجماع في الصوم، والمباشرة في حال الاعتكاف،
﴿كَذَلِكَ﴾، أي: كما بين الله سبحانه وتعالى أوامره وزواجره في الصوم والاعتكاف ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾؛ أي: معالم دينه وأحكام شريعته من الأوامر والزواجر في غير الصوم ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافة على لسان رسوله - ﷺ - بيانًا شافيًا وإيضاحًا وافيًا ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، أي: لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي، فينجوا من العذاب.
قيل (١): نزلت هذه الآية في حق نفر من أصحاب النبي - ﷺ -: علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر وغيرهما، فكانوا معتكفين في المسجد، فيأتون إلى أهاليهم إذا احتاجوا، ويجامعون نساءهم ويغتسلون، فيرجعون إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾.
يا: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع، أو في محل النصب صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿كُتِبَ﴾ فعل ماض مغيَّر الصيغة. ﴿عَلَيْكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الصِّيَامُ﴾: نائب فاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب.
﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه، ﴿ما﴾: مصدرية، أو موصولة في محل الجر بالكاف، ﴿كُتِبَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود
﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.
﴿أَيَّامًا﴾: منصوب على الظرفية الزمانية. ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾: صفة لـ ﴿أَيَّامًا﴾، والظرف متعلق بمحذوف جوازًا؛ تقديره: صوموا أيامًا، والجملة المحذوفة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿فَمَن﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم وجوب الصيام عليكم، وأردتم بيان حكم من كان معذورًا بمرض أو سفر.. فأقول لكم: من كان ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح، أو جملة الجواب، أو هما. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿من﴾، واسمها ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿مِنكمُ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من اسم ﴿كَانَ﴾؛ تقديره: فمن كان حالة كونه كائنًا منكم. ﴿مَرِيضًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتقسيم. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿سَفَرٍ﴾: مجرور بـ ﴿عَلَى﴾، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معطوف على ﴿مَرِيضًا﴾؛ تقديره: فإن كان منكم مريضًا أو عازمًا على إتمام سفر. ﴿فَعِدَّةٌ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية ﴿عدة﴾: مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: فصيام عدة
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ﴾ الواو: استئنافية. ﴿على الذين﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿يُطِيقُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فِدْيَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. ﴿طَعَامُ﴾: مضاف إليه، وهو مضاف. ﴿مِسْكِينٍ﴾: مضاف إليه إذا قرئ بلا تنوين، وأما على قراءة التنوين فـ ﴿طَعَامٍ﴾: بدل من ﴿فِدْيَةٌ﴾: بدل كل من كل؛ والتقدير: وفدية طعام مسكين واجب على الذين يطيقونه.
﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾.
﴿فَمَن﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة بمعنى الواو. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح. ﴿تَطَوَّعَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿خَيْرًا﴾: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بخير، أو صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: تطوعًا خيرًا. ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾.
﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَأَنْ﴾ الواو: عاطفة. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَصُومُوا﴾: فعل
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف جوازًا؛ تقديره: تلك الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. و ﴿شَهْرُ﴾ مضاف. ﴿رَمَضَانَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية وزيادة الألف والنون. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿شَهْرُ﴾. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور متعلق بأنزل ﴿الْقُرْآنُ﴾: نائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير فيه. ﴿هُدًى﴾: حال من ﴿الْقُرْآنُ﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿هُدًى﴾ ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾: معطوف على ﴿هُدًى﴾. ﴿مِنَ الْهُدَى﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿بينات﴾ تقديره: كائنات من الهدى. ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾: معطوف على ﴿الْهُدَى﴾.
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.
﴿فَمَن﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر إذا عرفتم أن الأيام المعدودات شهر رمضان، وأردتم بيان حكم من شهده.. فأقول لكم: ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بِكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الْيُسْرَ﴾: مفعول به. ﴿وَلَا يُرِيدُ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾. ﴿بِكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُرِيدُ﴾. ﴿الْعُسْرَ﴾: مفعول به. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لتكملوا﴾: ﴿اللام﴾: لام كي. ﴿تكملوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
﴿وَلِتُكَبِّرُوا﴾ الواو: عاطفة. ﴿لتكبروا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تكبِّروا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، و ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل؛ تقديره: ولتكبيركم الله، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾. ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾: ﴿عَلَى﴾: حرف جر وتعليل. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿هَدَاكُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾ التعليلية تقديره: لهدايته إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿كبروا﴾. ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لعل﴾: حرف ترج ونصب ﴿الكاف﴾: في محل النصب اسمها، وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾: في محل الرفع خبرها تقديره: ولعلكم شاكرون، وجملة ﴿لعل﴾: في محل الجر معطوفة على جملة؛ قوله: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾؛ تقديره: ولتكبيركم إياه لهدايته إياكم، ولشكركم إياه على رخصته.
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾ اعتراضية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿سَأَلَكَ﴾: فعل ومفعول ﴿عِبَادِي﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿عَنِّي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سأل﴾، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾.
﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
﴿فَالْآنَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الله تاب عليكم وعفا عنكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول: الآن باشروهن. ﴿الآن﴾: ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾. ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَابْتَغُوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿وَابْتَغُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾.
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.
﴿وَكُلُوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿كلوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾. ﴿وَاشْرَبُوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿اشربوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية بمعنى ﴿إلى﴾. ﴿يَتَبَيَّنَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى ﴿إلى﴾. ﴿لَكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الْخَيْطُ﴾: فاعل. ﴿الْأَبْيَضُ﴾: صفة له. ﴿مِنَ الْخَيْطِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتَبَيَّنَ﴾. ﴿الْأَسْوَدِ﴾: صفة للخيط. ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾: جار وجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾؛ تقديره: حالة كون الخيط الأبيض كائنًا من الفجر، وجملة ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ صلة أن المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى ﴿إلى﴾؛ تقديره: إلى تبين الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود، الجار والمجرور تنازع فيه كلوا واشربوا.
﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿أَتِمُّوا الصِّيَامَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾. ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾: جار ومجرور معلق بـ ﴿أَتِمُّوا﴾. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾: الواو: استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تُبَاشِرُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾ الواو: حالية. ﴿أنتم﴾: مبتدأ. ﴿عَاكِفُونَ﴾: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تُبَاشِرُوهُنَّ﴾. ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَاكِفُونَ﴾. ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ. ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: تنبهوا فلا تقربوها ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَقْرَبُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: بيانًا كائنًا كذلك. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُبَيِّنُ﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترجٍّ ونصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾: خبرها. وجملة ﴿لعل﴾: في محل الجربـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة المتعلقة بـ ﴿يُبَيِّنُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ﴾ الفدية: مصدرُ فدى يفدي فِدْيةً وفِداءً، والهاء فيها لا تدل على المرة الواحدة، بل هي للتأنيث فقط، وطعام: اسم مصدر لأطعم يطعم إطعامًا وطعامًا، فهو هنا بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، ويضعف (١) أن يكون الطعام هنا بمعنى المطعوم؛ لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعام للمسكين قبل تملكه إياه، فلو حمل على ذلك.. لكان مجازًا؛ لأنه يكون تقديره: فعليه إخراج الطعام يصير للمساكين، ولو حملت الآية على هذا.. لم يمتنع؛ لأن حذف المضاف جائز، وتسمية الشيء بما يؤول إليه جائز.
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ والشهر (٢) لأهل اللغة فيه قولان:
أشهرهما: أنه اسم لمدة الزمان الذي يكون مبدؤها الهلال ظاهرًا إلى أن يستتر، سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه من المعاملات.
والثاني: قاله الزجاج اسم للهلال نفسه. و ﴿رَمَضَانَ﴾ علم لهذا الشهر المخصوص، وهو علم جنس، وفي تسميته رمضان أقوال:
أحدها: أنه وافق مجيئه في الرمضاء، وهي شدة الحر، فسمي به كربيع لموافقته الربيع، وجمادى لجمود الماء فيه.
وثانيها: أنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها، بمعنى: يمحوها.
(٢) جمل.
﴿الْقُرْآنُ﴾: في الأصل مصدر قرأت، ثم صار علمًا لما بين الدفتين، وهو من قرأ بالهمزة إذا جمع؛ لأنه يجمع السور والآيات والحكم والمواعظ، والجمهور على همزه، وقرأ ابن كثير من غير همز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، ثم حذفها.
﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؛ أي: دعاء الداعي لا خصوص المرة، فـ (فعلة) ليست هنا للمرة؛ لأن محل كونها للمرة إذا لم يبن المصدر عليها كضربة، وأما إذا بُني المصدر عليها كرحمة ودعوة: فلا تكون للمرة إلا بذكر الواحدة، كما هو مبين في محله.
والياءان (١) من قوله: ﴿الدَّاعِ﴾ و ﴿دَعَانِ﴾ من الزوائد عند القراء، ومعنى ذلك أن الصحابة لم تثبت لها صورة في المصحف، فمن القراء من أسقطها تبعًا للرسم، وقفًا ووصلًا، ومنهم من يثبتها في الحالين، ومنهم من يثبتها وصلًا ويحذفها وقفًا. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ السين والتاء فيه زائدان بمعنى: فليجيبوا لي، ويكون استفعل فيه بمعنى: أفعل الرباعي، وهو كثير في القرآن، كقوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ﴾، ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾: إلا أن تعديته في القرآن باللام، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه، قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا | فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيْبُ |
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ يقال: رَشِدَ (٢) رشدًا من باب تعب، ورشد يرشد من باب قتل، فهو راشد، والاسم الرشاد ويتعدى بالهمزة، والرشد والرشاد
(٢) مصباح.
﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ يقال: رفث في منطقه رفثًا من باب طلب، ويرفِث - بالكسر - لغة: إذا أفحش فيه، أو صرح بما يكنى عنه من ذكر النكاح، والمراد بالرفث هنا: الجماع. ﴿نِسَائِكُمْ﴾ والهمزة (١) في نساء مبدلة من واو، لقولك في معناه نسوة، وهو جمع لا واحد له من لفظه، بل واحدته امرأة، وقيل النساء جمع نسوة، والنسوة جمع امرأة فهو جمع الجمع.
﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ يقال: تبين الشيء وبان وأبان واستبان كله لازم، وقد يستعمل أبان واستبان وتبين متعديةً.
البلاغة
﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ﴾ التشبيه في الفرضية لا في الكيفية، وهذا التشبيه يسمى عندهم تشبيهًا مرسلًا مجملًا.
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ فيه إظهار في مقام الإضمار؛ ليدل على التنويه به والتعظيم له، وفيه من أنواع المجاز: المجاز اللغوي؛ وهو إطلاق اسم الكل على الجزء، حيث أطلق الشهر وهو اسم للكل، وأراد جزءًا منه.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ فيه من المحسنات البديعية: طباق السلب؛ وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين يتنافى وجود معناهما معًا في شيء واحد في وقت واحد، وخلاصة هذا الكلام أن طباق السلب: هو ما اختلف فيه الضدان إيجابًا وسلبًا بحيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد أحدهما مثبت مرة والآخر منفي تارةً أخرى في كلام واحد نحو قوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾.
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ علة للأمر بمراعاة العدد ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ علة للأمر بالقضاء، وبيان كيفيته. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ علة للترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسالك، لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلا النقاد من علماء البيان.
﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾: ﴿الرفث﴾: الجماع، وعداه بإلي وإن كان أصله التعدية بالباء؛ لتضمينه معنى الإفضاء، وحسن اللفظ به هذا التضمين، فصار ذلك قريبًا من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله: ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾، ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ مثلًا.
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ﴾.
جمعت (١) هذه الآية ثلاثة أنواع من البيان: الطباق المعنوي بقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فإنه يقتضي تحريمًا سابقًا، فكأنه قيل: أحل لكم ما حرم عليكم، أو ما حرم على من قبلكم، والكناية: بقوله: ﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ وهو كناية عن الجماع، والاستعارة البديعة بقوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ فإنه شبه (٢) كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق والضم باللباس المشتمل على لابسه؛ أي: كالفراش واللحاف، وحاصله أنه تمثيل لصعوبة اجتنابهن وشدة ملابستهن، أو لستر أحدهما الآخر عن الفجور.
﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ فيه مجازان (٣)؛ لأنه شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل وظلامه، شبها بخيطين أبيض وأسود، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ كقولك: رأيت أسدًا من زيد، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة؛ لأن الاستعارة لا تكون إلا حيث يدل عليها الحال أو الكلام، وهنا لو لم يأت من الفجر.. لم يعلم الاستعارة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) جمل.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى (١): ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام، فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار، ثم حبس نفسه بالتقييد لها في مكان تعبد الله تعالى صائمًا له ممنوعًا من اللذة الكبرى بالليل والنهار، جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد فهي العبادة.. فلذلك نهى عن أكل الحرام الذي يمضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه.
وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وهي أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال، وكذلك الإفطار في شهر شوال، ولذلك قال - ﷺ -: "صوموا لرؤيته
وكان أيضًا قد تقدم كلام في شيء من أعمال الحج، وهو الطواف والحج أحد الأركان التي بني عليها الإِسلام، وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى، وفي الصلاة والزكاة والصيام، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو الحج، ليكون قد كملت الأركان التي بُني الإِسلام عليها.
قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج.. استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر، فبين لهم أن ذلك ليس من البر، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه في الحج، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة، وما حكمة ذلك، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم فأفعاله جارية على الحكمة.. رد عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها إذا أحرموا ليس من الحكمة في شيء، ولا من البر، ولما وقعت القصتان في وقت واحد.. نزلت الآية فيهما معًا، ووصل إحداهما بالأخرى.
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا أمرهم بالتقوى، وكان أشد أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله.. أمر به، فقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، وأكثر علماء التفسير أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال، أمر فيها بقتال من قاتل والكف عمن كف، فهي ناسخة لآية الموادعة.
أسباب النزول
قوله تعالى (١): ﴿وَلَا تَأْكُلُوا...﴾ أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ...﴾ أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سأل الناس رسول الله - ﷺ - عن الأهلة، فنزلت هذه الآية.
وأخرج أبو نعيم وابن عساكر من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقًا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق، حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحد كالشمس؟ فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ...﴾.
قوله تعالى (١): ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا...﴾ روى البخاري عن البراء - رضي الله عنه - نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجّوا فجاؤوا.. لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ أخرج (٢) الواحدي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله - ﷺ - لما صُدَّ من البيت الحرام.. صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك، ثم يرجع من العام المقبل، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام.. فأنزل الله ذلك.
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...﴾ أخرج البخاري عن حذيفة: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ قال نزلت في النفقة.
وأخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه.. قال بعضنا لبعض سرًّا: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإِسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يرد علينا ما قلنا: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو.
التفسير وأوجه القراءة
١٨٨ - ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾؛ أي: لا يأخذ بعضكم مال بعض بالطريق الحرام شرعًا كالنهب والغصب واللهو كالقمار، وأجرة المغني، وثمن الخمر والملاهي، والرشوة وشهادة الزور، والخيانة في الأمانة، وذلك لأن الله قدر لكلٍّ رزقه، فلا يتسع بالباطل، ولا يضيق بالحق. ﴿و﴾ لا ﴿تدلوا﴾ عطف على المنهي، وقرأ أبي: (ولا تدلوا) بإعادة لا الناهية؛ أي: ولا تلقوا ﴿بِهَا﴾؛ أي: بحكومتها؛ أي: لا تسرعوا ولا تبادروا بالخصومة على الأموال ﴿إِلَى الْحُكَّامِ﴾؛ أي: إلى الولاة ليعينوكم على إبطال حق، أو تحقيق باطل ﴿لِتَأْكُلُوا﴾؛ أي: تأخذوا بالتحاكم إليهم ﴿فَرِيقًا﴾؛ أي: قطعة وجملة ﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ وسماها
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - ﷺ - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها" متفق عليه.
ويستفاد من الآية: أن أكل أموال الناس بالوجه الباطل حرام، فأكله (١) بالباطل على وجوه:
الأول: أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب.
الثاني: أن يأكله بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني، وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك.
الثالث: أن يأكله بطريق الرشوة في الحكم، وشهادة الزور.
الرابع: الخيانة، وذلك في الوديعة والأمانة ونحو ذلك، وإنما عبر عن أخذ المال بالأكل؛ لأنه المقصود الأعظم، ولهذا وقع في التعارف: فلان يأكل أموال الناس؛ بمعنى: يأخذها بغير حلها.
١٨٩ - ولما سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريان رسول الله - ﷺ - فقالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا، ثم يزيد حتى يمتليء نورًا، ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقًا كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ نزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾؛ أي: يسألك الناس يا محمد ﴿عَنِ﴾ حكمة اختلاف ﴿الْأَهِلَّةِ﴾ بالزيادة والنقصان لماذا؟ وقرأ (٢) الجمهور ﴿عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ بكسر النون
(٢) البحر المحيط.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿هِيَ﴾: الأهلة ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: علامات لأوقات أغراض الناس الدينية والدنيوية ﴿و﴾ علامات لأوقات ﴿الحج﴾؛ يعني أن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه: زوال الالتباس عن أوقات أغراض الناس في متاجرهم وآجال ديونهم وعدد نسائهم، وأيام حيضهن، وأجور أجرائهم، ومدد حواملهم، وصومهم وفطرهم، وأوقات زرعهم، ودخول وقت الحج وخروجه، وإنما أفرد الحج بالذكر مع دخوله في بقية الأغراض.. اعتناء بشأنه من حيث أن الوقت أشد لزومًا له من بقية العبادات: وذلك لأنه لا يصح فعله أداء ولا قضاء إلا في وقته المعلوم، وأما غيره من العبادات، فلا يتقيد قضاؤه بوقت أدائه، وقرأ الجمهور: ﴿وَالْحَجِّ﴾ بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق - شذوذًا - بكسرها في جميع القرآن.
﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ والخير ﴿بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ﴾ وتدخلوا في حال الإحرام. ﴿مِنْ ظُهُورِهَا﴾ وسطوحها وخلفها كما فعلوا ذلك في الجاهلية وصدر الإِسلام، فكان (١) الرجل إذا أحرم بالعمرة أو الحج.. لم يحل بينه وبين السماء شيء، فإن كان من أهل المدر.. نقب نقبًا في ظهر بيته يدخل منه، أو يتخذ سلمًا ليصعد، وإن كان من أهل الوبر.. دخل وخرج من خلف الخباء، ولا يدخل ولا يخرج من الباب، وكان إذا عرضت له حاجة في بيته.. لا يدخل من باب الحجرة من أصل سقف الباب مخافة أن يحول بينه وبين السماء شيء، فيفتح الجدار من
ووجه (١) اتصال هذا الكلام بالسؤال عن الأهلة والجواب عنه: أنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر، وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بر ﴿مَنِ اتَّقَى﴾ محارم الله ومخالفة أمره كالصيد، وتوكل على الله في جميع أموره، وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف لكنْ ورفع البرُّ، والباقون ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بالتشديد والنصب، ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ﴾ جمع بيت ككعب وكعوب، وقرىء بضم الباء وكسرها؛ أي: وادخلوا بيوتكم في حالة الإحرام ﴿مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ التي كنتم تدخلونها وتخرجون منها قبل ذلك؛ إذ ليس في العدول عنها بر، فباشروا الأمور من وجوهها ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا الله في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله فيما أمركم به ونهاكم عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تفوزوا بالخير في الدين والدنيا، والنعيم السرمدي في الآخرة، أو لكي تنجوا من السخط والعذاب.
١٩٠ - ﴿وَقَاتِلُوا﴾؛ أي: جاهدوا أيها المهاجرون، والخطاب للمهاجرين كما قاله ابن جرير ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعته وطلب رضوانه في الحل والحرم لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - ﷺ - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.. فهو في سبيل الله". ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾؛ أي: الذين يبدؤونكم بالقتال من الكفار؛ يعني: قريشًا، ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ عليهم ولا تظلموا بابتداء القتال في الحرم ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾؛ أي: لا يريد الخير بالمتجاوزين الحد بمخالفة أمره ونهيه،
١٩١ - وهذا منسوخ بآية براءة: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، أو بقوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: في أي محل وجدتموهم فيه من الحل والحرم وإن لم يبدؤوكم ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾؛ يعني: من مكة، وقد فعل بهم رسول الله - ﷺ - ذلك
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾؛ أي: شركهم بالله وعبادة الأوثان في الحرم وصدهم لكم عنه ﴿أَشَدُّ﴾؛ أي: أشر وأقبح. ﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾؛ أي: من قتلكم إياهم في الحرم الذي استعظمتموه، وإنما (١) كان الشرك أعظم من القتل؛ لأن الشرك بالله ذنب يستحق صاحبه الخلود في النار، وليس القتل كذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، وليس القتل كذلك، فثبت أن الفتنة أشد من القتل، وهذه الجملة جواب عن سؤال مقدر؛ تقديره: إن خفتم أن تقاتلوهم في الشهر الحرام وراعيتم حرمة الشهر والإحرام والحرم.. فالشرك الذي حصل منهم الذي فيه تهاون برب الحرم أبلغ، أو المعنى: والمحن التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أشد؛ أي: أصعب من القتل، لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها.
﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾؛ أي: لا تبدؤوهم بالقتال ﴿عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: في الحرم ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾؛ أي: حتى يبدؤوكم بالقتال فيه؛ أي: في الحرم ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ﴾؛ أي: فإن بدؤوكم بالقتال في الحرم ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾؛ أي: فقاتلوهم فيه ولا تبالوا بقتالهم فيه؛ لأنهم الذين هتكوا حرمته، فاستحقوا أشد العذاب، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم﴾ كله بغير ألف؛ والمعنى: حتى يقتلوا بعضكم، كقولهم: قتلنا بنو أسد.
واختلف العلماء في هذه الآية (٢) هل هي محكمة أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من العلماء إلى أنها محكمة، وأنه لا يحل أن يقاتل في المسجد الحرام إلا من قاتل فيه وثبت في "الصحيح" عن النبي - ﷺ - أنه قال: "إن مكة لا تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حرامًا إلى يوم القيامة". فثبت بهذا تحريم القتال في الحرم إلا أن يُقَاتَلوا فيقَاتِلوا، ويكون دفعًا لهم.
(٢) خازن.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل هذا الجزاء الواقع منكم بالقتل والإخراج ﴿جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم من المؤمنين.
١٩٢ - ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن قتالكم ودخلوا في الإِسلام ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لهم ما سلف منهم من الكفر ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم.
١٩٣ - ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾؛ أي: وبادئوا المشركين بالقتال في الحل والحرم ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾؛ أي: حتى يسلموا ولا يوجد شرك، ﴿و﴾ حتى ﴿يكون الدين﴾ كله والعبادة خالصًا ﴿لِلَّهِ﴾ وحده ليس للشيطان فيه نصيب ولا يعبد في الحرم وغيره إلا الله، وترك (١) هنا ﴿كله﴾ وذكره في الأنفال؛ لأن القتال هنا مع أهل مكة فقط، وتم مع جميع الكفار فناسب ذكره، ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ وانزجروا وانكفوا عن الكفر وقتالكم في الحرم.. فلا تعتدوا عليهم، دل عليهم ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾؛ أي: فلا اعتداء بقتل أو غيره؛ أي: فلا سبيل لكم بالقتل ﴿إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: على المبتدئين بالقتل، أو المعنى: فإن انتهوا عن الأمر الذي يوجب قتالهم، وهو إما كفرهم، أو قتالهم.. فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون أنفسهم، وسمي جزاء الظالمين ظلمًا للمشاكلة.
١٩٤ - ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ﴾ الذي دخلت فيه - يا محمَّد - لقضاء العمرة؛ وهو ذو القعدة من السنة السابعة، وسمي بالحرام لحرمة القتال فيه مقابل ﴿بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ الذي صدوك فيه عن دخول مكة؛ وهو ذو القعدة من السنة السادسة؛ أي: من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام.. فاستحلوه فيه؛ أي: إن قاتلوكم فيه فقاتلوهم فيه ﴿وَالْحُرُمَاتُ﴾ جمع حرمة؛ وهي ما يجب احترامه، وقرأ الحسن شذوذًا: ﴿والحرْمات﴾ بإسكان الراء على الأصل؛ إذ هو جمع حرمة، والضم في
والحاصل: أنه لما أباح لهم الاقتصاص بالمثل، وشأن النفس حب المبالغة في الانتقام.. حذرهم من ذلك فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
١٩٥ - ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: وابذلوا أموالكم وأنفسكم في طاعة الله ومراضيه سواء الجهاد وغيره، فالإنفاق (١): صرف المال في وجوه المصالح الدينية، كالإنفاق في الحج والعمرة، وصلة الرحم والصدقة، وفي الجهاد وتجهيز الغزاة، وعلى النفس والعيال وغير ذلك مما فيه قربة إلى الله تعالى؛ لأن كل ذلك مما هو في سبيل الله، لكن إذا أطلقت هذه اللفظة.. انصرفت إلى الجهاد ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: ولا توقعوا ولا تطرحوا أنفسكم ﴿إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؛ أي: إلى الهلاك، وعبر بالأيدي عن الأنفس اكتفاء بالجزء الأهم؛ لأن بها البطش والحركة؛ أي: لا تلقوا أنفسكم إلى الهلاك بالإسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه؛ لأن به يقوى العدو، وتكثر المصائب في الدين والذل لأهله كما هو مشاهد، ومن أنفق أمواله ونفسه في سبيل الله.. فقد ألقى نفسه إلى العز الدائم في الدنيا والآخرة.
الإعراب
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَأْكُلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿تَأْكُلُوا﴾، وعبارة (١) "السمين" هنا قوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾: في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ ﴿تَأْكُلُوا﴾ بمعنى لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾؛ أي: لا تأكلوها كائنة بينكم.
﴿بِالْبَاطِلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَأْكُلُوا﴾، وفي "السمين" (٢) قوله ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: فيه وجهان:
أحدهما: تعلقه بالفعل؛ أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل.
والثاني: أن يكون حالًا فيتعلق بمحذوف، ولكن في صاحبها احتمالان: أحدهما: أنه المال، كأن المعنى لا تأكلوها متلبسة بالباطل.
والثاني: أنه الضمير في تأكلوا، كان المعنى لا تأكلوها مبطلين؛ أي: متلبسين بالباطل.
(٢) جمل.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾.
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يسألون﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿هِيَ﴾، مبتدأ. ﴿مَوَاقِيتُ﴾: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿مَوَاقِيتُ﴾؛ تقديره: كائنات للناس. ﴿وَالْحَجِّ﴾: معطوف على ﴿النَّاسِ﴾.
﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾.
﴿وَلَيْسَ﴾: الواو استئنافية، ﴿ليس البرُّ﴾. فعل ناقص واسمه. ﴿بِأَنْ تَأْتُوا﴾: ﴿الباء﴾: زائدة. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَأْتُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾. ﴿الْبُيُوتَ﴾: مفعول به. ﴿مِنْ ظُهُورِهَا﴾: جار ومجرور
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لكن﴾ حرف نصب واستدراك. ﴿الْبِرَّ﴾: اسمها ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، ولكنه على حذف مضاف؛ تقديره: ولكن البرَّ برُّ من اتقى كما مر في الحل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ليس البر﴾. ﴿اتَّقَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَأْتُوا﴾: الواو: عاطفة، ﴿أتوا البيوت﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾. ﴿مِنْ أَبْوَابِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أتوا﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: ﴿لعل﴾: حرف نصب وتعليل، والكاف: اسمها، وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة المتعلقة بـ ﴿اتقوا﴾؛ تقديره: واتقوا الله؛ لفوزكم وفلاحكم.
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)﴾.
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿قاتلوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قاتلوا﴾ ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَعْتَدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿قاتلوا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾
﴿الْمُعْتَدِينَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل.
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾.
﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿اقتلوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: و ﴿وَقَاتِلُوا﴾. ﴿حَيْثُ﴾: ظرف مكان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿اقتلوهم﴾. ﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿أخرجوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾. ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أخرجوا﴾. ﴿أَخْرَجُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾: الواو: اعتراضية. ﴿الفتنة﴾: مبتدأ. ﴿أَشَدُّ﴾: خبر. ﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾: متعلق به، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه.
﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾: الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية، ﴿تقاتلوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾، مؤكدة لها ومفسرة. ﴿عِنْدَ الْمَسْجِدِ﴾: ظرف ومضاف إليه. ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة لـ ﴿الْمَسْجِدِ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿تُقَاتِلُوهُمْ﴾. ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾: ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يُقَاتِلُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حتى﴾؛ تقديره: إلى مقاتلتهم إياكم، الجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾.
﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)﴾.
﴿فَإِنِ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت حكم ما إذا قاتلوا، وأردت بيان حكم ما إذا انتهوا.. فأقول لك: إن انتهوا، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿انْتَهَوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل الشرط. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة إنَّ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾.
﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿قاتلوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع تام منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة. ﴿فِتْنَةٌ﴾: فاعل، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى المتعلقة بـ ﴿قاتلوهم﴾؛ تقديره: وقاتلوهم إلى عدم فتنة وشرك. ﴿وَيَكُونَ﴾: الواو: عاطفة، ﴿يكون﴾: فعل مضارع معطوف على تكون، منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة، ولكن يصح كونها ناقصة وتامة، وعلى كونها ناقصة: ﴿الدِّينُ﴾: اسمها. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.
﴿فَإِنِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت وجوب مقاتلتهم إلى عدم الفتنة، وأردت بيان حكم ما إذا انتهوا.. فأقول لك: إن انتهوا، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿انْتَهَوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾. ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن وجوبًا. ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿عُدْوَانَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿عَلَى الظَّالِمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾؛ تقديره: فلا عدوان كائن إلا على الظالمين، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة.
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾.
﴿الشَّهْرُ﴾: مبتدأ. ﴿الْحَرَامُ﴾: صفة له. ﴿بِالشَّهْرِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة للشهر مجرور؛ والتقدير: الشهر الحرام مقابل الشهر الحرام، والجملة مستأنفة. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ﴾ على كونها مستأنفة.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾.
﴿فَمَنِ﴾: ﴿الفاء﴾: تفريعية، وهي التي كان ما قبلها علة لما بعدها. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح. ﴿اعْتَدَى﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اعْتَدَى﴾. ﴿فَاعْتَدُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية؛ لكون الجواب
وعبارة "السمين" (١) في هذه ﴿الباء﴾ قولان:
أحدهما: أن تكون غير زائدة، بل تكون متعلقة بـ ﴿اعتدوا﴾، والمعنى: بعقوبة مثل جناية اعتدائه.
والثاني: أنها زائدة؛ أي: مثل اعتدائه، فيكون نعتًا لمصدر محذوف، أي: اعتداء مماثلًا لاعتدائه، و ﴿ما﴾ يجوز أن تكون مصدرية، فلا تفتقر إلى عائد، وأن تكون موصولة، فيكون العائد محذوفًا، أي: بمثل ما اعتدى عليكم به، وجاز حذفه؛ لأن المضاف إلى الموصول قد جر بحرف جر، وبه العائد، واتحد المتعلقان. انتهى.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة. ﴿وَاعْلَمُوا﴾: الواو: عاطفة، ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اتقوا﴾. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿اللَّهَ﴾. اسمها. ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾؛ تقديره: واعلموا كون الله مع المتقين.
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.
﴿وَأَنْفِقُوا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿أَنْفِقُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أنفقوا﴾. ﴿وَلَا تُلْقُوا﴾
﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَأَحْسِنُوا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿أحسنوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أنفقوا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿يُحِبُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿يُحِبُّ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة؛ تقديره: وأحسنوا لمحبة الله المحسنين؛ أي: لطلب محبته إياكم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الباطل﴾: اسم فاعل من بطل الشيء يبطل بطولًا فهو باطل؛ أي: زائل ذاهب، والمراد هنا الطريق الحرام كالنهب والغصب ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ يقال: أدلى الدلو في البئر إذا أرسلها فيه؛ فهو من الرباعي المزيد، والمراد بالإدلاء هنا: المبادرة إلى الحكام بالخصومة، أو بالرشوة ليحكم له بالباطل.
﴿الْأَهِلَّةِ﴾: جمع هلال، وهو القمر أول ما يراه الناس ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا كما مر، ثم يكون قمرًا، ثم بدرًا حين تكامل نوره، وأصل الأهلة: أهللة، نقلت كسرة اللام الأولى إلى الساكن قبلها، ثم أدغمت في اللام الأخرى، وهو جمع مقيس في فعال المضعف نحو عِنَان وأَعِنَّة، وشذ فيه (فعل) قالوا: عنن في عنان، وحجج في حجاج. ﴿مَوَاقِيتُ﴾؛ جمع ميقات، أصله: موقات قلبت ﴿الواو﴾ ياء لسكونها إثر كسرة، وهو الوقت كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل: الميقات منتهى الوقت.
والفرق (١) بين الوقت والمدة والزمان: أن المدة المطلقة: امتداد حركة
﴿بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ﴾ البيوت (١) يقرأ: بضم الباء، وهو الأصل في الجمع على فعول، والمعتل كالصحيح، وإنما ضم أول هذا الجمع ليشاكل ضمة الثاني والواو بعده. ويقرأ بكسر الباء؛ لأن بعده ياء، والكسرة من جنس الباء، ولا يستثقل بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأن الضمة هنا في الياء، والياء مقدرة بكسرتين، فكانت الكسرة في الياء كأنها وليت كسرة، وهكذا الخلاف في العيون والجيوب والشيوخ، ومن هنا جاز في التصغير الكسر، فيقال في بيت: بييت.
﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يقال: ثقُف الرجل - من باب ظرُف - إذا صار حاذقًا خفيفًا، فهو ثَقف مثل ضخُم فهو ضخم، ومنه الثقافة. وثقف من باب طرب لغةٌ فيه، فهو ثَقِفْ وثَقُف كعضد، وفي "القاموس": وثقفه كسمعه إذا أخذه أو ظفر به أو أدركه، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء علمًا أو عملًا، وفيه معنى الغلبة.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ وأصل انتهوا: انتهيوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان؛ فحذفت الألف وبقيت الفتحة تدل عليها.
﴿وَالْحُرُمَاتُ﴾ جمع حرمة كالظلمات جمع ظلمة، وإنما جمع الحرمات؛ لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والحرمة ما منع الشرع من انتهاكه.
﴿التهلكة﴾ مصدر (٢) لهلك من باب ضرب، وفي "المختار" يقال: هلك الشيء يهلِك - بالكسر من باب ضرب - هلاكًا وهلوكًا وتهلُكةً بضم اللام، والاسم: الهلك بالضم، قال اليزيدي: التهلكة من نوادر المصادر، ليست مما يجري على القياس، وقيل (٣): التهلكة ما أمكن التحرز منه، والهلاك ما لا يمكنه التحرز منه، وقيل: التهلكة الشيء المهلك، والهلاك حدوث التلف، وقيل:
(٢) جمل.
(٣) البحر المحيط.
البلاغة
﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ وقد جعل (١) بعض علماء المعاني هذا الجواب من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يَترقب مُنَبِّها على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها؛ لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعلمه. انتهى.
لأنه من الأحكام الظاهرة (٢) التي شأن الرسول التصدي لبيانها، وأما سبب اختلافه: فهو من قبيل المغيبات التي لا غرض للمكلف في معرفتها، ولا يليق أن تبين له.
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فالمراد بالسبيل دين الله؛ لأن السبيل في الأصل الطريق، ففيه استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه دين الله بالسبيل بجامع الوصول إلى المقصود في كلٍّ.
﴿عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ المراد به الحرم كله، ففيه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل.
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ فيه مجاز بالحذف؛ تقديره: هتك حرمة الشهر الحرام له وقع منكم مقابلٌ بهتك حرمة الشهر الحرام الواقع منهم؛ لأنم قاتلوا المسلمين في عام الحدييبة قتالًا خفيفًا بالرمي بالسهام والحجارة.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ تسمية جزاء العدوان عدوانًا من قبيل المشاكلة؛ وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ قال الزجاج: العرب تقول: ظلمني فلان فظلمته؛ أي: جازيته بظلمه.
﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فيه مجاز حيث أطلق الأيدى، وأراد الأنفس
(٢) جمل.
فائدة: وفي تفسير (١) التهلكة أقوال تسعة:
أحدها: ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال. قاله أبو أيوب.
الثاني: ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة. قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن جبير.
الثالث: التقحم في العدو بلا نكاية. قاله أبو القاسم البلخي.
الرابع: التصدق بالخبيث قاله عكرمة.
الخامس: الإسراف بإنفاق كل المال قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾، ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾. قاله أبو علي.
السادس: الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته، قاله البراء، وعبيدة السلماني.
السابع: القنوط من التوبة. قاله قوم.
الثامن: السفر للجهاد بغير زاد. قاله زيد بن أسلم، وقد فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق، أو إلى كونهم عالة على الناس،
التاسع: إحباط الثواب بالمن والرياء والسمعة، كقوله: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية، والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله؛ يعني غير الجهاد.
والله أعلم
* * *
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)﴾.
المناسبة
لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام.. أردف ذلك بذكر أحكام الحج؛ لأن شهور الحج تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأما آيات القتال التي فصلت بين آيات الصيام وآيات الحج: فقد ذكرت عرضًا لبيان حكم هام؛ وهو بيان الأشهر الحرم، وحكم القتال فيها فيما لو تعرض المشركون للمؤمنين، وهم في حالة الإحرام هل يباح لهم رد العدو عن أنفسهم والقتال في الأشهر الحرم؟ فقد وردت الآيات السابقة تبين حكمة الأهلة وأنها مواقيت للصيام والحج ثم بينت الآيات بعدها موقف المسلمين من القتال في الشهر الحرام،
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ...﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - متضمخًا بالزعفران، عليه جبة فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي، فأنزل الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ فقال - ﷺ -: "أين السائل عن العمرة؟ " قال: ها أنا ذا، فقال له - ﷺ -: "ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك".
قوله (١) تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا...﴾ روى البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ قال: حملت إلى النبي - ﷺ - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة" قلت: لا. قال: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك"، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة.
قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا...﴾ الآية، روى البخاري، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ...﴾ الآية، روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأثموا أن
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ...﴾ أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ...﴾.
وأخرج ابن المنذر عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش يقفون بالمزدلفة، ويقف الناس بعرفة إلا شيبة بن ربيعة، فأنزل الله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ...﴾ الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ليس لهم ذكر أفعال آبائهم، فأنزل الله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا...﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين، فيقولون: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٩٦ - ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾؛ أي: أدوهما تامين كاملين بأركانهما وشروطهما وواجباتهما وآدابهما خالصين ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى غير مخلوطين بشيء من الأغراض الدنيوية كالتجارة والاكتساب، أو بشيء مما يحبطهما كالرياء والسمعة والشهرة باسمهما، وفي قراءة ﴿وأقيموا الحج والعمرة لله﴾ واختلف العلماء في معنى إتمامها. قال ابن عباس: إتمامهما: أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما
فصل
واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلًا. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - ﷺ -، فقال: "أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - ﷺ -: "لو قلت نعم.. لوجب ولما استطعتم".
وفي وجوب العمرة قولان للشافعي:
أصحهما: أنها واجبة، وهو قول علي، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإليه ذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين.
وحجتهم على أنها واجبة ما روي في حديث الضبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، وإني أهللت بهما، فقال: هديت لسنة نبيك محمَّد - ﷺ - أخرجه أبو داود، والنسائي بأطول من هذا.
وجه الاستدلال أنه أخبر عن وجوبهما عليه، وصوبه عمر وبين أنه مهتد بما رآه في وجوبهما عليه لسنة النبي - ﷺ -.
وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنها كقرينها في كتاب الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الحج والعمرة فريضتان، وعنه رضي الله عنه: ليس أحد من خلق الله إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلًا.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة، وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنة" أخرجه الترمذي والنسائي "وما من مؤمن يظل يومه محرمًا إلا غابت الشمس بذنوبه" وقال حديث حسن صحيح.
وجه الاستدلال: أنه أمر بالمتابعة بين الحج والعمرة، والأمر للوجوب، ولأنها قد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام، فكانت واجبة كالحج.
والقول الثاني: أنها سنة، ويروى ذلك عن ابن مسعود، وجابر، وإبراهيم، والشعبي، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم.
وحجتهم على أنها سنة: ما روي عن جابر رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - ﷺ - عن العمرة أواجبة هي؟ قال: "لا وأن تعتمروا خير لكم" أخرجه الترمذي.
وأجيب عنه بأن هذا الحديث يرويه حجاج بن أرطاه، وحجاج ليس ممن يقبل منه ما تفرد به لسوء حفظه، وقلة مراعاته لما يحدث به.
وأجمعت الأمة على جواز أداء الحج والعمرة على إحدى ثلاثة أوجه: إفراد وتمتع وقران.
فصورة الإفراد: أن يحج، ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج، ثم يحج في تلك السنة.
وصورة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويأتي بأعمالها فإذا فرغ من أعمالها أحرم بالحج من مكة في تلك السنة، وإنما سمي تمتعًا؛ لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة إلى أن يحرم بالحج.
وصورة القران: أن يحرم بالحج والعمرة معًا في أشهر الحج فينويهما بقلبه، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنًا.
وله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهللنا مع رسول الله - ﷺ - بالحج مفردًا، وفي رواية أن رسول الله - ﷺ - أهل بالحج مفردًا. وله عن جابر رضي الله عنه قال: قدمنا مع رسول الله - ﷺ -، ونحن نصرخ بالحج صراخًا.
وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن القران أفضل، ويدل عليه ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يلبي بالحج والعمرة جميعًا، وفي رواية: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "لبيك عمرة وحجًّا". أخرجاه في "الصحيحين".
وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتع أفضل، ويدل عليه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تمتع رسول الله - ﷺ - وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فأول من نهى عنها معاوية. أخرجه الترمذي.
واختلفت الروايات في حجة النبي - ﷺ -: هل كان مفردًا، أو متمتعًا، أو قارنًا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة، ورجحت كل طائفة نوعًا، وادعت أن حجة النبي - ﷺ - كذلك، وطريق الجمع بين روايات الصحابة واختلافهم في حجته - ﷺ - أنه كان أولًا مفردًا، ثم أنه - ﷺ - أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج، فصار قارنًا.
فمن روى أنه كان مفردًا فهو الأصل، ومن روى القِران اعتمد آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتفق بالقِران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على عمل واحد، وبهذا أمكن الجمع بين الروايات المختلفة في صفة حجة الوداع، وهو الصحيح.
واختار الشافعي الإفراد واحتج في ترجيحه بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - وهؤلاء لهم مزية في حجة
وأما ابن عمر رضي الله عنهما: فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام ناقة النبي - ﷺ - في حجة الوداع، وإنما سمعه يلبي بالحج، وأما ابن عباس رضي الله عنهما فمحله من العلم والفقه والدين معروف مع كثرة بحثه عن أحوال رسول الله - ﷺ -، وأما عائشة رضي الله عنها: فقربها من رسول الله - ﷺ - معروف، واطلاعها على باطن أمره وظاهره مع كثرة فقهها وعلمها.
ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أفردوا الحج بعد رسول الله - ﷺ -، وواظبوا عليه وأركان الحج خمسة: الإحرام والوقوف بعرفة، والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير في أصح القولين.
وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه الأركان يحصل تمام الحج والعمرة.
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾؛ أي: منعتم عن إتمام الحج أو العمرة، بعدوّ أو مرض أو كسر أو سجن، وأردتم التحلل من إحرامكم ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾؛ أي: فعليكم ذبح ما تيسر وسهل لكم ﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ من بدنة أو بقرة أو شاة، واذبحوها حيث أحصرتم من حل أو حرم؛ لأنه - ﷺ - ذبح عام الحديبية بها، وإليه ذهب الشافعي وأحمد ومالك، وقال أبو حنيفة: أنه يقيم على إحرامه، ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبحه هناك، ثم يحل في ذلك الوقت، والهدي: هو ما يهدي إلى بيت الله الحرام، أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة؛ أي: فعليكم ذبح ما تيسر من هذه الأجناس، ويشترط (١) فيها أن تكون مجزئة في الأضحية، فإن لم يتيسر.. عدل إلى قيمة الحيوان، واشترى به طعامًا: وتصدق به في مكان الإحصار، فإن
والظاهر من الآية: أنه إذا لم يتيسر له.. فلا شيء عليه.
﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾؛ أي: ولا تحللوا من إحرامكم أيها المحصورون بالحلق أو التقصير ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾؛ أي: حتى يصل الهدي المكان الذي يحل فيه ذبحه، وهو الحرم عند أبي حنيفة، ومكان الإحصار عند الشافعي وهو الراجح؛ لأنه - ﷺ - ذبح عام الحديبية بها، وهي من الحل، فيذبح فيه بنية التحلل، ويفرق على مساكينه، ويحلق أو يقصر وبه يحصل التحلل والخروج من النسك، فبلوغ الهدي محله كناية عن ذبحه في مكان الإحصار، فتفيد الآية وجوب تقديم الذبح على الحلق، وهو كذلك كما هو مقرر في الفروع، و ﴿الْهَدْيُ﴾ (١) جمع هدية كجدي وجدية، وقرىء ﴿من الهدي﴾ جمع هدية كمطي جمع مطية، والمَحِل - بالكسر - يطلق على المكان والزمان، ويطلق (٢) الهدي على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هدية لأهل الحرم من غير سبب يقتضيه، وهذا ليس مرادًا هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب، سواء كان محظورًا وهو الواجب بفعل حرام أو ترك واجب، أو لم يكن كالإحصار والتمتع، وهذا هو المراد هنا.
واقتصاره على الهدي (٣) دليل على عدم وجوب القضاء، وقال أبو حنيفة: يجب القضاء.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ مرتب على محذوف؛ تقديره: ولا تحلقوا رؤسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو أذى كقمل وصداع؛ أي: فمن كان منكم أيها المحرمون مريضًا في بدنه محتاجًا إلى المداواة واستعمال الطيب
(٢) جمل.
(٣) بيضاوي.
﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ من العدو أو لم يكن من أول الأمر؛ أي: فإذا كنتم آمنين من العدو بعد ما وقع الإحصار، أو كنتم آمنين من أول الأمر ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾؛ أي: فمن تلذذ بمحظورات الإحرام كالطيب والدهن واللباس والنساء بسبب فراغه من أعمال العمرة ﴿إِلَى الْحَجِّ﴾؛ أي: إلى إحرامه بالحج ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾؛ أي: فعليه ذبح ما تيسر وسهل له من الدم، وهو شاة يذبحها يوم النحر، وهو الأفضل، فلو ذبح قبله بعد ما أحرم بالحج. أجزأه عند الشافعي كسائر دم الجبرانات، ولا يجزئه ذبحه عند أبي حنيفة قبل يوم النحر.
ولوجوب دم التمتع خمسة شرائط:
الأول: أن يقدم العمرة في أشهر الحج.
الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الثالث: أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة.
الرابع: أن يحرم بالحج من جوف مكة، ولا يعود إلى ميقات بلده، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه.. لم يكن متمتعًا.
الخامس: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام. فهذه الشروط معتبرة
وقيل: فائدة ذلك: الفذلكة في علم الحساب؛ وهو أن يعلم العدد مفصلًا، ثم يعلمه جملة؛ ليحتاط به من جهتين، و ﴿ذلك﴾ الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ بأن يكونوا على مرحلتين فأكثر من الحرم عند الشافعي رحمه الله تعالى، أو يكونوا وراء المواقيت الخمسة: ذي الحليفة، والجحفة، وقرن، ويلملم، وذات عرق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أو يكونوا من أهل الحل عند طاووس رضي الله عنه، أو يكونوا غير مكيين عند مالك رحمه الله تعالى، فحاضرو الحرم عند الشافعي رحمه الله تعالى من كان وطنه دون مرحلتين منه، ومن كان من أهل المواقيت أو دونها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وأهل الحرم عند طاووس، وأهل مكة عند مالك رحمه الله تعالى.
ومفهوم الآية: أن من كان من حاضري المسجد الحرام.. فلا هدي ولا صمام عليه وإن تمتع على ما قاله الشافعي ومن وافقه، وألحق بالتمتع في وجوب الدم أو بدله القارن بالسنة، وهو من أحرم بالحج والعمرة معًا، أو يدخل الحج عليها قبل الطواف كما مر.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه في الحج وفي غيره. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن خالف أمره، وتهاون بحدوده، وارتكب مناهيه.
١٩٧ - ﴿الْحَجُّ﴾؛ أي: وقت الحج ﴿أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾؛ أي: معروفات بين الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع فجر يوم النحر عند الشافعي.
فإن قلتَ: ما وجه جمع الأشهر مع أن الوقت شهران وعشر ليال؟
قلتُ: إنما جمعه؛ لأن المراد بالجمع ما فوق الواحد كما في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾، أو أنه نزل بعض الشهر منزلة كله.
وأما وقت العمرة: فجميع السنة، وهذه الآية مخصصة لعموم آية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ حيث اقتضت أن جميع الأهلة وقت للحج.
تنبيه: واختلفت الأئمة في وقت الحج، وقال (٢) الشافعي رحمه الله تعالى: وقت الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فيخرج وقته بطلوع فجر يوم النحر، وبه قال عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، والشعبي، وعليه الثوري، وأبو ثور رحمهم الله تعالى.
(٢) الخازن.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشرة أيامٍ من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وبه قال ابن عمر، وعروة بن الزبير، وطاووس، وعطاء، والنخعي، وقتادة، ومكحول، وأبو حنيفة؛ وأحمد بن حنبل، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وحجة هذا القول: أن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، ولأن فيه يقع طواف الإفاضة، وهو تمام أركان الحج، وهذا القول شاذ في مذهب الشافعي.
وقيل: إن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر وبه قال الزهري، وهي الرواية الأخرى عن مالك، وحجة هذا القول: أن الله تعالى ذكر أشهر الحج بلفظ الجمع وأقل الجمع المطلق ثلاث، ولأن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك، وعلى هذا القول: يصح الإحرام في جميع ذي الحجة، وهذا القول أشذ وأبعد.
﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾؛ أي: فمن أوجب الحج على نفسه بالإحرام في هذه الأشهر عند الشافعي، أو بالتلبية، أو سوق الهدي عند أبي حنيفة؛ لأنه يقول لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى تنضم إليه التلبية أو سَوْق الهدي، ووجهه: أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم، فلا بد من انضمام شيء إلى النية كتكبيرة الإحرام مع النية في الصلاة، وفي الآية: دليل على أن الإحرام بالحج لا ينعقد إلا في أشهره. ﴿فَلَا رَفَثَ﴾؛ أي: فلا جماع، أو فلا فحش من الكلام ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾؛ أي: ولا خروج عن حدود الشرع بالسباب وارتكاب المحظورات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من حج ولم يرفث ولم يفسق.. رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه. ﴿ولا جدال﴾؛ أي:
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿فلا رفثٌ ولا فسوقٌ﴾ بالرفع والتنوين و ﴿ولا جدال﴾ بالفتح، والباقون قرؤوا الكل بالفتح، والمعنى على هذا: لا يكونن رفث ولا فسوق ولا خلاف في الحج، وذلك أن قريشًا كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام، فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا بعرفات كسائر العرب، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله - ﷺ -: "من حج فلم يرفث ولم يفسق.. خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه" فإنه - ﷺ - لم يذكر الجدال.
ويروى عن عاصم برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي - شذوذًا - بنصب الثلاثة والتنوين. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ كصدقة وكترك المنهي عنه ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾؛ أي: يقبله منكم ويجازيكم عليه خير الجزاء، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
ونزل في أهل اليمن وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلًّا على الناس ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾؛ أي: خذوا من الزاد ما يكفيكم لسفركم، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ﴾ وأفضله ﴿التَّقْوَى﴾؛ أي: الاتقاء عن الإبرام، والتثقيل عليهم، والاستعفاف عن سؤالهم؛ أي: فإن خير الزاد ما يعفكم عن سؤال الناس، أو المعنى: تزودوا من التقوى لمعادكم، فإنها خير زاد، وهي فعل المأمورات وترك المنهيات ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: خافوا عقابي بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات يا أصحاب العقول الكاملة الذين يعلمون حقائق الأمور، وقيل معناه: واشتغلوا بتقواي، وفيه: تنبيه على كمال عظمة الله جل جلاله.
واعلم: أن الإنسان لا بد له من سفر في الدنيا ولا بد فيه من زاد، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب، وسفر من الدنيا إلى الآخرة، ولا بد فيه من
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقوى | ولاقيت بعد الموت مَنْ قد تزودا |
ندمت على أن لا تكون كمثله | وأَنَّك لم ترصد كما كان أرصدا |
وسبق لك في أسباب النزول ما روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإِسلام فكأنهم تأثموا أن يتَّجروا في المواسم، فنزلت هذه الآية، وعكاظ: سوق معروف بقرب مكة، ومَجِنة - بفتح الميم وكسرها -: سوق بقرب مكة أيضًا. قال الأزرقي: هي بأسفل مكة على بريد منها. وذو المجاز: سوق عند عرفة كانت العرب في الجاهلية يتجرون في هذه الأسواق ولها مواسم، فكانوا يقيمون بعكاظ عشرين يومًا من ذي القعدة، ثم ينتقلون إلى مجنة فيقيمون فيها ثمانية عشر يومًا، عشرة أيام من آخر ذي القعدة، وثمانية أيام من أول ذي الحجة، ثم يخرجون إلى عرفة في يوم التروية.
﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ﴾؛ أي: ذهبتم ورجعتم ﴿مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ وانصرفتم منها بعد الوقوف بها إلى مزدلفة، ففيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد الوقوف ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والثناء والدعوات بعد المبيت بمزدلفة ﴿عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ وهو جبل صغير في آخر مزدلفة يقف عليه الإِمام وعليه المِيقَدة يسمى قُرَح بوزن عُمَر، وفي الحديث: (أنه - ﷺ - وقف يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدًّا). رواه مسلم.
وإنما سمي مشعرًا؛ لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته، ومعنى ﴿عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾: مما يليه ويقرب منه، فإنه أفضل، وإلا فالمزدلفة كلها
١٩٩ - ﴿ثُمَّ﴾ بعد وقوفكم بعرفة وذكركم عند المشعر الحرام ﴿أَفِيضُوا﴾؛ أي: ارجعوا يا قريش ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ غيركم من سائر العرب وعامة الناس؛ أي: ارجعوا من المزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس للرمي والنحر إن قلنا: إنه خطاب لقريش، وأمرٌ لهم بالإفاضة من حيث أفاض غيرهم (٣)، وقرىء شذوذًا: ﴿الناسي﴾ يريد آدم، وهي صفة غلبت عليه كالعباس والحارث، ودل عليه قوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإِسلام أمر الله نبيه - ﷺ - أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ فعلى هذا القول المراد بالناس:
(٢) خازن.
(٣) عكبري.
﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: واطلبوا من الله باللسان مغفرة ذنوبكم، وتقصيركم في أعمال الحج، مع التوبة بالقلب؛ وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله، ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد، ويقصد بذلك: تحصيل مرضاة الله تعالى. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لذنوب المستغفرين ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بقبول توبتهم، ومنعم عليهم بإحساناته.
٢٠٠ - ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ﴾؛ أي: أديتم ﴿مَنَاسِكَكُمْ﴾؛ أي: أعمال حجكم وعبادتكم، وفرغتم منها بأن رميتم جمرة العقبة، وطفتم واستقررتم بمنى ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير، وابذلوا جهدكم في الثناء عليه، وذكر نعمائه ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾؛ أي: كما كنتم تذكرون آبائكم عند فراغ حجكم بالمفاخر، وتبذلون جهدكم في الثناء عليهم ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾؛ أي: بل اذكروا الله ذكرًا أكثر من ذكركم آباءكم؛ لأنه هو المنعم عليهم وعلى الآباء، فهو المستحق للذكر والثناء مطلقًا؛ لأن صفات الكمال لله تعالى غير متناهية.
وسئل ابن عباس عن معنى هذه الآية، فقيل له: قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه، فقال: ليس المعنى كذلك، ولكن المعنى: أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شُتِمَا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أن الصبي أول ما يفصح الكلام يقول: أبه أمه، لا يعرف غير ذلك، فأمرهم أن يذكروه كذكر الصبيان الصغار الآباء.
﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ في الموقف وهم المشركون: ﴿رَبَّنَا آتِنَا﴾؛ أي: أعطنا ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ إبلًا وبقرًا وغنمًا، وعبيدًا أو إماء، ومالًا ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾؛ أي: من حظ ولا نصيب في الجنة بِحَجِّه.
٢٠١ - ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ﴾ في الموقف: ﴿رَبَّنَا آتِنَا﴾؛ أي: أعطنا ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾؛ أي: علمًا وعبادة وعصمة من الذنوب، وشهادة وغنيمة وصحة وكفافًا، وتوفيقًا للخير ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾؛ أي: الجنة ونعيمها، وقيل: من آتاه الله الإِسلام والقرآن، وأهلًا ومالًا.. فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة؛ يعني: في الدنيا عافية، وفي الآخرة عافية.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي - ﷺ - "اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". متفق عليه. ﴿وَقِنَا﴾؛ أي: وادفع عنا ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾ واحفظنا منها بالعفو والغفران.
٢٠٢ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الداعون بالحسنتين ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾؛ أي: حظ وافر في الجنة
وهذا الكلام ذكره في الفريقين تفصيلًا لحال الذاكرين، إلى من لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا، وإلى من يطلب الدارين، والمراد به: الحث على الإكثار من الدعاء والذكر وسائر الطاعات، وطلب الآخرة.
٢٠٣ - ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أيها الحجاج وكذا غيرهم بالتكبير والتحميد والتسبيح والتهليل ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾؛ أي: في أيام معلومات العدد أيام التشريق الثلاثة عند رمي الجمرات، وخلف الصلوات، وعلى الأضاحى والهدايا، سميت معدودات لقلتهن، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
روى مسلم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير".
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكبّر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعًا.
﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾؛ أي: فمن استعجل بالنفر والذهاب من منى في ثاني أيام التشريق قبل الغروب بعد رمي جماره بعد الزوال؛ وهي إحدى وعشرون حصاة يرمي سبعة لكل جمرة يكبر مع كل حصاة، فإن غربت عليه الشمس وهو بمنى.. لزمه المبيت بها؛ ليرمي اليوم الثالث عند الشافعي، وقال أبو حنيفة (٢):
(٢) خازن.
ذلك التخيير، ونفي الإثم ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ الله في حجه باجتنابه محظورات الإحرام، وإتيانه بالمأمورات؛ لأنه المنتفع بحجه دون من سواه ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في المستقبل في مجامع أموركم بفعل الواجبات، وترك المحظورات ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ﴾ أيها العباد ﴿إِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وتجمعون يوم القيامة بالبعث من قبوركم، فيجازيكم بأعمالكم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وفيه حث على التقوى.
فصل
وأجمع العلماء (٤) على أن المراد بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هو التكبير عند رمي الجمار، وهو أن يكبر مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق.
وأجمعوا أيضًا على أن التكبير في عيد الأضحى، وفي هذه الأيام في أدبار الصلوات منه، واختلفوا في وقت التكبير، فاقيل: يُبتدأ به من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا القول في خمس عشر صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال
(٢) بيضاوي.
(٣) خازن.
(٤) خازن.
والقول الثالث للشافعي: أنه يُبتدأ بالتكبير من صلاة الصبح يوم عرفة، يختتم به بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا القول في ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومكحول، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال ابن مسعود: يبتدأ به من صبح يوم عرفة، ويختم بصلاة العصر من يوم النحر، فعلى هذا القول يكون التكبير في ثمان صلوات، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أحمد بن حنبل: إذا كان حلالًا كبّر عقيب ثلاث وعشرين صلاة، أولها الصبح من يوم عرفة، وآخرها صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرمًا كبر عقيب سبع عشرة صلاة، أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها أيام التشريق.
ولفظ التكبير عند الشافعي ثلاثًا نسقًا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وهو قول سعيد بن جبير، والحسن، وهو قول أهل المدينة. قال الشافعي: وما زاد من ذكر الله فحسن، ويروى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه يكبر مرتين، فيقول: الله أكبر الله أكبر، وهو قول أهل العراق.
فائدة: فإن (١) قلتَ: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فيه إشكال، وهو أن الذي أتى بأفعال الحج كاملة تامة، فقد أتى بما يلزمه، فما معنى قوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ إنما يخاف من الإثم من قصر فيما يلزمه؟.
قلتُ: فيه أجوبة:
الجواب الثاني: أن مِنَ الناس مَنْ كان يتعجل، ومنهم مَنْ كان يتأخر، وكل فريق يصوب فعله على فعل الآخر، فبين الله تعالى أن كل واحد من الفريقين مصيب في فعله، وأنه لا إثم عليه.
الجواب الثالث: إنما قال: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لمشاكلة اللفظة الأولى، فهو كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ ومعلوم أن جزاء السيئة ليست سيئة.
الجواب الرابع: أن فيه دلالة على جواز الأمرين، فكأنه تعالى قال: فتعجلوا أو تأخروا فلا إثم في التعجيل، ولا في التأخير. انتهى.
الإعراب
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.
﴿وَأَتِمُّوا﴾: الواو: استئنافية، ﴿أتموا الحج﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أتموا﴾، أو بمحذوف حال من ﴿الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾؛ تقديره: حالة كونهما كائنين لله، وفي قراءة برفع ﴿العمرةُ﴾ على الابتداء، والجار والمجرور خبره؛ تقديره: والعمرة كائنة لله، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية.
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الحج والعمرة واجب إتمامهما إذا كنتم غير معذورين، وأردتم بيان حكم ما إذا أحصرتم عنهما، أو كنتم مرضى، أو بكم أذى في الرأس.. فأقول لكم: ﴿إن أحصرتم﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿أحصرتم﴾: فعل ماضٍ
﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾.
﴿وَلَا تَحْلِقُوا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَحْلِقُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿رُءُوسَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَبْلُغَ الْهَدْيُ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾. ﴿مَحِلَّهُ﴾: ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿يَبْلُغَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حتى﴾؛ تقديره: إلى بلوغ الهدي محله، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿لا تحلقوا﴾.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾.
﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح. ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿مِنكُم﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال مقدمة من قوله ﴿مَرِيضًا﴾. ﴿مَرِيضًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف معطوف على ﴿مَرِيضًا﴾؛ تقديره: أو كائنًا به. ﴿أَذًى﴾: فاعل للجار والمجرور. ﴿مِنْ رَأْسِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿أَذًى﴾؛ تقديره: أو
وعبارة الكرخي (١) قوله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى﴾ يجوز أن يكون هذا من باب عطف المفردات، وأن يكون من باب عطف الجمل.
أما الأول: فيكون الجار والمجرور في قوله ﴿بِهِ﴾ معطوفًا على ﴿مَرِيضًا﴾ الذي هو خبر ﴿كان﴾، فيكون في محل نصب، ويكون ﴿أَذًى﴾ مرفوعًا به على سبيل الفاعلية؛ لأن الجار إذا اعتمد رفع الفاعل عند الكل، فيصير التقدير: فمن كان كائنًا به أذى من رأسه.
وأما الثاني: فيكون ﴿بِهِ﴾ خبرًا مقدمًا، ومحله على هذا رفعٌ. ﴿أَذًى﴾: مبتدأ مؤخر، وتكون هذه الجملة في محل نصب؛ لأنها معطوفة على ﴿مَرِيضًا﴾ الواقع خبرًا لـ ﴿كان﴾، وهي وإن كانت جملة لفظًا، فهي في محل مفرد؛ إذ المعطوف على المفرد مفرد، لا يقال: إنه عاد إلى عطف المفردات، فيتحد الوجهان لوضوح الفرق. انتهت.
﴿فَفِدْيَةٌ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية، ﴿فدية﴾: مبتدأ خبره محذوف؛ تقديره: واجب عليه، والجملة من المبتدأ والخبر المحذوف في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب معطوفه على جملة قوله ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾. ﴿مِنْ صِيَامٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿فِدْيَةٌ﴾؛ تقديره: فدية كائنة من صيام واجبة عليه. ﴿أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾: معطوفان على ﴿صِيَامٍ﴾ و ﴿أَوْ﴾: فيهما للتخيير.
﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾ (٢): عاطفة، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿أَمِنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها.
(٢) جمل.
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾.
﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن من تمتع بالعمرة.. فعليه ما استيسر من الهدي، وأردتم بيان حكم من لم يتيسر له فأقول: ﴿من لم يجد﴾، ﴿من﴾: اسم شرط جازم، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط إن قلنا شرطية، أو جملة قوله ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ إن قلنا موصولة. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَجِدْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها فعل شرط لها، أو صلة الموصول، ومفعول ﴿يَجِدْ﴾ محذوف؛ تقديره: فمن لم يجد الهدي؛ لأن (وجد) هنا بمعنى (أصاب)، فيتعدى
﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: ذلك كائن لمن لم يكن، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿أَهْلُهُ﴾: اسم ﴿يَكُنْ﴾، ومضاف إليه. ﴿حَاضِرِي﴾: خبر ﴿يَكُنْ﴾ منصوب بـ ﴿الياء﴾ المحذوفة وهو مضاف. ﴿الْمَسْجِدِ﴾: مضاف إليه. ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة للمسجد، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد ضمير ﴿أَهْلُهُ﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَاعْلَمُوا﴾: الواو: عاطفة، ﴿اعلموا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اتقوا﴾. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿شَدِيدُ﴾: خبرها، وهو مضاف. ﴿الْعِقَابِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾.
﴿الْحَجُّ﴾: مبتدأ. ﴿أَشْهُرٌ﴾: خبر، ولكن على تقدير مضاف؛ تقديره: وقت الحج؛ لئلا يلزم علينا الإخبار باسم الزمان عن اسم المعنى، والجملة مستأنفة. ﴿مَعْلُومَاتٌ﴾: صفة ﴿أَشْهُرٌ﴾. ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت أن الحج أشهر معلومات، وأردت بيان حكم من أحرم الحج فيها.. فأقول لك: ﴿من فرض﴾، ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة قوله ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ إن قلنا: ﴿من﴾ موصولة، ﴿فَرَضَ﴾: في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾، ﴿فِيهِنَّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرَضَ﴾. ﴿الْحَجَّ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا، أو رابطة الخبر بالمبتدأ، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إنّ ﴿رَفَثَ﴾: في محل النصب اسمها، ومثله في الإعراب قوله ﴿وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ﴾. ﴿فِي الْحَجِّ﴾: جار ومجرور تنازع فيه كل من قوله ﴿فَلَا رَفَثَ﴾، ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾، ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ على كونه خبرًا لـ ﴿لا﴾؛ تقديره: فلا رفث جائز في الحج، ولا فسوق كذلك، ولا جدال كذلك، والجمل الثلاث في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية، ﴿ما﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، أو في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿ما﴾ على كونه فعل الشرط لها، والخبر جملة الشرط إن قلنا ﴿ما﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿ما﴾. ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾: فعل
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماضٍ ناقص. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَبْتَغُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾. ﴿فَضْلًا﴾: مفعول به. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿فَضْلًا﴾؛ تقديره: فضلًا كائنًا من ربكم، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ تقديره: في ابتغاء فضل من ربكم، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور قبله.
﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنه لا جناح عليكم في ابتغاء فضل الله، وأردتم بيان ما هو المطلوب لكم.. فأقول: ﴿إذا أفضتم﴾: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَفَضْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ عَرَفَاتٍ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة
﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف بمعنى الواو. ﴿أَفِيضُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ إن جرينا على القول بأن المراد بهذه الإفاضة الإفاضة من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، كما قاله الضحاك. ﴿مَنْ يَقُولُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَفِيضُوا﴾. و ﴿حَيْثُ﴾ إما ظرف زمان أو مكان. ﴿أَفَاضَ النَّاسُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَفِيضُوا﴾.
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أحكام مناسككم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم بعد قضائها.. فأقول لكم: ﴿إذا قضيتم﴾. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قَضَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿مَنَاسِكَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا، ﴿اذكروا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مفعول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة. ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. ﴿آبَاءَكُمْ﴾: مفعول المصدر، ومضاف إليه، الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: فاذكروا الله ذكرًا كائنًا كذكركم آباءكم. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف بمعنى (بل). ﴿أَشَدَّ﴾: منصوب على الحالية من ﴿ذِكْرًا﴾ المذكور بعده، المنصوب بـ ﴿اذكروا﴾؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، فينصب على الحال. ﴿ذِكْرًا﴾: مفعول مطلق لـ ﴿اذكروا﴾ منصوب به؛ لأن القاعدة: أن نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالًا، وتعرب النكرة بحسب العوامل، فيكون التقدير: فاذكروا الله ذكرًا كائنًا كذكركم آباءكم، بل اذكروه ذكرًا أشد من ذكركم آباءكم؛ أي: أكثر منه.
﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾.
﴿فَمِنَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من المناسك وما هو الأصلح لكم بعد قضاء
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ والواو: عاطفة، ﴿منهم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿فَمِنَ النَّاسِ﴾، وجملة يقول صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿آتِنَا﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَبَّنَا﴾، والجملة جواب النداء في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آتِنَا﴾. ﴿حَسَنَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿آتِنَا﴾. ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور معطوف على قوله ﴿فِي الدُّنْيَا﴾. ﴿حَسَنَةً﴾: معطوف على ﴿حَسَنَةً﴾ الأولى، على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿آتِنَا﴾. ﴿وَقِنَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿قِ﴾ فعل أمر مبني
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿نَصِيبٌ﴾: مبتدأ ثان مؤخر. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَصِيبٌ﴾؛ والتقدير: أولئك نصيب مما كسبوا كائن لهم، والجملة مستأنفة. ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: مما كسبوه. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استئنافية، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ: ﴿سَرِيعُ﴾ خبر. ﴿الْحِسَابِ﴾: مضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
﴿وَاذْكُرُوا﴾ الواو: استئنافية، ﴿اذكروا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿فِي أَيَّامٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اذكروا﴾. ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾: صفة لـ ﴿أَيَّامٍ﴾. ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط قدر؛ تقديره: إذا عرفتم مشروعية الذكر لكم، وأردتم بيان حكم من تعجل ومن تأخر.. فأقول لكم: ﴿من تعجل﴾، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. ﴿تَعَجَّلَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَعَجَّلَ﴾. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل ﴿إن﴾. ﴿إِثْمَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾؛ تقديره: فلا إثم كائن عليه، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿وَمَن﴾: الواو: عاطفة، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط.
﴿لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
﴿لِمَنِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: ذلك الحكم المذكور كائن لمن اتقى الله، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَاعْلَمُوا﴾ الواو: عاطفة، ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَاتَّقُوا﴾. ﴿أَنَّكُمْ﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿الكاف﴾: اسمها. ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾، ﴿تُحْشَرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾؛ تقديره: أنكم محشورون إليه، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾؛ تقديره: واعلموا حشركم إليه للمجازاة بالبعث من القبور. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ استيسر وتيسر بمعنى واحد، مثل صعب واستصعب، وغنى واستغنى، وليست السين للطلب، وذلك لأن العرب لا تزيد حرفًا غالبًا إلا للدلالة على معنى زائد لا يدل عليه الأصل كما هو مقرر في التصريف. ﴿الْهَدْيِ﴾: بتخفيف الياء مصدر في الأصل، وهو بمعنى المهدي، ويقرأ بتشديد الياء، وهو جمع هدية، وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول. ﴿مَحِلَّهُ﴾: وهو بالكسر يطلق على الزمان والمكان، وبالفتح على المكان فقط. ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها.
﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾: الرفث: الإفحاش في الكلام، يقال: رفث يرفُث بكسر الفاء وضمها، والفسوق: الخروج عن حدود الشرع،
﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ وأصل أفضتم: أفيضتم؛ لأنه من فاض السيل يفيض إذا سال، وإذا كثر الناس في الطريق كان مشيهم كجريان للسيل.
﴿عَرَفَاتٍ﴾: اسم (٣) لتلك البقعة؛ أي: موضع الوقوف، وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين فيه للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين، وسميت عرفات؛ لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: لأن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا، وقيل: غير ذلك. قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع.
وقال أبو السعود (٤): وعرفات جمع سمي به كأذرعات، وإنما صرف وفيه العلتان لأن تنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكين، وهذا الاسم من الأسماء المرتجلة إلا على القول بأن أصله جمع.
﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ السين والتاء فيه للطلب على بابها، والمفعول الثاني محذوف للعلم به؛ أي: من ذنوبكم التي فرطت منكم، واستغفر يتعدى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني بمن، نحو استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر كقوله:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ | رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ وَالعَمَلُ |
(٢) البحر المحيط.
(٣) شوكاني.
(٤) جمل.
﴿مَنَاسِكَكُمْ﴾: جمع (١) منسَك بفتح السين وكسرها، والجمهور على إظهار الكاف الأولى، وأدغمها بعضهم؛ شبه حركة الإعراب بحركة البناء فحذفها.
البلاغة
﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾: فيه مجاز في الفاعل وفي المفعول:
أما في الفاعل: ففي إسناد الحلق إلى الجميع، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض، وهو مجاز شائع كثير، تقول: حلقت رأسي والمعنى: أن غيره حلقه له.
وأما المجاز في المفعول: فإنه على حذف مضاف تقديره: شعر رؤوسكم، والخطاب يخص الذكور؛ لأن الحلق مثلةً (٢) للنساء في الحج وفي غيره، وإنما التقصير سنتهن في الحج.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾: كناية عن ذبحه في مكان الإحصار.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾: فيه مجاز بالحذف؛ لأن الأصل فمن كان منكم مريضًا فحلق، أو به أذى من رأسه فحلق.. فعليه فدية.
﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾: فيه من مباحث البلاغة شيئان: أحدهما: الإلتفات، والآخر: الحمل على المعنى.
أما الإلتفات: فإن قبله: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾، فجاء بضمير الغيبة عائدًا على ﴿من﴾ فلو نسق هذا على نظم الأول.. لقيل: إذا رجع، بضمير الغيبة.
وأما الحمل على المعنى: فلأنه أتى بضمير الجمع اعتبارًا بمعنى ﴿من﴾، ولو روعي اللفظ لأفرد، فقيل: إذا رجع.
﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾: فيه إجمال بعد التفصيل، وهذا من باب الإطناب، وفائدته زيادة التأكيد والمبالغة في المحافظة على صيامها وعدم التهاون بها، أو
(٢) مَثَلةٌ: تشويه.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: فيه إظهار في مقام الإضمار؛ لتربية المهابة في روع السامع.
﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾: فيه إظهار في مقام الإضمار، ونكتته كمال الاعتناء بشأنه، والإشعار بعلة الحكم، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها من موجبات ترك الأمور المذكورة، وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يقع، فإن ما كان منكرًا مستقبحًا في نفسه، ففي خلال الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة؛ لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾؛ أي: ومن شر ففيه اكتفاء، وهو ذكر أحد المتقابلين، وحذف الآخر لعلمه من المذكور.
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾: فيه تشبيه تمثيلي، يسمى: مرسلًا مجملًا.
﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾: فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ولو جاء على الخطاب.. لكان: فمنكم من يقول ومنكم من يقول. وحكمة هذا الالتفات: أنهم لما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل، وهو الاقتصار على الدنيا.. أبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله، بأن جعلوا في صورة الغائبين، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢)﴾.
المناسبة
ومناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة العبادات التي تطهر القلوب، وتزكي النفوس كالصيام والصدقة والحج، وقسم السائلين له إلى مقتصر على أمر الدنيا وطلبها، وسائل حسنة الدنيا والآخرة والوقاية من النار.. أتى هنا بذكر النوعين، فذكر من النوع الأول من هو حلو المنطق مظهر الود، وليس ظاهره كباطنه، وعطف عليه من يقصد رضى الله تعالى، ويبيع نفسه في طلبه، وقدم الأول هنا؛ لأنه هناك هو المقدم بقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾، وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره من الأوصاف؛ لأن القول هو الظاهر منه أولًا في قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا﴾ فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا، وأن يسأل ما ينجيه من عذابه، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته، ثم حذر تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان، وبين لنا عداوته الشديدة.
قوله (١) تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...﴾ الآية، أخرج ابن جرير عن السدي قال: نزلت في الأخنس بن شريق، أقبل إلى النبي - ﷺ -، وأظهر له الإِسلام، فأعجبه ذلك منه، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر؛ فأنزل الله الآية.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ...﴾ أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرًا إلى النبي - ﷺ -، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني مِنْ أرماكم رجلًا، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم منه، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة، وخليتم سبيلي. قالوا: نعم، فلما قدم على النبي - ﷺ - المدينة قال: ربح البيع أبا يحيى، ربح أبا يحيى، ونزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...﴾ الآية.
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: قال عبد الله بن سلام، وثعلبة، وابن يامين، وأَسد وأُسد ابنا كعب، وسعيد بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها الليل؛ فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٢٠٤ - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...﴾ إلخ، هذان (٢) قسمان يضمان لقوله
(٢) جمل.
والمعنى حينئذ: أي يعجبك كلامه في الدنيا حلاوة وفصاحة، ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه في الموقف من الدهشة والحيرة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أنه موافق لقوله؛ أي: يحلف بالله على أن ما في قلبه من محبتك أو من الإِسلام موافق لكلامه، ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإِسلام، وقرأ ابن محيصن (١) شذوذًا ﴿وَيشهدُ اللهُ﴾ بفتح حرف المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل، والمعنى: ويعلم الله منه خلاف ما قال، ومثله قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، وقرأ ابن عباس شذوذًا ﴿واللهَ يُشْهِدُ على ما في قَلْبِهِ﴾، وقرأ أبي، وابن مسعود شذوذًا أيضًا: ﴿وَيَسْتَشْهِدُ اللهَ على ما في قلبه﴾.
﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾؛ أي: والحال أنه شديد الخصومة والعداوة لك وللمسلمين، وهو الأخنس بن شريق الثقفي، واسمه أبي كان منافقًا حسن العلانية خبيث الباطن، أقبل إلى النبي - ﷺ - وأظهر الإِسلام، وحلف بالله إنه يحبه ويتابعه في السر، وكان النبي - ﷺ - يدنيه من مجلسه، وعن ابن عباس (٢) أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع - موضع بين مكة والمدينة - وعابوهم؛ فأنزل الله في ذم المنافقين، ومدح خبيب وأصحابه.
(٢) ابن كثير.
٢٠٥ - ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ وانصرف وذهب من عندك يا محمَّد بعد إلانة القول، وإحلاء المنطق ﴿سَعَى﴾ ومشى ﴿في﴾ بقاع ﴿الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾؛ أي: ليوقع الفساد فيها بقطع الأرحام، وسفك دماء المسلمين، وإيقاع الاختلاف بينهم وتفريق كلمتهم ﴿و﴾ لـ ﴿يهلك﴾ ويعدم ﴿الْحَرْثَ﴾ والزرع بالإحراق ﴿و﴾ يهلك ﴿النسل﴾؛ أي: نسل الدواب والحمر وأولادها بالقتل، فقوله: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِيُفْسِدَ﴾ عطف خاص على عام كما أشرنا إليه في الحل، فإن الأخنس هذا لما انصرف من بدر مر على بني زهرة، وكان بينهم وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلًا، فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم، وقيل: معناه إذا تولى؛ أي: إذا صار واليًا وملك الأمر.. سعى في الأرض؛ ليفسد فيها بالظلم والعدوان، كما يفعله ولاة السوء والظلمة، وقيل: يظهر ظلمه حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر، فهلك الحرث والنسل بسبب منع المطر، وهذه الآية وإن نزلت في الأخنس، فهي عامة في كل منافق يقول بلسانه ما ليس في قلبه.
يُعْطِيْكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلاَوَةً | وَيرُوغُ عَنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ |
٢٠٦ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك الإنسان ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾؛ أي: خَفْ عقاب الله في فعلك ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾؛ أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية ﴿بِالْإِثْمِ﴾؛ أي: على فعل الإثم والفساد الذي أُمر باتقائه، ولزمه التكبر الحاصل بالإثم الذي في قلبه،
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك.
وروي أنه قيل لعمر: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعًا لله.
ونزل في صهيب بن سنان الرومي حين أسلم وتعرض له المشركون وأرادوا قتله، فاشترى نفسه منهم بماله وأتى المدينة، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن
٢٠٧ - المنكر حتى يقتل، قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي﴾؛ أي: يشتري ﴿نَفْسَهُ﴾ من الكفار بماله ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه﴾؛ أي: لأجل طلب رضا الله سبحانه وتعالى بالهجرة إلى الله ورسوله، وهو صهيب بن سنان، لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة، وترك لهم ماله، فعلى هذا: فالشراء على معناه الأصلي.
وقيل معناه: ومن الناس من يبيع ويبذل نفسه في طاعة الله من صلاة وصيام وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة، فصار كالبائع، والله تعالى هو المشتري، والثمن هو رضا الله تعالى وثوابه المذكور في قوله: ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه﴾. ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾؛ أي: محسن إليهم ومكرم لهم بالنعم الجسام، حيث أرشدهم لما فيه رضاه، ومن (١) رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن المصر على الكفر ولو مئة سنة إذا تاب ولو لحظة... أسقط عنه
٢٠٨ - ونزل في عبد الله بن سلام وأضرابه حين عظموا السبت، وكرهوا الإبل بعد الإِسلام قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ بفتح السين وكسرها الإِسلام؛ أي: تلبسوا بالإِسلام ﴿كَافَّةً﴾؛ أي: جميعًا، واعملوا بجميع أحكامه واتركوا ما كنتم عليه من شريعة موسى المخالفة لملة الإِسلام؛ لأنها صارت منسوخة، والسلم (١) هنا قرأها بالفتح نافع، والكسائي، وابن كثير، والباقون بكسرها، والتي في (الأنفال) لم يقرأها بالكسر إلا أبو بكر وحده عن عاصم، والتي في القتال، فلم يقرأها بالكسر إلا حمزة، وأبو بكر أيضًا، وقرأ الأعمش السَلَم بفتح السين واللام.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾؛ أي: ولا تتبعوا طرق تزيين الشيطان ووسوسته بتفريق الأحكام بالعمل ببعضها الموافق لشريعة موسى، وعدم العمل بالبعض الآخر المخالف لها كعدم تعظيم السبت، وعدم كراهة الإبل؛ يعني: لا تتبعوا طرق الشيطان التي يزينها بوسوسته لكم، وقيل المعنى: ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية والأهواء المضلة؛ لأن من اتبع سنة إنسان.. فقد تبع أثره ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشيطان ﴿لَكُمْ﴾ يا بني آدم ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: بيّن العداوة وظاهرها بالنسبة لمن أنار الله قلبه، وأما غيره:
٢٠٩ - فهو حليف له ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ وملتم عن الدخول في كافته وجميعه، وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به، وقرىء شذوذًا ﴿زللتم﴾ بكسر اللام ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ﴾ وظهرت لكم ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾؛ أي: الدلالات الواضحات من البراهين القطعية، والدلائل النقلية كالمعجزة الدالة على الصدق، وكالبيان الحاصل بالقرآن والسنة.
٢١٠ - ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾؛ أي: ما ينتظر هؤلاء التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ يوم القيامة بلا كيف ولا تشبيه، لفصل القضاء بين الأولين والأخرين ﴿فِي ظُلَلٍ﴾؛ أي: في سحاب رقيق ﴿مِنَ الْغَمَامِ﴾؛ أي: من السحاب الأبيض ﴿و﴾ إلا أن تأتيهم ﴿الملائكة﴾ الموكلون بتعذيبهم، وقيل: إن قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ فيه تقديم وتأخير بدليل ما في بعض القراءات شاذة: ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام﴾ قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية (١) يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيىء فيما يشاء بدليل هذه القراءة.
وقال ابن كثير: وقد ذكر الإِمام أبو جعفر بن جرير ها هنا حديث الصوَر بطوله من أوله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ -، وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات.. تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا من آدم، فمن بعده، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمَّد - ﷺ -، فإذا جاؤوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه الله، ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا، وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة إلى السابعة، وينزل حملة العرش والكروبيون (٢)، قال: وينزل الجبار عَزَّ وَجَلَّ في ظلل من الغمام والملائكة". الحديث.
قال ابن أبي حاتم، وحدثنا أبي قال: حدثنا محمَّد بن الوزير الدمشقي،
(٢) الكروبيون: سادة الملائكة "لسان العرب".
والقول الأسلم (١) الذي عليه سلف الأمة وأعلام أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها: الإيمان والتسليم لما جاء فيها من الصفات، فيجب علينا الإيمان بظاهرها، وأن نؤمن بها كما جاءت، ونكل علمها إلى الله تعالى وإلى رسوله - ﷺ -، مع الإيمان والاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث، وعن الحركة والسكون. قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر، وقال سفيان بن عيينه: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله.
وكان الزهري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها: اقرؤوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، هذا مذهب أهل السنة، ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى:
عَقِيْدَتُنَا أَنْ لَيْسَ مِثْلُ صِفَاتِهِ | وَلاَ ذَاتِهِ شَيءٌ عَقِيْدَةُ صَائِبِ |
نُسَلِّمُ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا | وَأَخْبَارَهَا للظَّاهِرِ المُتَقَارِبِ |
وَنُؤْيِسُ عَنْهَا كُنْهَ فَهْمِ عُقُوْلِنَا | وَتَأْوِيْلُنَا فِعْلُ اَللَّبِيْبِ الْمُغَالِبِ |
وَنَرْكَبُ لِلتَسْلِيْمِ سُفْنًا فَإِنَّهَا | لِتَسْلِيْمِ دِيْنِ الْمَرْءِ خَيْرُ الْمَركَبِ |
(٢) بيضاوي.
(٣) شوكاني.
والمعنى: هل ينتظرون إلا أن يأتيهم بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام والملائكة؟.
وقوله: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾: معطوف على ﴿يَأْتِيَهُمُ﴾، داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه، فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة؛ أي: وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم. وقرأ معاذ بن جبل شذوذًا: ﴿وقضاء الأمر﴾ بالمصدر عطفًا على الملائكة، وقرأ يحيى بن يعمر شذوذًا أيضًا: ﴿وقضى الأمور﴾ بالجمع؛ أي: فهل ينتظرون إلا أن يُقضى الأمر بين الخلائق، ويفصل بينهم بأخذ الحقوق لأربابها، وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته، إما في الجنة وإما في النار، وذلك يوم القيامة. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ يوم النشور؛ أي: ترد إليه أمور الخلائق وشؤونهم؛ ليقضي بينهم القضاء الفاصل، ويجازي كلًّا على عمله.
فإن قلتَ (١): هل كانت الأمور ترجع إلى غيره تعالى؟.
قلت: إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا والآخرة، ولكن المراد من هذا: إعلام الخلق بأنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب.
وفيه جواب آخر، وهو أنه لمّا عبد قوم غيره تعالى في الدنيا.. أضافوا أفعاله تعالى إلى طاغوتهم، فإذا كان يوم القيامة، وانكشف الغطاء.. ردوا إلى الله أضافوه إلى غيره في الدنيا.
وقرأ ابن كثير (٢)، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم على البناء للمفعول على أنه بمعنى: ترد، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي على البناء للفاعل بالتأنيث على
(٢) بيضاوي ومراح.
٢١١ - ﴿سَلْ﴾ يا محمَّد ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: أولاد يعقوب الحاضرين منهم توبيخًا لهم وتقريعًا ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: أيُّ عدد أعطيناهم ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾؛ أي: من معجزة واضحة، وحجج باهرة تدل على صدق أنبيائهم؛ أي: سلهم كم من المعجزات أعطينا لموسى نبيهم تدل على صدقه؟ كيَده، وعصاه، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك، فبدلوها كفرًا؛ أي: أخذوا بدل موجبها وهو الإيمان كفرًا، فاستوجبوا العقاب من الله تعالى، فإنكم لو زللتم عن آيات الله تعالى.. لوقعتم في العذاب كما وقع أسلافكم فيه، وهذا تسلية لرسول الله - ﷺ -؛ أي: فلا غرابة في عدم إيمانهم بك، فإننا آتيناهم آيات بينات على يد موسى، فلم يؤمنوا ولم ينقادوا ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾؛ أي: ومن يغير آيات الله الباهرة الدالة على نبوة محمَّد - ﷺ - بالكفر؛ أي: بدل موجبها الذي هو الإيمان بها بالكفر ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾؛ أي: من بعد ما وصلت إليه وعرفها، أو المعنى: ومن يغير دين الله وكتابه بالكفر من بعد ما جاء به محمد - ﷺ - ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ له فيعاقبه أشد عقوبة؛ لأنه ارتكب أشد جريمة، وفي هذا من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره.
وقال ابن جرير الطبري (١): النعمة هنا الإِسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائنًا من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها، ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾؛ أي: حسنت (٢) في أعينهم، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا فيها، وأعرضوا عن غيرها، والمزين لهم في الحقيقة هو الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، ويدل عليه قراءة ﴿زيَّن﴾ بالبناء
(٢) بيضاوي.
وقيل: إن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا حتى أقبلوا عليها وأحبوها، فكان هذا الإمهال هو التزيين.
قيل: نزلت هذه الآية (٣) في مشركي العرب، أبي جهل وأضرابه؛ لأنهم كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال، ويكذبون بالمعاد، وقيل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: نزلت في رؤساء اليهود، ويحتمل أنها نزلت في الكل ﴿و﴾ هم ﴿يسخرون من الذين آمنوا﴾ ويستهزؤون بفقراءهم بضيق معيشتهم، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: مثل عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وصهيب، وبلال، ونظرائهم رضي الله عنهم، وقيل: كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمَّد أنه يغلب بهم ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ عن الشرك، وعن الدنيا الشاغلة عن الله تعالى، وهم فقراء المؤمنين ﴿فَوْقَهُمْ﴾؛ أي: فوق الكفار حسًّا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ لأن المؤمنين في عليين، والكافرين في سجين، والمعنى: لأنهم في أوج الكرامة، وهم في حضيض المذلة، ولأن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا.
(٢) الخازن.
(٣) الخازن.
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - عن النبي - ﷺ - قال: "قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء". متفق عليه. الجَد - بالفتح -: الحظ والغنى وكثرة المال. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: والله يعطي من يشاء من عباده في الدنيا من مؤمن أو كافر، أو في الآخرة لمؤمن رزقًا واسعًا ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: رزقًا لا حساب فيه، ولا عد ولا ضبط لكثرته، فلا يضبطه عد، ولا كيل، ولا وزن من غير تكلف من المرزوق، ومن حيث لا يحتسب، وقد أغنى الله المؤمنين بما أفاض عليهم من أموال صناديد قريش، ورؤساء اليهود حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر، ولكن البسط في الدنيا لا يخلو: إما من الاستدراج، أو من الابتلاء.
الإعراب
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
﴿وَمِنَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿من الناس﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَن﴾: اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿يُعْجِبُكَ﴾: فعل ومفعول. ﴿قَوْلُهُ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ ﴿من﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير في ﴿قَوْلُهُ﴾. ﴿الْحَيَاةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُعْجِبُكَ﴾، أو بـ ﴿القول﴾. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾.
﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿تَوَلَّى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿سَعَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ﴾، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرط وجوابها مستأنفة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَعَى﴾. ﴿لِيُفْسِدَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يفسد﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ﴾. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾، تقديره: لإفساده فيها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سَعَى﴾. ﴿وَيُهْلِكَ﴾ الواو: عاطفة، ﴿يهلك﴾: معطوف على ﴿يفسد﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿الحَرْثَ﴾: مفعول به. ﴿وَالنَّسْلَ﴾: معطوف على ﴿الْحَرْثَ﴾، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من ﴿يفسد﴾؛ تقديره: ولإهلاكه الحرث والنسل.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: عاطفة جملة على جملة، أو استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغيَّرا الصيغة ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قِيلَ﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وإن شئت قلت: ﴿اتَّقِ﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ تقديره: أنت. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والتاء علامة تأنيث الفاعل. ﴿بِالْإِثْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿الْعِزَّةُ﴾؛ تقديره: حالة كونها ملتبسة بالإثم، أو حال من المفعول؛ تقديره: حال كونه ملتبسًا بالإثم، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿يُعْجِبُكَ﴾ على كونها صلة الموصول، أو مستأنفة. ﴿فَحَسْبُهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت أنه إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، وأردت بيان عاقبته.. فأقول لك: ﴿حسبه جهنم﴾، ﴿حسبه﴾: ﴿الحسب﴾: مبتدأ، و ﴿الهاء﴾: مضاف إليه. ﴿جَهَنَّمُ﴾: خبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الواو: استئنافية، أو حرف قسم، والمقسم به محذوف؛ تقديره ﴿والله﴾، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف؛ تقديره: أقسم والله، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿بئس﴾: فعل ماضٍ من أفعال الذم. ﴿الْمِهَادُ﴾: فاعل، وجملة ﴿بئس﴾ من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر للمبتدأ المحذوف وجوبًا؛ لكونه مخصوصًا بالذم؛ تقديره:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)﴾.
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ الواو: عاطفة، أو استئنافية، ﴿من الناس﴾: جار ومجرور، خبر مقدم. ﴿مَن﴾ اسم موصول، أو موصوف في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾، أو مستأنفة. ﴿يَشْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿نَفْسَهُ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة صلة لـ ﴿مَن﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل. ﴿ابْتِغَاءَ﴾: مفعول لأجله، وهو مضاف. ﴿مَرْضَاتِ﴾: مضاف إليه، وهو مضاف. ﴿الله﴾: مضاف إليه. ﴿وَاللَّهُ﴾ والواو: استئنافية. ﴿اللهُ﴾: مبتدأ. ﴿رَءُوفٌ﴾: خبر. ﴿بِالْعِبَادِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾. ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي: من الإضافة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي السِّلْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ادْخُلُوا﴾. ﴿كَافَّةً﴾: حال من ﴿السِّلْمِ﴾، و ﴿السلم﴾ يذكر ويؤنث؛ فلذلك أنث الحال منها، فقيل كافة، ولم يقل كافًّا.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾. ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿إِنَّهُ﴾: ﴿إنَّ﴾: حرف نصب
﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أمرنا إياكم بالدخول في السلم كافة، ونهينا إياكم عن اتباع خطوات الشيطان، وأردتم بيان حالكم فيما إذا خالفتم الأمر والنهي.. فأقول لكم: ﴿إن زللتم﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿زَلَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿زَلَلْتُمْ﴾. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، و ﴿التاء﴾ علامة تأنيث الفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ تقديره: فإن زللتم من بعد مجيء البينات إياكم.. فاعلموا. ﴿فَاعْلَمُوا﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول لها. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾؛ تقديره: فاعلموا كون الله عزيزًا حكيمًا.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)﴾.
﴿هَلْ﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾، والجملة صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع
﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾.
﴿سَلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿بَنِي﴾: مفعول أول لـ ﴿سَلْ﴾ منصوب بـ ﴿الياء﴾، وهو مضاف. ﴿إِسْرَائِيلَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة. ﴿كَمْ﴾: استفهامية بمعنى: أي عدد، أو خبرية بمعنى: عدد كثير، معلقة لـ ﴿سَلْ﴾ عن العمل فيما بعدها في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿آتيناهم﴾ مقدم عليه وجوبًا؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام؛ تقديره: آتيناهم أي عدد، أو أتيناهم عددًا كثيرًا، وإنما عُلِّق (١) سل عن العمل فيما بعده مع أنه ليس من أفعال القلوب، قالوا: لأنه سبب للعلم، والعلم يعلق، فكذلك سببه، فأجري المسبب مجرى المسبب، والتعليق هو إبطال العمل لفظًا لا محلًّا، كقولهم: ظننت لزيد قائم وعمرًا جالسًا. ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن أتى بمعنى أعطى، فيتعدى إلى مفعولين، وجملة ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾ من الفعل والفاعل سادة مسد المفعول الثاني لـ ﴿سَلْ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة، زيدت ليعلم أن مدخولها مميز لا مفعول ثانٍ لـ ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾: تمييز لـ ﴿كَمْ﴾ منصوب بفتحة مقدرة. ﴿بَيِّنَةٍ﴾: صفة له.
﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿الْحَيَاةُ﴾: نائب فاعل. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة له، والجملة من الفعل المغيَّر ونائبه مستأنفة. ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ الواو: عاطفة، ﴿يسخرون﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿زُيِّنَ﴾. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يسخرون﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل.
﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو: عاطفة. ﴿الذين﴾: مبتدأ. ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فَوْقَهُمْ﴾: ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف وجوبًا، خبر المبتدأ؛ تقديره: والذين اتقوا كائنون فوقهم، والجملة معطوفة على جملة ﴿يسخرون﴾. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف زمان ومضاف إليه، والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف المذكور قبله. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استئنافية، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يَرْزُقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾ هو من أعجب الرباعي، يقال: أعجبني كذا؛ أي: ظهر لي ظهورًا لم أعرف سببه، والتعجب: انفعال يحدث في النفس عند شعورها بأمر خفي سببُهُ، ولذا يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، والإعجاب: استحسان الشيء والميل إليه والتعظيم له، وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإنسان بسب الشيء.
﴿أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾. أَلَدُّ: صفة مشبهة من اللدد، وهو شدة الخصومة، يقال: لددت لددًا ولدادةً، ورجل ألد، وامرأة لداء الخِصَامِ، إما مصدر لخاصم على حد قول ابن مالك:
لِـ (فَاعَلَ) الفِعَالُ وَالمُفَاعَلاَ | وَاجْعَلْ مَقِيْسًا ثَانِيًا لاَ أَوَّلاَ |
﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ وفي "المختار" الحرث: الزرع، سمي الزرع حرثًا؛ لأنه يزرع، ثم يحرث، يقال: حرث يحرث حرثًا، من باب نصر، والحراث الزراع، وهو هنا بمعنى المحروث ﴿وَالنَّسْلَ﴾ الولد، يقال: نسل نسلًا - من باب ضرب - إذا كثر نسله، وسمي الولد نسلًا؛ لأنه ينسل؛ أي: يسقط من بطن أمه بسرعة، وهو هنا بمعنى المنسول.
﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه، ومنه ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾. وقيل: العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر:
أخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ | فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فَعَلَ الضَّجَرْ |
﴿مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾؛ أي: يبيع نفسه في مرضاة الله، يقال: شرى المال يشري - من باب رمى - إذا باع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ وقد يكون يشري بمعنى: يشتري، لا بمعنى يبيع ويبذل، وهو المناسب لسبب نزول الآية. ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ والمرضاة: مصدر ميمي بمعنى الرضا، تقول: رضي يرضى رضا ومرضاة، ضد سخط.
﴿فِي السِّلْمِ﴾ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام فيهما قال الكسائي: معناهما واحد الإِسلام والمسالمة، وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح للمسالمة، وبالكسر للإسلام، ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإِسلام. ﴿كَافَّةً﴾ بمعنى جميعًا، وهو مشتق من قولهم: كففت؛ أي: منعت؛ أي: لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإِسلام، وأصل الكف المنع، ولكن المراد به هنا الجميع كما مر آنفًا. ﴿زَلَلْتُمْ﴾ يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا إذا دحضت قدمه، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء، وغير ذلك.
﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ بالبناء للمفعول وللفاعل، فـ ﴿رجع﴾ يستعمل لازمًا ومتعديًا، فالمبني للمفعول من المتعدي، ومصدره الرجع كالضرب، وهو الرد، والمبني للفاعل من اللازم، ومصدره الرجوع، على حد قول ابن مالك:
وَفَعَلَ اللَّازِمُ مِثْلُ قَعَدَا | لَهُ فُعُوْلٌ بِاطِّرَادٍ كَغَدَا |
البلاغة
﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِيُفْسِدَ﴾ من عطف
﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ فيه استعارة تصريحية تبعية، وتقريرها أن يقال: شبه حال حمية الجاهل، وحملها إياه على الإثم بحالة شخص له على غريمه حق، فيأخذه به ويلزمه إياه بجامع اللزوم في كل، ثم اشتق من الأخذ بمعنى الحمل أخذ بمعنى حمل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وفي قوله: ﴿الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ التتميم، وهو نوع من علم البديع؛ وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس، وتقربها من الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة، فَمِنْ مجيئها محمودة قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ولو أطلقت.. لتوهم فيها بعض من لا دراية له أنها المحمودة، فقيل ﴿بالإثم﴾ توضيحًا للمراد. فرفع اللبس بها.
﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ فهذا من باب التهكم والاستهزاء؛ أي: جعلت لهم جهنم غطاء ووطاء فأكرمهم بذلك كما تكرم الأم ولدها بالغطاء، والوطاء: اللين.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ استفهام إنكاري في معنى النفي بدليل مجيء ﴿إِلَّا﴾ بعدها؛ أي: ما ينظرون، والاستفهام الإنكاري هو حمل المخاطب على الإنكار بأمر عُلِمَ عنده نفيه، والضمير في ﴿يَنْظُرُونَ﴾ عائد على المخاطبين بقوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، وفائدة هذا الالتفات: الإشعار بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم، وحكاية جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريق المهانة.
﴿فِي ظُلَلٍ﴾ التنكير فيه للتهويل، فهي في غاية الهول والمهابة؛ لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فيه وضع الماضي موضع المستقبل، والأصل: ويقضي الأمر، وفائدته: الدلالة على أنه محقَّقٌ، فكأنه قد كان كقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾.
﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ ﴿كَمْ﴾ فيه للاستفهام التقريري، وضابطه هو حمل المخاطب على الإقرار بأمر علم عنده ثبوته، ولا ينافي التبكيت؛ لأن معنى التقرير: الحمل على الإقرار، وهو لا ينافي التقريع والتبكيت.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾؛ أي: من بعد ما عرفها، أو تمكن من معرفتها، وإثبات المجيء للآيات فيه استعارة تصريحية تبعية.
فإن قلتَ: من المعلوم أن تبديل الآية لا يصح إلا بعد مجيئها، فَلِمَ صرح به، وما فائدة التصريح به؟
قلت: إنه ربما يوجد التبديل من غير خبرة بالمبدل، أو عن جهل به، فيعذر فاعله، وهؤلاء على خلاف ذلك، والفائدة في التصريح به: التقريع والتشنيع. ذكره في "الكشاف".
﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، وإدخال الروعة.
٢١٢ - ﴿زُيِّنَ﴾. ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ من عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتحاد الزمان، وأتى بقوله: ﴿زُيِّنَ﴾ ماضيًا؛ للدلالة على أن ذلك قد وقع وفرغ فيه، وبقوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ مضارعًا؛ للدلالة على التجدد والحدوث.
﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: إيثار الجملة الإسمية؛ للدلالة على دوام مضمونها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم؛ هو حب الدنيا، وأن ذلك ليس مختصًّا بهذا الزمان الذي بعثت فيه، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة؛ إذ كانوا على حق، ثم اختلفوا بغيًا وحسدًا، وتنازعًا في طلب الدنيا.
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه قال: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، والمراد إلى
قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما يتحلى به المؤمن، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة، حتى لقد ورد: "الصدقة تطفيء غضب الرب".
قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: هو أنه لمّا ذكر ما مسَّ مَنْ تقدمنا مِنْ أتباع الرسل من البلايا، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف، ثم ذكر الإنفاق على مَنْ ذكر، فهو جهاد النفس بالمال.. انتقل إلى أعلى منه، وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين، وفيه الصبر على بذل المال والنفس.
وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال، فبين حكم القتال في الشهر الحرام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة، وقيل: لمّا أوجب الجهاد بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، وبين أن تركه سبب الوعيد.. أتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويتبعه وعد.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ...﴾ الآية، قال (١) عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة قال: نزلت هذه الآية في غزوة الأحزاب، وهي غزوة
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...﴾ الآية، أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله - ﷺ -: أين يضعون أموالهم؟ فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾.
وأخرج ابن المنذر عن أبي حيان أن عمرو بن الجموح رضي الله عنه - وكان شيخًا كبيرًا ذا مالٍ - سأل النبي - ﷺ -: ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ...﴾ الآية، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "سننه" عن جندب بن عبد الله، أن رسول الله - ﷺ - بعث رهطًا، وأمّر عليهم عبد الله بن جحش - وهو ابن عمته - في جُمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، فلقوا عمرو بن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...﴾ الآية. فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرًا ليس لهم أجر، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ الآية. فأثبت الله لأصحاب هذه السرية جهادًا.
التفسير وأوجه القراءة
٢١٣ - ﴿كَانَ النَّاسُ﴾ من لدن آدم إلى نوح عليهما السلام ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: متفقين على الحق والتوحيد، فاختلفوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ ويدل على هذا المحذوف - أعني قوله: فاختلفوا - قراءة ابن مسعود التفسيرية، والتي ليست بقرآن بل بتفسير، فإنه قرأ: ﴿كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين﴾.
والمراد (١) بالناس: القرون التي بين آدم ونوح؛ وهي عشرة، كانوا على
والمعنى: كان الناس الذين بين آدم ونوح أمة متفقة في الدين قائمة على الحق، ثم اختلفوا بسبب الحسد والتنازع في طلب الدنيا، فآمن بعض وكفر بعض، فبعث الله النبيين؛ أي: نوحًا فمَن بعده حالة كونهم ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ من آمن بالله بالجنة ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾؛ أي: مخوِّفين من كفر بالله بالنار، وقدم البشارة؛ لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يُلقي النبي، وقيل (١): جملة الأنبياء مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلاث مئة وثلاثة عشر، والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ﴾؛ أي: مع كل واحد منهم ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: كتابه حال كون ذلك الكتاب ملتبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: ببيان الحق والتوحيد، أو متعلق بأنزل؛ أي: وأنزل معهم الكتاب بالعدل والصدق (٢)، وقيل: جملة الكتب المنزلة من السماء مئة وأربعة كتب: أنزل على آدم عشر صحائف، وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمَّد صلى الله وسلم عليه وعليهم القرآن ﴿لِيَحْكُمَ﴾ الله، أو ذلك الكتاب والنبي المبعوث، والحاكم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وإسناد الحكم إلى الكتاب والنبي مجاز عقلي. ﴿بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾؛ أي: في دين الإِسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق عليه أولًا؛ أي: ليحكم الكتاب في الحق الذي اختلف الناس في ذلك الحق، فالكتاب حاكم، والمختلف فيه - وهو الحق - محكوم عليه. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الحق والدين ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾؛ أي: أعطوا الكتاب مع أن المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا، وأن يرفعوا المنازعة في الدين، فعكسوا الأمر، فجعلوا ما أنزل مزيحًا للاختلاف سببًا لاستحكامه، والمراد (٣) بالكتاب: التوراة والإنجيل، والذين أوتوه اليهود والنصارى، واختلافهم هو تكفير بعضهم بعضًا
(٢) الخازن.
(٣) الخازن.
وقيل المعنى (٣): وما اختلف في أمر محمَّد - ﷺ - بعد وضوح الدلالات الواضحة على صحة نبوة محمَّد - ﷺ - لهم بغيًا وحسدًا إلا اليهود؛ أي: إلا الذين أوتوا الكتاب، وهم علماء اليهود؛ لأن المشركين وإن اختلفوا في أمر محمَّد - ﷺ -، فإنهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد، والحرص على طلب الدنيا، ولم تأتهم البينات في شأن محمَّد - ﷺ - كما أتت اليهود، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه.
﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالنبيين ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾؛ أي: إلى الدين والحق الذي اختلف فيه من اختلف، وقوله: ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾ بيان لما اختلفوا فيه، وفي قراءة شاذة تنسب لعبد الله ﴿لما اختلفوا فيه من الإسلام﴾ ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بإرادته وعلمه ولطفه.
قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى:
(٢) الصاوي.
(٣) الواحدي.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله، فغدا لليهود وبعد غد للنصارى". متفق عليه. وفي رواية قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "نحن الآخرون السابقون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له - زاد النسائي: يعني يوم الجمعة - ثم اتفقا، فالناس لنا تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أضل الله عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة فجعل الله الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق". رواه مسلم.
﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إلى طريق الحق الموصل إلى جنات النعيم، وله الحكمة (١) والحجة البالغة، وفي "صحيح" البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - ﷺ - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
٢١٤ - ونزل في جهد أصاب المسلمين في غزوة الأحزاب قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ خاطب به النبي - ﷺ - والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على
والمعنى: أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء، ولم يبق لهم صبر، وذلك هو الغاية القصوى في الشدة، فلما بلغ بهم الحال في الشدة إلى هذه الغاية، واستبطؤوا النصر.. قيل لهم من جهة الله تعالى: ﴿أَلَا﴾؛ أي: انتبهوا ﴿إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ﴾ لأوليائه على أعدائه و ﴿قَرِيبٌ﴾ لهم لا بعيد، إجابة لهم إلى ما طلبوا من نصر عاجل، والمعنى (٢): هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر الله، فكونوا - يا معشر المؤمنين - كذلك، وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق، فإن نصر الله قريب، فاصبروا كما صبروا تظفروا.
(٢) الخازن.
روى البخاري عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - ﷺ -، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تنصرنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
٢١٥ - ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: ما قدره وما جنسه، والمراد نفقة التطوع، فالآية محكمة لا منسوخة؛ أي: يسألك يا محمَّد أصحابك المؤمنون عن الشيء الذي ينفقونه، هل ينفقون مما تيسر ولو محرمًا، أو يتحرون الحلال؟ وفي الآية حذف سؤال آخر دل عليه الجواب، والتقدير: وعلى من ينفقون، والسؤال عن صدقة التطوع، والسائل عمرو بن الجموح، وكان شيخًا ذا مال، فسأل النبي - ﷺ - عما ينفق، وعلى من ينفق؟ وإنما جمع في الآية؛ لأن التكليف لكل مسلم، فكان هذا السائل ترجمانًا عن كل مسلم، وإنما اعتني بذلك السؤال لأن الإنسان يوم القيامة ورد أنه يسأل عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد في الجواب ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾؛ أي: من مال قليلًا كان أو كثيرًا، وفي هذا: بيان المنفق الذي هو أحد شقي السؤال المذكور في الآية، وأجاب عن المصرف الذي هو الشق الآخر الذي سؤاله مطوي في الآية بقوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾؛ أي: فمصروف لهما، وإن عَلَيا ﴿و﴾ مصروف لـ ﴿الأقربين﴾ من الأولاد والأخوة والأعمام والعمات، وعطفه على الوالدين من عطف العام على الخاص، وصرح بذكر الوالدين أولًا، وإن دخلا في الأقربين اعتناءً بشأنهما؛ لوجوب حقهما على
ثم لما فصل الله هذا التفصيل الحسن الكامل.. أتبعه بالإجمال، فقال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ مع هؤلاء أو غيرهم طلبًا لوجه الله تعالى ورضوانه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؛ أي: عالم به وبنياتكم، فيجازيكم عليه، ويوفي ثوابه لكم.
٢١٦ - ثم قال تعالى مبينًا حكمة مشروعية القتال في الإِسلام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾؛ أي: فرض وأوجب عليكم - أيها المؤمنون - الجهاد للكفار في أوقات النفير العام مع النبي - ﷺ - ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾؛ أي: والحال أن القتال شاق عليكم مكروه لكم طبعًا لنفور الطبع عنه؛ لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف، لا لأنهم كرهوا أمر الله؛ لأن ذلك ينافي كمال تصديقهم؛ لأن معناه كراهة نفس ذلك الفعل ومشقته، كوجع الضرب في الخد، مع كمال الرضا بالحكم والإذعان له.
وهو - أعني كرهًا - مصدر أقيم مقام الوصف للمبالغة، أو هو فعل بمعنى مفعول، كالخبز بمعنى المخبوز، وقرىء بالفتح على أنه لغة فيه كالضُعف والضَعف.
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾؛ أي: وحق وثبت كراهتكم شيئًا، وهو جميع ما
٢١٧ - الحرام شهرًا يأمن فيه الخائف - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: يسألك يا محمَّد أصحابك عن الشهر الحرام ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ بدل اشتمال من الشهر الحرام، وقرىء ﴿عن قتال فيه﴾ بتكرير العامل، وقرىء أيضًا بالرفع؛ أي: يسألك أصحابك - يا محمَّد - عن القتال في الشهر الحرام خطأ، أيحل لهم أم لا؟ ﴿قُلْ﴾ لهم - يا محمَّد - في الجواب ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ مبتدأ وخبر، وقد تم الكلام ها هنا، والوقف هنا تام، وما بعده كلام مستأنف، وقرأ عكرمة ﴿قتل فيه قل قتل فيه﴾ بغير ألف فيهما؛ أي: قل لهم في جوابهم: القتال في الشهر الحرام أمره كبير ووزره عظيم، ولكن هناك ما هو أعظم وأخطر منه، وهو ما ذكره بقوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: ومنع المشركين المؤمنين عن دين الله وطاعته ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾؛ أي: وكفرهم بتوحيد الله ﴿و﴾ صدهم الناس عن {الْمَسْجِدِ
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾؛ أي: وفتنتهم المؤمنين عن دينهم تارة بإلقاء الشبهة في قلوبهم، وتارة بالتعذيب، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، حتى يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم. ﴿أَكْبَرُ﴾؛ أي: أعظم وزرًا وأفظع حالًا عند الله ﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾؛ أي: من قتل من قتلتموه من المشركين في الشهر الحرام.
روي أنه لما نزلت هذه الآية.. كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام.. فعيروهم بالكفر وإخراج رسول الله - ﷺ - من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت الحرام ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾؛ أي: ولا يزال المشركون من أهل مكة وغيرهم ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾؛ أي: يجتهدون في قتالكم أيها المؤمنون ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾؛ أي: كي يردوكم عن دينكم الحق، ويعيدوكم إلى دينهم الباطل ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾؛ أي: إن أطاقوا وقدروا على ذلك.. يردوكم، ولكن لا يستطيعون ذلك، وهذا استبعاد لاستطاعتهم، وإشارة إلى ثبات المؤمنين على دينهم ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾؛ أي: ومن يرجع منكم عن دينه الحق إلى دينهم الباطل ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾؛ أي: فيمت على ردته، ولم يرجع إلى الإِسلام ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المصرون على الارتداد إلى حين الموت ﴿حَبِطَتْ﴾ بكسر الباء وقرىء بفتحها، وهي لغة فيه؛ أي: بطلت. ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ الصالحة وردت حسناتهم التي عملوها في حالة الإِسلام ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فلا اعتداد بها في الدنيا، ولا ثواب عليها في الآخرة، فحبوط الأعمال في الدنيا هو أنه يقتل عند الظفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحق من المسلمين نصرًا ولا
أما لو رجع المرتد إلى الإِسلام: عادت إليه أعماله الصالحة مجردة عن الثواب، فلا يكلف بإعادتها، وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعي، وأما عند أبي حنيفة: فإن الردة تبطل العمل وإن أسلم.
﴿وَأُولَئِكَ﴾ المصرون ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾؛ أي: ملازموها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ أي: مقيمون لا يخرجون ولا يموتون.
٢١٨ - وروي أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: يا رسول الله، هبْ أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرًا وثوابًا؟ فنزلت هذه الآية الآتية؛ لأن عبد الله كان مؤمنًا، وكان مهاجرًا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدًا، ثم هي عامة في مَنْ اتصف بهذه الأوصاف.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾؛ أي: فارقوا أوطانهم وعشائرهم وأموالهم، وفارقوا مُسَاكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عن المشركين وعن بلادهم إلى غيرها ﴿وَجَاهَدُوا﴾ المشركين ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعة الله لإعلاء دين الله، وبذلوا جهدهم في قتل العدو، كقتل عمرو بن الحضرمي الكافر، وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالأوصاف الثلاثة ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾؛ أي: يطمعون في نيل رحمة الله، وينالون جنة الله ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لما فعلوه خطأً وقلة احتياطٍ ﴿رَحِيمٌ﴾ بإجزال الأجر والثواب لهم.
الإعراب
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾.
﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿النَّاسُ﴾: اسمها. ﴿أُمَّةً﴾: خبرها. ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة ﴿أُمَّةً﴾، والجملة مستأنفة. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾: ﴿الفاء﴾:
﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾.
﴿لِيَحْكُمَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يحكم﴾: منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْكِتَابَ﴾، والجملة صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾؛ تقديره: لحكمه ﴿بين الناس﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أنزل﴾. ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿يحكم﴾. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يحكم﴾. ﴿اخْتَلَفُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَفُوا﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضميرُ ﴿فيه﴾.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية، ﴿ما﴾: نافية. ﴿اخْتَلَفَ﴾: فعل ماض. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أُوتُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾.
﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَفَ﴾ وهو مضاف. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد مجيء البينات إياهم. ﴿بَغْيًا﴾: مفعول لأجله منصوب بـ ﴿اخْتَلَفَ﴾، وفي
﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾.
﴿فَهَدَى﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿هدى الله الذين﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿هدى﴾. ﴿اخْتَلَفُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضميرُ ﴿فِيهِ﴾. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَفُوا﴾. ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿ما﴾؛ تقديره: حالة كون ما اختلفوا فيه كائنًا من الحق. ﴿بِإِذْنِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿هدى﴾.
﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ الواو: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة خبر المتبدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: من يشاءه. ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة لـ ﴿صِرَاطٍ﴾.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل، والهمزة للإنكار. ﴿حَسِبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، وهي من أخوات ﴿ظن﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر سادٍّ، مسد مفعولي ﴿حسب﴾ عند سيبويه؛ تقديره: أم حسبتم دخولكم الجنة، وعند الأخفش: سادة
﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾.
﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿وَالضَّرَّاءُ﴾: معطوف على ﴿الْبَأْسَاءُ﴾. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَقُولَ﴾: منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة وجوبًا بعد ﴿حتى﴾ بمعنى ﴿إلى﴾. ﴿الرَّسُولُ﴾: فاعل. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿الرَّسُولُ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾، وجملة ﴿يَقُولَ﴾ صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حتى﴾ بمعنى ﴿إلى﴾؛ تقديره: وزلزلوا إلى قول الرسول والذين آمنوا معه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿زلزلوا﴾. ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُ﴾، وإن شئت قلت: ﴿مَتَى﴾: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم وجوبًا. ﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول.
﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾.
﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح وتنبيه. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿نَصْرَ اللَّهِ﴾: اسم ﴿إنَّ﴾ ومضاف إليه. ﴿قَرِيبٌ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب، مقول لقول محذوف؛ تقديره: قال الله لهم: إن نصر الله قريب، وجملة القول المحذوف مستأنفة.
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة مستأنفة. ﴿مَاذَا﴾ ﴿ما﴾: اسم استفهام مبتدأ، ﴿ذا﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر. ﴿يُنْفِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: ما الذي ينفقونه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب، مفعول به ثان لـ ﴿سأل﴾؛ تقديره: يسألونك أي الشيء الذي ينفقونه؟. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾: موصولة في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَنْفَقْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: ما أنفقتموه. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف؛ تقديره: ما أنفقتموه حالة كونه كائنًا من خير. ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾: ﴿الفاء﴾: زائدة في الخبر، أو رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لما في المبتدأ من العموم. ﴿للوالدين﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: فمصروف للوالدين، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ويحتمل كون ﴿مَا﴾ شرطية، والجواب جملة ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾. ﴿وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: معطوفات على ﴿الوالدين﴾.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿ما﴾ على كونه فعل الشرط لها. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿ما﴾؛ تقديره: حالة كونه كائنًا من خير. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، وهو خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ على كونها جواب الشرط لها، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ﴾.
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾.
﴿وَعَسَى﴾: الواو: استئنافية، ﴿عسى﴾: فعل من أفعال الرجاء، ولكن هنا للتحقيق، فنقول في إعرابه ﴿عسى﴾: فعل ماض تام بمعنى حق. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَكْرَهُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: حق وثبت كراهتكم شيئًا وهو خير لكم، والجملة مستأنفة. وفي "الفتوحات الإلهية": ليس معنى ﴿عسى﴾ هنا على الترجي كنظائرها الواقعة في كلامه تعالى، فإن الكل للتحقيق، ويصح الترجي باعتبار حال السامع، وهي هنا تامة على حد قول ابن مالك:
بَعْدَ عَسَى اخْلَوْلَقَ أَوشَكَ قَدْ يَرِدْ | غِنَىً بِـ (أَنْ) يُفْعَلَ عَنْ ثَانٍ فُقِدْ |
﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.
﴿وَهُوَ خَيْرٌ﴾ الواو حالية، أو زائدة، ﴿هو خير﴾: مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خير﴾، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿شَيْئًا﴾ - وإن كان مجيء الحال من النكرة التي لا مسوغ لها قليلًا - أو في محل النصب صفة لـ ﴿شَيْئًا﴾، وإنما دخلت ﴿الواو﴾ على الجملة الواقعة صفة لأن صورتها صورة الحال، فكما تدخل ﴿الواو﴾ عليها حالية تدخل عليها صفة، قاله
﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾.
﴿وَعَسَى﴾ الواو: عاطفة، ﴿عسى﴾: فعل ماض تام بمعنى ﴿حق﴾. ﴿أَن﴾: حرف مصدر. ﴿تُحِبُّوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿أَن﴾ مع مدخولها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: وعسى محبتكم شيئًا، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ جملة اسمية في محل النصب حال من ﴿شَيْئًا﴾، أو صفة له، كما مر نظيره قريبًا.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ هو الواو: استئنافية، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة خبر المبتدأ؛ تقديره: والله عالم، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿أنتم﴾: مبتدأ. ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿لَا﴾: ناهية ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ؛ تقديره: وأنتم غير عالمين مصالحكم، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾.
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة مستأنفة. ﴿عَنِ الشَّهْرِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يسألون﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له. ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة لـ ﴿الشهر﴾ بمعنى المحرم؛ أي: المعظم. ﴿قِتَالٍ﴾: - بالجر - بدل اشتمال من ﴿الشَّهْرِ﴾. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قِتَالٍ﴾، أو بمحذوف صفة لـ ﴿قِتَالٍ﴾، وعلى قراءة الرفع ﴿قتال﴾: مبتدأ، والجار والمجرور خبره، وسوغ الابتداء بالنكرة فيه همزة الاستفهام؛ لأنه في معنى أقتال كائن فيه؟ وهذه الجملة المستفهم عنها في محل الجر بدل من ﴿الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، وزعم بعضهم: أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل؛ تقديره: أجائز قتال فيه.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله مستتر فيه يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾: مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿قِتَالٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿قِتَالٍ﴾. ﴿كَبِيرٌ﴾: خبر، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾.
﴿وَصَدٌّ﴾ الواو: استئنافية، أو عاطفة، ﴿صد﴾: مع ما عطف إليه مبتدأ، وجملتها أربعة، فأخبر عنها بقوله ﴿أَكْبَرُ﴾؛ لأنه أفعل تفضيل، وهو يستوي فيه الواحد والأكثر إذا كان مجردًا من ﴿أل﴾ و ﴿الإضافة﴾ على حد قول ابن مالك:
وإنْ لِمَنْكُوْرٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا | أُلْزِمَ تَذْكِيْرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا |
﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾.
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾: مبتدأ. ﴿أَكْبَرُ﴾: خبر. ﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾: متعلق بـ ﴿أَكْبَرُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَزَالُونَ﴾: به فعل مضارع ناقص، والواو اسمها. ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب خبر ﴿يزال﴾؛ تقديره: ولا يزالون مقاتلين إياكم، والجملة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة. ﴿عَنْ دِينِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يردون﴾، وجملة ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى؛ تقديره: إلى ردّهم إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يقاتلون﴾. ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾: ﴿إنِ﴾: حرف شرط وجزم. ﴿اسْتَطَاعُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنَّ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجوابها محذوف دل عليه السياق؛ تقديره: إن استطاعوا يردوكم عن دينكم، وجملة ﴿إنِ﴾ الشرطية جملة غائية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما. ﴿يَرْتَدِدْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَرْتَدِدْ﴾. ﴿عَنْ دِينِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَرْتَدِدْ﴾. ﴿فَيَمُتْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب،
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل النصب معطوف على ﴿الَّذِينَ﴾ الأول. ﴿هَاجَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَجَاهَدُوا﴾: معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جَاهَدُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ؛ تقديره: أولئك راجون رحمت الله، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾: وحَسِب من باب فَعِل المكسور، وفي مضارعه وجهان: الفتح على القياس، والكسر على الشذوذ، ومعناها الظن، وقد تستعمل لليقين كقوله.
حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُوْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ | رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاوَيًا |
﴿خَلَوْا﴾: أصله خلووا؛ لأنه من الأفعال المعتلة بالواو كدعا وغزا، تحركت ﴿الواو﴾ وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار خلوا.
﴿وَزُلْزِلُوا﴾ يقال: زلزل الله الأرض زلزلةً وزلزالًا بالكسر، فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، والزلزلة: شدة التحريك يكون في الأشخاص والأحوال، وقال الزجاج: أصل الزلزلة نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت: زلزلته.. فمعناه كررت زلله من مكانه، فهو من الثلاثي المزيد بالتضعيف والتكرير؛ لأن أصله زل.
﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ قرئ بضم الكاف وفتحها، وهما لغتان بمعنى، وقيل: بالفتح مصدر بمعنى الكراهية، وبالضم اسم مصدر بمعنى المشقة، يقال: كرهت الشيء كُرهًا وكَرهًا، وكَراهةً وكَراهيةً، وأكرهته عليه إكراهًا.
﴿صد﴾ الصد: المنع والطرد، يقال: صده عن الشيء يصده صدًّا - من باب شدّ - إذا منعه منه، فهو من المضاعف المعدى الذي لم يسمع فيه إلا القياس الذي هو ضم عين المضارع.
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ بالفك؛ لأنه لما سكنت الدال الثانية للجازم.. تعذر تسكين
البلاغة
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ﴾: فيه إيجاز بالحذف، والأصل: فاختلفوا، فبعث الله النبيين.
﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾: فيه مجاز عقلي إن عاد الضمير إلى الكتاب من إسناد ما للفاعل إلى المفعول، وقوله ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ إظهار في مقام الإضمار، لزيادة التعيين.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾: ﴿أَمْ﴾ منقطعة مقدرة بمعنى بل التي في ضمنها الانتقال من أخبار إلى أخبار، وبمعنى الهمزة التي في ضمنها الإنكار والتوبيخ، والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تحسبوا هذا الحسبان، ولم حسبتموه؟ والغرض من هذا التوبيخ تشجيعهم على الصبر، وحضهم عليه.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا﴾: فيه إيجاز بالحذف؛ لأن فيه حذف مضاف وحذف موصوف؛ تقديره: ولما يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خلوا﴾، وهو كالتأكيد لمعنى ﴿خَلَوْا﴾ فإن القبلية مفهومة من قوله: ﴿خَلَوْا﴾.
﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ بالنصب على قراءة الجمهور على أن ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، وأن مضمرة بعدها؛ أي: إلى أن يقول الرسول، فهي غاية لما تقدم من المس والزلزال، وحتى إنما ينصب بعدها المضارع إذا كان مستقبلًا، وهذا قد وقع ومضى، والجواب: أنه على حكاية الحال الماضية، وبالرفع: فعلى قراءة نافع على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها، والحال لا ينصب بعد حتى ولا غيرها؛ لأن الناصب مخلص للاستقبال فتنافيا، واعلم أن حتى إذا وقع بعدها فعل.. فإما أن يكون حالًا أو مستقبلًا أو ماضيًا، فإن كان حالًا.. رفع نحو مرض زيد حتى لا يرجونه؛ أي: في الحال، وإن كان مستقبلًا.. نصب تقول: سرت حتى أدخل البلد، وأنت لم تدخل بعد، وإن كان ماضيًا.. فتحكيه ثم
ومعنى حكاية الحال الماضية: أن يفرض ويقدر الواقع في الماضي واقعًا وقت التكلم، ويخبر عنه بالمضارع الدال على الحال.
﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ في هذه الجملة عدة مؤكدات:
الأول: بدء الجملة بأداة الاستفتاح.
الثاني: ذكر إن.
الثالث: إيثار الجملة الإسمية.
الرابع: إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء.
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى عندهم بالمقابلة، فقد قابل بين الكراهية والحب، وبين الخير والشر.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾: فيه طباق بالسلب.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أنهم لما سألوا عن ماذا ينفقون، فبين لهم مصرف ذلك في الوالدين وما بعدهما، ثم ذكر تعالى فرض القتال والجهاد في سبيل الله.. ناسب ذكر سؤالهم عن الخمر والميسر؛ إذ هما أيضًا من مصارف المال، ومع مداومتهما قَلَّ أن يبقى مال فتتصدق به أو تجاهد به، فلذلك وقع السؤال عنهما.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال، وذكر السؤال عن النفقة، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم.. ناسب ذلك النظر في
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة، حتى أن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط، وكان في اليتامى من يكون من أولاد الكفار.. نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين، وأشار إلى العلة المسوغة للنكاح؛ وهي الأخوّة الدينية، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوّة، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك.
وفيها مناسبة أخرى أيضًا وهي: أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر والأكل في الميسر.. ذكر حكم المنكح، فكما حرم الخمر من المشروبات وما يجر إليه الميسر من المأكولات.. حرم المشركات من المنكوحات.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار، وتضمن مناكحة أهل الإيمان وإيثار ذلك.. بين حكمًا عظيمًا من أحكام النكاح، وهو نكاح في زمان الحيض.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بتقوى الله تعالى وحذرهم يوم الميعاد.. نهاهم عن ابتذال اسمه، وجعله معرضًا لما يحلفون عليه دائمًا؛ لأن من يُتقى ويُحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عما لا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه من قليل أو كثير، عظيم أو حقير؛ لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به.
وفيه مناسبة أخرى أيضًا: وذلك أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من الخمر والميسر، وإنفاق العفو، وأمر اليتامى، ونكاح من
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...﴾ سبب نزولها: أنه جاء جماعة من الأنصار فيهم عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل إلى رسول الله - ﷺ - فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، ومسلبة للمال، فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...﴾ الآية.
قوله تعالى (١): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...﴾ سبب نزولها: أنه أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نفرًا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله.. أتوا النبي - ﷺ -، فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها، فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ...﴾.
وأخرج أيضًا عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل، وثعلبة رضي الله عنهما أتيا رسول الله - ﷺ -، فقالا: يا رسول الله، إن لنا أرقاء وأهلين، فما ننفق من أموالنا، فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى...﴾ أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى...﴾ الآية، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم؛ فذكروا ذلك لرسول الله - ﷺ -، فأنزل الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى...﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ...﴾ أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والواحدي عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنوي،
قوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ...﴾ الآية، سبب نزولها: أنه أخرج الواحدي من طريق السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي - ﷺ - فأخبره وقال: لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل، فطعن عليه ناس، وقالوا: ينكح أمه، فأنزل الله هذه الآية، وأخرجه ابن جرير عن السدي منقطعًا.
قوله تعالى (١): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ...﴾ الآية، روى مسلم، والترمذي عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - ﷺ -، فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ..﴾ الآية، فقال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - ﷺ -، حتى ظننا أن قد وجد (٢) عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - ﷺ -، فأرسل في آثارهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. أخرجه الترمذي - وقال: هذا حديث حسن صحيح - وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والطيالسي.
قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ...﴾ الآية، روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾.
وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عمر إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: وما أهلكك"؟ قال: حولت
(٢) وَجَدَ: من الحزن والغضب.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ...﴾ الآية، أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج قال: حدثت أن قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ...﴾ الآية، نزلت في أبي بكر في شأن مسطح.
التفسير وأوجه القراءة
٢١٩ - ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾؛ أي: يسألك أصحابك يا محمَّد ﴿عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾؛ أي: عن حكم تناولهما وتعاطيهما، وأصل (١) الخمر في اللغة: الستر والتغطية، وسميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، وقيل: لأنها تستره وتغطيه، وشرعًا: عبارة عن عصير العنب النيء الشديد الذي قذف بالزبد، وكذلك نقيع الزبيب والتمر، والمتخذ من العسل والحنطة والشعير والأرز والذرة، وكل ما أسكر فهو خمر، قاله الشافعي. وقال أبو حنيفة: الخمر من العنب والرطب ونقيع التمر والزبيب، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه.. حل شربه، والمسكر منه حرام، واحتج على ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي. وفي رواية: أما بعد: فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان، فإن له اثنين ولكم واحد. أخرجه النسائي، والطِلاء - بكسر الطاء والمد -: الشراب المطبوخ من عصير العنب الذي ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.
وأصل الميسر في اللغة: مصدر ميمي بمعنى اليسر، سمي القمار بالميسر؛ لما فيه من أخذ المال بسهولة من غير تعب، وشرعًا: هو القمار وهو آلات الملاهي التي يلعب بها في نظير مال، فيشمل الطاب والشطرنج والنرد وغيرها، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وأما إن كان بغير مال: ففيه خلاف بين العلماء، فقيل: كبيرة، وقيل: صغيرة، وقيل: مكروه، وحدّه بعضهم: هو كل
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿فِيهِمَا﴾؛ أي: في تعاطيهما ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾؛ أي: عظيم بعد التحريم، لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش وإتلاف المال، ولأن الخمر مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا، وقرأ حمزة والكسائي ﴿كثير﴾ بالثاء المثلثة. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ قبل التحريم: بالتجارة فيها، وباللذة والفرج وتصفية اللون، وحمل البخيل على الكرم، وزوال الهم، وهضم الطعام، وتقوية الباءة، وتشجيع الجبان في شرب الخمر، وإصابة المال بلا كد ولا تعب في الميسر والقمار، قيل: بما أن الواحد منهم كان يقمر في المجلس الواحد مئة بعير، فيحصل له المال الكثير، وربما كان يصرفه إلى المحتاجين، فيكسب بذلك الثناء والمدح، وهو المنفعة ﴿وَإِثْمُهُمَا﴾ بعد التحريم ومفاسدهما بعده ﴿أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ قبل التحريم، وقرىء شذوذًا: ﴿أقرب من نفعهما﴾؛ يعني: المفاسد (١) التي تنشأ عنهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما. وقيل (٢): إثمهما، قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)﴾ فهذه ذنوب يترتب عليها آثام كبيرة بسبب الخمر والميسر.
وجملة القول في تحريم الخمر: أن الله عَزَّ وَجَلَّ أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ فكان المسلمون يشربونها في أول الإِسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة في جواب سؤال عمر ومعاذ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ فتركها قوم لقوله: ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ وشربها قوم لقوله: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ثم إن عبد الرحمن
(٢) الخازن.
والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرًا، فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة.. لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل هذا التدريج، وهذا الرفق. قال أنس - رضي الله عنه -: حرمت الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر.
روى الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم، وإني لقائم أسقي أبا طلحة، وأبا أيوب، وفلانًا وفلانًا؛ إذ جاء رجل فقال: حرمت الخمر، فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس، فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر هذا الرجل. الفضيخ - بالضاد والخاء المعجمتين -: شراب يتخذ من بسر مطبوخ، والإهراق: الصب، والقلال - جمع قلة -: وهي الجرة الكبيرة.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾؛ أي: يسألك أصحابك يا محمَّد ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: قدر ما
وقال الشوكاني: والعفو هو ما سهل وتيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى على النصب: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تجهدوا فيه أنفسكم، وعلى الرفع: الذي أُمرتم بإنفاقه هو العفو؛ أي: ما فضل عن نفقة العيال ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما بين الله لكم قدر المنفق، وحكم الخمر والميسر بأن فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ الدالة على الأحكام
٢٢٠ - الشرعية ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: لكي تتأملوا ﴿في﴾ أحوال ﴿الدُّنْيَا﴾ فتعرفوا أنها فانية، فتزهدوا فيها ﴿و﴾ تتفكروا في أمور ﴿الآخرة﴾ فتعرفوا أنها باقية، فتقبلوا عليها، فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة.. علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا؛ لبقاء الآخرة.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربما تزوجوا باليتيمة طمعًا في مالها، ثم إن الله تعالى أنزل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾.
وفي وصفه تعالى بالعزة (٢) - وهو الغلبة والاستيلاء -: إشارةٌ إلى أنه مختص
(٢) البحر المحيط.
٢٢١ - ثم قال تعالى محذرًا من زواج المشركات اللاتي ليس لهن كتاب: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾؛ أي: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون النساء المشركات بالله حتى يؤمن؛ أي: يصدقن بالله ورسوله، وهو الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام المسلمين، نزلت في أبي مرثد الغنوي، سأل النبي - ﷺ - عن أن يتزوج عناق وهي مشركة، والمشركات ها هنا عامة في كل من كفرت بالله ورسوله - ﷺ - حرم الله بهذه الآية نكاحهن، ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة، فبقي نكاح الأمة الكتابية على التحريم، وقراءة الجمهور بفتح التاء في قوله ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾، من نَكَح الثلاثي إذا تزوج، وقرىء بضمها، من أنكح الرباعي بمعنى: ولا تزوجوهن من المسلمين.
﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾؛ أي: ولرقيقة مؤمنة بالله ورسوله ﴿خَيْرٌ﴾ لكم وأنفع وأصلح وأفضل ﴿مِن﴾ حرة ﴿مُشْرِكَةٍ﴾ بالله؛ أي: تزوج الأمة خير لكم عند الله من تزوج مشركة ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ المشركة؛ أي: أحبتكم وأعشقتكم لجمالها أو مالها أو حسبها أو جاهها، أو غير ذلك، وقد تقدم لك أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كانت عنده أمة سوداء الحديث. والواو للحال و ﴿لو﴾ بمعنى ﴿إن﴾؛ أي: وإن كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها.. فالأمة المؤمنة خير منها.
وفي هذا (١): دليل على جواز نكاح الأمة المؤمنة، ومفهوم الصفة يقتضي.. أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة كتابية كانت أو غيرها، وفي هذه الآية: دليل
﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ وهنا خطاب لأولياء المرأة؛ أي: ولا تزوجوا - أيها الأولياء - النساء المؤمنات من الكفار وثنيين كانوا أو أهل كتاب حتى يؤمنوا بالله ورسوله ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾؛ أي: ولتزويجكم المؤمنات لرقيق مؤمن بالله. ﴿خَيْرٌ﴾ لكم عند الله وأفضل وأصلح ﴿مِنْ﴾ تزويجهن لحر ﴿مُشْرِكٍ﴾ باللهِ ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ وأحبكم ذلك المشرك لحسبه أو ماله أو جماله أو جاهه، أو غير ذلك. ﴿أُولَئِكَ﴾ المذكورون من المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم ﴿يَدْعُونَ﴾ كُمْ ﴿إِلَى﴾ الشرك والكفر الذي يؤديكم إلى ﴿النَّارِ﴾ في الآخرة فلا يليق بكم مصاهرتهم ومناكحتهم، فإن الزوجية مظنة المحبة، وذلك يوجب الموافقة في الأغراض، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال الدين بسبب موافقة المحبوب ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو﴾؛ أي: أولياءه (١) المؤمنون يدعون، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه تفخيمًا لشأنهم؛ أي: يدعون إلى الاعتقاد والعمل الموصلَين ﴿إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ فهم الأَحِقَّاء بالمواصلة دون غيرهم، أو الكلام على ظاهره بلا حذف، والمعنى والله يدعو عباده إلى الجنة والمغفرة بتبيان هذه الأحكام من الإباحة والتحريم، فإن من تمسك بها.. استحق الجنة والمغفرة ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بتيسيره تعالى، وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة، أو بقضائه وإرادته.
يعني: أنه تعالى بين هذه الأحكام، وأباح بعضها، وحرم بعضها، فاعملوا بما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه من عمل بذلك.. استحق الجنة
٢٢٢ - ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾؛ أي: يسألك أصحابك يا محمَّد عن إتيان النساء في حالة الحيض، أيحل ذلك أم يحرم؟ وتقدم لك أن السائل عن ذلك عباد بن بشر وأسيد بن الحضير؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في البيت كفعل اليهود والمجوس، وأما النصارى؛ فكانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض.
ولعله سبحانه وتعالى (١) إنما ذكر ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ بغير ﴿واو﴾ ثلاث مرات. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، وثلاث مرات بـ ﴿واو﴾ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ إشارة إلى أن الأسئلة الثلاثة الأولى كانت في أوقات متفرقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد مع السؤال عن الخمر والميسر، فجاء بحرف الجمع لذلك، كأنه قال: جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا وكذا وكذا، والله أعلم. ﴿قُل﴾ لهم يا محمَّد في الجواب ﴿هُوَ﴾؛ أي: الحيض ﴿أَذًى﴾؛ أي: شيء مستقذر مؤذ مَنْ يقربه للرائحة الكريهة التي فيه، واللون الفاسد، وللحدة القوية التي فيه ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ﴾؛ أي: فاجتنبوا معاشرة النساء ومجامعتهن ﴿فِي الْمَحِيضِ﴾؛ أي: في حالة الحيض وزمانه ومكانه؛ لقوله - ﷺ -: "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم"، وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود وتفريط النصارى، فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض، وإنما وصفه
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، ويعقوب الحضرمي ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بسكون الطاء وضم الهاء بمعنى: حتى ينقطع عنهن الدم، وقرأ شعبة، وحمزة والكسائي ﴿يطهرن﴾ بتشديد الطاء والهاء بمعنى: يغتسلن ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾؛ أي: اغتسلن من حيضهن أو تيممن عند تعذر استعمال الماء ﴿فَأْتُوهُنَّ﴾؛ أي: جامعوهن ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: في المكان الذي أحله الله لكم؛ وهو القبل الذي هو مكان النسل والولد، ولا تعتدوا إلى غيره؛ وهو الدبر، أو المعنى جامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في حالة الحيض وهو القبل.
واتفق مالك والأوزاعي والثوري والشافعي أنه إذا انقطع حيض المرأة.. لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام.. لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام.. جاز أن يقربها قبل الاغتسال. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ﴾ ويثيب ﴿التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب والرجاعين عنها، بالندم على ما مضى منها، والترك في الحاضر، والعزم على أن لا يفعل مثلها في المستقبل ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾؛ أي: المتنظفين بالماء من الأحداث والجنابات والنجاسات، أو المتنزهين عن المعاصي والفواحش، كمجامعة النساء في زمان الحيض، وإتيانهن في الأدبار، وقيل: يحب المستنجين بالماء.
٢٢٣ - ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾؛ أي: فروج نسائكم مزرعة لأولادكم ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾؛ أي: مزرعتكم ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾؛ أي: من أي جهة شئتم من أمامها أو ورائها، وعلى أي حال شئتم من قيام أو قعود أو اضطجاع، فهو مخير بين ذلك إذا كان الإتيان في قبلها لا في دبرها.
وفي الآية: دليل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن؛ لأن محل الحرث لها والزرع هو القبل لا الدبر، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه
٢٢٤ - ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ نزلت في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان بينه وبين ختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف عبد الله لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصم له، وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث أهل الإفك؛ أي: ولا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف باسم الله عرضة؛ أي: عارضًا ومانعًا وحاجزًا لكم عن أيمانكم؛ أي: عن أعمالكم الصالحة، فالمراد بالأيمان هنا: الأعمال الصالحة، واللام فيه بمعنى عن وسميت: أيمانًا لتعلق الإيمان بها، وقوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ بدل من الأيمان بدل تفصيل من مجمل؛ أي: ولا تجعلوه حاجزًا لكم عن أن تبروا وتصلوا الرحم، ولا عن أن تتقوا؛ أي: ولا أن تصلّوا أو تصوموا مثلًا، ولا عن أن تصلحوا بين الناس، فعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام، والمعنى: لا تجعلوا الحلف باسم الله مانعًا لكم عن أعمال البر، ولا عن أن تبروا بالوالدين والأرحام، ولا أن تفعلوا ما فيه تقوى الله كالصلاة والصيام، ولا أن تفعلوا
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها.. فليأتها، وليكفر عن يمينه".
وقيل معناه: لا تجعلوا الله عرضة؛ أي: معروضًا ومذكورًا في أيمانكم، وحلفكم على أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس؛ يعني: لا تكثروا الحلف بالله، وإن كنتم بارين متقين مصلحين، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجراءة عليه ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لأيمانكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتكم، وختم الله سبحانه وتعالى (١) هذه الآية بهاتين الصفتين؛ لأنه تقدم ما يتعلق بهما، فالذي يتعلق بالسمع الحلف؛ لأنه من المسموعات، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح؛ إذ هو شيء محله القلب، فهو من المعلومات، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة والمعلول، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم، كما قدم الحلف على الإرادة.
٢٢٥ - ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ﴾ ولا يعاتبكم، أو لا يطالبكم بالتكفير ﴿بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾؛ أي: بما جرى على ألسنتكم من ألفاظ الإيمان من غير قصد الحلف كقول أحدكم: بلى والله، تارة، ولا والله، تارة أخرى، لا يقصد به اليمين ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ﴾ ويعاتبكم، أو يطالبكم بالتكفير ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ وقصد به ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ من ألفاظ الإيمان، وكسب القلب: هو العقد والنية.
واختلف العلماء في معنى اللغو من اليمين:
فقال الشافعي: هو ما سبق إليه اللسان من غير قصد اليمين، فلا إثم ولا كفارة له، بخلاف أبي حنيفة فيهما كقول القائل: لا والله، وبلى والله، من غير
وقال أبو حنيفة ومالك: اللغو من اليمين: هو أن يحلف الرجل على شيء يرى أنه صادق، ثم يتبين له خلاف ذلك، فلا إثم فيه، ولا كفارة له عندهما بخلاف الشافعي فيهما.
ومعنى الآية عند الشافعي: لا يؤاخذكم الله بغير المقصود لقلوبكم، وإنما يؤاخذكم بالمقصود لها، وعند أبي حنيفة ومالك لا يؤاخذكم باللغو؛ أي: بما حلفتم عليه معتقدين حقيقته بحيث يكون اللسان موافقًا للجنان ثم تبين خلافه، ولكن يؤاخذكم بما حلفتم عليه غير معتقدين حقيقته، وهي اليمين الغموس؛ أي: ولكن يؤاخذكم بما كسبته واقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب.
ومذهب الشافعي: هو قول عائشة رضي الله عنهما والشعبي، وعكرمة، ومذهب أبي حنيفة: هو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومكحول.
﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لعباده فيما لغوا من أيمانهم ﴿حَلِيمٌ﴾ حيث لم يعجل العقوبة على يمين الجد تربصًا للتوبة، وجاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان.
الإعراب
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾.
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿عَنِ الْخَمْرِ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾: معطوف على ﴿الْخَمْرِ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾: مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿فِيهِمَا﴾:
وسبب اختلاف القراءتين (١) الاختلاف في إعراب ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، فمن أعرب ﴿مَاذَا﴾ جميعهما اسم استفهام مركبًّا معمولًا لـ ﴿ينفقون﴾.. فالجملة فعلية، فيكون جوابها كذلك، فقوله: ﴿الْعَفْوَ﴾ - بالنصب - معمول لمحذوف؛ تقديره: أنفقوا العفو، والجملة في محل النصب مقول القول؛ لأن القول لا ينصب إلا الجمل أو ما قام مقامها، ومن أعرب ﴿ما﴾ وحدها اسم استفهام مبتدأ، و ﴿ذا﴾ اسم موصول خبره، وجملة ﴿ينُفِقُونَ﴾ صلته، والجملة اسمية.. فيكون جوابها كذلك، فالعفوُ - بالرفع - خبر لمحذوف؛ تقديره: هو العفو، والجملة المحذوفة
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: تبيينًا كائنًا كتبيين ما ذكر. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لَكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُبَيِّنُ﴾ ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ من اسمها وخبرها في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة؛ تقديره: يبين لكم الآيات تبيينًا كائنًا كتبيين ما تقدم؛ لتفكركم واتعاظكم.
﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾.
﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ الواو: عاطفة، ﴿يسألونك﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾. ﴿عَنِ الْيَتَامَى﴾: جار ومجرور في محل النصب، مفعول ثان لـ ﴿سأل﴾.
﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِصْلَاحٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء وصفه بالجار والمجرور بعده، أو عمله في الجار والمجرور. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿إِصْلَاحٌ﴾، أو متعلق به. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿تُخَالِطُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إخوانكم﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: فهم إخوانكم، والكاف مضاف إليه،
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: استئنافية، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بلا الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يُؤْمِنَّ﴾: فعل مضارع في محل النصب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى (إلى) مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، تقديره: إلى إيمانهن، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿لا تنكحوا﴾. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ الواو: اعتراضية، ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿أمة﴾: مبتدأ. ﴿مُؤْمِنَةٌ﴾: صفة له. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر له، وأفعل التفضيل ليس على بابه.
﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: المؤمناتِ، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾، وأن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾؛ تقديره: إلى إيمانهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿لا تنكحوا﴾. ﴿وَلَعَبْدٌ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿عبد﴾: مبتدأ. ﴿مُؤْمِنٌ﴾: صفة له. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر له، واسم التفضيل ليس على بابه. ﴿مِنْ مُشْرِكٍ﴾: متعلق بخبر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿وَلَوْ﴾ الواو: حالية، ﴿لو﴾: حرف شرط بمعنى ﴿إن﴾. ﴿أَعْجَبَكُمْ﴾: فعل ماضٍ ومفعول به، وجواب ﴿لو﴾ محذوف؛ تقديره: ولو أعجبكم فلا تزوجوه، وجملة ﴿لو﴾ في محل النصب حال من ﴿مُشْرِكٍ﴾؛
﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، فاسم الإشارة هنا واقع على كل من الإناث والذكور؛ لأنه يصلح لهما، كما قال ابن مالك:
وَبِـ (أُوْلَى) أَشِرْ لِجَمْعٍ مُطْلَقَا | وَالْمَدُّ أَوْلَى وَلَدَى الْبُعْدِ انْطِقَا |
﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
﴿وَيُبَيِّنُ﴾: الواو: عاطفة، ﴿يبين﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَدْعُو﴾. ﴿آيَاتِهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يبين﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف نصب وتعليل، والهاء اسمها، وجملة ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾: خبرها. وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾.
﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾.
هذا تصريح بمفهوم الغاية، ﴿فَإِذَا﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم النهي عن قربانهن إلى طهارتهن، وأردتم بيان حكم القربان بعد الطهارة.. فأقول لكم: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان خافضة لشرطها منصوبة بجوابها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿تَطَهَّرْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَأْتُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا، ﴿أتوهن﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة في محل النصب مقول القول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿مِنْ﴾: حرف جر. ﴿حَيْثُ﴾:
﴿أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها جملة معترضة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾؛ لاعتراضها بين المبيَّن وهو: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، وبين البيان وهو ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾. ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ على كونها خبرًا لـ ﴿إِنَّ﴾.
﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾.
﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ﴾: مبتدأ ومضاف إليه وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وهذه الجملة سيقت لبيان قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿حَرْثٌ﴾؛ تقديره: حرث كائن لكم. ﴿فَأْتُوا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع. ﴿ائتوا حرثكم﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنَّى﴾: اسم شرط جازم لتعميم الأحوال بمعنى كيف في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. ﴿شِئْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿أَنَّى﴾ على كونه فعل الشرط لها، وجواب الشرط محذوف؛ تقديره: أنى شئتم فأتوه، وجملة ﴿أَنَّى﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول القول. ﴿وَقَدِّمُوا﴾: الواو: عاطفة ﴿قدموا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ على كونها مقول القول. ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قدموا﴾.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَجْعَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿اللَّهَ﴾: لفظ الجلالة، مفعول أول. ﴿عُرْضَةً﴾: مفعول ثان، والجملة مستأنفة. ﴿لِأَيْمَانِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عُرْضَةً﴾ أو بـ ﴿تَجْعَلُوا﴾؛ لأن المعنى لا تجعلوا الحلف بالله عارضًا مانعًا لكم عن أيمانكم؛ أي: عن الأعمال الصالحة كما مر في التفسير والحل. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَبَرُّوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾، والجملة من الفعل والفاعل صلة ﴿أَنْ﴾ و ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من ﴿أيمانكم﴾ وعطف بيان عنه؛ تقديره: مانعًا لكم عن بركم وإحسانكم إلى الأرحام. ﴿وَتَتَّقُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَبَرُّوا﴾، وكذلك ﴿تصلحوا﴾ معطوف عليه على كونهما بدلًا، أو عطف بيان ﴿لأيمانكم﴾؛ والتقدير: ومانعًا لكم عن تقواكم وإصلاحكم بين الناس. وقوله: ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تصلحوا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ والخمر في الأصل: مصدر خَمرتُ الإناء إذا غطيته بالغطاء، سمي الخمر بذلك؛ لأنه يغطي العقل ويستره. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ في الأصل مصدر ميمي من يسر، كالموعد من وعد، يقال: يسرته إذا قهرته وغلبته، واشتقاقه: إما من اليسر؛ لأن فيه أخذ المال بسهولة ويسر بلا كد ولا تعب، وإما من اليسار بمعنى الغنى؛ لأنه سبب لتحصيل الغنى، أو لسلبه، وفي "المصباح": الميسر وزان مسجد، قمار العرب بالأزلام، يقال: منه يسر الرجل ييسر - من باب وعد - فهو ياسر، وبه سمي. ﴿وَإِثْمُهُمَا﴾ والإثم في الأصل مصدر أثِم يأثَم إثمًا ومأثمًا - من باب طرب إذا أذنب، والإثم - الذنب يجمع على آثام.
﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ والعفو في الأصل مصدر عفا يعفو عفوًا إذا سامح عن الإساءة، وهو هنا اسم للمال الفاضل عن الحاجة. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ العلم هنا بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد، وأتى بـ ﴿من﴾ لتضمنه
﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ وأصله يؤمنن، فسكنت النون الأولى التي هي آخر الفعل؛ لدخول نون النسوة، ثم أدغمت الأولى في الثانية.
﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ بضم التاء هنا وبفتحها في قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾؛ لأن الأول: من نكح الثلاثي، وهو يتعدى إلى مفعول واحد، والثاني: من أنكح الرباعي، وهو يتعدى إلى الاثنين. الأول: في الآية ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ والثاني: محذوف، وهو المؤمنات.
﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ اسم الإشارة راجع إلى المشركات والمشركين، ويدعون خبره، فمن حيث وقوعه على الذكور يكون الفعل مرفوعًا بالنون، والواو فاعل، ويكون وزنه ينعون، أصله يدعوون بواوين، فحذفت أولاهما وهي لام الكلمة، ومن حيث وقوعه على الإناث يكون الفعل مبنيًّا على السكون، وتكون النون نون النسوة، وتكون ﴿الواو﴾ حرفًا هي لام الكلمة، ووزنه يفعلن.
﴿عَنِ الْمَحِيضِ﴾ المحيض: مصدر ميمي يصلح للحديث والزمان والمكان، والحيض في اللغة السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال ماؤه، وشرعًا عند الفقهاء: دم جبلة يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات مخصوصة. ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ وفي "المصباح": أذي الشيء يَأذي أذىً - من باب تعب - إذا قذر.
﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وأصل ائتوا: ائتيوا بوزن اضربوا، فالهمزة الأولى همزة وصل أُتيَ بها للابتداء بالساكن، والثانية فاء الكلمة اجتمع همزتان، فقلبت ثانيتهما ياء على حد إيمان وبابه، واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فحذفت، فسكنت الياء وبعدها واو الضمير ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء قبلها للتجانس، فوزن ائتوا افعوا، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداء أما في الدرج: فإنها يستغنى عنها، وتعود الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لأنها إنما قلبت لأجل الكسر الذي كان قبلها، وقد زال.
﴿بِاللَّغْوِ﴾ واللغو مصدر لغا يلغو، يقال: لغا يلغو لغوًا، مثل غزا يغزو غزوًا، ولغى يلغى لغيًا، مثل يلقى لقيًا.
وفي "الخازن": اللغو: كل ساقط مطروح من الكلام وما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، واللغو في اليمين: هو الذي لا عقد ولا قصد معه، كقول الإنسان لا والله، وبلى والله.
البلاغة
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾: فيه إيجاز بالحذف؛ أي: يسألونك عن شرب الخمر وتعاطي الميسر؛ أي: أيحل ذلك أم لا؟ ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ هذا من باب التفصيل بعد الإجمال، وهو ما يسمى عند أهل المعاني بالإطناب. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾: فيه تشبيه مرسل مجمل.
﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن قبله ﴿ويسألونك﴾ فالواو ضمير الغائبين، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ وتعلق العلم بالمفسد أولًا؛ ليقع الإمساك عن الإفساد، ومن متعلقه بيعلم على تضمين ما يتعدى بمن كان المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.
وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم؛ لأن المخالطة على قسمين: مخالطة بإفساد، ومخالطة بإصلاح، ولأنه لما قيل: ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ فهم مقابله، وهو أن الإفساد شر، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح ومقابله، ولا يخفى ما في الآية من الطباق بين كلمة المفسد والمصلح، وهو من المحسنات البديعية.
﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾: تعليل للنهي عن مواصلة المشركات، وترغيب في مواصلة المؤمنات، وصدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة
﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ من المعلوم أن المغفرة قبل دخول الجنة، ولذلك قدمت في غير هذه الآية: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾، ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ وإنما قدمت الجنة هنا تقديمًا للمقابل؛ لتكمل وتظهر المقابلة؛ لأن النار يقابلها الجنة، ولا يخفى ما في الآية من الطباق بين كلمة النار وكلمة الجنة.
﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ كناية عن الجماع ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ هذا تصريح بمفهوم الغاية، والتصريح له، وإن علم مما قبله لمزيد العناية بأمر التطهر.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ جملة معترضة بين المبين وهو قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وبين البيان وهو قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ ونكتة هذا الاعتراض: الترغيب فيما أمروا به، والتنفير عما نهوا عنه، وقدم الذي أذنب على الذي لم يذنب؛ لكيلا يقنط التائب من الرحمة، ولئلا يعجب المتطهر بنفسه كما في آية ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾.
﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾؛ أي: كالأرض التي تُحرث ليوضع فيها البذر، فشبه النساء بالأرض التي تحرث، وشبه النطفة بالبذر الذي يوضع في تلك الأرض، وشبه الولد بالزرع الذي ينبت من الأرض، فهو من باب التشبيه البليغ، وأنشد ثعلب:
إِنَّمَا الأَرْحَامُ أَرْضُوْ | نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتْ |
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيْهَا | وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتْ |
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَةْ | إِذَا أَتَت نَكِرَةً مُكَرَّرَةْ |
تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِي | تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ |
وقال أبو حيان (١): وفي قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تنبيه على الوصف الذي به يتقى الله، ويقدم الخير، ويستحق التبشير، وهو الإيمان، وفي أمره لرسول الله - ﷺ - بالتبشير تأنيس عظيم، ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف، ولكونه مع ذلك فصل آية: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ في هذا الكلام حذف؛ تقديره: ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم، فحذف لدلالة ما قبله عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه تقدم شيء من أحكام النساء، وشيء من أحكام الإيمان، وهذه الآية جمعت بين الشيئين.
قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جدًّا؛ لأنه حكم غالب من أحكام النساء؛ لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائمًا، وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء، فناسب ذكرها بعقبها.
قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ...﴾ مناسبتها لما قبلها ظاهرة: وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي، وكانوا يطلقون، ويراجعون من غير حد ولا عد.. بين في هذه الآية أنه مرتان، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان؛ أي:
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان.. اقتضى ذلك أن من الإحسان أن لا يأخذ الزوج من امرأته شيئًا مما أعطاها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ...﴾ عن ابن عباس (١) - رضي الله عنهما - قال: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئًا فأبت أن تعطيه.. حلف لا يقربها السنة والسنتين والثلاث، فيدعها لا أيِّما ولا ذات بعل، فلما كان الإِسلام.. جعل الله ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية، وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية فكان الرجل لا يريد امرأته، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدًا فيتركها لا أيِّما ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإِسلام، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ...﴾.
قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...﴾ الآية، أخرج (٢) أبو داود وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طلقت على عهد رسول الله - ﷺ -، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله العدة للطلاق بقوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ...﴾ الآية، أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة وإن طلقها مئة مرة وأكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همتْ عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة، فأخبرت
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا...﴾ أخرج أبو داود في "الناسخ والمنسوخ" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل يأكل مال امرأته من نحله الذي نحلها وغيره، ولا يرى أن عليه جناحًا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا...﴾ والآية.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ...﴾ الآية، أخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - ﷺ - فقالت: يا رسول الله، إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا مال، ولكني أكره الكفر في الإِسلام - قال أبو عبد الله: يعني تبغضه - قال رسول الله - ﷺ - له: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" قولها ما أعتب عليه: تعني، ما أجد عليه، والحديقة: البستان من النخل.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ...﴾ الآية، أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقًا بائنًا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي فطلقها، فأتت النبي - ﷺ - فقالت: إنه طلقني قبل أن يمسني، فأرجع إلى الأول؟ قال - ﷺ -: "لا حتى يمس" ونزل فيها: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فيجامعها، فإن طلقها بعد ما جامعها، فلا جناح عليهما أن يتراجعا.
وأخرج الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - ﷺ -، فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني، فبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله - ﷺ - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ " قالت: نعم، قال: "حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".
٢٢٦ - ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ قرأ عبد الله شذوذًا: ﴿للذين آلوا﴾ بلفظ الماضي، وقرأ أبي وابن عباس شذوذًا: ﴿للذين يقسمون﴾؛ أي: للذين يحلفون أن يبتعدوا ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ وحلائلهم ولا يجامعوهن مطلقًا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر كما تقرر في الفروع ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾؛ أي: انتظارهن في أربعة أشهر؛ أي: للمولي حق التلبث والانتظار في هذه المدة، فلا يطالب بفيئة ولا طلاق؛ أي: جعل الله الأجل في ذلك أربعة أشهر، فإذا مضت هذه المدة.. فإما أن يطلق، وإما أن يطأ، فإن أباهما جميعًا.. طلق عليه الحاكم طلقة واحدة، ولها النفقة والكسوة في تلك المدة؛ لأن الامتناع من قبله، وتحسب تلك المدة من يوم الحلف إن كانت صريحة في ترك الوطء، ومن يوم الرفع للحاكم إن لم تكن صريحة، فالإيلاء: لغة مطلق الحلف؛ لأنه مصدر آلى يولي إيلاء إذا حلف، وشرعًا: الحلف بالله أو بغيره، كالعتق والنذر على ترك وطء الزوجة المدخول بها المطيقة للوطء مطلقًا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر. ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ قرأ عبد الله: ﴿فإن فاءوا فيهن﴾ وقرأ أبيّ شذوذًا: ﴿فإن فاؤوا فيها﴾؛ أي: فإن رجع المولون عما حلفوا عليه من ترك جماعهن؛ بأن جامعوا قبل مضي أربعة أشهر، وحينئذ يلزمهم ما يترتب على الحنث من كفارة إن كان اليمين بالله، أو العتق مثلًا إن كان به. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ ليمينهم إن تابوا بفعل الكفارة، أو ما تعرض بالإيلاء من ضرار المرأة بالفيئة التي هي كالتوبة ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم حيث بيَّن كفارتهم.
٢٢٧ - ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ قرأ ابن عباس شذوذًا: ﴿وإن عزموا السراح﴾؛ أي: وإن جزموا نية الطلاق، وقصدوا إيقاعه بأن تركوا الفيئة إلى مضي المدة، وجواب الشرط محذوف؛ تقديره: فليوقعوه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لإيلائهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتهم، فليس لهم بعد التربص إلا الفيئة أو الطلاق، فإن بَرَّ المولي يمينه وترك مجامعة امرأته حتى يتجاوز أربعة أشهر.. بانت منه امرأته بتطليقة واحدة، وإن جامعها قبل ذلك.. فعليه كفارة اليمين، كما قاله ابن عباس، كما ذكرناه آنفًا، ففي قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ من الوعيد على الامتناع، وترك الفيئة ما لا يخفى.
﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾؛ أي: لا يجوز للمطلقات ﴿أَنْ يَكْتُمْنَ﴾ ويخفين ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ﴾ وأوجده ﴿فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ من الحبل أو الحيض؛ لأجل استعجال انقضاء العدة لإبطال حق الزوج من الرجعة، أو لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، وفيه دليل على قبول قولهن في ذلك نفيًا أو إثباتًا.
والحاصل: أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، فإذا كتمت الحبل.. قصرت مدة عدتها، فتتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج، وأحبت التزوج بزوج آخر، أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل، وإذا كتمت الحيض.. فقد تحب تطويل عدتها؛ لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لبطل رجعته، ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض
والمعنى: أن هذا من فعل المؤمنات، وإن كانت المؤمنة والكافرة فيه سواء، كقولك: أدِّ حقي إن كنت مؤمنًا؛ يعني: أن أداء الحقوق من أفعال المؤمنين. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾؛ أي: أزواج تلك المطلقات، والبعولة جمع بعل، سمي الزوج بعلًا؛ لقيامه بأمر زوجته، وأصل البعل السيد والمالك ﴿أَحَقُّ﴾ وأولى ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾؛ أي: بمراجعتهن ولو أبين ﴿فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: في زمن ذلك التربص الذي أمرن أن يتربصن فيه، وهو زمن الأقراء الثلاثة، فلا حق لغيرهم في ردهن ورجعتهن، فأفعل التفضيل ليس على بابه، فكأنه قال: وبعولتهن حقيقون بردهن، وقرأ مسلمة بن محارب ﴿وبعولتهن﴾ بسكون التاء، فرارًا من ثقل توالي الحركات، وقرأ أبي ﴿بردتهن﴾ بالتاء بعد الدال ﴿إِنْ أَرَادُوا﴾؛ أي: إن أراد الأزواج بالرجعة ﴿إِصْلَاحًا﴾ لما بينهم وبينهن، وإحسانًا إليهن بحسن المعاشرة، لا الإضرار بهن، وذلك: أن أهل الجاهلية كانوا يراجعون ويريدون بذلك الإضرار، فنهى الله المؤمنين عن مثل ذلك، وأمرهم بالإصلاح وحسن العشرة بعد الرجعة ﴿وَلَهُنَّ﴾؛ أي: وللزوجات على الأزواج من الحقوق ﴿مِثْلُ الَّذِي﴾ لهم ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ من الحقوق ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعًا؛ أي: على الوجه الذي أمر الله تعالى به من حسن العشرة، وترك الضرار؛ يعني: يجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والمهر وحسن العشرة، وترك الضرار، كما يجب للأزواج عليهن امتثال أمرهم، ونهيهم في الاستمتاعات والخدمة، فالمماثلة تكون في وجوب ما يفعله الرجل من ذلك ووجوب امتثال المرأة أمره ونهيه، لا في جنس الواجب على كل منهما؛ لأنه مختلف.
وذلك: أن حق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يراعي حق الآخر فيما له وعليه، فيجب على الزوج أن يقوم بجميع حقوقها ومصالحها،
روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه ذكر خطبة النبي - ﷺ - في حجة الوداع، وقال فيها: قال رسول الله - ﷺ -: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك.. فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
ومعنى بالمعروف (١)؛ أي: بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، ولا يكلف أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفًا له، بل يقابل كل منهما صاحبه بما يليق به.
وقال ابن جرير (٢): اختلف أصحابنا - يعني: أصحاب مالك - هل على الزوجة أن تطالب بغير الوطء أم لا؟ فقال بعضهم: ليس على الزوجة أن تطالب بغير الوطء، وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة مثلًا.. فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال.. فعليها أن تفرش الفراش ونحوه، وإن كانت من نساء الكرد والدينم في بلدهن.. كلفت ما تكلفه نسائهم.
وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن نساء الصحابة كن يكلفن الطحن والخبيز والطبيخ، وفرش الفراش، وتقريب الطعام، وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصّرن في ذلك.
﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾؛ أي: ولكن للأزواج على الزوجات فضيلة ومزية في الحق؛ أي: فعليهن مزيد إكرام واحترام وتعظيم لرجالهن؛ بسبب كونه رجلًا يقالب الشدائد والأهوال، ويسعى دائمًا في مصالح زوجته، ويكفيها تعب
(٢) البحر المحيط.
وقيل (١): إن فضيلة الرجال عن النساء بأمور منها: العقل، والشهادة، والميراث، والدية، وصلاحية الإمامة، والقضاء، وللرجل أن يتزوج عليها ويتسرى، وليس لها ذلك، وبيد الرجل الطلاق، فهو قادر على تطليقها، وإذا طلقها رجعية.. فهو قادر على رجعتها، وليس شيء من ذلك بيدها.
روى البغوي بسنده عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل رضي الله عنه خرج في غزاة بعثه رسول الله - ﷺ - فيها، ثم رجع فرأى رجالًا يسجد بعضهم لبعض، فذكر، ذلك لرسول الله - ﷺ - فقال: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد.. لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه ﴿حَكِيمٌ﴾ في جميع أفعاله وأحكامه، وفيما حكم بين الزوجين.
وإنما (٢) ختم الآية بهذين الاسمين؛ لأنه لما تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾، والنهي في قوله ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾، والجواز في قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ﴾، والوجوب في قوله: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾، ناسب وصفه تعالى بالعزة، وهو القهر والغلبة، وهي تناسب التكليف، وناسب وصفه بالحكمة، وهي إتقان الأشياء، ووضعها على ما ينبغي، وهي تناسب التكليف أيضًا.
٢٢٩ - ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾؛ أي (٣): عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج على زوجاتهم إذا كن مدخولًا بهن هو مرتان، أي: الطلقة الأولى والثانية؛ إذ لا رجعة بعد الثالثة، وقيل: معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق، ولذلك قالت الحنفية: الجمع بين الطلقتين والثلاث بدعة، وإنما قال سبحانه وتعالى: ﴿مَرَّتَانِ﴾ ولم يقل: طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
وقيل المراد: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ أي: برجعة بعد الطلقة الثانية ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾؛ أي: بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها، والأول أظهر، وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثًا أو واحدة فقط؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم؛ وهو الحق. انتهى. من "الشوكاني".
فائدة: قال الفخر الرازي: الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري: هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه.. فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجعة.. لعظمت المشقة على الإنسان؛ إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة.. أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
فوائد تتعلق بأحكام الطلاق
الأولى: صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية ثلاث: الطلاق والفراق والسراح، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فقط.
الثانية: الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها.. فله مراجعتها من غير رضاها ما دامت في العدة، فإذا لم يراجعها حتى انقضت
الثالثة: العبد يملك على زوجته الأمة تطليقتين، واختلف فيما إذا كان أحد الزوجين حرًّا، فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات، والعبد يملك على زوجته الحرة تطليقتين، فالاعتبار بحال الزوج في عدد الطلاق، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتبار بالمرأة، فالعبد يملك على زوجته الحرة ثلاث تطليقات، والحر يملك على زوجته الأمة تطليقتين.
﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ أيها (١) الأزواج أو الحكام؛ لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهما الآخذون والمؤتون، والأول أظهر ﴿أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾؛ أي: أعطيتموهن من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ﴿شَيْئًا﴾ قليلًا فضلًا عن الكثير؛ لأنه استمتع بها في مقابلة ما أعطاها، وتنكير ﴿شَيْئًا﴾ للتحقير؛ أي: شيئًا حقيرًا، وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه، مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئًا من أموالهن التي يملكنها من غير المهر؛ لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو ملكها، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحل له.. كان ما عداه ممنوعًا منه بالأَولى.
ثم استثنى الخلع، فقال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾؛ أي: الزوجان، وقرىء ﴿يظنا﴾، وهو يؤيد تفسير الخوف بالظن؛ أي: إلا أن يعلم الزوج والمرأة من أنفسهما عند الخلع ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾؛ أي: عدم إقامة حدود الله التي حدها للزوجين، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة.
وقرأ حمزة: ﴿إلا أن يُخافا﴾ على البناء للمجهول فـ ﴿أَلَّا يُقِيمَا﴾ بدل اشتمال
وقرىء شاذًا بالفوقانية في الفعلين مفتوحة في الأول، مضمومة في الثاني مع بنائهما للفاعل، وعلى هذه القراءة: فلا التفات في الكلام ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أيها الحكام، وجاز أن يكون أول الخطاب للأزواج، وآخره للحكام؛ يعني: فإن خشيتم وأشفقتم ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾؛ أي: ما أوجب الله على كل منهما من طاعته فيما أمر به من حسن الصحبة والمعاشرة.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾؛ أي: لا جناح على الرجل في الأخذ، وعلى المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج، فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع، وقد ذهب الجمهور: إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحل له الأخذ مع ذلك الخوف، وهو الذي صرح به القرآن، وقد تقدم لك أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس، وفي شأن جميلة بنت عبد الله بن أبي، اشترت نفسها من زوجها بمهرها. قال رسول الله - ﷺ - لثابت: "خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها"، ففعل، فكان ذلك أول خلع في الإِسلام.
ثم الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن كما قريء شاذًا ﴿إلا أن يظنا﴾ والخوف: إما أن يكون من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو
﴿تِلْكَ﴾ الأحكام المذكورة من قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ إلى هنا ﴿حُدُودُ اللهِ﴾؛ أي: ما حدد الله وشرعه، وبينه لعباده في النكاح واليمين والإيلاء والعدة والطلاق والخلع، وغير ذلك ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾؛ أي: فلا تجاوزوها بالمخالفة إلى ما نهى الله تعالى لكم عنه ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ﴾؛ أي: يتجاوز ﴿حُدُودَ اللهِ﴾؛ أي: أحكام الله إلى ما نهى الله عنه ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المعتدون ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أنفسهم، والضارون لها بتعريضها لسخط الله، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.
٢٣٠ - ثم رجع إلى قوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، فقال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾؛ أي: الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ بعد الطلقتين، فكأنه قال: فإن (١) سرحها التسريحة الثالثة الباقية من عدد الطلاق، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وغيرهم؛ أي: فإن وقع منه ذلك.. فقد حرمت عليه بالتثليث ﴿فَلَا تَحِلُّ﴾ تلك المطلقة ﴿لَهُ﴾؛ أي: لمطلقها ثلاثًا ﴿مِنْ بَعْدُ﴾؛ أي: من بعد التطليقة الثالثة ﴿حَتَّى تَنْكِحَ﴾؛ أي: حتى تتزوج ﴿زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ أي: غير الأول بعد انقضاء عدتها من الأول، ويطأها الزوج الثاني، ويطلقها الثاني، وتنقضي عدتها من الثاني، وقد أخذ (٢) بظاهر الآية سعيد بن المسيب ومن وافقه، فقالوا: يكفي مجرد العقد؛ لأنه المراد بقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾. وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا بد مع العقد من الوطء؛ لما ثبت عن النبي - ﷺ - من اعتبار ذلك، وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه.
(٢) الشوكاني.
واعلم: أن مذهب جمهور السلف والخلف أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لذلك المطلق إلا بخمس شرائط: تعتد منه، وتعقد للثاني ويطؤها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه.
والحكمة في تشريع التحليل (١): الردع عن المسارعة إلى الطلاق، وعن العود إلى المطلقة ثلاثًا والرغبة فيها ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الزوج الثاني طلاقًا بائنًا، وانقضت عدتها منه ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: فلا إثم ولا حرج ﴿عَلَيْهِمَا﴾؛ أي: على الزوج الأول والمرأة ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾؛ أي: أن يرجع كل من المرأة والزوج الأول إلى الآخر بنكاح جديد ومهر ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾؛ أي: حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر، وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو تردد أو أحدهما ولم يحصل لهما الظن.. فلا يجوز الدخول في هذا النكاح؛ لأنه مظنة لمعصية الله، والوقوع فيما حرمه على الزوجين.
وأجمع أهل العلم (٢) على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثًا، ثم انقضت عدتها، ونكحت زوجًا آخر ودخل بها، ثم فارقها وانقضت عدتها، ثم نكحها الزوج الأول.. أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.
﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام المذكورة من النكاح وغيره ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾؛ أي: أحكام شرعه ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ وقرىء ﴿نبينها﴾ بالنون على طريق الالتفات؛ أي: يوضحها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أنها من الله ويصدقون بها وخص الذين يعلمون مع عموم الدعوة للعالم وغيره ووجوب التبليغ لكل فرد؛ لأنهم المنتفعون بالبيان المذكور، أما من
(٢) الشوكاني.
الإعراب
﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾.
﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿يُؤْلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُؤْلُونَ﴾. ﴿تَرَبُّصُ﴾: مبتدأ مؤخر وهو مضاف. ﴿أَرْبَعَةِ﴾: مضاف إليه وهو مضاف. ﴿أَشْهُرٍ﴾: مضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا.
﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿فَإِنْ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت حكم الإيلاء، وأردت بيان حكم ما إذا فاؤوا.. فأقول لك: إن فاءوا. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿فَاءُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل الشرط لها. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول لها. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾: الواو: استئنافية، ﴿المطلقات﴾: مبتدأ. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة في التوكيد. ﴿أَنْفُسِهِنَّ﴾: مؤكد لنون الفاعل ومضاف إليه، والجملة خبر المبتدأ؛ تقديره: والمطلقات متربصات هن أنفسهن، والجملة مستأنفة. ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ مفعول به ومضاف إليه.
﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَحِلُّ﴾: فعل مضارع. ﴿لَهُنَّ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَكْتُمْنَ﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: ولا يحل لهن كتمانهن، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿خَلَقَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: ما خلقه الله. ﴿فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿كُنَّ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم على كونه فعل شرط لـ ﴿إنَّ﴾. ﴿يُؤْمِنَّ﴾: فعل وفاعل في محل النصب على كونه خبرًا لـ ﴿كان﴾؛ تقديره: إن كن مؤمنات بالله. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يؤمن﴾، ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿الْآخِرِ﴾: صفة لليوم، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبله؛ تقديره: إن كن يؤمن باللهِ واليوم الآخر.. لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية جملة غائية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾.
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾: الواو: استئنافية، ﴿بعولتهن﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿أَحَقُّ﴾: خبر، وصح الإخبار بالمفرد عن الجمع؛ لأن الخبر اسم تفضيل، والجملة
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿وَلَهُنَّ﴾: الواو: استئنافية، ﴿لهن﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِثْلُ﴾: مبتدأ مؤخر، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم الخبر الظرفي عليه، أو تخصصه بالإضافة، والجملة مستأنفة، وهو مضاف. ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: جار ومجرور (١) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به ﴿لهن﴾ أي: استقر ذلك بالمعروف، ويجوز أن يكون في موضع رفع صفة لـ ﴿مِثْلُ﴾؛ لأنه لا يتعرف بالإضافة. ﴿وَلِلرِّجَالِ﴾: الواو: عاطفة، ﴿للرجال﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: جار ومجرور (٢) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به ﴿للرجال﴾، ويجوز أن يكون في موضع نصب حالًا من ﴿دَرَجَةٌ﴾؛ والتقدير: درجة كائنة عليهن، فلما قدم وصف النكرة عليها.. صار حالًا. ﴿دَرَجَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
﴿الطَّلَاقُ﴾: مبتدأ، وهو على حذف مضاف؛ تقديره: عدد الطلاق الذي تملك بعده الرجعة؛ ليصح الإخبار. ﴿مَرَّتَانِ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم عدد الطلاق الذي تملك بعده الرجعة، وأردتم بيان مالكم بعد المرتين..
(٢) العكبري.
﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَحِلُّ﴾: فعل مضارع ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَأْخُذُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن، وصلة لها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: ولا يحل لكم أخذكم. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَأْخُذُوا﴾. ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: إياه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط المفعول الثاني المحذوف. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به لـ ﴿تَأْخُذُوا﴾. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾: ﴿إِلَّا﴾: أداة (١) استثناء من مفعول له محذوف تقديره: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا بسبب من الأسباب إلا بسبب أن يخافا. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَخَافَا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة محذوف إليه؛ تقديره: إلا بسبب خوفهما، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تأخذوا﴾. ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. لا: نافية. ﴿يُقِيمَا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾، وصلة لها. ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: إلا بسبب خوفهما عدم إقامة حدود الله.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه لا يحل الأخذ منهن إلا في حالة الخوف، وأردتم بيان حكمه حينئذ هل معه جناح أم لا؟ فأقول لكم: ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿خِفْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل الشرط، ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يقيما﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾، وصلة لها. ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، وجملة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فإن خفتم عدم إقامتهما حدود الله. ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل ﴿إن﴾. ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْهِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾ تقديره: فلا جناح كائن عليهما، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به عليهما. ﴿افْتَدَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على المرأة. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَعْتَدُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية. ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ﴾ الواو: استئنافية. ﴿من﴾؛ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. ﴿يَتَعَدَّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿حُدُودَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية. ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: خبر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم حكم الطلاق مرتين، وأردتم بيان حكم ما إذا طلق الثالثة.. فأقول لكم: ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿طَلَّقَهَا﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، وفاعله ضمير يعود على المطلق مرتين. ﴿فَلَا تَحِلُّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية جوازًا، ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَحِلُّ﴾: فعل مضارع مرفوع ليشاكل الجواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على المطلقة مرتين. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تحل﴾، وكذا يتعلق به قوله: ﴿مِنْ بَعْدُ﴾ والجملة الفعلية في محل الجزم على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿حَتَّى تَنْكِحَ﴾: ﴿حتى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تَنْكِحَ﴾: منصوب بأن المضمرة بعد حتى، وفاعله ضمير يعود على المطلقة ثلاثًا ﴿زَوْجًا﴾: مفعول به، ﴿غَيْرَهُ﴾: بدل من ﴿زَوْجًا﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿تَنْكِحَ﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى نكاحها زوجًا غيره، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿لا تحل﴾.
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾.
﴿فإن﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وأردتم بيان حكم ما إذا نكحت زوجًا آخر.. فأقول لكم ﴿إن طلقها﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿طَلَّقَهَا﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، وفاعله ضمير يعود على الزوج الثاني. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها، ﴿عَلَيْهِمَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَتَرَاجَعَا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ وصلة لها، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ تقديره: فلا جناح عليهما في تراجعهما، والجار المحذوف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَتِلْكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿يُبَيِّنُهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر بعد خبر، أو في محل النصب حال من ﴿حُدُودَ اللَّهِ﴾؛ أي: مبينة، والعامل فيها اسم الإشارة ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يبين﴾، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿قوم﴾؛ تقديره: لقوم عالمين؛ أي: فاهمين إياها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ الإيلاء: مصدر آلى الرباعي، يولي إيلاء إذا حلف، فهو لغة: الحلف، وشرعا: حلف الزوج على أن لا يطأ زوجته مطلقًا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر.
﴿تَرَبُّصُ﴾ التربص: الانتظار والترقب، وهو مصدر تربص الخماسي، وهو مقلوب التبصر.
﴿فَاءُوا﴾ وهو من الأجوف المهموز، يقال: فاء يفيء فيأً إذا رجع، وسمي الظل بعد الزوال فيأً؛ لأنه رجع عن جانب المغرب إلى جانب المشرق.
﴿عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ العزم: ما يعقد عليه القلب ويصمم، يقال: عزم عليه يعزم عزمًا وعزيمةً وعزامًا إذا صمم عليه.
﴿الطَّلَاقَ﴾: انحلال عقد النكاح، يقال: طلقت تطلق فهي طالق وطالقة،
﴿قُرُوءٍ﴾ القرء: في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء المرأة حيضها وطهرها، والقرء فيه لغتان: الفتح ويجمع المفتوح على قُرُؤ وأقرء مثل فلس وفلوس وأفلس، والضم: ويجمع المضموم على أقراء مثل قفل وأقفال.
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ البعولة: جمع بعل، فالتاء لتأنيث الجمع، وفي "المصباح" البعل: الزوج، يقال: بعل يبعل - من باب قتل - بعولةً إذا تزوج، والمرأة بعل أيضًا، وقد يقال فيها: بعلة بالهاء، كما يقال: زوجة تحقيقًا للتأنيث، والجمع البعولة، وفي "القاموس": أن بعل من باب منع، فيؤخذ منه مع كلام "المصباح"، أنه يأتي من باب قتل ومنع، ونص كلام "القاموس" والبعل الزوج، والجمع بعال وبعول وبعولة، والأنثى بعل وبعلة، بعل - كمنع - بعولةً صار بعلًا، والبعال: الجماع وملاعبة المرء أهله، والبعل أيضًا الملك، وبه سمي الصنم.
﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ وصيغة (١) التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة، والمرأة تأباها.. وجب إيثار قوله على قولها، وليس معناه أن لها حقًّا في الرجعة.
﴿وَلِلرِّجَالِ﴾: جمع رجل، والرجل معروف، وهو مشتق من الرجلة، وهي القوة، يقال: رجل بين الرجولة والرجلة، وهو أرجل الرجلين؛ أي: أقواهما.
﴿دَرَجَةٌ﴾ الدرجة: المنزلة، يقال: درجت الشيء وأدرجته إذا طويته، وأدرجهم الله، فهو كطي الشيء منزلة منزلة، ومنه الدرجة التي يرتقى إليها.
﴿إمساك﴾: مصدر أمسك الشيء إمساكًا إذا حبسه.
﴿تَسْرِيحٌ﴾: مصدر سرح الرباعي، يقال: سرح الماشية تسريحًا إذا أرسلها لترعى، وسرح الشعر إذا خلص بعضه من بعض.
البلاغة
﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾: في إضافة المصدر إلى الظرف تجوز، والأصل
﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: فيه من الوعيد والتهديد على الامتناع وترك الفيئة ما لا يخفى.
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾: هذا خبر بمعنى الأمر، والأصل: وليتربصن المطلقات، وإيراده خبرًا أبلغ من صريح الأمر؛ لإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإتيان به، فكأنهن امتثلن الأمر بالفعل، فهو يخبر عنه موجودًا، وبناؤه على المبتدأ مما زاده تأكيدًا.
﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ﴾: ليس الغرض منه التقييد بالإيمان، بل للتغليظ وتهويل الأمر في نفوسهن حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضًا.
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾: فيه من الإيجاز والإبداع ما لا يخفى على المتمكن في علوم البيان، فقد حذف شيئًا من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئًا في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل الكلام: ولهن على أزواجهن من الحقوق مثل الذي لأزواجهن عليهن من الحقوق، وفيه من المحسنات البديعية أيضًا الطباق بين ﴿لهن﴾ و ﴿عليهن﴾ وهو طباق بين حرفين.
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾: وإيثار لفظ مرتان على لفظ ثنتان؛ للإيذان بأن حقهما أن يوقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة وإن أنت الرجعة ثابتة أيضًا، وبين لفظ ﴿إمساك﴾ ولفظ ﴿تَسْرِيحٌ﴾ طباق. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾: فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾: فيه وفيما بعده الإظهار في مقام الإضمار؛ لتربية المهابة وإدخال الروع في ذهن السامع. ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: فيه قصر صفة على موصوف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)﴾.
المناسبة
مناسبة الآيتين لما قبلهما ظاهرة؛ لأن الآيتين تتحدثان عن أحكام الطلاق وتنهيان عن الإيذاء والإضرار، وعن عضل الأولياء موليتهم عن نكاح مطلقها.
أسباب النزول
قوله تعالى (١): ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...﴾ الآية.
أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج عن السدي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة.. راجعها، ثم طلقها مضارة، فأنزل الله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا...﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا...﴾ أخرج ابن أبي عمر في مسنده، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق، ثم يقول: لعبت، فأنزل الله: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا...﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢٣١ - ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ طلاقًا رجعيًّا ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾؛ أي: قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها، ولم تنقض؛ لأنه لو انقضت.. لم يكن للزوج إمساكها؛ لأنها ليست بزوجة، فلا سبيل له عليها، والأجل: هو الذي (١) ضربه الله للمعتدات من الأقراء والأشهر ووضع الحمل، وأضاف الأجل إليهن؛ لأنه أمس بهن، ولذا قيل: الطلاق للرجال، والعدة للنساء. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾؛ أي: راجعوهن قبل انقضاء العدة ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ في الشرع؛ أي: بالقول وبالإشهاد على الرجعة، لا بالوطء كما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، أو بحسن الصحبة والمعاشرة ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾؛ أي: خلوهن واتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتها، وتبين فيملكن أنفسهن ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾؛ أي: بأداء حقوقهن بلا تخاصم ولا تقابح ولا تشاتم ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ﴾؛ أي: لا تراجعوهن ﴿ضِرَارًا﴾؛ أي: لأجل إضرارها بسوء العشرة، وتضييق النفقة وتطويل العدة، وأنتم لا حاجة لكم إليهن، أو حالة كونكم مضارين لهن بذلك، وهذا النهي (٢) كالتوكيد لقوله أولًا: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ نهاهم عن أن يكون الإمساك ضرارًا، وحكمة هذا النهي: أن الأمر في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ يحصل لإمساكها مرة بمعروف هذا مدلول الأمر، ولا يتناول سائر الأوقات، وجاء بالنهي ليتناول سائر الأوقات ويعمها، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من
(٢) البحر المحيط.
﴿لِتَعْتَدُوا﴾؛ أي: لكي تظلموهن بتطويل العدة عليهن، أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمال، واللام متعلق بضرارًا؛ إذ المراد تقييده وتعليله، وقيل: غير ذلك كما سنبينه في بحث الإعراب.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ الإمساك المؤدي إلى الضرار والعدوان ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾؛ أي: أضر بنفسه بمخالفة أمر الله، وتعريضها لعقاب الله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا﴾ أيها الأزواج ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: أحكامه التي بينها بوحيه وتنزيله من أمره ونهيه وحلاله وحرامه ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: استهزاء ولعبًا؛ أي: مهزوءًا بها، ومتروكًا العمل بها بالإعراض عنها، والتهاون بالعمل بما فيها من قولهم لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت هازىء، كأنه نهى عن الهزء، وأراد به الأمر بضده؛ أي: جدوا (١) في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد أخذتموها هزوًا ولعبًا، فمن وجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله، ثم وصل إليه هذه الأحكام التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة.. فلا يتخذها هزوا، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد.
وعن أبي هريرة (٢) رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة" أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان الرجل على عهد رسول الله - ﷺ - يقول: زوجتك ابنتي، ثم يقول: كنت لاعبًا، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ فقال رسول الله - ﷺ -: "ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب فهن جائزات عليه: الطلاق والنكاح والعتاق".
(٢) الشوكاني.
وقرأ حمزة (١): ﴿هزْءا﴾ بإسكان الزاي، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمزة كما بين في علم القراءات، وهو من تخفيف فُعْل كعنق، وقرأ أيضًا: ﴿هزُوا﴾ بضم الزاي وإبدال الهمزة واوًا وذلك لأجل الضم، وقرأ الجمهور: ﴿هُزُوءا﴾ بضمتين وبالهمز، قيل: وهو الأصل.
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إنعامه عليكم بنعمة الإِسلام وبعثة محمَّد - ﷺ -، حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية؛ أي: فاشكروها واحفظوها بالامتثال وترك المخالفة.
﴿و﴾ واذكروا ﴿ما أنزل﴾ الله ﴿عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: القرآن ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾؛ أي: السنة التي علمها رسول الله - ﷺ - وسنها لكم، وقيل المراد بالحكمة: مواعظ القرآن، وأفردهما بالذكر مع دخولهما في النعمة إظهارًا لشرفهما؛ أي: اشكروهما بالعمل بما فيهما حالة كونه ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾؛ أي: يذكركم بما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة؛ أي: يأمركم وينهاكم به ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقاب الله بالامتثال فيما أمركم به، وترك المخالفة فيما نهاكم عنه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يعلم ما أخفيتم من طاعة ومعصية في سر وعلن، فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون، فيؤاخذكم بأنواع العقاب، وهذا أبلغ وعد ووعيد.
٢٣٢ - ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ والخطاب هنا في قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ﴾، وفي قوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ إما للأزواج، والمعنى
﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ خص المؤمن بالذكر؛ لأنه هو الذي يتعظ وينتفع بالوعظ.
تنبيه: وإنما قال (٢) هنا: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ وقال في الطلاق: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ لأنه لما كانت كاف ذلك لمجرد الخطاب لا محل لها من الإعراب.. جاز الاقتصار على الواحد كما هنا، كما في قوله: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، وجاز الجمع نظرًا للمخاطبين كما في الطلاق، فإن قلتَ: لِمَ ذكر منكم هنا، وتركه ثَمَّ؟
(٢) الجمل.
وعبارة (١) أبي السعود: والله يعلم ما فيه من الزكاة والطهر، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو الله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع التي من جملتها ما بيّنه لكم هنا، وأنتم لا تعلمونها، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى، ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون. انتهت.
وعبارة (٢) أبي حيان: والله يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كلٍّ منهما إلى الآخر، لذلك نهى الله تعالى عن العضل، قال ابن عباس: معناه أو يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب، أو يعلم بواطن الأمور ومآلها، وأنتم لا تعلمون ذلك، إنما تعلمون ما ظهر، أو يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها، ويكون المقصود بذلك تقرير الوعد والوعيد. انتهت.
الإعراب
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾.
(٢) البحر المحيط.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر فعل الشرط على الراجح. ﴿يَفْعَلْ﴾: مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ مفعول به. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿ظَلَمَ﴾:
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، أو استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَتَّخِذُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة، أو مستأنفة على الجملة التي قبلها. ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول أول ومضاف إليه. ﴿هُزُوًا﴾ مفعول ثان. ﴿وَاذْكُرُوا﴾: الواو: استئنافية. ﴿اذكروا﴾: فعل وفاعل ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نعمة﴾؛ لأنه اسم مصدر لأنعم الرباعي، أو متعلق بمحذوف حال من ﴿نِعْمَتَ﴾ تقديره: حالة كونها كائنة عليكم.
﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوفة على ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾. ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: أنزله ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أنزل﴾. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الهاء المحذوفة من أنزل؛ تقديره: حالة كون ما أنزله كائنًا. ﴿مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾: معطوف على ﴿الْكِتَابِ﴾. ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾: ﴿يَعِظُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿به﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿أَنْزَلَ﴾ العائد على الله تقديره: حالة كونه واعظًا إياكم به، ويجوز (١) أن يكون حالًا من ﴿ما﴾، والعائد إليها الهاء في به، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مبتدأ، و ﴿يعظكم﴾: خبره.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَاعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اتقوا﴾ ﴿أَنَّ﴾:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: عاطفة، أو استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿بلغن﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿طَلَّقْتُمُ﴾، ﴿أَجَلَهُنَّ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إذا جوازًا ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ التي قبلها، أو مستأنفة. ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدره ﴿يَنْكِحْنَ﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾. ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف المتعلق بـ ﴿لا تعضلوهن﴾ تقديره فلا تعضلوهن من نكاحهن أزواجهن ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. ﴿تَرَاضَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿ينكحن﴾، أو بلا تعضلوهن. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تراضوا﴾ ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره: تراضيًا كائنًا بالمعروف، أو متعلق بـ ﴿تراضوا﴾.
﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يُوعَظُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُوعَظُ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿مِنْكُمْ﴾: خطاب للمنتهين عن العضل
﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿أَزْكَى﴾: خبر، والجملة مستأنفة ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَزْكَى﴾. ﴿وَأَطْهَرُ﴾ معطوف على أزكى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾. الواو: استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ هو من باب فعَل يفعُل - بفتح العين في الماضي وضمه في المضارع - من باب قعد يقال: بلغ يبلغ بلوغًا وبلاغًا وبلغة، ﴿ضِرَارًا﴾ وهو مصدر ضار ضرارًا ومضارة - من باب فاعل - إذا أدخل عليه الضرر.
﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ العضل: المنع، يقال: عضلها من الزواج يعضلها - بكسر الضاد وضمها - من بابي ضرب ونصر إذا منعها من الزواج، ويقال: دجاج معضل إذا احتبس بيضها. قاله الخليل، ويقال: أصله الضيق، ومنه عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم، وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم علاجه، وأعضل الأمر إذا اشتد وضاق.
﴿إِذَا تَرَاضَوْا﴾ أصله: إذا تراضيوا؛ لأنه من باب تفاعل الناقص كتراموا، تحرت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار تراضو كتراموا.
البلاغة
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ أي: قاربن انقضاء عدتهن، فهو من المجاز المرسل، أطلق فيه اسم الكل على الأكثر؛ لأنه لو انقضت العدة.. لما جاز إمساكها، والله تعالى يقول: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ هذا قد سبق، وأعاده اعتناء بشأنه، ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ تأكيد للأمر بالإمساك بمعروف، وتوضيح لمعناه، وزجر صريح عما كانوا يتعاطونه من الإضرار.
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ هو من باب عطف الخاص على العام؛ لأن النعمة يراد بها نعم الله، والكتاب والحكمة من أفراد هذه النعم، هذا إن جعلنا النعمة اسمًا للمنعم به، وأما إن جعلناه مصدرًا بمعنى الإنعام.. فيكون العطف من المغاير؛ لأن النعمة حينئذ المراد بها الإنعام، والكتاب والحكمة من أفراد النعم، لا من أفراد الإنعام.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ كرر لفظ الجلالة؛ لكونه من جملتين، فتكريره أفخم وترديده في النفوس أعظم، وبين كلمة ﴿اعلموا﴾ وكلمة ﴿عَلِيمٌ﴾ من المحسنات البديعية ما يسمى بجناس الاشتقاق.
﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ يراد بأزواجهن المطلقين لهن، فهو من المجاز المرسل، والعلاقة اعتبار ما كان.
وقد تضمنت (١) هاتان الآيتان ستة أنواع من ضروب الفصاحة والبلاغة من علم البيان:
الأول: الطباق، وهو الطلاق والإمساك، فإنهما ضدان، والتسريح طباق
الثاني: المقابلة في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ قابل المعروف بالضرار، والضرار منكر، فهذه مقابلة معنوية.
الثالث: التكرار في قوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ كرر اللفظ لتغيير المعنيين، وهو غاية الفصاحة؛ إذ اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين.
الرابع: الالتفات في قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ ثم التفت إلى الأولياء، فقال: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، وفي قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إذ كان خطابًا للنبي - ﷺ - ثم التفت إلى الجمع في قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾.
الخامس: التقديم والتأخير، والتقدير: أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا.
السادس: مخاطبة الواحد بلفظ الجمع؛ لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار أو في أخت جابر، وقيل: ابنته.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى (١): ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر جملة من أحكام النكاح والطلاق والعدة والرجعة والعضل.. أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح، وهو ما شرع من حكم الإرضاع ومدته، وحكم النفقة والكسوة على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن شاء الله تعالى؛ لأن الطلاق يحصل به الفراق، فقد يطلق الرجل زوجته، ويكون لها طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقامًا من الزوج وإيذاء له في ولده؛ لذلك وردت هذه الآيات: لندب الوالدات المطلقات إلى رعاية
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تقدم ذكر عدة طلاق الحيض، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع، وكان في ضمنها قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾؛ أي: وارث المولود له.. ذكر عدة الوفاة؛ إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض.
التفسير وأوجه القراءة
٢٣٣ - ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾؛ أي: الأمهات سواء كن مطلقات أو متزوجات ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ وهذا خبر بمعنى الأمر؛ أي: ليرضعن أولادهن ندبًا عند استجماع (١) ثلاثة شروط: قدرة الأب على الاستئجار، ووجود غير الأم، وقبول الولد للبن الغير، ووجوبًا عند فقد واحد منها، كما يجب على كل أحد مواساة المضطر؛ لأن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من لبن غيرها، ولكمال شفقتها عليه.
ويدل على أنه لا يجب على الوالدة إرضاع الولد عند استجماع تلك الشروط قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ولو وجب عليها الرضاع.. لما استحقت الأجرة، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾. ﴿حَوْلَيْنِ﴾؛ أي: عامين ظرف الرضاع ﴿كَامِلَيْنِ﴾؛ أي: تامين صفة مؤكدة، وإنما أكده بكاملين؛ لأنه مما يتسامح فيه تقول: أقمت عند فلان حولين، وإن لم تستكملهما، فبين الله تعالى أنهما حولان كاملان أربعة وعشرون شهرًا من غير نقص ولا زيادة، وهذا رد على أبي حنيفة في قوله: إن مدة الرضاع ثلاثون شهرًا، وعلى زفر في قوله: إن مدة الرضاع ثلاث سنين، وهذا التحديد بالحولين
وقرأ مجاهد (١)، وابن محيصن ﴿لمن أراد أن تتم﴾ بفتح التاء، ورَفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من الرضاعة، وهي لغة، وروي عن مجاهد أنه قرأ: ﴿الرضعة﴾ وقرأ ابن عباس: ﴿لمن أراد أن يكمل الرضاعة﴾، وما عدا قراءة الجمهور شاذ.
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾؛ أي: على الأب الذي يولد لأجله وبسببه، وأثر (٢) هذا اللفظ دون قوله: وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهن، كأنهن إنما ولدن لهم فقط.
قال بعضهم:
وَإنَّمَا أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ أَوْعِيَةٌ | مُسْتَوْدَعَاتٌ وَللآبَاءِ أَبْنَاءُ |
(٢) الكشاف.
(٣) الخازن.
وقوله (١): ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ تقييد لقوله ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه.
وقيل: المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعي القصد، وقرأ أبو رجاء شذوذًا: ﴿لا تكلف﴾ - بفتح التاء؛ أي: لا تتكلف، وارتفع نفس على الفاعلية، وحذفت إحدى التائين. وفي هذه الآية (٢): دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد؛ لعجزه وضعفه، ونسبه تعالى إلى الأم؛ لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع، وأجمع العلماء على أنه يجب على الأب نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم.
﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾؛ أي: بأخذ ولدها منها بعد ما رضيت بما أعطي غيرها على الرضاع مع شدة محبتها له ﴿وَلَا﴾ يضار ﴿مَوْلُودٌ لَهُ﴾ وهو الأب ﴿بِوَلَدِهِ﴾؛ أي: بطرح الولد عليه بعد إلف أمه، ولا يقبل ثدي غيرها مع أن الأب لا يمتنع عليها من الرزق والكسوة، فقوله: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ﴾ راجع لقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾ وقوله: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ راجع لقوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ و ﴿لا﴾ في قوله: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ يحتمل أن تكون نافية؛ فالفعل مرفوع على أنه بدل من ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾، وأن تكون ناهية، فهو مجزوم.
قوله: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ قرأ (٣) أبو عمرو، وابن كثير وجماعة، ورواه أبان عن
(٢) القرطبي.
(٣) الشوكاني مع زيادة عن العكبري والجمل.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ﴿لا تضارَر﴾ على الأصل بفتح الراء الأولى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: ﴿لا تضارْ﴾ بإسكان الراء وتخفيفا، على أنه حذف الراء الثانية فرارًا من التشديد في الحرف المكرر، وهو الراء، وروي عنه الإسكان والتشديد، وجاز حينئذ الجمع بين الساكنين؛ إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، أو لأن مدة الألف تجري مجرى الحركة، فهاتان قراءتان شاذتان عن أبي جعفر المذكور.
وقرأ الحسن، وابن عباس شذوذًا: ﴿لا تضارِر﴾ بكسر الراء الأولى، فجملة ما في هذه الكلمة من القراءات ثمانية، ويحتمل أن تكون الباء في قوله: ﴿بِوَلَدِهِ﴾ صلة لقوله: ﴿تُضَارَّ﴾ على أنه بمعنى تضر؛ أي: لا تضر والدة ولدها، ولا أب ولده، فتسيء تربيته، أو تقصر في غذائه، وأضيف الولد تارة إلى الأب، وتارة إلى الأم؛ لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل، وتقرير للجملة التي قبلها؛ أي: لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه، فلا تضاره بسبب ولده.
﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾؛ أي (١): وعلى الصبي الذي هو وارث أبيه المتوفى مثل ما على الأب من النفقة والكسوة، فإنه إن كان له مال.. وجب أجر الرضاعة
وقيل (١): المراد بالوارث وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه؛ أي: فعلى هذا الوارث مثل ما كان على أب الصبي في حال حياته، واختلف في أي وارث هو؟ فقيل: هم عصبة الصبي كالجد والأخ والعم وابنه، وقيل: هو كل وارث له من الرجال والنساء، وبه قال أحمد، فيجبرون على نفقة الصبي كل على قدر سهمه منه، وقيل: هو من كان ذا رحم محرم منه، وبه قال أبو حنيفة لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه ﴿وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك﴾.
﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾؛ أي: الوالدان، وقرىء شذوذًا: ﴿فإن أراد﴾ بلا ألف، ﴿فِصَالًا﴾؛ أي: فطامًا للولد عن اللبن قبل تمام الحولين صادرًا ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾ واتفاق ﴿مِنْهُمَا﴾ لا من أحدههما فقط ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾؛ أي: مشاورة بينهما؛ أي: تدقيق النظر فيما يصلح للولد؛ أي: يشاوران أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد، والمشاورة استخراج الرأي بما فيه مصلحة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾؛ أي: فلا حرج ولا إثم على الوالدين في الفطام قبل الحولين إذا لم يضر بالولد، وكما يجوز النقص عن الحولين عند اتفاق الأبوين عليه، كذلك تجوز الزيادة عليهما باتفاقهما ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ﴾ أيها الآباء ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾؛ أي: أن تطلبوا لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم، أو تعذر ذلك لعلة بهن من انقطاع لبن، أو غير ذلك أو أردن التزويج ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ ولا حرج ولا إثم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ في ذلك الاسترضاع ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ إلى المراضع المستأجرات ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ بالمد على قراءة الجمهور؛ أي: ما أعطيتم؛ أي: سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه وإعطاءه لهن من الأجرة ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بطيب نفس وسرور
وقرأ ابن كثير وحده في المتواتر: ﴿ما أتيتم﴾ مقصورة الألف؛ أي: ما أتيتم وفعلتم به؛ أي: ما أردتم إتيانه وفعله، ومنه قول زهير:
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا | تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ |
٢٣٤ - ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ قرأ الجمهور بضم الياء مبنيًّا للمفعول؛ أي: يتوفاهم الله ويموتون، وقرأ علي، والمفضل عن عاصم: ﴿يَتوفون﴾ بفتح الياء مبنيًّا للفاعل؛ أي: يستوفون آجالهم، وهو مبتدأ، ولكنه على حذف مضاف؛ ليصح الإخبار عنه بما بعده؛ أي: وأزواج الذين يموتون من رجالكم ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾؛
(٢) البحر المحيط.
أما الحوامل: فعدتهن بوفع الأحمال بآية سورة الطلاق، والأمة على النصف من ذلك بالسنة، وإنما قال: ﴿عَشْرًا﴾ بلفظ التأنيث؛ لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلّبوا الليالي حتى إن أحدهم ليقول: صمت عشرًا من الشهر؛ لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا الأيام.. قالوا: صمنا عشرة أيام.
والحكمة في جعل عدة الوفاة هذا المقدار: أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشرًا؛ لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة، فتتأخر حركته قليلًا، ولا تتأخر عن هذا الأجل.
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾؛ أي: انقضت عدتهن ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: لا حرج ولا إثم ﴿عليكم﴾ يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة والحكام، أو أيها المسلمون ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾؛ أي: في تركهن على ما فعلن في أنفسهن من التزين والتطيب، والنقلة من المسكن، والتعرض للخطاب، وغير ذلك مما حرم عليهن في زمن العدة؛ لأجل وجوب الإحداد عليهن حال كونهن ملتبسات ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بما يحسن عقلًا وشرعًا، ومفهومه أنهن لو خرجن عن المعروف شرعًا بأن تبرجن،
فائدة: ويجب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وهو ترك الزينة والطيب، ودهن الرأس بكل الدهن والكحل المطيب، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة لرمد.. فيرخص لها فيه، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي: تكتحل به بالليل، وتمسحه بالنهار.
روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرًا".
وروى الشيخان عن أم عطية رضي الله عنها قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل ولا نتطيب، ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كُسْتِ أظَفَارٍ.
تنبيه: وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كانت هذه الآية مقدمة في التلاوة، وسنذكر تمام الكلام عليه بعد في موضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
٢٣٥ - ﴿وَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: لا حرج ولا إثم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيها الرجال ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ ولوحتم وأشرتم ﴿بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ المعتدات عن الوفاة، أو عن الطلاق البائن كقولكم لهن: إنك لجميلة ورب راغب فيك، ولعل الله أن ييسر لي امرأة صالحة، والتعريض وكذا التلويح: إفهام المقصود باللفظ الذي لم يوضع له حقيقة، ولا مجازًا كقول الفقير للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، والكناية: إفهام المقصود بذكر لوازمه وروادفه، كقولك للمضياف: كثير الرماد، والتصريح إفهام المقصود باللفظ الدال عليه حقيقة، والخِطبة - بكسر الخاء - طلب النكاح
﴿أَوْ﴾ فيما ﴿أَكْنَنْتُمْ﴾ وسترتم به ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وقلوبكم من نكاحهن، إذا انقضت عدتهن، و ﴿أو﴾ هنا للإباحة أو للتخيير أو التفصيل أو الإبهام على المخاطب، أما التصريح بخطبتهن كقوله: أريد نكاحك.. فحرام مطلقًا، وأما الرجعيات: فيحرم التعريض والتصريح بخطبتهن ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ بقلوبكم ولا تصبرون على السكوت عنهن، وعن الرغبة فيهن؛ لأن شهوة النفس والتمني لا يخلو عنه أحد، وهذا كالتعليل لقوله: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: وإنما أباح لكم التعريض؛ لعلمه بأنكم لا تصبرون عنهن، وقوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ استدراك على محذوف دل عليه قوله: ﴿سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾؛ تقديره: فاذكروا خطبتهن تعريضًا، ولكن لا تواعدوهن؛ أي: لا تذكروا خطبتهن سرًّا؛ أي: صريحًا بأن تذكروا صريح النكاح كقوله: أريد نكاحك، فالمراد بالسر: صريح الخطبة، وقيل: المراد بالسر: الجماع، والمعنى حينئذ: ولكن لا تواعدوهن بذكر الجماع، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: بأن يصف الخاطب نفسه لها بكثرة الجماع، كأن يقول لها: آتيك الأربعة والخمسة، وقيل: المراد بالسر النكاح، والمعنى حينئذ: ولكن لا تأخذوا ميثاقهن على النكاح؛ لكي لا ينكحن غيركم، كأن يقول لها: عاهديني أن لا تتزوجي غيري. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ في الشرع، وهو أن تعرضوا لهن بالخطبة، ولا تصرحوا بها، أو المعنى: إلا أن تسارروهن بالقول غير المنكر شرعًا، كأن يعدها الخاطب في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدًا لذلك التعريض.
﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾؛ أي: ولا تحققوا عقد النكاح، أو لا تجزموا ولا تقطعوا قصد عقد النكاح ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ﴾؛ أي: حتى تبلغ العدة المكتوبة المفروضة ﴿أَجَلَهُ﴾؛ أي: آخرها ونهايتها، وصارت منقضية ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيها الرجال ﴿أنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وقلوبكم من العزم على ما نهيتم عنه ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾؛ أي: فخافوا عقابه بالاجتناب عن العزم على ذلك {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
٢٣٦ - ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: لا تبعة ولا مطالبة عليكم بالمهر، ولا ثقل عليكم بلزومه ﴿إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾؛ أي: إن لم تجامعوهن فـ ﴿ما﴾ شرطية بمعنى إن، وهو الأقعد من جعلها مصدرية، وقرأ حمزة والكسائي: بضم التاء وبالألف بعد الميم في جميع القرآن، فهو بمعنى الأول ﴿أَوْ﴾ ما لم ﴿تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾؛ أي: أو لم تبينوا لهن صداقًا معينًا.
وهذا في المفوضة، وهي رشيدة قالت لوليها: زوجني بلا مهر، فزوجها كذلك بأن نفى المهر أو سكت عنه، أو زوج بدون مهر المثل، أو بغير نقد البلد، فلا مهر لها؛ لخلو النكاح عن الوطء والفرض، ولكن لها المتعة كما سيأتي، أما الممسوسة - أي: الموطؤة - فلها كل المهر، وإن لم يفرض لها، وأما غير الممسوسة: فلها نصف المسمى إن فرض لها، وإن لم يفرض لها.. فلا مهر لها، بل تجب لها المتعة كما ذكره بقوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ معطوف على مقدر تقديره: فطلقوهن ومتعوهن؛ أي: أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به جبرًا لإيحاش الطلاق والمتعة والمتاع، وما يتبلغ به من الزاد، وتقديرها: مفوض إلى رأي الحاكم كما يدل عليه قوله: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾؛ أي: على الغني الذي في سعة من غناه ﴿قَدَرُهُ﴾؛ أي: قدر إمكانه وطاقته، وهو بفتح الدال وكسرها قراءتان سبعيتان ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾؛ أي: وعلى الفقير الذي في ضيق من فقره. ﴿قَدَرُهُ﴾؛ أي: قدر إمكانه وطاقته، وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان بفتح الدال، وقوله: ﴿مَتَاعًا﴾ مصدر مؤكد لعامله؛ أي: متعوهن تمتيعًا كائنًا ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بالوجه الذي تعرفه وتستحسنه الشريعة والمروءة من غير حيف ولا ظلم، ولا بخس ولا نقص، فلا يزاد على المقتر فوق طاقته، ولا ينقص من الموسع عن طاقته، وقوله: ﴿حَقًّا﴾ صفة ثانية لمتاعًا، أو مصدر مؤكد لعامله؛ أي: حق ذلك حقًّا، ووجب وجوبًا ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: متاعًا واجبًا على (١) المؤمنين الذين يحسنون إلى
قيل (١): نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أمتعتها؟ " قال: لم يكن عندي شيء قال: "متعها ولو بقلنسوات".
واعلم: (٢) أنه اختلف العلماء في المتعة، فقيل: واجبة نظرًا للأمر، ولقوله: ﴿حَقًّا﴾ وبه أخذ الشافعي، وقيل: مندوبة نظرًا لقوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ ولقوله: ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ وبه أخذ مالك.
٢٣٧ - ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾؛ أي: طلقتم النساء ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾؛ أي: تجامعوهن ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾؛ أي: والحال أنكم سميتم لهن مهرًا مقدرًا معلومًا ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾؛ أي: فلهن نصف المهر المسمى ونصفه ساقط، وهذا في المطلقة بعد تسمية المهر، وقبل الدخول حكم الله لها بنصف المهر ولا عدة عليها، وقرأ ابن مسعود شذوذًا: ﴿من قبل أن تجامعوهن﴾ أخرجه عنه ابن جرير، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وعاصم: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بلا ألف، وقراءة حمزة والكسائي ﴿تماسوهن﴾ بالألف من المفاعلة. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾؛ أي: إلا أن يسامحن المطلقات بإبراء حقها، فيسقط كل المهر، وأن والفعل في موضع النصب على الاستثناء؛ أي: فلهن نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من حقهن من نصف المهر، ويتركن لكم، فيسقط كل المهر حينئذ لا نصفه ﴿أَوْ﴾ إلا أن ﴿يَعْفُوَ﴾ ويسامح الزوج ﴿الَّذِي بِيَدِهِ﴾ وسلطنته ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾؛ أي: عصمة النكاح وعقده؛ أي: يترك الزوج المالك لعقد النكاح وحله حقه من النصف الذي يعود إليه بالتشطير، ويبعث المهر لها كاملًا، فيثبت كل المهر حينئذ لا نصفه.
(٢) الصاوي.
لو مات أحد الزوجين بعد التسمية، وقبل المسيس.. فلها المهر كاملًا، وعليها العدة إن كان الزوج هو الميت ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ هذا خطاب للرجال والنساء جميعًا، وإنما غلب جانب التذكير؛ لأن الذكورة هي الأصل والتأنيث فرع عنها، والمعنى: وعفو بعضكم عن بعض أيها الرجال والنساء أقرب إلى حصول التقوى، وطيب النفس من عدم العفو الذي فيه التنصيف، وقيل: هو خطاب للزوج، والمعنى: وليعف الزوج، فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق، فهو أقرب للتقوى ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾ قرأ الجمهور بالتاء الفوقية، وقرأ أبو نهيك والشعبي بالياء التحتية، فيكون الخطاب مع الرجال ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾؛ أي: ولا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض بأن يسلم الزوج المهر إليها بالكلية، أو تترك المرأة المهر بالكلية، حثهما جميعًا على الإحسان ومكارم الأخلاق.
وقرأ الجمهور ﴿وَلَا تَنْسَوُا﴾ بضم الواو، وقرأ يحيى بن يعمر شذوذًا بكسرها، وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة شذوذًا أيضًا: (ولا تناسوا} والمعنى: أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الفضل والإحسان ﴿بَصِيرٌ﴾ لا يضيع فضلكم وإحسانكم، بل يجازيكم عليه، وإنما ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات؛ لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين؛ وهو أن يدفعن شطر ما قبضن، أو يكملون لهن الصداق هو مشاهد مرئي، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات، ولما كان آخر قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ...﴾ الآية. قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ مما يدرك بلطف وخفاء.. ختم ذلك بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ في ختم هذه الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وعد جميل للمحسن، وحرمان لغير المحسن.
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.
﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾: مبتدأ. ﴿يُرْضِعْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: والوالدات مرضعات، والجملة مستأنفة. ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿حَوْلَيْنِ﴾: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿يُرْضِعْنَ﴾. ﴿كَامِلَيْنِ﴾: صفة لـ ﴿حَوْلَيْنِ﴾ مؤكدة له. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: ذلك المذكور من إرضاع حولين كائن لمن ﴿أَرَادَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَنْ يُتِمَّ﴾: ﴿أن﴾: حرف مصدر. ﴿يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾: فعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، وجملة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: لمن أراد إتمام الرضاعة.
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
﴿وَعَلَى﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿على المولود﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿لَهُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿المولود﴾. ﴿رِزْقُهُنَّ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾. ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾: معطوف على ﴿رِزْقُهُنَّ﴾. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾، والعامل (١) فيها معنى الاستقرار في على، والتقدير: حالة كونهما ملتبسين بالمعروف.
﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾.
﴿لَا﴾: نافية. ﴿تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾. فعل ونائب فاعل، والجملة معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾، وبين المعطوف عليه الذي هو قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾، أو في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأنها
﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن مدة الرضاع التام حولان كاملان، وأردت بيان حكم ما إذا أرادا النقص عنهما.. فأقول لك ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿أَرَادَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾. ﴿فِصَالًا﴾: مفعول به. ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فِصَالًا﴾ تقديره: فصالًا كائنًا عن تراضٍ منهما، أو متعلق بـ ﴿أَرَادَا﴾. ﴿مِنْهُمَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿تراض﴾ تقديره: عن تراض كائن منهما. ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾: معطوف على ﴿تَرَاضٍ﴾ ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل ﴿إن﴾، ﴿جُنَاحَ﴾ اسمها ﴿عليهما﴾: خبرها، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَاعْلَمُوا﴾ الواو: عاطفة. ﴿اعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاتَّقُوا﴾. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بصير﴾ الآتي. ﴿تَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تعملونه. ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر سادٍ مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: واعلموا كون الله بصيرًا بما تعملون.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الذين﴾: مبتدأ، ولكنه على تقدير مضاف كما سبق تقديره: وأزواج الذين. ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾: فعل مغيّر ونائب فاعل على قراءة الجمهور، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من ضمير الغائب تقديره: حال كونهم كائنين من رجالكم.
﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾.
﴿وَيَذَرُونَ﴾ الواو: عاطفة. ﴿يذرون﴾: فعل وفاعل. ﴿أَزْوَاجًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة. ﴿أنفسهن﴾: توكيد لنون الفاعل، أو الباء سببية متعلقة بـ ﴿يتربصن﴾ كما مرت الإشارة إليه. ﴿أَرْبَعَةَ﴾: منصوب على الظرفية، وهو مضاف. ﴿أَشْهُرٍ﴾: مضاف إليه ﴿وَعَشْرًا﴾: معطوف على ﴿أَرْبَعَةَ﴾، وجملة ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: أزواج الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا متربصات بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا، والجملة مستأنفة وفيه أوجه كثيرة من الإعراب، وهذا الذي ذكرناه أرجحها.
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مدة تربصهن في العدة، وأردتم بيان حكم ما إذا انقضت المدة.. فأقول لكم. ﴿إذا﴾: ظرف لما استقبل من الزمان. ﴿بَلَغْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿أَجَلَهُنَّ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عَلَيْكُمْ﴾، ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿جُنَاحَ﴾: اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبرها، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿لا﴾. ﴿فَعَلْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿جُنَاحَ﴾: اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبرها، والجملة مستأنفة. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿لا﴾. ﴿عَرَّضْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾ ﴿مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير ﴿بِهِ﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتقسيم ﴿أَكْنَنْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿عَرَّضْتُمْ﴾. ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾؛ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَكْنَنْتُمْ﴾. ﴿عَلِمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿أَنَّكُمْ﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿الكاف﴾ اسمها. ﴿سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ تقديره: أنكم ذاكرون إياهن، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي ﴿عَلِمَ﴾؛ تقديره: علم الله ذكركم إياهن.
﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾.
﴿وَلَكِنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿لكن﴾: حرف استدراك ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تُوَاعِدُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿سِرًّا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب استدرك بها عن محذوف تقديره: علم أنكم ستذكروهن فاذكروهن، ولكن لا تذكروا لهن صريح
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ الواو: استئنافية. ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَعْلَمُ﴾؛ لأنه بمعنى يعرف. ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: واعلموا علم الله ما في أنفسكم. ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿احذروه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿اعلموا﴾. ﴿وَاعْلَمُوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها ﴿حَلِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: واعلموا كون الله غفورًا رحيمًا.
﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾.
﴿لا﴾: نافية. ﴿جناح﴾: اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبرها، والجملة مستأنفة
﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿متعوهن﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فطلقوهن ومتعوهن. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿قَدَرُهُ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل والمفعول المطلق، أو حال من فاعل ﴿متعوهن﴾، ولكن مع تقدير رابط تقديره: ومتعوهن حالة كون قدره كائنًا على الموسع منكم. ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾: خبر مقدم، ﴿قَدَرُهُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾. ﴿مَتَاعًا﴾: مفعول مطلق منصوب بـ ﴿متعوهن﴾، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿متاعًا﴾ تقديره: متاعًا كائنًا بالمعروف. ﴿حَقًّا﴾: صفة ثانية لـ ﴿متاعا﴾، أو مصدر مؤكد عامله محذوف تقديره: حق ذلك التمتيع حقًّا. ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بالناصب للمصدر.
﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾، أن: حرف نصب ومصدر. ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور
﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع، ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَعْفُونَ﴾: فعل مضارع في محل النصب بـ ﴿أن﴾ مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والواو فيه لام الكلمة لا واو الجماعة، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر، ولكن الكلام على حذف أمرين: حرف الجر ومضاف للمصدر، والتقدير: فنصف ما فرضتم إلا في حال عفوهن، أو عفو الزوج.. فلا تنصيف بل يجب الكل، أو يسقط الكل، فالاستثناء منقطع؛ لأن عفوهن عن النصف، وسقوطه ليس من جنس استحقاقهن له، وقيل (١): الاستثناء متصل على أنه استثناء من أعم الأحوال؛ أي: فنصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن، وعفو الذي بيده عقدة النكاح، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ لكن لا يصح على مذهب سيبويه أن تكون أن وصلتها حالًا، فتعين أن يكون منقطعًا. اهـ "كرخي". ﴿أَوْ يَعْفُوَ﴾: ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿يَعْفُوَ﴾. فعل مضارع معطوف على ﴿يَعْفُونَ﴾. ﴿الَّذِي﴾ فاعل. ﴿بِيَدِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية صلة الموصول،
﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
﴿وَأَنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿تَعْفُوا﴾ فعل مضارع منصوب بحذف النون، والواو فاعل، والفعل مع أن المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء تقديره: وعفوكم. ﴿أَقْرَبُ﴾: خبره. ﴿لِلتَّقْوَى﴾: متعلق بـ ﴿أقرب﴾، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ﴾: الواو: استئنافية، أو عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَنْسَوُا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿الْفَضْلَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة. ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿تنسوا﴾، أو حال من ﴿الْفَضْلَ﴾ تقديره: حال كونه كائنًا بينكم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بصير﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر. ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأنها معللة لما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يُرْضِعْنَ﴾: مضارع أرضعته أمه، وهو من مزيد الثلاثي، يقال: رضع يرضع رضعًا ورضاعًا ورضاعةً إذا مص الثدي لشرب لبنه، ويقال للئيم: راضع؛ وذلك لشدة بخله، لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب، فيطلب منه اللبن، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به.
﴿حَوْلَيْنِ﴾: والحول السنة يجمع على أحوال، ويقال: أحول الشيء إذا مضى له حول.
﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾: والكسوة اللباس، يقال منه: كسا يكسو، وفعله يتعدى إلى مفعولين، تقول: كسوت زيدًا جبة.
﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾: هو مضارع كلف الرباعي، يقال: كلف يكلف تكليفًا،
﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾: الوارث معروف، يقال منه: ورِث يرث بكسر الراء في الماضي والمضارع وقياسها في المضارع الفتح، ويقال في فعله: أرث يرث إرثًا كما يقال: أنشده في ولده، والأصل الواو.
﴿فِصَالًا﴾: مصدر فصله يفصله فصلًا وفصالًا إذا فطمه ومنعه عن ثدي أمه.
﴿وَتَشَاوُرٍ﴾: هو مصدر تشاور من باب تفاعل الخماسي، والتشاور في اللغة: التأمل والإمعان للنظر واستخراج الرأي من قولهم: شرت العسل أشوره إذا اجتنيته، فكان كل واحد من المتشاورين أظهر ما في قلبه للآخر.
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾: مأخوذ من توفيت الدين إذا قبضته، يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته إذا أخذته وقبضته، والمعنى هنا: والذين يُقبضون؛ أي: نقبض أرواحهم.
﴿وَيَذَرُونَ﴾: يذر معناه: يترك، ويستعمل منه الأمر، ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا اسم المفعول، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: خبير من صيغ المبالغة؛ لأنه على زنة فعيل، من خبرت الشيء إذا علمته، ولهذه المادة يرجع الخبر؛ لأنه الشيء المعلم به، والخبار: الأرض اللينة.
﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ من التعريض، والتعريض: الإشارة والتلويح إلى الشيء من غير تصريح إظهار وكشف، وأصله: إمالة الكلام عن نهجه إلى عُرض منه - بضم العين - أي: جانب، وقد سبق لك الفرق بين التصريح والتعريض والكناية.
﴿مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ والخِطبة - بكسر الخاء كالقِعدة والجلسة -: ما يفعله الخاطب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل، فقيل: هي مأخوذة من الخطب؛ أي: الشأن الذي هو خطر؛ لما أنها شأن من الشؤون ونوع من الخطوب، وقيل: من الخطاب لأنها نوع مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة، وفي "السمين": والخطبة في الأصل مصدر بمعنى الخطب، والخطب: الحاجة، ثم خصت بالتماس النكاح؛ لأنه بعض الحاجات، يقال: ما خطبك؛ أي: شأنك اهـ.
﴿عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ العقدة: في الحبل والغصن، يقال: عقدت الحبل والعهد، وأَعقدتُ العسلَ من العقد، وهو الشد، قال الراغب: العقدة اسم لما يعقد من نكاح أو يمين أو غيرهما.
﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾ والمقتر: المقل اسم فاعل من أقتر الرجل إذا أفقر، ويقال: قتر يقتر ويقتر قترًا وقترةً وقتارًا. ﴿قَدَرُهُ﴾ القدَر بالفتح والقدْر بالتسكين لغتان، وقد قرئ بهما في المتواتر، وقيل: القدْر بالتسكين: الطاقة، وبالتحريك المقدار. ﴿مَتَاعًا﴾: اسم مصدر لمتّع الرباعي، والمصدر التمتيع، واسم المصدر يجري مجرى المصدر. ﴿حَقًّا﴾: مصدر حق الشيء حقًّا إذا ثبت.
﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ النصف: هو الجزء من اثنين على السواء، ويقال: بكسر النون وضمها، ونصيف، ومنه حديث: "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"؛ أي: نصفه، كما يقال: ثمن وثمين وعشر وعشير، ويقال: نصَفَ النهار ينصف ونصفَ الماء القدح، والإزار الساق، والغلام القرآن، وحكى الفراء في جميع هذا أنصف.
﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ فعل مسند إلى جماعة الإناث، فالواو فيه لام الكلمة، والنون ضمير النسوة، فوزنه يفعلن نظير يخرجن.
فائدة: والفرق بين قولهم: الرجال يعفون، والنساء يعفون: أن قولهم: الرجال يعفون ﴿الواو﴾ فيه ضمير جماعة الذكور، وحذفت قبلها واو أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل يعفوون بوزن يخرجون فاستثقلت الضمة على ﴿الواو﴾ الأولى، فحذفت الضمة، فبقيت ساكنة وبعدها واو الضمير ساكنة أيضًا، فحذفت ﴿الواو﴾ الأولى؛ لئلا يلتقي ساكنان، فوزنه يفعون، والنون علامة الرفع، فإنه من الأمثلة الخمسة، وأن قولهم: النساء يعفون ﴿الواو﴾ فيه لام الفعل، والنون ضمير جماعة الإناث، والفعل معها مبني على السكون، لا يظهر للعامل فيه أثر، فوزنه يفعلن.
البلاغة
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾؛ أي: ليرضعن، فالآية خبر بمعنى الأمر أتى به بلفظ الخبر مبالغة في الحث على تحقيقه، كما مر نظيره في قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾.
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾: فيه لطيفة، وهو: أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة.. ناسب أن يسلي بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق والكسوة لمرضعته.
﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ وإنما أتى بالجملتين فعليتين، وأدخل عليهما حرف النفي الذي هو ﴿لا﴾ للموضوع للاستقبال غالبًا؛ لأن تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيه مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع.
وفي هذه الآية ضروب من البيان والبديع (١):
منها: تلوين (٢) الخطاب ومعدوله في قوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾ فإنه خبر معناه الأمر على قول الأكثر والتأكيد بـ ﴿كَامِلَيْنِ﴾، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهم؛ لأنهن سبب توصل ذلك، والإيجاز في قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، وتلوين الخطاب في قوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ فإنه خطاب للآباء
(٢) التلوين: تغيير أسلوب الكلام إلى أسلوب آخر.
ومنها: الحذف في قوله: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا﴾ التقدير: مراضع للأولاد، وفي قوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ ذكر العزم للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح، فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل من باب أولى.
قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا...﴾ الآية، تضمنت هذه الآية ضروبًا من البديع (١):
منها: معدول الخطاب: وهو أن الخطاب بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ عام، والمعنى على الخصوص.
ومنها: النسخ: إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين.
ومنها: الاختصاص: وهو أن يخص عددًا، فلا يكون ذلك إلا لمعنى، وذلك في قوله: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ كنى بالسر عن النكاح؛ وهي من أبلغ الكنايات.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾.
ومنها: التهديد بقوله: ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾.
ومنها: الزيادة في الوصف بقوله: ﴿غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ...﴾ الآية، والذي (١) يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات، وأحكامهم في النكاح والوطء والإيلاء، والطلاق والرجعة والإرضاع، والنفقة والكسوة والعدد، والخطبة والمتعة والصداق والتشطير، وغير ذلك، وكانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت، ويبلغ منه الجهد، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلا لمن وفقه الله تعالى.. أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة العظمى بين الله وبين عبده، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين.. فلأن يؤمر بأداء حقوق الله تعالى أولى وأحق ولذلك جاء: فدين الله أحق أن يقضى، فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن عن أداء ما فرض الله عليكم، فمع
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى متى ذكر شيئًا من الأحكام التكليفية.. أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع، فيحمله ذلك على الانقياد، وترك العناد، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم، ثم أحياهم في الدنيا.
وقيل: مناسبة هذه الآية لما قبلها: هو أنه تعالى لمّا ذكر ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)﴾.. ذكر هذه القصة؛ لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته.
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر في الآية السابقة قصة الأمم الماضية وفرارهم من الموت.. ذكر هذه الآية مخاطبًا لهذه الأمة بالجهاد في سبيل الله، ومنبهًا لهم على أن لا يفروا من الموت كفرار أولئك، وتشجيعًا لهم وتثبيتا.
قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله.. أثنى على من بذل شيئًا من ماله في طاعة الله، وكان هذا أقل حرجًا على المؤمنين؛ إذ ليس فيه إلا بَذْلُ المال دون النفس، فأتى بهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة معنى الطلب.
قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ...﴾ الآية، أخرج (١) أحمد والبخاري في "تاريخه" وأبو داود والبيهقي وابن جرير عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه، فنزلت: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى...﴾.
وأخرج أحمد والنسائي، وابن جرير عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى...﴾.
وأخرج الأئمة الستة وغيرهم عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم على عهد رسول الله - ﷺ - في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، وكان الرجل يأمر أخاه بالحاجة، فأنزل الله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ...﴾.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا...﴾ الآية، أخرج إسحاق بن راهويه في "تفسيره" عن مقاتل بن حبان: أن رجلًا من أهل الطائف قدم المدينة، وله أولاد رجال ونساء، ومعه أبواه وامرأته، فمات بالمدينة، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطى أولاده بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئًا غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول، وفيه نزلت: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ...﴾ الآية، أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزلت: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل
قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا..﴾ الآية، روى ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر قال: لما نزلت: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ...﴾ إلى آخرها.. قال رسول الله - ﷺ -: رب زد أمتي فنزلت: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢٣٨ - ﴿حَافِظُوا﴾؛ أي: واظبوا وداوموا أيها المؤمنون ﴿عَلَى﴾ أداء ﴿الصَّلَوَاتِ﴾ الخمس في أوقاتها بأركانها وشروطها وسننها وآدابها، وهذه المحافظة التي هي المفاعلة تكون بين العبد والرب، كأنه قيل له: احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة، وتكون أيضًا بين المصلي والصلاة، فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك ﴿و﴾ حافظوا على ﴿الصلاة الوسطى﴾؛ أي: الفضلى، تأنيث الأوسط بمعنى الأفضل، وهي من الوسط الذي بمعنى الخيار، وليست من الوسط الذي معناه المتوسط، وأفردها بالذكر اهتمامًا بشأنها، لفضلها على غيرها كليلة القدر، فهي أفضل الليالي. وإنما أتى بهذه الآية في خلال ما يتعلق بالأزواج والأولاد تنبيهًا على أنه لا ينبغي للعبد أن يشتغل عن حقوق سيده بأمر الأزواج والأولاد. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
وقد اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى على مذاهب:
الأول: أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر؛ وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهم أجمعين.
المذهب الثاني: أنها صلاة الظهر؛ وهو قول زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري، ورواية عن عائشة، وبه قال عبد الله بن شداد، وهو رواية عن أبي حنيفة.
ويدل على صحة هذا المذهب: ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال يوم الأحزاب: - وفي رواية يوم الخندق - "ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وذكر نحوه، وزاد في أخرى "ثم صلاها بين المغرب والعشاء". أخرجاه في "الصحيحين" وفي مصحف عائشة وحفصة في قراءة تفسيرية شاذة: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر﴾ وهذا هو المذهب الحق الراجح.
والمذهب الرابع: أنها صلاة المغرب قاله قبيصة بن ذؤيب.
والمذهب الخامس: أنها صلاة العشاء ولم ينقل عن أحد من السلف فيها شيء، وإنما ذكرها بعض المتأخرين.
والمذهب السادس: أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها، فأبهمها الله تعالى تحريضًا للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة.
وإذا تقرر لك هذا (١)، وعرفت ما سقناه.. تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وأما حجج بقية الأقوال: فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به؛ لأنه لم يثبت عن النبي - ﷺ - في ذلك شيء، وبعض القائلين
﴿وَقُومُوا﴾ في الصلاة مخلصين ﴿لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾؛ أي: ساكنين فيها، ويدل لهذا المعنى حديث زيد بن أرقم في "الصحيحين" وغيرهما قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد رسول الله - ﷺ - في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، وقيل: مطيعين لقوله - ﷺ -: "كل قنوت في القرآن فهو طاعة". رواه أحمد وغيره، وقيل: ذاكرين، وقيل: داعين مواظبين على خدمة الله تعالى، وقد ذكر أهل العلم للقنوت ثلاثة عشر معنى، والمتعين هنا حمله على السكوت؛ للحديث المذكور.
٢٣٩ - ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ من عدو أو سبع مثلًا، ولم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين حقوق الصلاة من إتمام الركوع والسجود، والخضوع والخشوع؛ لخوف عدو أو غيره ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾؛ أي: فصلّوا حالة كونكم رجالًا؛ أي: ماشين على أرجلكم، أو حالة كونكم ركبانًا؛ أي: راكبين على دوابكم حيثما توجهتم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة في وقت الحرب.
وصلاة الخوف قسمان:
أحدهما: أن يكون في حال القتال؛ وهو المراد في هذه الآية.
وقسم في غير حال القتال، وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في موضعه، وقرأ عكرمة وأبو مجلز ﴿فرجالًا﴾ بضم الراء وتشديد الجيم، وروي
٢٤٠ - ثم قال تعالى مبينا أحكام العدة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ قرأ: ﴿وَصِيَّةً﴾ - بالنصب - أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم، والمعنى على هذا: والذين قاربوا الموت من رجالكم، ويتركون أزواجًا.. فليوصوا وصية لأزواجهم أن يمتعن بالنفقة والكسوة والسكنى إلى تمام الحول من موت الزوج حالة كونهن غير مخرجات من سكنهن، وقرأ: ﴿وصيّة﴾ بالرفع، وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي على أنه مبتدأ محذوف الخبر، والمعنى على هذا: والذين يقربون الوفاة من رجالكم، ويتركون أزواجًا.. فعليهم وصية لأزواجهم ما يمتعن به من النفقة والكسوة والسكنى إلى تمام الحول حالة كونهن غير مخرجات من سكنهن، وقرأ أبيّ شذوذًا ﴿متاع لأزواجهم متاعًا إلى الحول﴾. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ عن منزل الأزواج باختيارهن قبل الحوف ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: فلا حرج ولا إثم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا أولياء الميت ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾؛ أي: بسبب ما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب والتزين لهم ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾؛ أي؛ مما هو معروف في الشرع غير منكر، وفي هذا دليل على أن النساء كن مخيرات في سكنى الحول، وليس ذلك بحتم عليهن.
أحدهما: أنه لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.
والوجه الثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج؛ لأن مقامها في بيت زوجها حولًا غير واجب عليها، خيرها الله تعالى بين أن تقيم في بيت زوجها حولًا، ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى، ثم نسخ الله ذلك بأربعة أشهر وعشر.
واعلم: أنه دلت هذه الآية على مجموع أمرين:
أحدهما: أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة.
والثاني: أن عليها عدة سنة، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والكسوة والسكنى: فنسخ بآية الميراث، فجعل لها الربع أو الثمن عوضًا عن النفقة والسكنى، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.
فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟
قلتُ: قد تكون الآية المتقدمة متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول، كقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ مع قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾.
فإن قلت (٢): لِمَ نكَّر ﴿مَعْرُوفٍ﴾ هنا، وعرَّفه فيما سبق ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؟
قلتُ: لأن ما هنا سابق في النزول، فلم يسبق له عهد حتى يعرف، وما سبق متأخر عن هذا، فسبق له عهد، فعرف فما سبق هو عين ما هنا على القاعدة المشهورة عند البلغاء. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب قوي في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه، وتعدى حدوده.
﴿حَكِيمٌ﴾ فيما شرع وبين لعباده من الشرائع والأحكام، يراعي مصالحهم في أحكامه.
(٢) الجمل.
٢٤٢ - ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما بين لكم ما ذكر من أحكام المطلقات والعدد ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: يبين الله لكم ما تحتاجون إليه معاشًا ومعادًا من معالم دينه ودلائل أحكامه ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لكي تعقلوا وتفهموا ما بينت لكم من الفرائض والأحكام، وما فيه صلاحكم وصلاح دينكم، وتعملوا بموجبها، ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة غزاة بني إسرائيل، فقال:
٢٤٣ - ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ وقرأ السلمي: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بسكون الراء، قالوا: على توهم أن الراء آخر الكلمة، ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف، وقد جاء في القرآن كإثبات أَلف الظنونا و ﴿السبيلا﴾ و ﴿الرسولا﴾؛ أي: ألم ينته ويصل علمك يا محمَّد، أو أيها المخاطب إلى حال القوم الذين خرجوا ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ وأوطانهم ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ كثيرة: أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفًا ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾؛ أي: خوفًا من الموت وفرارًا منه، والغرض من هذا الاستفهام: التعجيب والتشويق إلى سماع قصتهم ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ فماتوا ﴿ثُمَّ﴾ بعد
٢٤٤ - ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قيل: هو خطاب للذين أحياهم، فعلى هذا القول في الكلام محذوف تقديره: ثم أحياهم الله، فقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، وقيل: هو خطاب لأمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فلم ينفعهم ذلك؛ أي: قاتلوا في طاعة الله مع عدوكم؛ أي: لإعلاء دينه لا لغنيمة ولإظهار شجاعة، وسميت (٣) العبادات سبيلًا إلى الله
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لكلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، وفي تنفير الغير عنه. ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في صدوركم من البواعث والأغراض، وأن ذلك الجهاد لغرض الدين، أو لغرض الدنيا.
٢٤٥ - ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ ويسلفه ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾؛ أي: إقراضًا حسنًا طيبًا مقرونًا بالإخلاص لا لرياء وسمعة، أو مقرضًا حلالًا طيبًا ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾؛ أي: فيضاعف الله جزاءه وأجره له؛ أي: لذلك المنفق ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ كثرة لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى. قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي ﴿فيضاعفُه﴾ بالألف والرفع، وقرأ عاصم: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالألف والنصب، وقرأ ابن كثير: ﴿فيضعِّفُه﴾ بالتشديد والرفع بلا ألف، وقرأ ابن عامر: ﴿فيضعِّفَه﴾ بالتشديد والنصب، والمعنى: من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله ولإعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير، فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافًا كثيرة؛ لأنه قرض لأغنى الأغنياء رب العالمين جل جلاله، وهذا من تنزلات المولى لعباده حيث خاطبهم مخاطبة المحتاج المضطر مع أنه غني عنهم رحمة بهم على حد: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ وسماه هنا قرضًا، وفي آية براءة بيعًا، وفي الحقيقة لا بيع ولا قرض؛ لأن الملك كله له سبحانه، وحينئذ فليست مضاعفته على ذلك ربًا؛ لأنه لا تجري أحكام الربابين السيد وعبده الحادثين لملكه له صورة، فأولى بين السيد المالك القديم وعبده الذليل الضعيف الذي لا يملك شيئًا أصلًا، فمن إحسانه عليه خلق ونسب إليه، بل هذا (١) تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد، شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَقْبِضُ﴾؛ أي: يمسك الرزق عمن يشاء، ويضيق عليه ابتلاء هل يصبر أم لا؟ ﴿وَيَبْسُطُ﴾ يقرأ بالسين، وهو الأصل،
الإعراب
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)﴾.
﴿حَافِظُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حافظوا﴾. ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ معطوف على الصلوات. ﴿الْوُسْطَى﴾: صفة لـ ﴿الصَّلَاةِ﴾، ﴿وَقُومُوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿قوموا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿حَافِظُوا﴾. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قوموا﴾. ﴿قَانِتِينَ﴾: حال من فاعل ﴿قوموا﴾.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾:
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم وجوب المحافظة على الصلوات، وأردتم بيان كيفية فعلها في حالة الخوف.. فأقول لكم: إن خفتم ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿خِفْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب الشرط المحذوف تقديره: فصلوا رجالًا، ﴿صلوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية ﴿رجالًا﴾: حال من فاعل ﴿صلوا﴾. ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو: استئنافية. ﴿الذين﴾: مبتدأ، ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾: فعل مغيَّر ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من ضمير الغائب. ﴿وَيَذَرُونَ﴾: معطوف على جملة الصلة. ﴿أَزْوَاجًا﴾: مفعول به. ﴿وَصِيَّةً﴾ بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف هو خبر المبتدأ تقديره: فليوصوا وصية، وعلى قراءة الرفع وصية: مبتدأ خبره محذوف تقديره: فعليهم وصية، والجملة الإسمية خبر المبتدأ الذي هو الموصول أيضًا، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿وصية﴾ تقديره: وصية كائنة لأزواجهم.
﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾.
﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنها غير مخرجات، وأردتم حكم ما إذا خرجن بأنفسهن.. فأقول لكم: ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿خَرَجْنَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن، ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فيما﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿لا﴾. ﴿فَعَلْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: فيما فعلنه. ﴿فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿فعلن﴾، ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف من ﴿فعلن﴾ أو من ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استئنافية. ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)﴾.
﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ الواو: استئنافية. ﴿للمطلقات﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَتَاعٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿مَتَاعٌ﴾. ﴿حَقًّا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: حق ذلك حقًّا. {عَلَى
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: تبيينًا كائنًا كالتبيين الذي ذكر ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يبين﴾، ﴿آيَاتِهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف تعليل ونصب بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره: يبين الله لكم آياته تبيينًا كائنًا كذلك لتدبركم.
﴿لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للإستفهام التعجبي، أو الإقراري، والاستفهام التعجبي: هو إيقاع المخاطب في أمر عجيب غريب. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: أنت يعود على محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلى أي مخاطب، وإنما عداه هنا بإلى؛ لأن معناه: ألم ينته علمك إلى كذا، والرؤية هنا بمعنى العلم، والجملة مستأنفة ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تر﴾، ﴿خَرَجُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خرجوا﴾. ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة حال من فاعل ﴿خَرَجُوا﴾، ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾: مفعول لأجله ومضاف إليه، والعامل فيه ﴿خَرَجُوا﴾.
﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
﴿فَقَالَ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿قال﴾: فعل ماضٍ. ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَرَجُوا﴾. ﴿مُوتُوا﴾: مقول محكي، أو فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. {ثُمَّ
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)﴾.
﴿وَقَاتِلُوا﴾ الواو: استئنافية. ﴿قاتلوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قاتلوا﴾. ﴿وَاعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قاتلوا﴾. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿سَمِيعٌ﴾ خبر أول، ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: واعلموا كون الله سميعًا عليمًا.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾.
﴿مَنْ ذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾: خبره، أو ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام مبتدأ، ﴿ذَا﴾: اسم إشارة خبر المبتدأ ﴿الَّذِي﴾: بدل من اسم الإشارة، أو نعت له، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿يُقْرِضُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿قَرْضًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿حَسَنًا﴾؛ صفته. ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالنصب: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية ﴿يضاعف﴾: منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والهاء مفعول به.
﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ الواو: استئنافية. ﴿اللَّه﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَقْبِضُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿وَيَبْسُطُ﴾ في محل الرفع معطوف على جملة ﴿يَقْبِضُ﴾، ﴿وَإِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ترجعون﴾، وجملة ﴿تُرْجَعُونَ﴾ من الفعل المغيّر ونائبه معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ﴾ على كونها مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿يَقْبِضُ﴾ على كونها خبر المبتدأ.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ الوسطى: مؤنث الأوسط بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يَا أَوْسَطَ اَلنَّاسِ طُرًّا في مَفَاخِرِهِمْ | وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وأَبَا |
﴿فَرِجَالًا﴾ جمع راجل، يقال منه: رجل يرجل رجلًا إذا عُدم المركوب ومشى على قدميه، فهو راجل ورجل، ورجل على وزن رجل مقابل امرأة، ويجمع على رجُل ورجْل ورجال وأراجل وأرجيل.
﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾: جمع راكب، قيل: لا يطلق الراكب إلا على راكب الإبل، فأما راكب الفرس: ففارس، وراكب البغل والحمار؛ فبغَّال وحمَّار، الأجود صاحب بغل وحمار، وهذا بحسب اللغة، والمراد بهم هنا ما يعم الكل.
﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾: جمع أَلْف، والأَلْف عدد معروف، وجمعه في القلة آلاف، وفي الكثرة ألوف، ويقال آلفت الدراهم، وآلفت هي، وقيل: ألوف جمع آلف كشاهد وشهود.
﴿قَرْضًا﴾ القرض: القطع بالسكين، ومنه سمي المقراض؛ لأنه يقطع به، وقال ابن كيسان: القرض أن تعطي شيئًا ليرجع إليه مثله، ومنه يقال: أقرضت فلانًا؛ أي: قطعت له قطعة من المال، والقرض: اسم مصدر لأقرض، والمصدر الإقراض، ويجوز أن يكون القرض هنا بمعنى: المقروض كالخلق بمعنى المخلوق، فيكون مفعولًا به.
﴿أَضْعَافًا﴾ جمع (٢) ضعف، والضعف هو العين، وليس بالمصدر، والمصدر الأضعاف أو المضاعفة، فعلى هذا: يجوز أن يكون حالًا من الهاء في يضاعفه، ويجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا على المعنى؛ لأن معنى يضاعفه يصيره أضعافًا، ويجوز أن يكون جمع ضعف، والضعف اسم وقع موقع المصدر كالعطاء، فإنه اسم للمعطي، وقد استعمل بمعنى العطاء، فيكون انتصاب أضعافًا على المصدر.
البلاغة
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا﴾ وفي إيراد هذه (٣) الشرطية بكلمة ﴿إن﴾ المنبئة عن عدم تحقق وقوع الخوف وقلته، وفي إيراد الشرطية الثانية بكلمة ﴿إذا﴾ المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولي الأبصار.
(٢) العكبري.
(٣) أبو السعود.
منها: النقل من صيغة افعلوا إلى فاعلوا؛ للمبالغة، وذلك في قوله: ﴿حَافِظُوا﴾.
ومنها: الاختصاص بالذكر في قوله: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾.
ومنها: الطباق المعنوي في ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾؛ لأن التقدير في ﴿حَافِظُوا﴾، وهو مراعاة أوقاتها وهيأتها إذا كنتم آمنين.
ومنها: الحذف في قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ العدو، أو ما جرى مجراه، وفي قوله: ﴿فَرِجَالًا﴾؛ أي: فصلوا رجالا، وفي قوله: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ سواء رفع، أو نصب وفي قوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾؛ أي: لهن من مكانهن الذي يعتددن فيه، وفي قوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ من بيوتهن من غير رضا منهن، وفي قوله: ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾؛ أي: من ميلهن إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدة، وفي قوله: ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾؛ أي: عادة أو شرعًا، وفي قوله: ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: انتقامه، وفي قوله: ﴿حَكِيمٌ﴾؛ أي: في أحكامه، وفي قوله: ﴿حَقًّا﴾؛ أي: حق ذلك حقًّا، وفي قوله: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: عذاب الله.
ومنها: التشبيه في قوله ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل؛ وهو أن يكون بفعلين أو باسمين، وذلك في قوله: ﴿عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، و ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾؛ أي: يقاربون الوفاة.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ ثم قال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ فيكون للتأكيد إن كان إياه، ولاختلاف المعنيين إن كان غيره.
منها: الاستفهام الذي أجري مجرى التعجب في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾.
ومنها: الحذف بين ﴿مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾؛ أي: فماتوا ثم أحياهم، وفي قوله: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: ملك الله بإذنه، وفي قوله: ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لا يشكرونه، وفي قوله: ﴿سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأعمالكم، وفي قوله: ﴿تُرْجَعُونَ﴾ فيجازي كلًّا بما عمل.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾، وفي ﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
ومنها: التشبيه بغير أدائه في قوله: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي، فأطلق اسم القرض عليه.
ومنها: الاختصاص بوصفه بقوله: ﴿حَسَنًا﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا﴾، وجمعه لاختلاف جهات التضعيف بحسب اختلاف الإخلاص، ومقدار القرض واختلاف أنواع الجزاء.
﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ وفي تأخير البسط (١) عن القبض في الذكر إيماء إلى أنه يعقبه في الوجود تسلية للفقراء.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)﴾.
المناسبة
مناسبة (١) هذه الآيات لما قبلها ظاهرة؛ وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالقتال أو بالطاعون على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين، والإعلام بأنه لا يُنجي حذرٌ من قدر.. أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبًا مشروعًا في الأمم
التفسير وأوجه القراءة
٢٤٦ - ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ والاستفهام استفهام تعجيب وتشويق للسامع، والملأ من القوم وجوههم وأشرافهم، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر، ويجمع على أملاء كسبب وأسباب سمّوا بذلك؛ لأنهم يملؤون القلوب مهابة، والعيون حسنًا وبهاء؛ أي: ألم ينته علمك يا محمَّد إلى قصة القوم الذين كانوا من بني إسرائيل حالة كونهم كائنين ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ وفاة ﴿مُوسَى﴾ عليه السلام ﴿إِذْ قَالُوا﴾؛ أي: حين قال أولئك الملأ ﴿لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ شمويل كما قاله وهب بن منبه، أو شمعون، أو يوشع بن نون كما قاله قتادة، وهذا القول ضعيف، أو حزقيل كما حكاه الكرماني، أو غيرهم كما قاله غيرهم، ولكن (١) معرفة حقيقة هذا النبي بعينه ليست مرادة من القصة، إنما المراد منها الترغيب في الجهاد، وذلك حاصل بلا معرفة عينه ﴿ابْعَثْ لَنَا﴾؛ أي: أقم وعين لنا ﴿مَلِكًا﴾؛ أي: أمير نرجع إليه ونعمل برأيه، ووله وأمره علينا ﴿نُقَاتِلْ﴾؛ أي: ننهض معه للقتال ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وطاعته ونقاتل بأمره عدونا ﴿نُقَاتِلْ﴾ بالنون والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور، وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة شذوذًا ﴿يقاتل﴾ بالياء ورفع الفعل على أنه صفة للملك، وقرىء شذوذًا أيضًا ﴿نقاتلُ﴾ بالنون والرفع على أنه حال، أو كلام مستأنف.
وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم ذلك: أنه لما مات موسى وعظمت الخطايا.. سلط الله عليهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيرًا من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربع مئة وأربعين غلامًا، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولم يكن لهم حينئذ نبي يدبر أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم
وكان صلاح أمر بني إسرائيل بالإجماع على الملوك وبطاعة الملوك أنبياءهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي هو الذي يقيم أمره ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه فـ ﴿قال﴾ لهم ذلك النبي ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ بفتح السين وكسرها لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون، وهذا الكلام استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهم النبي حينئذ؟ فقيل: قال لهم النبي: هل عسيتم وحسبتم وظننتم ﴿إِنْ كُتِبَ﴾ وفرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾؛ أي: قال لهم نبيهم: هل ظننتم أن لا تقاتلوا عدوكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك؟ فصل بين عسى وخبره بالشرط والاستفهام؛ لتقرير المتوقع به، وإثباته، والمعنى: أتوقع وأخشى جبنكم عن القتال إن كتب عليكم القتال ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا﴾؛ أي: وأي شيء ثبت لنا في ﴿أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وطاعته ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ وأبعدنا ﴿مِنْ دِيَارِنَا﴾ وأوطاننا ﴿وَأَبْنَائِنَا﴾ وأولادنا، وأفرد الأولاد بالذكر؛ لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة، ولأجل (١) قولهم هذا لم يتم قصدهم؛ لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم، ولو أنهم قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله؛ لأنه قد أمرنا وأوجب علينا، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا، والمعنى: وأي شيء ثبت لنا في ترك القتال في سبيل الله، والحال أنه قد أخرج وأبعد بعضنا من المنازل والأولاد، والقائلون لنبيهم بما ذكر كانوا في ديارهم، فسأل الله تعالى ذلك النبي، فبعث لهم ملكًا يقاتلون معه، وكتب عليهم القتال مع ذلك الملك ﴿فَلَمَّا كُتِبَ﴾ وأوجب ﴿عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ في سبيل الله ﴿تَوَلَّوْا﴾؛ أي: أعرضوا عن قتال عدوهم لما شاهدوا كثرة العدو وشوكته ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ ثلاث مئة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر، وهم الذين عبروا النهر
٢٤٧ - ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾؛ أي: أخبرهم نبيهم بأن الله تعالى قد بعث لأجل سؤالكم وأمر عليكم طالوت؛ لتكونوا تحت إمرته في تدبير أمر الحرب، واختاره ليكون أميرًا عليكم، واسم طالوت بالعبرانية: ساول بن قيس، من سبط بنيامين بن يعقوب، وإنما سمي طالوت لطوله، وكان أطول من جميع الناس برأسه ومنكبيه، وكان طالوت رجلًا دباغًا يدبغ الأديم. قاله وهب ﴿قَالُوا﴾ لنبيهم معترضين عليه ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ﴾؛ أي: كيف يكون ﴿الْمُلْكُ﴾ والإمرة لطالوت ﴿عَلَيْنَا﴾ ولم يكن هو من بيت الملك حتى نتبعه لشرفه ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ وأولى ﴿بِالْمُلْكِ﴾ والإمرة ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من طالوت ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾؛ أي: لم يعط غنى من المال يستعين به على إقامة الملك.
والمعنى (٢): كيف يتملك علينا، والحال إنه لا يستحق التملك؛ لوجود من هو أحق بالملك منه، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك؛ لأن النبوة كانت في سبط لآوى بن يعقوب عليه السلام، والملك في سبط يهوذا، وهو كان من سبط بنيامين، ولم يكن فيهم النبوة والملك، وكان رجلًا سقاء يستقي الماء على حمار له، أو دباغا فقيرًا، وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكًا، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلا طالوت ﴿قَالَ﴾ نبيهم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اصْطَفَاهُ﴾ واختاره للملك ﴿عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: أجابهم نبيهم على ذلك الاعتراض، فقال: إن الله اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾؛ أي: سعة في علوم السياسة والديانة والحروب
(٢) النسفي.
٢٤٨ - للملك، ويليق به، ولما قال القوم لنبيهم: ليس ملكه من الله بل أنت ملكته علينا، وطلبوا منه آية تدل على اصطفاء الله تعالى إياه للملك.. أجابهم إلى ذلك ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾؛ أي: إن علامة ملكه واصطفائه من الله عليكم ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾؛ أي: يرد الله إليكم الصندوق الذي أخذ منكم، وهو صندوق التوراة، وكانوا يعرفونه، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل لما عصوا وأفسدوا، فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت.. قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء إلى الأرض، والملائكة يحفظونه، فأتاهم، والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت، وقرأ الجمهور: ﴿التَّابُوتُ﴾ بالتاء، وقرأ أبي وزيد بالهاء وهي لغة الأنصار ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك التابوت ﴿سَكِينَةٌ﴾ وقرأ أبو السماك: ﴿سكّينة﴾ بتشديد الكاف؛ أي: طمأنينة لقلوبكم؛ أي: مودع فيه ما تسكنون إليه؛ وهو التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدَّمه فسكن نفوسَ بني إسرائيل ولا يفرون، أو الضمير في الإتيان؛ أي: في إتيان ذلك التابوت سكون لكم وطمأنينة وبشارات ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: من كتب ربكم المنزلة على موسى وهارون، ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده، ويزيل عنهم الخوف من العدو ﴿وَبَقِيَّةٌ﴾؛ أي: تركة ﴿مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾؛ أي: مما ترك موسى وهارون أنفسهما، والآل مقحم؛ لتفخيم شأنهما
أو المعنى: أن في هذه الآية من نقل القصة معجزة باهرة دالة على نبوة محمد - ﷺ - حيث أخبر بهذه التفاصيل من غير سماع من البشر إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة والرسالة، فلما رد الله عليهم التابوت.. قبلوا وأقروا بملكه، وتسارعوا إلى الجهاد، واختار من الشبان الفارغين من الأشغال ثمانين ألفًا، وقيل: مئة وعشرين ألفًا، وخرجوا معه.
٢٤٩ - ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف؛ تقديره: فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج، فلما فصل طالوت؛ أي: خرج من بيت المقدس وتوجه ﴿بِالْجُنُودِ﴾؛ أي: بالجيش التي اختارها إلى جهة العدو، وكان من جملتهم داود عليه السلام كما سيأتي، وكان الوقت قيظًا، وسلك بهم في أرض قفرة، فأصابهم حر وعطش شديد، فطلبوا منه الماء ﴿قَالَ﴾ طالوت ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ تعالى ﴿مُبْتَلِيكُمْ﴾؛ أي: مختبركم ﴿بِنَهَرٍ﴾ جارٍ ليظهر منكم المطيع والعاصي؛ وهو بين الأردن وفلسطين، وقرأ الجمهور: ﴿بِنَهَرٍ﴾ بفتح الهاء، وقرأ حميد ومجاهد والأعرج شذوذًا بسكون الهاء، والغرض من هذا الابتلاء: أن يميز الصديق من الزنديق، والموافق من المخالف ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾؛ أي: كرع من ماء النهر، قليلًا كان أو كثيرًا ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾؛ أي: من أهل ديني، أو من أتباعي المؤمنين، فلا يكون مأذونًا له في هذا القتال {وَمَنْ لَمْ
٢٥٠ - ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾؛ أي: ولما برزوا طالوت وجنوده المؤمنون، وظهروا ﴿لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ الكافرين، ودنوا منهم وصافوا لهم ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال طالوت وجنوده جميعًا متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به تعالى؛ أي: قالوا ملتجئين إلى الله بثلاث دعوات ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ﴾؛ أي: اصبب ﴿عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ على القتال والمخاوف والأمور الهائلة؛ أي: أفض علينا صبرا يعمنا في جمعنا، وفي خاصة أنفسنا لنقوى على قتال أعدائك، وهذه هي الدعوة الأولى. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾؛ أي: أرسخها حتى لا تفر، أو قو قلوبنا لتثبت أقدامنا على مداحض القتال بكمال القوة عند المقارعة، وعدم التزلزل وقت المقاومة، وهذه هي الدعوة الثانية. ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ جالوت وجنوده؛ أي: أعنا وأظفرنا بقهرهم وهزمهم، وذلك لأن جالوت وقومه كانوا يعبدون الأصنام، وهذه هي الدعوة الثالثة، وفيها (١) ترتيب بليغ إذ سألوا أولًا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب السبب عنه، ثم النصر على
٢٥١ - العدو والمترتب عليهما غالبًا. ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾؛ أي: هزم طالوت وجنوده جالوت وجنوده؛ أي: كسروهم وغلبوهم وقهروهم وردوهم ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بنصره أو بقضائه وإرادته، أو بتمكين الله منهم إجابة لدعائهم ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ﴾
٢٥٢ - ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه الآيات التي قصصناها عليك يا محمَّد من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم تمليك طالوت، وإظهاره الآية؛ وهي التابوت وإهلاك الجبابرة على يد صبي ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ المنزلة من عنده تعالى: ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾؛ أي: نقرأ تلك الآيات عليك يا محمَّد بواسطة جبريل حالة كونها ملتبسة ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالصدق واليقين الذي لا يشك فيه أحد من أهل الكتاب لما يجدونها موافقة لما في كتبهم ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى الإنس والجن كافة بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع على أحد يخبرك بذلك، فدل ذلك على رسالتك، وأن الذي تخبر به وحي من الله تعالى؛ أي: وإنك يا محمَّد لمن جملة الرسل الذين أرسلهم الله تعالى لتبليغ دعوة الله عز وجل.
فائدة: قال ابن عباس رضي الله عنهما (١): إن داود عليه السلام كان صغيرًا لم يبلغ الحنث راعيًا للغنم، وله سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا - بوزن كسرى - أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المطاف، وبادر جالوت الجبار، وهم من قوم عاد إلى البراز، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا بني إسرائيل، لو كنتم على حق.. لبارزني بعضكم، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته، فمر به طالوت وهو يحرض الناس، فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا خارج إليه، وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى، وكان طالوت عارفًا بجلادته، فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت.. مر بثلاثة أحجار، فقلن يا داود: خذنا معك
الإعراب
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التعجبي التقريري، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى الْمَلَإِ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿الْمَلَإِ﴾ تقديره: حال كونهم كائنين من بني إسرائيل. ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله، ولا يضر تعلق حرفي جر متحدي اللفظ بعامل واحد؛ لاختلاف معناهما، فـ ﴿مِنْ﴾ الأولى تبعيضية، والثانية لابتداء الغاية. ﴿إِذْ قَالُوا﴾ ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، والظرف متعلق بـ ﴿تر﴾ أو بمحذوف؛ تقديره: ألم تر إلى قصتهم إذ قالوا: ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿لِنَبِيٍّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قالوا﴾. ﴿لَهُمُ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿نبي﴾. ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿ابْعَثْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿نبي﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بعث﴾. ﴿مَلِكًا﴾: مفعول به. ﴿نُقَاتِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلَإِ﴾، والجملة الفعلية جواب الطلب لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نُقَاتِلْ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿بَنِي﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ﴿هَلْ﴾ حرف استفهام ﴿عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ إلى آخره مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿عَسَيْتُمْ﴾ ﴿عسى﴾: من أفعال المقاربة ترفع الاسم وتنصب الخبر، والتاء ضمير المخاطبين في محل الرفع اسمها. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿كُتِبَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾. ﴿عَلَيْكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الْقِتَالُ﴾: نائب فاعل، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية محذوف تقديره: إن كتب عليكم القتال فلا تقاتلوا، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مع جوابها جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين عسى وخبرها. ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾: نافية ﴿تُقَاتِلُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر ﴿عسى﴾، ولكن لا بد من تقدير وتأويل؛ لأن المصدر معنى من المعاني، فلا يخبر به عن الجنة، والتقدير: هل عسيتم كون حالكم عدم المقاتلة، وجملة ﴿عسى﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا لَنَا﴾ إلى قوله: ﴿وَأَبْنَائِنَا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿وَمَا لَنَا﴾ الواو: رابطة (١) هذا الكلام بما قبله. ﴿ما﴾: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نُقَاتِلَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود إلى ﴿الْمَلَإِ﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نُقَاتِلْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿إن﴾ المصدرية، ﴿إن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: وما لنا في عدم قتالنا، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ الواو: حالية.
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قالوا لنبيهم، وما قال النبي لهم، وأردت بيان حالهم بعد ما كتب كليهم القتال.. فأقول لك ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كُتِبَ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الْقِتَالُ﴾: نائب فاعل، والجملة من الفعل الصغير ونائبه فعل شرط لـ ﴿ما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل والجملة جواب لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استئنافية. ﴿الله﴾: مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ﴿بِالظَّالِمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿عليم﴾، والجملة مستأنفة.
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾.
﴿وَقَالَ﴾ الواو: عاطفة. ﴿قال﴾: فعل ماض، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿نَبِيُّهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿بَعَثَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، ﴿طَالُوتَ﴾: مفعول به. ﴿مَلِكًا﴾: حال من ﴿طَالُوتَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾.
﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نبيهم والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿اصْطَفَاهُ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾،
(٢) العكبري.
(٣) الجمل.
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿وَقَالَ﴾ الواو: عاطفة. ﴿قال﴾ فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿نَبِيُّهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ﴾. ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿آيَةَ﴾: اسمها. ﴿مُلْكِهِ﴾: مضاف إليه. ﴿إن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿إن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبرًا لـ ﴿إن﴾ تقديره: إن آية ملكه إتيان التابوت إياكم، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿فِيهِ﴾: خبر مقدم. ﴿سَكِينَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿سكينة﴾ تقديره: سكينة كائنة من ربكم،
﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾.
﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ الواو: عاطفة. ﴿بقية﴾. معطوف على ﴿سَكِينَةٌ﴾، ﴿مما﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بقية﴾. ﴿تَرَكَ آلُ مُوسَى﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه. ﴿وَآلُ هَارُونَ﴾: معطوف على ﴿آلُ مُوسَى﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تركه آل موسى. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل: والجملة في محل النصب حال من ﴿التَّابُوتُ﴾ تقديره: حالة كونه محمولًا للملائكة، أو الجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾. ﴿لَآيَةً﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿آية﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آية﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول قال ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، ﴿مُؤْمِنِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إِن﴾ محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين؛ أي: مصدقين بأن الله جعل لكم طالوت ملكًا.. فالآية على ملكه حاصلة، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب بمقول قال.
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال لهم نبيهم، وما قالوا، وأردت بيان عاقبة أمرهم.. فأقول لك: ﴿لما فصل﴾، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿فَصَلَ طَالُوتُ﴾: فعل وفاعل ﴿بِالْجُنُودِ﴾: متعلق بـ ﴿فصل﴾، أو حال من ﴿طالُوتُ﴾، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير
اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدِ | وَبِمَا وَلَنْ وَقَدْ وَبِالتَّنْفِيْسِ |
﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنهم شربوا منه، وأردت بيان عاقبة أمرهم.. فأقول لك. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿جَاوَزَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿طَالُوتُ﴾، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿هُوَ﴾: ضمير مؤكد لضمير الفاعل المستتر، ليعطف عليه. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ضمير الفاعل المستتر. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق (١) بـ ﴿جاوز﴾ من حيث عمله في المعطوف وهو الموصول؛ أي: فلما جاوزه وجاوز معه الذين آمنوا. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ﴾ إلى قوله: ﴿قال﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿طَاقَةَ﴾: اسمها. ﴿لَنَا﴾ خبرها، وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وهذا الجار والمجرور في قوله: ﴿بِجَالُوتَ﴾ متعلق بالاستقرار
﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَظُنُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَظُنُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب، ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿مُلَاقُو اللَّهِ﴾: خبر ﴿أن﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿يَظُنُّونَ﴾ تقديره: لقاء الله. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمنه معنى رب التكثيرية، ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿فِئَةٍ﴾: تمييز لكم منصوب بفتحة مقدرة، وقد تحذف ﴿مِنْ﴾؛ فيجر تمييزها بالإضافة، لا بمن مقدرة على الصحيح. ﴿قَلِيلَةٍ﴾: صفة لـ ﴿فئة﴾. ﴿غَلَبَتْ﴾ غلب فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِئَةً﴾، والجملة من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر ﴿كَمْ﴾، كثير من فئة قليلة غالبة فئة كثيرة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فِئَةً﴾: مفعول ﴿غَلَبَتْ﴾. ﴿كَثِيرَةً﴾: صفة لـ ﴿فئة﴾، ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿فئة﴾؛ لتخصصها بالصفة وإن كانت نكرة، أو متعلق بـ ﴿غَلَبَتْ﴾ ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: عاطفة، أو استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿كم من فئة﴾ على كونها من مقولهم، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى، أخبر الله تعالى بها عن حال الصابرين، فتكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠)﴾.
﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.
﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، هزموهم: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالُوا رَبَّنَا﴾. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿هزموا﴾، أو حال من ضمير الفاعل. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على ﴿هزموهم﴾ ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿الْمُلْكَ﴾: مفعول ثان. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: معطوف على ﴿الْمُلْكَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿قتل داود﴾. ﴿وَعَلَّمَهُ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿قتل﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: مما يشاءه.
﴿وَلَوْلَا﴾ الواو: استئنافية، ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿دَفْعُ اللَّهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. ﴿النَّاسَ﴾: مفعول المصدر، ﴿بَعْضَهُمْ﴾ بدل من ﴿النَّاسَ﴾، بدل بعض من كل ﴿بِبَعْضٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿دفع﴾، وهو في محل المفعول الثاني، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا؛ لقيام جواب ﴿لولا﴾ مقامه تقديره: موجود. ﴿لَفَسَدَتِ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لولا﴾، ﴿فسدت الأرض﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مع جوابها مستأنفة. ﴿وَلَكِنَّ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك ونصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿ذُو﴾: خبر ﴿لكن﴾. ﴿فَضْلٍ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة ﴿لولا﴾ على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)﴾.
﴿تِلْكَ﴾: ﴿تِ﴾ اسم إشارة يشار به إلى المفردة المؤنثة البعيدة في محل الرفع مبتدأ مبني بسكون على الياء المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين، ﴿اللام﴾: لبعد المشار إليه، أو لمبالغة البعد حرف لا محل له من الإعراب مبني على السكون، ﴿الكاف﴾: حرف قال على الخطاب. ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿نَتْلُوهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿عَلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نتلوا﴾، وجملة ﴿نتلوا﴾ يجوز (١) أن تكون حالًا من الآيات، والعامل فيها معنى الإشارة، ويجوز أن تكون مستأنفة، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور يجوز أن يكون متعلقًا بـ ﴿نتلوا﴾، وأن يكون حالًا من ضمير الآيات المنصوب؛ أي؛ متلبسة بالحق، ويجوز أن يكون حالًا من الفاعل؛ أي: ومعنا الحق، ويجوز أن يكون حالًا من الكاف؛ أي: ومعك الحق، وجملة ﴿تِلْكَ﴾ من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً﴾ سعة وزنها عَلَةً، أصله وسع حذفت فاء الكلمة، وهي الواو وعوض عنها تاء التأنيث كما في عدة وزنة، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملًا له على المضارع، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين عدوتيها الياء وهي حرف المضارعة والكسرة المقدرة؛ لأن أصله يوسع، وذلك أن وسع مثل وثق، فحق مضارعه أن يجيء على يفعل بكسر العين، وإنما منع ذلك في يسع كون لامه حرف حلق، ففتح عين مضارعه لذلك وإن كان أصلها الكسرة، ولذلك قلنا بين ياء وكسرة مقدرة، فالفتحة عارضة، فأجرى عليها حكم الكسرة، ثم جعلت في المصدر مفتوحة؛ لتوافق الفعل، ويدلك على ذلك أن قولك وعد يعد مصدره عدة بالكسر لما خرج على أصله.
﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ واسع قيل: هو على معنى النسب؛ أي: هو ذو سعة، وقيل: جاء على حذف الزائد، والأصل أوسع فهو موسع، وقيل: اسم فاعل من وسع الثلاثي؛ لأنك تقول: وسع علمه وحلمه.
﴿التَّابُوتُ﴾: وزنه فاعول مشتق (١) من التوب الذي هو الرجوع، لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت وجبروت، والمشهور أن يوقف على تائه من غير أن تقلب هاء، ومنهم من يقلبها.
﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ السكينة: فعيلة من السكون، وهو الوقار، تقول: في فلان سكينة؛ أي: وقار وثبات.
﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ (٢) وأصل بقية بقيية، ولام الكلمة ياء ولا حجة في بقي لانكسار
(٢) العكبري.
﴿وَجُنُودِهِ﴾ الجنود جمع جند، وهو معروف واشتقاقه من الجند، وهو الغليظ من الأرض إذ بعضهم يعتصم ببعض، وفي "المصباح" الجند الأنصار والأعوان، والجمع أجناد وجنود، الواحد جندي، فالياء للوحدة مثل روم ورميّ اهـ، والياء في ﴿مُبْتَلِيكُمْ﴾ بدل من واو؛ لأنه من بلاه يبلوه.
﴿بِنَهَرٍ﴾ فتح الهاء وإسكانها لغتان، والمشهور في القراءة فتحها، وقرأ حميد بن قيس شذوذًا بإسكانها، وأصل النهر والنهار الاتساع، ومنه ما أنهر الدم. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً﴾ الغُرفة - بضم الغين - اسم للقدر المغترف من الماء كالأكلة للقدر الذي يؤكل، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة، نحو ضربت ضربة، والاغتراف الأخذ من الشيء باليد أو بآلته، والغرف مثل الاغتراف، فمعناهما واحد، والغرفة البناء العالي المشرف. ﴿لَا طَاقَةَ﴾ وعين الطاقة واو؛ لأنه من الطوق، وهو القدرة تقول: طوقته الأمر.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ الفئة القطعة من الناس، وأصل فئة فيئة؛ لأنه من فاء يفيء إذا رجع، فالمحذوف عينها، وقيل: أصلها فيوءة لأنها من فأوت رأسه إذا كسرته، فيكون المحذوف لام الكلمة.
﴿أَقْدَامَنَا﴾ جمع قدم، والقدم الرجل، وهي مؤنثة تقول في تصغيرها قديمة، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع لمعنى التقدم.
البلاغة
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: فيه مجاز بالحذف إذ الأصل إلى قصة الملأ، وهذا المحذوف هو متعلق الظرف في قوله: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾.
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ﴾: في الكلام إيجاز وحذف تقديره: فسأل الله ذلك النبي، فكتب عليهم القتال وبعث لهم ملكًا؛ أي: عينه لهم ليقاتل بهم، فلما كتب عليهم القتال.. إلخ.
﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ والظاهر أن هذا من كلام ذلك النبي، قال ذلك لهم لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد
﴿آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾: فيه مجاز بالزيادة؛ لأن المراد أنفسهما، فلفظ آل مقحم وفائدة هذه الزيادة تفخيم شأنهما.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ﴾ وإفراد (١) حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين بتأويل الفريق أو غيره كما سلف في قوله: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾.
﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ فيه استعارة تمثيلية، فقد شبه حالهم - والله تعالى يفيض عليهم الصبر - بحال الماء يصب ويفرغ على الجسم، فيعمه كله ظاهره وباطنه، فيلقي في القلب بردًا وسلامًا وهدوءًا واطمئنانًا.
﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ وهو كناية (٢) عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سألوا ما يكون مستعليًا عليهم من الصبر.. سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها.
﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فيه ثلاث تأكيدات.. التأكيد بإن، وباللام، وباسمية الجملة.
اللهم كما وفقتني بابتدائه، فأكرمني بانتهائه، وصلى الله وسلَّم على سيدنا ومولانا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين (٣).
والله سبحانه وتعالى أعلم
(٢) البحر المحيط.
(٣) تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه في تاريخ ١١/ ٤/ ١٤٠٨ هـ وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
إلى هنا انتهى المجلد الثالث في تاريخ ٩/ ١/ ١٤٠٧ هـ.
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الرابع»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَخُو العِلْمِ حَيٌّ خَالدٌ بَعْدَ موتِه | وأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ |
وعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ | ولكنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا |
وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ | يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا |
البلاغة
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾: وأشار بتلك التي للبعيد؛ لبُعْد ما بينهم من الأزمان، وبين النبي - ﷺ -، أو بُعْد مرتبتهم في الكمال، وأتى بتلك التي للواحدة المؤنثة وإنْ كانَ المشار إليه جمعًا؛ لأنه جمع تكسير، وجمع التكسير حكمهُ حكمُ الواحدة المؤنثة في الوَصْفِ، وفي عود الضمير، وفي غير ذلك. وكان جمعَ تكسيرٍ هنا لاخْتِصَارِ اللفظِ، ولإزالةِ قلق التكرار؛ لأنه لو قال: أولئك المرسلون فضلنا.. كان في اللفظ طولٌ، وكان فيه التكرارُ.
﴿فَضَّلْنَا﴾: فيه التفات؛ لأنه خروج إلى متكلِّم من غائب؛ إذ قبله ذُكِر لفظُ الله، وهو لفظٌ غائبٌ. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾: هذا تفصيل لذلك التفضيل، ويسمى هذا في البلاغة: التقسيم، وكذلك في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾. وبَيْن لفظِ ﴿آمَنَ﴾ و ﴿كَفَرَ﴾ طِباقٌ، وفي قوله: ﴿كَلَّمَ اللَّهُ﴾ أيضًا: التفات؛ إذ هو خروج إلى ظاهرٍ غائبٍ منْ ضميرٍ متكلمٍ؛ لِمَا في ذِكْر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم، ولزوالِ قلق تكرار ضمير المتكلم؛ إذ كان التركيب فضَّلْنا وكلَّمنا ورَفَعْنَا وآتينا.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العَلَمُ الَّذي لا يَشْتَبه، والمتميِّز الذي لا يَلْتَبِسُ. وفي قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾: الإطنابُ حيث كَرَّر جملة ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾.
﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: فيه قصرُ الصفة على الموصوف، وقد أُكِّدتْ بالجملة الإسمية، وبضمير الفصل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)﴾.
المناسبة
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...﴾ الآيات، مناسبةُ (١) هذه الآيات لِمَا قبلها: أنَّه تعالى لَمَّا ذكر أنه فَضَّل بعض الأنبياء على بعضٍ، وأنَّ منهم من كلَّمه، وفسِّر بموسى عليه السلام، وأنه رفع بعضهم درجاتٍ، وفسِّر بمحمدٍ - ﷺ -، ونصَّ على عيسى عليه السلام، وتفضيلُ المتبوعِ يُفهَمُ منه تفضيلُ التابعِ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعًا، وخرافاتٍ في أديانهم وعقائدهم، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه، وكان رسول الله - ﷺ - بُعثَ إلى الناس كافَّةً، فكان منهم العرب، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهةً، وأشركوا، فصار جميع الناس المبعوث إليهم - ﷺ - على غير استقامة في شَرائِعِهم وعقائدِهم، وذَكَر تعالى أنَّ ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وهم الواضعون الشيءَ في غير موضعه.. أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية المتضمَّنة بصفاته العليا من الحياة، والاستبداد بالملك، واستحالة كونه مَحَلًّا للحوادث، ومُلكِهِ لِمَا في السموات والأرض، وامتناع الشفاعة عنده إلا بإذنه، وسَعَة علمه، وعدم إحاطة أحد بشيءٍ من علمه، وباهر ما خلق من الكرسيِّ العظيم الاتساع، ووصفه
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾ روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تكون المرأة مقلاةً، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أنْ تُهوِّده، فلما أُجليتْ بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندعُ أبنائنا، فَأَنْزَلَ الله ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾.
وأخرج ابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت آية: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ في رجلٍ من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلمًا، فقال للنبي - ﷺ -: ألا أَسْتَكْرِههُما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ أخرج ابن جرير، عن عبدة، عن أبي لبابة في قوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى، فلما جاءهم محمدٌ - ﷺ -.. آمنوا به، وأُنزلت فيم هذه الآية، وأخرج عن مجاهد قال: كان قومٌ آمنوا بعيسى، وقومٌ كفروا به، فلما بُعث محمدٌ - ﷺ -.. آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى، فأنزل الله هذه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٢٥٥ - ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ومما ورد في فضل هذه الآية الكريمة:
ما أخرجه مسلم عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قلتُ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فضرب في صدري، وقال: "ليَهْنِكَ العلم يا أبا المنذر".
وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "مَنْ قرأ حين يصبح آية الكرسي، وآيتين من أول: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)﴾.. حُفظ يومه ذلك حتى يُمسي، ومن قرأها حين يمسي.. حُفظ ليلته تلك حتى يُصبح". وقال: حديث غريب.
وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "لكلِّ شيءٍ سَنَام، وإن سَنَام القرآنِ البقرة، وفيها آيةٌ هي سيدة آيِ القرآن؛ آية الكرسي" والمراد منه: تعظيمُ هذه السورة. وقوله هي سيدة آي القرآن؛ أي: أفضله.
وقال العلماء (١): إنما تميَّزتْ آيةُ الكرسيِّ؛ بكونها أعظمَ آية في القرآن؛ لِمَا جَمعتْ من أصول الأسماء والصفات، من الإلهية، والوحدانية، والحياة، والعلم، والقيومية، والملك، والقدرة، والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات؛ وذلك لأن الله تعالى أعظم مذكور، فما كان ذاكرًا له من توحيد وتعظيم.. كان أعظم الأذكار. وفي هذه الأحاديث حُجَّة لمن يقول: بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيله على سائر كتب الله المنزلة.
وقالوا أيضًا: معنى أن هذه الآية - أو هذه السورة - أعظمُ، أو أفضلُ هو: أنَّ الثواب المتعلق بها أكثر، وهذا هو المختار.
ومعنى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة.. مُخبَرٌ عنه بكونه لا معبودَ بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى، فجملة ﴿لا﴾ في محل الرفع خبرُ المبتدأ؛ نفى (٢) الإلهية عن كل ما سواه، وأثبتَ الإلهية له
(٢) الخازن.
﴿الْحَيُّ﴾؛ أي: الباقي على الأبد، الدائم بلا زوال، الذي لا سبيل إليه للموت والفناء، والحيُّ في صفة الله تعالى: هو الذي لم يزل موجودًا، وبالحياة موصوفًا، لم تحدثْ له الحياة بعد موتٍ، ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والعدم، فكل شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ سبحانه وتعالى.
﴿الْقَيُّومُ﴾؛ أي: القائم (١) على كُلِّ نفسٍ بما كسبت. وقيل: القائم بذاته، المقيم لغيره. وقال مجاهد (٢): القيوم: القائم على كلِّ شيءٍ؛ أي: القائم بتدبير خلقه في إيجادهم، وإرزاقهم، وجميع ما يحتاجون إليه. وقيل: هو القائم الدائم بلا زوال، الموجود الذي يمتنع عليه التغيير.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿الْقَيُّومُ﴾ على وزن فيعول، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وعلقمة والنَّخَعِيُّ والأعمش شذوذًا ﴿القَيَّام﴾ بالألف، ورُوي ذلك عن عمر، وقرأ علقمة شذوذًا أيضًا ﴿القَيِّمِ﴾ كما تقول: دَيِّرْ ودَيَّار، ولا خلافَ بين أهل اللغة: أن القَيُّوم أعرف عند العرب، وأصحُّ بناءً، وأثبت عِلَّةً. وقال أمية:
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ | وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ |
قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّوْمُ | وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ |
﴿لَا تَأْخُذُهُ﴾؛ أي: لا تعتريه. ﴿سِنَةٌ﴾؛ أي: نعاسٌ. ﴿وَلَا نَوْمٌ﴾ ثقيلٌ فيشغلَه عن تدبير خلقه وأمره؛ أَيْ: لا يأخذه نعاسٌ فضلًا عن أن يأخذه نوم؛ لأن النوم والسهو والغفلة محالٌ على الله تعالى؛ لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم، وذلك نقص وآفة، والله تعالى منزَّهٌ عن النقص والآفات، وأن ذلك تَغَيُّر، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن التغيُّر.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط مع الشوكاني.
وقال الشوكاني (٢): وإذا ورد على القلب والعين دفعةً واحدة، فإنه يقال له: نوم، ولا يقال له: سِنة، فلا يستلزم نفيُ السِّنة نفيَ النوم، وقد ورد عن العرب نفيُهما جميعًا، ومنه قول زهير:
لاَ سِنَةٌ طِوَالِ اللَّيْلِ تَأْخُذُهُ | وَلاَ يَنَامُ وَلاَ فِي أَمْرِهِ فَنَدُ |
وأيضًا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السِّنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم؛ فقد يأخذه النومُ، ولا تأخذه السِّنة. فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السِّنة.. لم يُفِدْ ذلك نفيَ النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم.. لم يُفِدْ نفيَ السِّنة، فكم من ذي سِنة غير نائم، وكُرِّرَ حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. انتهى.
وأخرج مسلم عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - ﷺ - خطيبًا بخمس كلماتٍ فقال: "إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا ينام، ولا ينبغي
(٢) فتح القدير.
﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى، لا لغيره جميعُ ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ السبع من الملائكة ﴿و﴾ جميع ﴿ما في الأرض﴾ من الخلق مَلِكًا ومُلْكًا. ذكر ما فيهما دونهما للردِّ على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء، والأصنام التي في الأرض؛ أي: فلا تصلح أن تكون معبودة؛ لأنها مملوكةٌ لله، مخلوقةٌ له.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾؛ أي؛ لا يشفع عنده أحدٌ من أهل السموات والأرض يومَ القيامة. ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، أي: إلا بأمره وإرادته تعالى، وهذا ردٌّ على المشركين؛ حيث زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فإنه تعالى لا يأذن لأحدٍ في الشفاعة إلا للمطيعين، وهو ما استثناه بقوله: ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ يريد بذلك: شفاعة النبي - ﷺ -، وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة، وشفاعة المؤمنين بعضهم بعضًا.
وفي هذا (١) الاستفهام من الإنكار على مَنْ يزعم: أنَّ أحدًا من عباده يَقْدِر على أن ينفع أحدًا منهم بشفاعة أو غيرها، ومن التقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه، وفيه من الدَّفْع في صدور عُبَّادِ القبور، والصَّد في وجوهم، والفَتِّ في أَعْضَادِهِم ما لا يرتاد قدرهُ، ولا يبلغْ مَدَاه. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الضميران لـ ﴿{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، بتغليب العقلاء على غيرهم؛ أي: يعلم ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: ما هو حاضرٌ مشاهَدٌ لهم، وهو: الدنيا وما فيها. ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾؛ أي: قُدَّامهم، وهو: الآخرة وما فيها. وقيل: بعكسه؛ لأنهم يُقْدِمون على الآخرة، ويُخَلِّفون الدنيا وراء ظهورهم. وقيل: يعلم ما كان قبلهم، وما كان بعدهم. وقيل: يعلم ما قَدَّموه بين أَيديهم من خيرٍ أو شرٍّ، وما خَلْفَهم مما هم فاعلوه. والمقصود من هذا: أنه سبحانه وتعالى عالمٌ بجميع المعلومات، لا يخفى عليه شيءٌ من أحوال جميع خلقه، وكَنَّى بهاتين الجهتين عن سائر
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: أحاط كرسيُّه، واشتمل عليهما لعظمته. وأصل (١) الكرسيِّ في اللغة: مِنْ تركب الشيء بعضه على بعضٍ، ومنه: الكُرَّاسة؛ لتركُّب بعض أوراقها على بعضٍ، والكرسيُّ في العُرْف: اسم لما يُقعد عليه، سُمِّيَ به لتركُّب خشباته بعضها على بعض.
واختلفوا في المراد بالكرسيِّ هنا على أربعة أقوالٍ:
أحدها: أنَّ الكرسيَّ: هو العرش.
والقول الثاني: أن الكرسيَّ: غير العرش، وهو أمامه، وهو فوق السموات ودون العرش، فهو جسم عظيم تحت العرش، وفوق السماء السابعة، وهو أوسع من السموات والأرض. وقال ابن كثير: والصحيح: أن الكرسيَّ غيرُ العرش، والعرش أكبر منه، كما دلَّتْ على ذلك الآثار والأخبار.
والقول الثالث: أنَّ الكرسي: هو الاسم الأعظم؛ لأن العلم يعتمد عليه، كما أن الكرسيَّ يُعتمد عليه.
والقول الرابع: المراد بالكرسيِّ: المُلْك والسلطان والقدرة؛ لأن الكرسيَّ موضع السلطان، فلا يَبْعد أن يُكنى عن الملك بالكرسيِّ على سبيل المجاز.
﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾؛ أي لا يُثقله، ولا يُجهده، ولا يُتعبه، ولا يَشق عليه ﴿حِفْظُهُمَا﴾؛ أي: حفظ السموات والأرض، فحَذَفَ الفاعلَ، وأضاف المصدرَ
ومن فضائلها أيضًا: أنه رُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "ما قُرِئتْ هذه الآيةُ في دارٍ.. إلا هَجرتها الشياطينُ ثلاثين يومًا، ولا يدخُلُها ساحرٌ ولا ساحرة أربعينَ ليلةً".
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: سمعتُ نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: "مَنْ قرأ آية الكرسي في دُبُر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ.. لم يمنعْهُ من دخول الجنة إلا الموت"؛ أي: فإذا مات دخل الجنة، ولا يواظب عليها إلا صِدِّيقٌ أو عابدٌ، ومَنْ قرأها إذا أخذ مَضجِعه.. أُمِنَهُ على نفسه، وجاره، وجار جاره، والأبيات
٢٥٦ - التي حوله. ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾؛ أي: لا إجبار على الدخول في دين الإِسلام؛ إذ الإكراهُ في الحقيقة: إِلْزَامُ الغيرِ فِعْلًا لا يَرى فيه خيرًا يَحْمِلُه عليه ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾؛ أي؛ قد تَميَّز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضلالة؛ بكثرة الدلائل، والبراهين الساطعة. وقُرىء بسكون الشين، وبضمها، وبفتح الراء والشين، وكله عدا قراءة الجمهور شاذ، وقُرىء كذلك وبألف بعد الشين، وقُرىء بإدغام دال ﴿قَد﴾ في تاء ﴿تَبَيَّنَ﴾ لجميع القراء في المتواتر، وقُرىء بإظهارها شاذًا.
وقال الشوكاني (١): وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوالٍ:
الأول: أنها منسوخةٌ؛ لأن رسول الله - ﷺ - قد أكره العرب على دين الإِسلام، وقاتلهم، ولم يرضَ منهم إلا الإِسلام، والناسخُ لها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا
القول الثاني: أنها ليست بمنسوخةٍ، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً، وأنهم لا يُكْرَهُون على الإِسلام إذا أَدَّوا الجِزْية، بل الذين يكرهون هم: أهلُ الأوثان، فلا يُقبل منهم إلا الإِسلام، أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاكُ.
القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصةً، كما سبق لك بيان ما ورد في ذلك.
القول الرابع: أن معناها لِمَن أسلمَ تحت السيف؛ أنَّه مكرهٌ، فلا إكراه في الدين، إلى غير ذلك من الأقوال.
والذي ينبغي اعتماده، ويتعيَّن الوقوف عنده: أنها في السَّبَبِ الذي نَزَلتْ لأجله، مُحْكَمةٌ غيرُ منسوخةٍ؛ وهو أن المرأة من الأنصار كانت مقلاةً، لا يكاد يعيش لها ولدٌ إلى آخر ما سبق ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾؛ أي: بالشيطان، أو الأصنام، أو بكلِّ ما عُبد من دون الله ﴿وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: ويُصدِّق بالله أنه ربه، ومعبودُه من دون كلِّ شيءٍ كان يعبده، وفيه: إشارةٌ إلى أنه لا بد للكافر أن يتوب أولًا عن الكفر، ويستبرأ منه، ثُمَّ يؤمنَ بعد ذلك بالله، فمَنْ فعل ذلك.. صحَّ إيمانه، وناسب ذلك أيضًا اتصاله بلفظ الغيِّ، ولم يَكْتَفِ بالجملة الأُوْلَى؛ لأنها لا تستلزم الجملة الثانية؛ إذ قد يَرْفُض عبادتَها، ولا يؤمن بالله، لكنَّ الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت. ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ﴾؛ أي: تَمَسَّكَ ﴿بِالْعُرْوَةِ﴾؛ أي: بالعقدة ﴿الْوُثْقَى﴾؛ أي: المحكمة ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾؛ أي: لا انقطاع لتلك العروة حتى تُوصله إلى الجنة؛ أي: فقد أخذ بالحبل الوثيق، الشديد المحكم المأمون، الذي لا انقطاع له؛ أي: فقد أَخَذ بالثقة بـ ﴿لا إله إلا الله﴾ التي لا انقطاع لصاحبها عن نعيم الجنة، ولا زوال عن الجنة، ولا هلاكَ بالبقاء في النار. وهذا تمثيلٌ للمعلوم بالنظر والاستدلال بالشاهد المحسوس حتى يَتَصَوَّره السامع كأنَّه ينظرُ إليه بعينه، فيُحْكِمُ اعتقاده. والمعنى: فقد عَقَد لنفسه من الدين
٢٥٧ - ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: الذين أرادوا أن يؤمنوا؛ أي: ناصِرُهم، ومعينُهم، ومحبُّهم، ومتولي أمورهم، وهِدَايتهم؛ كعبد الله بن سَلَام وأصحابه ﴿يُخْرِجُهُمْ﴾ بلطفه وتوفيقه ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾؛ أي: من ظلمات الكفر والضلالة، واتباع الهوى، وقبول الوساوس والشُّبه المؤدية إلى الكفر. وجُمِعَتْ ﴿الظُّلُمَاتِ﴾ لاختلاف أنواع الضلالات ﴿إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: إلى نور الإيمان والهداية، ووُحِّد النور؛ لأن الإيمان واحدٌ لا يتنوع.
وقال الواقدي (١): كلُّ شيءٍ في القرآن من الظلمات والنور.. فإنه أراد به: الكفر والإيمان، غير التي في الأنعام، وهو: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ فإنه أراد به: الليل والنهار.
وقال الواسطي: يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها؛ كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة.
وقال أبو عثمان: يُخرجهم من ظلمات الوَحْشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: والذين صَمَّموا على الكفر أمرَهُم، ككعب بن الأشرف وأصحابه. ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ﴾؛ أي: ولاة أمورهم. ﴿الطَّاغُوتُ﴾؛ أي: الشياطين، وسائر المضلين عن طريق الحق. وقرأ الحسن شذوذًا: ﴿الطواغيت﴾ بالجمع. ﴿يُخْرِجُونَهُمْ﴾ بالوساوس وغيرِها من طرق الإضلال، وأتى بضمير الجمع؛ لأن الطاغوت في معنى الجمع. ﴿مِنَ النُّورِ﴾ الفطري؛ أي: الذي جُبل
الإعراب
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوفٌ جوازًا تقديره: موجودٌ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغٌ. ﴿هُوَ﴾ ضمير للمفرد المُنَزَّه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾ تقديره: لا إله موجودٌ هو إلا هو، وجملة ﴿لَا﴾ من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مِنَ المبتدأ والخبر مستأنفةٌ استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. ﴿الْحَيُّ﴾: صفةٌ أولى للمبتدأ الذي هو الله، مرفوعٌ. ﴿الْقَيُّومُ﴾: صفةٌ ثانية له، وقيل (١): مرفوع على أنه خبر بعد خبر، أو على أنه بدل من ﴿هُوَ﴾، أو من ﴿اللَّهُ﴾، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو، أو على أنه مبتدأ، والخبر: لا تأخذه. وأجود هذه الأوجه أولُها؛ أي: جعله صفة للمبتدأ، ويدل عليه قراءة من قرأ: ﴿الحيَّ القيوم﴾ بالنصب، فقطع على إضمار أمدح، فلو لم يكن وصفًا.. ما جاز فيه القطع، ولا يقال في هذا الوجه: الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر؛ لأن ذلك جائز حسن، تقول: زيدٌ قائمٌ العاقلُ.
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾.
﴿لَا﴾: نافيةٌ ﴿تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿وَلَا نَوْمٌ﴾ ﴿الواو﴾:
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو في محل الرفع خبر بعد خبر للفظ الجلالة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.
﴿مَنْ ذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾: خبر له، والجملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿يَشْفَعُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَشْفَعُ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِإِذْنِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَشْفَعُ﴾.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأن عَلِم هنا بمعنى عَرَف. ﴿بَيْنَ﴾: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، وهو مضاف. ﴿أيدي﴾: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدَّرة، وهو مضاف، والضمير مضاف إليه ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: معطوف على ﴿مَا﴾ الأولى. ﴿خَلْفَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿لا﴾: نافية
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مفعول به ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف عليه. ﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَئُودُهُ﴾: فعل ومفعول. ﴿حِفْظُهُمَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَسِعَ﴾. ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿الْعَلِيُّ﴾: خبر أول. ﴿الْعَظِيمُ﴾: خبر ثانٍ، أو صفة لـ ﴿العلي﴾، والجملة مستأنفة.
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾.
﴿لَا﴾: نافية. ﴿إِكْرَاهَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿فِي الدِّينِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾ تقديره: لا إكراه كائن في الدين، والجملة مستأنفة ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿تَبَيَّنَ الرُّشْدُ﴾: فعل وفاعل ﴿مِنَ الْغَيِّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَبَيَّنَ﴾؛ لأنه بمعنى تميَّز، والجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأن هذه الجملة (٢) كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين، ولا موضع لها من
(٢) النهر والبحر.
﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
﴿فَقَدِ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ وجوبًا؛ لاقترانه بقد. ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿اسْتَمْسَكَ﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جوابًا له، وفاعله: ضمير يعود على ﴿من﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدَّرة مستأنفة. ﴿بِالْعُرْوَةِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَمْسَكَ﴾ ﴿الْوُثْقَى﴾: صفة للعروة. ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ لا: نافية. ﴿انْفِصَامَ﴾: في محل النصب اسمها ﴿لَهَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾ تقديره: لا انفصام كائن لها، وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب حال من ﴿العروة﴾، والعامل فيها ﴿اسْتَمْسَكَ﴾، أو حال (١) من الضمير المستتر في ﴿الْوُثْقَى﴾، أو مستأنفة مُقرِّرةٌ لِمَا قبلها مِنْ وَثَاقة العروة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
﴿اللَّهُ وَلِيُّ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿يُخْرِجُهُمْ﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة خبر (٢) بعد
(٢) البيضاوي.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الذين﴾: مبتدأ أول. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ﴾: مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه. ﴿الطَّاغُوتُ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره معطوفة على جملة قوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿يُخْرِجُونَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، أو حال (١) من الطاغوت، والعامل فيه معنى الطاغوت؛ لأنه بمعنى المضلِّين، وهو نظير ما قاله أبو علي من نصب: ﴿نَزَّاعَةً﴾ على الحال، والعامل فيها ﴿لظى﴾. ﴿مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ جار ومجرور متعلقان بـ ﴿يُخْرِجُونَهُمْ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾: وهو خبر المبتدأ والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْحَيُّ﴾: عينه ولامه ياءان؛ لأنه من: حَيِيَ بياءين، يحيا - من باب رضي - فهو حيٌّ.
﴿الْقَيُّومُ﴾: على وزن فيعول؛ لأنه مِن قام بالأمر يقوم به إذا دَبَّره، وأصله: قيووم، اجتمعت الواو والياء، وسُبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأُدغمت الياء فيها، فصار قيومًا.
﴿سِنَةٌ﴾: أصله وَسْنة؛ لأنه من: وسن يسن، من باب: وعد يعد، فلما حُذفت الواو في المضارع حذفت في المصدر.
﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾: في "المصباح": آده يؤده أودًا من باب: قال، فـ: انآد بوزن انفعل؛ أي: ثقل به، وآده أودًا إذا عطفه وحَنَاه. اهـ.
﴿الْعَلِيُّ﴾ هو فعيل؛ لأن أصله عليو؛ لأنه من: علا يعلو، اجتمعت الواو والياء وسُبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، فأدغمت الياء فيها، فصار عليًّا.
﴿بِالطَّاغُوتِ﴾ والطاغوت (١): بناء مبالغة؛ كالجبروت والملكوت، واختُلِفَ فيه فقيل: هو مصدر في الأصل، فلذلك يؤنث ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسي، وقيل: هو اسم جنس مفرد، فلذلك لزم الإفراد والتذكير، وهذا مذهب سيبويه، وقيل: هو جمع، وقد يؤنث بدليل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾، واشتقاقه من: طغى يطغى، كسعى يسعى، أو من: طغا يطغو على حسب ما فيه من الخلاف: هل هو من ذوات الواو، أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التقديرين فأصله: طَغْيُوتْ، أو طَغْوُوت؛ لقولهم: طغيان، فقلبت الكلمة: بأن قُدمت اللام وأُخرت العين، فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقلبت ألفًا، فوزنه الآن: فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدة، وإنما هي بدل من لام الكلمة، فوزنه: فاعول.
﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾: العروة في الأصل: موضع شد اليد، وأصل المادة تدل على التعلق، ومنه: عروته إذا ألممت به متعلقًا به، واعتراه الهمُّ إذا تعلق به. و ﴿الْوُثْقَى﴾: على وزن فعلى للتفضيل، تأنيث الأوثق؛ كفضلى تأنيث الأفضل، وجمعها على: وُثَقَ؛ ككبرى وكُبَر، وأما وُثُق بضمتين: فجمع وثيقَ. ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الولي: فعيل بمعنى فاعل، وهو الناصر.
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾: وتقديم السّنة على النوم يفيد المبالغة من حيث إن نفى السّنة يدل على نفى النوم، ففي ذكره ثانيًا صريحًا إفادة المبالغة؛ أي: لا تأخذه سنَة فضلًا عن أن يأخذه نوم، وكُررت ﴿لَا﴾ تأكيدًا، وفائدتها: انتفاء كل واحد منهما على حِدَتِه؛ إذ لو أُسقطت ﴿لَا﴾.. لاحْتُمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع. تقول: ما قام زيد وعمرو، بل أحدهما، ولا يقال: ما قام زيد ولا عمرو، بل أحدهما.
﴿اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾: هذا الكلام: إما من (١) باب الاستعارة التمثيلية، مبني على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم، وإما من باب الاستعارة المفردة؛ حيث استعيرت العروة الوثقى للاعتقاد الحق. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾: فيه استعارة تصريحية؛ حيث شبَّه الكفر بالظلمات والإيمان بالنور. قال في "تلخيص البيان": وذلك من (٢) أحسن التشبيهات؛ لأن الكفر كالظلمة يتسكع فيها الخابط، ويضل فيها المقاصد، والإيمان كالنور الذي يَؤُمه الجائر، ويهتدي به الحائر، وعاقبة الإيمان مضيئة بالنعيم والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب.
وقال أبو حيان (٣): وذكروا في هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة، وعلم البيان:
منها: في آية الكرسي حسن الافتتاح؛ لأنها افْتُتحِتْ بأجلِّ أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعًا، وتكرير الصفات، والقطع للجمل بعضها عن بعض، ولم يصلها بحرف العطف.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فإن النوم
(٢) تلخيص البيان.
(٣) البحر المحيط.
ومنها: التشبيه في قراءة من قرأ شذوذًا: ﴿وسْعُ كرسيهِ السمواتُ والأرضُ﴾ بسكون السين وضم العين، والسموات والأرض بالرفع: مبتدأ وخبر؛ أي: كوسع كرسيه، فإن كان الكرسي جُرْمًا: فتشبيه محسوس بمحسوس، أو معنىً: فتشبيه معقول بمحسوس.
ومنها: معدول الخطاب في قوله: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ إذا كان المعنى لا تُكرهوا على الدين أحدًا.
ومنها: الطباق في قوله أيضًا: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ وفي قوله: ﴿آمَنُوا﴾ و ﴿كَفَرُوا﴾ وفي قوله: ﴿الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
ومنها: التكرار في الإخراج لتباين تعليقهما.
ومنها: التأكيد بالمضمر في قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه تعالى لَمَّا أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر أن الكفار أولياؤهم الطاغوت.. ذكر هذه القصة التي جَرَتْ بين إبراهيم والذي حاجه، وأنه نَاظَر ذلك الكافر فغلبه وقطعه؛ إذ كان الله وليَّه، وانقطع ذلك الكافر وبهت؛ إذ كان وليه هو الطاغوت. ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فصارت هذه القصة مثلًا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ...﴾ وهذا إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه، وظاهره العموم، ومناسبة (٢) هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة؛ لأنه ذكر حال مدع شركة الله في الإحياء والإماتة، مُموِّهًا بما فعله أنه إحياء
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها في غاية الظهور؛ إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى في قول إبراهيم لنمروذ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه، وفي حماره وإبراهيم عليه السلام أراه ذلك في غيره وقُدِّمت آية المار على آية إبراهيم عليه السلام، وإنْ كان إبراهيم عليه السلام مقدَّمًا في الزمان على المار؛ لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت وإنْ كان تعجب اعتبار فأشبهَ الإنكار، وإنْ لم يكن إنكارًا.. فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم عليه السلام. وأما إن كان المار كافرًا: فظهرت المناسبة أقوى ظهور، وأما قصة لُبَّة - أي شدة سؤاله - إبراهيم عليه السلام فهي سؤال لإرائه كيفية الإحياء؛ ليشاهد عيانًا ما كان يعلمه بالقلب، وأخبر به نمروذ.
التفسير وأوجه القراءة
٢٥٨ - ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾؛ أي: هل (٢) انتهى إليك يا محمَّد خبر الذي خاصم إبراهيم في ربه وجادله؛ لأن ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها، فالهمزة لإنكار النفي، ولتقرير المنفي، أي: هل انتهى إليك يا محمَّد خبر هذا الطاغوت كيف تصدَّى لإضلال الناس، وإخراجهم من النور إلى الظلمات الذي حاج، وخاصم إبراهيم عليه السلام في معارضة ربوبية ربه؟ والهاء في ﴿رَبِّهِ﴾ يرجع إلى ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، أو إلى ﴿الَّذِي حَاجَّ﴾ فهو ربهما. وقرأ علي بن أبي طالب شذوذًا: ﴿ألم تَرْ﴾ بسكون الراء، وهو من إجراء
(٢) الخازن.
قلتُ: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط، من المال والخدم والاتباع، وأما التغليب والتسليط: فلا، وقيل: مَلَّكه امتحانًا لعباده. انتهى.
وقال مجاهد (٣): مَلَك الأرض أربعة؛ مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان: فسليمان بن داود، وذو القرنين. وأما الكافران: فنُمروذ، وبختنصرُ. واختلفوا في وقت هذه المحاجة.
فقيل: لما كَسَر إبراهيم الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه فقال له: مَنْ ربك الذي تدعونا إليه؟ قال إبراهيم: الذي يحيي ويميت. وقيل: كان هذا بعد إلقائه في النار، وخروجه منها سالمًا. وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكان الناس يمتارون من عنده، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام.. سأله: مَن ربك؟ فإن قال: أنت، باع منه الطعام. فأتاه إبراهيم، فقال له: مَنْ
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) نسفي.
قراءة الجمهور (١): ﴿فبُهت﴾ مبنيًّا للمفعول، والفاعل المحذوف إبراهيم؛ إذ هو المناظِر له، فلما أتى بالحجة.. بهته بذلك وحيره وغلبه. ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف المصدرَ المفهوم من ﴿قَالَ﴾؛ أي: فحيره قول إبراهيم وبهته. وقرأ ابن السميفع شذوذًا: ﴿فبَهت﴾ بفتح الباء والهاء، والظاهر أنه متعدٍّ كقراءة الجمهور مبنيًّا للمفعول؛ أي: فبهَتَ إبراهيمُ الذي كفر، فـ ﴿الَّذِي﴾ في موضع نصب، وقيل المعنى: فبهَتَ الكافرُ إبراهيمَ، أي: سَبَّ وقذف إبراهيم حين انقطعت الحجة، ولم تكن له حيلة. ويحتمل أن يكون لازمًا، ويكون الذي كفر فاعلًا، والمعنى فبهت؛ أي: أتى بالبهتان وقرأ أبو حيوة شذوذًا: ﴿فبَهُت﴾ بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في بَهِت بكسر الهاء، وقرىء شذوذًا أيضًا فيما حكاه الأخفش ﴿فبهِت﴾ بكسر الهاء.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسهم بالكفر إلى طريق الحجة؛ أي: لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة والبرهان. بخلاف أولياؤه المتقين. قيل وعنى بالظالمين: نمروذ، ولكن الظاهر العموم، والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حَكَم عليه وقضى بأن يكون ظالمًا، أي: كافرًا، وقدَّر أن لا يسلم، فإنه لا يمكن أن تقع هداية من الله له ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)﴾.
٢٥٩ - ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ قرأ الجمهور ﴿أَوْ﴾ ساكنة الواو. قيل ومعناها التفضيل، وقيل التخيير في التعجيب من حال من ينشأ منهما. وقرأ (٢) أبو
(٢) البحر المحيط.
ومقصود القصة (١): تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى على إحياء خلقه بعد إماتتهم، لا تعريف اسم ذلك المار في هذه القصةِ دلالة عظيمة بنبوة نبينا محمد - ﷺ -؛ لأنه أخبر اليهود بما يجدونه في كتبهم ويعرفونه، وهو أميٌّ لم يقرأ الكتب القديمة.
﴿وَهِيَ﴾؛ أي: والحال أن تلك القرية ﴿خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾؛ أي: خالية ساقطة جدرانها على سقوفها؛ وذلك أن السقوف سقطت أولًا، ثم وقعت الحيطان عليها بعد ذلك. ﴿قَالَ﴾ ذلك المار ﴿أَنَّى يُحْيِي﴾؛ أي: كيف يحيي ﴿هَذِهِ﴾ القرية الخاوية ﴿اللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: قال كيف يحي الله سبحانه وتعالى أهل هذه القرية بعد موتهم!! تعجبًا من قدرة الله تعالى على إحيائها، واستعظامًا لقدرته، واعترافًا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء؛ وذلك (٢) لِمَا رأى من دثورها، وشدة خرابها، وبُعدها عن العود إلى ما كانت عليه. ﴿فأماته الله﴾ مكانه فالبثه ميتًا ﴿مائة عامٍ﴾ وعمرت القرية بعد مضى سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجع بنوا إسرائيل إليها ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾؛ أي: أحياه في آخر النهار، فلما (٣) بعثه الله عَزَّ وَجَلَّ بعد موته، كان أول شيء أحيا الله فيه: عينيه؛ لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحي بدنه، فلما استقل سويًّا ﴿قَالَ﴾ الله تعالى له بواسطة المَلَك: يا عزير ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ أي: مكثت هنا بعد الموت؛
(٢) ابن كثير.
(٣) ابن كثير.
﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ﴾ أَيْ التِّين والعِنبِ الذي كان معه قبلَ موته، ﴿وَشَرَابِكَ﴾؛ أي: العصيرِ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾؛ أَيْ: لم يتغيَّرْ، ولم ينضُب في هذه المدةِ المتطاولةِ، فكان التين والعنب كأنه قد قطف من ساعته، والعصير كأنه عُصر مِنْ ساعتِه، واللبن كأنه قد حُلب من ساعته.
وقرأ ابن مسعود: ﴿وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه﴾، وقرأ طلحة ابن مصرف ﴿وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة﴾، وروي عن طلحة أيضًا أنه قرأ: ﴿لم يَسَّنَّ﴾ بإدغام التاء في السين، وحذف الهاء، وكل هذه القراءات شاذة عدا قراءة الجمهور. وقراءة الجمهور بإثبات الهاء في الوصل، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف في المتواتر بحذفها وصلًا فقط. والتَّسَنُّهُ: مأخوذ من السَّنَة؛ أي: لم تغيره السنون، أو المعنى على التشبيه؛ كأنه لم تمرَّ عليه المئة سنة لبقائه على حاله، وعدم تغيره، وإنْ شككت فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير بمرور الزمان، وكان معه عنب وتين وعصير، فوجدها على حالها لم تفسد. ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ كيف تقطعت أوصاله، وكيف تلوح عظامه بيضاء، فنظَرَ فإذا هو عظامٌ بِيضٌ، فركَّب الله تعالى العظامَ بعضَها على بعض، ثم كساها اللحم
فعلنا ذلك - الإحياء - لتُعاين ما ابتعدته من الإحياء بعد دهر طويل ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾؛ أي: ولكي نجعلك علامة للناس في إحياء الموتى، وأنهم يحيون على ما يموتون لأنه مات شابًّا، وبعث شابًّا، وعبرة للناس؛ لأنه كان ابن أربعين سنة حين أماته الله، وابنُه ابنُ مئة وعشرين سنة حين بعثه الله. وقيل: إنه أتى قومه راكبًا حماره وقال: أنا عزير. فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه، ولم يحفظها أحد قبله، وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخًا وهو شاب.
﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ﴾؛ أي: عظام الحمار، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم ﴿كَيْفَ نُنشِزُهَا﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي المنقوطة؛ أي: كيف نرفع بعضها على بعض، ونركبه عليه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ﴿ننشرها﴾ بالراء المهملة؛ أي: كيف نحييها ونخلقها؟ مِنْ أنشر الله الموتى إذا أحياهم. وروى أبان عن عاصم ﴿نَنْشُرُها﴾ بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الشين والراء، من نشَرَ بمعنى: أَحْيَا وهي قراءة شاذة، وقرأ أُبي شذوذًا: ﴿كيف ننشيها﴾ بالياء؛ أي: نخلقها، وقال بعضهم: العظام لا تحيى على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، فالزاي أولى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء. ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا﴾؛ أي: العظام ﴿لَحْمًا﴾؛ أي: ننبت عليها العصب والعروق واللحم والجلد والشعر، ونجعل فيه الروح بعد ذلك. والمعنى: ثم نستر العظام باللحم كما يستر الجلد باللباس.
وفي الآية (١): تقديم وتأخير، تقديره: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها، ولنجعلك آية للناس ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾؛ أي: فلما اتضح له عيانًا ما كان استغربه أولًا من إحياء القرية، ورآه عيانًا في نفسه ﴿قَالَ﴾ عُزيرٌ ﴿أَعْلَمُ﴾ علم (٢) مشاهدة بعد العلم اليقيني الحاصل بالفطرة والأدلة العقلية {أَنَّ اللَّهَ عَلَى
(٢) الجمل.
٢٦٠ - ﴿و﴾ اذكر يا محمَّد قصة ﴿إذ قال إبراهيم﴾ الخليل عليه السلام؛ أي: طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ سأله عن إراءَة كيفية الإحياء مع إيمانه الجازم بالقدرة الربانية، فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان.
قال الحسن (٣) والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج: سبب سؤاله: أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر، وقد توزعها دواب البحر والبر، فإذا مدَّ البحر.. أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر.. جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت السباع.. جاءت الطيور، فأكلت وطارت، فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها، وقال: يا رب، إني قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطيور وأجواف الدواب، فأرني كيف تحييها؛ لأعاين ذلك، فأزداد يقينًا، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾؛ أي: أتسالني عن ذلك، لم توقن وتصدق بقدرتي على الإحياء. ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿بَلَى﴾ يا رب آمنت وصدقت أنك ﴿قادر﴾ على الإحياء، وليس سؤالي لعدم إيماني بذلك ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾؛ أي: ولكن سألتك عن ذلك؛ ليوقن قلبي ويزداد طمأنينةً وبصيرةً بمُضامَّةِ العِيان إلى الوحي والاستدلال، أو سألتك لتسكن حرارة قلبي، وأعلم بأني خليلك مجاب الدعوة والمطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضروريًّا.
(٢) النهر.
(٣) مراح وخازن.
﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ﴾؛ أي؛ ضع على كل جبل من الجبال التي بحضرتك؛ أي: على أربعة أجبل من الجبال التي بقربك ﴿مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾؛ أي: جزءًا من لحومهن المجزأة. وقرأ الجمهور ﴿جُزْءًا﴾ بإسكان الزاي وبالهمزة، وضم أبو بكر شعبة الزاي فقرأ: ﴿جزُءا﴾. وقرأ أبو جعفر ﴿جزّا﴾ بحذف الهمزة وتشديد الزاي؛ أي: جزِّىء لحومهن، وفرقهن على رؤوس الجبال ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ﴾؛ أي: نادهن بأسمائهن، وقيل لهن: تعالين بإذن الله تعالى: ﴿يَأْتِينَكَ﴾؛ أي: يجئن إليك مشيًا أو طيرانًا ﴿سَعْيًا﴾؛ أي؛ حالة كونهن ساعيات مسرعات إليك في مشيهن، أو طيرانهن. وقيل معنى: ﴿يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾؛ أي: مشيًا سريعًا ولم تأتِ طائرة ليتحقق أن أرجلهن سليمة في هذه الحالة. ﴿وَاعْلَمْ﴾ يا إبراهيم ﴿أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب على جميع الممكنات، لا يعجزه شيء عما يريده ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره وصنعه، عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء. روي أنه عليه السلام أمر بذبحها، ونتف ريشها، وتقطيعها جزءًا جزءًا، وخلط دمائها
الإعراب
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾.
﴿أَلَمْ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري التعجبي ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة مستأنفة ﴿إِلَى الَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تر﴾. ﴿حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ﴿فِي رَبِّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿حَاجَّ﴾. ﴿أَنْ آتَاهُ﴾: ﴿أَنْ﴾: مصدرية. ﴿آتَاهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿الْمُلْكَ﴾ مفعول ثانٍ، والجملة صلة ﴿أَنْ﴾ المصدريةُ ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة تقديره: لأجل إيتاء الله إياه الملك، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿حَاجَّ﴾.
﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بـ ﴿حَاجَّ﴾. ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل جر مضاف إليه ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتَ ﴿رَبِّيَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿الَّذِي﴾: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿يُحْيِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة له. ﴿وَيُمِيتُ﴾: معطوف على ﴿يُحْيِي﴾.
﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نمروذ اللعين، والجملة
إحداهما: لغة تميم وهي إثبات أَلِفِه وصلًا ووقفًا.
والثانية: إثباتها وقفًا، وحذفها وصلًا. وقيل بل ﴿أَنَا﴾ كله ضمير، وفيه لغات: أنا، وأنْ؛ كلفظ أنْ الناصبة وآن، وكأنه قدم الألف على النون فصار آن مثل آن، المراد به: الزمان، وقالوا: آنه، وهي هاء السكت، لا بدل من الألف. اهـ "سمين". وجملة ﴿أُحْيِي﴾: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول ﴿وَأُمِيتُ﴾: معطوف على أحي.
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾.
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ وإنْ شئت قلت: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ﴾. الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أَفْصَحت عن شرطٍ مقدَّرٍ تقديره: إذا كنت قادرًا كقدرة الله.. فأقول لك: ﴿إن الله﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿يَأْتِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ ﴿بِالشَّمْسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَأْتِي﴾ وجملة ﴿يَأْتِي﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ تقديره: فإن الله آتٍ بالشمس، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿مِنَ الْمَشْرِقِ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتِي﴾ أيضًا ﴿فَأْتِ بِهَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿ائت﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على الكافر اللعين. ﴿بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾: كلاهما متعلق بـ ﴿ائت﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة إن على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾.
﴿فَبُهِتَ﴾: الفاء: حرف عطف وتقريع. ﴿بهت الذي﴾: فعل وفاعل،
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على الله. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾.
﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل وتخيير في التعجب، ﴿الكاف﴾: زائدة، ﴿الذي﴾: في محل الجر معطوف على الموصول في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مرَّ على قرية، وإنْ شئت قلت: الكاف حرف جر معنًى، ﴿إِلَى الَّذِي﴾: في محل الجر بالكاف، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ لأن حروف الجر بعضها يتقارض عن بعض، كما هو كثير في كلامهم، كما أشرنا إلى هذا الوجه الأخير في محل التفسير ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هي﴾: مبتدأ. ﴿خَاوِيَةٌ﴾: خبره، والجملة (٢) في محل النصب حال من الفاعل الذي في ﴿مَرَّ﴾، أو من ﴿قَرْيَةٍ﴾، ولكن مجيءَ الحال من النكرة إذا تأخَّرَتْ قليل، وقيل: الجملة في محل الجر صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾، ويُبعِد هذا القولَ الواوُ.
﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾.
(٢) البحر المحيط.
﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾.
﴿فَأَمَاتَهُ﴾: الفاء: عاطفة تفريعية، ﴿أماته الله﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾. ﴿مِائَةَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿أماته﴾. ﴿عَامٍ﴾ مضاف إليه. ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿بَعَثَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَمَاتَهُ﴾.
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿كَمْ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿لَبِثْتَ﴾؛ أي: كم مدة لبثت. ﴿لَبِثْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة مستأنفة ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَبِثْتُ﴾ فعل وفاعل ﴿يَوْمًا﴾: ظرف متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف بمعنى بل: التي للإضراب ﴿بَعْضَ﴾: معطوف على ﴿يَوْمًا﴾ وهو مضاف. ﴿يَوْمٍ﴾ مضاف إليه.
﴿قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: الفاء؛ عاطفة، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم ﴿تَبَيَّنَ﴾: فعل ماضٍ له متعلق به، وفاعله ضمير يعود على معلوم من السياق تقديره: فلما تبين له كيفية الإحياء التي استغربها. والجملة فعل شرط لـ ﴿لمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالَ﴾ فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة جواب ﴿لمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿لمَّا﴾ - من فعل شرطها وجوابها - معطوفة على (١) مقدَّر يقتضيه المقام تقديره: فأنشزها الله تعالى، وكساها لحمًا، فنظر إليها، فتبين له كيفية الإحياء، فلما تبين له؛ أي: اتضح له اتضاحًا تامًّا.. قال: أعلم.... الآية. ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿أَعْلَمُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، وهو خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ - من اسمها وخبرها - في تأويل مصدر سادٌّ مسد مفعولي ﴿أَعْلَمُ﴾ تقديره: أعلم قدرة الله على كلِّ شيء.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾.
﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة قصةً على قصة، أو استئنافية. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد قصة ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾. ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه
﴿قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة ﴿بَلَى﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإثبات النفي، ومدخولها محذوف تقديره: بلى آمنت. والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿لِيَطْمَئِنَّ﴾ اللام: لام كي. ﴿يطمئن﴾: فعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿قَلْبِي﴾: فاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة أن المضمرة تقديره: ولكن لاطمئنان قلبي، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: ولكن سألتك لاطمئنان قلبي، وجملة الاستدراك معطوفة
﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَخُذْ﴾ الفاء: رابطة لجواب شرط محذوف تقديره: إن أردت ذلك.. ﴿خذ﴾: فعل، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة في محل الجزم جواب لذلك الشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مع جوابه في محل النصب مقول قال. ﴿أَرْبَعَةً﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الطَّيْرِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أربعة﴾. ﴿فَصُرْهُنَّ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿صرهن﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً﴾.
﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿اجْعَلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة معطوفة على جملة ﴿صرهن﴾. ﴿عَلَى كُلِّ جَبَلٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اجعل﴾. ﴿مِنْهُنَّ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿جُزْءًا﴾؛ لأنه نعت نكرة فلما قُدِّم عليها.. نصب حالًا. ﴿جُزْءًا﴾: مفعول به لـ ﴿اجعل﴾؛ لأنه بمعنى ألقِ، فيتعدى لمفعول واحد.
﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿ادْعُهُنَّ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ اجْعَلْ﴾. ﴿يَأْتِينَكَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول. في محل الجزم بالطلب السابق ﴿سَعْيًا﴾: حال من ضمير الفاعل، أو منصوب على المصدر النوعي؛ لأنه من الإتيان؛ إذ هو إتيان بسرعة، فكأنه قيل: يأتينك إتيانًا سريعًا. ﴿وَاعْلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اعلم﴾: فعل
التصريف ومفردات اللغة
﴿حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾: يقال حاجَّةُ محاجة إذا خاصمه وجادله. من باب: فَاعَل. والمحاجة: الغالبة من الجانبين. ومعنى: ﴿حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾؛ أي: عارض حجته بمثلها، أو أتى على الحجة بما يبطلها، أو أظهر المغالبة في الحجة، ثلاثة أقوال.
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾: على صورة المبني للمفعول، ومعناه على البناء للفاعل؛ كما سبق. وفي "القاموس": والبهت: الانقطاع والحيرة. وفعلُهما كعَلِم ونَصَر وكَرُم وزَهَي. وهو مبهوت، لا باهت ولا باهيت. اهـ. ﴿كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾: وأصل القرية من قريت الماء إذا جمعته، فالقرية مجتمع الناس ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ وفي "المصباح": خوت الدار تخوى من باب: ضَرَب خَوْيًا إذا خلت من أهلها، أو سقطت. وخواء أيضًا: بالفتح والمد. وخويت خوىً من باب: تعب لغة اهـ. والعُروشُ: جمعُ عرش: وهو سقف البيت، وكذلك كل ما هيء ليُستظل به. وقيل: هو البنيان نفسه.
﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ واشتقاقه من: السَّنَه، والهاء أصلية إِن قدِّرت لامَ السَّنَه هاءً؛ لقولهم في التصغير: سُنَيْهة، وفي الجمع: سَنَهات. وقالوا: سانهتُ وأسنهت عند بني فلان، وهي لغة الحجاز. وهاء السكت إن قُدرت لام الكلمة محذوفة للجازم، وهي ألف منقلبة عن واو عندما يُجعل لام السنه المحذوف واوًا؛ لقولهم: سنيته وسنوات، واشتق من الفعل فقيل: سانيت وأسنى وأسنتْ. أبدل من الواو تاء، وقيل أصله لم يتسنن؛ أي: لم يتغير من الحمأ المسنون، فأبدلت النون الثالثة ألفًا فرارًا من كراهة اجتماع الأمثال؛ كما قالوا: تَظَنَّى أصله: تظنن.
﴿إِلَى حِمَارِكَ﴾: الحمار هو الحيوان المعروف، ويجمع في القلة على أَفْعِلة قالوا: أحمرة، وفي الكثرة على فُعُل، قالوا: حُمُر. وعلى فعيل، قالوا: حمير.
﴿كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ - بالزاي -: من أنشز الشيء إذا رفعه؛ أي: كيف نرفعها عن الأرض؟ لنركب بعضها مع بعض ونردَّها إلى أَماكنها من الجسد، فنركبها تركيبًا لائقًا بها.
﴿وننشرها﴾ - بالراء المهملة -: من أنشر الله الموتى إذا أحياهم ونشرهم، ونشر الميت إذا حيي، ولكن ليس المراد بالإحياء هنا، معناه الحقيقي الذي هو نفخ الروح؛ لقوله: ثم نكسوها لحمًا؛ أي: نسترها به كما يستر الجسد باللباس.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي﴾ وأصل أرني: أرئيني بوزن أكرمني، فحذفت الياء الأولى؛ لأن الأمر كالمضارع في الحذف، فصار أرئي، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة، فصار أَرِني بوزن أَفِني؛ فإنه حُذف منه عينه ولامه، وهي الياء.
﴿لِيَطْمَئِنَّ﴾: والهمزة في ﴿يطمئن﴾ أصلية، ووزنه يفعلل، ولذلك جاء ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ مثل: اقشعررتم. والطمأنينة مصدر: اطمأن على غير القياس، والقياس الاطمئنان، وهو السكون.
﴿أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ والطير: اسم جمع كركب، وقيل بل جمع طائر نحو: تاجر وتُجرَ. وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفف طَيّر بالتشديد، كقولهم: هيْن وميْت في هيِّن وميِّت، وقال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر طار يطير، ثم سُمِّي به هذا الجنس.
﴿فَصُرْهُنَّ﴾ وفي "المختار" صاره - من باب: قال وباع - إذا أمال إليه وقربه منه أمره بإمالتِهن إليه؛ أي: تقريبِهن منه؛ ليتحقق أوصافَهن حتى يعلم بعد الإحياء أنه لم ينتقل منها جزءٌ من موضعه الأول أصلًا، وصار الشيء إذا فعله وقطعه من بابي: قال وباع أيضًا.
البلاغة
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾: الهمزة فيه للاستفهام التعجبي التَّقْرِيْري.
﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾: التعبير بالمضارع يفيد التجدد، والاستمرار، وفي الجملة دلالةً على الاختصاص والقصر؛ لأنهم قد ذكروا أن الخبر إذا كان بمثل هذا.. دلَّ على الاختصاص. فتقول: زيد الذي يصنع كذا؛ أي: المختص بالصنع، وهنا المبتدأ والخبر كانا معرفتين، والمعنى: أنه سبحانه وحده هو الذي يحيي ويميت.
وبين كلمتي يحيي ويميت من المحسِّنات البديعية: الطباق، وكذلك بين لفظي المشرق والمغرب.
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾: التعبير بالموصول مع صلته يُشعر بالعلة، وأن سبب الحيرة هو: كفره. ولو قال: فبهت الكافر.. لَمَا أفاد ذلك المعنى الدقيق.
﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وفي نسبة الإحياء والإماتة إلى القرية مجاز بالاستعارة: إنْ أُريد بهما العمارة والخراب، ومجاز مرسل: إن أريد أهلها.. فهو من باب إطلاق المحل، وإرادة الحال على حدِ ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾. ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾؛ أي؛ نسترها به؛ كما يستر الجسد باللباس فاستعار اللباس لذلك، كما استعاره النابغة للإسلام فقال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي | حتى اكتسيتُ من الإِسلام سربالًا |
* * *
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر قصة المار على قرية، وقصة إبراهيم، وكانا من أدلِّ دليل على البعث.. ذكر هنا ما ينتفع به يوم البعث، وما يجد جدوى هناك؛ وهو: الإنفاق في سبيل الله؛ لأن ثمرة النفقة في سبيل الله، إنما
ويقال: لما ذكر المبدأ والمعاد، ودلائل صحتهما.. أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام والتكاليف، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله، وأمعن في ذلك، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي يجوز شرعًا.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لمّا شرط في الإنفاق أن لا يتبع منًّا ولا أذىً.. لم يكتفِ بذلك حتى جعل المن والأذى مبطِلًا للصدقة، ونهى عن الإبطال بهما؛ ليقوى اجتناب المؤمن لهما؛ ولذلك ناداهم بوصف الإيمان. ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين.. أعادهما هنا بالألف واللام، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة، ومعنى إبطالهما: أنه لا ثواب فيهما عند الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر فضل النفقة في سبيل الله، وحثَّ عليها، وقبَّح المنة، ونهى عنها، ثم ذكر القصد فيها من الرياء، أو ابتغاء مرضات الله.. ذكر هنا وصف المنفَق من المختار الجيد، وسواء كان الأمر في الآية للوجوب، أو للندب، والأكثرون على أن ﴿طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ هو الجيد المختار، وأن الخبيث هو الرديء.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ قيل (٢): نزلت في
(٢) واحدي.
قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ...﴾ الآية، أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر يومًا لأصحاب النبي - ﷺ -: فيم ترون هذه الآية نزلت: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾؟ قالوا: الله أعلم، قال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: لِرَجل غنيٍّ يعمل لطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل في المعاصي حتى أغرق عمله.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾ الآية.
روى (١) الحاكم والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن البراء رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا - معشرَ الأنصار - كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو، فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾ الآية.
وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: كان الناس يتيممون شر ثمارهم، فجاء رجل بتمر ردِيءٍ، فنزل القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾ الآية. وروى ابن أبي حاتم عن
التفسير وأوجه القراءة
٢٦١ - ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾؛ أي: صفة صدقات الذين يصرفون أموالهم في طاعة الله، ووجوه الخير من الواجب أو النفل كصفة حبة أخرجت ساقًا واحدًا، تشعَّب منه سبع شعب، في كل واحدة منها سنبلة ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ فجملة ما فيها من الحبوب سبع مئة، وذلك مشاهد في الذرة والدخن، بل فيهما أكثر من ذلك. هذا إن قلنا: إن في الكلام حذفًا من أوله، ويحتمل كون الحذف في آخره، والمعنى حينئذٍ: مثل الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخيرات، كمثل زارع حبة أخرجت ساقًا تشعب منه سبع شعب، في كل واحدة منها سنبلة، في كل سنبلة مئة حبة.
فإن قلتَ: هل (١) رأيت سنبلة فيها مئة حبة حتى يضرب المثل بها؟ قلتُ: ذلك غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلًا.. فضرب المثل به جائز وإنْ لم يوجد. والمعنى ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ أن جعل الله ذلك فيها. وقيل: هو موجود في الدخن. وقيل: إن المقصود من الآية: أنه إذا علم الإنسان الطالب للزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبع مئة حبة.. ما كان ينبغي له ترك ذلك، ولا التقصير فيه، فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر عند الله في الآخرة، أن لا يترك الإنفاق في سبيل الله إذا علم أنه يحصل له بالواحد عشرة ومئة وسبع مئة؛ أي: فكذلك نفقات هؤلاء تضاعف إلى سبع مئة. ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ﴾ أكثر من ذلك؛ أي: أكثر من سبع مئة. ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ لا لكل الناس بل على حسب حال المنفِقِ من الخصاصة وتعبه؛ ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب؛ أي: فالزيادة (٢) على السبع مئة لبعض الناس، بخلاف السبع مئة؛ فإنها لكل
(٢) الجمل.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ فضله، لا يضيق عليه ما يتفضل به من التضعيف ﴿عَلِيمٌ﴾ بنية المنفِق، وبمن يستحق المضاعفة، وبما يستحقه المنفق من الجزاء والثواب عليه.
٢٦٢ - ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ وهذا تقييد (١) لما قبله؛ أي: إن المضاعفة المذكورة مشروطة بعدم المن والأذى. والمعنى: الذين يصرفون أموالهم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في وجوه الخيرات واجبة كانت، أم لا. ﴿ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا﴾؛ أي: لا يعقبون ما أنفقوا ﴿مَنًّا﴾ على المنفَق عليه، وتحدثًا بما أعطى له. والمن: أن يعدد إحسانه على من أحسن إليه؛ كأن يقول له: أعطيتك كذا وكذا، فيعدد نعمه عليه، فيكدرها عليه، وهو من الكبائر، كما ثبت في "صحيح" مسلم وغيره: أن المانّ أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. وقدم المن على الأذى؛ لكثرة وقوعه، ووَسَّط كلمة ﴿لَا﴾ بينهما في قوله: ﴿وَلَا أَذًى﴾؛ للدلالة على شمول النفي باتباع كل واحد منهما؛ أي: ولا يتبعون نفقاتهم أذىً للمنفَق عليه. والأذى: هو أن يعيِّره، فيقول: كم تسأل، وأنت فقير أبدًا، ولا تكتسب، وقد بليت بك، وأراحني الله منك، وأمثال ذلك، كالعبوس في وجهه.
إذا عرفت هذا فنقول: المن: هو إظهار المعروف إلى الناس، والمن عليهم به. والأذى: هو أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم، فحرم الله تعالى على عباده المن بالمعروف، والأذى فيه، وذم فاعله.
وقال عبد الرحمن بن يزيد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلًا شيئًا، ورأيت أن سَلَامك يثقل عليه.. فلا تسلم عليه. والعرب تمدح بترك المن، وكتم النعمة، وتذم على إظهارها، والمن بها. قال قائلهم في المدح بترك المن:
زَادَ مَعْرُوْفَكَ عِنْدِي عِظَمًا | أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُوْرٌ حَقِيْر |
تَتَنَاسَاهُ كَأنْ لَمْ تَأْتِهِ | وَهُوَ فِي الْعَالَمِ مَشهُوْرٌ كَبِيْر |
أتَيْتَ قَلِيلًا ثُمَّ أَسْرَعْتَ مِنَةً | فَنَيْلُكَ مَمْنُونٌ لِذَلِكَ قَلِيْلُ |
٢٦٣ - ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾؛ أي: كلام جميل يرد به السائل، من غير إعطاء شيء ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ من المسؤول عن بذاءَة لسان الفقير ﴿خَيْرٌ﴾ للسائل ﴿مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا﴾؛ أي: يعقبها ﴿أَذًى﴾؛ أي: مَنٌّ وتعيير للسائل بالسؤال؛ لكونها مشوبة بضرر التعيير له؛ أي: هذا القول المعروف من المسؤول، والرد الجميل، والمسامحة عن بذاءة لسان السائل خيرٌ للسائل من صدقة يأخذها، ويعقبها المن والتعيير من المسؤول له. وقال الشوكاني (١): والمعنى: أن القول المعروف من المسؤول للسائل، وهو: التأنيس والترجية بما عند الله، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى. وقد ثبت في "صحيح مسلم" عنه صلّى الله عليه وآله وسلم: الكلمة الطيبة صدقة، وأن "مِنَ المعروف: أن تلقى أخاك بوجه طلق".
وما أحسن ما قاله ابن دريد:
لاَ تُدْخِلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ | فَلِخَيْرِ دَهْرِكَ أَنْ تُرَى مَسْؤُولاَ |
لاَ تَجْبَهَن بِالرَّدِّ وَجْهَ مَؤَمِّلٍ | فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولاَ |
٢٦٤ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمَّد صَلى الله عليه وآله وسلم {لَا
أحدهما: بالذي ينفق ماله رئاء الناس.
والثاني: بصفوان عليه تراب. والمعنى: لا يجد المانُّ والمؤذي ثواب صدقة؛ كما لا يوجد على الصفوان التراب بعد ما أصابه المطر الشديد. قال القاضي (١) عبد الجبار: ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمن والأذى مثلين:
فمثله أولًا: بمَنْ ينفق ماله رئاء الناس، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة مَنْ يتبعها بالمن والأذى.
ثم مثله ثانيًا: بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار، ثم إذا أصابه المطر القوي، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلًا.
قال: فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان.. فكذا المن والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريح القول في الإحباط والتكفير. انتهى.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ إلى الخير والرشاد، وفي هذه الآية: تعريض بأن كلًّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من خصائص الكفار، فلا بد للمؤمنين أن يجتنبوها.
٢٦٥ - ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، أي: وصفة الذين يصرفون أموالهم في وجوه الخير طلب رضاء الله تعالى ﴿وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: ويقينًا من قلوبهم بالثواب من الله تعالى، وتصديقًا بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا. ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾؛ أي: كمثل بستان
٢٦٦ - ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ﴾ هذه الجملة متصلة بقوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ﴾ الخ. فهو مَثَل آخر لنفقة المرائي والمانّ، والهمزة فيه للإنكار؛ أي: أيحب أحدكم أيها المراؤون في صدقاتكم. أي: لا يحب ذلك. والود: حب الشيء مع تمنيه ﴿أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾؛ أي: بستان ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ خصصهما بالذكر؛ لأنهما
والمقصود من هذا المثل: بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله، بل يقرن بها أمورًا تخرجها عن كونها موجبة للثواب، فحين يقدم يوم القيامة، وهو حينئذٍ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب.. عظمت حسرته، وتناهت حيرته. ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما بين الله تعالى لكم أمر النفقةِ المقبولة وغير المقبولة ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: الدلائل في سائر أمور الدين ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: لكي تتفكروا في أمثال
٢٦٧ - القرآن، وتفهموها وتنزلوها على المعاني المرادة منها، وتتعظوا بها. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿أَنْفِقُوا﴾؛ أي: زكوا ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾؛ أي: من جياد وخيار ما جمعتم من الذهب والفضة وعروض التجارة والمواشي. وقيل من حلالات ما كسبتم بالتجارة والصناعة. وفيه: دليل على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى: طيب وخبيث. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا
وفي الآية (١): الأمر بإنفاق الطيب، والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف: إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون: إلى أنها تعم صدقة الفرض والتطوع، وهو الظاهر. وتقديم الظرف في قوله: ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ يفيد التخصيص؛ أي: لا تخصوا الخبيث بالإنفاق، والجملة في محل نصب حال؛ أي؛ لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاقَ به، قاصرين له عليه. ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾؛ أي: والحال أنكم لا تأخذونه في معاملتكم في وقت من الأوقات. وقيل معناه: ولستم بأخذيه لو وجد تمره يباع في السوق.
وقيل: إن قوله: ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ على تقدير (٢) الاستفهام الإنكاري، و ﴿مِنْهُ﴾: متعلق بالفعل بعده، والمعنى: أمن الخبيث تنفقون في الزكاة، والحال أنكم لستم قابلي الخبيث إذا كان لكم حق على صاحبكم. ﴿إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾؛ أي: إلا بأن تساهلوا في الخبيث، وتتركوا بعض حقكم، كذلك لا يقبل الله الرديء منكم. وفي هذا دلالة على أن الفقراء شركاء رب المال، والشريك لا يأخذ الرديء من الجيد إلا بالتساهل.
وقال البراء (٣) وابن عباس والضحاك وغيرهم: معنى هذا الكلام: ولستم
(٢) مراح.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور: ﴿تُغْمِضُوا﴾ من أغمض، وجعلوه مما حذف مفعوله؛ أي: تغمضوا أبصاركم أو بصائركم. وقرأ الزهري: ﴿تُغَمِّضُوا﴾ بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم المشددة ومعناها كمعنى قراءة الجمهور. وروي عنه ﴿تَغْمِضوا﴾ بفتح التاء وسكون الغين وكسر الميم مضارع غمض، وهي لغة في أغمض. وروي عن اليزيدي: ﴿تَغمُضوا﴾ بفتح التاء وضم الميم، ومعناه: إلا أن يخفى عليكم رأيكم فيه. وروي عن الحسن؛ ﴿تغمَّضوا﴾ مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة ﴿تُغْمَضوا﴾ بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففًا، ومعناه: إلا أن يغمض لكم، وما عدا قراءة الجمهور شاذ.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ﴾ عن إنفاقكم وصدقاتكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم ﴿حَمِيدٌ﴾؛ أي: محمود على كل حال، أو مستحق للحمد على نعمه العظام. وقيل: حامد بقبول الجيد، وبالإثابة عليه.
٢٦٨ - ﴿الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: إبليس اللعين ﴿يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾؛ أي: يخوفكم بالفقر، ويخبركم بأسبابه عند الصدقة، ويقول لكم: أمسكوا أموالكم، فإنكم إذا تصدقتم.. صرتم فقراء، أو المعنى: النفس الأمارة بالسوء توسوس لكم بالفقر. والوعد: يكون في الخير، وفي الشر كما هنا. يقال: وعدته خيرًا، ووعدته شرًّا. والفقر: سوء الحال، وقلة ذات اليد. وأصله من كسر فقار الظهر. وقرىء شذوذًا: ﴿الفُقْر﴾ بالضم والسكون، و ﴿الفُقُر﴾ بضمتين، وبفتحتين. وقراءة الجمهور: ﴿الفَقْر﴾ بالفتح والسكون. ﴿وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾؛ أي: بالبخل ومنع الزكاة والصدقة؛ أي: يوسوس لكم بها، ويحسن لكم إياها، ويغريكم عليها إغراء الآمر للمأمور. والفحشاء: الخصلة الفحشاء، وهي المعاصي والإنفاق فيها، والبخل عن الإنفاق في الطاعات. ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ﴾؛ أي: سترًا لذنوبكم مكافأة على بذل أموالكم. ﴿وَفَضْلًا﴾؛ أي: خلفًا في الدنيا أفضل مما
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا". متفق عليه. وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال: قال الله تعالى: "أنفق ينفق عليك". وفي رواية: "يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة سحَّاء الليل والنهار"، وقال: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده - وفي رواية: فإنه لم يغض ما في يمينه - وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع. وفي رواية: وبيده الأخرى الفيض والقبض، يرفع ويخفض" متفق عليه.
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنفقي، ولا تحصي فيحصى عليك، ولا توعي فيوعى عليك" متفق عليه.
قوله: "ولا توعي" أي: لا تشحي فيشح الله عليك؛ أي: فيجازيك بالتَّقْتِير في رزقك، ولا يخلف عليك، ولا يبارك لك. والمعنى: لا تجمعي وتمنعي، بل أنفقي ولا تعتدي ولا تشحي.
٢٦٩ - ﴿يُؤْتِي﴾؛ أي: يعطي الله سبحانه وتعالى ﴿الْحِكْمَةَ﴾؛ أي: العلم النافع المؤدي إلى العمل الصالح ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ ويريد إيتاءَه من عباده. واختلفوا في تفسير الحكمة على أقوال كثيرة جدًّا، فقال السّدّيّ: هي النبوة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفهم بالقرآن ناسخِه ومنسوخه، مُحكمهِ ومتشابهه، عامِّه وخاصِّه، إلى غير ذلك. وقال مجاهد: الإصابة في القول. وقال مالك: الحكمة: المعرفة بدين الله، والفقه فيه، والإتباع له، إلى غير ذلك من الأقوال المتلاطمة. وقراءة الجمهور بالياء في الفِعْلين. وقرأ الربيع بن خيثم بالتاء في ﴿يُؤْتِي﴾، وفي ﴿يَشَاءُ﴾
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ﴾؛ أي: إصابة القول والفعل والرأي. قرأ الجمهور: ﴿يُؤْتَ﴾ مبنيًّا للمفعول. وقرأ يعقوب: ﴿ومن يؤتِ﴾ بكسر التاء مبنيًّا للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله. وقرأ الأعمش شذوذًا: ﴿ومن يؤته الحكمة﴾ بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول، وفاعله ضمير عائد على الله تعالى؛ أي: ومن يعطِ الحكمة ﴿فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾؛ أي؛ فقد أعطي خير الدارين ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ﴾؛ أي: ما يتفكر في الحكمة ﴿إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾؛ أي؛ إلا أصحاب العقول السليمة من الركون إلى متابعة الهوى، أو المعنى: وما يتعظ بما وعظه الله إلا ذوو العقول الكاملة، الذين عقلوا عن الله أمره ونهيه، أو: العلماء العمال. والمراد به: الحث على العمل بما تضمنت الآيُ في معنى الإنفاق.
الإعراب
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾.
﴿مَثَلُ﴾: مبتدأ، ﴿الَّذِينَ﴾ مضاف إليه، ولكن لا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين؛ ليصح الإخبار: إما في الأول تقديره: مثل نفقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة، أو في الثاني تقديره: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل باذر حبة. ﴿يُنْفِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾: مفعول به، ومضاف إليه ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور وضاف إليه متعلق بـ ﴿يُنفِقُونَ﴾، ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: مثل نفقاتهم كائن كمثل حبة، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾: فعل ومفعول به، ومضاف إليه مجرور بالفتح؛ لأنه على زنة مفاعل، وفاعله ضمير يعود على حبة، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿حَبَّةٍ﴾؛ تقديره: كمثل حبة منبِّتة سبع سنابل.
﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾.
﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر مقدم
﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية. ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُضَاعِفُ﴾: خبره، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُضَاعِفُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول المحذوف؛ تقديره: لمن يشاء. ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو عاطفة. ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿وَاسِعٌ﴾: خبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿يُنْفِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب وتراخ (١)، نظرًا للغالب من أن وقوع المن والأذى يكون بعد الإنفاق بمدة. وقيل المراد: التراخي في الرتبة، وأن رتبة عدمهما أعظم في الأجر من رتبة الإنفاق. ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُتْبِعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة
الشرط والتعليق؛ لأن هذه الجملة مفسِّرة لما قبلها، فهي كالشيء الثابت المفروغ منه، فلا تحتاج إلى تضمين تعليق. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر، أعني قوله: ﴿لَهُمْ﴾ تقديره: لهم أجرهم حالَ كونه مدخرًا لهم عند ربهم. ﴿وَلَا خَوْفٌ﴾: الواو عاطفة. ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل ليس. ﴿خَوْفٌ﴾ اسم ليس. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ على كونها خبر المبتدأ الأول، وكذا جملة قوله: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ معطوفة عليها على كونها خبرًا.
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)﴾.
﴿قَوْلٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفهُ بما بعده، والعطف عليها. ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾: معطوف عليه، وسوغ الإبتداء بها العطف، أو الصفة المقدرة؛ إذ التقدير: ومغفرة من السائل، أو من الله ﴿خَيْرٌ﴾ خبر عنهما، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ صَدَقَةٍ﴾: متعلق بخبر. ﴿يَتْبَعُهَا أَذًى﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر صفة صدقة. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿غَنِيٌّ﴾: خبر أول. ﴿حَلِيمٌ﴾ خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: يا: حرف نداء. أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه
﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿فَمَثَلُهُ﴾ الفاء رابطة لما بعدها بما قبلها جوازًا ﴿مثله﴾: مبتدأ، ومضاف إليه، والضمير عائد على المرائي. ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: صفته كائنة كصفة صفوان، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْهِ﴾: خبر مقدَّم. ﴿تُرَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الجر صفة لصفوان. ولك (١) أن ترفع ترابًا بالجار؛ لأنه قد اعتمد على ما قبله، ﴿فَأَصَابَهُ﴾ الفاء عاطفة على الجار؛ لأن تقديره: استقر عليه تراب، فأصابه وابل، وهذا أحد ما يقوي شَبَه الظرف بالفعل، ذكره أبو البقاء. ﴿أصابه وابل﴾، فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ ﴿فَتَرَكَهُ﴾ الفاء عاطفة ﴿تركه صلدًا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)﴾.
﴿وَمَثَلُ﴾ الواو استئنافية. ﴿مثل﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه، ولكن على تقدير مضاف تقديره: ومثل نفقات الذين ﴿يُنْفِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَمْوَالَهُمُ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿ابْتِغَاءَ﴾: مفعول لأجله، وهو مضاف. ﴿مَرْضَاتِ﴾: مضاف إليه، مرضات: مضاف، ولفظ الجلالة ﴿اللهِ﴾ مضاف إليه. ﴿وَتَثْبِيتًا﴾: معطوف على ابتغاء. ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَثْبِيتًا﴾: أي: لأجل الابتغاء والتثبيت، ويصح أن يكونا حالين؛ أي: مبتغين ومثبتين ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره:
(٢) الجمل.
﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾.
﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ﴾.
﴿وَأَصَابَهُ﴾: الواو حالية. ﴿أصابه الكبر﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة حال من ﴿أَحَدُكُمْ﴾ وقد مقدرة فيها. ﴿وَلَهُ﴾: الواو حالية. ﴿له﴾: خبر مقدم ﴿ذُرِّيَّةٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿ضُعَفَاءُ﴾: صفة لـ ﴿ذُرِّيَّةٌ﴾، والجملة في محل النصب حال من الهاء في ﴿أصابه﴾.
﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾.
﴿فَأَصَابَهَا﴾: الفاء عاطفة ﴿أصابها إعصار﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على صفة الجنة، قاله أبو البقاء؛ يعني على قوله: ﴿من نخيلٍ﴾ وما بعده. ﴿فِيهِ نَارٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع صفة الإعصار. ﴿فَاحْتَرَقَتْ﴾: الفاء عاطفة ﴿احترقت﴾: فعل ماضٍ، وتاء تأنيث، وفاعله ضمير يعود على ﴿جَنَّةٌ﴾، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾ على كونها صفة لـ ﴿جَنَّةٌ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: تبيينًا كائنًا كتبيين هذا المثل المذكور. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة.. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿يُبَيِّنُ﴾. ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترجٍ وتعليل، والكاف: اسمها. ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾ تقديره: لعلكم متفكرون، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب، أو الرفع صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَنْفِقُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَنْفِقُوا﴾. ﴿كَسَبْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كسبتموه. ﴿وَمِمَّا﴾: جار ومجرور معطوف على قوله: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ﴾، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: ومن طيبات ما أخرجنا لكم. ﴿أَخْرَجْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: أخرجناه. ﴿لَكُم﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجْنَا﴾. ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾: متعلق أيضًا بـ ﴿أَخْرَجْنَا﴾.
﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَيَمَّمُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْفِقُوا﴾. ﴿الْخَبِيثَ﴾ مفعول به. ﴿مِنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿تُنفِقُونَ﴾، وجملة ﴿تُنفِقُونَ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿تَيَمَّمُوا﴾، وهي حال مقدرة؛ لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه،
﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾.
﴿وَلَسْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لستم﴾: فعل ناقص، واسمه. ﴿بِآخِذِيهِ﴾: الباء زائدة في خبر ليس ﴿آخذيه﴾: خبر ﴿ليس﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿ليس﴾ مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تُغْمِضُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُغْمِضُوا﴾، وجملة ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بباء محذوفة تقديره: إلا بإغماضكم فيه، والباء المحذوفة متعلقة بـ ﴿آخِذِيهِ﴾، ومفعول الإغماض محذوف تقديره: أبصاركم؛ أي: بإغماضكم فيه أبصاركم. وجوز أبو البقاء أنْ تكون ﴿أَنْ﴾ وما في حيزها في محل نصب على الحال، والعامل فيها ﴿آخِذِيهِ﴾، والمعنى: لستم بآخذيه في حال من الأحوال إلا في حال الإغماض.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
﴿وَاعْلَمُوا﴾: الواو استئنافية. ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿غَنِيٌّ﴾: خبر أول لها. ﴿حَمِيدٌ﴾: خبر ثانٍ لها، والجملة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿علم﴾ تقديره: واعلموا كون الله غنيًّا حميدًا.
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)﴾.
﴿الشَّيْطَانُ﴾: مبتدأ. ﴿يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيْطَانُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، وجملة: ﴿يأمركم﴾ معطوفة على جملة: ﴿يَعِدُكُمُ﴾ ﴿بِالْفَحْشَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يأمركم﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
﴿يُؤْتِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، وأتى هنا بمعنى: أعطى، يتعدى إلى مفعولين. ﴿الْحِكْمَةَ﴾: مفعول أول له ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ له. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إيتاءَه ﴿وَمَنْ يُؤْتَ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُؤْتَ﴾: فعل مضارع مغيَّر الصِّيغةِ مجزوم، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ وهو المفعول الأول. ﴿الْحِكْمَةَ﴾: مفعول ثانٍ. ﴿فَقَدْ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بقَدْ. ﴿أُوتِيَ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه جوابًا لها، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ وهو المفعول الأول ﴿خَيْرًا﴾: مفعول ثانٍ. ﴿كَثِيرًا﴾؛ صفة له، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية، إما معطوفة على جملة ﴿يُؤْتِي﴾، أو مستأنفة. ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ﴾ الواو استئنافية ﴿ما﴾: نافية ﴿يَذَّكَّرُ﴾: فعل مضارع. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾: فاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَبْعَ سَنَابِلَ﴾: والسنابل: جمع سنبلة على وزن فُنْعلة، والنون فيه زائدة، والسنبلة معروفة، يدلك على ذلك قولهم: أسبل الزرعُ إذا أخرج سبله، والسبَلُ مثل السنابل واحدتها سَبَلة، مثل قَصَب وقصَبَة، ويقال: سَنْبل الزرع إذا أخرج
﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾: والأصل في مئة: مئية. يقول: مئيت القوم، إذا كملتهم مئة، ثم حذفت اللام تخفيفًا؛ كما حذفت لام يدٌ ودمٌ.
﴿وَلَا أَذًى﴾: ولام (٢) الأذى ياء، يقال: أذى يأذي أذىً مثل نصب ينصِب نصبًا. ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾: والهمزة الأولى في ﴿رِئَاءَ﴾: عين الكلمة؛ لأنه من رئى، والأخيرة بدل من الياء؛ لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة كالقضاء والدماء، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى؛ بأن تقلب ياءً فرارًا من ثقل الهمزة بعد الكسرة. وقد قرئ به كما مَرَّ، والمصدر هنا مضاف إلى المفعول، وفي "الجمل": ورئاء (٣): مصدر كقائل قئالًا، والأصل ريايًا، فالهمزة الأولى بدل من ياءٍ هي عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءِ هي لام الكلمة؛ لأنها وقعت طرفًا بعد ألف زائدة والمفاعلة في ﴿رِئَاءَ﴾ على بابها؛ لأن المرائي يُري الناس أعماله حتى يروه الثناءَ عليه والتعظيم له.
﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾: الصفوان: الحجر الكبير الأملس كما سبق، وهو جمع صفوانه، والأفصح أن يقال: جنس لا جمع، ولذلك عاد الضمير عليه بلفظ الإفراد في قوله: ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ وقيل: هو مفرد، وقيل: جمع واحدهُ صفا، ولكن جمعُ فَعَلٍ على فَعْلَان قليلٌ، وحُكي: صِفوان - بكسر الصاد - وهو أكثر في المجموع. ويقرأ بفتح الفاء، وهو شاذ؛ لأن فعلانًا شاذ في الأسماء، وإنما يجيء في المصادر؛ كالغليان كما مر.
﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾: التراب معروف، ويقال: فيه توراب. وتَرِب الرجل: افتقر.
وأترب: استغنى، الهمزة فيه للسلب؛ أي: زال عنه التراب وهو الفقر، وإذا زال
(٢) عكبري.
(٣) جمل.
﴿فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾: وألف ﴿أصابه﴾ بَدَلٌ من واو؛ لأنه من: صاب يصوب كقال يقول. وفي "المصباح": وبلت السماء وبلًا من باب: وعد وبولًا: اشتد مطرها، وكان الأصل: وبل مطر السماء، فحذف للعلم به، ولهذا يقال للمطر: وابل.
فائدة: المطر أوله رشٌّ، ثم طشٌّ، ثم طلٌّ، ثم نضح، ثم هطل، ثم وبل.
﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾ وفي "المختار": حجر صلد؛ أي: صُلْبٌ أملس، وصلد الزند - من باب: جلس - إذا صوَّت، ولم يخرج نارًا، وأصلد الرجل: صلد زنده، ويقال أيضًا: صلِد بكسر اللام يصلَد بفتحها.
﴿طل﴾: الطل: المستدق من القطر الخفيف، وفي "الصحاح": الطل أضعف المطر، والجمع: طلال، يقال: طلت الأرض، وهي مطلول.
﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ ونخيل فيها قولان:
أحدهما: أنه اسم جمع واحدهُ نخلة.
والثاني: أنه جمع نخل الذي هو اسم جنس، والأعناب جمع عنبٍ الذي هو اسم جنس واحدهُ عنبة، والعنب تمر الكرم، وقال الراغب: سمي النخل؛ لأنه منخول الأشجار وصفوها، وذلك أنه أكرم ما ينبت؛ لكونه مشبهًا للحيوان في احتياج الأنثى للذكر، وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر. ﴿يَعِدُكُمُ﴾ أصله: يوعدكم، فحذفت الواو؛ لوقوعها بين عدوتيها الياء والكسرة ﴿يَذَّكَّرُ﴾ أصله: يتذكر فأبدلت التاء ذالًا؛ لتقرب منها فتدغم.
البلاغة
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾: فيه مجاز بالحذف؛ لأنه لا بدَّ من تقدير مضاف في أحد الجانبين؛ أي: مثل نفقاتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة.
﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾: شبّه سبحانه وتعالى النفقة التي تنفق في سبيله بحبة أنبتت سبع سنابل، فأصبحت سبع مئة حبة، ففيه تشبيه مرسل مجمل؛ لذكر أداة التشبيه،
﴿أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾: وإسناد الإنبات إلى الحبة إسناد مجازي، ويسمى: المجاز العقلي؛ لأن المنبِت في الحقيقة هو الله تعالى، وإنما نسب الإنبات إليها؛ لأنها كانت سببًا له كما يُنسب ذلك إلى الأرض والماء. ﴿مَنًّا وَلَا أَذًى﴾: من باب ذِكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول؛ لأن الأذى يشمل المن، وفي توسيط كلمة ﴿لا﴾ دلالة على شمول النفي.
﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...﴾ الآية. وفي تكرير الإسناد، وتقييد الأجر بقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ من التأكيد والتشريف ما لا يخفى، وفي إخلاء الخبر من الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها إيذانٌ بأن ترتب الأجر على ما ذكر من الإنفاق، وترك اتباع المن والأذى أمرٌ بَيِّنٌ، لا يحتاج إلى التصريح بالسببية.
﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾: وهذه الجملة تذييل (٢) لما قبلها، مشتملة على الوعد والوعيد، مقرِّرةٌ لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعًا.
﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ فيه تشبيه تمثيلي؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدّد، وكذلك يوجد تشبيه تمثيلي في قوله: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾: وهذه الجملة تذييل (٣) مقرِّر لمضمون ما قبلها، وفيها تعريض بأنَّ كلًّا من الرياء، والمن والأذى على الإنفاق من خصائص
(٢) جمل.
(٣) جمل.
﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ...﴾ الآية. لم يذكر المشبه، ولا أداة التشبيه، وهذا النوع يسميه البيانيون استعارة تمثيلية، وهي تشبيه حال بحال لم يذكر فيه سوى المشبَّه به فقط، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه. والهمزة للاستفهام الإنكاري، والمعنى على النفي والتبعيد؛ أي: ما يود أحد ذلك.
﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾: هذا مؤكِّد للأمر؛ إذ هو مفهوم من قوله: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وفي هذا طباقٌ بذكر الطيبات، والخبيث.
﴿إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ في الكلام مجاز مرسل واستعارة؛ إذ الإغماض في اللغة: غمض البصر، وإطباق الجفن. والمراد هنا: التجاوز والمساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره.. أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك.
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ﴾: وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها؛ لكونها في جملة أخرى، وللاعتناء بها، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها ظاهرةٌ؛ لما فيها من بيان أمر كلي شامل لجميع أفراد النفقات، وما في حكمها من النذور، بعد ما بيّن ما كان منها في سبيل الله تعالى. ولا تزال الآيات تتحدَّث عن الإنفاق في وجوه البر والخير، وأعلاها: الجهاد في سبيل الله، والإنفاق لإعلاء كلمة الله، وتُرغِّب في إخفاء الصدقات؛ لأنها أبعد عن الرياء.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى قوله: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ الآية. اقتضى أنه ليس أحد آتاه الله الحكمة، فانقسم الناس من مفهوم هذا قسمين: من أتاه الله الحكمة فهو يعمل بها، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال، فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم، بل الهداية، وإيتاء الحكمة. إنما ذلك إلى الله تعالى ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية، ولينبه على أنهم وإنْ لم يكونوا مهتدين تجوز الصدقة عليهم.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا...﴾ الآية، قال (١) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا الحسين بن زياد المحاربي: أخبرنا موسى بن عمير عن عامر الشعبي في قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا...﴾ الآية، قال: أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أمّا عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلفت وراءك يا عمر؟ قال: خلفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكر: فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ فقال: عدة الله وعدة رسوله، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقًا.
قال ابن كثير: وإنما أوردنا هذا الحديث ها هنا لقول الشعبي: إن الآية نزلت في ذلك.
قوله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...﴾ روى (٢) النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا عن ذلك، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ...﴾ إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل أهل دين.
(٢) لباب النقول.
وفي رواية عنه قال: لمّا نزل: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بعث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بدنانير كثيرة إلى أهل الصفة، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الليل بوَسَق من تمر، فأنزل الله فيهما: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ يعني بنفقة الليل نفقة علي، وبالنهار نفقة عبد الرحمن.
التفسير وأوجه القراءة
٢٧٠ - ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ﴾ أي: أديتم وبذلتم أيها المؤمنون ﴿مِنْ نَفَقَةٍ﴾؛ أي: نفقة كانت في حق أو باطل، سرًّا أو علانية، قليلة كانت أو كثيرة. ﴿أَوْ﴾ ما ﴿نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ﴾؛ أي: نذر كان في طاعة أو معصية، بشرط أو بغير شرط، متعلقًا بالمال أو بالأفعال؛ كالصيام والحج فوفيتم به. والنذر: أن يوجب الإنسان على نفسه شيئًا ليس بواجب بأصل شرعي ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُهُ﴾؛ أي: يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فيجازيكم عليه، وإنما قال (٢): ﴿يَعْلَمُهُ﴾ ولم يقل: يعلمهما؛ لأنه ردَّ الضمير على الآخر منهما، فهو كقوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾. وقيل: إن الضمير عائد على ما في قوله: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ﴾؛ لأنها اسم، فهو كقوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ ولم يقل: بهما. وقيل: إنما أفرد الضمير؛ لكون العطف بأو، وإذا كان العطف بأو.. كان الضمير مفردًا؛ لأن المحكوم عليه هو أحدهما. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي للواضعين للنفقات أو النذور في غير موضعها بالإنفاق، والنذر
(٢) الخازن.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من نذر أن يطيع الله.. فليطعه، ومن نذر أن يعص الله. فلا يعصه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من نذر نذرًا لم يسمه.. فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية.. فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه.. فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا فأطاقه.. فليَفِ به". أخرجه أبو داود.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم". أخرجه النسائي.
٢٧١ - ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾؛ أي: إن تظهروا أيها المؤمنون إعطاء ﴿الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾؛ أي: فنعم شيئًا إبداؤها وإظهارها، ولم يكن رياء ولا سمعة. وقيل (١): فنعمت الخصلة هي. وقيل: فنعم الشيء هي. والصدقات: جمع صدقة، والصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربى، فيدخل فيه الزكاة الواجبة، وصدقة التطوع. وقرأ ابن عامر (٢) وحمزة والكسائي وخلف هنا، وفي النساء: ﴿فَنِعِمَّا﴾ بفتح النون وكسر العين، وهذه القراءة على الأصل؛ لأن الأصل في نَعِمَ أن يكون على وزن: فَعِل كعلم. وقرأ ابن كثير وورش وحفص ﴿فَنِعِمّا﴾ بكسر النون والعينِ، وإنما كسرت النون إتباعًا لكسرة العين، وهي لغة هذيل. قيل: وتحتمل قراءة كسر العين على أن يكون أصل العين السكون، فلما وقعت ﴿ما﴾ بعدها، وأدغمت ميم ﴿نعم﴾ فيها.. كُسرت العين لالتقاء الساكنين. اهـ "سمين". وقال الشوكاني: وقرىء بفتح النون وكسر العين،
(٢) الجمل.
﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا﴾؛ وإن تسروا الصدقات ﴿وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ﴾؛ أي؛ وتعطوها الفقراء في السر ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: أفضل من إبدائها وإيتائها الأغنياء؛ أي: وإن (١) تخفوها وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم. وقد ذهب جمهور المفسرين: إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لا في صدقة الفرض، فلا فضيلة للإخفاء فيها، بل قد قيل: إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة: إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوع.
وعبارة "الخازن" هنا يعني: أن إخفاء الصدقة أفضل من العلانية، وكلٌّ مقبول إذا كانت النية صادقة، واختلفوا في المراد بالصدقة المذكورة في الآية فقال الأكثرون: المراد بها: صدقة التطوع. واتفق العلماء على أن كتمان صدقة التطوع أفضل، وإخفاءها خير من إظهارها؛ لأن ذلك أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص؛ ولأن فيه بعدًا عما تؤثره النفس من إظهار الصدقة، وفي صدقة السر أيضًا فائدة ترجع إلى الفقير الآخذ، وهي أنه إذا أُعطي في السر.. زال عنه الذل والانكسار، وإذا أُعطي في العلانية.. يحصل له الذل والانكسار. انتهت.
ويدل على أن صدقة السر أفضل، ما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله تعالى... " الحديث، وفي آخره: "ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
ووجه جواز إظهار الصدقة (٢) يكون ممن قد أمن على نفسه من مداخلة الرياء في عمله، أو يكون ممن يُقتدى به في أفعاله، فإذا أظهر الصدقة تابَعه غيره
(٢) الخازن.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة ويعقوب وعاصم في رواية أبي بكر (١): ﴿نكفر﴾ بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعمش وأبو جعفر وخلف: ﴿ونكفرْ﴾: بالنون والجزم؛ أي: ونكفرْ عنكم شيئًا من ذنوبكم بقدر صدقاتكم. وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص: ﴿ويكفرُ﴾ بالياء والرفع، والمعنى: يكفر الله، أو يكفر الإخفاء. وقرىء قراءة شاذة: بالتاء الفوقية، وبالرفع والجزم، والفاعل راجع للصدقات. وقرأ ابن عباس شذوذًا ﴿تُكفَر﴾: بالتاء الفوقية وفتح الفاء والجزم. وقرأ الحسين بن علي الجعفي شذوذًا أيضًا ﴿نكفَر﴾: بالنون ونصب الراء.
وقال أبو حيان (٢): قرأ الجمهور بالواو في: ﴿وَيُكَفِّرُ﴾ وقرأ غيرهم بإسقاطها، وبالياء، والتاء، والنون، وبكسر الفاء، وفتحها، وبرفع الراء، وجزمها، ونصبها. فإسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش شذوذًا، ونقل عنه أنه قرأ بالياء، وجَزمَ الراء وهو شاذ أيضًا. ووجهه: أنه بدل على الموضع من قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ لأنه في موضع جزم، وكأن المعنى يكن لكم إخفاء خيرًا من الإبداء، أو على إضمار حرف العطف؛ أي: ويكفر. انتهى. ومن قرأ بالنصب.. فعلى تقدير: أن. قال سيبويه: والرفع ها هنا هو الوجه الجيد. ﴿وَاللَّهُ﴾
(٢) البحر المحيط.
٢٧٢ - ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد ﴿هُدَاهُمْ﴾؛ أي: هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإِسلام، فتصدق عليهم لوجه الله تعالى، ولا توقف ذلك على إسلامهم، فلا يجب عليك أن تجعلهم مهتدين، وإنما عليك البلاغ والإرشاد والحث على المحاسن، والنهي عن القبائح، كالمن والأذى وإنفاق الخبيث. فأعلمه الله تعالى أنه إنما بعث بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، فأما كونهم مهتدين: فليس ذلك عليك. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: ولكن الله تعالى يوفق من يشاء هدايته، فيهديه إلى الدخول في الإِسلام. وأراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، وأما هداية البيان والإرشاد والدعوة: فكانت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. فلما نزلت هذه الآية.. أعطَوهُم وتصدقوا عليهم. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا﴾؛ أي: أيُّ شيءٍ تصرفونه في وجوه الخير كالفقراء وغيرهم ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾؛ أي: من مال ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: فثوابه لأنفسكم، لا ينتفع به في الآخرة غيرها، وحينئذٍ فلا تمنوا عليه إن أعطيتموه، ولا تؤذوه بالتطاول عليه، ولا تنفقوا من الخبيث، أو المعنى: وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير، ولو على كافر فإنما هو يحصل لأنفسكم ثوابه، فلا يضركم كفرهم ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: والحال أنكم لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله تعالى، وطلب رضوانه، أو المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله تعالى، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم، وسد خلة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾؛ أي: من مال على الفقراء ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: يوفر ويعط لكم ثواب ذلك في الآخرة، والضمير في ﴿يُوَفَّ﴾ عائد على ﴿ما﴾. ومعنى تَوفيَتِه: إجزال ثوابه ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنكم لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئًا،
٢٧٣ - فُلوَّه أو فَصِيلَهُ حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحد". وقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ذلك الإنفاق المحثوث عليه مصروف للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد في سبيل الله، أو للفقراء الذين صفتهم كذا وكذا حق واجب.
نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش (٢)، وكانوا نحو أربع مئة، وهم أصحاب الصفة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد، ويتعلمون القرآن، ويصومون، ويخرجون في كل غزوة ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لا يقدرون سيرًا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ولا سفرًا فيها لطلب المعاش، ولا يتفرغون لطلبها، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد، فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لخوفهم من الأعداء، كما قاله قتادة وابن زيد؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة وكانوا متى وجدوهم قتلوهم، فذلك يمنعهم من السفر، وإمَّا لمَرضهم بالجروح، كما قاله سعيد بن المسيب رضي الله عنه، فحث الله تعالى الناس على الإنفاق عليهم، فكان مَن عنده فَضْل أتاهم به إذا أمسى.
﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ بحالهم؛ أي: يظنهم من لم يختبر أمرهم ﴿أَغْنِيَاءَ﴾ غير محتاجين ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾؛ أي: لأجل تحفظهم عن مسألة الناس وتركها، وإظهارهم التجمل. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: ﴿يحسَبهم﴾ - بفتح السين من
(٢) المراح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّآل الملحف الذي إن أعطي كثيرًا أفرط في المدح وإن أعطي قليلًا أفرط في الذم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وعن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أم منعوه". رواه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خُموش - أو خدوش أو كدوح - قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾؛ أي: من مال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، فيجازيكم عليه أحسن جزاء؛ يعني: أن الله تعالى يعلم مقادير الإنفاق، ويجازي عليها، ففيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة، خصوصًا على هؤلاء الفقراء.
٢٧٤ - ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ في الصدقات ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ حالان؛ أي: مسرين ومعلنين؛ أي (١): الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله ابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل ونهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهر، ويعممون جميع الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج.. عجّلوا قضاءها ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقت ولا حال، وهذا شروع في بيان صفة الصدقة ووقتها، فصفتها: السر والعلانية، ووقتها:
ولعل تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية؛ للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار. قيل: نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة آلاف بالليل، وعشرة آلاف بالنهار، وعشرة آلاف بالسر، وعشرة آلاف بالعلانية. وقيل: غير ذلك كما سبق. وكون ما ذكر سببًا لنزولها لا يقتضي خصوص الحكم به، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالآية عامة في الذين ينفقون أموالهم في جميع الأوقات، ويعمون بها أصحاب الحاجات والفاقات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا وتصديقًا بوعده.. كان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة". يعني: حسنات. أخرجه البخاري.
﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ خبر للموصول، وأتى بالفاء للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، أو لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه؛ أي: فلهم جزاء أعمالهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في الجنة ﴿وَلَا خَوْفٌ﴾ في الآخرة ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما فاتهم في الدنيا.
الإعراب
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠)﴾.
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: شرطية في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَنْفَقْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ ﴿مِنْ نَفَقَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْفَقْتُمْ﴾، أو متعلق بمحذوف حال من
أمَنْ يَهْجُوْ رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ | وَيَمْدَحُهُ وَينصُرُهْ سَوَاءُ؟! |
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة جامدية. ﴿نِعْمَ﴾: فعل ماضٍ من أفعال المدح، وفاعله ضمير مستتر تقديره: هو يعود على الشيء المبهم. ﴿ما﴾: نكرة تامة في محل النصب تمييز لفاعل ﴿نِعْمَ﴾. ﴿هي﴾: مخصوص بالمدح خبر لمبتدأ محذوف تقديره: المخصوص بالمدح هي؛ أي: إبداء تلك الصدقات. أو ﴿هي﴾: مبتدأ، والخبر جملة ﴿نعم﴾. وجملة ﴿نعم﴾ في محل الجزم جواب
﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿تُخْفُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل الشرط، وجزمه حذف النون. ﴿وَتُؤْتُوهَا﴾: الواو عاطفة ﴿تؤتوها﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على تخفوها. ﴿الْفُقَرَاءَ﴾: مفعول ثان. ﴿فَهُوَ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿هو﴾: مبتدأ ﴿خَيْرٌ﴾ خبر. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿خَيْرٌ﴾، كما ذكره أبو حيان في "البحر" تقديره: فهو - أي: الإخفاء - خير كائن لكم، والجملة الإسمية في محل الجزم على كونها جواب الشرط، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾. ﴿وَيُكَفِّرُ﴾: الواو عاطفة. ﴿يُكفِّر﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على الله، أو على الإخفاء. ﴿عَنْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿سَيِّئَاتِكُمْ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، ويحتمل كون ﴿مِنْ﴾ تبعيضية، والمفعول محذوف تقديره: شيئًا من سيئاتكم، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ على كونها جواب الشرط. وقرىء ﴿يكفر﴾ بالجزم عطفًا على الجواب، وبالنصب على تقدير أن، والمصدر المؤول من ﴿أن﴾ معطوفٌ على ﴿خَيْرٌ﴾، والتقدير: فهو - أي الإخفاء - خير لكم، وتكفير سيئاتكم ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿الله﴾: مبتدأ ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾ الآتي. ﴿تَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. ﴿خَبِيرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.
﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماضٍ ناقص ﴿عَلَيْكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾.
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾.
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾ الواو استئنافية ﴿ما﴾: نافية ﴿تُنْفِقُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ﴾ إلا أداة استثناء مفرغ ﴿ابْتِغَاءَ﴾: مفعول لأجله، وهو مضاف. ﴿وَجْهِ﴾: مضاف إليه، وجه مضاف، ولفظ الجلالة ﴿الله﴾ مضاف إليه والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها، وهي خبرية اللفظ إنشائية المعنى قصد بها النهي، والمعنى: لا تنفقوا لغرض من الأغراض إلا لغرض ابتغاء وجه الله تعالى.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة. ﴿ما﴾: اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم ﴿تُنْفِقُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿ما﴾. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: حال من ﴿ما﴾ ﴿يُوَفَّ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿ما﴾، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، وأتت الواو حالية، أو استئنافية. ﴿أنتم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ خبره،
﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾.
﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف جوازًا؛ تقديره: الصدقات مصروفة للفقراء، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنهم لما أمروا بالصدقات.. قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا: بأنها لهؤلاء الفقراء المذكورين. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول صفة ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾. ﴿أُحْصِرُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير النائب.. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور مضاف إليه، متعلق بـ ﴿أُحْصِرُوا﴾. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾: ﴿لَا﴾: نافية ﴿يَسْتَطِيعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير النائب في ﴿أُحْصِرُوا﴾، والعامل فيه ﴿أُحْصِرُوا﴾؛ أي: أحصروا عاجزين، ويجوز أن يكون مستأنفًا. ﴿ضَرْبًا﴾: مفعول به. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿ضَرْبًا﴾، أو بمحذوف صفة لـ ﴿ضَرْبًا﴾، ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ فعل ومفعول أول وفاعل، ﴿أَغْنِيَاءَ﴾: مفعول ثانٍ. ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾: جار ومجرور متعلق، بـ ﴿يحسب﴾؛ أي: يحسبهم لأجل تعففهم. والجملة في محل النصب حال أيضًا من ضمير النائب في ﴿أُحْصِرُوا﴾، ويجوز أن يكون مستأنفًا.
﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾.
﴿تَعْرِفُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة في محل النصب حال أيضًا، أو مستأنفة. ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَعْرِفُهُمْ﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَسْأَلُونَ النَّاسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: أموالهم، والجملة في محل النصب حال، أو مستأنفة. ﴿إِلْحَافًا﴾: قال السمين: في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: نصبه على المصدر بفعل مقدر؛ أي: يلحفون إلحافًا، والجملة المقدرة حال من فاعل ﴿يَسْأَلُونَ﴾.
والثالث: أن يكون مصدرًا في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين. انتهى.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية. ﴿ما﴾: اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم. ﴿تُنْفِقُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿ما﴾، ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: حال من ﴿ما﴾. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها به متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿يُنْفِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿بِاللَّيْلِ﴾: الباء بمعنى: في، ﴿الليل﴾: مجرور بها، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾، ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على ﴿الليل﴾، ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾؛ مصدران في موضع الحال من فاعل ﴿يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: مسرين ومعلنين ﴿فَلَهُمْ﴾: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لِمَا في المبتدأ من العموم. ﴿لهم﴾: خبر مقدم. ﴿أَجْرُهُمْ﴾: مبتدأ ثانٍ ومضاف إليه ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبرٌ للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل ليس. ﴿خَوْفٌ﴾: اسمها. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ على كونها خبرًا للمبتدأ الأول. ﴿وَلَا هُمْ﴾: الواو عاطفة. ﴿لا﴾: نافية ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْزَنُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾: أصلها نعم ما، ونعم (١): فعل جامد ليس له مضارع ولا أمر ولا غيرهما. فليس من مباحث الصرفيين ما هو معلوم، ولكن نذكره هنا لأجل هذا الإدغام، فهو في الأصل من باب فَعِل المكسور كـ: علِم كما جاء في الشعر كذلك، إلا أنهم سكنوا العين، ونقلوا حركتها إلى النون ليكون دليلًا على الأصل. ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل، ومنهم من يكسر النون والعين إتباعًا. وبكل قد قرئ في المتواتر كما سبق، وفيه قراءة أخرى أيضًا وهي: إسكان العين والميم مع الإدغام. وفيه بُعْدٌ لما فيه من الجمع بين الساكنين، ولكنه متواتر فلا بعد فيه.
﴿مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾: السيئات: جمع سيئة، ووزنها: فيعلة، وعينها واو، والأصل: سيوئة، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فصار سيئة.
﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ التعفف مصدر تعفف، - من باب: تفعَّل - تعففًا إذا أعرض عن الشيء، وتركه مع القدرة على تعاطيه. ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾: السيما (٢) بالقصر: العلامة، ويجوز مدُّها، وإذا مدت.. فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق، إما واو أو ياء فهي كـ: علياء ملحقة بـ: سرداح، فالهمزة للإلحاق، لا للتأنيث، وهي منصرفة لذلك. وسيما مقلوبة قدمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقة من الوَسْم، فهي من السمة؛ أي: العلامة. فلما وقعت الواو بعد كسره قلبت ياء، فوزن سيما: عُفْلا، كما يقال: اضمحلَّ وامضحل.
﴿إِلْحَافًا﴾ الإلحاف: (٣) الإلحاح في المسألة والتمادي فيها، وهو مشتق من اللِّحافِ، سُمِّي بذلك لاشتماله على وجود الطلب في المسألة، كاشتمال
(٢) الجمل.
(٣) الشوكاني.
البلاغة
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ﴾ بين ﴿أَنْفَقْتُمْ﴾ و ﴿نَفَقَةٍ﴾: جناس الاشتقاق، وكذلك بين ﴿نَذَرْتُمْ﴾ و ﴿نَذْرٍ﴾..
﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾: فالتعبير بالعلم كناية عن المجازاة، وإلا فهو معلوم، ذكره الكرخي.
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾: فيه نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية قبله، وبيان له، ولذا ترك العطف بينهما، وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي، وكذلك بين لفظ الليل والنهار، والسر والعلانية. وهو من المحسنات البديعية.
وفي قوله: ﴿وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ﴾ طباق معنوي (١)؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الصدقات الأغنياء.
وفي قوله: ﴿هُدَاهُمْ﴾ طباق معنوي؛ إذ المعنى: ليس عليك هدى الظالمين.
وفي قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ إطناب؛ لوروده بعد قوله: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ الذي معناه يصلْكم وافيًا غير منقوص.
﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وفي هذه الآية طباق في موضعين:
أحدهما: في قوله: ﴿أُحْصِرُوا﴾ و ﴿ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾.
والثاني: في قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ و ﴿أَغْنِيَاءَ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ...﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله، وأنه يكون ذلك من طيبات ما كسب، ولا يكون من الخبيث، فذكر نوعًا غلب عليهم في الجاهلية - وهو خبيث - وهو: الربا، حتى يُمتنع من الصدقة بما كان من ربا، وأيضًا فتظهر مناسبة أخرى، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال، والربا فيه زيادة مال، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه، لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة؛ وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا، وحال من عاد إليه بعد مجيء الموعظة، وأنه كافر أثيم.. ذكر ضد هؤلاء؛ ليبين فرق ما بين الحالين.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا...﴾ أخرج (١) ابن جرير عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن ما لَهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا.. فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من ابن المغيرة، وكان بنو المغيرة يرابون لهم في الجاهلية، فجاء الإِسلام ولهم عليهم مال كثير، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإِسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عتاب، وقال: "إن رضوا، وإلا فأذنهم بحرب".
وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، وأول ربا موضوع: ربا العباس".
وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال (٢): آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ وقال: وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وثمانون يومًا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات.
(٢) الشوكاني.
٢٧٥ - ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾؛ أي: يأخذونه استحلالًا، ويعاملون به، وإنما خص الأكل؛ لأنه معظم الأمر المقصود من المال لأن المال لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، ثم يؤكل، فمنع الله التصرف في الربا بما ذكر فيه من الوعيد، ولأن الربا شائع في المطعومات.
وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: "هم سواء".
وأصل الربا في اللغة: الزيادة. يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر، فالربا شرعًا: الزيادة في المال. ومنه: ربا الفضل، وربا النسيئة. وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدَّين، قال مَنْ هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقضِ زاد مقدارًا في المال الذي عليه، وأَخَّر له الأجل إلى حين، وهذا حرام بالاتفاق.
﴿لَا يَقُومُونَ﴾ من قبورهم إذا بعثوا يوم القيامة ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾؛ أي: الجنون، فقوله: ﴿مِنَ الْمَسِّ﴾ إما متعلق بـ ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ على أن: ﴿مِنَ﴾ للتعليل، والمعنى (١): لا يقومون من قبورهم - لأجل المس والجنون والخبل الواقع بهم في الموقف - إلا قيامًا كقيام الشخص الذي يتخطبه ويصرعه ويسقطه الشيطان والجن في الدنيا إذا مسه بخبل وجنون. ومعنى الآية: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مثل المصروع المجنون، لا يستطيع الحركة الصحيحة، وذلك ليس لخلل في عقله، بل لأن الربا الذي أكله في الدنيا يربو في بطنه، فلا يقدر على الإسراع في النهوض، فإذا قام تميل به بطنه. قال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا يوم القيامة إذا استحله في الدنيا.
يعني: أن آكل (٢) الربا يُبعث يوم القيامة مجنونًا، وذلك كالعلامة
(٢) المراح.
وهذا على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، وفي الآية (١) دليل على فساد قول من قال: أن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم: أنه من فِعْل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح. وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مسٌّ، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كا أخرجه النسائي وغيره.
﴿ذَلِكَ﴾ العقاب الذي نزل بهم، وهو كون التخبل علامة آكل الربا في الآخرة ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾؛ أي: بسبب قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾؛ أي: (٢) إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل، كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب لا تعرف ربا إلا ذلك، وإنما شبهوا البيع بالربا مع أن الكلام في الربا، وكان مقتضاه: إنما الربا مثل البيع مبالغةً بجعلهم الربا أصلًا في الحل، والبيع فرعًا فيه. أو المعنى (٣): إنما الزيادة والربح في البيع كالزيادة في الربا؛ أي: اعتقدوا مدلول هذا القول وفعلوا مقتضاه؛ أي: ذلك العذاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوا الربا استحلال البيع، وقالوا: يجوز بيع درهم بدرهمين؛ كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين، فجعلوا الربا أصلًا في الحل، وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما، فإن من أعطى درهمين بدرهم.. ضيَّع درهمًا، ومن اشترى سلعة بدرهمين تساوي درهمًا.. فلعل مساس الحاجة إليها، أو توقع رواجها يجبرُ هذا الغُبْن.
(٢) الشوكاني.
(٣) أبو السعود.
وعبارة "الخازن": وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حلَّ ماله على غريمه فيطالبه، يقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك. وكانوا يقولون: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح، أو عند المحل لأجل التأخير، فكذبهم الله تعالى، ورد عليهم ذلك بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾؛ أي: أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء، وحرم عليكم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل؛ وذلك لأن الله تعالى خلق الخلق فهم عبيده، وهو مالكهم يحكم فيهم بما يشاء، ويستعبدهم بما يريد، ليس لأحد أن يعترض عليه في شيء مما أحل أو حرم، وإنما على كافة الخلق الطاعة والتسليم لحكمه وأمره ونهيه.
﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾؛ أي: فمن بلغته موعظةٌ من الله، وزَجْرٌ وتخويفٌ عن الربا. وإنما ذكر الفعل؛ لأن الفاعل مؤنث مجازي، أو لوجود الفاصل. وقرأ أبو الحسن شذوذًا: ﴿فمن جاءته﴾ بالتاء على الأصل. ﴿فَانْتَهَى﴾؛ أي: فامتثل النهي الذي جاءه، وانزجر عن أخذه ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾؛ أي: له ما تقدم، وأكل من الربا قبل النهي، وليس عليه رد ما أخذ وسلف قبل النهي، فلا يؤاخذ به؛ لأنه أخذه قبل نزول التحريم، وأما ما لم يقضِ قبل النهي: فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط. ﴿وَأَمْرُهُ﴾؛ أي: أَمْر من عامل بالربا مفوض ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة، وصدق النية، وقيل: يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء، وليس من أمره إليكم شيء، فلا تطالبوه به.
٢٧٦ - ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾؛ أي: يذهب بركته وإن كان كثيرًا، ويهلك المال الذي دخل فيه في الدنيا. وقيل: يمحق بركته في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى لا يقبل منه صدقة، ولا جهادًا، ولا حجًّا، ولا صلة رحم. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾؛ أي: يزيدها ويثمرها، ويبارك في المال الذي أخرجت منه في الدنيا، ويضاعف أجرها في الآخرة.
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من كَسْب طيِّب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله". وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: "من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيِّب، ولا يصعد إلى الله - وفي رواية: ولا يقبل الله - إلا الطيِّب - فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل".
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ﴾؛ أي: لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين؛ يعني: يعاقبه ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾؛ أي: جاحد بتحريم الربا، أو كل مصر على كفره مقيم عليه مستحل لأكل الربا. ﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: فاجر بأخذه مع اعتقاده التحريم.
فوائد تتعلق في تحريم الربا
الأولى: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهًا:
أحدها: أن الربا يقتضي أخذ مال الغير بغير عوض؛ لأن من باع درهمًا
الوجه الثاني: إنما حرم عقد الربا؛ لأنه يمنع الناس من الاشتغال بالتجارة؛ لأن صاحب الدراهم إذا تمكن من عقد الربا.. خَفَّ عليه تحصيل الزيادة من غير تعب ولا مشقة، فيفضي ذلك إلى انقطاع منافعِ الناس بالتجارات وطلب الأرباح.
الوجه الثالث: أن الربا هو سبب إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، فلما حرَّم الربا طابت النفوس بقرض الدراهم للمحتاج، واسترجاع مثله لطلب الأجر من الله تعالى.
الوجه الرابع: أن تحريم الربا قد ثبت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بتحريم الربا وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في ذلك.
الثانية: اعلم أن الربا في اللغة: هو الزيادة. وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام، فثبت أن الزيادة المحرمة هو: الربا، وهو على صفة مخصوصة في مال مخصوص بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الذهب بالوَرِق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، وفي رواية: الوَرِق بالوَرِق ربًا إلا هاء وهاء، والذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء" متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل، فمن زاد واستزاد.. فقد أربى، وفي رواية: التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد واستزاد.. فقد أربى إلا ما اختلف ألوانه" أخرجه مسلم.
الثالثة: الربا نوعان: ربا فضل: وهو الزيادة، وربا نسيئة: وهو الأجل. فإن باع ما يدخل فيه الربا بجنسه؛ كأن باع الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة.. اشترط في صحة العقد ثلاثة شروط: التقابض، والحلول، والتماثل بمعيار الشرع. فإن كان موزونًا كالذهب فبالوزن، وإن كان مكيلًا كالحنطة والشعير فبالكيل، فإن باع ما يدخل فيه بغير جنسه.. ففيه تفصيل، فإن باع بما لا يوافقه في وصف الربا وعلته؛ كان باع مطعومًا بأحد النقدين.. فلا ربا فيه؛ كما لو باعه بغير مال الربا.
وإن باعه بما يوافقه في علة الربا ووصفه، لا في الجنس؛ كأن باع الدراهم بالدنانير، أو الحنطة بالشعير.. فلا يثبت فيه ربا التفاضل، فيجوز بيعه متفاضلًا، ويثبت فيه ربا النسيئة، فيشترط في صحة بيعه أمران: التقابض، والحلول.
واختلفوا في علة الربا في النقود والمطعومات على أقوال كثيرة، والراجح منها: أن علة الربا في النقود: كونها قيم الأشياء وثمنها، وفي المطعومات: الطعم كما هو مقرر في محله.
٢٧٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ ورسله وكتبه وبتحريم الربا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: فيما بينهم وبين ربهم، وتركوا الربا ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: أتموا الصلوات الخمس بما يجب فيها من الأركان والشروط ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾؛ أي: أعطوا زكاة أموالهم. نص عليهما وإن كانا داخلين في قوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ لعظم شأنهما ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾؛ أي: أجر أعمالهم وثوابها ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في الآخرة ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من مكروه آتٍ ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على محبوب فات.
٢٧٨ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: اخشوا الله في الربا، وقوا أنفسكم عقابه. ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾؛ أي: اتركوا طلب ما بقي لكم من الربا والزيادة
قيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة. كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناسٍ من ثقيف، فجاء الإِسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية.
٢٧٩ - ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أيها المؤمنون ما أمرتم به من التقوى، وترك بقايا الربا، وعدم الفعل، إما مع إنكار حرمة الربا.. فحربهم حينئذٍ حرب المرتدّين، وإما مع اعتقاد حرمتها.. فحربهم حرب البُغاة ﴿فَأْذَنُوا﴾؛ أي: فاعلموا ﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ لكم ﴿وَرَسُولِهِ﴾؛ أي: فاستعدوا للعذاب من الله في الآخرة بالنار، وللعذاب من رسوله في الدنيا بالسيف. قرأ الجمهور: ﴿فَأْذَنُوا﴾ بفتح الذال مع القصر؛ أي: فاعلموا أنتم، وأيقنوا بحربهما لكم. وهو من أذن الثلاثي. يقال أذن بالشيء: إذا علم به. وقرأ حمزة وأبو بكر شعبة عن عاصم ﴿فآذِنوا﴾ بالمد وكسر الذال، أمر من: آذن الرباعي على معنى: فاعلموا غيركم أنكم على حربهما وقيل المعنى: فاعلموا أيها المؤمنون من لم ينتهِ عن ذلك بحرب من الله ورسوله. وقرأ الحسن شذوذًا: ﴿فأيقنوا بحرب﴾ وتقوي قراءة الحسن هذه قراءةُ الجمهور بالقصر. وقد دل هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك. وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيمًا نسبتها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ من معاملة الربا، وتركتموها ورجعتم عنها ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾؛ أي: أصولها دون الزيادة ﴿لَا تَظْلِمُونَ﴾ الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾؛ أي: بنقصان رأس المال وبالمطل. فلما (١) نزل هذه الآية.. قال بنو عمرو الثقفي، ومن كان يعامِل بالربا من غيرهم: بل نتوب إلى الله، فإنه لا يُدان لنا؛ يعني: لا قوة لنا بحرب الله ورسوله، ورضوا برؤوس أموالهم، فشكا بنو المغيرة العسرة، ومن كان عليه
٢٨٠ - وجلّ: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾؛ أي: وإن وجد من غرمائكم غريم ذو عسرة؛ أي: غريم صاحب إعسار وعجز عن أداء الحق الذي عليه ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾؛ أي: فإنظاره وإمهاله إلى وقت يساره، وقدرته على أداء حقكم واجبٌ عليكم أيها الدائنون، لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه: إما أن تقضي، وإما أن تربي. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾؛ أي: وتصدقكم على المعسر برؤوس أموالكم بالإبراء منها ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من التأخير والأخذ؛ لأنه يحصل لكم الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فضل التصدق على الإنظار والقبض فافعلوه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾ بالواو: على أن ﴿كَانَ﴾ تامة. وروي عن أُبي وابن مسعود وعثمان وابن عباس: ﴿ذا عسرة﴾ بالألف على أن ﴿كَانَ﴾ ناقصة. وقرأ الأعمش: ﴿وإن كان معسرا﴾. وقرىء: ﴿ومن كان ذا عسرة﴾، وهي قراءة أبان بن عثمان، وحكى المهدوي: أن في مصحف عثمان ﴿فإن كان﴾ بالفاء وما عدا قراءة الجمهور شاذ.
وقرأ الجمهور: ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ بوزن: نَبِقَة. وقرأ أبو رجاء ومجاهد والحسن والضحاك وقتادة: ﴿فنظْرة﴾ بسكون الظاء وهي لغة تميمية. يقولون في كَبِد: كَبْد. وقرأ عطاء: ﴿فناظرة﴾ على وزن فاعلة، وخرَّجه الزجّاج على أنه مصدر كقوله: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾، وقال: قرأ عطاء ﴿فناظرة﴾ بمعنى: فصاحب الحق ناظرهُ؛ أي: منتظرهُ، وعنه: ﴿فناظِرْهُ﴾ بصيغة الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها. انتهى. وقرأ عبد الله: ﴿فناظروه﴾؛ أي: فأنتم منتظروه، فهذه ست قراءات كلها شاذة عدا قراءة الجمهور. ومن جعله اسم مصدر أو مصدرًا.. فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالأمر أو الواجب على صاحب الدِّيْن نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة في فضل إنظار المعسر، والوضع عنه، وتشديد أمر الدَّين والأمر بقضائه
وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أنه طلب غريمًا له، فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر، قال: الله الله! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة.. فلينفِّس عن معسر، أو يضع عنه". أخرجه مسلم.
وعن أبي اليسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه.. أظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله". أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرًا.. قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه". متفق عليه.
وعن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها.. أدَّى الله عَزَّ وَجَلّ عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها.. أتلفه الله". أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مطل الغني ظلم". زاد في رواية: "وإذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع". متفق عليه.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دَينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى فقال: "يا كعب"، قلت: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده: أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال: "قم فأقضه". متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجلٍ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سِنٌّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه فقال: "أعطوه"، فطلبوا سِنَّهُ فلم يجدوا إلا سِنًّا فوقها، فقال: "أعطوه"، فقال: أوفيتني وفَّاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن خيركم أحسنكم قضاءً". وفي رواية: أنه أغلظ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استقضاه حتى همَّ به بعض أصحابه، فقال: "دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا"، ثم أمر له بأفضل من سنه. متفق عليه.
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله.. تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وعن محمَّد بن جحش رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع يده على جبهته، ثم قال: "سبحان الله ماذا نزل من التشديد!! " فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد.. سألته: يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: "والذي نفسي بيده لو أن رجلًا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قُتل، ثم أحيي، وعليه دين.. ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه". أخرجه النسائي.
٢٨١ - ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾؛ أي: وخافوا عذاب يوم ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: تردون فيه إلى حسابه لأعمالكم، وهو يوم القيامة، فتأهبوا لمصيركم إليه. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى﴾ وتوفر فيه ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ بَرّةٍ وفاجرةٍ جزاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ وعملت من خير أو شر ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ في ذلك اليوم بنقص حسنة، أو زيادة سيئة، وفي هذه الآية وعيد شديد وزجر عظيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا وعشرين يومًا. وقيل: تسع ليال. وقيل: سبعًا. ومات صلى الله عليه وآله وسلم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة.
وقرأ (١) يعقوب وأبو عمرو: ﴿تَرجِعون﴾ بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم مبنيًّا للفاعل؛ أي: تصيرون فيه إلى الله. وقرأ باقي السبعة ﴿تُرجَعون﴾ مبنيًّا للمفعول؛ أي: تردون إلى الله. وقرأ الحسن شذوذًا: ﴿يَرجِعون﴾ بياء الغيبة مبنيًّا للمفعول على معنى: يرجع فيه جميع الناس، وهو من باب الالتفات. وقرأ أُبيّ شذوذًا أيضًا: ﴿تردون﴾ بضم التاء، حكاه عنه ابن عطية، وقال الزمخشري: وقرأ عبد الله
الإعراب
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿يَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿الرِّبَا﴾: مفعول به،
والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لَا﴾: نافية ﴿يَقُومُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والرابط ضمير الفاعل ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الكاف﴾: حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية ﴿يَقُومُ الَّذِي﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: إلا كقيام الذي يتخبطه الشيطان، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: لا يقومون إلا قيامًا كائنًا كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس. ﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول. ﴿مِنَ الْمَسِّ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يتخبط﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: الباء حرف جر ﴿أن﴾: حرف نصب، والهاء: اسمها. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بواجب الحذف؛ لوقوعه خبر المبتدأ تقديره: ذلك كائن بسبب قولهم: إنما البيع، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿أحل الله البيع﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ الواو عاطفة. ﴿حرم﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿الرِّبَا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة أحل الله البيع.
﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾.
﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿مَن﴾: موصولة في الرفع مبتدأ أول ﴿عَادَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿فَأُولَئِكَ﴾: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا. ﴿أولئك﴾: مبتدأ ثانٍ ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾: خبره ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر المبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾: وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)﴾.
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَيُرْبِي﴾: الواو عاطفة ﴿يربي الصدقات﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَمْحَقُ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُحِبُّ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿أَثِيمٍ﴾ صفة لكفار.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب اسمها. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿أَجْرُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله. ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾: الواو عاطفة. ﴿لا﴾ نافية تعمل عمل ليس. ﴿خَوْفٌ﴾ اسمها مرفوع ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر لا، وجملة لا في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾، وكذا جملة قوله: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ معطوفة عليها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)﴾.
﴿يا﴾: حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد.
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم النهي من الربا، وأردتم بيان عاقبة من خالف النهي.. فأقول لكم: ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿فَأْذَنُوا﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿أذنوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل جزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿بِحَرْبٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أذنوا﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿حرب﴾. ﴿وَرَسُولِهِ﴾ معطوف على الجلالة. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿تُبْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها: ﴿فلكم﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿لكم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى. ﴿لَا تَظْلِمُونَ﴾: ﴿لَا﴾: نافية ﴿تُظْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو في محل
﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو استئنافية ﴿وَإِن﴾: حرف شرط. ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ تام في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ ﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾: فاعل ومضاف إليه ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. (نظرة): خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نَظِرة له، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: فنظرة عليكم، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾: الواو استئنافية ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تَصَدَّقُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر لذلك المصدر تقديره: والتصدق خير لكم؛ أي: إبراءه أفضل من الإنظار. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾: ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿أن﴾ على كونه جوابًا لها. ﴿تَعْلَمُونَ﴾: خبر كان، وجواب ﴿إِن﴾ معلوم مما قبلها تقديره: فافعلوه.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ الواو استئنافية. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ فعل ونائب فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تُرْجَعُونَ﴾ على كونها صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾، ولكن الرابط فيها مقدر تقديره: ثم توفي فيه كل نفس ﴿كَسَبَتْ﴾: ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾،
التصريف ومفردات اللغة
﴿الرِّبَا﴾: الربا الزيادة، يقال: ربا الشيء إذا ازداد، وأرباه غيرهُ، وأربى الرجل: إذا عامل بالربا، ومنه الربوة والرابية، وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة، وبالألف وتُبدل الباء ميمًا. قالوا: الرِّما، كما أبدلوها في كَتَبَ فقالوا: كَتَمَ. ويُثَنَّى ربوان بالواو - وعند البصريين - لأن الألف منقلبة عنها. وقال الكوفيون: ويكتب بالياء، وتقول في تثنيته: ربيان.
﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾: يقول تخبط - من باب: تفعَّل (١) - من الخبط، وهو: الضرب على غير استواءٍ كخَبط العشواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه. ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي: خبط عشواء، وتورط في عمياء، والمسُّ: الجنون. والأمَسّ: المجنون، يقال: مسَّ فهو ممسوس إذا جُنَّ، وأصله من المس باليد. كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، وسُمي الجنون: مسًّا كما أن الشيطان يخبطه ويطؤه برجله، فيخبله، فسُمي الجنون: خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد.
﴿مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾: والموعظة (٢) والوعظ والعظة كالموعدة والعدة والوعد. مصادر معناها واحد وهو: الزجر والتخويف وتذكير العواقب. والاتعاظ: القبول والامتثال، فقوله: ﴿فَانْتَهَى﴾ بمعنى: أتعظ؛ أي: قَبِل وامتثل.
﴿سَلَفَ﴾؛ أي: سبق ومضى وانقضى، ومنه سالف الدهر؛ أي: ماضيه.
(٢) مصباح.
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أعْقَبَهُ | كَرَّ الْجَدِيْدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ |
﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾: ذروا بوزن: علوا، فهو فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وحذفت فاؤه، وأصله: أوذروا، ماضيه: وذر، ولكن لم يستعمل إلا في لغة قليلة.
﴿كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾: هما من أمثلة المبالغة؛ لأنهما على وزن فعّال وفعيل، وأتى بصيغة المبالغة فيهما وإن كان الله لا يحب الكافر الأثيم تنبيهًا على عظم أمر الربا ومخالفة الله تعالى.
البلاغة
﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾: شبهوا البيع الذي هو مجمع على حلِّه بالربا الذي هو محرم، ولم يعكسوا تنزيلًا لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع، وهذا من عكس التشبيه، ويسمى: التشبيه المقلوب، وهو: أن يجعل المشبه مشبهًا به، والمشبه به مشبهًا، وهو أعلى مراتب التشبيه، وهو موجود في كلام العرب، كقولهم: القمر كوجه زيد، البحر ككفه. وكما قال أبو القاسم بن هانئ:
كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ | رَأَى الْقِرْنَ فَازْدَادَتْ طَلاَقَتُهُ ضِعْفًا |
﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾: بين لفظ: ﴿أحل﴾ و ﴿حرم﴾ طباق، وكذا
﴿كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾: وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث إنه اختلف اللفظان.
﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾: التنكير فيه للتهويل؛ أي: بنوع من الحرب عظيم، لا يقادر قدره كائن من عند الله.
﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾: فيه من المحسنات البديعية ما يُسمى: الجناس الناقص؛ لاختلاف المعنى.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾: التنكير للتفخيم والتهويل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه تعالى لمَّا أمر بالنفقة في سبيل الله، وبترك الربا، وكلاهما يحصل به تنقيص المال.. نبه على طريق حلال في تنمية المال وزيادته، وأكد في كيفية حفظه، وبسط في هذه الآية، وأمر فيها بعدة أوامر على ما سيأتي بيانه، قاله أبو حيان.
وقيل: إنه تعالى لما ذكر الربا، وبيَّن ما فيه من القبح القبيح؛ لأنه زيادة مقتطعة من عرق المدين ولحمه، وهو كسب خبيث يحرمه الإِسلام، وذكر ما فيه من الوعيد الشديد.. أتبعه بذكر القرض الحسن بلا زيادة ولا منفعة للمقرض،
أسباب النزول
وقد أخرج (١) عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ قال: نزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
وأخرج الشافعي وعبد الرازق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وحرم الربا، وقرأ هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية قال: أمر بالشهادة عند المداينة؛ لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يُشْهِدْ على ذلك فقد عصى.
التفسير ووجه القراءة
٢٨٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ أي: تعاملتم بالدين، وتبايعتم به على أيّ وجه كان من: سَلَم أو بيع، أو داين بعضكم بعضًا، وعامله نسيئة، معطيًا كان أو آخذًا. وإنما قال: ﴿بِدَيْنٍ﴾ بعد قوله ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ مع أنه معلوم منه؛ ليعود الضمير عليه في قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾؛ إذ لو ذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدَّين، فلا يحسن النظم بذلك. وقيل: إنما ذكره للتأكيد. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت معلوم الأول والآخر بالأيام والأشهر أو نحوهما، مما يرفع الجهالة، لا بالحصاد والدياس، وقدوم الحاج ونحوها مما لا يرفعها.
قال المفسِّرون: المراد بالمداينة: السلَم، فالله تعالى لما منع الربا في الآية المُتقدِّمَةِ.. أذن في السلَم في هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله تعالى لتحصيل مثل تلك اللذة طريقًا حلالًا، وسبيلًا مشروعًا. والقرض غير الدين؛ لأن القرض: أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حبًّا أو ثمرًا أو ما أشبه ذلك، ويسترد مثله، فلا يجوز فيه شرط الأجل بخلاف الدين، فيجوز فيه الأجل، فإن ذكر الأجل في القرض، فإن كان للمقرض فيه غرض أفسده، وإلا فلا يفسده، ولا يجب الوفاء به، لكنه يُستحب.
وقال أكثر المفسرين: إن البيوع على أربعة أوجه:
أحدها: بيع العين بالعين؛ وذلك ليس بمداينة البتة.
والثاني: بيع الدين بالدين، وهو باطل؛ فلا يكون داخلًا تحت هذه الآية.
والثالث: بيع العين بالدين، وهو ما إذا باع شيئًا بثمن مؤجل.
والرابع: بيع الدين بالعين وهو المسمى: بالسلم، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية.
﴿وَلْيَكْتُبْ﴾ كتاب الدين ﴿بَيْنَكُمْ﴾؛ أي: بين الدائن والمديون، والبائع والمشتري. والبينية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين بالكتابة؛ لأنه يتهم فيها، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعًا على ما سطره الكاتب. ﴿كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾؛ أي: بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه، ولا في
قيل: إن فائدة هذه الكتابة هي: حفظ المال من الجانبين؛ لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة.. تعذَّر عليه طلب زيادة، أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل. ومن عليه الدين إذا عرف ذلك.. تعذر عليه الجحود، أو النقص من أصل الدين الذي عليه، فلمَّا كانت هذه الفائدة في الكتابة.. أمر الله تعالى بها.
﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾؛ أي: ولا يمنع أحد من الكتاب ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾؛ أي: من أن يكتب كتاب الدين بين الدائن والمديون ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾؛ أي: على الطريقة التي علمه الله في كتابة الوثائق، من غير أن يبدل ولا يغير؛ ليقضي حاجة أخيه المسلم ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ تلك الكتابة التي علّمه الله إياها، أو كما علمه الله بقوله: ﴿بِالْعَدْلِ﴾.
﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾؛ أي: ولْيبين المديون الذي عليه الحق قدر ما عليه من الدَّين وجنسه ونوعه؛ لأنه المشهود عليه، فلا بد من أن يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الدين. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾؛ أي: ولْيخش المديون ربه بأن يقر بمَبْلغ المال الذي عليه ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾؛ أي: ولا ينقص مما عليه من الدين شيئًا في إلقاء الألفاظ على الكاتب ﴿فَإِنْ كَانَ﴾ المديون ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ والدين ﴿سَفِيهًا﴾؛ أي: ناقص العقل، مبذِّرًا يصرف المال في غير مصارفه ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ في البدن، أو في الرأي لصغر، أو جنون، أو كبر مضعف للعقل؛ أي: أو كان صبيًّا، أو مجنونًا، أو شيخًا هرمًا ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾؛ أي: أو
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾؛ أي: فإن لم يكن الشاهدان رجلين؛ بأن لم يوجد أو لم يقصد إشهادهما ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾؛ أي: فليشهد رجل وامرأتان كائنون ممن ترضونه ﴿مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ لدينه وعدالته. وقوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ على حذف لام التعليل المتعلقة بمعلول محذوف؛ تقديره: وإنما اشترط التعدد في النساء؛ لأجل أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة؛ لنقص عقلهن وقلة ضبطهن، فتذكر إحداهما الذاكرةُ للشهادة المرأة الأخرى الناسية لها. والعلة في
(٢) مراح.
﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾؛ أي: إقامة الشهادة ﴿إِذَا مَا دُعُوا﴾؛ أي: ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا إلى تحمل الشهادة وأدائها عند الحكام، فيحرم الامتناع عليهم؛ لأن تحمل الشهادة فرض كفاية مطلقًا، والأداء كذلك، إن زاد المتحملون على من يثبت بهم الحق وإلا ففرض عين. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾؛ أي: ولا تملوا أن تكتبوا الدَّين؛ لكثرة وقوع المداينة على أي حال كان الدين ﴿صَغِيرًا﴾ كان ﴿أَوْ كَبِيرًا﴾، قليلًا كان أو كثيرًا، وعلى أي حال كان الكتاب مختصرًا أو مشبعًا حال كون ذلك الدَّين مستقرًا في ذمة المديون ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾؛ أي: إلى وقت حلول أجله الذي أقر به المديون؛ أي: فاكتبوا الدين بصفة أجله، ولا تهملوا الأجل في الكتابة، فقوله: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ معطوف على قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾. ﴿ذَلِكُمْ﴾ إشارة إلى ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾؛ أي: ذلكم المذكور من كتابة الدين إلى أجله ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: أكثر قسطًا وعدلًا في حكم الله، أو في علمه؛ لأنه أمر به، واتباع
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ استثناء من الأمر بالكتابة؛ أي: ولا تسأموا أن تكتبوه في كل المعاملات إلا أن تقع تجارة حاضرة بحضور البدلين؛ أي: معاملة ومبايعة حالة ناجزة تتعاطونها وتقابضونها بينكم يدًا بيد بلا أجل؛ أي: إلا أن تتبايعوا بلا أجل يدًا بيد، فلا بأس في أن لا تكتبوه لبعده عن التنازع والنسيان. وقرأ عاصم: ﴿تجارةً حاضرةً﴾ بنصبهما على أن ﴿كان﴾ ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون هي؛ أي: المعاملة. وقرأ الباقون ﴿تجارةٌ حاضرةٌ﴾ برفعهما على أن يكون ﴿تَكُونَ﴾ تامة، و ﴿تِجَارَةً﴾: فاعل لـ ﴿تَكُونَ﴾، وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة، وخبرها جملة قوله: ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾.
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾؛ أي: ليس عليكم مضرة في ترك الكتابة في المداينة الحاضرة؛ كأن باع ثوبًا بدرهم في الذمة بشرط أن يؤدي الدرهم في هذه الساعة؛ أي: لا بأس بعدم الكتابة في ذلك لبعده عن التنازع والنسيان. وعبارة "الخازن" هنا: وإنما رخص الله في ترك الكتابة في هذا النوع من التجارة؛ لكثرة جريانه بين الناس، فلو كلفوا الكتابة فيه لشق عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد حقه في المجلس.. لم يكن هناك خوف الجحود، فلا حاجة إلى الكتابة انتهى.
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ هذا التبايع المذكور (١) وهو التجارة الحاضرة؛
﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، فالمعنى على هذا: ولا يضار كاتب صاحب الحق، أو من عليه الحق، فيأبى أن يكتب أو يزيد في الحق أو ينقص فيه، أو يحرِّف ما أملى عليه، ولا يضار شاهد صاحب الحق أو من عليه الحق فيأبى أن يشهد أو يزيد في شهادته أو ينقص، فعلى هذا يكون نهيًا للكاتب والشاهد عن إضرار من له الحق أو عليه الحق، ويدل على ذلك قراءة عمر رضي الله عنه شذوذًا: ﴿ولا يضارِر﴾ بالفك والكسر، واختار الزجاج هذا القول؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾؛ وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكليَّة أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد؛ ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع من الشهادة: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ والآثم والفاسق متقاربان. وقال ابن عباس ومجاهد وعطاء: بأن يقولا علينا شغل ولنا حاجة.
ويحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول، فالمعنى على هذا: ﴿ولا يضارَر﴾ بفتح الراء الأولى ﴿كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ بأن يدعيا إلى ذلك، وهما مشغولان بمهمٍّ لهما ويضيق عليهما في الإجابة، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، وكأن يكلفا بما لا يليق في الكتابة والشهادة، ولا يعطى الكاتب جُعْله، ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كانت، فإن لهما طلب الجُعْل، ولا يكلفان الكتابة والشهادة مجانًا، فعلى هذا يكون نهيًا لصاحب الحق أو من عليه الحق عن إضرار الكاتب والشاهد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود شذوذًا: ﴿ولا يضارَر﴾ بالفك وفتح الراء الأولى، ولو كان هذا نهيًا للكاتب والشاهد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكما.
٢٨٣ - و ﴿على﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ بمعنى: في، أو بمعنى: إلى؛ أي: وإن كنتم مسافرين، أو متوجهين إلى السفر، وتعاملتم بالمداينة ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ أو آلة الكتابة في سفركم ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ أي: فالوثيقة رهان مقبوضة، أو فرهان مقبوضة بدل من الشاهدين والكتابة، أو فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه. قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما ثبت في "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وآله وسلم: رهن درعا له من يهودي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿كَاتِبًا﴾ بالإفراد. وقرأ أُبيٌّ ومجاهد وأبو العالية شذوذًا: ﴿كتابًا﴾ على أنه مصدر، أو جمع كاتب كصاحب وصحاب، ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة، ونفي الكتابة يقتضي أيضًا نفي الكتب.
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور: ﴿فَرِهَانٌ﴾ جمع رهن، نحو كَعْب وكِعَاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿فرُهُن﴾ بضم الراء والهاء. وروي عنهما شذوذًا تسكين الهاء. وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما.
والرهن لغة (١): الثبوت والدوام، يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت. وشرعًا: ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه دينًا، يُستوفى منه الدين عند تعذر الوفاء. واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعًا، ومع وجود الكاتب وعدمه، والظاهر من قوله: ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ اشتراط القبض. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله مِثلًا.
﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾؛ أي: فإن أمن الدائن فاستغنى عن الرهن ثقة بأمانة صاحبه ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾؛ أي: فليدفع المدين الذي اؤتمن على الدين ﴿أَمَانَتَهُ﴾؛ أي: حق صاحبه.
وحاصل المعنى: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن.. فليؤدِ الغريم أمانته؛ أي: ما ائتمنه عليه رب المال. وقرأ أُبي شذوذًا: ﴿فإن أُومن﴾ رباعيًّا مبنيًّا للمفعول؛ أي؛ آمِنه الناس، هكذا نقل عن أُبيّ هذه القراءة الزمخشري، وقال السجاوندي: وقرأ أُبي شذوذًا: ﴿فإن ائتمن﴾ افتعل من الأمن؛ أي: وثق بلا وثيقة صك ولا رهن. وقرأ ابن محيصن وورش بإبدال الهمزة ياء، كما أبدلت في بئر وذئب، وذلك شذوذًا أيضًا.
وأصل هذا الفعل: اؤتمن بهمزتين الأولى: همزة الوصل، وهي مضمومة والثانية: فاء الكلمة، وهي ساكنة. وقرأ عاصم في شاذِّه: ﴿اللذتيمن﴾ بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسًا على أشر في الافتعال من اليسر، ذكره أبو حيان في
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من كتمان الشهادة وإقامتها، ومن الخيانة في الأمانة وعدمها ﴿عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وقرأ السلمي شذوذًا: ﴿بما يعملون﴾ بالياء جريًا على قراءته الشاذة: ﴿ولا يكتموا﴾ بالياء على الغيبة.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾.
﴿يَا﴾: حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة ها: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أيُّ﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها: ﴿بِدَيْنٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾، أو متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿دين﴾ تقديره: مؤجل إلى أجل. ﴿مُسَمًّى﴾: صفة لـ ﴿أَجَلٍ﴾. ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا ﴿اكتبوه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ جواب
﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾.
﴿وَلْيَكْتُبْ﴾ الواو: عاطفة، اللام: لام أمر وجزم، مبني على السكون؛ لوقوعها بعد الواو. ﴿يكتب﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يكتب﴾: ﴿كَاتِبٌ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ ﴿بِالْعَدْلِ﴾: متعلق بقوله: ﴿وَلْيَكْتُبْ﴾؛ أي: وليكتب كاتب بالعدل، وهذه الجملة مبيِّنة لكيفية الكتابة المأمور بها أولًا ومعينة لمن يتولَّاها إثر الأمر بها إجمالًا، وذكر البَيْن للإيذان بأن الكاتب ينبغي له أن يتوسط في المجلس بين المتداينين.
﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَأْبَ كَاتِبٌ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾: فعل وناصب، وفاعله ضمير يعود على ﴿كَاتِبٌ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا يأب كاتب كتابته. ﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾ حرف جر وتعليل ﴿ما﴾ مصدرية. ﴿عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: كتابة الوثائق، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدريةُ، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بكاف التعليل تقديره: لتعليم الله إياه كتابة الوثائق، الجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿وَلَا يَأْبَ﴾؛ أي: يحرم عليه الإباء والامتناع من الكتابة؛ لأجل تعليم الله تعالى إياه إياها، ويحتمل أن تكون ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة، وجملة ﴿عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والضمير في ﴿عَلَّمَهُ﴾ عائد على ﴿ما﴾ والكاف صفة لمصدر محذوف تقديره: ولا يأب كاتب أن يكتب كتابًا مثل الكتاب الذي علَّمه الله في كتابة الوثائق.
﴿فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾.
﴿فَلْيَكْتُبْ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿اللام﴾ لام أمر وجزم. ﴿يكتب﴾:
﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره إذا عرفت حكم ما إذا كان المدين رشيدًا كاملًا، وأردت بيان حكم ما إذا كان سفيهًا أو ضعيفًا.. فأقول لك ﴿إن كان﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿كاَنَ﴾: فعل ماضٍ ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع اسم كان. ﴿عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. ﴿سَفِيهًا﴾: خبر كان ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾: معطوف على ﴿سَفِيهًا﴾. ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ﴾: ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتنويع. ﴿لَا﴾: نافية
﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾.
﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿استشهدوا شهيدين﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، صفة لـ ﴿شَهِيدَيْنِ﴾، أو متعلق بـ ﴿استشهدوا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ في أول الآية ﴿فَإِنْ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت أنه يستشهد الرجلان إن وجدا، وأردت بيان حكم ما إذا لم يوجدا.. فأقول لك: ﴿إن لم يكونا﴾: ﴿إن﴾): حرف شرط، ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَكُونَا﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾، والألف اسمها، ﴿رَجُلَيْنِ﴾: خبرها، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، ﴿رجل﴾: مبتدأ، ﴿وَامْرَأَتَانِ﴾: معطوف عليه، والخبر محذوف جوازًا تقديره: فرجل وامرأتان
﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾.
﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَضِلَّ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾. ﴿إِحْدَاهُمَا﴾: فاعل ومضاف إليه، ﴿فَتُذَكِّرَ﴾: الفاء عاطفة. ﴿تذكر﴾: معطوف على ﴿تَضِلَّ﴾. ﴿إِحْدَاهُمَا﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿الْأُخْرَى﴾: مفعول به، وجملة ﴿تَضِلَّ﴾ من الفعل والفاعل صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما اشترط تعدد النساء؛ لأجل تذكير إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت تلك الأخرى، والمعول عليه في التعليل: التذكير؛ لأنه المقصود من الجملة، ولكن لما كان الإضلال سببًا فيه.. قدم عليه؛ كقولهم: أعددتُ الخشبة أن يميل الجدار، فأدعمه بها. فالإدعام علة في إعداد الخشبة، والميل علة الإدعام.
﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾: فعل وفاعل وجازم، ومفعوله محذوف تقديره: إقامة الشهادة، والجملة مستأنفة ﴿إِذَا﴾: ظرف مجرد
﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾: فعل وفاعل وجازم، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾. ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول وناصب، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا تسأموا كتابته. ﴿صَغِيرًا﴾: حال من ضمير المفعول. ﴿أَوْ كَبِيرًا﴾: معطوف عليه. ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الهاء في تكتبوه تقديره: حالة كونه مستقرًا في الذمة إلى حلول أجله، أو متعلق بـ ﴿تَكْتُبُوهُ﴾.
﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾.
﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿أَقْسَطُ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَقْسَطُ﴾؛ لأن اسم التفضيل يعمل في الظروف والمجرورات. ﴿وَأَقْوَمُ﴾: معطوف على ﴿أَقْسَطُ﴾. ﴿لِلشَّهَادَةِ﴾: متعلق به. ﴿وَأَدْنَى﴾: معطوف على ﴿أَقْسَطُ﴾. ﴿أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾: نافية ﴿تَرْتَابُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإلى المقدَّرة المتعلِّقة بأدنى تقديره: وأدنى وأقرب إلى عدم ارتيابهم في جنس الدين ونوعه وقدره وشهوده.
﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من عام الأحوال. ﴿أَنْ تَكُونَ﴾: ﴿أَن﴾ حرف نصب ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿أَن﴾، واسمها ضمير يعود على المعاملة ﴿تِجَارَةً﴾: خبرها منصوب. ﴿حَاضِرَةً﴾: صفة لـ ﴿تِجَارَةً﴾، وجملة
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾.
﴿وَأَشْهِدُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أشهدوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. ﴿تَبَايَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿أشهدوا﴾؛ أي: وأشهدوا وقت مبايعتكم. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية. ﴿لا﴾: نافية ﴿يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾: فعل وفاعل، أو فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ ﴿وَلَا شَهِيدٌ﴾: معطوف على ﴿كَاتِبٌ﴾: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ الواو استئنافية، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾. ﴿فَإِنَّهُ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية ﴿إِنَّهُ﴾: حرف نصب وتوكيد، والهاء اسمها. ﴿فُسُوقٌ﴾: خبرها. ﴿بِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)﴾.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اتقوا الله﴾؛ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ الواو استئنافية. ﴿يعلمكم الله﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مصالح أموركم. والجملة مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كان﴾، ﴿وَلَمْ تَجِدُوا﴾: الواو عاطفة. ﴿لم تجدوا﴾: فعل وفاعل وجازم، والجملة معطوفة على جملة الشرط ﴿كَاتِبًا﴾: مفعول به؛ لأن وجد هنا بمعنى: أصاب، يتعدى لمفعول واحد. وفي "الفتوحات": في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها عطف على فعل الشرط؛ أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا. فتكون في محل جزم تقديرًا.
والثاني: أن تكون معطوفة على خبر كان؛ أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا.
والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محل نصب. اهـ "سمين". ﴿فَرِهَانٌ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية ﴿رِهَانٌ﴾: مبتدأ، ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ صفةٌ له، والخبر محذوف تقديره: وثيقة لدَينكم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾.
﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾: الواو عاطفة، واللام لام الأمر، ﴿يتقِ الله﴾: فعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾. ﴿رَبَّهُ﴾: بدل من لفظ الجلالة، ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلْيُؤَدِّ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾: الواو استئنافية. لا: ناهية ﴿تكتموا الشهادة﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَن﴾: الواو عاطفة ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. ﴿يَكْتُمْهَا﴾: فعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿فَإِنَّهُ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية، ﴿إنّ﴾ حرف نصب، والهاء اسمها، ﴿آثِمٌ﴾: خبرها. ﴿قَلْبُهُ﴾: فاعل ﴿آثِمٌ﴾، ومضاف إليه، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾: يقال: تداين - من باب تفاعل - من الدَّين. يقال: داينت الرجل عاملته بدين معطيًا أو آخذًا؛ كما يقال: بايعته إذ بعته أو باعك. قال رؤبة:
دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُوْن تُقْضَى | فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا |
﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾: هو من أبى يأبى؛ كسعى يسعى، إذا امتنع. ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾؛ أي: وليسمع ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾: الكاتب الألفاظ التي يكتبها ويلقيها عليه، أملَّ وأملى لغتان فصيحتان معناهما واحد، الأولى: لأهل الحجاز وبني أسد، والثانية: لتميم، يقال: أمليت وأمللت على الرجل؛ أي: ألقيت عليه ما يكتبه، وأصل المادتين في اللغة: الإعادة مرة بعد أخرى، قال الشاعر:
أَلاَ يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ | أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ |
نَحْوِ حَلَلْتُ مَا حَلَلْتُهُ وَفي | جَزمٍ وَشِبْهِ الْجَزْمِ تَخْيِيرٌ قُفِيْ |
﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ﴾: والبخس: النقص، يقال منه: بخس زيد عمرًا حقه يبخسه بخسًا إذا نقصه، وبابه: قطع، وأصله من: بخست عينه، فاستعير لبخس
﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾: السأم والسآمة: الملل من الشيء والضجر منه، يقال: سَئِم يسأم من باب: تعب مهموز، ويقال: سَئِمته أسأمه، وسئمت منه، وفي التنزيل: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ فهو يتعدى بنفسه، وبواسطة حرف الجر، ومنه قول الشاعر:
سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ | ثَمَانِيْنَ حَوْلًا لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ |
﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾: من أقسط الرباعي على غير قياس، وكذلك قوله: ﴿وَأَقْوَمُ﴾؛ إذ القياس أن يكون بناء أفعل التفضيل من المجرد لا من المزيد. وفي "المختار": القسوط: الجور والعدول عن الحق، وبابه: جلس، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. انتهى. والقِسط (١) بكسر القاف: العدل، يقال منه: أقسط الرجل إذا عدل، وبفتح القاف: الجور، ويقال منه: قسط الرجل إذا جار. والقسط بالكسر أيضًا النصيب.
﴿فَرِهَانٌ﴾: جمع رهن بمعنى مرهون من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، يقال: رهن يرهن رهنًا من باب فتح، والرهن: ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه.
البلاغة
وفي الآية من ضروب الفصاحة (٢):
منها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، وفي قوله: {وَلْيَكْتُبْ
(٢) البحر المحيط.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، وفي قوله: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ﴾، إذ يفهم من قوله ﴿تداينتم﴾: الدينُ، ومن قوله ﴿فليكتب﴾: الكاتبُ.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ﴾؛ لأن الضلال هنا بمعنى: النسيان، وفي قوله: ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، وفي قوله: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، وفي قوله: ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾، وفي قوله: ﴿تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾، وفي قوله: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾؛ كرر الحق للدعاء إلى اتباعه، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالًا واستعلاء.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار أيضًا في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ لزيادة الكشف والبيان، لا لأن الأمر والنهي لغيره كما ذكره أبو السعود.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، وفي قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وفائدة تكرار لفظ الجلالة في الجمل الثلاث: إدخال الروع في القلب، وتربية المهابة في النفوس، والتنبيه على استقلال كل منها بمعنى على حياله، فإن:
الأولى: حثٌّ على التقوى.
والثانية: وعد بالإنعام بالتعليم.
وفي على في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ استعارة تبعية، حيث شبَّه تمكنهم من السفر بتمكن الراكب من مركوبه، وجمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل في قوله: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ مبالغة في التحذير.
وفي الآية أيضًا: الإيجاز بالحذف، وذلك كثيرٌ، ومن أمثلته قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حذف متعلِّق الإيمان، وقوله: ﴿مُسَمًّى﴾؛ أي: بينكم، وقوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾، أي: الكتابة والخط، وقوله: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾؛ أي: ما عليه من الدين، وقوله: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾؛ أي: في إملائه، إلى غير ذلك من الأمثلة المذكورة في الآية كما بيَّنها أبو حيان في "البحر".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..﴾ مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم.. ذكر ما انطوى عليه الضمير، فكتمه أو أبداه، فإن الله يحاسبه به، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة، ولما علق الإثم بالقلب.. ذكر هنا الأنفس فقال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾. وناسب ذكر هذه خاتمة لهذه السورة؛ لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع: من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والصلاة والزكاة والقصاص والصيام والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والخلع والإيلاء والرضاعة والربا والبيع وكيفية المداينة، فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض، فهو يُلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته، ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس وما تنطوي عليه من النيات، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة.. نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ فصفة الملك تدل
قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.. إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما نزل قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ...﴾ الآية، أشفقوا منه، ثم أمروا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، فكشف عنهم ذلك الكرب، ورفع عنهم المشقة في أمر الخواطر.
ولما كان ابتداء هذه السورة بذكر الكتاب المنزل، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول، وإلى من قبله.. كان مختمها بذكر الكتاب، ومن آمن به؛ ليتوافق الابتداء والاختتام، وذلك من أبدع الفصاحة؛ حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، فبيَّن تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم.
أسباب النزول
قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ...﴾ إلى آخر السورة، سبب نزولها: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ الآية، قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم.. أنزل الله تعالى في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُ
والحديث أخرجه أحمد في "المسند" وابن جرير والبيهقي في "شعب الإيمان".
التفسير وأوجه القراءة
٢٨٤ - ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ استدلال على قوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فاستدل بسعة ملكه على سعة علمه؛ أي: له سبحانه وتعالى لا لغيره جميع ما في السموات وما في الأرض، من الأمور الداخلة في حقيقتهما، والخارجة عنهما: من أولي العلم، وغيرهم، فقل غيرهم، فعبَّر ﴿بِمَا﴾؛ لأنهم أكثر؛ أي: له تعالى الكل خلقًا وملكًا وتصرفًا، فالجميع عبيد له وهو مالكهم ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾؛ أي: وإن تظهروا أيها المكلفون ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: ما في قلوبكم من العزم على السوء بأن تظهروه للناس بالقول، أو بالفعل ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾؛ أي: تسروه بأن تكتموه منهم ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾؛ أي: يؤاخذكم به ويجازكم عليه يوم القيامة، ولا تَدْخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان؛ لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه.
فالخواطر الحاصلة في القلب على قسمين: ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في حيِّز الوجود، وما لا يكون كذلك، بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولا يمكنه دفعها عن النفس. فالقسم الأول: يكون مؤاخذًا عليه، والثاني: لا يكون مؤاخذًا
﴿فَيَغْفِرُ﴾ بفضله ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ المغفرة له ﴿وَيُعَذِّبُ﴾ بعَدْله ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ تعذيبه، وقد يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، وقد يعذب من يشاء على الذنب الحقير لا يُسأل عما يفعل. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءَه من المحاسبة والمغفرة والتعذيب وغيرها ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر.
وقرأ ابن (١) عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بالرفع فيهما على القطع والاستئناف على أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو يغفر. وقرأ باقي السبعة: بالجزم عطفًا على الجواب، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة شذوذًا: بالنصب فيهما على إضمار: أن، فينسَبِك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب تقديره: يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر:
فَإنْ يَهْلِكْ أَبُوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ | رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَهْرُ الْحَرَامُ |
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أَجَبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سِنَامُ |
وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف شذوذًا أيضًا: ﴿يغفر لمن يشاء﴾، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله، قال ابن جني: هي على البدل من ﴿يُحَاسِبْكُمْ﴾؛ فهي تفسير للمحاسبة. انتهى. قيل: وليس بتفسير بل هما مترتبان على المحاسبة.
٢٨٥ - ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾؛ أي: صدق الرسول محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾؛ أي: بأن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزلٌ عليه
﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ قرأ الجمهور: ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ بالنون؛ أي: حالة كون الرسول والمؤمنين يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله في الإيمان بهم كما فعلت اليهود والنصارى، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، بل نؤمن بجميع رسله تعالى، ونثبت نبوة جميع الأنبياء، ولا نكفر بأحد منهم. والمقصود من هذا الكلام: إثبات النبوة لكلهم، لا ما ادَّعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم
وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب: ﴿لا يفرق﴾ بالياء على لفظ كل. قال هارون: وهي في مصحف أُبي وابن مسعود: ﴿لا يفرقون﴾ وهو شاذ، حملًا على معنى كل بعد الحمل على اللفظ.
﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال المؤمنون أيضًا: ﴿سَمِعْنَا﴾؛ أي: أجبنا قولك يا إلهما فيما كلفتنا به ﴿وَأَطَعْنَا﴾؛ أي: امتثلنا أمرك يا مولانا في ذلك، وقدّم ﴿سَمِعْنَا﴾ على ﴿وَأَطَعْنَا﴾؛ لأن التكليف طريقُه السمع، والطاعة بعده، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلًا هذا دهره وحياته. ﴿غُفْرَانَكَ﴾؛ أي: نسألك غفرانك لذنوبنا يا ﴿رَبَّنَا﴾ وما قصرنا في حقك يا إلهنا ﴿وَإِلَيْكَ﴾ يا إلهنا لا إلى غيرك ﴿الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع بعد الموت؛ يعني قالوا: إليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وفيه إقرار بالبعث والجزاء.
٢٨٦ - ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ظاهره أنه إخبار من الله سبحانه وتعالى مستأنف أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلا ما هو في وسع المكلف، والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم ولم تتعمدوا والتقصير، فلو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة.. فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى لا يكلف نفسًا ولا يلزمها من التكاليف والطاعات إلا وسعها وطاقتها؛ أي: إلا ما تسعه قدرتها فضلًا ورحمة منه تعالى، فلا يتعبدها بما لا تطيق.
وقيل: هذا من كلام الرسول والمؤمنين؛ أي: وقالوا: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والمعنى: أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا.. قالوا: كيف لا نسمع ذلك ولا نطيع وهو تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا!.
وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿إلا وسعها﴾ جعله فعلًا ماضيًا، وأوَّلوه على إضمار ﴿ما﴾ الموصولة؛ أي: إلا ما وسعها. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ وعملت من الخير، أي: للنفس ثواب ما عملته من الخير وأجره ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾؛ أي: وعليها وزر ما عملته من الشر وعقابه؛ أي: لا ينتفع بطاعتها، ولا يتضرر بمعاصيها غيرها. وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشرِّ؛ لأن الاكتساب فيه اعتمال واشتهاء
وقولوا في دعائكم: يا ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾؛ أي: لا تعاقبنا ﴿إِنْ نَسِينَا﴾ طاعتك؛ أي: إن تركنا أمرًا من أوامرك نسيانًا ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ في أمرك إن تركنا الصواب فيه لا عن تعمد، كتأخير الصلاة عن وقتها في حالة الغيم جهلًا به، وكقتل الخطأ المشهور، وهذا تعليم منه سبحانه وتعالى عباده المؤمنين كيف يدعونه، ومعناه: قولوا في دعائكم: ربنا لا تؤاخذنا؛ أي: لا تعاقبنا بإثمِ ما يصدر منا من هذين الأمرين.
وقد (١) استشكل هذا الدعاء جماعة من المُفسِّرين وغيرهم قائلين: إن النسيان والخطأ مغفوران غير مؤاخذ بهما، فالدعاء بذلك من تحصيل الحاصل. وأجيب عن ذلك: بأن المراد طلب ترك المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط، وعدم المبالاة، لا من النسيان والخطأ، فإنه لا مؤاخذة بهما، كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجه وابن منذر وابن حبان في "صحيحه" والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في "سننه" وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: إنه للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته. وقيل: سؤاله على سبيل إظهار النعمة والتحدث بها على حد: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، والصحيح أنه يختلف ذلك باختلاف الوقائع، فقسمٌ: لا يسقط باتفاق، كالغرامات والدِّيات والصلوات المفروضات، وقسم: يسقط باتفاق، كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه: كمن أكل ناسيًا في رمضان، أو حنث ساهيًا، وما كان مثله مما يقع
﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾؛ أي: وقولوا يا ربنا لا تكلفنا بالأمور الشاقة ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ من بني إسرائيل؛ أي: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود. وفي قراءة أُبيّ بالتشديد شذوذًا في: ﴿ولا تحمِّل علينا إصرًا﴾ إفادةٌ للتكثير.
قال المفسرون (١): إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة.. أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئًا.. عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة.. حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالًا لهم، ومن أصاب ذنبًا.. أصبح وذنبه مكتوب على بابه، ونحو ذلك من الأثقال والآصار التي كتبت عليهم، فسأل المسلمون ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات والعهود الثقيلة، وقد أجاب الله دعائهم برحمته، وخفف عنهم بفضله وكرمه، فقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾.
﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ﴾؛ أي: قوة ﴿لَنَا به﴾ من البلاء والعقوبة النازلة بمن قبلنا أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية، وهذا أعم من الإصر السابق؛ لتخصيصه بالتشبيه وعموم هذا، والتشديد في ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا﴾: للتعدية. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾؛ أي: أمح آثار ذنوبنا ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾؛ أي: واستر عيوبنا، ولا تفضحنا بالمؤاخذة بين رؤوس الأشهاد ﴿وَارْحَمْنَا﴾؛ أي: تعطف بنا وتفضل علينا ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾؛ أي؛ ناصرنا وحافظنا وولينا ومتولي أمورنا، ونحن عبيدك. ويقال: واعف عنا من المسخ كما مسخت قوم عيسى، واغفر لنا من الخسف كما خسفت بقارون، وارحمنا من القذف كما قذفت قوم لوط، فلما دَعَوا بهذا الدعاء رفع الله عنهم ذنوب حديث النفس والنسيان والخطأ والاستكراه، وعفا عنهم من
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها. قال: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦)﴾ قال: فراشٌ من ذهب. قال: فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر - لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا - المقحمات. أخرجه مسلم. المقحمات: الذنوب التي تولج مرتكبها النار، وأصل الاقتحام: الولوج.
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه" متفق عليه. معناه: كفتاه من كل ما يحذر من كل هامة وشيطان، فلا يقربه تلك الليلة. وقيل: كفتاه عن قيام الليل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنده جبريل عليه السلام، إذ سمع نقيضًا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشرْ بنورين أوتيتَهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. أخرجه مسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله كتب لنا كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطان".
ولما مدح الله سبحانه وتعالى المتقين في أول السورة.. بيّن في آخر السورة أنهم أمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾؛ وهذا هو المراد بقوله تعالى هناك: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ثم قال ها هنا؛ ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وهو المراد بقوله تعالى هناك: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ ثم قال ها هنا: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وهو المراد بقوله هناك: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ ثم حكى الله تعالى عنهم ها هنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إلى آخر السورة، وهو المراد بقوله تعالى هناك: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾ فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.
الإعراب
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿وَمَا﴾: الواو عاطفة و ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع معطوفة على ﴿مَا﴾ الأولى: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلة لها، أو صفة لها.
﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾.
﴿وَإن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿تُبْدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل ﴿تُخْفُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية؛ لأنه معطوف على فعل الشرط
﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿فَيَغْفِرُ﴾ الفاء بمعنى الواو الاستئنافية ﴿يغفر﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فهو يغفر لمن يشاء، والجملة الإسمية مستأنفة. هذا على قراءة الرفع، وأما على قراءة الجزم فمعطوفٌ على يحاسبكم. وقرىء شذوذًا بالنصب كما مر على إضمار ﴿أن﴾؛ فينسبك منها مع ما بعدها مصدرٌ مرفوع معطوف على مصدر متصيَّد من ﴿يُحَاسِبْكُمْ﴾ تقديره: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه الثلاثة قد جاءت في قول الشاعر:
فَإنْ يَهْلِكَ أَبُوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ | رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَهْرُ الْحَرَامُ |
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أجَبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سِنَامُ |
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾.
﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾، ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود
أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية عطفًا على الرسول، فيكون الوقف عليه، ويكون قوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ﴾ جملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر مستأنفة استئنافًا بيانيًّا تدل على أن جميع من تقدم ذكره آمن بما سيذكر بعدها.
والثاني: أن يكون المؤمنون مبتدأ أول، و ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ ثانٍ، و ﴿آمَنَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره: خبر عن المبتدأ الأول، وعلى هذا فلا بد من رابط يربط بين الجملة الصغرى والكبرى، وهو محذوف تقديره: كلٌّ منهم، كقولهم: السَّمْنُ منوان بدرهمٍ، تقديره: منوانٍ منه ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾ ﴿وَمَلَائِكَتِهِ﴾: معطوف على الجلالة ومضاف إليه، وكذا قوله: ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾: معطوفان على لفظ الجلالة.
﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾.
﴿لَا﴾: نافية ﴿نُفَرِّقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نُفَرِّقُ﴾، والجملة الفعلية مقول لقول محذوف تقديره: يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، والقول المحذوف حال من الضمير المستتر في ﴿آمَنَ﴾ تقديره: كل آمن باللهِ وملائكته وكتبه ورسله حالة كونهم قائلين لا نفرق بين أحد.
﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو عاطفة ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾. ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿سَمِعْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾، وكذلك جملة ﴿أطعنا﴾: معطوفة على جملة ﴿سَمِعْنَا﴾. ﴿غُفْرَانَكَ﴾: مفعول لفعل محذوف ومضاف إليه تقديره: نسألك غفرانك،
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.
﴿لَا﴾: نافية ﴿يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿نَفْسًا﴾: مفعول أول ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿وُسْعَهَا﴾: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. ﴿لَهَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَا﴾: موصولة في محل الرفع مبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسًا﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾: الواو عاطفة ﴿عليها﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَا اكْتَسَبَتْ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾. ﴿اكْتَسَبَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسًا﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما اكتسبته. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ إلى آخر السورة: مقول محكي لقول محذوف تقديره: قولوا في دعائكم: ربنا لا تؤاخذنا، وجملة القول المحذوف مستأنفة، وإن شئت قلتَ: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا﴾: ﴿لَا﴾: دعائية جازمة ﴿تُؤَاخِذْنَا﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿نَسِينَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿أَخْطَأْنَا﴾: فعل وفاعل في محل
﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تَحْمِلْ﴾: مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: لا تؤاخذنا. ﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَحْمِلْ﴾. ﴿إِصْرًا﴾: مفعول به ﴿كَمَا﴾: الكاف حرف جر ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿حَمَلْتَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَمَلْتَهُ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ولا تحمل علينا إصرًا حملًا كائنًا كحملك على الذين من قبلنا. ﴿مِنْ قَبْلِنَا﴾: ﴿مِن﴾: حرف جر. ﴿قَبْلِنَا﴾: مجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صلة الوصول.
﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا﴾: الواو عاطفة ﴿لا﴾: دعائية. ﴿تُحَمِّلْنَا﴾: فعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا﴾. ﴿مَا لَا طَاقَةَ﴾؛ ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل ﴿إن﴾. ﴿طَاقَةَ﴾: اسمها ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لَا﴾ ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿طَاقَةَ﴾؛ لأنه اسم مصدر من: أطاق الرباعي، وجملة ﴿لَا﴾ من اسمها وخبرها صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِه﴾.
﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
﴿وَاعْفُ﴾ الواو عاطفة، والجمل الثلاث معطوفات على جملة قوله: {لَا
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من أبدى الرباعي، يقال: أبدى ما في ضميره إذا أظهره بفعله أو قوله. ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من أخفى الرباعي، يقال: أخفى الشيء إذا أسره في نفسه، وقدِّم الإبداء هنا على الإخفاء؛ لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله تعالى في آل عمران: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾؛ فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية، وقدم المغفرة على التعذيب؛ لكون رحمته سبقت غضبه.
﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ والمصير (١): مصدرٌ ميميٌّ من صار يصير صيرورة ومصيرًا، وهو مبني على مفعِل بكسر العين، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو: يبيت ويعيش، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح نحو: يضرب يكون للمصدر بالفتح، وللمكان والزمان بالكسر نحو ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١)﴾؛ أي: عيشًا. والمصير بمعنى الصيرورة على هذا شاذ، وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعِل بكسر العين أو مفعَل بفتحها، وأما الزمان والمكان فبالكسر ذهب إلى ذلك الزجاج، ورده عليه أبو علي، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع، فحيث بنت العرب المصدر على مفعِل أو مفعل اتبعناه، وهذا المذهب أحوط.
﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ والوسع بتثليث الواو كما في "القاموس": دون المجهود في
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ يقرأ (١) بالهمزة وهو من الأخذ بالذنب، ويقرأ بالواو ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضًا، وإنما أبدلت الهمزة واو لانفتاحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيف قياسي.
ويحتمل أن يكون من: وَاخَذَهُ بالواو. قاله: أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد وهو الله؛ لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله، فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه فحسنت المفاعلة، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت.
﴿إِصْرًا﴾ الإصر: العناء الثقيل الذي يأصر صاحبه؛ أي: يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة، ذكره أبو السعود. وفي "المختار": أصره يأصره - من باب ضرب - إصرارًا إذا حبسه، ويطلق على كل ما يثقل على النفس كشماتة الأعداء.
﴿مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾: والطاقة القدرة على الشيء، وهي في الأصل مصدر جاء على حذف الزوائد، وكان من حقها إطاقة؛ لأنها من أطاق، ويصح أن تكون اسم مصدر لأطاق الرباعي.
﴿مَوْلَانَا﴾ المولى: مفعل من: ولى يلي، وهو هنا مصدر ميمي يراد به اسم الفاعل ويجوز أن يكون على حذف مضاف؛ أي: صاحب تولينا؛ أي: نصرتنا.
البلاغة
وقد تضمنت الآية من ضروب البلاغة أنواعًا:
ومنها: الطباق المعنوي بين: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾؛ لأن ﴿لَهَا﴾ إشارة إلى ما يحصل به نفع ﴿وَعَلَيْهَا﴾ إشارة إلى ما يحصل به ضرر، وقدم ﴿لَهَا﴾ ﴿وَعَلَيْهَا﴾ على الفعلين؛ ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها، وعليها لا على غيرها، وإنما كرر الفعل وخالف بين التصريفين تحسينًا للنظم، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ كرر ﴿ما﴾ تنبيهًا وتوكيدًا للكلام.
ومنها: الجناس المغاير، ويسمى جناس الاشتقاق في قوله: ﴿آمَنَ﴾ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.
ومنها: تكرير النداء بين المتعاطفات لإظهار مزيد الضراعة والالتجاء إلى الرب الكريم.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾.
ومنها: الاستعارة المصرحة في قوله: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾؛ لأن الإصر في الأصل: الحمل الثقيل الذي يحبس صاحبه في مكانه، والمراد به هنا: التكاليف الشاقة.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي؛ آمنوا بالله ورسله.
وفي مواضع أخرى عديدة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
وخلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة خمسة عشر:
الأول: دعوة الناس جميعًا إلى عبادة ربهم.
والثاني: عدم اتخاذ أنداد له.
والثالث: ذكر الوحي والرسالة، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده، وتحدي الناس كافة بالإتيان بمثله.
والرابع: ذكر أُسِّ الدين، وهو توحيد الله.
والخامس: إباحة الأكل من جميع الطيبات.
والسادس: ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأحكام الصيام، والحج والعمرة، وأحكام القتال والقصاص.
والسابع: الأمر بإنفاق المال في سبيل الله.
والثامن: تحريم الخمر والميسر.
والتاسع: معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.
والعاشر: أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة.
والحادي عشر: تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه.
والثاني عشر: أحكام الدَّين من كتابة وإشهاد، وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك.
والثالث عشر: وجوب أداء الأمانة.
والرابع عشر: تحريم كتمان الشهادة.
والخامس عشر: خاتمة ذلك كله الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به، وعلى الجملة فقد فُصلت فيها الأحكام وضُربت الأمثال وأقيمت الحجج، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه، ومن ثمَّ سمُيت فسطاط القرآن.
قال محمَّد بن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ": واعلم أن نزول المنسوخ بمكة كثير، والناسخ بالمدينة كثير، وليس في أم الكتاب شيء منهما، فأما سورة البقرة وهي مدنية، ففيها ستة وعشرون آية من المنسوخ.
الأولى منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ الآية وهي منسوخة بقوله تعالى في آل عمران؛ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ مدنية ٨٥.
والثانية منها: قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ فإنها منسوخة بقوله تعالى في براءة آية السيف: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ مدنية ٥.
والثالثة: قوله تعالى: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ فإنها منسوخة بقوله تعالى في براءة: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ مدنية: ٢٩.
والرابعة: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ هذا محكم، والمنسوخ منها قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ البقرة مدنية ١٤٤.
والخامسة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ الآية منسوخة بالاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ البقرة ١٥٩.
والسادسة: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ الآية، فنسخ منها بالسنَّة بعض الميتة وبعض الدم بقوله - ﷺ -: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال". وقال سبحانه: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾، ثم رخص للمضطر إذا كان غير باغٍ ولا عاد بقوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
والسابعة: قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ وهذا الأخير موضع النسخ منها - أعني - والأنثى بالأنثى، وباقيها محكم وناسخها قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآية المائدة ٤٥ وقيل: ناسخها قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَل
والثامنة: قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ فإنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ "النساء مدنية: ١١".
والتاسعة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فإنها منسوخة، وذلك أنهم كانوا إذا أفطروا أكلوا وشربوا وجامعوا النساء ما لم يصلوا العشاء الأخيرة أو يناموا قبل ذلك، ثم نسخ الله ذلك بقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ البقرة: ١٨٧ في شأن عمر رضي الله عنه والأنصاري؛ لأنهما جامعا معًا ونزل في صرفه: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.
والعاشرة: قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ هذه الآية نصفها منسوخ، وناسخها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ يعني: فمن شهد منكم الشهر حيًّا بالغًا حاضرًا صحيحًا عاقلًا فليصمه.
والحادية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)﴾ فإنّ خصوصها منسوخ بعموم قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ التوبة مدنية: ٣٦.
والثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فإنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ البقرة مدنية: ١٩١.
والثالثة عشرة: قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وهذا من الأخبار التي معناها الأمر تأويله: فاغفروا لهم، واعفوا عنهم، ثم أخبار العفو منسوخة بآية السيف بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ التوبة مدنية: ٥.
والرابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ نسخ عمومها بخصوص قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ
والخامسة عشرة: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ نسخت بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية التوبة مدنية: ٦٠.
والسادسة عشرة: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ الآية نسخت بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية التوبة مدنية: ٥.
والسابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية نسخت بقوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فلما نزلت هذه الآية امتنع قوم عن شربها، وبقي قوم على شربها، ثم أنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ النساء: ٤٣، وكانوا يشربون بعد العشاء الآخرة، ثم يرقدون، ثم يقومون من غد وقد صحوا، ثم يشربونها بعد الفجر إن شاؤوا فإذا جاء وقت الظهر لا يشربونها البتة، ثم أنزل الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ المائدة مدنية: ٩٠؛ أي: فاتركوه.
والثامنة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾؛ يعني: الفضل من أموالكم منسوخة بقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ الآية التوبة مدنية: ١٠٣.
والتاسعة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ نسخ عمومها الكتابيات والوثنيات بقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ المائدة مدنية: ٥.
والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ هذه الآية جميعها محكم إلا كلامًا في وسطها، وهو قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ نسخ بقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ نسخ عمومها بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾.
والثانية والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾
والثالثة والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ الآية، نسخت بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ وليس في كتاب الله آية تقدم ناسخها على منسوخها إلا هذه الآية وآية أخرى في سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ الآية، نُسخت بقوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ الآية.
والرابعة والعشرون: قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ الآية، منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية التوبة مدنية: ٥.
والخامسة والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾.
والسادسة والعشرون: قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هذا محكم ثم قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، فشق نزولها عليهم فقال النبي - ﷺ -: "ولا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا، ولكن قولوا سمعنا وأطعنا"، فلما علم الله تسليمهم لأمره.. أنزل ناسخ هذه بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وخفف الله مع الوسع بقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة مدنية: ١٨٥. انتهى (١).
والله أعلم
* * *
بقلم مؤلِّفه الراجي من ربه المنعم سبحانه أن يعينه على تمامه، وينفع به من شاء من عباده، ويجعله ذخيرة له عنده يوم وفوده إلى دار الآخرة: محمَّد الأمين بن عبد الله الأرمي الأثيوبي الهرري غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وذريته وأحبائه ولجميع المسلمين. آمين يا رب آمين.
مدنية، ومما يدل (١) على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة، كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها.
وآياتها: مئتان باتفاق العادِّين. وكلماتها: ثلاث آلاف وأربع مئة وستون كلمة. وحروفها: أربعة عشر ألفًا وخمس مئة وخمس وعشرون حرفًا.
المناسبة: ومناسبة (٢) هذه السورة لما قبلها واضحة؛ لأنه لما ذكر آخر البقرة: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.. ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين؛ حيث ناظرهم رسول الله - ﷺ -، وردَّ عليهم بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، فقص تعالى أحوالهم، وردَّ عليهم في اعتقادهم، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون، وبداءةَ خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردَّ عليهم.
ولما كان مفتتح آية آخر البقرة: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فكان في ذلك الإيمان بالله وبالكتب.. ناسب ذكر أوصاف الله تعالى، وذكر ما أنزل على رسوله، وذكر المنزل على غيره صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم.
وذكر المراغي (٣) في وجه مناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها خمسة أوجه:
الأول منها: أن كلًّا منهما بدىء بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء، فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية
(٢) أبو حيان.
(٣) المراغي.
والثاني منها: أن في الأولى تذكيرًا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرًا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.
والثالث منها: أن في كل منهما محاجَّة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا؛ لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليًا في المرتبة للحديث الأول.
والرابع منها: أن في آخر كلٍّ منهما دعاء إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين، وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.
والخامس منها: أن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى؛ كأنها مُتَمِّمة لها؛ فبُدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فائدة: قال محمَّد بن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ" (١): سورة آل عمران كلها محكمة إلا خمس آيات:
الأولى منها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ فإنها منسوخة وناسخها آية السيف في سورة التوبة: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾.
والثانية والثالثة والرابعة: قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ فهذه ثلاثة آيات نزلت في ستة رهط ارتدوا عن الإِسلام بعد أن أظهروا الإيمان، ثم استثنى واحدًا من الستة وهو سويد بن الصامت، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ فهذه - أعني آية الاستثناء -
والخامسة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ لما نزلت.. لم يعلم ما تأويلها، فقالوا يا رسول الله، ما حق تقاته؟ فقال - ﷺ -: "حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يكفر" فقالوا: يا رسول الله، ومَنْ يطيق ذلك؟ فانزعجوا لنزولها انزعاجًا عظيمًا، ثم أنزل الله بعد مدة يسيرة آية تؤكد حكمها، وهي قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ في سورة الحج، فكانت هذه أعظم عليهم من الأولى، ومعناها: اعملوا لله حق عمله، فكادت عقولهم تذهل، فلما علم الله ما قد نزل بهم في هذا الأمر العسير.. خفف فنسخها بالآية التي في التغابن، وهي قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وهي مدنية، فكان هذا تيسيرًا من التعسير الأول وتخفيفًا من التشديد الأول انتهى.
ومما ورد في فضلها وفضل البقرة: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة". قال معاوية بن سلام: من رواته بلغني أن البطلة: السحرة.
وروى مسلم أيضًا: عن النواس بن السمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تَقْدُمه سورة البقرة وآل عمران". وضرب لهم رسول الله - ﷺ - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعدُ. قال "لأنهما غمامتان أو ظلَّتان سودوان بينهما شرق - أي: ضوء - أو كأنهما حزقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)﴾.
المناسبة
المناسبة بين هذه الآيات وبين السورة السابقة: فقد مرَّ بيانها آنفًا، فلا عود.
أسباب النزول
فقد روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران، إذ وفدوا على رسول الله - ﷺ -، وكانوا نحو ستين راكبًا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم: عبد المسيح أميرهم، والأيهم مشيرهم، وأبو حارثة بن علقمة حبرهم. فقدموا على النبي - ﷺ -، وخاصموه، فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه - ﷺ -، فقالوا تارة: عيسى هو الله؛ لأنه كان يحي الموتى، وتارة هو ابن الله؛ إذ ليس له أب، وتارة إنه ثالث ثلاثة؛ لقوله تعالى: فعلنا وقلنا، ولو كان واحدًا لقال: فعلتُ وقلتُ، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت، وأن عيسى يموت"؟ قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه"؟ قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه، فهل يملك عيسى شيئًا"
سورة البقرة
سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.
ترتيبها المصحفي
2نوعها
مدنيةألفاظها
6140ترتيب نزولها
87العد المدني الأول
285العد المدني الأخير
285العد البصري
287العد الكوفي
286العد الشامي
285
* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).
* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:
عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).
* قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.
قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].
قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».
قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.
فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).
* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:
جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).
* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ اْلْمَشْرِقُ وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].
وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.
واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).
* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]، فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).
* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].
ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).
* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].
جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).
* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).
* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).
«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).
وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:
كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).
* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:
فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).
* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:
فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).
* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).
* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:
فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).
* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).
* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:
فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).
* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).
حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:
هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).
هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).
أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).
بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).
ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).
وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).
دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).
انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).
مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).
الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).
تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).
نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).
تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).
قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).
الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).
حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).
دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).
جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).