مدنية قي قول الجميع، إلا آية منها وهي قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ فإنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى.
ﰡ
(أَلاَ يَا شُعَيْبٌ قَدْ نَطَقْتَ مَقَالةً | سَبَبْتَ بِهَا عَمْراً وَحَيَّ بني عَمْرو) |
(مُلُوكُ بني حطّى وَهَوَّزُ مِنْهُمُ | وَسَعْفَصُ أَصْلٌ لِلْمَكَارِمِ وَالْفَخْرِ) |
(هُمُ صَبَّحُوا أَهْلَ الحِجَازِ بغارَةٍ | كَمِثْل شُعَاعِ الشَّمْسِ أَوْ مَطْلَعِ الْفَجْرِ) |
(أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ | تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا) |
(لَيْسَ في الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ | إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ) |
(بُثَيْنَةُ قالتْ: يا جَمِيلُ أَرَبْتَنِيُ... فَقُلْتُ: كِلاَنَا يَا بُثَيْنَ مُرِيب)
قوله عزَّ وجلَّ: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾، يعني به هدىً من الضلالة. وفي المتقين ثلاثة تأويلات:
(لَوْ أَنَّ حَيّاً مُدْرِكُ الْفَلاَحِ | أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ) |
(لَقَدْ عَلِمتَ يا ابنَ أُمِّ صحصحْ | أن الحديدَ بالحديدِ يُفلحْ) |
أي غطَّاها، فسمي به الكافر بالله تعالى لتغطيته نعم الله بجحوده. وأما الشرك فهو في حكم الكفر، وأصله في الإشراك في العبادة. واختلف فِيمَنْ أُرِيدَ بذلك، على ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم اليهود الذين حول المدينة، وبه قال ابن عباس، وكان يسميهم بأعيانهم. والثاني: أنهم مشركو أهل الكتاب كلهم، وهو اختيار الطبري. والثالث: أنها نزلت في قادة الأحزاب، وبه قال الربيع بن أنس.
(ما سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ | وَالرَّأْيُ يَصْرِفُ، والإنْسَانُ أَطْوَارُ) |
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ﴾ في رجوع وباله عليهم.
﴿ وَمَا يَشْعُرُون ﴾ يعني وما يفطنون، ومنه سُمِّي الشاعر، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره، ومنه قولهم ليت شعري.
٢ - حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: انخدع الضب في جحر إذا اختفى فيه..
(أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى | صُدُورَهُمُ تَغْلِي عَلَيَّ مِراضُها) |
والثاني : أنهم أنكروا بذلك، أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا إنما نحن مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه.
والثالث : معناه أن ممالأتنا الكفار، إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين، وهذا قول ابن عباس.
والرابع : أنهم أرادوا أن ممالأة الكفار صلاح وهدى، وليست بفساد، وهذا قول مجاهد.
فإن قيل : فكيف يصح نفاقهم مع مجاهدتهم١ بهذا القول ؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنهم عرَّضوا بهذا القول، وكَنُّوا عنه من غير تصريح به.
والثاني : أنهم قالوا سراً لمن خلوا بهم من المسلمين، ولم يجهروا به، فبقوا على نفاقهم.
(نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا | فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ) |
(أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا) |
(حيران يعمه في ضلالته... مستورد بشرائع)
والثاني: معناه يتحيرون، قال رؤية بن العجاج:
(ومهمه أطرافه في مهمه... أعمى الهدى بالجاهلين العمه)
والثالث: يعمهون عن رشدهم، فلا يبصرونه، لأن من عمه عن الشيء كمن كمه عنه، قال الأعشى:
(أراني قد عمهت وشاب رأسي... وهذا اللعب شين للكبير)
أحدها : معناه أنه يحاربهم على استهزائهم، فسمي الجزاء باسم المجازى عليه، كما قال تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، وليس الجزاء اعتداءً، قال عمرو بن كلثوم :
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا |
والثالث : أنه لما كان ما أظهره من أحكام إسلامهم في الدنيا، خلاف ما أوجبه عليهم من عقاب الآخرة، وكانوا فيه اغترار به، صار كالاستهزاء [ بهم ].
والرابع : أنه لما حسن أن يقال للمنافق :
﴿ ذُقْ إِنًّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾
[ الدخان : ٤٩ ]، صار القول كالاستهزاء به.
والخامس : ما حكي : أنهم يُفْتَح لهم باب الجحيم، فيرون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فإذا انتهوا إلى الباب ضربهم الملائكة، بمقامع النيران، حتى يرجعوا، وهاذ نوع من العذاب، وإن كان كالاستهزاء.
قوله عز وجل :﴿ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهم يَعْمَهُونَ ﴾ وفي يمدهم تأويلان :
أحدهما : يملي لهم، وهو قول ابن مسعود.
والثاني : يزيدهم، وهو قول مجاهد.
يقال مددت وأمددت. فحكى عن يونس أنه قال : مددت فيما كان من الشر، وأمددت فيما كان من الخير، وقال بعض الكوفيين : يقال مددت مددت فيما كانت زيادته منه، كما يقال مد النهر وأمده نهر آخر، وأمددت فيما حدثت زيادة من غيره، كقولك أمددت الجيش بمدد، وأمد الجرح١ لأن المدة من غيره.
( في طغيانهم ) يعني تجاوزهم في الكفر، والطغيان مجاوزة القدر. يقال طغى الماء إذا جاوز قدره.
قال الله تعالى :﴿ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ﴾
﴿ يعمهون ﴾ فيه ثلاثة أقوال :
أحدها- يترددون ؛ ومنه قول الشاعر :
حيران يعمه في ضلالته مستورد بشرائع
والثاني- معناه يتحيرون، قال رؤبة بن العجاج :
ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
والثالث- يعمهون عن رشدهم فلا يبصرونه، لأن من عمه عن الشيء كمن كمه عنه، قال الأعشى :
أراني قد عمهتُ وشاب رأسي وهذا اللعب شين للكبير.
(أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ | دُجَى الَّليْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهْ) |
أما البَكَمُ، ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه آفة في اللسان، لا يتمكن معها من أن يعتمد به على مواضع الحروف.
والثاني : أنه الذي يولد أخرس.
والثالث : أنه المسلوب الفؤاد، الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه.
والرابع : أنه الذي يجمع بين الخَرَس وذهاب الفؤاد.
ومعنى الكلام، أنهم صمٌّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عُمْيٌ عن الإبصار له، رَوَى ذلك قتادة، ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ يعني إلى الإسلام.
(كَأَنَهَّمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ | صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ) |
(فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمِّرٍ | سُقِيتِ غَوَادِي الْمُزنِ حِينَ تَصُوبُ) |
(كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا | فَإِنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيصُ) |
كُلُوا في نِصْفِ٢ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا | فَإِنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيصُ |
٢ - أي في أنصاف بطونكم..
أحدها : أنَّ الأنداد الأكْفَاءُ، وهذا قول ابن مسعود.
والثاني : الأشباه، وهو قول ابن عباس.
والثالث : الأضداد، وهو قول المفضل.
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وأنتم تعلمون أن الله خلقكم، وهذا قول ابن عباس وقتادة.
والثاني : معناه وأنتم تعلمون أنه لا ندَّ له ولا ضد، وهذا قول مجاهد.
والثالث : معناه وأنتم تعْقلون فعبر عن العقل بالعلم.
أحدهما : أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار، التي وقودها الناس، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس.
والثاني : أن الحجارة وقود النار مع الناس، ذكر ذلك تعظيماً للنار، كأنها تحرق الحجارة مع إحراقها الناس.
وفي قوله :﴿ أُعِدَّتْ للْكَافِرِينَ ﴾ قولان٢ :
الأول : أنها وإن أعدت للكافرين، فهي معدة لغيرهم من مستحقي العذاب من غير الكافرين، وهي نار واحدة، وإنما يتفاوت عقابهم فيها.
والثاني : أن هذه النار معدة للكافرين خاصة، ولغيرهم من مستحقي العذاب نارٌ غيرها.
٢ -ما بين الزاويتين ساقط من ق..
(قَالَتْ أَلاَ لَيْتُمَا هذَا الْحَمَامُ لَنَا | إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ فَقَدِ) |
(إِنَّ سليطاً في الْخَسَارِ إِنَّهُ | أَوْلاَدُ قَوْمٍ حلفوا افنه) |
أما النقض، فهو ضد١ الإبرام، وفي العهد قولان :
أحدهما : الوصيَّة.
والثاني : الموثق.
والميثاق ما وَقَعَ التوثق به.
وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل :
أحدها : أن العهد وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك بترك العمل به.
والثاني : أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم٢.
والثالث : أن عهده ما أنزله على أهل الكتاب [ من ]، صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية المؤكدة باتباعه، فذلك العهد الذي نقضوه بجحودهم له بعد إعطائهم الله تعالى الميثاق من أنفسهم، ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر سبحانه، أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً.
والرابع : أن العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ٣ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنا ﴾
[ الأعراف : ١٧٢ ].
وفي هذه الكناية التي في ميثاقه قولان :
أحدهما : أنها كناية ترجع إلى اسم الله وتقديره من بعد ميثاق الله.
والثاني : أنها كناية ترجع إلى العهد وتقديره من بعد ميثاق العهد.
وفيمن عَنَاهُ الله تعالى بهذا الخطاب، ثلاثة أقاويل :
أحدها : المنافقون.
والثاني : أهل الكتاب.
والثالث : جميع الكفار.
قوله عز وجل :﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الذي أمر الله تعالى به أن يوصل هو رسوله، فقطعوه بالتكذيب والعصيان، وهو قول الحسن البصري.
والثاني : أنَّه الرحمُ والقرابةُ، وهو قول قتادة.
والثالث : أنه على العموم في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
قوله عز وجلَّ :﴿ وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ ﴾ وفي إفسادهم في الأرض قولان :
أحدهما : هو استدعاؤهم إلى الكفر.
والثاني : أنه إخافتهم السُّبُلَ وقطعهم الطريق.
وفي قوله :﴿ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : إن الخسران هو النقصان، ومنه قول جرير :
إِنَّ سليطاً في الْخَسَارِ إِنَّهُ | أَوْلاَدُ قَوْمٍ حلفوا افنه |
والثاني : أن الخسران ها هنا الهلاك، ومعناه : أولئك هم الهالكون.
ومنهم من قال : كل ما نسبه الله تعالى من الخسران إلى غير المسلمين فإنما يعني الكفر، وما نسبه إلى المسلمين، فإنما يعني به الذنب.
٢ - صدقهم: في ق صدقه..
٣ - في الأصول ذرياتهم بالجمع وهي قراءة غير الكوفيين وابن كثير. الآية ١٧٢ من سورة الأعراف..
(وَأَحْيَيْتَ مِنْ ذِكْرِي وَمَا كَانَ خامِلاً | وَلكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أنْبَهُ مِنْ بَعْضِ) |
(فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ | وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ) |
(فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا | فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا) |
(ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو | لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ) |
(وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ | بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ) |
(أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا | وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ) |
(أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ | سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ) |
(قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا | سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ) |
(فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا | كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ) |
(أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ | إِنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أغْضَبَا) |
أحدها : أنه المُحْكِمُ لأفعاله.
والثاني : أنه المانع من الفساد، ومنه سميت حَكَمَةُ١ اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد، وقال جرير :
أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ | إِنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أغْضَبَا |
والثالث : أنه المُصِيبُ للحقِّ، ومنه سمي القاضي حاكماً، لأنه يصيب الحق في قضائه، وهذا قول أبي العباس المبرد.
أحدهما : ما أسرَّه إبليس من الكبر والعصيان، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود.
والثاني : أن الذي كتموه : ما أضمروه في أنفسهم أن الله تعالى لا يخلق خلقاً إلاَّ كانوا أكرمَ عليه منه، وهو قول الحسن البصري.
(بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ | تَرَى الأَكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ) |
(يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً | قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ، وَأَبْلَسَا) |
(لَوْ كَانَ حَيٌّ خَالِد أَوْ مُعَمَّراً | لَكَانَ سُلَيْمَان البري مِنَ الدَّهْرِ) |
(بَرَاهُ إلهي وَاصْطَفَاهُ عِبَادُهُ | وَمَلَّكَهُ ما بَيْنَ نُوبَا إلى مِصْرِ) |
(وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً | قِيَاماً لَدَيْهِ يعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ) |
(بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِماً | يَأْمِنُ الأحْدَاثَ في عَيْشٍ رَغَدْ) |
(وَكُلُّ غَضَارَةٍ لَكَ من حَبِيب | لها بِكَ، أو لَهَوْتَ بِهِ، مَتَاعُ) |
قرأ حمزة وحده :﴿ فَأَزَالَهُمَا ﴾ بمعنى نحَّاهُما من قولك : زُلْتُ عن المكان، إذا تنحَّيْتَ عنه، وقرأ الباقون :﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾ بالتشديد بمعنى استزلَّهما من الزلل، وهو الخطأ، سمي زلَلاً لأنه زوال عن الحقَّ، وكذلك الزّلة زوال عن الحق، وأصله الزوال.
والشيطان الذي أزلهما هو إبليس.
واختلف المفسرون، هل خلص إليهما حتى باشرهما بالكلام وشافههما بالخطاب أم لا ؟ فقال عبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وأكثر المفسرين أنه خلص إليهما، واستدلُّوا بقوله تعالى :
﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾
[ الأعراف : ٢١ ] وقال محمد بن إسحاق : لم يخلص إليهما، وإنما أوقع الشهوة في أنفسهما، ووسوس لهما من غير مشاهدة، لقوله تعالى :
﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ﴾١، والأول أظهر وأشهر.
وقوله تعالى :﴿ فَأَخْرجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ يعني إبليس، سبب خروجهما، لأنه دعاهما إلى ما أوجب خروجهما.
قوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾.
الهُبوط بضم الهاء النزول، وبفتحها موضع النزول، وقال المفضل : الهبوط الخروج من البلدة، وهو أيضاً دُخولها، فهو من الأضداد، وإذا كان الهبوط في الأصل هو النزول، كان الدخُول إلى البلدة لسكناها نزولاً بها، فصار هُبوطاً.
واختلفوا في المأمور بالهبوط، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه آدم وحواء وإبليس والحيَّةُ، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه آدم وذريته، وإبليس وذريته، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه آدم، وحواء، والمُوَسْوِسُ.
والعدو اسم يستعمل في الواحد، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، والعداوة مأخوذة من المجاوزة من قولك : لا يَعْدوَنَّكَ هذا الأمْرُ، أيْ لا يُجاوِزَنَّكَ، وعداهُ كذا، أي جازوه، فَسُمِّيَ عَدُوّاً لمجاوزةِ الحدِّ في مكروه صاحبه، ومنه العَدْوُ بالقَدَم لمجاوزة المشْيِ، وهذا إخبار لهم بالعداوة وتحذير لهم، وليس بأمر، لأن الله تعالى لا يأمر بالعداوة.
واخْتُلِفَ في الَّذينَ قِيلَ لهم :﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عدُوٌّ ﴾، على قولين :
أحدهما : أنهم الذين قيل لهم اهبطوا، على ما ذكرنا من اختلاف المفسرين فيه.
والثاني : أنهم بنو آدم وبنو إبليس، وهذا قول الحسن البصري.
قوله عز وجل :﴿ وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن المستقر من الأرض موضع مقامهم عليها، لقوله تعالى :
﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً ﴾٢، وهذا قول أبي العالية.
والثاني : أنه موضع قبورهم منها، وهذا قول السُّدِّيِّ.
قوله عز وجلَّ :﴿ وَمَتَاعٌ إلى حينٍ ﴾ :
والمتاع كل ما اسْتُمْتِعَ به من٣ المنافع، ومنه سُمِّيَتْ متعة النكاح، ومنه قوله تعالى :
﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾٤، أي ادفعوا إليْهِنَّ ما ينتفعْنَ به، قال الشاعر :
وَكُلُّ غَضَارَةٍ لَكَ من حَبِيب | لها بِكَ، أو لَهَوْتَ بِهِ، مَتَاعُ |
أحدها : إلى الموت، وهو قول ابن عباس والسُّدِّيِّ.
والثاني : إلى قيام الساعة، وهو قول مجاهد٦.
والثالث : إلى أجلٍ، وهو قول الربيع.
٢ - الآية ٦٤ من سورة غافر..
٣ - من: ساقطة من ق..
٤ - فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا: الآية ٤٩ من سورة الأحزاب..
٥ - أي ضد..
٦ - مجاهد: في ك عطاء..
ولم يُخْرجِ اللهُ تعالى آدمَ من الجنة ويُهْبِطهُ على الأرض عقوبةً، لأمرين : أحدهما : أن ذنبه كان صغيراً.
والثاني : أنه أُهْبِطَ بعد قبول توبته.
وإنما أُهْبِطَ لأحد أمرين : إِمَّا تأديباً، وإمَّا تغليظاً للمحنة.
أحدها : مصدقاً لما في التوراة، من توحيد الله وطاعته.
والثاني : مصدقاً لما في التوراة، أنها من عند الله.
والثالث : مصدقاً لما في التوراة من ذكر القرآن، وبَعْثِهِ١ مُحمداً صلى الله عليه وسلم نبيّاً.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُوا أُوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : ولا تكونوا أول كافرٍ بالقرآن من أهل الكتاب، وهو قول ابن جريجٍ.
والثاني : ولا تكونوا أول كافر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا قول أبي العالية.
والثالث : ولا تكونوا أول كافرٍ بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمدٍ وتصديقِ القرآن.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : لا تأخذوا عليه أجراً، وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول :" يا ابن آدم علِّم مجَّاناً كما عُلِّمْتَ مجَّاناً "، وهذا قول أبي العالية.
والثاني : لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً، وهذا قول الحسن البصري.
والثالث : لا تأخذوا ثمناً٢ قليلاً على كتم ما فيه من ذكر محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتصديق القرآن، وهذا قول السدي.
٢ - ثمنا: في الأصول طمعا والسياق يأبى ذلك..
(لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي | غَنِينَ واسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي) |
(كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ | لَمْ يُخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِج) |
(فَلاَ خَساً عَدِيدُهُ وَلاَ زَكاً | كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا) |
(أخبّر أخبار القرون التي مضت | أدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ) |
(لاَ تُذِلَّ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ | كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ) |
كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ | لَمْ يُخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِج٢ |
فَلاَ خَساً عَدِيدُهُ وَلاَ زَكاً | كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا |
والقول الثاني : أنَّها مأخوذة من التطهير، ومنه قوله تعالى :
﴿ أَقَتَلْتَ نَفَساً زَاكِيَةً ﴾٤ أي طاهرة من الذنوب.
وفيما يُطهَّر قولان :
أحدهما : أنه تطهير المال حتى صار بأداء الحقِّ منه حلالاً ولولاه لخَبُثَ.
الثاني٥ : تطهير نفس المزكي، فكأن المزكي طهَّر نفسه من الشُحِّ والبخل.
قوله تعالى :﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ فيه قولان٦ :
أحدهما : أنه أراد جملة الصلاة، فعبر عنها بالركوع، كما يقول الإنسان : فَرَعْتُ من ركوعي، أي من صلاتي.
والثاني : أنه أراد الركوع الذي في الصلاة، لأنه لم يكن في صلاة أهل الكتاب ركوعٌ، فأَمَرَهُم بما لا يفعلونه في صلاتهم.
وفي أصل الركوع قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من التطامن والانحناء، وهو قول الخليل، وابن زيدٍ، قال لبيد بنُ ربيعة :
أخبّر أخبار القرون التي مضت | أدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ |
لاَ تُذِلَّ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ | كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ |
٢ - الجدود: جمع جد وهو الحظ والبخث. تعتلج، ويقال اعتلجت الأرض إذا طال نباتها وارتفع..
٣ - السبلى: هكذا في الأصول ولم أعثر في معاجم اللغة على هذه الكلمة ويبدو أنها السنبل..
٤ - زاكية: هكذا في الأصول وهي قراءة الجمهور، والذي في المصاحف المتداولة زكية وهي قراءة الكوفيين وابن عامر. قال الكسائي ومعناهما واحد. الآية ٧٤ من سورة الكهف..
٥ - اقتصرت الأصول على قول واحد، وقد أخذنا القول الثاني من كتب التفسير. قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..
٦ - زيادة يقتضيها السياق..
(لاَهُمَّ إِنَّ آلَ بَكْرٍ دُونَكَا | يَبرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا) |
(فَمَنْ يَكُ أَمْسَى في الْمَدِينَةِ رَحْلُهُ | فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ) |
(رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَهُ بِغَرِيمٍ | وَغُيوبٍ كَشَفْتَهَا بِظُنُونِ) |
أحدهما : يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم، لإشفاقهم من المعاصي التي كانت منهم.
والثاني : وهو قول الجمهور : أن الظن ها هنا اليقين، فكأنه قال : الذين يَتَيَقَّنُون أنهم ملاقو ربهم، وكذلك قوله تعالى :﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّي مُلاَقٍ حسَابِيَهْ١ ﴾ أي تيقَّنت، قال أبو داود :
رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَهُ بِغَرِيمٍ | وَغُيوبٍ كَشَفْتَهَا بِظُنُونِ |
أحدها : أنه أراد بالرجوع الموت.
والثاني : أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية.
والثالث : راجعون إليه، أي لا يملك أحد لهم ضرّاً ولا نفعاً غيره كما كانوا في بدءِ الخلق.
(جَزَى اللهُ بِالإْحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُمْ | فَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ الْبَلاءِ الَّذِي يَبْلُو) |
﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ في الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ٢ ﴾٣ وهذا قول السدي.
والثاني : أن معناه : وإذ فرقنا بينكم وبين البحر، أي ميزنا، فأصل الفرق التمييز بين الشيئين، والفِرْقَةُ من الناس : الطائفة المتميزة من غيرهم.
والبحر سُمِّيَ بحراً لسعته وانبساطه، ومنه قولهم : تبحَّر في العلم، إذا اتَّسع فيه، والبَحِيرَةُ : الناقةُ تُشَقُّ أُذُنُها شَقّاً واسعاً.
قوله تعالى :﴿ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ فحذف ذِكْرَ فرْعَوْنَ وإن غَرِقَ معهم، لأنه قد عُلِمَ دخوله فيهم.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ يعني إلى فَرْقِ البحر، حتى سلكوا فيه، وانطباقه على آل فرعون، حتى غرقوا فيه.
٢ - ذكر المفسرون أنه بحر القلزم أي البحر الأحمر..
٣ - سورة الشعراء ٥٣-٥٤..
أحدها : أن الفُرْقان هو الكتاب فذكره باسمين تأكيداً، وهو قول الفراء.
والثاني : أن الفُرْقَانَ : ما في التوراة من فَرْقٍ بين الحقِّ والباطلِ، فيكون ذلك نعتاً للتوراة، وهذا قول ابن عباس وأبي العالية.
والثالث : أن الفرقان النصر، الذي فرَّق الله به بين موسى وفرعون، حتى أنجى موسى وقومَهُ، وأغرق فرعون وقومهُ١، وهذا قول أبي زيدٍ.
والرابع : أن الفرقان : انفراق البحر لِبَنِي إسرائيلَ، حتى عبروا فيه.
أحدهما : أنه إحياؤهم بعد موتهم لاستكمال آجالهم١، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم بعد الإحياء سألوا أن يبعثوا أنبياء فبعثهم الله أنبياء، وهذا قول السُّدِّيِّ.
وأصل البعث الإرسال، وقيل : بل أصله : إثارة الشيء من محلِّه.
(بَجَمْعٍ تَضَلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ | تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ) |
(يُرَاوِحُ مِنْ صَلَواتِ الْمِلَي | كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً حِوَاراً) |
(وَلاَ أَعْتِبُ ابْنَ الْعَمِّ إِنْ كَانَ مُخْطِئاً | وَأَغْفِرُ عَنْهُ الْجَهْلَ إِنْ كَانَ جَاهِلاً) |
(وَعَاثَ فِينَا مُسْتَحِلٌّ عَائِثُ | مُصَدِّقٌ أو فَاجِرٌ مُناكِثُ) |
(قَدْ كُنْتُ أَغْنَىَ النَّاسِ شَخْصاً وَاحِداً | وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومٍ) |
(وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لاَ خَفَاءَ بِهِ | بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ) |
(فَإِنْ يَكُنِ الْقَتْلَى بَوَاءً فَإِنَّكُمْ | فَتىً مَا قَتَلْتُمْ آلَ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ) |
(يَا خَاتَمَ النُّبِّاءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ | بِالْحَقِّ حَيْثُ هُدَى آلإْلهِ هَدَاكَا) |
(لَمَّا وَرَدْنَا نبِيَاً وَاسْتَتَبَّ لَنَا | مُسْتَحْفَرٌ بِخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَجِلُ) |
(سِوَى مَرْبَعٍ لَمْ تَأْتِ فِيهِ مَخَافَةً | وَلاَ رَهَقاً مِنْ عَابِدٍ مُتَهَوِّدِ) |
(لمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصَارَا | شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإْزَارَا) |
والثالث: أنهم سُمُّوا بذلك، لقوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ﴾. ﴿والصابئين﴾، جمع، واحده: صابئ، واخْتُلِفَ في همزِهِ، فهمزه الجمهور إلا نافعاً. واخْتُلِف في المأخوذ منه هذا الاسم، على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مأخوذ من الطُّلُوعِ والظُّهُورٍ، من قولهم: صبأ نابُ البعير، إذا طلع، وهذا قول الخليل. والثاني: أن الصابِئ: الخارج من شيء إلى شيءٍ، فسُمِّي الصابئون بهذا
(أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا... وَقُولاَ: لَهَا عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا)
(داني جناحيه من الطور فمر | تقضّي البازي إذا البازيُّ كر) |
أحدها : أنها العقوبة.
والثاني : أنها الحيتان.
والثالث : أنها القرية التي اعتدى أهلها.
والرابع : أنهم الأمة الذين اعتدوا، وهم أهل أيلة.
والخامس : أنهم الممسوخون قردة.
والسادس : أنهم القردة الممسوخ على صورهم.
وفي قوله تعالى :﴿ نَكَالاً ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : عقوبة، وهو قول ابن عباس.
والثاني : عبرة ينكل بها من رآها.
والثالث : أن النكال الاشتهار بالفضيحة.
وفي قوله تعالى :﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ <١خمسة تأويلات :
أحدها : ما بين يديها وما خلفها> من القرى، وهذه رواية عكرمة عن ابن عباس.
والثاني : ما بين يديها يعني من بعدهم من الأمم، وما خلفها، الذين كانوا معهم باقين، وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس.
والثالث : ما بين يديها، يعني من دونها، وما خلفها، يعني لمن يأتي بعدهم من الأمم، وهذا قول السدي.
والرابع : لما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها للحيتان التي أصابوها، وهذا قول قتادة.
والخامس : ما بين يديها ما مضى من خطاياهم، وما خلفها : خطاياهم التي أُهْلِكُوا بها، وهذا قول مجاهد.
(قَدْ هَزِئَتْ مَنِّيَ أُمُّ طَيْسَلَة | قَالَتْ أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ شَيْءَ لَه) |
(شيب أصداغي فرأسي أبْيضُ | محامل فيها رجال فرض) |
(يا رُبَّ ذي ضغن عليّ فارض | له قروء كقروء الحائض) |
(فرحن عليه بين بِكرٍ عزيزة | وبين عَوانٍ كالغمامة ناصِفِ) |
(تلك خيلي منه وتلك ركابي | هُنّ صفر أولادها كالزبيب) |
(وصفرٍ ليست بمصفرّة | ولكنّ سوداءَ مثل الخُمُر) |
تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هُنّ صفر أولادها كالزبيب
وقال الراجز :
وصفرٍ ليست بمصفرّة *** ولكنّ سوداءَ مثل الخُمُر
وقال سائر المفسرين : إنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة، وهو أصح، لأنه الظاهر، ولأنه قال :﴿ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾ والفاقع من صفات الصفرة، وليس يوصف السواد بذلك، وإنما يقال : أسود حالكٌ، وأحمر قانٍ، وأبيضُ ناصعٌ، وأخضرُ ناضرٌ، وأصفرُ فاقعٌ.
ثم فيما أُرِيدَ بالصفرة قولان :
أحدهما : صفراء القرن والظلف، وهو قول سعيد بن جبير.
والثاني : صفراء اللون كله، وهذا قول مجاهد.
وفي قوله تعالى :﴿ فاقع لونها ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : الشديدة الصفرة، وهذا قول ابن عباس، والحسن.
والثاني : الخالص الصفرة، وهذا قول قطرب.
والثالث : الصافي، وهذا قول أبي العالية، وقتادة.
﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تعجب الناظرين بصفرتها، فتعجب بالسرور، وهو ما يتأثر به القلب، والفرح ما فرحت به العين، ويحتمل قوله :﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ وجهين :
أحدهما : بحسن لونها فتكون. . . . ٢ لصفرتها.
والثاني : حسن سمتها، وصفت بذلك، ليكون ذلك زيادة شرط في صفتها، غير ما تقدم من ذكر صفرتها، فتصير البقرة على الوجه الأول، ذات وصف واحد، وعلى الوجه الثاني، ذات وصفين.
٢ - بياض بالأصل ويمكن أن تستقيم العبارة هكذا فتكوين سارة لصفرتها..
" أُمِرُوا بِأَدْنَى بَقَرةٍ وَلَكِنَّهُم لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم شَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِم، وَأيمُ اللهِ لَو أَنَّهُم لَمْ يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُم آخرُ الأَبَدِ " يعني أنهم لو لم يقولوا :﴿ وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ ما اهتدوا إليها أبداً.
﴿ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ والإثارة تفريق الشيء، أي ليست مما يثير الأرض للزرع، ولا يسقى عليها الزرع. [ وقيل يثير فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقى ]. وليس هذا الوجه بشيء، بل نفى عنها جميع ذلك١.
﴿ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيها ﴾ وفي ذلك أربعة تأويلات٢ :
أحدها : مُسَلَّمَةٌ من العيوب، وهذا قول قتادة، وأبي العالية.
والثاني : مُسَلَّمَةٌ من العمل.
والثالث : مُسَلَّمَةٌ من غصب وسرقة، فتكون حلالاً.
والرابع : مُسَلَّمَةٌ من. . . . . . ٣ وفي ﴿ شِيَةَ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : ليس فيها علامة خاصة، حكاه السدي.
والثاني : أنه ليس فيها لون، يخالف لونها من سواد أو بياض.
والثالث : أنه الوضَح وهو الجمع بين ألوان من سواد وبياض.
وأصله من وشي الثوب، وهو تحسين عيوبه بألوان مختلفة، ومنه قيل للساعي بالرجل عند السلطان واشٍ، لأنه يحسّن كذبه عنده، حتى يقبله منه.
﴿ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : الآن بَيّنْت الحق، وهو قول قتادة.
والثاني : معناه أنه حين بيّنها لهم، قالوا هذه بقرة فلان، الآن جئت بالحق فيها، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
وفي قوله تعالى :﴿ فَذَبَحُوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنهم كادوا ألاّ يفعلوا لغلاء ثمنها، لأنهم اشتروها على ما حَكَى ابن عباس، ومحمد بن كعب : بملء مَسْكها ذهباً من مال المقتول. وقيل بوزنها عشر مرات.
والثاني : أنهم كادوا ألاّ يفعلوا خوفاً من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل، وهذا قول وهب، وقال عكرمة : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير. وقيل : كانت البقرة وحشية.
٢ - أربعة تأويلات: في ق تأويلات ثم قال أحدهما مسلمة أي من فرض ولم يذكر غير ذلك. ما بين الزاويتين ساقط من ق..
٣ - كلمة مطموسة لعلها الفرض بمعنى الهرم..
(أمسكت عنهم درء الأعادي | وداووا بالجنون من الجنون) |
(أدركتها قدام كل مدره | بالدفع عني درء كل منجه) |
أحدها : أنه ضُرِبَ بفخذ البقرة، وهذا قول مجاهد، وعكرمة وقتادة.
والثاني : أنه ضُرِبَ بالبضعة التي بين الكتفين، وهذا قول السدي.
والثالث : أنه ضُرِبَ بعظم من عظامها، وهذا قول أبي العالية.
والرابع : أنه ضُرِبَ بأُذنها، وهذا قول ابن زيد.
والخامس : أنه ضُرِبَ بعجب ذنبها، وهو الذي لا تأكله الأرض١، وهذا قول الفراء٢. والبعض : يَقِلُّ عن النصف.
﴿ كَذلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى ﴾ يعني، أنه لما ضُرِبَ القتيل ببعض البقرة، أحياه الله وكان اسمه عاميل، فقال قتلني ابن أخي، ثم قبض، فقال بنو أخيه : والله ما قتلناه، فكذّبوا بالحق بعد معاينته.
٣قال الفراء : وفي الكلام حذف، وتقديره : فقلنا اضربوه ببعضها، ليحيا فضربوه، فَحَيِيَ. كذلك يحيي الله الموتى، فدل بذلك على البعث والنشور، وجعل سبب إحيائه الضرب بميت، لا حياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة، أن الحياة إنما انتقلت إليه مما ضرب به، لتزول الشبهة، وتتأكد الحجة.
وفي قوله تعالى :﴿ كَذلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه حكاية عن قول موسى لقومه.
والثاني : أنه خطاب من الله لمشركي قريش.
﴿ وَيُرِيكُم ءَايَاتِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : علامة قدرته.
والثاني : دلائل بعثكم بعد الموت.
﴿ لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تعملون.
والثاني : تعتبرون.
٢ - نسب هذا القول إلى أبي السميفع في ك..
٣ -ما بين الزاويتين من: قال الفراء. إلى تعتبرون ساقط من ق..
(أحب محمداً حباً شديداً | وعباساً وحمزة أو علياً) |
(فإن يك حبهم رشدا أُصِبه | ولستُ بمخطئ إن كان غياً) |
(جاءَ الخلافة أو كانت له قدرا | كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ) |
(لما أتى خبر الزبير تواضعت | سور المدينة والجبال الخشّع) |
(ألا أبلغ بني عُصُم رسولاً | بأني عن فِتاحِكُم غنيُّ) |
أحدهما : أنهم اليهود، إذا خلوا مع المنافقين، قال لهم المنافقون : أتحدثون المسلمين، بما فتح الله عليكم. والثاني : أنهم اليهود، قال بعضهم لبعض :
﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيكُم ﴾ وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : بما فتح الله عليكم، أي مما أذكركم١ الله به، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني : بما أنزل الله عليكم في التوراة، من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعثه، ﴿ ليُحَآجُّوكم بَهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول أبي العالية وقتادة.
والثالث : أنهم أرادوا قول يهود بني قريظة، حين شبههم النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم إخوة القردة، فقالوا : من حدثك بهذا ؟ وذلك حين أرسل إليهم٢، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهذا قول مجاهد.
والرابع : أن ناساً من اليهود أسلموا، ثم نافقوا فكانوا يحدثون المسلمين من العرب، بما عُذِّبَ به ( آباؤهم )، فقال بعضهم لبعض، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، وهذا قول السدي.
وفي ﴿ فتح الله ﴾ هنا وجهان :
أحدهما : بما علمكم الله.
والثاني : بما قضاه الله، والفتح عند العرب القضاء والحكم، ومنه قول الشاعر :
ألا أبلغ بني عُصُم رسولاً | بأني عن فِتاحِكُم غنيُّ |
﴿ رَبَّنَا افْتَح بَيْنَنَا وَبَينَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾٣.
قوله تعالى :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾، فَحُذِفَ ذكُر الكتاب إيجازاً.
والثاني :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ فتظهر له الحُجَّة عليكم، فيكونوا أولى بالله منكم، وهذا قول الحسن.
والثالث :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ يوم القيامة، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القيِامَةِ عِنْدَ رَبِّكُم تَخْتَصِمُونَ ﴾٤
٢ - وذلك حين نازل علي بني قريظة يوم خيبر وسمع منهم سب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك..
٣ - آية ٨٩ الأعراف..
٤ - الآية ٣١ من سورة الزمر..
(وإنّ معاويةَ الأكرمين | حسانُ الوجوه طوال الأمَمْ) |
(ولكنما ذاك الذي كان منكما | أمانّي ما لاقت سماء ولا أرضا) |
(تمنّى كتاب الله أول ليلهِ | وآخرَه لاقي حمام المقادر) |
(ولا تقولَنْ لشيء سوف أفعله | حتى تَبَيّنَ ما يمني لك الماني) |
(حلفت يميناً غير ذي مثنوية | ولا علم إلا حسن ظن بصاحب) |
(كسا اللؤم سهما خضرة في جلودها | فويل لسهم من سرابيلها الخُضْرِ) |
أحدها : أنه العذاب، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه التقبيح، وهو قول الأصمعي. ومنه قوله تعالى :
﴿ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾
[ الأنبياء : ١٨ ]. وقال الشاعر :
كسا اللؤم سهما خضرة في جلودها | فويل لسهم من سرابيلها الخُضْرِ |
والرابع : أنه الخزي والهوان١.
والخامس : أن الويل وادٍ في جهنم، وهذا قول أبي سعيد الخدري.
والسادس : أنه جبل في النار، وهو قول عثمان بن عفان.
﴿ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِم ﴾ أي يغيرون ما في الكتاب من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته٢.
وفي قوله تعالى :﴿ بِأَيدِيهِم ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنه أراد بذلك تحقيق الإضافة، وإن كانت الكتابة لا تكون إلا باليد، كقوله تعالى :﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ ﴾.
والثاني : أن معنى ﴿ بِأَيْدِيهِم ﴾ أي من تلقاء أنفسهم، قاله ابن السراج.
وفي قوله تعالى :﴿ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً ﴾ تأويلان :
أحدهما : ليأخذوا به عرض الدنيا، لأنه قليل المدة، كما قال تعالى :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾٣ وهذا قول أبي العالية.
والثاني : أنه قليل لأنه حرام.
﴿ وَوَيلٌ لَّهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من تحريف كتبهم.
والثاني : من أيام معاصيهم.
٢ - قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم أنه أبيض ربعة، فجعلوه أسمر سبطا طويلا، وقالوا لاتباعهم انظروا إلى صفة النبي الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبه نعت هذا..
٣ - الآية ٧٧ من النساء..
أحدهما : أنه مجاوزة الحق.
والثاني : أنه في الإفراط في الظلم.
﴿ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُم ﴾ وقرأ حمزة ﴿ أُسْرَى ﴾. وفي الفرق بين أَسْرَى وأُسَارَى قولان :
أحدهما : أن أَسْرَى جمع أسير، وأُسَارَى جمع أَسْرَى.
والثاني : أن الأَسْرى الذين في اليد وإنْ لم يكونوا في وَثَاق، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء، والأُسارَى : الذين في وَثَاق.
(ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه | مقام الذئب كالرجل اللعين) |
(لو بأبانين جاء يخطبها | خُضَّب ما أنف خاضب بدم) |
(وإني لآتيكم بشكر ما مضى | من الأمر واستحباب ما كان في غد) |
(السمعُ والطاعة والتسليم | خير وأعفى لبني تميم) |
(امتلأ الحوض وقال قَطْني | مهلاً رويداً قد ملأت بطني) |
(فصحوتُ عنها بعد حبٍّ داخل... والحبُّ تُشربه فؤادَك: داءُ)
أحدهما : أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس.
الثاني : أن الله صرفهم عن إظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ يعني المجوس، لأن المجوس هم الذين ﴿ يَودُّ أَحَدُهُمْ لو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تحيتهم ( عش ألف سنة ) حرصاً على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون : أن لهم الجنة خالصة أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء. ﴿ وَمَا هُو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ أي بمباعده من العذاب ﴿ أَن يُعْمَّرُ ﴾ لأنه لو عمَّر ما تمنى، لما دفعه طول العمر من عذاب الله على معاصيه.
أحدهما : أنهما خُصَّا بالذكر تشريفاً لهما وتمييزاً.
والثاني : أن اليهود لما قالوا جبريل عدوّنا، وميكائيل ولينا، خُصَّا بالذكر، لأن اليهود تزعم أنهم ليسوا بأعداء لله وملائكته، لأن جبريل وميكائيل مخصوصان من جملة الملائكة، فنص عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص، ثم قال تعالى :﴿ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل لهم، لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.
أحدهما : أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويستخرجون السحر، فَأَطْلَعَ الله سليمان ابن داود عليه، فاستخرجه من أيديهم، ودفنه تحت كرسيه، فلم تكن الجن تقدر على أن تدنو من الكرسي، فقالت الإنس بعد موت سليمان : إن العلم الذي كان سليمان يُسَخِّر به الشياطين والرياح هو تحت كرسيه، فاستخرجوه وقالوا : كان ساحراً ولم يكن نبياً، فتعلموه وعلّموه، فأنزل الله تعالى براءة سليمان بهذه الآية.
والثاني : أن " آصف بن برخيا " وهو كاتب سليمان وَاطَأَ نَفَراً من الشياطين على كتاب كتبوه سحراً ودفنوه تحت كرسي سليمان، ثم استخرجوه بعد موته وقالوا هذا سحر سليمان، فبرأه الله تعالى من قولهم، فقال :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ ﴾، وهم ما نسبوه إلى الكفر، ولكنهم نسبوه إلى السحر، لكن لما كان السحر كفراً صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر.
قال تعالى :﴿ وَلَكْنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.
والثاني : أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه.
والثاني : أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه.
﴿ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ وفي ﴿ مَا ﴾ ها هنا وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى الذي، وتقديره الذي أنزل على الملكين.
والثاني : أنها بمعنى النفي، وتقديره : ولم ينزل على الملكين.
وفي الملكين قراءتان : إحداهما : بكسر اللام، كانا من ملوك بابل وعلوجها
هاروت وماروت، وهذا قول أبي الأسود الدؤلي، والقراءة الثانية : بفتح اللام من الملائكة.
وفيه قولان :
أحدهما : أن سحرة اليهود زعموا، أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره : وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، وهما رجلان ببابل.
والثاني : أن هاروت وماروت مَلَكان، أَهْبَطَهُما الله عز وجل إلى الأرض، وسبب ذلك، أن الله تعالى لما أطلع الملائكة على معاصي بني آدم، عجبوا من معصيتهم له مع كثرة أَنْعُمِهِ عليهم، فقال الله تعالى لهم : أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا : سبحانك ما ينبغي لنا، فأمرهم الله أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأُهْبِطَا إلى الأرض، وأحل لهما كل شيء، على ألا يُشْرِكا بالله شيئاً، ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فعرضت لهما امرأة وكان يحكمان بين الناس تُخَاصِمُ زوجها واسمها بالعربية : الزهرة، وبالفارسية : فندرخت، فوقعت في أنفسهما، فطلباها، فامتنعت عليهما إلا أن يعبدا صنماً ويشربا الخمر، فشربا الخمر، وعبدا الصنم، وواقعاها، وقتلا سابلاً مر بهما خافا أن يشهر أمرهما، وعلّماها الكلام الذي إذا تكلم به المتكلم عرج إلى السماء، فتكلمت وعرجت، ثم نسيت ما إذا تكلمت به نزلت فمسخت كوكبا١، قال : كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي هبطا فيه، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه، فتعجب الملائكة من ذلك.
ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء، فكانا يعلّمان السحر.
وذكر عن الربيع أن نزولهما كان في زمان ( إدريس ).
وأما السحر فقد اختلف الناس في معناه :
فقال قوم : يقدر الساحر أن يقلب الأعيان بسحره، فيحول الإنسان حماراً، وينشئ أعياناً وأجساماً.
وقال آخرون : السحر خِدَع وَمَعَانٍ يفعلها الساحر، فيخيل إليه أنه بخلاف ما هو، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، وكواكب السفينة السائرة سيراً حثيثاً، يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائرة معه.
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيّل إليه أنه يفعل الشيءَ وما فعله٢.
قالوا : ولو كان في وسع الساحر إنشاء الأجسام وقلب الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الباطل والحق فصل، ولجاز أن يكون جميع الأجسام مما سحرته السحرة، فقلبت أعيانها، وقد وصف الله تعالى سحرة فرعون ﴿. . . فَإِذَا حِبَالُهُمُ وَعِصِيُّهُمُ يُخَيَّلُ إِليْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى ﴾.
وقال آخرون : وهو قول الشافعي إن الساحر قد يوسوس بسحره فيمرض وربما قتل، لأن التخيل بدء الوسوسة، والوسوسة بدء المرض، والمرض بدء التلف.
فأما أرض ﴿ ببابل ﴾ ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الكوفة وسوادها، وسميت بذلك حيث تبلبلت الألسن بها وهذا قول ابن مسعود.
والثاني : أنها من نصيبين إلى رأس عين، وهذا قول قتادة.
والثالث : أنها جبل نهاوند. وهي [ قطر ] من الأرض٣.
﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ : إِنَّمَا نَحنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر ﴾ بما تتعلمه من سحرنا.
﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ في المراد بقوله " منهما " ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني من هاروت وماروت.
والثاني : من السحر والكفر.
والثالث : من الشيطان والملكين، فيتعلمون من الشياطين السحر، ومن الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
﴿ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ﴾ يعني السحر.
﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني بأمر الله.
والثاني : بعلم الله.
﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ يعني ما يضرهم في الآخرة، ولا ينفعهم في الدنيا.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ﴾ يعني السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
﴿ مَا لهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الخلاق النصيب، وهو قول مجاهد والسدي.
والثاني : أن الخلاق الجهة، وهو قول قتادة.
والثالث : أن الخلاق الدين، وهو قول الحسن.
قوله عز وجل :﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَواْ بِهِ أَنفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر في تعليمه وفعله.
والثاني : من إضافتهم السحر إلى سليمان، وتحريضهم على الكذب.
٢ - البخاري ١٠/ ١٩١، ١٩٧ ومسلم رقم ٢١٨٩..
٣ - لم يذكر في الأصول القول الرابع وقد أورد القرطبي عند الكلام على بابل قيل هي العراق وما والاه، وقال قوم هي بالمغرب، وذكر الأقوال الثلاثة التي ذكرها المؤلف. أما عن بلبلة الألسن فقد قال: إن الله لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الأفاق إلى بابل فبلبل الله ألسنتهم بها ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد والبلبلة التفريق بمعنى تعدد اللغات هنا..
أحدها : أن قوله ألم تعلم بمعنى أعلمت.
والثاني : أنه خارج مخرج التقرير، لا مخرج الاستفهام. كما قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ : اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَم أَنتَ قُلْتَ لِلْنَّاسِ : اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ ﴾[ المائدة : ١١٦ ] خرج مخرج التقرير لا مخرج الاستفهام.
والثالث : أن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، ألا تراه قال بعد ذلك :﴿ وَمَا لَكُم مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
(وعليهما مسرودتان قضاهما | داود أو صنع السوابغ تُبّع) |
(قضيت أموراً ثم غادرت بعدها | بوائج في أكمامها لم تفتق) |
(قد قالت الأنساع للبطن الحق | قدما فآضت كالغسق المحقق) |
(فأصبحت مثل النسر طارت فراخه | إذا رام تطياراً يقال له قَعِ) |
وعليهما مسرودتان قضاهما | داود أو صنع السوابغ تُبّع |
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها | بوائج في أكمامها لم تفتق١ |
قيل : عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة :
أحدها : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل، أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات.
الثاني : أن الله عز وجل عالم، بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه، قبل كونها مشابهة للأشياء التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.
والثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى، عامٌ عن جميع ما يُحْدِثُه، ويكوّنه، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النجم :
قد قالت الأنساع للبطن الحق | قدما فآضت كالغسق المحقق ؟ |
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه | إذا رام تطياراً يقال له قَعِ |
جزى الله خيرا من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق
ومعنى بوائج في أكمامها لم تفتق: دواهي عظيمة لم تزل في أغطيتها لم تنكشف..
(تعدون عقر النيب أفضل مجدكم | بني ضَوْطَرَى لولا الكمى المقنعا) |
أحدهما : أنهم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم علماء اليهود، والكتاب هو التوراة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يقرؤونه حق قراءته١.
والثاني : يتبعونه حق اتباعه، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، وهذا قول الجمهور.
﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن من قرأ أحد الكتابين، آمن به، لِمَا فيهما من وجوب اتباعه.
أحدها : هي شرائع الإِسلام، قال ابن عباس : ما ابتلى الله أحداً بهن، فقام بها كلها، غير إبراهيم، ابتلي بالإِسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال :
﴿ وإبراهيم الذي وَفَّى ﴾[ النجم : ٣٧ ] قال : وهي ثلاثون سهماً :
عشرة منها في سورة براءة :﴿ التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون، الساجدون ﴾، [ الآمرون٢ بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين ].
وعشرة في الأحزاب :
﴿ إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ، وَالصَادِقينَ والصَادِقَاتِ، وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ، واَلْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالْحَافِظِينَ فروجَهُم وَالْحافِظَاتِ، وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالْذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغَفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[ الأحزاب : ٣٥ ].
وعشرة في سورة المؤمنين :﴿ قَدْ أفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ٣، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغُوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذيِنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ، فَمن ابتغى وَرَاءَ ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمُ لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونِ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
[ المؤمنون : ١ - ١١ ] وفي سورة سأل سائل من ﴿ إلا المُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾٤، إلى ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافظُون ﴾[ المعارج : ٣٤ ].
والقول الثاني : أنها عشر خصال من سُنَنِ الإسلام، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فروى ابن عباس في الرأس : قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر البول والغائط بالماء. وهذا قول قتادة.
والقول الثالث : أنها عشر خصال، ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان : حَلْقُ العانة، والختان، ونَتْفُ الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغُسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر : الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. روى ذلك الحسن عن ابن عباس.
والقول الرابع : إن الله تعالى قال لإبراهيم : إني مبتليك يا إبراهيم، قال : تجعلني للناس إماماً ؟ قال نعم، قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال : نعم، قال : وأمناً ؟ قال : نعم، قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال : نعم، قال : وأرنا مناسكنا وتب علينا ؟ قال : نعم، قال : وتجعل هذا البلد آمناً ؟ قال : نعم، قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن ؟ قال : نعم، فهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم، وهذا قول مجاهد٥.
والخامس : أنها مناسك الحج خاصة، وهذا قول قتادة.
والقول السادس : أنها الخلال الست : الكواكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن، وهذا قول الحسن.
والقول السابع : ما رواه سهل بن معاذ بن أنس عن أمه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : سبحان الله حين تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحُونَ، وله الحمْدُ في السّموَاتِ والأرْضِ وعَشِيّاً وحين تُظْهِرُونَ ". والقول الثامن، ما رواه القاسم بن محمد، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قَالَ : أتَدْرُونَ مَا وَفَّى ؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ : وَفّى عَمَلَ يَوْمٍ بِأرْبَعِ رَكْعَاتٍ فِي النَّهَارِ "
﴿ قَالَ إنَّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً ﴾ أي مقصوداً متبوعاً، ومنه إمام المصلين، وهو المتبوع في الصلاة.
﴿ قال ومن ذريتي ﴾ فاحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أنه طمع في الإمامة لذريته، فسأل الله تعالى ذلك لهم.
والثاني : أنه قال ذلك استخباراً عن حالهم، هل يكونون أهل طاعة فيصيروا أئمة ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصياً وظالماً، لا يستحق الإمامة، فقال :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
وفي هذا العهد، سبعة تأويلات :
أحدها : أنه النبوة، وهو قول السدي.
والثاني : أنه الإمامة، وهو قول مجاهد.
والثالث : أنه الإيمان، وهو قول قتادة.
والرابع : أنه الرحمة، وهو قول عطاء.
والخامس : أنه دين الله وهو قول الضحاك.
والسادس : أنه الجزاء والثواب.
والسابع : أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمة، وهو قول ابن عباس.
٢ - الآية ١١٢ من سورة التوبة. ومن "الآمرون" حتى نهاية الآية ساقط من الأصول..
٣ -الآيات من ١-١١ من سورة المؤمنون..
٤ - الآية ٢٣ من سورة المعارج وبعدها: والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم.
والذين يصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، أن عذاب ربهم غير مأمون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهادتهم قائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون..
٥ - وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم الكلمات.
(مثاباً لأفناءِ القبائل كلها | تحب إليها اليعملات الذوامل) |
﴿ مَنْ ءَآمَنَ مِنْهُم بِاللهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا من قول إبراهيم متصلاً بسؤاله، أن يجعله بلداً آمناً، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله :﴿ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ أن فيهم ظالماً هو بالعقاب أحق من الثواب، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات.
والوجه الثاني : أنه سؤاله كان عاماً مرسلاً، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين، بأن قال :﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ يعني في الدنيا.
﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ ﴾ يعني بذنوبه إن مات على كفره.
واختلفوا في مكة، هل صارت حرماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك ؟ على قولين :
أحدهما : أنها لم تزل حرماً مِنَ الجَبَابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل إبراهيم ربَّه : أن يجعله آمناً من الجذب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لرواية سعيد بن المقبري، قال : سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال :" يأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ١ بِهَا شَجَراً، وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا، ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ، ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ. فَمَنْ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا فَقُولُوا : إنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكْ " ٢.
والثاني : أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم، كسائر البلاد، وأنها بدعوته صارت حرماً آمنا، وبتحريمه لها، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراماً، بعد أن كانت حلالاً، لرواية أشعب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال :" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللهِ وَخَلِيله، وَإِنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عَضَاهَا وَصَيْدُهَا، لاَ يُحْمَلُ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ، وَلاَ يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ لَعَلَفٍ " ٣
٢ - البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومسند أحمد ٤/٢١..
٣ - البخاري ومسلم وأحمد في مسنده ١/١٨١..
والقواعد من البيت واحدتها قاعدة، وهي كالأساس لما فوقها.
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾ والمعنى : يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيكُم ﴾ أي يقولون سلام عليكم، وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولاَنِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾. وتفسير " إسماعيل " : إسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال : اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمّى بما دعا.
﴿ وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أي عرفنا مناسكنا، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها مناسك الحج ومعالمه، وهذا قول قتادة والسدي.
والثاني : أنها مناسك١ الذبائح التي تنسك لله عز وجل، وهذا قول مجاهد وعطاء.
والمناسك جمع منسك، واختلفوا في تسميته منسكاً على وجهين :
أحدهما : لأنه معتاد يتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم إن لفلان منسكاً، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها.
والثاني : أن النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات.
أحدهما : أن المحذوف بل نتبع ملة إبراهيم، ولذلك جاء به منصوباً.
والثاني : أن المحذوف بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر، صار منصوباً، والملة : الدين، مأخوذ من الإملاء، أي ما يُمْلُون من كتبهم.
وأما الحنيف، ففيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه المخلص، وهو قول السدي.
والثاني : أنه المتَّبع، وهو قول مجاهد.
والثالث : الحاج، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والرابع : المستقيم.
وفي أصل الحنيف في اللغة وجهان :
أحدهما : الميل، والمعنى أن إبراهيم حَنَفَ إلى دين الله، وهو الإسلام فسمي حنيفاً، وقيل للرجل أحْنَف١ لميل كل واحدة من قدميه إلى أختها.
والوجه الثاني : أن أصله الاستقامة، فَسُمِّي دين إبراهيم " الحنيفية " لاستقامته وقيل للرجل أحنف، تطيّراً من الميل وتفاؤلاً بالاستقامة، كما قيل لِلًّدِيغ سليم، وللمُهْلِكةِ من الأرض مفازة.
والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله..
﴿ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ يعني في مشاقة وعداوة، وأصل الشِّقَاقِ البُعْدُ، من قولهم قد أخذ فلان في شِقٍّ، وفلان في شِقٍّ آخر، إذا تباعدوا. وكذلك قيل للخارج عن الجماعة، قد شَقَّ عصا المسلمين لبُعْدِهِ عنهم.
أحدهما : معناه دين الله، وهذا قول قتادة.
وسبب ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء١ لهم، ويقولون هذا تطهير لهم كالختان، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال :﴿ صِبْغَةَ اللهِ ﴾ أي صبغة الله أحسن صبغة، وهي الإسلام.
والثاني : أن صبغة الله، هي خلقة الله، وهذا قول مجاهد.
فإن كانت الصبغة هي الدين، فإنما سُمِّيَ الدين صبغة، لظهوره على صاحبه، كظهور الصِّبْغِ عَلَى الثوبِ، وإن كانت هي الخلقة فلإحداثه كإحداث٢ اللون على الثوب.
٢ - هكذا في الأصول..
ثم قال تعالى ﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ هم اليهود كتموا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته١.
﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ من كتمان الشهادة، والارتشاء عليها من أغنيائهم وسفهائهم.
(هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الإلهُ بِحُكْمِهِمْ | إذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيالي بِمُعَظَّمِ) |
أحدها : يعني خياراً، من قولهم فلان وسط الحَسَبِ في قومه، إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه، ومنه قول زهير :
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الإلهُ بِحُكْمِهِمْ | إذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيالي بِمُعَظَّمِ |
والثالث : يريد بالوسط : عدلاً، لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان، وقد روى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً ﴾ أي عَدْلاً١.
﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لتشهدوا على أهل الكتاب، بتبليغ الرسول إليهم رسالة ربهم.
والثاني : لتشهدوا على الأمم السالفة، بتبليغ أنبيائهم إليهم رسالة ربهم، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الأمم السالفة تقول لهم٢ : كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا، فيقولون أعْلَمَنَا نبيُّ الله بما أُنْزِلَ عليه من كتاب الله٣.
والثالث : أن معنى قوله :﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ أي لتكونوا مُحْتَجِّينَ على الأمم كلها، فعبر عن الاحتجاج بالشهادة، وهذا قول حكاه الزجاج.
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يكون الرسول شهيداً على أمته أنْ قد بلّغ إليهم رسالة ربه.
والثاني : أنّ معنى ذلك أنْ يكون شهيداً لهم بإيمانهم، وتكون ( عليهم ) بمعنى ( لهم ).
والثالث : أن معنى قوله :﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيداً ﴾ أي مُحْتَجّاً.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾ أي بيت المقدس، ﴿ إلاّ لِنَعَلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ فإن قيل : الله أعلم بالأشياء قبل كونها، فكيف جعل تحويل القِبْلة طريقاً إلى علمه ؟ قيل : في قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : يعني إلا ليعلم رسولي، وحزبي، وأوليائي ؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتْباعُ الرئيس إليه، كما قالوا : فتح عمرُ بنُ الخطاب سوادَ العراق وجبي خَرَاجَهَا.
والثاني : أن قوله تعالى :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى : إلا لنرى، والعرب قد تضع العلمَ مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كما قال تعالى :
﴿ ألَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
[ الفيل : ١ ] يعني : ألم تعلم.
والثالث : قوله تعالى :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم الله بالأشياء قبل كونها.
والرابع : أن قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك، وهذا قول ابن عباس٤.
قوله تعالى :﴿ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ ﴾ بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة ﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ بمعنى : ممن يَرْتَدُّ عن دينه، لأن المرتد راجع مُنْقَلِب عما كان عليه، فشبهه بالمُنْقلِب على عقبه، لأن القبلة لمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ من المسلمين قَوْمٌ، ونافق قوم، وقالت اليهود : إن محمداً قد اشتاق إلى بلد أبيه، وقالت قريش : إن محمداً قد علم أننا على هدى وسَيُتَابِعُنَا.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ، وهذا هو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني : إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل، وهذا قول أبي العالية الرياحي.
والثالث : أن الكبيرة هي الصلاة، التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم ﴾ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل، وسبب ذلك أن المسلمين لما حُوِّلُوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف٥ من مات من إخواننا ؟ فأنزل الله عز وجل :﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُم ﴾.
فإن قيل : هم سألوه عن صلاةِ غيرهم، فأجابهم بحال صلاتهم ؟ قيل : لأن القوم أشفقوا، أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس مُحْبَطةً لمنْ مات ومن بقي، فأجابهم بما دَلَّ على الأمرين، على أنه قد روى قوم أنهم قالوا : كيف تضيع٦ صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى ذلك. ﴿ إنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ الرأفة : أشد من الرحمة، وقال أبو عمرو بن العلاء : الرأفة أكثر من الرحمة.
٢ - وهذا يوم القيامة..
٣ - رواه البخاري وقال عن أبي سعيد الخدري وذكر ابن المبارك هذا الحديث مطولا بمعناه، وأول الحديث: يدعي نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول الله: هل بلغت الخ..
٤ - التأويل الثاني أظهر وأن معناه علم المعاينة الذي مثل: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء)، وقوله عز وجل: (حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) وما أشبه..
٥ - جاء ذلك في حديث خرجه الترمذي عن ابن عباس وقال حديث حسن صحيح (رقم ٢٩٦٨).
٦ - كيف تضيع صلاتنا: في ق كيف نصنع بصلاتنا..
(إنَّ العسير بها دَاءٌ يُخَامِرُها | فشطرُهَا نظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ) |
﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ أي من الشاكِّين يقال : امترى فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مَرَّةً، والشك أخرى، فدافع أحدهما بالآخر.
فإن قيل : أفكان شاكّاً حين نهى عنه ؟ قيل : هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره من أمته.
أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره، وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى :
﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ أنه لا يتعقبه نسخ.
وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه، لقوله :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ ﴾ ليس يريد أن لهم عليكم حجة. وفيه قولان :
أحدهما : أن المعنى، ولكن الذين ظلموا قد يحتجون عليكم بأباطيل الحجج، وقد ينطلق اسم الحجة على ما بطل منها، لإقامتها في التعلق بها مقام الصحيح حتى يظهر فسادها لمن علم، مع خفائها على من جهل، كما قال تعالى ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾١ <فَسَمَّاهَا حجة، وجعلها عند الله دَاحِضَةْ>٢.
والقول الثاني : أن المعنى لِئَلاَّ يكون للناس عليكم حُجَّةٌ بعد الذين ظلموا، فتكون ( إلاّ ) بمعنى ( بعد ) كما قيل في قوله تعالى :
﴿ وَلاَ تَنكَحُوا مَا نَكَحَ آبَاءُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾
[ النساء : ٢٢ ] أي بعدما قد سلف. وكما قيل في قوله تعالى :
﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأولى ﴾
[ الدخان : ٥٦ ] أي بعد الموتة الأولى. وأراد بالذين ظلموا قريشاً واليهود، لقول قريش حين استقبل الكعبة : قد علم أننا على هُدًى، ولقول اليهود : إن رَجَعَ عنها تابعناه.
﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونِي ﴾ في المخالفة ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : فيما هديناكم إليه من القبلة.
والثاني : ما أعددته لكم من ثواب الطاعة.
٢ - هذه العبارة ساقطة من ق..
أحدهما : اذكروني بالشكر أذكركم بالنعمة.
والثاني : اذكروني بالقبول أذكركم بالجزاء.
أحدهما : أنهم ليسوا أمواتاً وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو٢ الأجسام.
والثاني : أنهم ليسوا بالضلال أمواتاً بل هم بالطاعة والهدى أحياء، كما قال تعالى :
﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾
[ الأنعام : ١٢٢ ] فجعل الضالَّ ميتاً، والمُهْتَدي حياً.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أنهم ليسوا أمواتاً بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر.
٢ - في ك منعوا وفي ق فنعموا، ومعنى: منعمو الأجسام إن الله يرد أرواحهم في قبورهم إلى أجسامهم فينعمون..
(صلّى على يحيى وأشياعه | رَبٌّ كريمٌ وشفيع مطاع) |
صلّى على يحيى وأشياعه | رَبٌّ كريمٌ وشفيع مطاع |
ثم قال :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ فأعادها مع اختلافها اللفظين لأنه أوكد وأبلغ كما قال :﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾.
وفي قوله تعالى :﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ وجهان محتملان :
أحدهما : المهتدون١ إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
والثاني : المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر.
(أبت لي قوتي والطول إلاّ | يؤيسَ حافراً أبداً صفاتي) |
(ويُوَلّي الأرضَ خفاً ذابلاً | فإذا ما صادف المَرْوَ رضخ) |
(نقتّلهم جيلاً فجيلاً تراهُمُ | شعائر قربان بها يُتَقَرَّبُ) |
(وأشهد من عوف حلولاً كثيرة | يحجون سب الزبرقان المزعفرا) |
(لقد غزا ابن معمر حين اعتمر | مَغْزىً بعيداً من بعيد وصَبَر) |
(وجاشت النفسُ لمَّا جاءَ فَلُّهم | وراكب جاءَ من (تثليث) معتمرا) |
(ما كان يرضى رسول الله فعلهم | والطيبان أبو بكر ولا عُمَرُ) |
أحدهما : إصلاح سرائرهم وأعمالهم.
والثاني : أصلحوا قومهم بإرشادهم إلى الإسلام ﴿ وَبَيَّنُوا ﴾ يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتَباعه ﴿ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِم ﴾ والتوبة من العباد : الرجوع عن الذنب، والتوبة من الله تعالى : قبولها من عباده.
فإن قيل : فليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، قيل : عن هذا جوابان :
أحدهما : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة جميع الناس، فغلب حكم الأكثر على الأقل.
والثاني : أن المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس كما قال تعالى :
﴿ يَومَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾.
[ العنكبوت : ٢٥ ].
أحدهما : لا يخفف بالتقليل والاستراحة.
والثاني : لا يخفف بالصبر عليه والاحتمال له.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يؤخرون عنه ولا يمهلون.
والثاني : لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم.
(إذا هبت الأرواح من نحو جانب | به آل مَيٍّ هاج شوقي هبوبها) |
أحدهما : أن الذين اتبعوا هم السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر، وهذا قول عطاء.
والثاني : أنهم الشياطين تبرؤوا من الإنس، وهذا قول السدي.
﴿ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ يعني به المتبوعين والتابعين. وفي رؤيتهم للعذاب وجهان محتملان :
أحدهما : تيقنهم له عند المعاينة في الدنيا.
والثاني : أن الأمر بعذابهم عند العرض والمساءلة في الآخرة.
﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن الأسباب تواصلهم في الدنيا، وهو قول مجاهد وقتادة.
والثاني : المنازل التي كانت لهم في الدنيا، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أنها الأرحام، وهو رواية ابن جريج عن ابن عباس.
والرابع : أنها الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، وهو قول السدي.
والخامس : أنها العهود والحلف الذي كان بينهم في الدنيا.
﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ يريد المتبوعين والأتباع، والحسرة شدة الندامة على محزون فائت.
وفي ﴿ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ وجهان :
أحدهما : برهم الذي حبط بكفرهم، لأن الكافر لا يثاب مع كفره.
والثاني : ما نقصت به أعمارهم في أعمال المعاصي أن لا تكون مصروفة إلى طاعة الله.
﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ يريد به أمرين :
أحدهما : فوات الرجعة.
والثاني : خلودهم في النار.
وفي الفحشاء ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : الزنى.
والثاني : المعاصي.
والثالث : كل ما فيه الحد، سمي بذلك لفحش فعله وقبح مسموعه.
﴿ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرمه الله عليكم.
والثاني : أن تجعلوا له شريكاً.
(.............. | أصمُّ عَمّا ساءَه سميعُ) |
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ أخبر الله تعالى بما حرم بعد
(لا يمنعنّك من بغا... ء الخير تعقادُ التمائم)
(إن الأشائم كالأيا... من، والأيامن كالأشائم)
أحدهما : أن مثل الكافر فيما يوعظ به مثل البهيمة التي ينعق بها تسمع الصوت ولا تفهم معناه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني : مثل الكافر في دعاء آلهته التي يعبدها من دون الله كمثل راعي البهيمة يسمع صوتها ولا يفهمه، وهذا قول ابن زيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أصمُّ عَمّا ساءَه سميعُ
﴿ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : التحريم مقصور على لحمه دون غيره اقتصاراً على النص، وهذا قول داود بن علي.
والثاني : أن التحريم عام في جملة الخنزير، والنص على اللحم تنبيه على جميعه لأنه معظمه، وهذا قول الجمهور.
﴿ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ﴾ يعني بقوله :﴿ أُهِلَّ ﴾ أي ذبح وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ذكروا عنده اسم آلهتهم وجهروا به أصواتهم، فسمي كل ذابح جَهَر بالتسمية أو لم يجهر مُهِلاً، كما سمي الإحرام إهلالاً لرفع أصواتهم عنده بالتلبية حتى صار اسماً له وإن لم يرفع عنده صوت. وفي قوله تعالى :﴿ لِغَيْرِ اللهِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : ما ذبح لغير الله من الأصنام١ وهذا قول مجاهد وقتادة.
والثاني : ما ذكر عليه اسم غير الله، وهو قول عطاء والربيع.
﴿ فَمَنِ اضَطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ اضطر افتُعل من الضرورة، وفيه قولان :
أحدهما : معناه : فمن أكره على أكله فلا إثم عليه، وهو قول مجاهد.
والثاني : فمن احتاج إلى أكله لضرورة دعته من خوف على نفس فلا إثم عليه، وهو قول الجمهور.
وفي قوله :﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : غير باغ على الإمام ولا عاد على الأمة بإفساد شملهم، فيدخل الباغي على الإمام وأمته والعادي : قاطع الطريق، وهو معنى قول مجاهد وسعيد بن جبير.
والثاني : غير باغ في أكله فوق حاجته ولا عاد يعني متعدياً بأكلها وهو يجد غيرها، وهو قول قتادة، والحسن، وعكرمة، والربيع، وابن زيد.
والثالث : غير باغٍ في أكلها شهوة وتلذذاً ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع، وهو قول السدي. وأصل البغي في اللغة : قصد الفساد يقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فَجَرَتْ. وقال الله عز وجل :
﴿ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾٢ وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد، والعرب تقول خرج الرجل في بغاء إبلٍ له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر٣ :
لا يمنعنّك من بغا *** ء الخير تعقادُ التمائم
إن الأشائم كالأيا *** من، والأيامن كالأشائم
٢ - الآية ٣٣ من سورة النور..
٣ - هو المرقش..
(وأمّ سماك فلا تجزعي | فللموت ما تلد الوالدة) |
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : معناه ما أجرأهم على النار، وهذا قول أبي صالح.
والثاني : فما أصبرهم على عمل يؤدي بهم إلى النار.
والثالث : معناه فما أبقاهم على النار، من قولهم : ما أصبر فلاناً على الحبس، أي ما أبقاه فيه.
والرابع : بمعنى أي شيء صبّرهم على النار ؟
(يا بنت عمي كتاب الله أخرجني | عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا) |
(كتب القتل والقتال علينا | وعلى الغانيات جر الذيول) |
أحدهما : إذا ذكره الظالم المعتدي، كف عن القتل فحيي، وهذا قول مجاهد وقتادة.
والثاني : أن إيجاب القصاص على القاتل وترك التعدي إلى من ليس بقاتل حياة للنفوس، لأن القاتل إذا علم أن نفسه تؤخذ بنفس من قتله كف عن القتل فَحِيِيَ أن يقتل قوداً، أو حَيِيَ المقتول أن يقتل ظلماً.
وفي المعنيين تقارب، والثاني أعم، وهو معنى قول السدي.
وقوله تعالى :﴿ يَا أُولِي الألْبَابِ ﴾ يعني يا ذوي العقول، لأن الحياة في القصاص معقولة بالاعتبار.
وقوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ قال ابن زيد : لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به.
(هم المولى وهمْ جنفوا علينا | وإنا من لقائهمُ لَزُورُ) |
هم المولى١ وهمْ جنفوا علينا | وإنا من لقائهمُ لَزُورُ |
(خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ | تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما) |
(فدعها وسَلِّ الهمَّ عنك بجَسْرةٍ | ذمولٍ إذا صام النهار وهجّرا) |
أحدهما : أنها أيام شهر رمضان التي أبانها من بعد، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين.
والثاني : أنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كانت مفروضة قبل صيام شهر رمضان، ثم نسخت به، وهو قول ابن عباس، وقتادة وعطاء، وهي الأيام البيض من كل شهر، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه الثاني عشر وما يليه.
والوجه الثاني : أنها الثالث عشر وما يليه، وهو أظهر الوجهين، لأن أيام الشهر مجزأة عند العرب عشرة أجزاء، كل جزء منها ثلاثة أيام، تختص باسم، فأولها ثلاث غرر، ثم ثلاث شهب، ثم ثلاث بهر، ثم ثلاث عشر، ثم ثلاث بيض، ثم ثلاث درع، والدرع هو سواد مقدم الشاة، وبياض مؤخرها، فقيل لهذه الثلاث درع، لأن القمر يغيب في أولها، فيصير ليلها درعاً، لسواد أوله، وبياض آخره، ثم ثلاث خنس، لأن القمر يخنس فيها، أي يتأخر، ثم ثلاث دهم، وقيل حنادس لإظلامها، ثم ثلاث فحم، لأن القمر يتفحم فيها، أي يطلع آخر الليل، ثم ثلاث رادي، وهي آخر الشهر، مأخوذة من الرادة، أن تسرع نقل أرجلها حتى تضعها في موضع أيديها.
وقد حكى أبو زيد، وابن الأعرابي، أنهم جعلوا للقمر في كل ليلة من ليالي العشر اسماً، فقالوا ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين حديث مين مكذب ومبين، ورواه ابن الأعرابي كذب ومين، وابن ثلاث قليل اللباث، وابن أربع عتمة ربع لا جائع ولا مرضع، وابن خمس حديث وأنس، وابن ست سِرْ وبِتْ، وابن سبع دلجة الضبع، وابن ثمان قمر إضحيان، وابن تسع انقطع الشسع. وفي رواية غير أبي زيد : يلتقط فيه الجزع، وابن عشر ثلث الشهر، عن أبي زيد وعن غيره، ولم يجعل له فيما زاد عن العشر اسماً مفرداً.
واختلفوا في الهلال متى يصير قمراً، فقال قوم يسمى هلالا لليلتين، ثم يُسَمَّى بعدها قمراً، وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث، ثم يسمى بعدها قمراً، وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث، ثم يسمى بعدها قمراً، وقال آخرون يسمى هلالاً حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بِخَطَّةٍ دقيقة، وهو قول الأصمعي، وقال آخرون يسمى هلالاً إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، فإذا بهر ضوؤه يسمى قمراً، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة.
[ ثم عدنا إلى تفسير ما بقي من الآية ].
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ يعني مريضاً لا يقدر مع مرضه على الصيام، أو على سفر يشق عليه في سفره الصيام.
﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه مع وجود السفر، يلزمه القضاء سواء صام في سفره أو أفطر، وهذا قول داود الظاهري١.
والثاني : أن في الكلام محذوفاً وتقديره : فأفطر فعدة من أيام أخر، ولو صام في مرضه وسفره لم يعد، لكون الفطر بهما رُخْصَة لا حتماً، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وجمهور الفقهاء.
ثم قال تعالى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهٌ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ هكذا قرأ أكثر القراء، وقرأ ابن عباس، ومجاهد :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ لاَ يَطِيقُونَهُ فدية ﴾، وتأويلها : وعلى الذين يكلفونه، فلا يقدرون على صيامه لعجزهم عنه، كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع، فدية طعام مسكين، ولا قضاء عليهم لعجزهم عنه.
وعلى القراءة المشهورة فيها تأويلان :
أحدهما : أنها وردت في أول الإسلام، خيّر الله تعالى بها المطيقين للصيام من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا كل يوم بإطعام مسكين، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، وقيل بل نسخ بقوله :﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُم ﴾، وهذا قول ابن عمر، وعكرمة، والشعبي، والزهري، وعلقمة، والضحاك.
والثاني : أن حكمها ثابت، وأن معنى قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾ أي كانوا يطيقونه في حال شبابهم، وإذا كبروا عجزوا عن الصوم لكبرهم أن يفطروا، وهذا سعيد بن المسيب، والسدي.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خيراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : فمن تطوع بأن زاد على مسكين واحد فهو خير له وهذا قول ابن عباس ومجاهد وطاوس والسدي.
والثاني : فمن تطوع بأن صام مع الفدية فهو خير له وهذا قول الزهري ورواية ابن جريج عن مجاهد.
ثم قال تعالى :﴿ وَاَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُم ﴾ يحتمل تأويلين :
أحدهما : أن الصوم في السفر خير من الفطر فيه والقضاء بعده.
والثاني : أن الصوم لمطيقه خير وأفضل ثواباً من التكفير لمن أفطر بالعجز.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إن كنتم تعلمون ما شَرَّعْتُه فيكم وَبَيَّنْتُه من دينكم.
والثاني : إن كنتم تعلمون فضل أعمالكم وثواب أفعالكم.
(وداعٍ دَعَا:
يا من يجيب إلي الندا | فلم يستجبه عند ذلك مجيب) |
(............................. عن اللغا ورفث الكلام)
فيكنى به عن الجماع، لأنه إذا ذُكِرَ في غير موضعه كان فحشاً. وفي قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ ثلاث تأويلات: أحدها: بمنزلة اللباس، لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه، يستتر به كالثوب الملبوس، كما قال النابغة الجعدي:
(إذا ما الضجيج ثنى عطفها | تثنت عليه فصارت لباساً) |
(الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق | والخيط الأسْودُ لون الليل مكتومُ) |
(أخوان من نجدٍ على ثقةٍ | والشهرُ مثلُ قلامةِ الظُّفرِ) |
(حتى تكامل في استدارته | في أربع زادت على عشر) |
٨٩ (وكمْ قَطَعْنا مِنْ قِفافٍ حُمْسِ} ٩
أي شداد. والقول الثاني: عنى بالبيوت النساء، سُمِّيَتْ بيوتاً للإيواء إليهن، كالإيواء إلى البيوت، ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن، وأتوهن من حيث يحل من قُبُلهن، قاله ابن زيد. والثالث: أنه في النسيء وتأخير الحج به، حين كانوا يجعلون الشهر الحلال حراماً بتأخير الحج، والشهر الحرام حلالاً بتأخير الحج عنه، ويكون ذكر البيوت وإتيانها من ظهورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج وشهوره، والمخالفة إتيان الأمر من خلفه، والخلف والظهر في كلام العرب واحد، حكاه ابن بحر. والرابع: أن الرجل كان إذا خرج لحاجته، فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه، ودخل من ورائه، تطيراً من الخيبة، فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها. والخامس: معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله، وتأتوه من غير بابه، وهذا قول أبي عبيدة.
﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ يعني بالفتنة الكفر في قول الجميع، وإنما سمي الكفر فتنة، لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة.
﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن ذلك منسوخ لأن الله تعالى قد نَهَى عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدؤوا بالقتال، ثم نُسِخَ ذلك بقوله :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، وهذا قول قتادة.
والقول الثاني : أنها محكمة وأنه لا يجوز أن نبدأ بقتال أهل الحرم إلا أن يبدؤوا بالقتال، وهذا قول مجاهد.
أحدها : أنه الحسنة العافية في الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة.
والثاني : أنها نِعَمُ الدنيا ونِعَمُ الآخرة، وهو قول أكثر أهل العلم.
والثالث : أن الحسنة في الدنيا العلمُ، والعبادة، وفي الآخرة الجنة، وهو قول الحسن، والثوري.
والرابع : أن الحسنة في الدنيا المال، وفي الآخرة الجنة، وهو قول ابن زيد، والسدي.
أحدهما : يعني غضب، حكاه النقاش.
والثاني : انصرف، وهو ظاهر قول الحسن.
وفي قوله تعالى :﴿ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ تأويلان :
أحدهما : يفسد فيها بالصد.
والثاني : بالكفر.
﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ١ وَالنَّسْلَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : بالسبي والقتل.
والثاني : بالضلال الذي يؤول إلى السبي والقتل.
﴿ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ معناه لا يحب أهل الفساد. وقال بعضهم لا يمدح الفساد، ولا يثني عليه، وقيل أنه لا يحب كونه ديناً وشرعاً، ويحتمل : لا يحب العمل بالفساد.
أحدهما : معناه دعته العزة إلى فعل الإثم.
والثاني : معناه إذا قيل له اتق الله، عزت نفسه أن يقبلها، للإثم الذي منعه منها.
﴿ وَشَرَوهُ بثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾١ أي باعوه، قال الحسن البصري : العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله.
واخْتُلِفَ فيمن نزلت فيه هذه الآية، على قولين :
أحدهما : نزلت في رجل، أمر بمعروف ونهى عن منكر، وقتل، وهذا قول علي، وعمر، وابن عباس.
والثاني : أنها نزلت في صُهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله، ولحق بالمسلمين، وهذا قول عكرمة.
أحدها : معناه عصيتم.
والثاني : معناه كفرتم.
والثالث : إن ضللتم وهذا قول السدي.
﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنها حجج الله ودلائله.
والثاني : محمد، وهو قول السدي.
والثالث : القرآن، وهو قول ابن جريج.
والرابع : الإسلام.
﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ يعني عزيز في نفسه، حكيم في فعله.
أحدها : زينها لهم الشيطان، وهو قول الحسن.
والثاني : زينها لهم الذين أغووهم من الإنس والجن، وهو قول بعض المتكلمين.
والثالث : أن الله تعالى زينها لهم بالشهوات التي خلقها لهم.
﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لأنهم توهموا أنهم على حق، فهذه سخريتهم بضعفة المسلمين. وفي الذي يفعل ذلك قولان :
أحدهما : أنهم علماء اليهود.
والثاني : مشركو العرب.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ يعني أنهم فوق الكفار في الدنيا.
﴿ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
فإن قيل : كيف يرزق من يشاء بغير حساب وقد قال تعالى :
﴿ عَطَاءً حِسَاباً ﴾
[ النبأ : ٣٦ ] ففي هذا ستة أجوبة :
أحدها : أن النقصان بغير حساب، والجزاء بالحساب.
والثاني : بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء، لا يقدر بالحساب.
والثالث : إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق.
والرابع : دائم لا يتناهى فيصير محسوباً، وهذا قول الحسن.
والخامس : أن الرزق في الدنيا بغير حساب، لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره.
والسادس : أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يَمُنُ عليهم به.
أحدهما : أنها نزلت قبل آية الزكاة في إيجاب النفقة على الأهل والصدقة ثم نسختها آية الزكاة، وهذا قول السدي.
والثاني : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن أموالهم أين يضعونها، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول ابن زيد.
وأما ﴿ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ فطريق الله، وطريقه : دينه.
فإن قيل : فكيف قال :﴿ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ ﴾ ورحمة الله للمؤمنين مستحقة ؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفاً أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها [ معه ].
والجواب الثاني : أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم.
(في لامع العِقْبان لا يأتي الخَمَرْ | يُوجّهُ الأرضَ ويستاق الشّجَرْ) |
(فبت كأنني يَسَرٌ غبينٌ | يقلب بعدما اختلع القداحا) |
(تحيي بالسلامة أم بكرٍ | وهل لي بعد قومي من سلام) |
(ذريني اصطبحْ بكراَ فإني | رأيت الموت نبّث عن هشام) |
(ووديني المغيرة لو فدوه | بألف من رجال أو سوام) |
(وكائن بالطَويَّ طويَّ بدرٍ | من الشيزي تُكَلّلُ بالسنامَ) |
(وكائن بالطَويَّ طويَّ بدر | من الفتيان والحلل الكرامِ) |
تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام، وكانوا يعزلون طعامهم هم طعامهم، وشرابهم عن شرابهم، حتى ربما فسد طعامهم، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِنَّ تُخَالِطوهُم فَإِخْوَانَكُم ﴾، يعني في الطعام، والشراب، والمساكنة، وركوب الدابة، واستخدام العبد قال الشعبي : فمن خالط يتيماً، فليوسع عليه، ومن خالط بأكل فلا يفعل.
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ قال ابن زيد : الله يعلم حين تخلط مالك بماله، أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق.
﴿ وَلَو شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لَشدّد عليكم، وهو قول السدي.
والثاني : لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً، وهو قول ابن عباس. ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ يعني عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات، حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات
(ولا تقربن جارةً إنّ سِرّها | عليك حرام فانكحن أو تأبّدا) |
﴿ أَنَّى شِئتُمْ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني كيف شئتم في الأحوال، روى عبد الله بن علي أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسوا يوماً ويهودي قريب منهم، فجعل بعضهم يقول : إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة، ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر : إني لآتيها وهي على جنبها، ويقول الآخر إني لآتيها وهي باركة، فقال اليهودي : ما أنتم إلا أمثال البهائم ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول عكرمة.
والثاني : يعني من أي وجه أحببتم في قُبِلها، أو من دُبْرِها في قُبلها.
روى جابر أن اليهود قالوا : إن العرب يأتون النساء من أعجازهن، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول، فَأَكْذَبَ الله حديثهم وقال :﴿ نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ ﴾، وهذا قول ابن عباس، والربيع.
والثالث : يعني من أين شئتم وهو قول [ سعيد بن المسيب ] وغيره.
والرابع : كيف شئتم أن تعزلوا أو لا تعزلوا، وهذا قول سعيد بن المسيب.
والخامس : حيث شئتم من قُبُلٍ، أو من دُبُرٍ، رواه نافع، عن ابن عمر وروى عن غيره.
وروى حبيش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس أن ناساً من حِمْير أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم : يا رسول الله : إني رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه، فأنزل فيما سأل عنه الرجل :﴿ نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ ﴾، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مُقْبِلةً وَمُدْبِرةً إِذا كان في الفرج " ١.
﴿ وَقَدمِوُاْ لأَنفُسِكم ﴾ الخير، وهو قول السدي.
والثاني : وقدموا لأنفسكم ذكر الله عز وجل عند الجماع، وهو قول ابن عباس.
﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾
[ القصص : ٥٥ ]. فأما لغو اليمين التي لا يؤاخذ الله تعالى بها، ففيها سبعة تأويلات :
أحدها : ما يسبق به اللسان من غير قصد كقوله : لا والله، وبلى والله، وهو قول عائشة، وابن عباس، وإليه ذهب الشافعي، روى عبد الله بن ميمون، عن عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينضلون يعني يرمون، ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال أصاب والله، أخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله، فقال :" كَلاَّ أَيْمَانُ الرَُمَاةِ [ لَغُّوٌ ] وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ عُقٌوبَةَ ".
والثاني : أن لغو اليمين، أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف عليه، ثم يتبين أنه بخلافه، وهو قول أبي هريرة.
والثالث : أن لغو اليمين أن يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن صلة للكلام، وهو قول طاوس.
وقد روى يحيى بن أبي كثير عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ ".
والرابع : أن لغو اليمين أن يحلف بها في المعصية١، [ فلا ] يكفر عنها، وهو قول سعيد بن جبير، ومسروق، والشعبي، وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ نَذَرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَلاَ نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ ".
والخامس : أن اللغو في اليمين، إذا دعا الحالف على نفسه، كأن يقول : إن لم أفعل كذا فأعمى الله بصري، أو قلل من مالي، أو أنا كافر بالله، وهو قول زيد بن أسلم.
والسادس : أن لغو اليمين هو ما حنث فيه الحالف ناسياً، وهذا قول النخعي.
ثم قوله تعالى :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن يحلف كاذباً أو على باطل، وهذا قول إبراهيم النخعي.
والثاني : أن يحلف عمداً٢، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه اعتقاد الشرك بالله والكفر، وهذا قول ابن زيد.
﴿ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ غفور لعباده، فيما لغوا من أيمانهم، حليم في تركه مقابلة أهل حسنته بالعقوبة على معاصيهم.
٢ - أي وبحنث فهذا مؤاخذ، أما من حلف عامدا ولم يحنث فلا يؤاخذ..
(كُفِينا مَنْ تعنّت من نِزَار | وأحلَلْنا إليه مُقسِمينا) |
(ففاءَتْ ولم تَقْضِ الذي أقبلت له | ومِنْ حَاجَةِ الإنسانِ ما ليْسَ قاضيا) |
(يا رُبَّ ذي صغن عليّ فارض | له قروءٌ كقروءِ الحائض) |
(أفي كلِّ عامٍ أنتَ جَاشِمُ غزوةً | تَشُدُّ لأقصاها عزِيمَ عزائِكَا) |
(مُوَرّثَةً مالاً وفي الحيِّ رِفعَةٌ | لِمَا ضاعَ فيها من قروءِ نِسائكا) |
(تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ على خَلاءٍ | وقد أمنَتْ عُيونُ الكَاشِحِينا) |
(ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرِ | هَجَانَ اللون لم تقرَأْ جَنِينَا) |
(إذا ما الثُّرَيَّا وقد أقَرْأَتْ........................ )
(كَرِهتُ العقْرَ عَقْرَ بني شليل | إذا لِقَارئِهَا الرِّياح) |
(أتاني كلامٌ عن نصيبٍ يقوله | وما خِفْتُ بالإسلامِ أنك عائبي) |
أحدهما : أنها الطلقة الثالثة وهو قول السدي.
والثاني : أن ذلك تخيير لقوله تعالى :﴿ أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، وهو قول مجاهد.
﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ ﴾ يعني أنها لا تحل للزوج المطلق ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر، وفيه قولان :
أحدهما : أن نكاح الثاني إذا طلقها منه أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل، وهو قول سعيد بن المسيب.
والثاني : أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني، حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، للسنّة المروية فيه، وهو قول الجمهور.
(وليس أخُوكَ الدَّائِمُ العَهْدِ بالَّذِي | يذُمُّك إن ولَّى وَيُرْضِيك مُقبِلاً) |
(ولكنه النَّائي إذا كُنتَ آمِناً | وصاحِبُكَ الأدْنَى إذا الأمْرُ أعْضَلاَ) |
(كانت فريضة ما أتيت كما | كان الزِّناءُ فَريضةَ الرجْمِ) |
واختلف في قدر صلاته، فذهب الجمهور إلى أنها على عددها تُصَلَّى ركعتين، وقال الحسن : تُصَلَّى ركعة واحدة إذا كان خائفاً.
واختلفوا في وجوب الإِعادة عليه بعد أمنه، فذهب أهل الحجاز إلى سقوط الإِعادة عنه لعذره.
وذهب أهل العراق إلى وجوب الإِعادة عليه لأن مشيه فيها عمل ليس منها.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا أَمِنتُم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : معناه فإذا أمنتم فصلّوا كما علّمكم، وهو قول ابن زيد.
والثاني : يريد فاذكروه بالثناء عليه والحمد له، كما علمكم من أمر دينكم ما لم تكونوا تعلمون.
والثاني : أنها لكل مطلقة، وهذا قول سعيد بن جبير وأحد قولي٢ الشافعي.
٣وقيل إن هذه الآية نزلت على سبب وهو أن الله عز وجل لمّا قال :﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ فقال رجل : إنْ أحسنتُ فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فقال الله عز وجل :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين ﴾، وهذا قول ابن زيد، وإنما خص المتقين بالذكر - وإن كان عاماً - تشريفاً لهم.
٢ - وقوله الآخر: أنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة..
٣ - من: والخامس (في تأويل قانتين) إلى هنا سقط من ك..
(وإذا جُوزِيتَ قَرضاً فاجْزِه | إنما يجزي الفتى ليس الجمل) |
أحدهما : أنه الجهاد، وهو قول ابن زيد.
والثاني : أبواب البر، وهو قول الحسن، ومنه قول الشاعر١ :
وإذا جُوزِيتَ قَرضاً فاجْزِه | إنما يجزي الفتى ليس الجمل |
﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنحَنْ أَغْنِيَاءُ ﴾٢. قوله تعالى :﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : سبعمائة ضعف، وهو قول ابن زيد.
والثاني : لا يعلمه أحد إلا الله، وهو قول السدي.
﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني في الرزق، وهو قول الحسن وابن زيد.
والثاني : يقبض الصدقات ويبسط الجزاء، وهو قول الزجاج.
٢ - الآية ١٨١ من سورة آل عمران..
(فقلت لهم ظُنّوا بِأَلْفَيْ مُدَجج | سَراتُهُمُ في الفارسيّ المسَرّدِ) |
أحدهما : أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازاً.
والثاني : أنهم لما ألجئوا إليها صارواْ سبباً لها، فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء. ويحتمل قوله :﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وجهين :
أحدهما : بأمر الله لهم بقتالهم.
الثاني : بمعونة الله لهم على قتالهم.
﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ حكي أن جالوت خرج من صفوف عسكره يطلب البِراز ؟ فلم يخرج إليه أحد، فنادى طالوت في عسكره : مَنْ قتل جالوت فلهُ شطر مُلكي وأزوّجه ابنتي، فجاء داود وقد أخذ ثلاثة أحجار، وكان قصيراً يرعى الغنم، وقد ألقى الله في نفسه أنه سيقتل جالوت، فقال لطالوت : أنا أقتل جالوت، فازدراه طالوت حين رآه، وقال له : هل جربت نفسك بشيء ؟ قال نعم، قال : بماذا ؟ قال : وقع ذئب في غنمي فضربته، ثم أخذت رأسه فقطعته في جسمه، فقال طالوت : الذئب ضعيف، فهل جربت نفسك في غيره ؟ قال : نعم، دخل الأسد في غنمي، فضربته ثم أخذت بِلَحْيَيْه فشققتها، أفترى هذا أشد من الأسد ؟ قال : لا، وكان عند طالوت درع سابغة لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت، وسار إلى جالوت١ فرماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه، فأصاب جماعة من عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم، وكانوا على ما حكاه عكرمة تسعين ألفاً.
واختلفواْ، هل كان داود عند قتله جالوت نبياً ؟ ذهب بعضهم [ إلى ] أنه كان نبياً، لأن هذا الفعل الخارج عن العادة، لا يكون إلا من نبي، وقال الحسن : لم يكن نبياً، لأنه لا يجوز أن يُوَلي مَنْ ليس بنبي على نبي. قال ابن السائب وإنما كان راعياً فعلى هذا يكون ذلك من توطئة لنبوته من بعد.
ثم إن طالوت ندم على ما بذله لداود من مشاطرته ملكه وتزويجه ابنته، واختلفوا هل كان ندمه قبل تزويجه ومشاطرته، أم بعد، على قولين :
أحدهما : أن طالوت وَفَّى بشرطه، وزوج داود بابنته٢، وخلطه في ملكه بنفسه ثم حسده، فندم، وأراد قتله، فعلمت بنته بأنه يريد قتل زوجها، وكانت من أعقل النساء، فنصبت له زِق خمر بالمسك، وألقت عليه ليلاً ثياب داود، فأقبل طالوت، وقال لها : أين زوجك ؟ فأشارت إلى الزق، فضربه بالسيف، فانفجر منه الخمر وسطع ريح المسك، فقال يرحمك الله يا داود طبت حياً وميتاً، ثم أدركته الندامة، فجعل ينوح عليه ويبكي، فلما نظرت الجارية إلى جَزَعِ أبيها، أخبرته الخبر، ففرح، وقاسم داود على شطر ملكه، وهذا قول الضحاك، فعلى هذا يكون طالوت على طاعته حين موته، لتوبته من معصيته.
والقول الثاني : أنه ندم قبل تزويجه على شرطه وبذله، وعرّض داود للقتل، وقال له إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق أمثالهن، وأنت رجل جريء، فاجعل صداقها قتل ثلاثمائة من أعدائنا، وكان يرجو بذلك أن يقتل، فغزا داود وأسر ثلاثمائة، فلم يجد طالوت بداً من تزويجه، فزوجه بها، وزاد ندامة فأراد قتله، وكان يدس عليه حتى مات٣، وهذا قول وهب بن منبه، فعلى هذا مات طالوت على معصيته لأنه لم يتب من ذنبه.
وروى مكحول، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ المُلُوكَ قَدْ قَطَعَ اللهُ أَرْحَامَهُم فَلاَ يَتَوَاصَلُونَ حُبَّاً لِلْمُلْك حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم لَيَقْتُلَ الأَبَ وَالإِبْنَ وَالأَخَ وَالعَمَّ، إِلاَّ أَهْلُ التَّقْوَى وَقَلِيلٌ مَّا هُم، وَلَزوَالُ جَبَلٍ عَن مَّوضِعِهِ أَهْوَنُ مِنْ زَوَالِ مُلْكِ لَمْ يَنْقَضِ " ٤.
﴿ وَءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ يعني داود، يريد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة وكان ذلك عند موت طالوت بعد سبع سنين من قتل جالوت على ما حكاه ابن السائب.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن الملك الانقياد إلى طاعته، والحكمة : العدل في سيرته ويكون ذلك بعد موت طالوت عند تفرده بأمور بني إسرائيل.
﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : صنعة الدروع والتقدير في السرد.
والثاني : كلام الطير وحكمة الزبور.
ويحتمل ثالثاً : أنه فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي والنهي عنها، فيكون على الوجه الأول ﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ داود، وعلى الثاني :﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ الله، وعلى الثالث ﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ الله ويشاء داود.
﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرضُ ﴾.
في الدفع قولان :
أحدهما : أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر، قاله عليّ كرم٥ الله وجهه.
والثاني : يدفع بالمجاهدين عن القاعدين قاله ابن عباس٦.
وقوله تعالى :﴿ لَّفَسَدَتِ الأرْضُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لفسد أهل الأرض.
والثاني : لعم الفساد في الأرض. وفي هذا الفساد وجهان :
أحدهما : الكفر.
والثاني : القتل.
٢ - وردت القصة كامل في سفر صمويل من التوراة ولكن لطالوت هناك اسم آخر هو شاول وابنته اسمها ميكال..
٣ - حتى مات: أي طالوت، وتذكر التوراة أنه مات قتلا وأن داود حزن لموته رغم إساءته إليه..
٤ - من "قال ابن السائب" إلى هنا ساقط من ق..
٥ - في ق: علي عليه السلام..
٦ - في ق: والثاني- أنه يدفع باللطف للمؤمن وبالرعب في قلب الكافر..
(إذا ما تَرَيَنِّي اليومَ أصْبَحْتُ سَالِماً | فَلَسْتُ بِأحْيَا مِن كِلابٍ وَجَعْفَرِ) |
(لم تُخلَق السماءُ والنجوم | والشمسُ معها قمر يقوم) |
(قدّرهَا المهيمن القيوم | والحشر والجنة والحميم) |
﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ السِّنةُ: النعاس في قول الجميع، والنعاس ما كان في الرأس، فإذا صار في القلب صار نوماً، وفرَّق المفضل بينهما، فقال: السِّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وما عليه الجمهور من التسوية بين السِّنة والنعاس أشبه، قال عدي بن الرقاع:
(وسْنَانُ أقصده النعاس فرنقت | في عينه سنة وليس بنائم) |
(مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه | ولا بكرسيّ عليم الغيب مخلوق) |
(يحف بهم بيضُ الوجوه وعُلية | كراسيُّ بالأحداث حين تنوبُ) |
(ألا بكِّ سلمى اليوم بت جديدها | وضَنّت وما كان النوال يؤودها) |
(ألستم خير من ركب المطايا | وأندى العالمين بطون راح) |
(تظَلُّ مُعقّلات السوق خرساً | تصور أنوفها ريح الجنوب) |
أحدهما : أن يدني إن أعطى.
والثاني : يدعو إن منع.
﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ فيها أربعة تأويلات :
أحدها : يعني العفو عن أذى السائل.
والثاني : يعني بالمغفرة السلامة من المعصية.
والثالث : أنه ترك الصدقة والمنع منها، قاله ابن بحر.
والرابع : هو أن يستر عليه فقره ولا يفضحه به.
﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً ﴾ يحتمل الأذى هنا وجهين :
أحدهما : أنه المنّ.
والثاني : أنه التعيير بالفقر.
ويحتمل قوله :﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً ﴾ وجهين :
أحدهما : خير منها على العطاء.
والثاني : خير منها عند الله.
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" المنّانُ بِمَا يُعْطِي لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القَيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِ وَلاَ يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ".
ويحتمل وجهاً ثانياً : إبطال موقعها في نفس المُعْطَى.
﴿ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ ﴾ القاصد بنفقته الرياء غير مُثَابٍ، لأنه لم يقصد وجه الله، فيستحق ثوابه، وخالف صاحب المَنِّ والأذى القاصِدَ وجه الله المستحق ثوابه، وإن كرر١ عطاءَه وأبطل فضله.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾ الصفوان : جمع صفوانة، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه الحجر الأملس سُمِّيَ بذلك لصفائه.
والثاني : أنه أَلْيَنُ مِنَ الحجارة، حكاه أبان بن تغلب.
﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾ وهو المطر العظيم القَطْرِ، العظيم٢ الوَقْع.
﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ الصلد من الحجارة ما صَلُبَ، ومن الأرض مَا لَمْ ينبت، تشبيهاً بالحجر الذي لا ينبت.
﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ يعني مما أنفقوا، فعبَّر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب، فضرب هذا مثلاً للمُرَائِي في إبطال ثوابه، ولصاحب المَنِّ والأَذَى في إبطال فضله.
٢ - العظيم: في ق الشديد..
(قليل لها مني وإن سخطت بأن | أقول سقيت سقيت الوابل الغدقا) |
(ما روضة من رياض الحزن معيشة | خضراء جاد عليها مسبل هطل) |
(........................ إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً)
وإنما قيل لها إعصار لأنها تَلْتَفُّ كالتفاف الثوب المعصور. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: يوضح لكم الدلائل. والثاني: يضرب لكم الأمثال. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: تعتبرون، لأن المفكر معتبر. والثاني: تهتدون، لأن الهداية التَّفَكُّر. واختلفوا في هذا المثل الذي ضربه الله في الحسرة لسلب النعمة، من المقصود به؟ على ثلاثة أقاويل:
(لم يفتنا بالوِتر قوم وللضيْ | م رجال يرضون بالإغماضِ) |
(والناس يلحون الأمير إذا هم | خطئوا الصواب ولا يُلام المرشد) |
(يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم | والحامل الإصر عنهم بعدما عرضوا) |
﴿ كُلٌّ ءَامَنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾. والإِيمان بالله يكون بأمرين : بتوحيده، وقبول ما أنزل على رسوله.
وفي الإِيمان بالملائكة وجهان :
أحدهما : الإِيمان بأنهم رسل الله إلى أنبيائه.
والثاني : الإِيمان بأن كل نفس منهم رقيب وشهيد.
﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ قراءة الجمهور وقرأ حمزة :﴿ وكِتَابِهِ ﴾ فمن قرأ ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ فالمراد به جميع ما أنزل الله منها على أنبيائه. ومن قرأ :﴿ وَكِتَابِهِ ﴾ ففيه وجهان :
أحدهما : أنه عنى القرآن خاصة.
والثاني : أنه أراد الجنس، فيكون معناه بمعنى الأول وأنه أراد جميع الكتب والإِيمان بها والاعتراف بنزولها من الله على أنبيائه.
وفي لزوم العمل بما فيها ما لم يرد نسخ قولان٢ :
ثم فيما تقدم ذكره من إيمان الرسول والمؤمنين - وإن خرج مخرج الخبر- قولان :
أحدهما : أن المراد به مدحهم بما أخبر من إيمانهم.
والثاني : أن المراد به أنه يقتدي بهم مَنْ سواهم.
ثم قال تعالى :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ يعني في أن يؤمن ببعضهم دون بعض، كما فعل أهل الكتاب، فيلزم التسوية بينهم في التصديق، وفي لزوم التسوية في التزام شرائعهم ما قدمناه من القولين، وجعل هذا حكاية عن قولهم وما تقدمه خبراً عن حالهم ليجمع لهم بين قول وعمل وماض ومستقبل.
﴿ وَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سمعنا قوله وأطعنا أمره.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يراد بالسماع القبول، وبالطاعة العمل.
﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ معناه نسألك غفرانك، فلذلك جاء به منصوباً.
﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ يعني إلى جزائك.
ويحتمل وجهاً ثانياً : يريد به إلى لقائك لتقدم اللقاء على الجزاء.
أحدهما : وعدٌ من الله لرسوله وللمؤمنين بالتفضل على عباده ألاَّ يكلف نفساً إلا وسعها.
والثاني : أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين عن الله، على وجه الثناء عليه، بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ثم قال :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ يعني لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت يعني من المعاصي. وفي كسبت واكتسبت وجهان :
أحدهما : أن لفظهما مختلف ومعناهما واحد.
والثاني : أن كسبت مستعمل في الخير خاصة، واكتسبت مستعمل في الشر خاصّة.
﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينآ ﴾ قال الحسن : معناه : قولوا ربنا لا تؤاخذنا. ﴿ إِن نَّسِينَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني إن تناسينا أمرك.
والثاني : تركنا، والنسيان : بمعنى الترك كقوله تعالى :
﴿ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾١، قاله قطرب.
﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ما تأولوه٢ من المعاصي بالشبهات.
والثاني : ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب.
وقد فَرَّقَ أهل اللسان بين " أخطأ " وخطىء، فقالوا :" أخطأ " يكون على جهة الإِثم وغير الإِثم، وخطىء : لا يكون إلا على جهة الإِثم، ومنه قول الشاعر [ عبيد بن الأبرص ] :
والناس يَلْحُون الأَميرَ إذا هُمُ | خطئوا الصوابَ ولا يُلام المرْشدُ |
أحدها : إصراً أي عهداً نعجز عن القيام به، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
الثاني : أي لا تمسخنا قردة وخنازير، وهذا قول عطاء.
الثالث : أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد.
الرابع : الإِصر : الثقل العظيم، قاله مالك، والربيع، قال النابغة :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم | والحامل الإِصر عنهم بعدما عرضوا٣ |
﴿. . وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ما لا طاقة لنا به مما كُلِّفَهُ بنو إسرائيل.
الثاني : ما لا طاقة لنا به من العذاب.
﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مالكنا٤.
الثاني : وَلِيُّنا وناصرنا.
﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ روى عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ فلما انتهى [ النبي ] إلى قوله تعالى :﴿ غُفْرَانَكَ رَبِّنَا ﴾ قال الله تعالى : قد غفرت لكم، فلما قرأ :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَو أَخْطَأْنَا ﴾ قال الله تعالى : لا٥ أؤاخذكم، فلما قرأ :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ قال الله تعالى : لا أحمل عليكم.
فلما قرأ :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمَّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قال الله تعالى : لا أحملكم. فلما قرأ :﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ قال الله تعالى : قد عفوت عنكم. فلما قرأ :﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ قال الله تعالى : قد غفرت لكم. فلما قرأ :﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ قال الله تعالى : قدر رحمتكم. فلما قرأ :﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قال الله تعالى : قد نصرتكم.
وروى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر الجهني قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اقْرَؤُوا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ خَاتِمَةِ البَقَرَةِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَانِيهَا مِن تَحتِ العَرْشِ " ٦.
٢ - تأولوه: في ق نالوه..
٣ - سقط هذا البيت من ق. وفي شعراء النصرانية: غرقوا بدل عرقوا..
٤ - سقط من ق..
٥ - سقط من ق..
٦ - مسند أحمد ٤/ ١٤٧، ١٥٨ و ٥/ ١٥١، ١٥٩، ١٨٠..
سورة البقرة
سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.
ترتيبها المصحفي
2نوعها
مدنيةألفاظها
6140ترتيب نزولها
87العد المدني الأول
285العد المدني الأخير
285العد البصري
287العد الكوفي
286العد الشامي
285
* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).
* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:
عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).
* قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.
قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].
قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».
قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.
فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).
* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:
جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).
* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ اْلْمَشْرِقُ وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].
وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.
واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).
* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]، فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).
* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].
ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).
* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].
جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).
* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).
* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).
«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).
وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:
كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).
* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:
فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).
* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:
فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).
* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).
* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:
فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).
* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).
* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:
فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).
* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).
حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:
هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).
هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).
أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).
بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).
ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).
وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).
دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).
انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).
مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).
الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).
تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).
نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).
تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).
قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).
الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).
حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).
دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).
جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).