ﰡ
سورة البقرة
مدنية، وهي مائتان وست وثمانون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (٢) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١)الم اعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك- ضاد- اسم سمى به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، وكذلك: را، با: اسمان لقولك:
ره، به وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف وحدان والأسامى عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية أبى معاوية عن أبى مالك الأشجعى عن ربعي عنه. قلت: إلا أن دون أبى معاوية من لا يحتج به. وله شاهد في مسند الدارمي عن ثابت بن عجلان قال «كان يقال إن اللَّه ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان بالحكمة صرف ذلك عنهم» يعنى بالحكمة: القرآن، وحديث أبى بن كعب رضى اللَّه عنه في فضائل القرآن سورة سورة. أخرجه الثعلبي من طرق عن أبى بن كعب رضى اللَّه عنه كلها ساقطة. وأخرجه ابن مردويه من طريقين. وأخرجه الواحدي في الوسيط. وله قصة ذكرها الخطيب ثم ابن الصلاح عمن اعترف بوضعه. ولهذا روى عن أبى عصمة أنه وضعه.
وسألهم أيضا كيف ينطقون بالقاف من يقبل؟ فقالوا: قاف، كقولهم الأول، فأجابهم كجوابه الأول وقال: أما أنا فأقول: اقه، فألحق رضى اللَّه عنه أولا هاء السكت لأن الحرف المنطوق به متحرك، وثانيا همزة الوصل لأنه ساكن.
أنها لو بنيت لحذى بها حذو: كيف، وأين، وهؤلاء. ولم يقل: ص، ق، ن مجموعا فيها بين الساكنين. فإن قلت: فلم لفظ المتهجى بما آخره ألف منها مقصورا، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء، وياء، وهاء وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة فإذا جعلتها اسما مددت فقلت: كتبت لاء؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل والسبب في أن قصرت متهجاة، ومدّت حين مسها الإعراب: أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت:
فيه أوجه: أحدها وعليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب «باب أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين:
أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو: كهيعص، والمر. والثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسما فردا كص وق ون، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك «حم وطس ويس» فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسماء واحد كدارابجرد فالنوع الأول محكي ليس إلا وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح ابن أوفى العبسي «١»
وأشعث قوام بآيات ربه | قليل الأذى فيما ترى العين مسلم |
يُذَكِّرُنِى حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ | فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ «١» |
وَجَدْنا في كِتَابِ بَنى تَمِيم | أَحَقُّ الْخَيْلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ «٢» |
وأشعث قوام بآيات ربه | قليل الأذى فيما ترى العين مسلم |
شككت له بالرمح جيب قميصه | فخر صريعاً لليدين وللفم |
على غير شيء غير أن ليس تابعا | عليا ومن لا يتبع الحق يظلم |
يذكرني حاميم والرمح شاجر | فهلا تلا حاميم قبل التقدم |
(٢).
وجدنا في كتاب بنى تميم | أحق الخيل بالركض المعار |
يضمر بالأصائل فهو نهد | أقب مقلص فيه اقورار |
كأن سراته والخيل شعث | غداة وجيفها مسد مغار |
كأن حفيف منخره إذا ما | كتمن الربو كير مستعار |
يقال: قلصه بالتشديد شمره، فقلص هو أيضا: أى تشمر، ويقال قلصت الناقة كذلك: إذا استمرت على السير.
والاقورار: رقة الجسم ونحافته. والسراة: أعلى الظهر. والوجيف: سرعة سير الخيل. والمسد: الحبل. شبه السراة به في الامتداد والصلابة، وقوله: والخيل شعث، جملة حالية، والشعث جمع أشعث، أو شعث، وغداة: ظرف له.
والحفيف: دوى الجري والطيران. يقال: حف الفرس حفيفاً، وأحففته: إذا حملته على الحفيف، وضمير كتمن للخيل. والربو: الزيادة وما ارتفع من الأرض، والنفس العالي، وانتفاخ الفرس من عدو أو فزع. يقال منه:
ربا يربو، إذا أخذه الربو: أى إذا ضاقت مناخر الخيل عن إخراج النفس لعجزها، كان منخر فرسي واسعاً كالكير- وهو منفخة الحداد- لعلو نفسه وتردده، وجعله مستعارا ليدل على أنه تداولته الأيدى. يقول: وجدنا في كلام جدودنا هذا الكلام، فأحق مبتدأ، والمعار خبره، والجملة محكية محلها نصب بوجدنا.
سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً | فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعى بِلَالا «١» |
تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداً | وَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِى «٢» |
وقال سيبويه: سمعت من العرب: لا من أين يافتى. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: ص، وق، ون مفتوحات؟ «٣» قلت: الأوجه أن يقال: ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت. وانتصابها بفعل مضمر. نحو: اذكر وقد أجاز
وروى رأيت الناس. قال ابن القطاع: ولا يصح معه الرفع، وذلك لأن الروية لا تقع على اللفظ، وشبه تهيئتها وإعدادها للسير إليه ليسوقها أو سوقها إليه بأمره لها بالسير إليه، وطلبه لترتب السير على كل على طريق التصريح، ويجوز أنه شبهها بالعاقل فخاطبها بذلك على سبيل المكنية: أى اطلبى بلالا، فانه أنفع مما يطلبه الناس، ولما سمع بلال ذلك قال: يا غلام اعلف صيدح قتا ونوى، والقت: نوع من النبات الطري.
(٢). روى الرحيل بالرفع على أنه مبتدأ، وغداً- أى في غد- خبره، وبالنصب: مصدر لفعل محذوف، وذلك كله على الحكاية. وروى بالجر على الأصل، وغدا. ظرف للرحيل، وفي ترحالهم: أى مع رحيلهم نفسي- أى روحي- فكأن محبوبه أخذ روحه وغادره ميتا لتعلق قلبه به، ويجوز أنه استعارها لمحبوبه على طريق التصريحية، لأن به حياته وسروره، فكأنه يموت بمفارقته لاغتمامه
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فما وجه من قرأ ص وق ون مفتوحات... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه تعالى:
كلامه على الوجه الأول يوجب كونها معربة، وعلى الوجه الثاني يحتمل أن يكون أراد أن الفتحة- لالتقاء الساكنين- نشأت عن سكون الحكاية، فإنها إنما تحكى ساكنة مجردة من سمة الاعراب، فلا تكون الحركة إذاً إعرابا، إذ لا مقتضى له مع الحكاية، ولا بناء إذ هي معربة عنده على هذا التقدير. ويحتمل أن يكون أراد أنها مبنية فتكون الحركة مثلها في أين وكيف حركة بناء، والأول هو الظاهر من مراده إذ حتم قبل أنها معربة، على أن سيبويه نص في كتابه على ما أورده بلفظه قال: وأما (ص) فلا يحتاج إلى أن يجعل اسما أعجميا، لأن وزنه في كلامهم. ولكنه يجوز أن يكون اسما للسورة فلا يصرف. ويجوز أن يكون أيضا (يس وص) اسمين غير متمكنين فيلزمان الفتح كما ألزمت الأسماء غير المتمكنة للحركات نحو: كيف، وأين، وحيث، وأمس اه كلام سيبويه. وفيه رد على الزمخشري رحمه اللَّه في حتمه أن تكون معربة وأن فتحتها نصب أو لالتقاء الساكنين العارض للحكاية على ما ظهر من مقوله آنفاً، وسيأتى له أيضا ما يدل على أنه لا يجوز بناؤها البتة. أقول: بعد تسليم أن الأول هو الظاهر من مراده، فما ذكره- حكاية عن سيبويه- غير وارد عليه، لأنه اختار أحد الوجهين.
فإن قلت: هلا زعمت أنها مقسم بها؟ «١» وأنها نصبت قولهم: نعم اللَّه لأفعلن، وآي اللَّه لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة:
أَلَا رُبَّ مَنْ قَلْبى لَهُ اللَّهَ نَاصِح «٢»
وقال آخر:
فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ «٣»
ولا سابق شيئا إذا كان جائياً
فان المقسم به وإن كان منصوباً لأنه محل يعهد وفيه الخبر، فعطف بالجر رعاية لذلك العهد، وهاهنا أولى بالصحة منه بيت زهير المذكور لأن انتصاب المقسم به إنما نشأ عن حذف حرف الجر الذي هو أصل في القسم، وانتصاب خبر ليس أصل في نفسه، ليس ناشئا عن حذف. غايته أن حرف الجر قد يصحب خبرها دخيلا، فمراعاة الأصل أجدر من مراعاة العارض، فقد تحرر في فتح ص وجهان: أحدهما أن يكون إعرابا وهو إما جرى على الوجه الذي أبداه الزمخشري، أو نصب على الوجه الذي نقلته عن سيبويه، ثانيهما أنه لا إعراب ولا بناء وهو عروضه على الوقف في الحكاية.
(٢).
ألا رب من قلبي له اللَّه ناصح | ومن قلبه لي في الظباء السوانح |
(٣).
إذا ما الخبز تأدمه بلحم | فذاك أمانة اللَّه الثريد |
يقول: إذا كان الخبز مأدوما باللحم وممزوجا به، فذلك هو الثريد دون ما عداه وحق أمانة اللَّه.
قال سيبويه: قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر، فيكون كقولك باللَّه لأفعلنّ، باللَّه لأخرجنّ اليوم. ولا يقوى أن تقول: وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرها قال: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فان قلت: فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم: اللَّه لأفعلن مجرورا، ونظيره قولهم: لاه أبوك غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت:
هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه قال: أقسم اللَّه بهذه الحروف «١».
فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر «٢» ؟ قلت: وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرّك: أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامى، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبنيات، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء». فإن قلت: هل تسوّغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في
الحروف المقطعة في أوائل السور كلها أقسام أقسم اللَّه بها. ورواه ابن مردويه من هذا الوجه في تفسير طه. قال:
طه وأشباهها قسم أقسم اللَّه بها. وهي من أسماء اللَّه تعالى.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه:
وهذا تحقق لك مخالفته لما نقلته من نص سيبويه من أنها غير متمكنة. ويدلك على أن فتحتها التي قال قبل إنها لالتقاء الساكنين فتحة بناء، أنه إنما أراد السكون العارض في الحكاية لا سكون البناء وهو مخالف لنص سيبويه كما نبهت عليه أيضا.
وأما النصب مع القسم فلا يجيزه إلا في الحديث، والفرق عنده أن المانع من إجازته في القرآن مجيء المعطوف بعده مخالفا له في الاعراب، إذ المعطوفات كلها مجرورة، ويتعذر عنده القسم في التواني خوفا من جمع قسمين على مقسم واحد، ولا كذلك الحديث فانه لم يأت بعده ما يأباه فلذلك خص جواز هذا الوجه بالحديث. وأما على الوجه الذي أو صحته فيعم جواز ذلك القرآن والحديث جميعاً.
(٢). أخرجه أصحاب السنن الثلاثة، من رواية المهلب عمن سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول «إن بيتكم العدو فليكن شعاركم حم لا يبصرون» قال الحاكم: المبهم هو البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما. ثم أخرجه كذلك وهو في النسائي أيضاً، وفي الباب عن أنس رضى اللَّه عنه في الأوسط للطبراني. وفي لدلائل لأبى نعيم عنه في غزوة حنين. وعن شيبة بن عثمان في الطبراني أيضاً وعن أبى دجانة الأنصارى في آخر الدلائل للبيهقي، في حديث طويل
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صورة الحروف... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: على هذا المعنى من خروج خط المصحف عن قياس الخط اعتمد القاضي رضى اللَّه عنه في كتاب الانتصار، في الجواب عما نقل عن عثمان رضى اللَّه عنه: أن عكرمة لما عرض عليه المصحف وجد فيه حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فان العرب ستقيمها بألسنتها. فلو كان الكاتب من ثقيف والمملل من هذين لم يوجد فيه هذه الحروف، قال القاضي: وإنما قال عثمان رضى اللَّه عنه ذلك لأن ثقيفاً كانت أبصر بالهجهاء، وهذيلا كانت تظهر الهمزة، والهمزة إذا ظهرت في لفظ المملل كتبها الكاتب على صورتها فما أراد عثمان رضى اللَّه عنه إلا أن تلك الحروف كتبت على خلاف قياس الخط، مثل كتابة: الصلوة، والزكاة، بالواو لا بالألف قال القاضي: وإنما أخذ اللَّه على الحفظة أن لا يغيروا التلاوة، أما الخط فلم يأخذ عليهم رسماً بعينه، حتى لا يسوغ الخروج من قياس رسم خاص من رسوم الخط اه كلامه
أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد «٣» كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم «٤» عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل «٥» في اقتصاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة «٦» كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى «٧» الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا
(٢). قوله «أمنت وقوع اللبس فيها» أى تلك الأمور الأربعة، أمنت القارئ وقوع اللبس في الفواتح. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «الوجه الثاني أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: إنما أردت هذا الفصل في كلام الزمخشري لأنه غاية الصناعة، ونهاية البراعة، لولا الإخلال بلطيفة لو سلكها لتمت فصاحته، وهي أنه بنى أول الكلام على النفي وطول فيه، حتى انتهى إلى الإثبات، فكان أول الكلام رهيناً لآخره يفهم على الضد متى ينقضي على البعد، فهو كما انتقد على أبى الطيب قوله في الخيل:
ولا ركبت بها إلا إلى ظفر | ولا حصلت بها إلا على أمل |
(٤). قوله «ولم تظهر معجزتهم» لعله بفتح الميم والجيم مقابل مقدرة (ع)
(٥). قوله «على التساجل» أى التفاخر بأن تصنع مثل صنعه في جرى أو سقى، وأصله من السجل: بمعنى الدلو الذي فيه ماء. واقتضاب الخطب: ارتجالها أفاده الصحاح (ع)
(٦). قوله «التي بزت بلاغة» أى غلبت وسلبت (ع)
(٧). قوله «الخارج من قوى» لعله عن (ع)
فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه، أجابك بأن له محملا سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس: فلان يروى: قفا نبك، وعفت الديار.
ويقول الرجل لصاحبه: ما قرأت؟ فيقول (الحمد لله) و (براءة من الله ورسوله) و (يوصيكم الله في أولادكم) و (الله نور السماوات والأرض). وليست هذه الجمل بأسامى هذه القصائد وهذه السور والآي، وإنما تعنى رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول: التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت اسما واحداً على طريقة حضر موت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، كما سموا: بتأبط شراً، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمى: بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم: صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث: أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامى الحروف، فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل: (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ). فكان حكم النطق بذلك
ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء،
والمنفتحة، وقد ذكر نصفها: الألف، والحاء، والراء، والسين، والعين، والقاف، والكاف، واللام، والميم، والنون، والهاء، والياء. وحروف الصفير لما كانت ثلاثا: السين، والصاد، والزاى لم يكن لها نصف فذكر منها اثنين: السين، والصاد. وتلك العادة المأنوسة فيما يقصد إلى تنصيفه فلا يمكن فيتم الكسر. ألا ترى طلاق العبد وعدة الأمة ونحو ذلك؟ والحروف اللينة وهي ثلاثة: الألف، والياء، والواو. وذكر منها اثنين: الألف، والياء كحروف الصفير. والمكرر وهو الراء. والهاوي وهو الألف. والمنحرف وهو اللام. وقد ذكرها. ولم يبق من أصناف الحروف خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديد والرخو، فانه لم يقتصر منها على النصف لأن ما ذكر منها زائداً على النصف اندرج في غيرها من الأصناف، فلم يمكن الاقتصار لها كالشديدة والرخوة فلم يكن بها عناية. وأما حروف الذلاقة والمصمتة فالصحيح أن لا يعدا صنفين، ولمن عدهما صنفين متميزين خبط طويل في جهة تميزهما، حتى أبعد الزمخشري في مفصله في تميزهما فقال: حروف الذلاقة التي يعتمد الناطق فيها على ذلق اللسان- أى طرفه- وهو تمييز مردود جداً لأن من جملتها: الميم، والباء، والفاء. ولا مدخل لطرف اللسان فيها، ثم لا يتم على هذا التمييز مطابقتها للمصمتة، إذ المصمتة مفسرة عنده بأنها حروف تكون عن تركيب كلمة رباعية فما زاد منها حتى يدرج معها أحد حروف الذلاقة، فكيف المقابلة بين الخروج من طرف اللسان وبين الصمت؟ فالحق أنهما صنفان ضعيف تميزهما، فلم يعتبر جريانهما على النمط المستمر في غيرهما من الأصناف البين امتيازها. وعد الزمخشري في هذا النمط حروف القلقلة، وذكر أن المذكور منها النصف: القاف، والطاء ووهم فإنها خمسة أحرف، لم يذكر منها في الفواتح سوى الحرفين المذكورين. وعلى الجملة فلا يقدم الناظر تخريج ما لم يحر على هذا النمط من الأصناف على وجه يمكن الاستئناس إليه.
ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى اللَّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن اللَّه عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد «١» بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم «٢». أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر.
فان قلت: فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ ومالها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فان قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف،
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم أن الألف واللام... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: الألف المذكورة في الفواتح يحتمل أن يكون المراد بها الهمزة اللينة، وقد اضطرب فيها كلام الزمخشري في هذا الفصل، فعند ما عد الحروف أربعة عشر حرفا في الفواتح قال: إنها نصف حروف العربية، فهذا يدل على أن جملتها ثمانية وعشرون حرفا، فلا بد من سقوط أحد الحرفين من هذا العدد إما اللينة أو الهمزة، وإلا كانت تسعة وعشرين. والظاهر أن الساقط الهمزة وعند ما قال: في تسع وعشرين على عدد الحروف اقتضى هذا دخول الأليين في العدد. والظاهر من كلامه أن الألف عنده هي اللينة، فلذلك على تسميتها بالألف بأن النطق لما تعذر بها أولا استقرت الهمزة مكانها وفاء بمراعاة تلك اللطيفة التي قدمها من جعل مسمى الحرف أول اسمه. وأما عند النحاة فالألف المعدودة في حروف المعجم مفردة هي الهمزة وأما اللينة فهي المعدودة مع اللام حيث يقولون: لام ألف، ويكتبونها على صورة «لا».
ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت: ما بالهم عدوّا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفى لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور.
أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها. وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، وحم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص وق ون ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئا منها آية. فإن قلت: فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت: كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت: ما حكمها في باب الوقف؟ قلت: يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا:
(الم اللَّهُ) أى هذه الم ثم ابتدأ فقال (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). فإن قلت: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ «١» قلت: نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة اللَّه واللَّه على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدّدة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ «١» قلت: وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمتقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا.
وقال اللَّه تعالى: (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). وقال: (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. وقيل معناه: ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة- والمشار إليه مؤنث وهو السورة-؟ «٢» قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمّك. وإن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول:
هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني:
نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرانِ عاتِبةً | سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِى «٣» |
ولأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة، وبعد مرتبة المشار إليه من مرتبة كل كتاب سواه كما يقطعون بثم للاشعار بتراخي المراتب، وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه وسيأتى أمثاله.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: لم ذكر اسم الاشارة... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: ولو مثل ذلك بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أقوم وأسلم من الفرق بما في لفظ «من» من الإبهام الصالح للمذكور والمؤنث. ومثل هذا قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن وصل الكلام فجعل (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان، وعدل عن أن يقول: هي العدو، نظراً إلى المفعول الثاني الذي هو في المعنى خبر عن الصيحة، فذكر وجمع لما كان المبتدأ هو الخبر في المعنى. وقد وجه الشيخ أبو عمرو قول الزمخشري، وتسمى الجملة بالتاء والياء عقيب قوله: والكلام هو المركب من كلمتين- بهذا التوجيه
(٣).
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار | ماذا يحيون من نؤى وأحجار |
لقد أرانى ونعمى لاهيين بها | والدهر والعيش لم يهمم بإمرار |
نبئت نعمى على الهجران عاتبة | سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري |
والإمرار: صيرورة الشيء مرا، والاحلاء: صيرورته حلوا، وجعل الطعم مراً، وجعله حلواً، ويروى زارية بدل عاتبة. والزاري: العائب، يقال: زرى عليه يزرى إذا عاب عليه. وقوله ماذا تحيون: استشعار للخطأ في الأمر بالتحية ورجوع عنه لأنه لا يجدى شيئا. و «من» بيان لماذا، وفيه معنى التحقير، ونعمى: عطف على ضمير النصب، والواو للحال، أى والحال أن الدهر والعيش لم يتغير كل منهما إلى البؤس، شبههما بما تصح منه الارادة على طريق الكناية، فأسند لهما الهم تخييلا، أو استعار الهم المشارفة والقرب تصريحا، وشبههما بالمطعوم فأثبت لهما الإمرار، أو استعاره لتكدرهما ونغصهما بجامع كراهية النفس لكل. وعلى الهجران: أى مع هجرانها، أو لأحل هجرانى لها. وسقيا، ورعيا: منصوبان على المصدرية، أى سقاها اللَّه ورعاها. وذلك إشارة إلى الإنسان أو الشخص وهي المراد، ووصفها بما للذكر تعظيما لها وتفخيما لشأنها.
هُمّ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ «١»
وأن يكون الكتاب صفة. ومعناه: هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون (الم) خبر مبتدإ محذوف، أى هذه الم، ويكون ذلك خبرا ثانيا أو بدلا، على أن الكتاب صفة، وأن يكون: هذه الم جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أى هو- يعنى المؤلف من هذه الحروف- ذلك الكتاب. وقرأ عبد اللَّه: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه. وتأليف هذا ظاهر.
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم | هم القوم كل القوم يا أم خالد |
ألم تر أنى بعد عمرو ومالك | وعروة وابن الهول لست بخالد |
ومنه ما روى الحسن بن على قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك «١» فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة» أى فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ. وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن. ومنه: ريب الزمان، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ومنه أنه مر بظبي حاقف «٢» فقال:
«لا يربه أحد بشيء «٣». فإن قلت: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من مرتاب فيه؟ قلت: ما نفى أنّ أحدا لا يرتاب فيه «٤» وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. فإن قلت: فهلا قدّم الظرف على الريب، كما قدّم على الغول في قوله تعالى:
(لا فِيها غَوْلٌ) ؟ قلت: لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفى الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدّعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أنّ كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها
(٢). قوله «أنه مر بظبي حاقف» لعله: أنه صلى اللَّه عليه وسلم الخ. وفي الصحاح أنه عليه السلام مر بظبي حاتف في ظل شجرة، وهو الذي انحنى وتثنى في نومه اه (ع)
(٣). أخرجه في الموطأ. والنسائي في الحج. وابن حبان من رواية عمر بن سلمة الضمري عن البهرى: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالاثاية بين الرويثة والعرج، إذا ظبى حاتف في ظل وفيه سهم. فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه. ولإسحاق في مسنده: فقال لبعض القوم: «كن حتى يمر الناس ولا يريبه أحد بشيء» اه. البهرى وقع في مسند أبى يعلى أن اسمه مخول، ولفظه: تبعت حبائل لي بالأبواء فوقع فيها ظبى، فأقلت والحبل في رجله، فخرجت أقفوه فسبقني إليه رجل فاحتضنها، ثم ترافعنا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فجعله بيننا نصفين.
(٤). قوله «أن أحداً لا يرتاب فيه» لعله أن أحداً يرتاب فيه. وقد يقال المراد ما نفى الريب على معنى أن أحداً لا يرتاب فيه. (ع)
ونظيره قوله تعالى: (قالُوا لا ضَيْرَ)، وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز.
والتقدير: لا ريب فيه.
فِيهِ هُدىً الهدى مصدر على فعل، كالسرى والبكى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال اللَّه تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى).
وقال تعالى: (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ويقال: مهدى، في موضع المدح كمهتد ولأن اهتدى مطلوع هدى- ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله- ألا ترى إلى نحو:
غمه فاغتم، وكسره فانكسر، وأشباه ذلك: فإن قلت: فلم قيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والمتقون مهتدون؟ «١» قلت: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك اللَّه وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته، كقوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين، كقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه» «٢» وعن ابن عباس: «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة، وتكتفّ الحاجة» «٣» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال:
والآخر خلق اللَّه تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعاً. وأما قول الزمخشري: إن القرآن لا يكون هدى للمعلوم بقاؤهم على الضلالة، فإنما يستقيم إذا أريد بالهدى خلق الاهتداء في قلوبهم. وأما إذا أريد معناه الأول، فلا يمتنع أن اللَّه تعالى أرشد الخلق أجمعين، وبين للناس ما نزل إليهم، فمنهم من اهتدى، ومنهم من حقت عليهم الضلالة. هذا مذهب أهل السنة.
(٢). متفق عليه من حديث أبى قتادة. وفيه قصته. وغلط الطيبي فقرأه لأبى داود عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، والذي فيه أنه قال يوم بدر «من قتل قتيلا فله كذا أو كذا» لم يقل «فله سلبه». [.....]
(٣). موقوف. عزاه الطيبي لأبى داود وحده مرفوعا وقال: ليس فيه الزيادات، يعنى قوله: فيه يمرض إلى آخره. انتهى. والحديث بتمامه عند ابن ماجة، وأحمد وإسحاق في مسنديهما مرفوعا، وفيه أبو إسرائيل المكي، وهو صدوق سيئ الحفظ.
والمتقى في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقى من وجاها، إذا أصابه ضلع «١» من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر «٢» وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقى لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر.
ومحل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع (لا رَيْبَ فِيهِ) لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، وأن يقال إن قوله: (الم) جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) رابعة.
والظلع: غمز في مشية البعير. (ع)
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «واختلف في الصغائر... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: ومن تمنى القدرية على اللَّه تعالى اعتقادهم أن الصغائر ممحوة عنهم ما اجتنبوا الكبائر، وأنه يجب أن يعفو اللَّه عنها لمجتنب الكبائر، كما يجب عندهم أن لا يعفو عن مرتكب الكبائر، وهذا هو الخطأ الصراح، والمحادة لآيات اللَّه البينات وسنن رسوله صلى اللَّه عليه وسلم الصحاح. والحق أن غفران الصغائر- وإن اجتنبت الكبائر- موكول إلى المشيئة، كما أن غفران الكبائر موكول إليها أيضا. ومن لا يعتقد ذلك وهم القدرية يضطرون إلى الوقوف عند قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فانه ناطق بالمؤاخذة بالصغائر. ويتحيرون عند قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فانه مصرح بمغفرة الكبائر. أما أهل السنة فقد ألفوا بين هاتين الآيتين بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فان التقييد بالمشيئة في هذه يقضى على الآيتين المطلقتين.
فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السرى، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين.
زادنا اللَّه اطلاعا على أسرار كلامه، وتبيينا لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير: أعنى الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أُولئِكَ عَلى هُدىً). فإذا كان موصولا، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ. وإذا كان مقتطعاً، كان وقفاً تاما. فإن قلت: ما هذه الصفة، أواردة بيانا وكشفا للمتقين؟
أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات اللَّه الجارية عليه تمجيداً؟ قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟ وسمى الزكاة قنطرة
ويحتمل أن تكون مدحا للموصوفين بالتقوى، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهاراً لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات والإيمان: إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيرى. ثم يقال: آمنه إذا صدّقه.
وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة. وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة- أى ما وثقت- فحقيقته: صرت ذا أمن به، أى ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أى يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون (بالغيب) صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال، أى يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)، (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد اللَّه ذكروا أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «٢» وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه. والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالا؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى
وأما الحديث الثاني، فرواه مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه بلفظ «بين الرجل وبين الكفر تركه الصلاة».
وأما الحديث الثالث، فرواه إسحاق في مسنده من حديث أبى الدرداء رضى اللَّه عنه به سواء. وفيه الضحاك ابن حمق. وهو ضعيف.
(٢). موقوف. أخرجه الحاكم من طريق عبد الرحمن بن زيد «ذكروا عند عبد اللَّه بن مسعود. الخ» وإسناده صحيح.
قيل: والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلا عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوّات وما يتعلق بها، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك. وإن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة والخفاء، فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟ «١» قلت: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدّقه بعمله. فمن أخل بالاعناد- وإن شهد وعمل- فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق.
ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود- إذا قوّمه- أو الدوام عليها والمحافظة عليها، كما قال عز وعلا: (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) من قامت السوق إذا نفقت، وأقامها. قال:
أَقَامَتْ غَزَالةُ سُوقَ الضِّرَابِ | لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولًا قَمِيطاً «١» |
(فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ).
والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى: حرّك الصلوين لأن المصلى يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لأنه ينثني على الكاذتين «٢» وهما الكافرتان. وقيل للداعي: مصلّ، تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد.
وإسناد الرزق إلى نفسه «٣» للإعلام بأنهم ينفقون الحلال «٤» الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى اللَّه، ويسمى رزقا منه. وأدخل من التبعيضة صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه. وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة
سفدها. والقماط: حبل تشد به الأسرى والأخصاص، فالمادة دالة على الاحاطة والضم.
(٢). قوله «على الكاذتين» في الصحاح: الكاذتان ما نشأ من اللحم في أعالى الفخذ اه (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «أضاف الرزق إلى نفسه للاعلام بأنهم إنما ينفقون من الحلال الطلق... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: فهذه بدعة قدرية، فإنهم يرون أن اللَّه تعالى لا يرزق إلا الحلال، وأما الحرام فالعبد يرزقه لنفسه حتى يقسمون الأرزاق قسمين: هذا للَّه بزعمهم، وهذا لشركائه. وإذا أثبتوا خالقا غير اللَّه، فلا يأنفون عن إثبات رازق غيره. أما أهل السنة فلا خالق ولا رازق في عقدهم إلا اللَّه سبحانه. تصديقا بقوله تعالى: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أيها القدرية.
(٤). قوله «بأنهم ينفقون الحلال» مبنى على أن الرزق مختص بالحلال، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: الرزق أعم. (ع)
وأنفق الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب: نفق الشيء، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
فإن قلت: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد، وفي قوله:
إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهمامِ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ «١»
وقوله:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ... الصَّابِحِ فالغَانِم فَالْآيِبِ؟ «٢»
قلت: يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا، فاشتمل إيمانهم على كل وحى أنزل من عند اللَّه، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما
واستعار لليث للشجاع على طريق التصريح. والكتيبة: الجيش المنضم المنتظم. والمزدحم: المعركة لأنها محل الازدحام، وأصله «مزتحم» من الافتعال قلبت تاؤه دالا.
(٢).
يا لهف زيابة للحارث... الصابح فالغانم فالآيب
واللَّه لو لاقيته خاليا... لآب سيفانا مع الغالب
لابن زيابة في جواب الحرث بن هشام حين قال له:
أيا ابن زيابة إن تلقني... لا تلقني في النعم العازب
وتلقني يشد بى أجرد... مستقدم البركة كالراكب
والعازب- بالزاي- البعيد عن أهله. يعرض بأن زيابة يراع للنعم لا شجاع. والأجرد: المنجرد الشعر. والبركة في البعير والفرس: العظم الناتئ في صدرهما وعظمه ممدوح فيهما، وشبهه بالراكب في طول عنقه وامتداده ويجوز أن المعنى أن راكبه أيضا مستقدم البركة لا متخشع منكمش. يقول: يا حسرة أبى على من أجل الحارث الذي بلغ مراده منى. وفيه ضرب من التهكم فان كان توعده ثم نكص على عقبيه. وقيل: هو على ظاهره، ثم حلف أنه لو وجده لقتله، ولكنه أبرز الكلام في صورة الإيهام للانصاف في الكلام ورجوع السيفين مع الغالب: كناية عن قتل المغلوب واستلاب سلاحه.
فإن قلت: قوله بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، فلم يكن ذلك منزلا وقت إيمانهم، فكيف قيل أنزل بلفظ المضىّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب. قلت: المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضىّ وإن كان بعضه مترقباً، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، كما بغلب المتكلم على المخاطب، والمخاطب على الغائب فيقال:
أنا وأنت فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله، ويدل عليه قوله تعالى: (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك:
كل ما خطب به فلان فهو فصيح، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي، لكونه معقوداً بعضه ببعض، ومربوطا آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على لفظ ما سمى فاعله. وفي تقديم (بِالْآخِرَةِ) وبناء (يُوقِنُونَ) على: (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وبِالْآخِرَةِ تأنيث الآخر الذي هو
لَحُبَّ المُؤْقِدَانِ إلَىَّ مُؤْسَى | وَجَعدَةُ إذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ «٢» |
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
أُولئِكَ عَلى هُدىً الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ وإلا فلا محلّ لها. ونظم الكلام على الوجهين: أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب، فقد ذهبت به مذهب الاستئناف. وذلك أنه لما قيل: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر. وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من اللَّه أن يلطف بهم، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم، أحقاء بأن يهديهم اللَّه ويعطيهم الفلاح. ونظيره
(٢). لجرير في مدح هشام بن عبد الملك وموسى ابنه وجعدة بنته، وقيل ابنه أيضا وليس كذلك. واللام للقسم. وحب أصله حبب- كظرف- نقلت حركة الباء إلى الحاء ثم أدغمت في الأخرى. ومعناه: إنشاء المدح كنعم، ويفيد التعجب أيضا ك «مأحبه». وقد تفتح حاؤه إذا كان فاعله ذا والمؤقدان بالهمز فاعل. ومؤسى بالهمز أيضا. وجعدة المخصوص بالمدح على طريقة: نعم لرجل زيد. و «حب» : محول من «حب» الثلاثي كضرب، وإن كان الكثير «أحب» الرباعي لأنه لا يصاغ للمدح إلا من الثلاثي. فان قلت: أهو محول من «حب» المسند للفاعل، أم من «حب» المبنى للمجهول؟ قلت: إن كان من المسند للفاعل فالمؤقدان محبوبان، وإن كان من المسند للمفعول فالتحويل تقديري. فالظاهر أنه مصوغ من المادة من غير ملاحظة إسناد. ويجوز أن «حب» أصله «حبب» - كضرب مبنى للمجهول- فالمؤقدان نائب فاعل، ومؤسى وجعدة بدل أو بيان. والمعنى على الخبر لا الإنشاء. وروى:
أحب الموقدين، باضافة أفعل التفضيل إلى صيغة الجمع فمؤسى وجعدة خبر. وسوغ قلب واو الموقدين وموسى همزة، ضم ما قبلها، فكأنها مضمومة، وهي إذا ضمت تبدل همزة. ويقال: أضاء المكان وأضاءه السراج. وما هنا من الثاني، فهو متعد بمعنى أنارهما الوقود بالضم: أى توقد نار القرى وتلتهبنها، وأما بالفتح فهو ما توقد.
به. وأصل فعول أنه مبالغة في الفاعل كضروب، وكثر بمعنى ما يفعل به الفعل كوقود وسحور، فيحتمل أنه من قبيل اسم المفعول، وأنه من قبيل اسم الآلة شذوذاً. والمعنى: ما أحبهما إلى وقت بأن أظهرتهما النار التي يوقدانها لقرى الأضياف
فَذلِكَ إنْ يَهْلِكْ فَحسْبى ثَنَاؤُهُ | وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا «١» |
ويغشى إذا ما كان يوم كريهة | صدور العوالي وهو مختضب دما |
أو الحرب أبدت ناجذيها وشمرت | وولى هدان القوم أقدم معلما |
فذلك إن يهلك فحسبي ثناؤه | وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما |
ومعنى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أى منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير، والترقي إلى الأفضل فالأفضل. ونكر (هدى) ليفيد ضربا مبهماً لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره كأنه قيل: على أى هدى، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وقال الهذلي:
فَلَا وَأَبِى الطّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى «٢»... عَلى خالِدٍ لَقدْ وَقَعْتِ على لَحَم «٣»
والنون في: (مِنْ رَبِّهِمْ) أدغمت بغنة وبغير غنة. فالكسائى، وحمزة، ويزيد، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها. وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو. فقد روى عنه فيها روايتان.
وفي تكرير أُولئِكَ تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح فجعلت كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها. فإن قلت:
لم جاء مع العاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله: (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ؟ قلت: قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيهم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل
(٢). قوله
«وأبى الطير المربة بالضحى»
أى المجتمعة العاكفة. أفاده الصحاح (ع)
(٣).
فلا وأبى الطير المربة بالضحى... على خالد لقد وقعت على لحم
فلا وأبى لا يأكل الطير مثله... عشية أمسى لا يبين من السلم
لأبى كبير الهذلي يرثى خالد بن زهير. ولا زائدة قبل القسم. واستعظم الطير الواقعة عليه فأقسم بها، وكنى عنها بأبى الطير كما يكنى عن العظيم بأبى فلان. وأصل أبى هنا: أبين، على صيغة جمع المذكر السالم، سقطت نونه للاضافة. ويحتمل أنه مفرد والمراد به النسر لأنه يكنى بأبى الطير. ويجوز أن يريد بأبى الطير خالداً لوقوعها عليه، ويجوز أن يريد به أصلها. ويروى: لعمر أبى الطير المربة غدوة... الخ. ويروى هذا يرفع الطير. ولعله على الابتداء أو الخبرية لمحذوف، أو على تقدير النداء، وإلى مضاف إلى ضمير المتكلم كالذي بعده.
ويقال: أرب بالمكان وألب به. أقام فيه ولازمه، فالمربة المقيمة العاكفة وقت الضحى على خالد القتيل. والتفت إلى خطاب الطير فقال لها: لقد وقعت. ويروى علقت، على لحم- بالتحريك- على لغة وتنكيره للتعظيم: أى على لحم عظيم. وأنثها لأنها جماعة في المعنى. فان قرئ بفتح التاء فظاهر، وخاطبه لتنزيله منزلة العاقل، ثم أقسم بأبيه أن الطير لا يأكل مثل خالد في العظم عشية أمسى لا يظهر لنا من السلم- وهو شجر العضاه- كناية عن كونه قتيلا فيه والطير حوله على ذلك الشجر. وفي البيتين التفاتان.
ومعنى التعريف في الْمُفْلِحُونَ: الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أى هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقية، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة. كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فانظر كيف كرّر اللَّه عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدّموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على اللَّه ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهمّ زينا بلباس التقوى، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة. والمفلح: الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. والمفلج- بالجيم- مثله. ومنه قولهم المطلقة: استفلحى بأمرك بالحاء والجيم. والتركيب دال على معنى الشق والفتح، وكذلك أخواته في الفاء والعين، نحو:
فلق، وفلذ، وفلي.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدى عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت: لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت: لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف. فإن قلت: هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم، كان
والتعريف في الَّذِينَ كَفَرُوا يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده «٢» وغيرهم، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم، وسَواءٌ اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله تعالى: (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ)، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ، وأَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
في موضع المرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول: إنّ زيدا مختصم أخوه وابن عمه.
أو يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء، وسواء خبراً مقدّما بمعنى: سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لإنّ. فإن قلت: الفعل أبداً خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت: هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بيناً، من ذلك قولهم:
لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء «٣» وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة، يعنى أنّ هذا جرى على صورة
(٢). قوله «بعده وغيرهم» لعله كهؤلاء وغيرهم (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وحاصل هذا النقل استعمال الحرف في أعم معناه، فالهمزة المعادلة لأم موضوعة في الأصل للاستفهام عن أحد متبادلين في عدم علم التعين فنقلت إلى مطلق المعادلة وإن لم يكن استفهاما، واستعملت في الجزء الحقيقي. وكذلك حرف النداء موضوع في الأصل لتخصيص المنادى بالدعاء، ثم نقل إلى مطلق التخصيص ولا نداء، كما يكون المجاز بالتخصيص والقصر مثل تخصيص الدابة بذوات الأربع وإن كانت في الأصل لكل ما دب، فقد يكون بالتعميم والتعدي مثل تسمية الرجل الشجاع أسداً نقلا لهذا الاسم من موصوف بالشجاعة مخصوص وهو الحيوان المعروف، إلى كل موصوف بتلك الصفة غير مقصورة على محلها الأصلى.
فإن قلت: ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قلت: هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه- وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفا مدغماً نحو قوله: الضالين، وخويصة «١» والثاني: إخطاء طريق التخفيف لأن طريق تخفيف الهمزة المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفاً فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار: التخويف من عقاب اللَّه بالزجر عن المعاصي. فإن قلت: ما موقع لا يُؤْمِنُونَ؟ قلت: إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبراً لإنّ والجملة قبلها اعتراض.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه.
والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية «٢» ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات اللَّه المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت، وحيل بينها وبين الإدراك.
وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من
«بادروا بالأعمال ستا | » فذكره. وفيه «وخويصة أحدكم». |
خَتَمَ الالهُ عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ | خَتْماً فلَيْسَ عَلى الكلامِ بقَادِرِ |
وإذا أَرَادَ النُّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ | لَحْماً يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ «١» |
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت فلم أسند الختم إلى اللَّه تعالى... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: هذا أول عشواء خبطها في مهواة من الأهواء هبطها، حيث نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة استبقاء لما كتب عليه من المحنة، فانطوى كلامه هذا على ضلالات أعدها وأردها:
الأولى: مخالفة دليل العقل على وحدانية اللَّه تعالى. ومقتضاه أنه لا حادث إلا بقدرة اللَّه تعالى لا شريك له، والامتناع من قبول الحق من جملة الحوادث فوجب انتظامه في سلك متعلقات القدرة العامة المتعلق بالكائنات والممكنات.
الثانية: مخالفة دليل النقل المضاهي لدليل العقل كأمثال قوله تعالى: (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) وهذه الآية أيضا فان الختم فيها مسند إلى اللَّه تعالى نصا. والزمخشري رحمه اللَّه لا يأبى ذلك، ولكنه يدعى الالتجاه إلى تأويلها لدليل قام عنده عليه. فإذا أثبت أن الدليل العقلي على وفق ما دلت عليه، وجب عليه إبقاؤها على ظاهرها بل لو وردت على خلاف ذلك ظاهرا، لوجب تأويلها بالدليل جمعاً بين العقل والنقل.
الثالثة: الفرار من نسبة ما اعتقده قبحاً إلى اللَّه تعالى تنزيها، على زعمه أن الاشراك به في اعتقاد أن الشيطان هو الذي يخلق الختم والكافر يخلفه لنفسه بقدرته على خلاف مراد ربه. فلقد استوخم من السنة المناهل العذاب وورد من حميم البدعة موارد العذاب.
الرابعة: الغلط باعتقاد أن ما يقبح شاهدا يقبح غائبا، فلما كان المنع من قبول الحق قبيحا في الشاهد وجب على زعمه أن يكون قبيحا من الغائب. وهذه قاعدة قد فرغ من بطلانها في فنها.
الخامسة: اعتقاده أن ذلك لو فرض وجوده بقدرة اللَّه تعالى لكان ظلما، واللَّه تعالى منزه عن الظلم بقوله تعالى (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ومن الظلم البين جهل حقيقة الظلم فانه التصرف في ملك الغير بغير إذنه. فكيف يتصور ثبوت حقيقته للَّه تعالى؟ وكل مفروض محصور بسور ملكه عز وجل: الملك للَّه الواحد القهار.
السادسة: أنه فر من اعتقاد نسبة الظلم إلى اللَّه تعالى فتورط فيه إلى عنقه لأنه قد جزم بأن المنع من قبول الحق لو كان من فعل اللَّه تعالى لكان ظلما. فيقال له: وقد قام البرهان على أنه من فعل اللَّه تعالى فيلزمك أن يكون ظلما- تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا- والخيال الذي يدندن حوله هؤلاء: أن أفعال العبد لو كانت مخلوقة للَّه تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم ولا قامت حجة اللَّه عليهم. وهذه الشبه قد أجراها في أدراج كلامه المتقدم، فيقال لهم: لم قلتم إنها لو كانت مخلوقة للَّه لما نعاها على عباده؟ فان أسندوا هذه الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح وقالوا: معاقبة الإنسان بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت المعاقبة من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائباً. قيل لهم: ويقبح في الشاهد أيضاً أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع، ثم يعاقبه على ذلك من القدرة على ردعه ورده من الأول عنها. وأنتم معاشر القدرية تزعمون أن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة للَّه تعالى، على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك، فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم، وذلك في الشاهد قبيح جزما. فسيقولون: أجل إنه لقبيح في الشاهد، ولكن هناك حكمة استأثر اللَّه تعالى بعلمها فرقت بين الشاهد والغائب، فحسن من الغائب تمكين عبده من الفواحش مع القدرة على أن لا يقع منه شيء، ولم يحسن ذلك في الشاهد. وفي هذا الموطن تتزلزل أقدامهم وتتنكس أعلامهم، إذا لاحت لهم قواطع اليقين وبوارق البراهين فيقال لهم: ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة للَّه تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر اللَّه بها كما فرغتم منه الآن سواء؟ فلم لا يسلك أحدكم الطريق الأعدل وينظر عاقبة هذا الأمر فيصير آخر أول، وليفوض من الابتداء إلى خالقه، ويتلقى حجة اللَّه تعالى عليه بالقبول والتسليم، ويسلك مهتديا بنور العقل ومقتديا بدليل الشرع الصراط المستقيم فان نازعته النفس وحادثته الهواجس ورغب في مستند من حيث النظر يأنس به من مفاوز الفكر، فليخطر بباله ما ذكر عند كل عاقل من التمييز بين الحركة الاختيارية والقسرية، فلا يجد عنده في هذه التفرقة ريباً. فإذا استشعر ذلك فليتنبه فقد لطف به إلى أن انحرف عن مضايق الجبر، فارا أن يلوح به شيطان الضلال إلى مهامه الاعتزال، فليمسك نفسه دونها بزمام دليل الوحدانية على أن لا فاعل ولا خالق إلا اللَّه تعالى، فإذا وقف لم يقف إلا وهو على الصراط المستقيم والطريقة المثلى، ماراً عليها في أسرع من البرق الخاصف والريح العاصف؟ فليتأمل الناظر هذا الفصل، ويتخذه وزره في قاعدة الأفعال، يقف على الحق إن شاء اللَّه تعالى.
وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)، (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى اللَّه عز وجل، فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشىء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟
ويجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي ختم اللَّه على قلوبهم مثلا كقولهم: سال به الوادي، إذا هلك. وطارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في
نهاره صائم. وليله قائم. وفي المكان: طريق سائر، ونهر جار. وأهل مكة يقولون: صلى المقام. وفي المسبب: بنى الأمير المدينة، وناقة ضبوث «٣» وحلوب. وقال:
إذَا رَدَّ عَافِى الْقِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها «٤»
والجمع غتم. (ع) [.....]
(٢). قوله «سيل مفعم» في الصحاح: أفعمت الإناء ملأته، وفيه أيضاً: يقال: ذيل ذائل، وهو الهوان والخزي. (ع)
(٣). قوله «وناقة ضبوث» في الصحاح: ناقة ضبوث، يشك في سمنها فتضبث، أى تجس باليد. (ع)
(٤).
فلا تسألينى واسألى عن خليقتي | إذا رد عافى القدر من يستعيرها |
فكانوا قعوداً فوقها يرقبونها | وكانت فتاة الحي ممن يعيرها |
ويجوز أن المراد أن الحالة جدب حتى أن صاحب القدر برد المستعير حرصا على ما فيها من بقية المرق ولو قليلة فضمير «كانوا» لمن يستعيرها ويجوز أن عافى القدر: مفعول لم يظهر نصبه للوزن، و «من يستعيرها» فاعل لأنه كان من عادة العرب في الجدب أن برد المستعير بقية من المرق في القدر للمعير، فهو كناية عن الجدب لكن لا تتم مناسبة لما بعده: ويجوز أن يكون المعنى إذا منع مستعير القدر عافيها أى طالب الرزق منها ولبخله وعدم نزول الضيفان عنده، لا يملك لنفسه قدرا، فإذا استعار قدرا ليطبخ فيها مرة منع طالب الرزق منها. وعلى هذا يحتمل أنه جمع حذفت نونه للاضافة فنصبه بالياء، فهذه أربعة وجوه.
لو لم يكرّر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة، كان أدل على شدة الختم في الموضعين. ووحد السمع كما وحد البطن في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك: فرسهم،
لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية، لما فيها من التكرير كأن فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال. والبصر نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات. كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما به يستبصر ويتأمل. وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما اللَّه فيهما آلتين للإبصار والاستبصار.
وقرئ (غشاوة) بالكسر والنصب. وغشاوة: بالضم والرفع. وغشاوة: بالفتح والنصب. وغشوة: بالكسر والرفع. وغشوة: بالفتح والرفع والنصب. وعشاوة: بالعين غير المعجمة والرفع، من العشا.
والعذاب: مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول: أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه.
كما تقول: نكل عنه. ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف الملح فإنه يزيده.
ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أى يكسره. وفراتا، لأنه يرفته على القلب. ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا- أى عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة.
والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً.
تقول: رجل عظيم وكبير، تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات اللَّه. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللَّه.
اللهم أجرنا من عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاء وخداعا. ولذلك أنزل فيهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم، وعمههم ودعاهم صما بكما عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة.
وأصل (ناس) أناس، حذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة، في ألوقة «١». وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس. ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس.
وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أى يبصرون، كما سمى الجنّ لاجتنانهم. ولذلك سموا بشراً.
ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول. ألا تراك تقول في وزن «قه» افعل، وليس معك إلا العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال «٢». وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل. ولام التعريف فيه للجنس. ويجوز أن تكون للعهد، والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم كأنه قيل: ومن هؤلاء من يقول. وهم عبد اللَّه بن أبىّ وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق. ونظير موقعه موقع القوم في قولك: نزلت ببني فلان فلم يقرونى والقوم لئام.
ومن في مَنْ يَقُولُ موصوفة، كأنه قيل: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال) إن جعلت اللام للجنس. وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ). فإن قلت: كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم؟
قلت: الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً. وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا
(٢). قوله «من أسماء الجمع كرخال» الرخل- بالكسر-: الأنثى من ولد الضأن، والجمع رخال بالكسر، وبالضم كذا في الصحاح. (ع)
فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثا إلى خبث، وكفراً إلى كفر. وأيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان «١» من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوّله وآخره. وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت:
كيف طابق قوله: (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) قولهم (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت: القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها. فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما.
فإن قلت: ما المراد باليوم الآخر؟ قلت: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من
والخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم: ضب خادع وخدع، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أو همه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر. فإن قلت:
كيف ذلك ومخادعة اللَّه والمؤمنين لا تصح «١» لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا.
ألا نرى إلى قوله:
اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مخلوقا للَّه تعالى لأنه قبيح على زعمه كالمفهوم من الخداع في هذه الآية. وما جره إلى هاتين النزغتين إلا اعتقاده أنه لا يتم استحالة كونه تعالى مخدوعا، إلا بأنه عالم بذاته حتى تعم عالميته كل كائن فلا يخدع إذ نسبة الذات إلى الكائنات نسبة واحدة، ولا يتم استحالة كونه تعالى خادعا إلا باستحالة صدور بعض الكائنات عنه لأنه قبيح على زعمهم. ولقد وقف هذا التنزيه على ما لا توقف عليه ولا شرط فيه.
فنحن معاشر أهل السنة نعتقد أن اللَّه تعالى عالم بعلم، ومع ذلك نعتقد استحالة كونه مخدوعا لأن علمه عندنا عام التعلق كما وصفنا. ونعتقد أنه لا يصدر كائن في الوجود إلا عن قدرته لا غير، ومع ذلك نمنع أن ينسب الخداع إلى اللَّه تعالى لما يوهم ظاهره من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم. هذا هو الموهوم منه في الإطلاق، ولكن حيث أطلقه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم، علمنا أن المراد منه أنه فعل معهم فعلا سماه خداعا مقابلة ومشاكلة وإلا فهو قادر على هتك سترهم وإنزال العذاب بهم رأى العين فهذا معتقد أهل السنة في هذه الآية وأمثالها لا كالزمخشري وشيعته الذين يزعمون أنهم يوحدون فيجحدون، وينزهون فيشركون. واللَّه الموفق للحق. وكذلك الخداع المنسوب إليهم على سبيل المجاز عن تعاطيهم أفعال المخادع على ظنهم وأصدق شاهد في أنه مجاز نفيه بعقب إثباته في قوله: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) ففي هذه التتمة نفى احتمال الحقيقة حتى تتعين جهة المجاز. ومما عده البيانيون من أدلة المجاز صدق نفيه فتأمل هذا الفصل فله على سائر الفصول الفضل.
وقول ذى الرمّة:
إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ «٢»
فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع. قلت: فيه وجوه. أحدها: أن يقال كانت صورة صنعهم مع اللَّه حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، صورة صنع الخادعين. وصورة صنع اللَّه معهم- حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار- صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر اللَّه فيهم فأجروا أحكامهم عليهم. والثاني: أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن اللَّه ممن يصح خداعه لأن من كان ادعاؤه الإيمان باللَّه نفاقا لم يكن عارفا باللَّه ولا بصفاته، ولا أن لذاته تعلقا بكل معلوم، ولا أنه غنى عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون اللَّه في زعمه مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفى، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. والثالث: أن يذكر اللَّه تعالى ويراد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم لأنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال: قال الملك كذا ورسم كذا
واستمطروا من قريش كل منخدع | إن الكريم إذا خادعته انخدعا |
لا خير في الحب لا ترجى نوافله | فاستمطروا من قريش كل منخدع |
(٢).
تزداد للعين إبهاجا إذا سفرت | وتخرج العين فيها حين تنتقب |
تلك الفتاة التي علقتها عرضا | إن الحليم وذا الإسلام يختلب |
(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ). والرابع: أن يكون من قولهم: أعجبنى زيد وكرمه، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا باللَّه. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص، ولما كان المؤمنون من اللَّه بمكان، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وكذلك: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ونظيره في كلامهم: علمت زيدا فاضلا، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه لأنه كان معلوما له قديما كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله. فإن قلت: هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلت: وجهه أن يقال: عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. ويعضده قراءة من قرأ: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهو أبو حيوة. و (يُخادِعُونَ) بيان ليقول. ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل يخادعون. فان قلت: عمّ كانوا يخادعون؟
قلت: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد، ومنها اطلاعهم- لاختلاطهم بهم- على الأسرار التي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم. فإن قلت: فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها. قلت: لم يظهر عليهم لما أحاط به علما من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك. ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة. فإن قلت: ما المراد بقوله: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ؟ قلت:
يجوز أن يراد: وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم، ومكرها يحيق بهم، كما تقول: فلان يضارّ فلانا وما يضارّ إلا نفسه، أى: دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه، وأن يراد حقيقة المخادعة أى: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأمانى وأن يراد: وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة. وقرئ: وما يخدعون،
نفس لأن النفس به. ألا ترى إلى قولهم: المرأ بأصغريه. وكذلك بمعنى الروح وللدم نفس لأن قوامها بالدم. وللماء نفس لفرط حاجتها إليه: قال اللَّه تعالى: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه، كقولهم: فلان يؤامر نفسيه- إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدرى على أيهما يعرج كأنهم أرادوا داعي النفس، وهاجسى النفس فسموهما: نفسين، إما لصدورهما عن النفس، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم: أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم.
والشعور علم الشيء علم حس «١» من الشعار. ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادى غفلتهم كالذي لا حسّ له.
واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازا، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول:
في جوفه مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها اللَّه تعالى في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) ويتحرقون عليهم حسدا (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) وناهيك مما كان «٢» من ابن أبىّ وقول سعد بن عبادة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اعف عنه يا رسول اللَّه واصفح، فو اللَّه لقد أعطاك اللَّه الذي أعطاك،
(٢). قوله «وناهيك مما كان» لعله: بما كان. (ع)
. ومعنى زيادة اللَّه إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحى فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم، فكأن اللَّه هو الذي زادهم ما ازدادوه إسنادا للفعل إلى المسبب له، كما أسنده إلى السورة في قوله: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لكونها سببا. أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطا في البلاد ونقصا من أطراف الأرض ازدادوا حسدا وغلا وبغضا وازدادت قلوبهم ضعفا وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبنا وخورا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمرو في رواية الأصمعى:
مرض، ومرضا، بسكون الراء:
يقال ألم فهو أَلِيمٌ كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله:
تحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «٤»
(٢). قوله «جبنا وخوراً» الخور بالتحريك: الضعف، كما في الصحاح. (ع) [.....]
(٣). متفق عليه من حديث جابر رضى اللَّه عنه.
(٤).
أمن ريحانة الداعي السميع | يؤرقنى وأصحابى هجوع |
وسوق كتيبة دلفت لأخرى | كأن زهاءها رأس صليع |
وخيل قد دلفت لها بخيل | تحية بينهم ضرب وجيع |
وسميع: مبتدأ، خبره يؤرقنى أى هل داعى الشوق من ريحانة يسهرني والحال أن أصحابى نيام؟ والاستفهام للتعجب «وسوق كتيبة» عطف على الداعي أو على ضمير يؤرقنى. والكتيبة: الجماعة المنضمة المنتظمة. ودلف دلفاً من باب تعب مشى بتؤدة. وقيل تقدم وأسرع. كان زهاءها: أى مقدارها. والصليع: الذي لا شعر فيه، ولعله شبهها بذلك الرأس في التجرد والانكشاف والظهور والتمام كما يقال: جيش أقرع، وألف أقرع: أى تام مجازاً. وخيل: أى وأصحاب خيل قد تقدمت لها بمثلها. والتحية: الدعاء بالحياة، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكم.
وضمير «بينهم» للخيل بمعنى الجيش. وانتقل من ذكر ريحانة إلى ذكر الحرب لأنه كان أغار على دريد في طلبها.
والمراد بكذبهم قولهم آمنا باللَّه وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) والقوم كفرة. وإنما خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا عن ارتكابها.
والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. وأما ما يروى عن إبراهيم عليه السلام أنه كذب ثلاث كذبات «١». فالمراد التعريض. ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به. وعن أبى بكر رضى اللَّه عنه وروى مرفوعا: «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان» «٢» وقرئ يكذبون، من كذبه الذي هو نقيض صدقه أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل: صدّق. ونظيرهما: بان الشيء وبين، وقلص الثوب وقلص. أو بمعنى الكثرة كقولهم: موتت البهائم، وبركت الإبل، أو من قولهم: كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه لأن المنافق متوقف متردّد في أمره، ولذلك قيل له مذبذب. وقال عليه السلام: «مثل المنافق كمثل الشاة «٣» العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
(٢). روى مرفوعا وموقوفا على أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه. أما المرفوع فأخرجه ابن عدى من طريق إسماعيل بن أبى خالد عن قيس عنه. قال الدارقطني في العلل: رفعه يحيى بن عبد الملك وجعفر الأحمر وعمر بن ثابت عن إسماعيل. ووقفه غيرهم وهو أصح. ويروى عن أبى أسامة ويزيد بن هرون عنه أيضا مرفوعا. ولا يثبت عنهما اه. وأما الموقوف فأخرجه أحمد وابن أبى شيبة في الأدب كلاهما عن وكيع عن إسماعيل وابن المبارك في الزهد عن إسماعيل كذلك. ولم يجد الطيبي المرفوع فأخرج بدله عن صفوان بن سليم. قيل: يا رسول اللَّه والمؤمن يكون جبانا؟ قال: نعم. يكون بخيلا؟ قال: نعم. يكون كذاباً؟ قال: لا. أخرجه مالك وهو مرسل.
(٣). أخرجه مسلم من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: قوله تعير بمهملة أى تتردد.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية.
قال اللَّه تعالى: (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ)، (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد. وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم علتهم، وذلك مما يؤدّى إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤديا إلى الفساد قيل لهم: لا تفسدوا، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و «إنما» لقصر الحكم على شيء، كقولك: إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب. ومعنى إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد. وأَلا مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله: (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) ؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين وطلائعها:
أَمَا والّذِى أَبْكَى وأَضحَكَ «٢»
ردّ اللَّه ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل. وقوله: لا يَشْعُرُونَ أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة. والثاني: تبصيرهم الطريق الأسد من اتباع ذوى الأحلام، ودخولهم في عدادهم فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادى
أما والذي لا يعلم الغيب غيره | ويحيى العظام البيض وهي رميم |
لقد كنت أختار القرى طاوى الحشا | محاذرة من أن يقال لئيم |
وإنى لأستحيى يمينى وبينها | وبين فمي داجى الظلام بهيم |
(٢).
أما والذي أبكى وأضحك والذي | أمات وأحيا والذي أمره الأمر |
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى | أليفين منها لا يروعهما الذعر |
و «ما» في «كما» يجوز أن تكون كافة مثلها في: (رُبَما)، ومصدرية مثلها في: (بِما رَحُبَتْ).
واللام في «الناس» للعهد، أى كما آمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومن معه. أو هم ناس معهودون كعبد اللَّه بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم، أى: كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أى: كما آمن الكاملون في الإنسانية. أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل.
والاستفهام في أَنُؤْمِنُ في معنى الإنكار. واللام في السُّفَهاءُ مشاربها إلى الناس، كما تقول لصاحبك: إن زيداً قد سعى بك، فيقول: أو قد فعل السفيه. ويجوز أن تكون للجنس، وينطوى تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه. فإن قلت: لم سفهوهم واستركوا عقولهم، وهم العقلاء المراجيح؟
قلت: لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم. أو أرادوا عبد اللَّه بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاطهم من إسلامهم وفت في أعضادهم. قالوا ذلك على سبيل التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. فان قلت: فلم فصلت هذه الآية ب: (لا يَعْلَمُونَ)، والتي قبلها ب: (لا يَشْعُرُونَ) ؟ قلت: لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة.
وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّى إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوىّ مبنى على
انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبى بكر فقال: مرحبا بالصدّيق سيد بنى تيم وشيخ الإسلام وثانى رسول اللَّه في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه. ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بنى عدىّ الفاروق القوىّ في دين اللَّه، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه. ثم أخذ بيد علىّ فقال: مرحباً بابن عم رسول اللَّه وختنه سيد بنى هاشم ما خلا رسول اللَّه. ثم افترقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتمونى فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً، فنزلت.
ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وهو جارى ملاقىّ ومراوقى. وقرأ أبو حنيفة: وإذا لاقوا.
وخلوت بفلان وإليه، إذا انفردت معه. ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى: مضى، وخلاك ذمّ: أى عداك ومضى عنك. ومنه: القرون الخالية، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه. وهو من قولك: خلا فلان بعرض فلان يعبث به. ومعناه: وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها. كما تقول: أحمد إليك فلانا، وأذمّه إليك. وشياطينهم: الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم. وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة. والدليل على أصالتها قولهم: تشيطن، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير. ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة. ومن أسمائه الباطل.
ألا ترى إلى حكاية اللَّه قول المؤمنين: (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا). وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد. فإن قلت: أنى تعلق قوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بقوله: (إِنَّا مَعَكُمْ) قلت: هو توكيد له، لأن قوله: (إِنَّا مَعَكُمْ) معناه الثبات على اليهودية. وقوله: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ردّ للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم: (إِنَّا مَعَكُمْ)، فقالوا: فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).
والاستهزاء: السخرية والاستخفاف، وأصل الباب الخفة- من الهزء وهو القتل السريع- وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب: مشيت فغلبت فظننت لأهز أنّ على مكاني. وناقته تهزأ به: أى تسرع وتخف. فإن قلت: لا يجوز الاستهزاء على اللَّه تعالى، لأنه متعال عن القبيح، والسخرية من باب العيب والجهل. ألا ترى إلى قوله: (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم، لأنّ المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به،
ومددت السرج والأرض: إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومده الشيطان في الغى وأمده:
إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد انهما كافيه. فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن: (وَيَمُدُّهُمْ)، وقراءة نافع: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) على أن الذي بمعنى أمهله
قال أحمد رحمه اللَّه: فان قال قائل: أفلا يستفاد هذا المعنى من العطف؟ قيل له: لو عطف لأشعر بأن الغرض كل الغرض اجتماع مضمون الجملتين وإعراض عن هذا المعنى الذي ينفرد به الاستئناف
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فهلا قيل اللَّه مستهزئ بهم... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: ولهذا الفرق بين الفعل والاسم ورد قوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً)
لما كان التسبيح من الطوائد متكرراً متجدداً شيئاً فشيئا وحشر الطير معه أمر دائم، ذكر التسبيح بصيغة الفعل، والحشر بصيغة الاسم. وسيأتى إن شاء اللَّه تعالى مزيد تقرير فيه.
فإن قلت: فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت: استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى اللَّه ما أسندوا إلى الشياطين ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
ومن حق مفسر كتاب اللَّه الباهر وكلامه المعجز، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّى سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل. ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره: في ضلالتهم يتمادون، وأن هؤلاء من أهل الطبع. والطغيان: الغلو في الكفر، ومجاوزة الحدّ في العتوّ.
وقرأ زيد بن على رضى اللَّه عنه: (في طغيانهم) بالكسر وهما لغتان، كلقيان ولقيان، وغنيان وغنيان. فان قلت: أى نكتة في إضافته اليهم؟ «٢» قلت: فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن اللَّه بريء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين: لو شاء
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: ما النكتة في إضافة الطغيان إليهم... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: كل فعل صدر من العبد اختياراً فله اعتباران: إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص، فانسب ذلك إلى قدرة اللَّه وحده وإرادته لا شريك له. وإن نظرت إلى تميزه عن القسر الضروري فانسبه في هذه الجهة إلى العبد، وهي النسبة المعبر عنها شرعا بالكسب في أمثال قوله تعالى: (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، وهي المتحققة أيضاً إذا عرضت على ذهنك الحركتين الضرورية الرعشية مثلا والاختيارية، فإنك تميز بينهما لا محالة بتلك النسبة. فإذا تقرر تعدد الاعتبار فمدهم في الطغيان مخلوق للَّه تعالى فأضافه إليه. ومن حيث كونه واقعاً منهم على وجه الاختيار المعبر عنه بالكسب أضافه إليهم. ففرع على أصول السنة بحسن ثمار فروعك في الجنة، لا كما تفرع القدرية فإنهم يخبون ولكن على أنفسهم. ألهمنا اللَّه التحقيق وأيدنا بالتوفيق. [.....]
والعمه: مثل العمى، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأى، والعمه في الرأى خاصة، وهو التحير والتردّد، لا يدرى أين يتوجه. ومنه قوله: بالجاهلين العمه، أى الذين لا رأى لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضاً عمهاء: لا منار بها «٢» ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى: اختيارها عليه واستبدالها به، على سبيل الاستعارة، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر «٣». ومنه:
أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أزْعَرَا... وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا
وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا... كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا «٤»
وعن وهب: قال اللَّه عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل: «تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة». فان قلت: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ قلت: جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم «٥» كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى
(٢). قوله «وسلك أرضاً عمهاء» أى ومنه قولهم سلك... الخ (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «الشراء يستدعي بذل العوض... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: ومن هذا القبيل منع مالك رضى اللَّه عنه أن يشترى إحدى أوزتين مذبوحتين يختارها المشترى منهما، لأنه يعد مختاراً لكل واحدة منهما، ثم بائعاً لها بالأخرى فيدخله الربا، وهو الذي يعبر عنه متأخرو أصحابه بأن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أولا؟ وربما قالوا: من خير بين شيئين عد منتقلا على أحد القولين.
(٤). «الجمة» : كثيرة الشعر، والباء للبدل، و «زعر» كتعب فهو أزعر، أى قليل الشعر. ويقال للموضع الذي لا نبات فيه. والثنايا: مقدم الأسنان. والمراد الثغر كله. والدردر- بالفتح- منارز الأسنان. والحيدر:
القصير. واشترى: استبدل. والمراد أنه أخذ امرأة عجوزاً قبيحة بدل امرأة شابة جميلة، وروى أن حبلة بن الأيهم قد مكة فطاف بالكعبة، فوطئ رجل إزاره، فلطمه فشكى إلى عمر رضى اللَّه عنه فحكم بالقصاص من جبلة، فاستمهله إلى الغد وهرب ليلا إلى الروم، وتنصر بعد الإسلام، ثم ندم على ما فعل فضرب به المثل.
(٥). قوله «وإعراضه لهم» في الصحاح: اعترض لك الخير، إذا أمكنك (ع)
الشف، من قولك: أشف بعض ولده على بعض، إذا فضله. ولهذا على هذا شف. والتجارة:
صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشترى للربح. وناقة تاجرة: كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها. وقرأ ابن أبى عبلة (تجاراتهم). فإن قلت: كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازى، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كما تلبست التجارة بالمشترين. فإن قلت: هل يصح: ربح عبدك وخسرت جاريتك، على الإسناد المجازى؟ قلت: نعم إذا دلت الحال. وكذلك الشرط في صحة:
رأيت أسداً، وأنت تريد المقدام إن لم تقم حال دالة لم يصح. فإن قلت: هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة «٢». قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشح. وذلك نحو قول العرب في البليد: كأن أذنى قلبه خطلا، وإن جعلوه كالحمار، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة، فادعوا لقلبه أذنين، وادعوا لهما الخطل «٣»، ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة. ونحوه:
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به | كأنه علم في رأسه نار |
(٣). قوله «وادعوا لهما الخطل» أى الاسترخاء. (ع)
ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ | وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِى «١» |
فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ | بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ |
إذَا الشّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاها | تَنفّقْناهُ بالحُبُلِ التُّوَامِ «٢» |
(٢). دلت المرأة وأدلت: حسن تمنعها مع رضاها. ودلت وأدلت أيضاً: تغنجت وتشكلت. والاسم: الدل، والدالة، والدلال. وقيل: هو قريب من معنى الهدى. ومنه: كانوا ينظرون إلى هدى عمر ودله فيتشبهون به. ونفى علمها بأخلاق الكرام: كناية عن إساءتها الخلق. ويروى: بقائله بأخلاق الكرام، أى بمكترثة ولا معتنية بها، أو ليست فاعلة لها والمال واحد. وقصع اليربوع: اتخذ القاصعاء أو دخل فيها، وهي جحره الذي يدخل فيه. وتنفق: اتخذ النافقاء أو خرج منها، وهي الطرف الثاني من الجحر الذي يخرج منه. وتنفقه الصائد: استخرجه منها، فلجحره بابان إذا أتاه الصائد من الأول خرج من الثاني فاستعار التقصيع الذي هو فعل اليربوع لدخول الشيطان في قفاها، واستعار التنفق لإخراجه منه على طريق التصريحية والثانية ترشيح للأولى وبالعكس. والحبل: جمع حبال جمع حبل ككتب جمع كتاب. والتوام: الثني من الحبل، وجمعه: توائم، وتوام كغراب. أى بالحبل المثناة المفتولة، وهي على رواية الحبل بالافراد، فيخرج على أن التوام ليس جمعاً بل اسم جمع يعامل معاملة المفرد، أى بالحبل القوى لأنه مجموع حبال مفتولة، وهذا ترشيح للتنفق وترشيح الترشيح ترشيح، فيكون ترشيحاً للتقصيع أيضاً، والحبال من ملائمات التنفق في نحو الاصطياد. ويجوز أن يشبه الشيطان باليربوع، فإذا أردنا اصطياده من جهة هرب من جهة أخرى حتى نصطاده بأقوى حيلة، فتكون مكنية والتقصيع والتنفق بالحبل تخييل. وجعل ذلك كله في قفاها لأن الحمق ينسب إليه عادة، أو لأن الشيطان يأتيها من حيث لا تشعر، كأنه من خلفها. ثم إن هذا الكلام كناية أو تمثيل للمراد، وهو أنها إذا أساءت الخلق ترضيناها بالتحيل والترفق.
(٣). قوله «يريد إذا حردت» في الصحاح: الحرد- بالتحريك- الغضب (ع)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر- شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبىّ، ولأمر مّا أكثر اللَّه في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال اللَّه تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. والمثل في أصل كلامهم: بمعنى المثل، وهو النظير. يقال:
مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل.
ولم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول والقبول، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير. فإن قلت: ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد نارا حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام، للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا. وكذلك قوله:
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أى وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها. وللَّه المثل الأعلى: أى الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
(مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : أى صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا:
فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن قلت: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت: وضع الذي موضع الذين، كقوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) والذي سوّغ
أحدهما: أنّ «الذي» لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة بجملة، وتكاثر وقوعه في كلامهم، ولكونه مستطالا بصلته، حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين. والثاني: أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون. وإنما ذاك علامة لزيادة الدلالة. ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع، والواحد فيهن واحد. أو قصد جنس المستوقدين. أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا. على أنّ المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ونحوه قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)، وقوله: (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها. ومن أخواته: وقل في الجبل إذا صعد وعلا، والنار:
جوهر لطيف مضيء حارّ محرق. والنور: ضوءها وضوء كل نير، وهو نقيض الظلمة.
واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأنّ فيها حركة واضطرابا، والنور مشتق منها. والإضاءة:
فرط الإنارة. ومصداق ذلك قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً)، وهي في الآية متعدية. ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله. والتأنيث للحمل على المعنى لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة (ضاءت). وفيه وجه آخر، وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار. ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها، على أنّ ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة. وحَوْلَهُ نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة. وقيل للعام: حول لأنه يدور. فإن قلت: أين جواب لما؟
قلت: فيه وجهان: أحدهما أن جوابه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. والثاني: أنه محذوف كما حذف في قوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ). وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ عليه، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار.
فإن قلت: فإذا قدّر الجواب محذوفا فبم يتعلق (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) ؟ قلت: يكون كلاما مستأنفاً. كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، اعترض سائل فقال:
ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب اللَّه بنورهم. أو يكون بدلا من
(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ)، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدوا بها في طرق العبث، فأطفأها اللَّه وخيب أمانيهم. فإن قلت:
كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد؟ قلت: هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره. فإن قلت: هلا قيل ذهب اللَّه بضوئهم؟ لقوله: (فَلَمَّا أَضاءَتْ) ؟
قلت: ذكر النور أبلغ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل: ذهب اللَّه بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلا.
ألا ترى كيف ذكر عقيبه وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه، وكيف جمعها، وكيف نكرها، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله لا يُبْصِرُونَ. فان قلت: فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت: هذا على مذهب قولهم:
للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح.
والفرق بين أذهبه وذهب به، أن معنى أذهبه: أزاله وجعله ذاهبا. ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله: أخذه (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ)، (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ). ومنه: ذهبت به الخيلاء. والمعنى: أخذ اللَّه نورهم وأمسكه، (وما يمسك فلا مرسل له) فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني: أذهب اللَّه نورهم. وترك: بمعنى طرح وخلى، إذا علق بواحد، كقولهم: تركه ترك ظبى ظله. فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة:
ومنه قوله: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) أصله: هم في ظلمات، ثم دخل ترك فنصب الجزأين.
والظلمة عدم النور. وقيل: عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا:
أى ما منعك وشغلك، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن (ظلمات) بسكون اللام وقرأ اليماني (في ظلمة) على التوحيد. والمفعول الساقط من (لا يبصرون) من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنّ الفعل غير متعدّ أصلا، نحو (يَعْمَهُونَ) في قوله: (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فإن قلت: فيم شبهت حالهم بحال المستوقد؟ قلت: في أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورّطوا في حيرة. فان قلت:
وأين الإضاءة في حال المنافق؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت: المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمى بهم إلى ظلمة سخط اللَّه وظلمة العقاب السرمد. ويجوز أن يشبه بذهاب اللَّه بنور المستوقد اطلاع اللَّه على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق. والأوجه أن يراد الطبع، لقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). وفي الآية تفسير آخر: وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب اللَّه بنورهم وتركه إياهم في الظلمات. وتنكير النار للتعظيم. كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه | ليس الكريم على القنا بمحرم |
فتركته جزر السباع ينشنه | يقضمن حسن بنانه والمعصم |
إلى آخره: اعتراض دال على أن عادة الكرام أن يجودوا بكل شيء حتى بالأرواح للرماح. وفيه نوع تهكم.
فتركته: أى صيرته. جزر السباع- بالتحريك- أى نصيبها وطعمتها من اللحم. ونهشه وناشه: تناوله بفمه وكدمه.
وقضمه يقضمه، من بابى علم وضرب: عضه بمقدم أسنانه. فقوله «يقضمن» بدل. وعبر بالحسن عن الشيء الحسن مبالغة: أى يأكلن بنانه الحسن ومعصمه الحسن. ويروى بدل هذا الشطر: ما بين قلة رأسه والمعصم. وما زائدة، و «بين» ظرف للنوش. ويجوز أن «ما» موصولة بدل من ضمير المفعول. وقلة الرأس: أعلاه، كقلة الجبل وقنته.
صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِهِ | وإنْ ذُكِرْتُ بسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا «١» |
أَصَمُّ عَنِ الشَّىْءِ الَّذِى لا ارِيدُهُ | وأَسْمَعُ خَلْقِ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ «٢» |
فأَصمَمتُ عَمْراً وأَعْمَيتُهُ | عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار «٣» |
وأضاء الحق. فإن قلت: هل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه. والمحققون على
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا | منى وما سمعوا من صالح دفنوا |
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به | وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا |
جهلا على وجبنا عن عدوهم | لبئست الخلتان الجهل والجبن |
فالطيران استعارة مصرحة لذلك. قال اين مالك تبعا للفراء: ويجوز إجابة المضارع بالماضي وإن منعه الجمهور في الاختيار. وأى شيء سمعوه من قول صالح كتموه، فالدفن استعارة تصريحية أيضاً. وهم صم: أى كالصم، فهو تشبيه بليغ واستعارة على الخلاف. وإن ذكرت عندهم بسوء أذنوا وأنصتوا. ويروى «سبة» بالضم: ما يسب به. وقد يروى: سبأة، بتحتية ساكنة فهمزة. ويروى: وما يسمعوا. ويروى: صموا، على لفظ الماضي، بدل صم. ويروى بسوء كلهم أذن:
أى فكلهم أذن فهو على تقدير الفاء، لأنه جواب الشرط. ويحتمل أنه على التقديم والتأخير: أى كلهم أذن إن ذكرت بسوء وهو أنسب بما قبله. وجعلهم نفس الأذن مبالغة. ويجوز أن الأذن وصف يقع على الواحد والمتعدد، وذلك لجهلهم وبأسهم على، وجبنهم وضعفهم عن عدوهم. وقيل: هو على تقدير جمعوا جهلا. والخلتان الخصلتان. والجبن بضمتين لغة فيه. وفيه إطاب بالتوشع، لأنه أتى بمثنى وفسره باسمين ثانيهما معطوف على الأول وهو حسن. [.....]
(٢). صم صمما، كتعب تعباً. فأصم- بفتح الصاد- فعل مضارع. ولو جعلته اسما على الخبرية لضمير محذوف لكانت مناسبة لأسمع المعطوف عليه. والمعنى أن حالى تكون كحال الأصم فهو مجاز عن ذلك. وأسمع: أى أفعل بمقتضى السماع، فهو مجاز أيضا. ويجوز أنه كناية. يقول: لا أستمع لما أكره. وأسمع كلام خلق اللَّه حين أريده، بأن يكون محبوبا إلى، أو حين أريد السماع.
(٣). يقول: لما أظهرت مفاخرى ومكارمى، أصممت عمرا: أى صيرته كالأصم. وأعميته: أى صيرته كالأعمى فالصمم والعمي: استعارتان مصرحتان. والمراد ألجمته وأسكته عن الكلام في الفخر والجود حين مفاخرتى إياه.
وقيل أصممته وأعميته: وجدته أصم ووجدته أعمى: أى كأنه كذلك على ما مر.
لَدَى أَسَدٍ شَاكِى السِّلاحِ مُقَذَّفٍ | لَهُ لِبَدٌ أَظْفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ «١» |
قال أبو تمام:
ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ | بأَنَّ لهُ حاجَةً في السَّمَاء «٢» |
لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبالهِ رَجُلًا | ففِيهِ غَيْثٌ ولَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل «٣» |
فشد فلم يفزع بيوتا كثيرة | لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم |
لدى أسد شاكي السلاح مقذف | له لبد أظفاره لم تقلم |
كل هذا ترشيح لأنه يلائم المشبه به. وفي قوله أظفاره لم تقلم: نوع من الاطناب يسمى الإيغال ختم به البيت للمبالغة في التشبيه، كقول الخنساء في أخيها صخر: كأنه علم في رأسه نار.
(٢). لأبى تمام يمدح خالد بن يزيد الشيباني ويدكر أباه. فضمير «يصعد» ليزيد. واستعار الصعود من العلو الحسى للعلو المعنوي على طريق التصريح، ثم بنى عليه ما ينبنى على العلو في المكان ترشيحا وتتميما للمبالغة في التشبيه، لأن ذلك الظن لا ينبني إلا على رؤيته صاعدا حقيقة. والظن- كالعلم- يتعدى بنفسه تارة وبالحرف أخرى. وخص الجهول ليفيد أن ذلك الظن خطأ، ويشبه أنّ يكون تجريداً للاستعارة، لكن أخفاه ظهور الترشيح. وأفاد السعد أن ذكر الجهول احتراس من توهم احتياج الممدوح والمقام، لدعوى أنه في غاية الكمال. واشتهرت روايته لظن بالماضي، وهو على تقدير القسم وقد: أى واللَّه لقد ظن الجهول ذلك.
(٣). للزمخشري. شبه الممدوح بالغيث في كثرة الخير والكرم، وبالليث في كثرة الشجاعة، واستعارهما له على طريق الاستعارة التصريحية، وبنى على ذلك نهى الناس عن أن يظنوا أن في ثوبه رجلا، للدلالة على تناسى التشبيه وادعاء الاتحاد. والمسبل: كثير الانسياب، فهو راجع للغيث. والمشبل الذي كثرت أشباله: أى أولاده من الأسود، فهو راجع لليث، ففيه لف ونشر، وفيه شبه التضاد حيث جمع بين ما يخشى وما يرجى. وفيه الجناس اللاحق بين غيث وليث، وبين مسبل ومشبل.
أَسَدٌ عَلَىَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ | فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ «١» |
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
ثم ثنى اللَّه سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ:
أسد على وفي الحروب نعامة | فتخاء تنفر من صفير الصافر |
هلا كررت على غزالة في الوغي | بل كان قلبك في جناحي طائر |
وتنفر: صفة نعامة، أى تفزع وتهلع خوفا من أدنى صوت تسمعه. وصفها بغاية الضعف ليدل على أن المشبه كذلك ثم وبخه بقوله: هلا كررت على تلك المرأة في الحرب. لم تفعل ذلك بل كان قلبك يخضق ويضطرب، كأنه في جناحي طائر، وهو من التشبيه البليغ. ويروى: هلا برزت إلى غزالة.
يُوحُونَ بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً | وَحْىَ المُلَاحِظِ خِيفةَ الرُّقَباءِ «١» |
أَذَاكَ أَمْ نَمَشٌ بالْوَشْىِ أَكْرَعُهُ.....................
أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بالسَّىِّ مَرْتَعُهُ................. «٢»....
فإن قلت: قد شبه المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فماذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوى صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما
ويقال: وحى له، وإليه وحيا، وأوحى له وإليه إيحاء: إذا ألقى إليه الكلام، أو أشار له به، وألهمه إياه. فالوحى مصدر وحى أو اسم مصدر أوحى، واللحظ: الاشارة بطرف العين يمنة أو يسرة. واللاحظ وصف بحسب الأصل، وهو اسم لطرف العين. ولذلك جمع على لواحظ، ونسب الوحى إليها لأنها آلة. ويجوز أنه جمع لاحظة عنق للنسائى أى يتكلمون بالخطب الطوال تارة عند الأمن، ويوحون وحيا باللواحظ تارة أخرى، لخوفهم من الرقباء، فلكل مقام عندهم مقال.
(٢).
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه | مسفع الخد عاد ناشط شبب |
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه | أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب |
تفرق اللون. وكحذر: متفرق اللون. والوشي: لون يخالف لون بقية الشيء. والأكرع: جمع كراع وهو الساق والمسفع: الأسود- من السفعة- وهي السواد. والناشط: الخارج من أرض لأخرى. والشبب- كحذر أيضا- المسن من بقر الوحش. ثم قال أذاك الثور يشبهها، أم خاضب؟ وهو الظليم الذي احمرت ساقاه، أو اصفرتا من أكل الربيع. والسى: المستوى من الأرض، واسم موضع بعينه. والمرتع: مصدر أو اسم مكان مظروف في أوسع منه. ومنقلب: راجع من المرعى إلى أفراخه الثلاثين. فيكون أسرع ما يكون، فهي كذلك سريعة السير.
وأكرعه فاعل بالظرف أو فاعل نمش. ومرتعه: فاعله بالظرف، أو مبتدأ والظرف خبر له.
كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً | لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِى؟ «١» |
(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ)، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ). والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه:
أنّ التمثلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه: أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولا بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا، بأخرى مثلها كقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب. وكقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت: الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوى صيب» هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب
ويجوز أن رطباً ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير، أى كأن الرطب واليابس منها: العناب والحشف. وبدل البعض لا يجب فيه ضمير يرجع للبدل منه، وإن كانت الأولى ذلك.
وما النَّاسُ إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا | بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ «١» |
أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوى في غير الشك، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. والصيب: المطر الذي يصوّب، أى ينزل ويقع.
ويقال للسحاب: صيب أيضا. قال الشماخ:
وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ «٢»
«وأهلها بها» جملة حالية. و «يوم حلوها» نصب بعامل المجرور قبله المحذوف. و «غدوا بلاقع» أى وهي في غد بلاقع، جمع بلقع: أى قفر خالي. والشائع استعمال «الغد» كاليد، فظهرت واوه هنا على الأصل. وعبر بالغد ومراده به الزمن القريب، كما يقال أفعله بكرة. والمراد بعد أيام قليلة، فالجامع سرعة الفناء والزوال بعد البهجة والنضرة. ولك جعله من تشبيه المفرد بالمفرد بجامع أن الناس تكون فيها الأرواح، فهي زاهية باهية، ثم تنزع منها فتصير خالية خاوية كالدار تكون عامرة بأهلها فتصبح خرابا. وهذا على رفع أهلها. وأما على جره عطفاً على الديار فيتعين الأول، ويكون «بها» متعلق بمحذوف حال من أهلها. والباء بمعنى «في» على التقديرين.
(٢).
أرسما جديداً من سعاد تجنب | عفت روضة الأجداد منه فينقب |
عفا آية نسج الجنوب مع الصبا | وأسحم دان صادق الوعد صيب |
درس وهلك، وعفته الريح: أهلكته ودرسته. والجد- بالضم- البئر التي في موضع كثير الكلأ. والجدد:
الأرض الصلبة، ضد الحبار. والأجداد جمع للأول أو للثاني. والجدد: الطرائق المنعطفة من الرمل. ويجوز أن الأجداد جمعه أيضاً، لكن على روايته «روضة» بالنصب والاضافة للضمير. والأجداد بالرفع. والنقب- كالشعب-: الطريق المطمئن في الجبل. ونقب المكان ينقب: صار ذا نقب. وكذلك يشعب صار ذا شعب.
هذا والمتبادر أنه بالعين بدل القاف، أى يقفر، من النقبة وهي الاقفار. والآي واحده آية، بمعنى العلامات والآثار.
وشبه اختلاف الرياح على وجوه منضبطة بالنسج على طريق التصريحية. والأسحم: الأسود، وهو صفة السحاب.
والداني: القريب. وروى «داج» والداجي المظلم. والصيب: كثير الأمطار. والاستفهام تعجبي. يقول:
أتعجب من مباعدتنا الرسم الجديد من دار سعاد؟ أو أتعجب من مرورنا بجانب رسم سعاد الجديد الذي هلكت آثاره فصار طرقا متسعة؟ والذي محا أثره هو اختلاف الرياح وتتابع الأمطار. فعفا استئناف بيانى. وشبه السحاب برجل صدق وعده على طريق المكنية. والصدق والوعد تخييل. وروى الرعد بالراء، شبه رعده بالخبر الصادق.
وصيب: فيعل من صاب يصوب، إذا نزل مائلا إلى جهة، كسيد من ساد يسود.
وقرئ: كصائب، والصيب أبلغ. والسماء: هذه للمظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف.
فان قلت: قوله: (مِنَ السَّماءِ) ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت:
الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء، أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله: (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها). الدليل عليه قوله:
ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ «١»
والمعنى أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطبقا. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر. ويؤيده قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ).
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها | ومن بعد أرض بيننا وسماء |
وعليه فالتنوين للتهويل والتعظيم.
ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه الا في حيز يشغله جرمه. فان قلت: هلا جمع الرعد والبرق أخذا بالأبلغ كقول البحتري:
يَا عَارِضاً مُتَلِّفعاً ببُرُودِهِ | يَخْتالُ بَيْنَ بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ «١» |
يا عارضا متلفعا ببروده | يختال بين بروقه ورعوده |
إن شئت عدت لأرض تجد عودة | فحللت بين عقيقه وزروده |
لتجود في ربع بمنعرج اللوى | قفر تبدل وحشة من غيده |
يلتمس من السحاب المعترض في الأفق أن يمطر في ربع الأحبة بالمكان المنعطف، ثم وصف الربع بأنها قفر لا نبات فيه، وصار فيه وحشة بالوحوش بدل الأنس بالأحبة.
يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البَرِيصِ عليْهِمُ | بَرْدَي يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «١» |
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)، (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضا ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فان قلت: فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، «٣» فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة
للَّه در عصابة نادمتهم | يوما بجلق في الزمان الأول |
يسقون من ورد البريص عليهم | بردي يصفق بالرحيق السلسل |
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت المجعول من الأصابع في الآذان رءوسها... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: لأن فيه إشعاراً بأنهم يبالغون في إدخال أصابعهم في آذانهم فوق العادة المعتادة في ذلك فرارا من شدة الصوت.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فالأصبع التي تسد بها الأذن... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لا ورود لهذين السؤالين. أما الأول فلأنه غير لازم أن يسدرا في تلك الحالة بالسبابة ولا بد فإنها حالة حيرة ودهش، فأى أصبع اتفق أن يسدوا بها فعلوا غير معرجين على ترتيب معتاد في ذلك، فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة. أو فلعلهم يؤثرون في هذا الحال سد آذانهم بالوسطى، لأنها أصم للأذن وأحجب للصوت فلم يلزم اقتصارهم على السبابة. وأما السؤال الثاني فمفرع على الأول، وقد ظهر بطلانه وأيضا ففيه مزيد ركاكة، إذ الغرض تشبيه حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوى الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات؟ ولعل ألسنتهم ما سبحت اللَّه قط. ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصوير المحسوسات، فذلك خليق بذكر الصرائح واجتناب الكنايات والرموز.
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ «٢»
والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة اللَّه بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة
(٢).
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر | وذى أود قومته فتقوما |
وأغفر عوراء الكريم ادخاره | وأعرض عن شتم اللئيم تكرما |
إما متعد بمعنى: كلما نوّر لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف. وإما غير متعد بمعنى:
كلما لمع لهم مَشَوْا في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة: كلما ضاء لهم والمشي: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعى. فإذا ازداد فهو عدو. فإن قلت:
كيف قيل مع الإضاءة: كلما، ومع الإظلام: إذا؟ قلت لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس. وأظلم: يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر، وأن يكون متعديا منقولا من ظلم الليل، «٢» وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب: أظلم، على ما لم يسم فاعله. وجاء في شعر حبيب ابن أوس:
هُمَا أَظْلَمَا حالَىَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا | ظَلَامَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ «٣» |
(٢). قوله «منقولا من ظلم الليل» في الصحاح «ظلم الليل بالكسر وأظلم» بمعنى، عن الفراء (ع)
(٣).
أحاولت إرشادى فعقلى مرشدي | أم استمت تأديبى فدهرى مؤدبى |
هما أظلما حالى ثمت أجليا | ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب |
شجي في حلوق الحادثات مشرق | به عزمه في الترهات مغرب |
فارسى معرب بمعنى الطريق الصغيرة غير الجادة، والجمع ترهات وتراريه. ثم استعير للباطل وصار اسما له، والمعنى:
إن أردت مرشدي فهو عقلى، أو مؤدبى فدهرى. فالاستفهام بمعنى الشرط مجاراً، ويحتمل أنه توبيخي والفاء تعليلية لمحذوف، أى لا ينبغي إرادة إرشادى ولا تأديبى، فان دهري وعقلى تكفلا بذلك. وبين ذلك بقوله «هما أظلما» واستعمال أظلم متعديا لغة رديئة. وحالى: مفعول. والاظلام استعارة لتنغيص العيش وتكدير الخاطر. وأجليا:
أزالا وكشفا ظلاميهما. والظلامان: استعارة للتكدر والتنغص. وقوله «شجى» بدل من الأمرد، أى كالشجى.
وشبه الحوادث بحيوانات لها حلوق على طريق المكنية والحلوق تخييل لذلك. والمعنى أن الحوادث صارت لا تؤثر فيه ومضى به عزمه في جميع طرق الهزل كما مضى به في الجد، وبين مشرق مغرب طباق التضاد.
فلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِى دَماً لَبَكَيْتُهُ «١»
وقوله تعالى «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).
وأراد: ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق. وقرأ ابن أبى عبلة: لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء كقوله: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ). والشيء: ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه- في ساقة الباب المترجم بباب مجارى أواخر الكلم من العربية-: وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟. والشيء: مذكر، وهو أعم العام: كما أن اللَّه أخص الخاص يجرى على الجسم والعرض
ملكت دموع العين حين رددتها | إلى ناظري والعين كالقلب تدمع |
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته | عليه ولكن ساحة الصبر أوسع |
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
لما عدّد اللَّه تعالى فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند اللَّه ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات المذكور عند قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إنّ فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت
(٢). قوله «وفعل قادر آخر» لعله مبنى على مذهب المعتزلة أن العبد هو الفاعل لأفعاله الاختيارية. ومذهب أهل السنة أن فاعلها في الحقيقة هو اللَّه تعالى. (ع)
(٢). قوله «يقول في جؤاره: يا رب» في الصحاح: جأر الثور يجأر، أى صاح. وجأر الرجل إلى اللَّه عز وجل:
أى تضرع. (ع)
فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. فإن قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجها إلى المؤمنين والكافرين جميعاً، أو إلى كفار مكة خاصة، على ما روى عن علقمة والحسن، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو إلا كقول القائل:
فلَوَ انِّى فَعَلْتُ كُنْتُ مَنْ تَسْأَلُهُ | وهُوَ قائمٌ أنْ يَقُوما «١» |
قلت: كان المشركون معتقدين ربوبيتين: ربوبية اللَّه، وربوبية آلهتهم. فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أربابا وكان قوله الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة موضحة مميزة. وإن كان الخطاب للفرق جميعاً، فالمراد به «ربكم»
نعمة اللَّه فيك لا أسأل | اللَّه إليها نعمي سوى أن تدوما |
فلو انى فعلت كنت كمن | تسأله وهو قائم أن يقوما |
يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيّ لا أَبَا لَكُمُ «١»
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في: لا أبالك: ولعل للترجى أو الإشفاق. تقول: لعل زيداً يكرمني. ولعله يهينني.
يا تيم تيم عدى لا أبا لكم | لا يلقينكم في سوءة عمر |
تعرضت تيم لي جهلا لأهجوها | كما تعرض الاست الخارئ الحجر |
وأما نصبه بالألف على لغة إعرابه بالحروف فلا يظهر إلا في الثالث، وفيه أن المضاف معرفة و «لا» لا تعمل إلا في النكرات، إلا أن يقال زيادة اللام صيرته في صورة النكرة فعملت فيه. و «لا يلقينكم» نهى عن الإلقاء في المكروه. وروى بالفاء بدل القاف، من ألفى إذا وجد لكن روى «لا يوقعنكم» وهو يؤيد الأول.
والمراد النهى عن إقرار عمر على هجوه الموقع لهم في السوءة وهي هجو جرير لهم. واللام في لأهجوها لام العاقبة.
وقد شبه نفسه- بل فمه- باست الخارئ، أى دبره. ومهد لذلك التشبيه فيما تقدم بالتعبير بالسوءة. ولقد هجا نفسه من حيث لم يشعر. والاست: من الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون فزادوها همزة الوصل. [.....]
(٢). قوله «وأراد منهم الخير والتقوى» مبنى على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد إلا الخير وإن وقع خلافه.
ومذهب أهل السنة أنه يريد الخير والشر، وكل ما أراده يقع، لإجماع السلف على أنه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن. (ع)
وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده. فإذا قال: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة، وأشدّ إلزاما لها، وأثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة الكتب، فما ملكتك يمينى إلا لجرّ الأثقال. ولو قلت: لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه ذلك الموقع.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه، ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار، ثم ما سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها. والإخراج به من بطنها- أشباه النسل المنتج من الحيوان- من ألوان الثمار رزقا لبنى آدم، ليكون لهم ذلك معتبرا: ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر. والموصول مع صلته إمّا أن يكون في محل النصب وصفا كالذي خلقكم، أو على المدح والتعظيم. وإمّا أن يكون رفعا على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح. وقرأ يزيد الشامي: بساطا. وقرأ
وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل: وأنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات، ليكون بعض رزقكم. وهذا هو المطابق لصحة المعنى، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات، ولا جعل الرزق كله في الثمرات. ويجوز أن تكون للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم ألفا. فإن قلت: فيم انتصب رِزْقاً؟
قلت: إن كانت «من» للتبعيض. كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كانت مبنية، كان مفعولا لأخرج. فإن قلت: فالثمر المخرج بماء السماء كثير جمّ فلم قيل الثمرات دون الثمر والثمار؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يقصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه، تريد ثماره. ونظيره قولهم: كلمة الحويدرة، لقصيدته. وقولهم للقرية: المدرة، وإنما هي مدر متلاحق. والثاني: أنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية، كقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) و (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). ويعضد الوجه الأوّل قراءة محمد بن السميقع:
من الثمرة، على التوحيد. وقَبْلِكُمْ صفة جارية على الرزق إن أريد به العين، وإن جعل
قلت: فيه ثلاثة أوجه: أن يتعلق بالأمر. أى اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أَنْداداً لأنّ أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا يجعل للَّه ندّ ولا شريك. أو بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب، «فأطلع» في قوله عز وجل: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) في رواية حفص عن عاصم، أى خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، أو بالذي جعل لكم، إذا رفعته على الابتداء، أى هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء. والند: المثل. ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ. قال جرير:
أتَيماً تَجْعَلُون إِلَىَّ نِداًّ | وما تَيْمٌ لِذِى حَسَب نَدِيدَا «١» |
أرَبًّا واحِداً أمْ ألْفُ رَبٍ | أدِينُ إذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ «٢» |
(٢).
أربا واحدا أم ألف رب | أدين إذا تقسمت الأمور |
تركت اللات والعزى جميعا | كذلك يفعل الرجل البصير |
معناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه.
وهكذا كانت العرب، خصوصاً ساكن والحرم من قريش وكنانة، لا يصطلى بنارهم «١» في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها. ومفعول (تعلمون) متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة. والتوبيخ فيه آكد، أى أنتم العرّافون المميزون. ثم إنّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام للَّه أندادا، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل. ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أنه لا يماثل. أو: وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت. أو: وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله، كقوله: (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)
لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويحققها، ويبطل الإشراك ويهدمه، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك وتصحيحه، وعرفهم أنّ من أشرك فقد كابر عقله وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه- عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم كيف يتعرفون أهو من عند اللَّه كما يدعى، أم هو من عند نفسه كما يدعون. بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم أبناء جنسه وأهل جلدته. فان قلت: لم قيل: (مِمَّا نَزَّلْنا) على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت:
لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من محازه لمكان التحدي. وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند اللَّه مخالفاً لما يكون من عند الناس، لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة وآيات غب آيات، على حسب النوازل وكفاء الحوادث «٢» وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرقا حيناً فحيناً، وشيئاً فشيئا حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة،
ويمكن أن يراد اختصاصهم بكمال المعرفة، وأن غيرهم لا يصل إلى شيء مما لديهم من ذلك. (ع)
(٢). قوله «وكفاء الحوادث» أى مقابلها ومساويها. أفاده الصحاح. (ع)
إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجما فردا من نجومه: سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفتريات. وهذه غاية التبكيت، ومنتهى إزاحة العلل. وقرئ (على عبادنا) يريد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأمته. والسورة: الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات. وواوها إن كانت أصلا، فإما أن تسمى بسورة المدينة وهي حائطها، لأنها طائفة من القرآن محدودة محوّزة على حيالها، كالبلد المسوّر، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد، كاحتواء سورة المدينة على ما فيها. وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة. قال النابغة:
ولرَهْطِ حَرَّابٍ وقَدٍ سُورَةٌ | في المَجْدِ لَيْسَ غُرَابُهَا بمُطَارِ «١» |
ولرهط حراب وقد سورة | في المجد ليس غرابها بمطار |
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم | وقرا غداة الروع والانفار |
وقيل لارتفاعها لا يصلها الغراب حتى يضار من فوقها. فالمعنى لا غراب فوقها فيطار.
ومنه حديث أنس رضى اللَّه عنه: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد فينا «٣» » ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. ومنها أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع مِنْ مِثْلِهِ متعلق بسورة صفة لها أى بسورة كائنة من مثله. والضمير لما نزلنا «٤»، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: (فَأْتُوا) والضمير للعبد. فإن قلت: وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت: معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم. أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. ولكنه نحو قول القبعثرى للحجاج- وقد قال له: لأحملنك على الأدهم-: مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. أراد
(٢). قوله «إذا حذق السورة» حذق الشيء، أى مهر فيه. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). هذا طرف من حديث أخرجه أحمد وابن أبى شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس رضى اللَّه عنه «أن رجلا كان يكتب للنبي صلى اللَّه عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا- أى عظم: الحديث». وأخرجه ابن حبان من هذا الوجه بلفظ «عد فينا ذو شأن» وقد ذكره الجوهري في الصحاح من حديث أنس رضى اللَّه عنه بلفظ المصنف. وأصله عند البخاري من رواية عبد العزيز ابن صهيب. وعند مسلم في رواية ثابت، كلاهما عن أنس دون القدر الذي اقتصر عليه المصنف. ولم يصب الطيبي في عزوه له إلى الصحيحين. وعزاه الزمخشري في تفسير الجن إلى رواية عمر رضى اللَّه عنه أيضا كما سيأتى.
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «الضمير يحتمل عوده لما نزلناه... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: ومعنى هذا الترجيح أن المتحدى عليهم في التفسير الأوجه جملة المخاطبين، أى أنهم باجتماعهم ومظاهرة بعضهم بعضا، عجزة عن الإتيان بطائفة منه. وأما على التفسير المرجوح، فهم مخاطبون بأن يعينوا واحداً منهم يكون معارضاً للمتحدى بأنه يأتى بمثل ما أوتى به أو ببعضه. ولا شك أن عجز الخلائق أجمعين أبهى من عجز واحد منهم. ويشهد لرجحان الأول قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)
وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه، وهو مسوق إليه ومربوط به، فحقه أن لا يفك عنه برد الضمير إلى غيره. ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزل من عند اللَّه. فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله ويجانسه. وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقال: وإن ارتبتم في أنّ محمداً مُنزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. ولأنهم إذا خوطبوا جميعاً- وهم الجم الغفير- بأن يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم، كان أبلغ في التحدّى من أن يقال لهم: ليأتى واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد، ولأنّ هذا التفسير هو الملائم لقوله: (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة. ومعنى (دون) أدنى مكان من الشيء. ومنه الشيء الدون، وهو الدنىّ الحقير، ودوّن الكتب، إذا جمعها، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها. يقال: هذا دون ذاك، إذا كان أحط منه قليلا. ودونك هذا: أصله خذه من دونك. أى من أدنى مكان منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم. ومنه قول من قال لعدوّه «١» وقد رآه بالثناء عليه: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك، واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم.
قال اللَّه تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أى لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية:
يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِى «٢»
(٢).
يا نفس مالك دون اللَّه من واق | ولا للسع بنات الدهر من راق |
ولراقى طبيب اللسع. ومن زائدة في الموضعين لتوكيد الاستغراق: أى لا حافظ لك إلا اللَّه، ولا جابر لك إلا هو. [.....]
تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وهِىَ دُونَهُ «١»
أى تريك القذى قدّامها وهي قدّام القذى، لرقتها وصفائها. وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن بفصاحته: غاية التهكم بهم. وادعوا شهداءكم من دون اللَّه، أى من دون أوليائه ومن غير المؤمنين، ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله. وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأنّ شهداءهم وهم مدارة القوم، «٢» الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة والمناقلة، تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد البين عندهم فساده واستقامة المحال الجلى في عقولهم إحالته، وتعليقه بالدعاء في هذا الوجه جائز. وإن علقته بالدعاء فمعناه: ادعوا من دون اللَّه شهداءكم، يعنى لا تستشهدوا باللَّه ولا تقولوا: اللَّه يشهد أنّ ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام. وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخذالهم. وأنّ الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم: اللَّه يشهد أنا صادقون. وقولهم هذا: تسجيل منهم على أنفسهم بتناهي العجز وسقوط القدرة.
وساق إذا شئنا كميش بمعشر | وصهباء زياد إذا ما ترقرق |
تريك القذى من دونها وهي دونه | إذا ذاقها من ذاقها يتمطق |
(٢). قوله «مدارة القوم» المدارة جلد يدار ويخرز على هيئة الدلو، لكنها تكون واسعة الجوف قصيرة الجوانب لتنغمس في الماء وإن كان قليلا فتمتلئ منه. أفاده الصحاح فهي هنا مجاز. (ع)
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسرّه وامتياز حقه من باطله. قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب. وفيه دليلان على إثبات النبوّة: صحة كون المتحدى به معجزاً، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا اللَّه. فان قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلا جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك. قلت: فيه وجهان:
أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمّل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام. والثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكما به. فإن قلت: لم عبر عن الإتيان بالفعل وأى فائدة في تركه إليه؟ قلت: لأنه فعل من الأفعال. تقول: أتيت فلانا، فيقال لك: نعم ما فعلت. والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه. ألا ترى أنّ الرجل يقول: ضربت زيداً في موضع كذا على صفة كذا، وشتمته ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالا، فتقول: بئسما فعلت. ولو ذكرت ما أنبته عنه، لطال عليك، وكذلك لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله.
ولن تأتوا بسورة من مثله. فإن قلت: وَلَنْ تَفْعَلُوا ما محلها؟ قلت: لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. فإن قلت: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت: «لا» و «لن» أختان في نفى المستقبل، إلا أن في «لن» توكيداً وتشديداً. تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت:
لن أقيم غداً كما تفعل في: أنا مقيم، وإنى مقيم. وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه
إنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد فوضع فَاتَّقُوا النَّارَ موضعه، لأنّ اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث أنه من نتائجه لأنّ من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطى. يريد: فأطيعونى واتبعوا أمرى، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن، وتهويل شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه وإبرازه في صورته، مشيعاً ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها.
والوقود: ما ترفع به النار. وأمّا المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح. قال سيبويه:
وسمعنا من العرب من يقول: وقدت النار وقوداً عاليا. ثم قال: والوقود أكثر، والوقود الحطب. وقرأ عيسى بن عمر الهمدانىّ- بالضم- تسمية بالمصدر، كما يقال: فلان فخر قومه وزين بلده. ويجوز أن يكون مثل قولك: حياة المصباح السليط، أى ليست حياته إلا به فكأنّ نفس السليط حياته، فإن قلت: صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة، للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فإن قلت: فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم، وهاهنا معرّفة؟ قلت: تلك الآية نزلت بمكة، فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة. ثم نزلت هذه بالمدينة «١» مشاراً بها إلى ما عرفوه أوّلا.
فقوله: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) في معنى الناس والحجارة، و (حَصَبُ جَهَنَّمَ) في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون اللَّه أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها اللَّه عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم، إبلاغا في إيلامهم وإعراقا في تحسيرهم «١»، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدّة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم. وقيل: هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل أُعِدَّتْ هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم. وقرأ عبد اللَّه، أعتدت، من العتاد بمعنى الغدة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
من المأمور بقوله تعالى: وَبَشِّرِ؟ قلت: يجوز أن يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام «بشر المشاءين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة «١» » لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح عطفه عليه؟
قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق.
ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: (فَاتَّقُوا) كما تقول: يا بنى تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بنى أسد بإحسانى إليهم. وفي قراءة زيد بن علىّ رضى اللَّه عنه: (وَبَشِّرِ) على لفظ المبنىّ للمفعول عطفاً على: (أُعِدَّتْ). والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرنى» «أخبرنى» عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك. ومنه قوله:
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيتة:
كيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ | مِنْ آلِ لَأْمٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِى «٢» |
فإن قلت: أى فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت: إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه. وإذا دخلت على المجموع، صلح أن يراد به جميع الجنس، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه. فإن قلت: فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ قلت:
الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير
تَسقِى جَنَّةً سُحُقَا «٣»
غضبت تميم أن نقتل عامراً | يوم النسار فأعتبوا بالصيلم |
وروى: تقتل عامر، بالباء للمجهول. والنسار اسم ماء لبنى عامر، أى غضبت علينا تميم من قتل حلفائهم فكأنها عتبت علينا لضعفها. فأعتبناهم، أى أزلنا عتابهم بالصيلم: وهو السيف الكثير القطع، من صلمه إذا قطعه. وشبه إجابتهم بالمحاربة بالسيف باجابة من يزيل العتاب على سبيل التصريحية التهكمية. لأن الأول مكروه والثاني محبوب.
(٢). للحطيئة واسمه جرول بن أوس بن حومة بن مخذوم بن مالك الغطفاني، حين وفدت العرب على النعمان بن المنذر فأحضر حللا عظيمة وقال: إنى ملبسها غداً لمن شئت، فلما كان الغد تخلف ابن سعدى خوف إلباسها غيره وهو حاضر فطلبه الملك وألبسه الحلل، فحسدته سادات العرب من قومه، وضمنوا للحطيئة مائة بعير لو هجاه، فقال: كيف الهجاء له، والحال أن لا تنفك فعلة صالحة تأتينى من آل لأم حال كوني ملتبسا بظهر الغيب، أو حال كونهم ملتبسين بظهر الغيب. وأقحم الظهر لأن الغائب كأنه وراء الظهر، أو لتقوية الغيب، لأنهم إذا أرادوا تقوية شيء أسندوا له الظهر لقوته، وكثيراً ما يجرون الصفة مجرى الاسم، إما لعدم الاحتياج إلى ذكره كما في صالحة، أو لأنها كافية في تعيين الموصوف إن احتيج إليه.
(٣).
إن الخليط أجدوا البين فافترقا | وعلق القلب من أسماء ما علقا |
وفارقتك برهن لا فكاك له | يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا |
كأن عينى في غربي مقتلة | من النواضح تسقى جنة سحقا |
مفعوله، أى ما تعلق به منها وهو الحب والتحسر والتحزن على سفرها. ولم يعينه دلالة على التكثير والتهويل ولما اشتغل قلبه بها، فكأنها أخذته معها ولذلك ادعى أنها أخذته رهنا على سبيل الاستعارة المصرحة، ورشحها بقوله:
لا فكاك له: وغلق الرهن- بالكسر-: إذا امتلكه الدائن ويأس صاحبه من رجوعه إليه، ثم قال: كأن عينى من شدة البكاء وكثرة الدموع عينان في دلوين عظيمتين ممتلئتين ماء، تحملهما ناقة مقتلة مذللة معتادة على العمل من الإبل النواضح التي يستقى عليها، تسقى تلك الناقة جنة «سحقا» بضمتين: جمع سحوق، أى نخلا طوالا جهة السماء، أو بعيدة عن محل الماء، فهي دائمة ذاهبة آئبة. ولقد خاطب نفسه أولا كأنه يخبرها بسفر أسماء لفرط جزعه، ثم التفت كأنه يشتكى للناس في قوله: كأن عينى.
أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت: لما جعل الثواب مستحقا بالإيمان والعمل الصالح، والبشارة مختصة بمن يتولاهما، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحساناً، وأعلم بقوله تعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وقال تعالى المؤمنين: (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر. فان قلت: كيف صورة جرى الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجرى في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية
نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية «النهر» بفتح الهاء. ومدار التركيب على السعة، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازى كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وصيد عليه يومان. فإن قلت: لم نكرت الجنات وعرّفت الأنهار. قلت: أما تنكير الجنات فقد ذكر. وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب. أو يراد أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً). أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) - الآية.
وقوله كُلَّما رُزِقُوا لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا، أى أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا اللَّه. فان قلت:
ما موقع مِنْ ثَمَرَةٍ؟ قلت: هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك.
فموقع (مِنْ ثَمَرَةٍ) موقع قولك من الرمان، كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك. فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أى ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من رمّان. وتحريره أن «رزقوا» جعل مطلقا مبتدأ من ضمير الجنات، ثم جعل مقيدا بالابتداء من ضمير الجنات، مبتدأ من ثمرة، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
ووجه آخر: وهو أن يكون (مِنْ ثَمَرَةٍ) بيانا على منهاج قولك: رأيت منك أسداً. تريد
كيف قيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل «١». وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابها، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وَأُتُوا بِهِ؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأنّ قوله: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) أى بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله: غنيا أو فقيرا على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقا، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملى تعجبهم، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى في غير أخدود، والعنقود اثنتا عشرة
، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل اللَّه مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك. والتفسير الأوّل هو هو. فإن قلت: كيف موقع قوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأى كذا وكان صوابا. ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
والمراد بتطهير الأزواج: أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقاً: أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهنّ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهنّ ومثالبهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ. فان قلت: فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان.
يقال: النساء فعلن، وهنّ فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة:
وإذَا العَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ | واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ «٢» |
(٢).
وإذا العذارى بالدخان تقنعت | واستعجلت نصب القدور فملت |
دارت بأرزاق العناة مغالق | بيدي من قمع العشار الجلة |
ولقد رأيت ثأى العشيرة بينها | وكفيت جانبها اللتيا والتي |
مطهرة، بمعنى متطهرة. وفي كلام بعض العرب: ما أحوجنى إلى بيت اللَّه. فأطهر به أطهرة.
أى فأتطهر به تطهرة. فإن قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: في «مطهرة» فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ. وليس ذلك إلا اللَّه عزّ وجلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم.
والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال اللَّه تعالى: (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ). وقال امرؤ القيس:
ألَا انْعَمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِى | وهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالى |
وهَلْ يَنْعَمَنْ إلّا سَعِيدٌ مُخَلّدٌ | قَلِيلُ الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ «٢» |
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
(٢). لامرئ القيس. وألا استفتاحية. وأنعم صباحا: تحية الجاهلية، أى طاب عيشك. ويخفف فيقال عم، كما روى هنا. وكذلك «يعمن» روى هنا أيضا. ونعم ينعم كضرب يضرب: ونعم ينعم كسهل يسهل. ونعم ينعم كعلم يعلم. ونعم ينعم بكسر عينهما وهو قليل، بمعنى صار ناعما لينا. وخص الصباح لأنه وقت الغارات. والطلل: ما بقي من آثار الديار. والبالي: الفاني. والمراد تحية أهل الطلل ثم تذكر الخطأ في تحيتهم فقال: لا يتنعم من كان في الزمن الماضي وهو اليوم فان، فالاستفهام إنكارى: والمخلد: طويل العمر بحيث لا يفنى. والأوجال: جمع وجل وهو الخوف، والباء للملابسة. ويجوز أنها للظرفية تخييلا.
وأنّ الكفار الذين غلبهم الجهل على عقولهم، وغصبهم على بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم، أو عرفوا أنه الحق إلا أنّ حب الرياسة وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا، فإذا سمعوه عاندوا «١» وكابروا وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار، وأنّ ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين وانهماك الفاسقين في غيهم وضلالهم. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء
فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية.
والحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم. واشتقاقه من الحياة.
يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسى وحشى وشظى الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء «٣» جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغير، منتكس القوّة منتقص الحياة، كما قالوا: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء. وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلا. فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به «٤» ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن اللَّه حي كريم «٥» يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا». قلت:
(٢). قوله «كالزوان والنخالة» في الصحاح: الزوان حب يخالط البر (ع)
(٣). قوله «إذا اعتلت هذه الأعضاء» عرق النسا والحشا والشظى. وفي الصحاح: الشظى عظم مستدق ملزق بالذراع، فإذا تحرك في موضعه قيل: قد شظى الفرس (ع)
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت كيف جاز وصف اللَّه تعالى بالاستحيائية... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه:
ولقائل أن يقول: ما الذي دعاه إلى تأويل الآية مع أن الحياء الذي يخشى نسبة ظاهره إلى اللَّه تعالى مسلوب في الآية كقولنا: اللَّه ليس بجسم ولا بجوهر في معرض التنزيه والتقديس. وأما تأويل الحديث فمستقيم، لأن الحياء فيه ثبت للَّه تعالى. وللزمخشري أن يجيب بأن السلب في مثل هذا إنما يطرأ على ما يمكن نسبته إلى المسلوب عنه. إذ مفهوم نفى الاستحياء عنه في شيء خاص، ثبوت الاستحياء في غيره، فالحاجة داعية إلى تأويله لما أفضى إليه مفهومه.
وإنما يتوجه السؤال لو كان الاستحياء مسلوبا مطلقا، كقولنا: اللَّه لا يحول ولا يزول فان ذلك لا يثبت ومحال، بل يقال: هو مقدس منزه مطلقا،
(٥). أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديثه بلفظ «إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً» قال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم ولم يرفعه. وفي الباب عن أنس رضى اللَّه عنه. أخرجه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبان عنه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبان. وأخرجه الحاكم من طريق حفص بن عمر بن عبد اللَّه بن أبى طلحة قال: حدثني أنس بن مالك رضى اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال «إن اللَّه رحيم حى كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه ثم لا يضع فيهما خيراً» وعن جابر أخرجه أبو يعلى. وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر وهو متروك وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أخرجه الطبراني.
مَنْ مُبْلِغٌ أَفْناءَ يَعْرُبَ كُلَّها | أَنِّى بَنَيْتُ الجَارَ قبْلَ المَنْزِلِ؟ «١» |
للَّه بلادك، وقبل شهادته. فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة. ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار. وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. وللَّه درّ أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسدّ مدارجه. وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه:
إذَا مَا اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نفْسَهُ | كرَعْنَ بِسبْتٍ «٢» في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ «٣» |
(٢). (قوله بسبت في إناء من الورد) في الصحاح: السبت بالكسر جلود البقر المدبوغة بالقرظ اه وهو في البيت مجاز كالإناء من الورد (ع)
(٣).
كفانا الربيع العيس من بركاته | فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد |
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه | كرعن بسبت في إناء من الورد |
وضرب المثل: اعتماده وصنعه، من ضرب اللبن وضرب الخاتم. وفي الحديث «اضطرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خاتما من ذهب» «١» و (ما) هذه إبهامية «٢» وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعا وعموما، كقولك: أعطنى كتابا مّا، تريد أى كتاب كان. أو ضلة للتأكيد، كالتي في قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) كأنه قيل: لا يستحيى أن يضرب مثلا حقاً أو البتة، هذا إذا نصبت بَعُوضَةً فإن رفعتها فهي موصولة، «٣» صلتها
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «وما هذه إبهامية... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وفيها وهم إمام الحرمين في تقرير نصوصية العموم في قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها... الحديث» فانه قرر العموم والإبهام في أى، ثم قال: فإذا انضافت إليها ما الشرطية كان ذلك أبلغ في اقتضاء العموم، فاعتقد أن المؤكدة هي الشرطية، وإنما هي حرف مزيد لهذا الغرض. وأما «ما» الشرطية فاسم كمن. واللَّه الموفق.
(٣). قال محمود: «هذا إذا نصبت بعوضة، فان رفعتها فهي موصولة... إلى قوله: ووجه آخر جميل وهو أن تكون... الخ». قال أحمد: حملها على الاستفهامية بالمعنى الذي قرره: فيه نظر لأن قوله تعالى «فما فوقها» في الحقارة فيكون معناه: فما دونها. وإما أن يراد فما هو أكبر منها حجما. وعلى كلا التقديرين يتقدر الاستفهام لأنه إنما يستعمل في مثل: ما دينار وديناران، أى إذا جاد بالكثير فما القليل. وإذا ذهبت في الآية هذا المذهب لم تجد لصحته مجالا، إذ يكون الراد: إن اللَّه لا يستحي أن يضرب مثلا بالمحقرات، فما البعوضة وما هو أحقر منها. وقد فرضنا أنها في أحد الوجهين نهاية في المحقرات، وفي الوجه الآخر ليست نهاية، بل النهاية في قوله: (فَما فَوْقَها) أى دونها. فإذا حمل ما بعد الاستفهام على النهاية في الوجهين جميعاً لم ينتظم التنبيه المذكور، بل ينعكس الغرض فيه إذ المقصود في مثل قولنا: فلان لا يبالى بعطاء الألوف فما الدينار الواحد- التنبيه على أن إعطاء القليل منه محقق بعطائه الكثير بطريق الأولى، ولا يتحقق في الآية على هذا التقدير أنه لا يستحي من ضرب المثل بالمحقرات التي لا تبلغ النهاية، فكيف يستحي من ضرب المثل بما يبلغ النهاية في الحقارة كالبعوضة. هذا عكس لنظم الأولوية، ولو كانت الآية مثلا واردة على غير هذا التكلم كقول القائل: إن اللَّه لا يستحي أن يضرب مثلا بالبعوضة التي هي نهاية في الحقارة، فما الأنعام التي هي أبهى من البعوضة أو أبعد منها عن الحقارة بما لا يخفى، لكان تقرير الزمخشري متوجها، وما أراه واللَّه أعلم إلا واهما في هذا الوجه. وما طولت النفس ووسعت العبارة في الاعتراض عليه، إلا أنه محل ضيق ومعنى متعاص لا يخلص إلى الفهم إلا بهذا المزيد من البسط. وناهيك بموضع العكس على فهم الزمخشري بل مع تعود فهمه وإصابة نسجه، خصوصا في تنسيق المعاني وتفصيلها واللَّه الموفق. وما تبجحه بالعثور على الوجه الذي ظن أن رؤبة بن العجاج راعاه في قراءته، فكلام ركيك توهم أن القراءة موكولة إلى رأى القارئ وتوجيهه لها ونصرته بالعربية وفصاحته في اللغة، وليس الأمر كذلك، بل القراءة على اختلاف وجوهها وبعد حروفها: سنة تتبع، وسماع يقضى بنقله، الفصيح وغيره على حد سواء، لا حيلة للفصيح في تعسر شيء منه عما سمعه عليه، وما يصنع بفصاحته في القرآن الذي بدد كل فصاحة وعزل كل بلاغة. فالصحيح والمعتقد أن كل قارئ معزول إلا عما سمعه فوعاه، وتلقنه من الأفواه، فأداه إلى أن ينتهى ذلك إلى استماع من أنصح من نطق بالضاد: سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فتأمل هذا الفصل فان فاهمه قليل
أن للَّه أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما لا يدركه «١» لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه، أو بالمعدوم، كما تقول العرب:
فلان أقل من لا شيء في العدد. ولقد ألم به قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج، وهو أمضغ العرب للشيح والقيصوم، والمشهود له بالفصاحة، وكانوا يشبهون به الحسن، وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه، وهو المطابق لفصاحته. وانتصب (بَعُوضَةً) بأنها عطف بيان لمثلا. أو مفعول ليضرب، و (مَثَلًا) حال عن النكرة مقدمة عليه. أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب» مجرى «جعل». واشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب. يقال: بعضه البعوض. وأنشد:
لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبى دِثارٍ | إذَا مَا خافَ بعضُ القَوْمِ بَعْضَا «٢» |
وكذلك الخموش «٣» فَما فَوْقَها فيه معنيان: أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا، وهو القلة والحقارة، نحو قولك- لمن يقول: فلان أسفل الناس وأنذلهم-:
(٢). المراد بالبيت: الكلة التي تمنع البعوض ليالي الصيف عمن فيها: وأبو دثار: اسم رجل. والدثار:
ما يلبس فوق الثياب إذا خاف بعض القوم بعض البعوض، أى قطعه ولسعه. ويحتمل أن المعنى: نعم المأوى والملجأ بيت أبى دثار، أخاف بعض الناس من شر بعضهم. ففيه التورية وهي من بديع الكلام.
(٣). قوله «وكذلك الخموش» في الصحاح: الخموش- بالفتح-: البعوض. (ع) [.....]
«ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة «٢» » وهي عضتها. ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط. فإن قلت: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت: ليس كذلك، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مثلا للدنيا «٣»، وفي خلق اللَّه حيوان أصغر منها ومن جناحها، ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحادّ إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) وأنشدت لبعضهم:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَها | في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الألْيَلِ |
ويَرَى عُرُوقَ نِيَاطِها في نَحْرِها | والمُخَّ في تِلْكَ العِظَامِ النّحَّلِ |
اغْفِرْ لِعبْدٍ تابَ مِنْ فَرَطاتِهِ | ما كانَ مِنْهُ في الزَّمانِ الأوَّلِ «٤» |
(٢). لم أجده. وأصل الحديث- دون ما في آخره- مروى بطرق كثيرة.
(٣). كأنه يشير إلى حديث سهل بن سعد مرفوعا «لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء». أخرجه الترمذي.
(٤). للزمخشري، وإن كانت عادته في الكتاب أن لا ينسب شعره لنفسه. يقول: يا اللَّه يا مبصر الخفيات حتى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل. والبهيم: المظلم، لانبهام الأشياء فيه. والأليل: أفعل تفضيل من الليل- وإن كان جامداً- للمبالغة في الظلمة. والنياط: عرق غليظ منوط بالقلب تتصل به عروق رقيقة. والنحر: أسفل العنق والمخ: ما في وسط العظام. والنحل: جمع ناحل، أى دقيق. والفرطات: ذنوبه التي فرطت منه. و «ما كان» مفعول «أغفر». والزمان الأول: زمن الشباب.
ولمن حمل سلاحا رديا. كيف تنتفع بهذا سلاحا؟ أو على الحال، كقوله: (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً). وقوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جاز مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدّرتين بأما، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأنّ العلم بكونه حقاً من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم، وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلمائهم. فإن قلت: لم وصف المهديون بالكثرة- والقلة صفتهم «١»، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ)، الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة، وجدت الناس أخبر تقله؟ قلت: أهل الهدى كثير في أنفسهم، وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضاً فإنّ القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة، فسموا ذهاباً إلى الحقيقة كثيراً:
إنَّ الكِرَامَ كثِيرٌ في البِلادِ وإنْ | قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّ وإنْ كَثُروا «٢» |
الناس ألف منهم كواحد | وواحد كألف ان أمر عرا |
(٢). القل- بالفتح-: القليل، وهو المراد. وبالضم: بمعنى القلة، ويستعمل بمعنى القليل أيضا. وبالكسر: الارتعاد غضباً. يقول: إن الكرام في الدنيا كثير لكثرة خيرهم، لأن الكريم يقاوم ألف لئيم، والحال أنهم قليل في العدد كما أن غيرهم- يعنى اللئام- قليل في الخير وإن كثروا في العدد. فوجه الشبه اجتماع الكثرة والقلة في كل على التوزيع.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «ونسبة الإضلال إلى اللَّه تعالى من إسناد الفعل إلى السبب... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: جرى على سنة السببية في اعتقاد أن الاشراك باللَّه وأن الإضلال من جملة المخلوقات الخارجة عن عدد مخلوقاته عز وجل، بل من مخلوقات العبد لنفسه على زعم هذه الطائفة- تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وانظر إلى ضيق الخناق، فغلبة الحكايات لاطلاقات المشايخ فرتب عليها حقائق العقائد، وهذا من ارتكاب الهوى واقتحام الهلكة. وما أشنع تصريحه بأن اللَّه سبب الإضلال لا خالقه كما أن السلة سبب في وضع القيود في رجلي المحبوس، وإسناد الفعل للَّه عز وجل مجاز لا حقيقة، كما أن إسناد الفعل إلى البلد كذلك! يا له من تمثيل صار به مثلة، وتنظير صار به حائداً عن النظر الصحيح، مردود على التفصيل والجملة. نسأل اللَّه تعالى العصمة من أمثال هذه الزلة، وهو ولى التوفيق.
هذه وضعت القيود على رجلك. وقرأ زيد بن على: يَضل به كثير. وكذلك: وما يَضل به إلا الفاسقون. والفسق: الخروج عن القصد. قال رؤبة:
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِها جَوَائرَا «١»
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر اللَّه بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين «٢» أى بين منزلة المؤمن والكافر، وقالوا إنّ أوّل من حدّ له هذا الحدّ: أبو حذيفة واصل بن عطاء رضى اللَّه عنه وعن أشياعه «٣». وكونه بين بين أنّ حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذمّ واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية: أنّ الصلاة لا تجزئ خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار: الفسقة. وقد جاء الاستعمالان في كتاب اللَّه. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ). يريد اللمز والتنابز (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
النقض: الفسخ وفك التركيب. فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟
قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول اللَّه، إنّ بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها، فنخشى إنّ اللَّه عز وجل أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك»
» وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من
فواسقا عن قصدها جوائرا | يذهبن في نجد وغورا غائرا |
وبين ذلك بقوله: يذهبن: وروى: يهوين، أى يسرعن تارة في مكان مرتفع، وتارة في غور: أى في مكان كثير الانخفاض. فغورا: نصب على الظرفية. وغائرا: وصف مؤكد.
(٢). قوله «وهو النازل بين المنزلتين» هذا عند المعتزلة، وأما عند أهل السنة فهو مؤمن، والفسق لا يخرجه عن الايمان. (ع)
(٣). قوله «وعن أشياعه» هم المعتزلة. (ع)
(٤). أخرجه ابن إسحاق في المغازي في قصة العقبة من رواية كعب بن مالك- فذكر القصة وفيها «فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فذكره بطوله. وأخرجه أحمد والطبراني والبيهقي في الدلائل، كلهم من طريقه.
العهد الأوّل الذي أخذه على جميع ذرّية آدم، الإقرار بربوبيته «٢» وهو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ)، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، وهو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) وعهد خصّ به العلماء وهو قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). والضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد اللَّه من قبوله وإلزامه أنفسهم. ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه، كما أنّ الميعاد والميلاد، بمعنى الوعد والولادة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى اللَّه تعالى، أى من بعد توثقته عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله. ومعنى قطعهم ما أمر اللَّه به أن يوصل: قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، وقيل قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة
(٢). قوله «الإقرار بربوبيته» لعله من الإقرار. (ع) [.....]
طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه. وبه سمى الأمر الذي هو واحد الأمور لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر، تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له شأن. والشأن: الطلب والقصد. يقال: شأنت شأنه، أى قصدت قصده هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
معنى الهمزة التي في كَيْفَ مثله في قولك: أتكفرون باللَّه ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناح، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان. فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في «كيف» حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال فكان إنكار حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره: أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها. وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده. ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني.
والواو في قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً للحال. فإن قلت: فكيف صح أن يكون حالا وهو ماض، ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام، لا أن يضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على: (كُنْتُمْ أَمْواتاً) وحده، ولكن على جملة قوله: (كُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى (تُرْجَعُونَ)، كأنه قيل: كيف تكفرون باللَّه وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب
بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها. فإن قلت:
فقد آل المعنى إلى قولك: على أى حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت: قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في «كيف» الإنكار. وأنّ إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية، فكأنه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت: إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت: قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات: جمع ميت، كالأقوال في جمع قيل «١». فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البنى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله: (بَلْدَةً مَيْتاً)، (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ)، (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ). ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس.
فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر، وبالرجوع:
النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد نراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت- إن أريد به النشور- تراخيا ظاهرا. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها اللَّه، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. لَكُمْ لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع الدنيوي فظاهر. وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة
قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية:
جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. وجَمِيعاً نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً، من غير أن يلوى على شيء. ومنه استعير قوله: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ)، أى قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء: جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم. وسَبْعَ سَماواتٍ تفسيره، كقولهم: ربه رجلا. وقيل الضمير راجع إلى السماء. والسماء في معنى الجنس. وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأوّل. ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكما من غير تفاوت، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.
فإن قلت: ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه «ثم» لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت: «ثم» هاهنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السماوات على خلق الأرض، لا للتراخي في الوقت كقوله: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك- أى في تضاعيف القصد إليها-
الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: هذا استدلال فرقة من القدرية ذهبت إلى أن حكم اللَّه تعالى الاباحة في ذوات المنافع التي لا يدل العقل على تحريمها قبل ورود الرسل تلقيها من العقل وزعموا أنها اشتملت على منافع وحاجة الخلق داعية اليها، فخلقها مع خطرها على العباد خلاف مقتضى الحكمة فوجب عندهم بمقتضى العقل أن يعتقدوا إباحتها في حكم اللَّه عز وجل، وهذا زلل ناشئ عن قاعدة التحسين والتقبيح الباطلة. وأما استدلال الزمخشري لهذه الفرقة بالآية فغير مستقيم، فان دعواهم أن العقل كاف في إباحة هذه الأشياء. فان دلت الآية على الاباحة فنحن نقول بموجبها ويكون إذاً إباحة شرعية سمعية. وإن لم تدل على الاباحة لم يبق في الاستدلال بها مطمع.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
وَإِذْ نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن ينتصب بقالوا. والملائكة: جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شمأل. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. وجاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فكانا مفعوليه.
ومعناه مُصير في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذرّيته. فإن قلت: فهلا قيل: خلائف، أو خلفاء؟
قلت: أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كا استغنى بذكر أبى القبيلة في قولك:
مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك. وقرئ: خليقة بالقاف ويجوز أن يريد: خليفة منى، لأنّ آدم كان خليفة اللَّه في أرضه وكذلك كل نبىّ (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ). فإن قلت: لأى غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة أَتَجْعَلُ فِيها تعجب من أن
ويَسفك، من أسفك. وسفك. والواو في وَنَحْنُ للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان. والتسبيح: تبعيد اللَّه عن السوء، وكذلك تقديسه، من سبح في الأرض والماء. وقدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد. وبِحَمْدِكَ في موضع الحال، أى نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك. أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أى أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفى عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال اللَّه كلها حسنة وحكمة، وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها واشتقاقهم «آدم» من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم «يعقوب» من العقب، و «إدريس» من الدرس، و «إبليس» من الإبلاس. وما آدم إلا اسم أعجمى: وأقرب أمره أن يكون على فاعل، كآزر، وعازر، وعابر وشالخ. وفالغ، وأشباه ذلك (الْأَسْماءَ كُلَّها) أى أسماء المسميات «٢»
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «أى أسماء المسميات... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وهو يفر من اعتقاد أن الاسم هو المسمى، لأن ذلك معتقد أهل السنة، فيعمل الحيلة في إبعاده عن مقتضى الآية بقوله: (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ويتغافل عن قوله: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) فان الضمير فيه عائد إلى المسميات اتفاقا، ولم يجر إلا ذكر الأسماء، فدل على أنها المسميات، ويعرض أيضا عن حكمة التعليم، وأن تعليقه بنفس الألفاظ لا كبير غرض فيه بل الغرض المهم تعليمه لذوات المسميات واطلاعه على حقائقها وما أودع اللَّه تعالى فيها من خواص وأسرار وعلى تسميتها أيضاً فان طريق التعليم يميز كل حقيقة باسمها فقد ثبت بهاتين النكتتين أن المراد بالأسماء المسميات. وأما استدلاله بقوله: (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فغايته إضافة الأسماء إلى الذوات، فلهم أن يقولوا لو كانت الأسماء هي الذوات لزمت إضافة الشيء إلى نفسه، وهذا ما لا مطمع فيه فان هذه الاضافة مثلها في قولك: نفس زيد وحقيقته، فالمراد إذاً نبئوني بحقائق هؤلاء، ولا نكير في هذه الاضافة فان الأسماء بمعنى المسميات. والحقائق أعم من هؤلاء المشار إليهم والمضاف إليهم فصحت الاضافة لما بين الأعم والأخص من التغاير، وهذا هو المصحح للاضافة في مثل نفس زيد وأشباهه.
فهذه نبذة من مسألة الاسم والمسمى تختص بهذه الآية. وفيها إن شاء اللَّه كفاية على أنها وإن عدها المتكلمون من فن الكلام، فالعالب عليها أنها مسألة لفظية لا يرجع اختلاف الأشعرية والمعتزلة فيها إلى كثير من حيث الحقيقة،
وعُلم آدم، على البناء للمفعول. وقرأ عبد اللَّه: عرضهن. وقرأ أُبىّ: عرضها. والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها: لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقرئ: أنبيهم، بقلب الهمزة ياء.
وأنبهم، بحذفها والهاء مكسورة فيهما.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
السجود للَّه تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة
وقرأ أبو جعفر (للملائكة اسجدوا) بضم التاء للاتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة، كقولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ). إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل، لأنه كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم، فغلبوا عليه في قوله: (فَسَجَدُوا) ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعا أَبى امتنع مما أمر به وَاسْتَكْبَرَ عنه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فكذلك أبى واستكبر كقوله: (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. وأَنْتَ تأكيد للمستكن في: (اسْكُنْ) ليصح العطف عليه.
ورَغَداً وصف للمصدر، أى أكلا رغداً واسعا رافها. وحَيْثُ للمكان المبهم، أى:
أىّ مكان من الجنة شِئْتُما أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر، وكانت الشجرة فيما قيل «الحنطة» أو «الكرمة» أو «التينة» وقرئ (ولا تِقربا) بكسر التاء. وهذى، والشجرة، بكسر الشين. والشيرة بكسر الشين والياء. وعن أبى عمرو أنه كرهها، وقال:
يقرأ بها برابرة مكة وسودانها. مِنَ الظَّالِمِينَ من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية اللَّه فَتَكُونا جزم عطف على: (تَقْرَبا) أو نصب جواب للنهى. الضمير في: (عَنْها) للشجرة. أى فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه: فأصدر الشيطان زلتهما عنها. و «عن» هذه، مثلها في قوله تعالى: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). وقوله:
يَنهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ «٢» وعَنْ شُرْبِ «٣»
وقيل: فأزلهما عن الجنة «٤» بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته. وزل عنى ذاك:
(٢). قوله «وقوله ينهون عن أكل» في الصحاح: جزور نهية- على فعيلة-: أى ضحمة سمينة.
(٣).
يمشون رسما فوق قتته | ينهون عن أكل وعن شرب |
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «وقيل فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول زل... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: ويشهد له قوله تعالى: (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ).
أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في عنها. وقرأ عبد اللَّه: فوسوس لهما الشيطان عنها. وهذا دليل على أن الضمير للشجرة، لأن المعنى صدرت وسوسته عنها. فان قلت: كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعد ما قيل له (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). قلت: يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء.
وقيل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون. قيل اهْبِطُوا خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). ويدل على ذلك قوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض عَدُوٌّ ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار، أو استقرار ومَتاعٌ وتمتع بالعيش إِلى حِينٍ يريد إلى يوم القيامة. وقيل إلى الموت.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
معنى تلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات: على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به. فإن قلت: ما هنّ؟ قلت: قوله تعالى: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)... الآية. وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه: «إن أحب الكلام إلى اللَّه ما قاله أبونا آدم «١» حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى
قال ابن مسعود: فذكره ولم يقل «ما قال أبونا آدم حين اقترف الخطيئة».
الخطيئة التي أهبط بها آدم «٤» إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت لم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن... الخ؟». قال أحمد رحمه اللَّه:
هاتان زلتان زلهما فلزهما في قرن: الأولى: إيراد السؤال بناء على أن الهدى على اللَّه تعالى واجب. والثانية: بناء الجواب على أن الوجوب الشرعي يثبت بالعقل قبل ورود الشرع. والحق أن اللَّه تعالى لا يجب عليه شيء- تعالى عن الإيجاب رب الأرباب-. وإنما يدخل تحت ربقة التكاليف المربوب لا الرب. وأما وجوب النظر في أدلة التوحيد، فإنما يثبت بالسمع لا بالعقل، وإن كان حصول المعرفة باللَّه وتوحيده غير موقوف على ورود السمع، بل محض العقل كاف فيه باتفاق.
(٣). قوله «واجبا لما ركب فيهم» هذا عند المعتزلة. وأما عند أهل السنة فلا حكم قبل الشرع. (ع)
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت الخطيئة التي أهبط بها آدم من الجنة... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه تعالى:
مقتضاه تأويل الآي المشعر ظاهرها بوقوع الصغائر من الأنبياء تنزيهاً لهم عنها. على أن تجويز الصغائر عليهم قد قال به طوائف من أهل السنة. وفي طى وقوعها إلطاف وزيادة في الالتجاء إلى اللَّه تعالى والتواضع له والإشفاق على الخطائين والدعاء لهم بالتوبة والمغفرة، كما نقل عن داود أنه كان بعد ابتلاء اللَّه له يدعو للخطائين كثيراً.
وعلى الجملة فالقدرى يجوز الصغائر على الأنبياء ويقول: إن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر في حق الناس فلا جرم التزم الزمخشري ورود السؤال لأن آدم عليه السلام معصوم من الكبائر باتفاق فيلزم على قاعدة القدرية أن تكون صغيرة واجبة التكفير والمحو، غير مؤاخذ عليها ولا مستوجب بسببها عقوبة ولا شيئاً مما وقع. وهذا لا جواب للزمخشري عنه إلا الانصاف والرجوع عن المعتقدات الباطلة والمذاهب الماحلة ولقد شنع السؤال بقوله إن الذي جرى على آدم عليه السلام كالذي جرى على إبليس عليه اللعنة. ومعاذ اللَّه أن يكون الحالان سواء والعاقبتان كما تعلم: أن آدم عليه السلام خالد في النعيم المقيم وأن إبليس خالد في العذاب الأليم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
إِسْرائِيلَ هو يعقوب عليه السلام لقب له، ومعناه في لسانهم: صفوة اللَّه، وقيل عبد اللَّه. وهو بزنة إبراهيم وإسماعيل غير منصرف مثلهما لوجود العلمية والعجمة. وقرئ إسرائل، وإسرائلّ. وذِكرهم النعمة: أن لا يخلوا بشكرها، ويعتدّوا بها، ويستعظموها، ويطيعوا ماتحها. وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدّد عليهم: من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق. ومن العفو عن اتخاذ العجل، والتوبة عليهم، وغير ذلك، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد جميعا. يقال أوفيت بعهدي، أى بما عاهدت عليه كقوله: (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) وأوفيت بعهدك: أى بما عاهدتك عليه. ومعنى وَأَوْفُوا بِعَهْدِي وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بى والطاعة لي، كقوله: (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ)، (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ)، (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وهو من قولك: زيدا رهبته. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وقرئ (أوفّ) بالتشديد: أى أبالغ في الوفاء بعهدكم، كقوله: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها).
ويجوز أن يريد بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ما عاهدوا عليه ووعدوه من الإيمان بنبىّ الرحمة والكتاب المعجز. ويدل عليه قوله: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أوّل من كفر به، أو أول فريق أو فوج كافر به، أو: ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به، كقولك: كسانا حلة، أى كل واحد منا. وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته. ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون اتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس كقوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) إلى قوله: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). ويجوز أن يراد: ولا تكونوا مثل أول كافر به، يعنى من أشرك به من أهل مكة. أى: ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا، مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له. وقيل: الضمير في «به» لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به. والاشتراء استعارة للاستبدال كقوله تعالى: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) وقوله:
كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا «١»
وقوله:
فإنِّى شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَك بالجَهْلِ «٢»
(٢).
ألا زعمت أسماء أن لا أحبها | فقلت بلى لولا ينازعني شغلي |
جزيتك ضعف الود لولا اشتكيته | وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي |
فان تزعمينى كنت أجهل فيكم | فانى شريت الحلم بعدك بالجهل |
وقيل: أفعل تفضيل منصوب. فيكم: أى بسببكم، أو فيما بين قبيلتكم. وعبر بضمير جمع المذكر للتعظيم. فانى شريت:
جواب الشرط، واشترى الشيء: أخذه بالثمن، وشراه: باعه به، فالمراد هنا: استبدلت العقل بعد فراقك بالجهل، فهو مجاز مرسل علاقته الإطلاق. والمعنى: أنه اعتذر عن عدم ودها بشغله وشكواها وعقله.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
الباء التي في بِالْباطِلِ إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء خلطته به، كأن المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه وَتَكْتُمُوا جزم داخل تحت حكم النهى بمعنى: ولا تكتموا. أو منصوب بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع، أى ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. فإن قلت: لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين متميزين حتى ينهوا عن الجمع بينهما، لأنهم إذا لبسوا الحق بالباطل فقد كتموا الحق «١» ؟ قلت: بل هما متميزان، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا
وفي مصحف عبد اللَّه: وتكتمون، بمعنى كاتمين وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، وهو أقبح لهم، لأنّ الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعنى صلاة المسلمين وزكاتهم وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ منهم، لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم. وقيل «الركوع» الخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين اللَّه. ويجوز أن يراد بالركوع: الصلاة، كما يعبر عنها بالسجود، وأن يكون أمرا بأن يصلى مع المصلين، يعنى في الجماعة، كأنه قيل: وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين، لا منفردين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
أَتَأْمُرُونَ الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبرّ سعة الخير والمعروف.
ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير. ومنه قولهم: صدقت وبررت. وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى اللَّه عليه وسلم ولا يتبعونه. وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون، وإذا أتوا بصدقات ليفرّقوها خانوا فيها. وعن محمد بن واسع: بلغني أنّ ناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة. قالوا كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وتتركونها من البر كالمنسيات وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ تبكيت مثل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلم، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه. ونحوه (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). وَاسْتَعِينُوا على حوائجكم إلى اللَّه بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أى بالجمع بينهما، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة، محتملين لمشاقها وما يجب فيها- من إخلاص القلب، وحفظ النيات، ودفع الوساوس
(وأْمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) أو: واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «١» وعن ابن عباس أنه نعى إليه أخوه «قثم» وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشى إلى راحلته وهو يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة» «٢» وقيل: الصبر الصوم، لأنه حبس عن المفطرات. ومنه قيل لشهر رمضان:
شهر الصبر. ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء، وأن يستعان على البلايا بالصبر، والالتجاء إلى الدعاء، والابتهال إلى اللَّه تعالى في دفعه وَإِنَّها الضمير للصلاة أو للاستعانة. ويجوز أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) إلى (وَاسْتَعِينُوا). لَكَبِيرَةٌ لشاقة ثقيلة من قولك: كبر علىّ هذا الأمر، (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ). فإن قلت: مالها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل؟ قلت:
لأنهم يتوقعون ما ادّخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أى يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده، ويطمعون فيه. وفي مصحف عبد اللَّه: يعلمون. ومعناه: يعلمون أن لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك. ولذلك فسر «يظنون» بيتيقنون. وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب، كانت عليه مشقة خالصة فثقلت عليه كالمنافقين والمراءين بأعمالهم. ومثاله من وعد على بعض الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله، فتراه يزاوله برغبة ونشاط وانشراح صدر ومضاحكة لحاضريه، كأنه يستلذ مزاولته بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة. ومن ثمّ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم «وجعلت قرّة عينى في الصلاة» «٣» وكان يقول «يا بلال
(٢). موقوف. أخرجه سعيد بن منصور. والطبري من طريق عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه «أن ابن عباس...
فذكره». وأخرجه البيهقي في الشعب من هذا الوجه
(٣). أخرجه النسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والبزار من حديث أنس رضى اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «حبب إلى من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عينى في الصلاة» وسيأتى في آل عمران.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ نصب عطف على: (نِعْمَتِيَ) أى اذكروا نعمتي وتفضيلي عَلَى الْعالَمِينَ على الجم الغفير من الناس، كقوله تعالى: (بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) يقال: رأيت عالما من الناس يراد الكثرة يَوْماً يريد يوم القيامة لا تَجْزِي لا تقضى عنها شيئا من الحقوق. ومنه الحديث في جذعة بن نيار: «تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك» «٢» وشَيْئاً مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر، أى قليلا من الجزاء، كقوله تعالى: (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ومن قرأ (لا تجزئ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه، فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء. وقرأ أبو السرار الغنوي: لا تجزى نسمة عن نسمة شيئا. وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قلت: فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلت: هو محذوف تقديره: لا تجزى فيه. ونحوه ما أنشده أبو على:
تَرَوَّحِى أَجْدَرُ أَنْ تَقِيلِى «٣»
وفيها. أقم يا بلال، فأرحنا بالصلاة» أخرجه الدارقطني في العلل من رواية سالم عن ابن الحنفية عن على رضى اللَّه عنه. وقال: تفرد أبو خالد القرى عن الثوري هكذا ومن طريق حمزة الثمالي عن ابن الحنفية عن بلال. وأخرجه ابراهيم الحربي من رواية سالم عن ابن الحنفية مرسلا. وقال: معناه: نصلى ونروح إلى منازلنا. وليس من الاستراحة والأثقال وإلا لقال أرحنا منها «انتهى» وبعسكر على هذا أن في رواية أحمد: أن الأنصارى قال يا جارية. ايتيني بوضوئى لعلى أصلى فأستريح.
(٢). متفق عليه من حديث البراء رضى اللَّه عنه. قال «ضحى خال لي يقال له أبو بردة بن نيار- فذكر الحديث»
(٣).
تروحي يا خيرة الغسيل... تروحى أجدر أن تقيلى
غدا بجنبي بارد ظليل
لأبى على أحيحة بن الجلاح. يقول لناقته: بكرى بالرواح: أو جدي السير فيه. والغسيل: صنوان النخل. شبه ناقته بالمختار منه لعراقتها في الكرم وارتفاعها. وكرر الأمر للتوكيد. هذا ويقال: تروح النبت إذا طال.
فتروحى: أى امتدى وارتفعى. والخطاب لعنعار النخل لا للناقة قاله العيني مخالفا جميع الشراح لهذا الرجز. وقد يؤكده أنه روى بدل «تروحى» الأول «تأبرى» والتأبير: وضع طلع الذكور من النخل في الإناث لتنمو ثمرتها ويمكن أن يقال: إنه ترشيح للتشبيه. والظاهر أنه انتقل من رجز إلى آخر لأحيحة، فقد روى عنه:
تأبرى يا خيرة الغسيل... تأبرى من حنذ فشولى
إذ ضن أهل النخل بالفحول
هذا هو خطاب الغسيل. وحنذ- بالتحريك- موضع قريب من المدينة. وقيل اسم قرية. وقيل اسم ماء. والمعنى:
أن ريح الصبا تهب من جهته فتحمل طلع الذكور منه إلى الإناث فيغنيها عن التأبير الصناعى. وشولى أى ارتفعى وامتدى، أى تأبرى بنفسك، حيث بخل أهل النخل بطلع الذكور التي تلقح الإناث. وأجدر: نصب بمحذوف، أى وأتى مكانا أجدر وأحق بأن تقيلى فيه وتستريحي من السير. ويجوز نصبه بتروحي، بتضمينه معنى اطلبى. فحذف باء الجر ولفظ فيه لعلمها. وغدا نصب بتقيلى، بجنبي: أى في جنبي، فهو بدل من فيه المحذوفة، أى: في حافتي ماء بارد ظليل، أى مظلل بالأشجار، أو في جانبي مكان ذى ظل لا حر فيه. وحينئذ فالمعنى أجدر أن تقيلى بجانبيه، فأظهر في محل الإضمار لإظهار صفة المكان. وأفعل التفضيل المجرد إن لم تتصل به «من» لفظا فهي متصلة به تقديراً، على أن محل ذلك إذا أريد به التفضيل على معين. والظاهر أن أجدر هنا ليس كذلك، فلا حاجة لتقديرها. ويجوز أن يكون أجدر فعلا ماضياً أى دخل في الجدارة والحقية «أن تقيلى» أى حقت ووجبت قيلولتك، فلا حذف أصلا.
وقال العيني: يجوز أن يكون بارد ظليل على حذف حرف العطف للضرورة، أى بجنب بارد وجنب ظليل.
وكذلك قوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أى فدية لأنها معادلة للمفدى.
ومنه الحديث «لا يقبل منه صرف ولا عدل» «١» أى توبة ولا فدية. وقرأ قتادة: ولا يقبل منها شفاعة، على بناء الفعل للفاعل وهو اللَّه عز وجل، ونصب الشفاعة. وقيل: كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا. فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة «٢» ؟ قلت: نعم، لأنه نفى أن تقضى نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «هل فيه دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: أما من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها. وأما من آمن بها وصدقها وهم أهل السنة والجماعة، فأولئك يرجون رحمة اللَّه. ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما ادخرت لهم. وليس في الآية دليل لمنكريها، لأن قوله يوما أخرجه منكرا، ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة وبعضها هو الوقت الموعود وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام. قد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها. منها قوله تعالى: (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) مع قوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، متغايرين: أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلا له، وكذلك الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، رزقنا اللَّه الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة
ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى، على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا تجزى عنها شيئا، ولو أعطت عدلا عنها لم يؤخذ منها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يعنى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة والتذكير بمعنى العباد والأناسى، كما تقول: ثلاثة أنفس.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
أصل آلِ أهل، ولذلك يصغر بأهيل، فأبدلت هاؤه ألفاً. وخص استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم، فلا يقال آل الإسكاف والحجام. وفِرْعَوْنَ علم لمن ملك العمالقة، كقيصر: لملك الروم، وكسرى: لملك الفرس. ولعتوّ الفراعنة اشتقوا: تفرعن فلان، إذا عتا وتجبر. وفي ملح بعضهم:
قَدْ جَاءَهُ الْمُوسَى الْكَلُومُ فَزَادَ فِى | أقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ «١» |
إذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً | أَبَيْنَا أَنْ يَقِرَّ الْخَسْفُ فِينَا «٢» |
(٢). لعمرو بن كلثوم من معلقته. «وما» زائدة. «والملك» بالسكون: لغة فيه. ويقال: سامه ذلا، إذا أولاه إياه وألحقه به. وقيل: إذا كلفه ما فيه ذل وأكرهه عليه. والخسف- بفتح الخاء وضمها-: الذل. يقول إذا ألحق بالناس الذل منعناه إقرار الذل فينا، ولم ننقد له كسائر الناس، لشجاعتنا على جميع من سوانا.
والسوء: مصدر السيئ: يقال أعوذ باللَّه من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبحهما. ومعنى سوء العذاب- والعذاب كله سيئ-: أشدّه وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة لي سائره.
ويُذَبِّحُونَ: بيان لقوله يسومونكم. ولذلك ترك العاطف كقوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأ الزهري (يذبحون) بالتخفيف كقولك: قطعت الثياب وقطعتها.
وقرأ عبد اللَّه: يقتلون. وإنما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه، كما أنذر نمروذ. فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ، وكان ما شاء اللَّه.
والبلاء المحنة إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون. والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
فَرَقْنا فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرئ: فرّقنا، بمعنى فصلنا. يقال: فرق بين الشيئين، وفرّق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنى عشر على عدد الأسباط. فإن قلت: ما معنى بِكُمُ؟ قلت: فيه أوجه: أن يراد أنهم كانوا يسلكونه، «١» ويتفرّق الماء عند سلوكهم، فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما، وأن يراد فرقناه بسببكم «٢» وبسبب إنجائكم، وأن يكون في موضع الحال «٣» بمعنى فرقناه ملتبسا بكم كقوله:
تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبا «٤»
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «ويحتمل أن يكون المراد فرقناه بسببكم». قال أحمد رحمه اللَّه: وهي على هذا الوجه سببية، كما تقول: أكرمتك بإحسانك إلى. [.....]
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «ويحتمل أن يكون في موضع الحال... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وهي على هذا الوجه للمصاحبة مثلها في: أسندت ظهري بالحائط، والوجه الأول ضعيف من حيث أن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل. والمنقول بل المنصوص عليه في الكتاب العزيز: أن البحر إنما انفرق بعصا موسى، يشهد لذلك قوله تعالى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)، فآلة التفريق العصا، لا بنو إسرائيل
(٤).
كأن خيولنا كانت قديما | تسقى في قحوفهم الحليبا |
فمرت غير نافرة عليهم | تدوس بنا الجماجم والتريبا |
سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال: اللهم أعنى على أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه: أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصارت فيها كوى. فتراموا وتسامعوا كلامهم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد اللَّه موسى أن ينزل عليه التوراة، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وقيل أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لأنّ الشهور غررها بالليالي. وقرئ (واعَدْنا لأن اللَّه تعالى وعده الوحى ووعد المجيء للميقات إلى الطور مِنْ بَعْدِهِ من بعد مضيه إلى الطور وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ بإشراككم ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ حين تبتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إرادة أن تشكروا «١» النعمة في العفو عنكم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
الرجاء منصرف إلى المخاطب كأنه قال: كونا على رجائكما في تذكرته وخشيته وكذلك هذه الآية معناها لتكونوا على رجاء الشكر للَّه عز وجل ونعمه، فينصرف الرجاء إليهم وينزه اللَّه تعالى.
(يَوْمَ الْفُرْقانِ) يريد به يوم بدر. حمل قوله فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ على الظاهر وهو البخع «١».
وقيل: معناه قتل بعضهم بعضا. وقيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة. وروى أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر اللَّه، فأرسل اللَّه ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: اصبروا، فلعن اللَّه من مدّ طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهرون وقالا: يا رب، هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة. فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفا. فإن قلت: ما الفرق بين الفاءات؟ قلت: الأولى للتسبيب لا غير، لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قبل أن اللَّه تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم. ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم. فيكون المعنى: فتوبوا، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم، والثالثة متعلقة بمحذوف، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلق بشرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وإمّا أن يكون خطابا من اللَّه تعالى لهم على طريقة الالتفات. فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم.
فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ومتميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر، إلى عباد البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة. - في أمثال العرب: أبلد من ثور- حتى عرضوا أنفسهم لسخط
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
قيل: القائلون السبعون الذين صعقوا. وقيل قاله عشرة آلاف منهم جَهْرَةً عيانا.
وهي مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، كأنّ الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها، وانتصابها على المصدر، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس، أو على الحال بمعنى ذوى جهرة. وقرئ «جهرة» بفتح الهاء، وهي إمّا مصدر كالغلبة. وإما جمع جاهر. وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادّهم القول وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال «١» وأن من استجاز على اللَّه الرؤية فقد جعله من جملة الأجسام «٢» أو الأعراض، فرادّوه بعد بيان
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فيه دليل على أن موسى عليه السلام رادهم القول، وعرفهم أن رؤية من لا يجوز عليه... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لقد انتهز الزمخشري ما اعتقده فرصة من هذه الآية التي لا مطمع له عند التحقيق في التشبث بها، فبنى الأمر على أن العقوبة سببها طلب ما لا يجوز على اللَّه تعالى من الرؤية على ظنه، وأنى له ذلك وثم سبب ظاهر في العقوبة سوى ما ادعاه هو كل السبب. وذلك أن موسى عليه السلام لما علم جواز رؤيته تعالى طلبها في آية الأعراف في دار الدنيا، فأخبره اللَّه تعالى أنه لا يراه في الدنيا، وصار ذلك عنده وعند بنى إسرائيل أصلا مقرراً، كما هو عندنا الآن معاشر أهل السنة أن اللَّه تعالى لا يرى في دار الدنيا، لأنه أخبر أنه لا يرى والخبر واجب الصدق وكما أخبر أنه لا يرى في دار الدنيا فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة وتخصيص ذلك بالمؤمنين، وبعد استقرار هذا المعتقد طلب بنو إسرائيل الرؤية في الدنيا تعنتا أو شكا في الخبر، فأنزل اللَّه تعالى بهم تلك العقوبة. وكيف تخيل الزمخشري وشيعته أن موسى عليه السلام طلب من اللَّه ما لا يجوز عليه. وهل هو لو كان الأمر على ما تخيل إلا كبني إسرائيل. ومعاذ اللَّه، لقد برأه من ذلك وكان عند اللَّه وجيها.
وأما الأدلة العقلية على جواز رؤيته تعالى عقلا والسمعية على وقوعها في الدار الآخرة، فأكثر من أن تحصى وهي مستقصاه في فن الكلام. وإنما غرضنا في هذا الباب مباحثة الزمخشري والرد عليه من حيث يتمسك على ظنه وأخذه قوما منه. واللَّه الموفق.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة البعث بعد الموت، أو نعمة اللَّه بعد ما كفرتموها إذا رأيتم بأس اللَّه في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. وَظَلَّلْنا وجعلنا الغمام يظلكم. وذلك في التيه، سخر اللَّه لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى، وينزل عليهم الْمَنَّ وهو الترنجبين مثل الثلج. من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع، ويبعث اللَّه الجنوب فتحشر عليهم السَّلْوى وهي السمانى فيذبح الرجل منها ما يكفيه كُلُوا على إرادة القول وَما ظَلَمُونا يعنى فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة (وما ظلمونا) عليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
الْقَرْيَةَ بيت المقدس. وقيل أريحاء من قرى الشأم، أمروا بدخولها بعد التيه الْبابَ باب القرية. وقيل هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام. أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً للَّه وتواضعاً.
وقيل «السجود» أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات. وقيل:
طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فلم يخفضوها، ودخلوا متزحفين على أوراكهم حِطَّةٌ فعلة من الحط كالجلسة والركبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أى مسألتنا حطة، وأمرك حطة.
والأصل: النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة. وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات، كقوله:
والأصل صبراً، على: اصبر صبراً. وقرأ ابن أبى عبلة بالنصب على الأصل. وقيل معناه:
أمرنا حطة، أى أن نحط في هذه القرية ونستقرّ فيها. فإن قلت: هل يجوز أن تنصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا، على معنى: قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. والأجود أن تنصب بإضمار فعلها، وينتصب محل ذلك المضمر بقولوا. وقرئ (يُغفر لكم) على البناء للمفعول بالياء والتاء وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أى من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا كانت له توبة ومغفرة فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أى وضعوا مكان حطة قَوْلًا غيرها. يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر اللَّه. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر. لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به، لم يؤاخذوا به.
كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللهم اعف عنا وما أشبه ذلك. وقيل:
قالوا مكان حطة: حنطة. وقيل: قالوا بالنبطية: «حطا سمقاثا» أى حنطه حمراء، استهزاء منهم بما قيل لهم، وعدولا عن طلب ما عند اللَّه إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا. وفي تكرير الَّذِينَ ظَلَمُوا زيادة في تقبيح أمرهم «٢» وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم. وقد جاء في سورة الأعراف: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) على الإضمار. والرجز: العذاب. وقرئ- بضم الراء- وروى أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً. وقيل: سبعون ألفاً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
شكا إلى جملى طول السرى | صبراً جميلا فكلانا مبتلى |
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) زيادة في تقبيح... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وفيه تهويل لظلمهم من حيث وضع الظاهر موضع المضمر، وهو مفيد لذلك، إذ هو من قبيل الاشهار لهذا المعين مع إمكان الاختصار بالاضمار.
ارفع هذا الحجر، فإنّ لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. وإمّا للجنس، أى اضرب الشيء الذي يقال له الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال:
وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. وروى أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة، فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه. وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر، ويضربه بها فييبس. فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون. وقيل: كان من رخام وكان ذراعا في ذراع. وقيل مثل رأس الإنسان. وقيل: كان من آس الجنة «١» طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار فَانْفَجَرَتْ الفاء متعلقة بمحذوف، أى فضرب فانفجرت. أو فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: (فَتابَ عَلَيْكُمْ) وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ. وقرئ (عشرة) بكسر الشين وبفتحها وهما لغتان كُلُّ أُناسٍ كل سبط مَشْرَبَهُمْ عينهم التي يشربون منها كُلُوا على إرادة القول مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مما رزقكم من الطعام وهو المنّ والسلوى ومن ماء العيون. وقيل الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والعثىّ: أشدّ الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
اخبزوا. وقيل الثوم. ويدل عليه قراءة ابن مسعود: وثومها، وهو للعدس والبصل أوفق الَّذِي هُوَ أَدْنى الذي هو أقرب منزلة وأدون مقداراً، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو دانى المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك فيقال: هو بعيد المحل وبعيد الهمة يريدون الرفعة والعلو. وقرأ زهير الفرقبي: أدنأ بالهمزة من الدناءة اهْبِطُوا مِصْراً وقرئ اهبطوا، بالضم: أى انحدروا إليه من التيه. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه، إذا خرج. وبلاد التيه: ما بين بيت المقدس إلى قنسرين، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ. ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث، لسكون وسطه كقوله: ونوحا ولوطا. وفيهما العجمة والتعريف، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد، وأن يريد مصراً من الأمصار. وفي مصحف عبد اللَّه وقرأ به الأعمش: اهبطوا مصر- بغير تنوين- كقوله: ادخلوا مصر. وقيل هو «مصرائيم» فعرّب وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه،
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون وَالَّذِينَ هادُوا والذين تهوّدوا. يقال: هاد يهود. وتهوّد إذا دخل في اليهودية، وهو هائد، والجمع هود. وَالنَّصارى وهو جمع نصران. يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة، قال: نصرانة لم تحنف. والياء في نصرانىّ للمبالغة كالتي في أحمرىّ. سموا لأنهم نصروا المسيح. وَالصَّابِئِينَ وهو من صبأ إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة مَنْ آمَنَ من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في ملة الإسلام دخولا أصيلا وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم. فإن قلت: ما محل من آمن؟ قلت: الرفع إن جعلته مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والنصب إن جعلته بدلا من اسم إنّ والمعطوف عليه. فخبر إنّ في الوجه الأول الجملة كما هي وفي الثاني فلهم أجرهم. والفاء لتضمن «من» معنى الشرط.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بالعمل على ما في التوراة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة، فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا أُلقى عليكم، حتى قبلوا. خُذُوا على إرادة القول ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بحدّ وعزيمة وَاذْكُرُوا ما فِيهِ واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتوفيقكم للتوبة لخسرتم. وقرئ: خذوا ما آتيتكم، وتذكروا، واذّكروا «١» والسَّبْتِ مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت، وإن ناساً منهم اعتدوا فيه أى جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أن اللَّه ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرّقت. كما قال: (تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم: قِرَدَةً خاسِئِينَ خبر ان أى كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصغار والطرد فَجَعَلْناها يمنى المسخة نَكالًا عبرة تنكل من اعتبر بها أى تمنعه. ومنه النكل: القيد لِما بَيْنَ يَدَيْها لما قبلها وَما خَلْفَها وما بعدها من الأمم والقرون «٢» لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين: أو أريد
(٢). قوله «وما بعدها من الأمم والقرون» لعله: والقرى، نظير قوله الآتي: من القرى والأمم. (ع)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
كان في بنى إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه ليرثوه، وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطالبون بديته، فأمرهم اللَّه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أتجعلنا مكان هزو، أو أهل هزو، أو مهزوا بنا، أو الهزو نفسه لفرط الاستهزاء مِنَ الْجاهِلِينَ لأن الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه. وقرئ «هزؤا» بضمتين. «وهزءاً» بسكون الزاى، نحو كفؤا وكفؤا. وقرأ حفص «هزوا» بالضمتين والواو وكذلك «كفوا». والعياذ واللياذ من واد واحد.
في قراءة عبد اللَّه: سل لنا ربك ما هي؟ سؤال عن حالها وصفتها. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا، فسألوا عن صفة تلك البقرة المجيبة الشأن الخارجة عما عليه البقر. والفارض: المسنة، وقد فرضت فروضا فهي فارض. قال خفاف بن ندبة:
لَعَمْرِى لَقَدْ أَعْطَيْتُ ضَيْفَكَ فَارِضاً | تُسَاقُ إلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ «١» |
والعوان النصف. قال:
نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ «٢»
وقد عوّنت «٣». فإن قلت: (بين) يقتضى شيئين فصاعدا «٤» فمن أين جاز دخوله على (ذلك) : قلت لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. فإن قلت:
كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت: جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما تقدّم، للاختصار في الكلام، كما جعلوا «فعل» نائبا عن أفعال جمة تذكر قبله: تقول للرجل: نعم ما فعلت، وقد ذكر لك أفعالا كثيرة وقصة طويلة، كما تقول له:
ما أحسن ذلك. وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا. قال أبو عبيدة قلت لرؤبة في قوله:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِى الْجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ «٥» |
(٢).
ظعائن كنت أعهدهن قدما | وهن لدى الاقامة غير جون |
حصان مواضع القب الأعالى | نواعم بين أبكار وعون |
والحصان- بالفتح-: المحصنة. والنقب: جمع نقاب، ككتب وكتاب. والعون أصله بضم الواو جمع عوان، وهي النصف- بفتحتين- أى الوسط من النساء والبهائم، فسكن تخفيفاً. يقول: تلك النساء ظعائن أى مسافرات غير لونهن السفر، وكنت أعهدهن في قديم الزمان حين الاقامة غير سود وهن محصنات الوجوه، وإذا حفظت حفظن كلهن عادة. والأعالى: صفة للنقب أو المواضع، وهذا لا يكون إلا في النساء كما ترى. وروى بعضهم «ضغائن» بدل «ظعائن» ولعله تحريف. وهن ناعمات، دائرات بين أبكار صغيرات وعون أواسط.
(٣). قوله «وقد عونت» في الصحاح: وتقول منه عونت المرأة تعوينا، وعانت تعون عونا. (ع)
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت بين يقتضى شيئين... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وقد مر نظير هذا عند قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فجدد به عهدا.
(٥). لرؤبة بن العجاج يصف بقرة وحشية، وقيل فرساً، وقيل خيلا فيها لون السواد ولون البلق- أى البياض- ويروى: من بياض وباق فلعل البياض بياض يرهقه قترة، كأنه: أى ذلك المذكور أو المجتمع منهما، توليع البهق في الجلد. أو كأنه حال كونه في الجلد توليع البهق، أى تخطيطه من البياض المشوب بكدرة الناشئ من البهق، وهو داء يتغير منه لون الجلد. روى أن أبا عبيدة قال له: إن أردت الخطوط فقل: كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما. فقال أردت كأن ذاك، فقد أجرى الضمير مجرى اسم الاشارة في صحة الاشارة بالمفرد منه إلى المتعدد بتأويله بالمذكور ونحوه.
الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه. يقال في التوكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال أسود حالك وحانك، وأبيض يقق ولهق. وأحمر قانى وذريخى. وأخضر ناضر ومدهامّ. وأورق خطبانىّ وأزمك ردانىّ. فإن قلت: فاقع هاهنا واقع خبرا عن اللون، فلم يقع توكيداً لصفراء قلت: لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع توكيداً لصفراء، إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون من سببها وملتبس بها، فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها. فإن قلت: فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأنّ اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديدة الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جدّ جدّه، وجنونك مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. وعن على رضى اللَّه عنه: «من لبس نعلا صفراء قل همه «١» لقوله تعالى تسرّ الناظرين» وعن الحسن البصري صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها سوداء شديدة السواد. ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها تعلوه صفرة. وبه فسر قوله تعالى: (جِمالَتٌ صُفْرٌ). قال الأعشى:
تِلْكَ خَيْلِى مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِى... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ «٢»
(٢).
إن قيس أقيس الفعال أبا... الأشعث أمست أصداؤه لشعوب
كل عام يمدني بحموم... عند وضع للضأن أو بنجيب
تلك خيلى منه وتلك ركابي... هن صفر أولادها كالزبيب
للأعشى في أبى الأشعث بن قيس. والفعال- بالفتح-: فعل الخير. والأصداء: جمع صدى، وهو ذكر البوم.
كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة وتصبح: أدركونى. حتى يؤخذ بثأره. وشعوب: اسم للمنية، ويمكن أنه جمع شعب بمعنى طريق، أى أمست متفرقة في الطرق. وذلك كناية عن قتله. والجمع للتعظيم، أو اعتباري. والجموم: جمع جم بتثليث أوله بمعنى الكثير. والنجيب: الكريم من الخيل والإبل. والركاب: المطايا. هن أى الركاب، صفر: جمع أصفر أو صفراء، أولادها يغلب عليها السواد كالزبيب. والمراد بالصفرة سواد ترهقه صفرة، لأن هذا أعز ألوان الإبل عندهم.
بأى نوع منها أبدأ؟ وعن عمر بن عبد العزيز: إذا أمرتك أن تعطى فلانا شاة سألتنى: أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني. وفي الحديث «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته» «٢» إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أى إنّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح. وقرئ: تشابه، بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين. وتشابهت ومتشابهة ومتشابه. وقرأ محمد ذو الشامة: إن الباقر يشابه، بالياء والتشديد. جاء في الحديث «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» «٣» أى: لو لم يقولوا إن شاء اللَّه. والمعنى: إنا لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها، أو إلى ما خفى علينا من أمر القاتل لا ذَلُولٌ صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول، يعنى لم تذلل للكراب «٤» وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقى الحروث، و «لا» الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقى. على أنّ الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: لا ذلول، بمعنى لا ذلول هناك: أى حيث هي، وهو نفى لذلها ولأن توصف به فيقال: هي ذلول. ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان. أى فيهم، أو حيث هم.
(٢). متفق عليه من حديث سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه عنه.
(٣). قلت: أخرجه ابن جرير من طريق ابن جريج مرفوعا. وهو معضل.
(٤). قوله «لم تذلل للكراب» في الصحاح: كربت الأرض إذا قلبتها للحرث. وفي المثل: الكراب على البقر، ويقال: الكلاب على البقر. (ع)
أَوْ مَعْبَرَ الظَّهْرِ يُنْبِى عَنْ وَلِيَّتِهِ | مَا حَجَّ رَبُهُ فِى الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا «١» |
وروى أنه كان في بنى إسرائيل شيخ صالح له عجِلة فأتى بها الغيضة «٣» وقال: اللهم إنى أستودعكها لابنى حتى يكبر، وكان براً بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمّه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير
المنجرد الشعر. ونبا عنه ينبو: انحرف. وأنبيته: حرفته وأبعدته، فما هنا معناه يمنع غيره عن ركوب وليته.
وظاهر كلام بعضهم أنه يقال: نبى ينبي، كرمى يرمى، إذا انحرف. وأن ما هنا منه، أى ينفر عن وليته: أى برذعته، لأنها تلى الجلد. وربه باختلاس الحركة للوزن، بمعنى صاحبه. والمعنى: أنه بعير متروك من العمل فهو مصعب ينفر من الراكب، لأنه لم يسافر أصلا حتى أن صاحبه لا حج ولا اعتمر: وظاهر كلام بعضهم أن «ربه» هي رب التي هي حرف جر، فتكون جارة للضمير بلا تمييز لتقدم مرجعه، ودالة على تحقيق النفي مجازاً عن معنى التكثير وهي اعتراض بين المتعاطفين. وإسناد الفعلين لضمير البعير مجاز عقلى، لأنه من آلات الحج والاعتمار.
وقائل ذلك فسره بأنه منجرد الظهر ينفر من برذعته لدبره من كثرة الأسفار. ما سافر لحج ولا اعتمار، وإنما يسافر إلى الأعداء. ولو جعل معناه كما تقدم لجاز. فالمعنى أنه مصعب لم يركب ولم يسافر أصلا، حتى أنه لم يسافر لحج ولا عمرة وهو ظاهر.
(٢). قوله «لا لمعة في نقبتها» في الصحاح: النقبة اللون والوجه. (ع)
(٣). قوله «فأتى بها الغيضة» في الصحاح: الغيضة الأجمة، وهي مغيض ماء يجتمع فيه فينبت فيه الشجر. (ع)
ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالا له، فكذلك إذا وقع عليها بعد التخصيص وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً، أى يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح. أو لأنّ الطرح في نفسه دفع. أو دفع بعضكم بعضاً عن البراءة واتهمه وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً. فإن قلت: كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضىّ؟
قلت: وقد حكى ما كان «١» مستقبلا في وقت التدارؤ. كما حكى الحاضر في قوله: (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما (فَادَّارَأْتُمْ) و (فَقُلْنا)
والضمير في اضْرِبُوهُ
إمّا أن يرجع إلى النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان، وإمّا إلى القتيل لما دل عليه من قوله: (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). بِبَعْضِها
ببعض البقرة. واختلف في البعض الذي ضرب به، فقيل: لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة بين الكتفين. والمعنى:
فضربوه فحيى، فحذف ذلك لدلالة قوله: (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى)
. وروى أنهم لما ضربوه قام بإذن اللَّه وأوداجه تشخب دماً وقال: قتلني فلان وفلان لا بنى عمه، ثم سقط ميتاً، فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
إما أن يكون خطابا للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم: كذلك يحيى اللَّه الموتى يوم القيامة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
ودلائله على أنه قادر على كل شيء لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
تعملون على قضية عقولكم. وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث. وإما أن يكون خطابا للمنكرين في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت: في الأسباب والشروط
حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
(٢). أخرجه أبو داود من رواية الجهم بن الجارود عن سالم عن أبيه. قال: «أهدى عمر رضى اللَّه عنه نجيبة فأعطى بها ثلاثمائة دينار. فقال يا رسول اللَّه أفأبيعها وأشترى بثمنها بدنا؟ قال: لا، أنحرها إياها».
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)معنى ثُمَّ قَسَتْ استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه:
(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها. وذلِكَ إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة فَهِيَ كَالْحِجارَةِ فهي في قسوتها مثل الحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها، وأشد معطوف على الكاف، إما على معنى أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على الحجارة. وإما على: أو هي أنفسها أشدّ قسوة. والمعنى:
أن من عرف حالها شبهها بالحجارة، أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلا. أو من عرفها شبهها بالحجارة، أو قال: هي أقسى من الحجارة. فإن قلت: لم قيل: أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب «١» ؟ قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. وقرئ: قساوة. وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس، كقولك: زيد كريم وعمرو أكرم. وقوله وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة، وتقرير لقوله: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). وقرئ «وإن» بالتخفيف، وهي «إن» المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة. ومنها قوله تعالى: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ). والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة. وقرأ مالك بن دينار (ينفجر) بالنون.
يَشَّقَّقُ يتشقق. وبه قرأ الأعمش. والمعنى إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا يَهْبِطُ يتردّى من أعلى الجبل. وقرئ بضم الباء. والخشية مجاز عن انقيادها لأمر اللَّه تعالى، وأنها
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)
أَفَتَطْمَعُونَ الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم، كقوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يعنى اليهود، وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
طائفة فيمن سلف منهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وهو ما يتلونه من التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ كما حرّفوا صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وآية الرّجم، وقيل كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام اللَّه حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى، ثم قالوا: سمعنا اللَّه يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس. وقرئ: كلم اللَّه، مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون مفترون. والمعنى: إن كفر هؤلاء وحرّفوا فلهم سابقة في ذلك. وَإِذا لَقُوا يعنى اليهود قالُوا قال منافقوهم «١» آمَنَّا بأنكم على الحق، وأنّ محمدا هو الرسول المبشر به وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ الذين نافقوا قالُوا عاتبين عليهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بما بين لكم في التوراة من صفة محمد. أو قال المنافقون لأعقابهم يرونهم التصلب في دينهم: أتحدّثونهم، إنكارا عليهم أن يفتحوا عليهم شيئا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ التوراة إِلَّا أَمانِيَّ إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأن اللَّه يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أنّ النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل: إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد. قال أعرابى لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته، أم تمنيته، أم اختلقته «١» وقيل: إلا ما يقرؤن من قوله:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ «٢»
والاشتقاق من منى إذا قدّر، لأن المتمنى يقدّر في نفسه ويحزر ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وإلا أمانىّ: من الاستثناء المنقطع. وقرئ: أمانى، بالتخفيف. ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان، ثم العوامّ الذين قلدوهم، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم. يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرّف بِأَيْدِيهِمْ «٣» تأكيد، وهو
(٢).
تمنى كتاب اللَّه أول ليلة | تمنى داود الزبور على رسل |
وآخرها لاقى حمام المقادر
والحمام: الموت، لأنه مقدر، من حم اللَّه الشيء: قدره.
(٣). قال محمود: «إن قلت: ما فائدة قوله بأيديهم... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وربما قال الزمخشري في مثل هذا: إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت، حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً للهيئة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يوما عدد أيام عبادة العجل. وعن مجاهد: كانوا يقولون مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند اللَّه عهدا فلن يخلف اللَّه عهده. وأَمْ إمّا أن تكون معادلة بمعنى أى الأمرين كائن على سبيل التقرير، لأن العلم واقع بكون أحدهما. ويجوز أن تكون منقطعة بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أى بلى تمسكم أبدا، بدليل قوله: (هُمْ فِيها خالِدُونَ). مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً من السيئات، يعنى كبيرة من الكبائر «١» وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ تلك واستولت عليه، كما يحيط العدوّ ولم يتفص عنها «٢» بالتوبة.
وقرئ: خطاياه، وخطيئاته. وقيل في الإحاطة: كان ذنبه أغلب من طاعته. وسأل رجل الحسن عن الخطيئة قال: سبحان اللَّه: ألا أراك ذا لحية وما تدرى ما الخطيئة، انظر في المصحف فكل آية نهى فيها اللَّه عنها وأخبرك أنه من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
هي الشرك يموت عليه صاحبه اه وهو الذي يحيط بفاعله ويسد أبواب النجاة أمامه في كل جهة. (ع)
(٢). قوله «ولم يتفص عنها» أى يتخلص. (ع)
وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إما أن يقدّر: وتحسنون بالوالدين إحسانا. أو وأحسنوا. وقيل:
هو جواب قوله: (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) «٢» إجراء له مجرى القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وقيل: معناه أن لا تعبدوا، فلما حذفت «أن» رفع، كقوله:
أَلَا أَيُّهذَا الزّاجِرِى أَحْضُرَ الوَغَى «٣»
ويدل عليه قراءة عبد اللَّه (أن لا تعبدوا) ويحتمل (أن لا تعبدوا) أن تكون «إن» فيه مفسرة، وأن تكون أن مع الفعل بدلا عن الميثاق، كأنه قيل: أخذنا ميثاق بنى إسرائيل توحيدهم وقرئ بالتاء حكاية لما خوطبوا به، وبالياء لأنهم غيب. حُسْناً قولا هو حسن في نفسه «٤» لإفراط حسنه. وقرئ حسنا. وحسنى- على المصدر- كبشرى. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ على طريقه الالتفات أى توليتم عن الميثاق ورفضتموه. إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ قيل: هم الذين أسلموا منهم وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن المواثيق، والتولية.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «وقيل هو جواب قوله: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ)... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لو قدر القسم مضافا إلى المذكورين لكان أوجه، فيقول (وإذ أقسمتم لا تعبدون إلا اللَّه... الخ)
(٣).
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
لطرفة بن العبد من معلقته. وألا أداة استفتاح. وحرف النداء محذوف. وأى منادى. واسم الاشارة نعت له.
والزاجر نعت لاسم الاشارة مضاف لياء المتكلم إضافة الوصف لمفعوله. وروى بدله «اللائمي» : وروى «أحضر» منصوبا بإضمار أن، ومرفوعا على إهمالها وحسن حذفها ذكرها فيما بعد. يقول: يا أيها الزاجر لي عن حضور الحرب وشهود لذات النصر والظفر والغنيمة، أو شهود لذات الشراب ومغازلة النساء المستدعين لاتلاف المال، لست مخلداً لي لو طاوعتك. فالاستفهام إنكارى.
(٤). قال محمود: «أى قولا هو حسن في نفسه... الخ». قال أحمد: وفيه من التأكيد والتخصيص على إحسان مناولة الناس، أنه وضع الصدر فيه موضع الاسم. وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف، كرجل عدل، وصوم وفطر. وقرئ حسنا فهو على هذا من الصفات المشبهة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا يفعل ذلك بعضكم ببعض. جعل غير الرجل نفسه. إذا اتصل به أصلا أو دينا. وقيل: إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه، لأنه يقتص منه ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عليها كقولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا شاهد عليها. وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ استبعاد لما أسند اليهم «١» من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعنى أنكم قوم آخرون «٢» غير أولئك المقرّين تنزيلا، لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله تَقْتُلُونَ بيان لقوله ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ وقيل: هؤلاء موصول بمعنى الذي «٣». وقرئ (تظاهرون) بحذف التاء وإدغامها، وتتظاهرون بإثباتها، وتظهرون بمعنى تتظهرون: أى تتعاونون عليهم. وقرئ: تفدوهم، وتفادوهم. وأسرى، وأسارى وَهُوَ ضمير الشأن. ويجوز أن يكون مبهما تفسيره إِخْراجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية. [.....]
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون، يعنى أنكم قوم آخرون غير أولئك...
الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: هو بيان لتغير الصفة الموجب لتنزيلهم منزلة المغايرين لهم بالذات.
(٣). قوله «موصول بمعنى الذي» لعله الذين. (ع)
وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشد العذاب، لأن عصيانه أشدّ. وقرئ: يردّون، ويعملون- بالياء والتاء- فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ عذاب الدنيا بنقصان الجزية، ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم. وكذلك عذاب الآخرة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
الْكِتابَ التوراة، آتاه إياها جملة واحدة. ويقال: قفاه إذا أتبعه من القفا. نحو ذنبه، من الذنب. وقفاه به: أتبعه إياه، يعنى: وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. وقيل (عِيسَى) بالسريانية أيشوع. و (مَرْيَمَ) بمعنى الخادم. وقيل: المريم بالعربية من النساء، كالزير من الرجال «١». وبه فسر قول رؤبة:
قُلْتُ لِزَيْرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ «٢»
(٢).
قلت لزير لم تصله مريمه | ضليل أهواء الصبا تندمه |
قال أبو عمرو: من رام بريم، ومعناه بقي أو ذهب. وريمت السحابة تريما: دامت، لدوامها على المودة، أو لخروجها من بيتها. والضليل كثير الضلال. والصبا: الميل إلى الجهل والفتوة. وتندمه: بمعنى ندمه، فهر مصدر مرفوع فاعل ضليل. ولعل معناه أن ندمه ضال ضائع في أهواء الصبا. ويروى «مندمه» بصيغة اسم الفاعل. وضليل:
مرفوع على الابتداء، ومندمه خبره. ولعل معناه أن الرجل كثير الضلال يعنى نفسه هو الذي يندمه ويجعله نادما، أى يأمره بالندم. وقال عبد الحكيم على البيضاوي نقلا عن الكشف: أى قلت له من كثر ضلاله يكون مندم نفسه وموقعها في الندامة. واللام في قوله لزير للتعليل أى قلت ذلك القول لأجله، هذا توجيه ما قيل فيه. ولو جعلت ضليل صفة زير كالوجه الأول، وتندمه فعل أمر مقول القول، حرك بالضم لالتقائه ساكناً مع هاء السكت ولمناسبة القافية لجاز: أى قلت له تندم وتب، لكن فيه تكلف شاذ.
والمعنى: ولقد آتينا يا بنى إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ منهم بالحق اسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان به، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم. ثم وبخهم على ذلك. ودخول الفاء لعطفه على المقدّر.
فإن قلت: هلا قيل وفريقا قتلتم؟ «٣». قلت: هو على وجهين: أن تراد الحال الماضية، «٤» لأنّ الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يراد: وفريقا تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى اللَّه عليه وسلم لولا أنى أعصمه منكم. ولذلك سحرتموه وسممتم
(٢). قوله «ومنه آجده بالجيم» وأصله ما يقال: ناقة أجد، أى قوية موثقة الخلق أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت هلا قيل وفريقاً قتلتم... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: والتعبير بالمضارع يفيد ذلك دون الماضي، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فعبر بالماضي ثم قال: فتصبح الأرض مخضرة، فعدل عنه إلى المضارع إرادة لتصوير اخضرارها في النفس. وعليه قوله ابن معديكرب يصور شجاعته وجرأته:
فانى قد لقيت القرن أسعى... بسهب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فيهوى... صريعا لليدين وللجران
(٤). قوله «أن تراد الحال الماضية» لعله: أن تراد حكاية الحال. (ع)
وهو الشيء الذي يأتى لوقت دون وقت وذكره البخاري تعليقا من رواية عيينة عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضى اللَّه عنها ووصله البزار والحاكم من هذا الوجه واتفق الشيخان على حديث أنس رضى اللَّه عنه «أن امرأة يهودية أتت النبي صلى اللَّه عليه وسلم بشاة مسمومة» فأكل منها الحديث وفيه: فقال: ما زلت أعرفها في لهوات النبي صلى اللَّه عليه وسلم» وروى أحمد والحاكم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك عن أبيه عن أم بشر قالت «دخلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه، فقلت: ما يتهم نفسك، فانى لا أتهم بابى إلا الطعام الذي أكله معك بخيبر. قال: وأنا لا أتهم غيرها. فهذا أو ان انقطع أبهرى» وأخرج البيهقي في الدلائل هذه القصة عن الزهري وفيها قال الزهري: قال جابر: «واحتجم يومئذ على الكاهل وبقي ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفى فيه. قال: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع الأبهر منى» وأخرج أبو داود من رواية الزهري عن جابر كذلك. وروى الطبراني والدارقطني من رواية يحيى بن عبد الرحمن بن لبيبة عن أبيه عن جده لبيبة الأنصارى رضى اللَّه عنه قال «أهدت يهودية إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم شاة مصلية مسمومة. فأكل منهما هو وبشر ابن البراء بن مصرور. فمرضا مرضا شديداً- فذكر القصة. وفيها: ثم أمر بها فصلبت» وروى معمر عن الزهري أنه قال: أسلمت. فتركها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال معمر: هكذا قال. والناس يقولون: أنها لم تسلم وإنها قتلت. قال البيهقي: ثم السهيلي: يجمع بينهما بأنه صفح عنها فلم يقتلها، لأنه كان لا ينتقم لنفسه. فلما مات بشر من تلك الأكلة قتلها به قصاصاً.
كذبوا به، واستهانوا بمجيئه، وما أشبه ذلك يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يستنصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبىّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم: وقيل معنى (يَسْتَفْتِحُونَ) يفتحون عليهم ويعرفونهم أنّ نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه. والسين للمبالغة، أى يسألون أنفسهم الفتح عليهم، كالسين في استعجب واستسخر، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من الحق كَفَرُوا بِهِ بغيا وحسداً وحرصا على الرياسة. عَلَى الْكافِرِينَ أى عليهم وضعا للظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ
أن اللَّه تعالى إنما كذبهم ورد عليهم في ادعائهم عدم الاستطاعة للايمان وسلب التمكن وعللوا ذلك بأن قلوبهم غلف وصدق اللَّه ورسوله في أنه إنما خلقهم على الفطرة والتمكن من الايمان والتأتى والتيسر له. وإنما هم اختاروا الكفر على الايمان فوقع اختيارهم الكفر مقارنا لخلق اللَّه تعالى إياه في قلوبهم بعد ما أنشأهم على الفطرة، بقيام حجة اللَّه تعالى عليهم: بأنه خلقهم متمكنين من الايمان غير مقسورين على الكفر، وذلك لا ينافي توجيه أهل السنة في اعتقاد أن اللَّه تعالى خالق ذلك في قلوبهم على وفق اختيارهم. هذا هو الحق الأبلج والصراط الأبهج واللَّه الموفق. وقول الزمخشري: إن كفرهم إنما خلقوه لأنفسهم بسبب منع ألطاف اللَّه تعالى التي تسبب المؤمنون في حصولها لهم وكانت سبباً في خلقهم الايمان في قلوبهم: كل هذا تستر من الاشراك واعتقاد آلهة غير اللَّه تخلق لنفسها ما شاءت من إيمان وكفر تعالى اللَّه عما يشركون علواً كبيرا-.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
بِئْسَمَا نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ والمخصوص بالذم أَنْ يَكْفُرُوا واشتروا بمعنى باعوا بَغْياً حسداً وطلبا لما ليس لهم، وهو علة اشتروا أَنْ يُنَزِّلَ لأن ينزل أو على أن ينزل، أى حسدوه على أن ينزّل اللَّه مِنْ فَضْلِهِ الذي هو الوحى عَلى مَنْ يَشاءُ وتقتضي حكمته إرساله فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ فصاروا أحقاء بغضب مترادف، لأنهم كفروا بنبىّ الحق وبغوا عليه. وقيل كفروا بمحمد بعد عيسى. وقيل بعد قولهم: عزيز ابن اللَّه، وقولهم: يد اللَّه مغلولة، وغير ذلك من أنواع كفرهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مطلق فيما أنزل اللَّه من كل كتاب قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا مقيد بالتوراة وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أى قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ منها غير مخالف له، وفيه ردّ لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها «١» ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادّعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوّغ قتل الأنبياء
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
وقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
خالِصَةً نصب على الحال من الدار الآخرة. والمراد الجنة، أى سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق. يعنى إن صحّ قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً. والنَّاسِ للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب، كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى. كان على رضى اللَّه عنه يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين: فقال: يا بنىّ لا يبالى أبوك على الموت سقط، أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة رضى اللَّه عنه أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم «١». يعنى
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بما أسلفوا من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم وبما جاء به، وتحريف كتاب اللَّه، وسائر أنواع الكفر والعصيان. وقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، كقوله: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا؟ قلت: لأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ، وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قلت: التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى، وليت: كلمة التمني، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك فإن قلت: لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدّقون. قلت: كم حكى عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على اللَّه وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا، فكيف يمتنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه، مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدّق مع احتمال أن يكون كاذبا لأنه أمر خافٍ لا سبيل إلى الاطلاع عليه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تهديد لهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين في قولهم: وجدت زيداً
محمدا وحزبه» ورواه أبو نعيم في الحلية. من رواية أبى سنان قال «رأيت عمار بن ياسر يوم صفين دعا بشراب فأتى بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق اللَّه ورسوله: اليوم ألاقى الأحبة: محمدا وحزبه»
(٢). لم يخرجه. وقد أخرجه الطبري من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما موقوفا. وأخرج البيهقي في الدلائل من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال لليهود «إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا. فو الذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه ومات مكانه. قالوا: فأنزل اللَّه (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) وفي البخاري من رواية عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما فال قال أبو جهل «إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لو فعل لأخذته الملائكة- زاد الإسماعيلي-: عيانا. قال ابن عباس: ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا. ولو خرج الذين يباهلون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه مثله. وزاد بعد قوله «لماتوا» «ورأوا مقاعدهم من النار». [.....]
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
(٢). قوله «زى هزار سال» زى بالفارسية بمعنى: عش. وهزار بمعنى: ألف. وسال بمعنى: عام. (ع)
وروى أنه كان لعمر رضى اللَّه عنه أرض بأعلى المدينة، وكان ممرّه على مدارس اليهود، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم، فقالوا يا عمر، قد أحببناك، وإنا لنطمع فيك فقال: واللَّه ما أجيئكم لحبكم، ولا أسألكم لأنى شاك في دينى، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإنّ ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم:
وما منزلتهما من اللَّه تعالى قالوا: أقرب منزلة، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره.
وميكائيل عدوّ لجبريل. فقال عمر: لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوّين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر، ومن كان عدواً لهما كان عدوّاً للَّه. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لقد وافقك ربك يا عمر.
فقال عمر: لقد رأيتنى في دين اللَّه بعد ذلك أصلب من الحجر «٢». وقرئ: جبرئيل، بوزن قفشليل «٣» وجبرئل بحذف الياء، وجبريل بحذف الهمزة، وجبريل بوزن قنديل، وجبرالّ بلام شديدة. وجبرائيل بوزن جبراعيل، وجبرائل بوزن جبراعل. ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة. وقيل معناه: عبد اللَّه. الضمير في نَزَّلَهُ للقرآن. ونحو هذا الإضمار- أعنى إضمار ما لم يسبق ذكره- فيه فخامة لشأن صاحبه، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفى عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته عَلى قَلْبِكَ أى حفظه إياك وفهمكه بِإِذْنِ اللَّهِ بتيسيره
(٢). أخرجه الواحدي في الأسباب من رواية داود بن أبى هند عن الشعبي، قال «كان لعمر، فذكره سواء» وأخرجه الطبري من طريق أسباط عن السدى. قال في قوله: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية قال «كان لعمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أرض بأعلى المدينة- إلى آخره- إلا أنه قال فقال عمر: والذي بعثك بالحق لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك».
(٣). قوله «بوزن قفشليل» في الصحاح: القفشليل المغرفة، فارسى معرب. (ع)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
الحكاية مرة تكون مع التزام اللفظ، ومرة تكون بالمعنى غير متبعة للفظ، فلعل الأمر في هذه الآية توجه على النبي عليه السلام أن يحكى معنى قول اللَّه تعالى له (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) بلفظ المتكلم ونظير هذا قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) إلى قوله: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) فانظر ما وقع بعد القول المنسوب إليهم مما يفهم أنه قول اللَّه عز وجل لا على سبيل الحكاية عنهم، إذ هم لا يقولون: فأنشرنا، وإنما يقولون: فأنشر، على لفظ الغيبة ولكن جاء الكلام حكاية على المعنى، لأن معنى قولهم: فأنشر اللَّه، هو معنى قول اللَّه عن ذاته: فأنشرنا، ولا يستتب لك أن يجعل هذا من باب الخروج من الغيبة إلى التكلم الذي يسمى التفاتا، فان في هذا مزيداً. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) إلى قوله: (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فأول الكلام يفهم قول موسى وآخره يفهم قول اللَّه تعالى. والطريق الجامع في ذلك ما قررته واللَّه أعلم.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت كيف استقام قوله فانه نزله جزاء للشرط... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه:
ويكون دخول الفاء في الجزاء على هذا الوجه مستحقا لسببين: أحدهما أنه جملة اسمية. والآخر أنه ماض صحيح.
(٣). قوله «فما بال الملائكة وهم أشرف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فالأنبياء أشرف. (ع)
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
(٢). قوله «بالذمام» في الصحاح: الذمام الحرمة. (ع)
(٣). قوله «لا يدخلهم فيه شك» لعله علما لا يدخلهم فيه شك. (ع)
إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه تسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به «١» سليمان من اعتقاد السحر والعمل به وسماه كفراً وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هم الذين كَفَرُوا باستعمال السحر وتدوينه يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يقصدون به إغواءهم وإضلالهم وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على السحر، أى ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. وقيل: هو عطف على ما تتلو، أى واتبعوا ما أنزل. هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من اللَّه للناس. من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لكِنْ لِتَوَقِّيهِ «٢»
(٢).
عرفت الشر لا للشر... لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر... من الناس يقع فيه
لأبى نواس. ومعنى «لكن» هنا. للاضراب الانتقالى. ويمكن أن يتوهم من قوله «لا للشر» أنه لم يعرف الشر لأجل شيء من متعلقاته رأساً فدفع هذا التوهم بقوله: لكن عرفته لتوقيه، فهي للاستدراك، أى عرفته لأجل التحفظ منه. و «من الناس» بيان لمن مؤكد للعموم، ويقع جزم في جواب الشرط، أى من جهل الشر وقع فيه، كالمار إذا جهل البئر المغطاة في طريقه. واستروحوا بذلك لجواز تعلم نحو السحر للتمكن من تجنبه. ويجوز أن «من الناس» صفة للشر، و «من» بيانية أو ابتدائية. ويروى «من الخير» أى من لم يميز الشر من الخير يقع في الشر.
أى فيتعلم الناس من الملكين ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أى علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد، ونحو ذلك مما يحدث اللَّه عنده الفرك والنشوز والخلاف «١» ابتلاء منه، لا أنّ السحر له في نفسه بدليل قوله تعالى:
وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لأنه ربما أحدث اللَّه عنده فعلا من أفعاله وربما لم يحدث وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ لأنهم يقصدون به الشر. وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرّ إلى الغواية. ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أى استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب اللَّه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من نصيب وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أى باعوها. وقرأ الحسن: الشياطون. وعن بعض العرب: بستان فلان حوله بساتون. وقد ذكر وجهه فيما بعد. وقرأ الزهري (هاروت وماروت) بالرفع على: هما هاروت وماروت. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت- وهو الكسر كما زعم بعضهم- لانصرفا. وقرأ طلحة (وما يعلمان) من أعلم، وقرئ (بين المرء) بضم الميم وكسرها مع الهمز. والمرّ، بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف، «٢» كقولهم: فرج، وإجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الأعمش: وما هم بضارّى، بطرح النون والإضافة إلى أحد والفضل بينهما بالظرف. فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءاً «٣» من المجرور. فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم في قوله: (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ؟ قلت:
معناه لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه.
(٢). قوله «على تقدير التخفيف والوقف» أى في لغة من وقف بالتضعيف (ع)
(٣). قوله «قلت جعل الجار جزءاً» ونظيره لا أبالك. (ع)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا برسول اللَّه والقرآن وَاتَّقَوْا اللَّه فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب اللَّه واتباع كتب الشياطين لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ وقرئ: لمثوبة، كمشورة ومشورة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أنّ ثواب اللَّه خير مما هم فيه وقد علموا، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم.
فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك، فإن قلت:
فهلا قيل لمثوبة اللَّه خير؟ قلت: لأنّ المعنى: لشيء من الثواب خير لهم. ويجوز أن يكون قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) تمنيا «١» لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة اللَّه إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل وليتهم آمنوا: ، ثم ابتدئ لمثوبة من عند اللَّه خير. كان المسلمون يقولون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول اللَّه، أى راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه وتحفظه. وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي «راعينا» فلما سمعوا بقول المؤمنين: راعنا، افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وهم يعنون به تلك المسبة، فهي المؤمنون عنها وأُمروا بما هو في معناها وهو انْظُرْنا من نظره إذا انتظره. وقرأ أُبىّ: أنظرنا من النظرة، أى أمهلنا حتى نحفظ وقرأ عبد اللَّه بن مسعود:
راعونا، على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع للتوقير: وقرأ الحسن: راعنا، بالتنوين من الرعن وهو الهوج، أى لا تقولوا قولا راعنا منسوبا إلى الرعن بمعنى رعنيا، كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم: راعينا، وكان سببا في السب اتصف بالرعن وَاسْمَعُوا وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان
التمني مجاز عن إرادة اللَّه تعالى لايمانهم وتقواهم من طراز تفسيره للعل بالارادة والرد عليه على سبيل ثم.
والخير الوحى، وكذلك الرحمة كقوله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحى واللَّه يختص بالنبوّة مَنْ يَشاءُ ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إشعار بأنّ إيتاء النبوّة من الفضل العظيم كقوله تعالى: (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٦ الى ١١٠]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها.
ونسؤها، تأخيرها وإذهابها. لا إلى بدل. وإنساؤها أنّ يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى أن كل آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل نَأْتِ بآية خير منها للعباد، أى بآية العمل بها أكثر للثواب أو مثلها في ذلك عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ. لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره، وقررهم على ذلك بقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ) أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى عليه السلام من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالا عليهم كقولهم: اجعل لنا إلها، أرنا اللَّه جهرة، وغير ذلك وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة، وشك فيها، واقترح غيرها فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ روى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم يروا ما أصابكم. ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلا فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال: فإنى قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت: فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت باللَّه ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيرا وأفلحتما «١». فنزلت. فإن قلت: بم تعلق قوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ؟ «٢» قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بودّ، على معنى أنهم تمنوا
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت: بم تعلق قوله من عند أنفسهم... الخ؟». قال أحمد رحمه اللَّه: يبعد الوجه الثاني دخول عند. ويقرب الأول قوله تعالى: (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ).
وإما أن يتعلق بحسدا، أى حسدا متبالغا منبعثا من أصل أنفسهم فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الذي هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم مِنْ خَيْرٍ من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ تجدوا ثوابه عند اللَّه إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يضيع عنده عمل عامل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
الضمير في وَقالُوا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله، وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه. ونحوه (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا)، والهود: جمع هائد، كعائذ وعُوذ، وبازل وبُزل. فإن قلت: كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت: حمل الاسم على لفظ «من» والخبر على معناه، كقراءة الحسن إلا من هو صالوا الجحيم. وقوله: (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها). وقرأ أبىّ بن كعب: إلا من كان يهوديا أو نصرانيا. فإن قلت: لم قيل تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنية واحدة «١» ؟ قلت:
قال أحمد رحمه اللَّه: يبعد هذا الجواب قوله تعالى عقيب ذلك: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فان البرهان المطلوب منهم هاهنا إنما هو على صحة دعواهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم. ويحقق هذا قوله: (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فإنما يعنى الجنة ونعيمها، رداً عليهم في نفى غيرهم عن دخولها ففي هذا دليل بين على أن الأمانى المشار إليها ليس إلا ما طولبوا بإقامة البرهان على صحته وهو أمنية واحدة واللَّه أعلم. والجواب القريب: أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم جمعت، ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك وإن كان مؤداه واحداً. ونظيره قولهم: معاً جياع، فجمعوا الصفة ومؤداها واحد، لأن موصوفها واحد تأكيداً لثبوتها وتمكنها. وهذا المعنى أحد ما روى في قوله تعالى: (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فانه جمع قليلا وقد كان الأصل إفراده، فيقال لشرذمة قليلة كقوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها. ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد، فنقل إلى تأكيد الواحد، وإبائه زيادته على نظرائه نقلا مجازيا بديعاً، فتدبر هذا الفصل فانه من نفائس صناعة البيان واللَّه الموفق.
اعتراض، أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل أمنيتهم هذه. والأمنية أفعولة من التمني، مثل الأضحوكة والأعجوبة هاتُوا بُرْهانَكُمْ هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين. وأنّ كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت.
و «هات» صوت بمنزلة هاء، بمعنى أحضر بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ الذي يستوجبه. فإن قلت: من أسلم وجهه كيف موقعه؟ قلت: يجوز أن يكون (بَلى) ردّاً لقولهم، ثم يقع (مَنْ أَسْلَمَ) كلاما مبتدأ، ويكون (مَنْ) متضمنا لمعنى الشرط، وجوابه (فَلَهُ أَجْرُهُ)، وأن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعلا لفعل محذوف، أى بلى يدخلها من أسلم، ويكون قوله: (فَلَهُ أَجْرُهُ) كلاما معطوفا على يدخلها من أسلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
عَلى شَيْءٍ أى على شيء يصح ويعتدّ به. وهذه مبالغة عظيمة، لأنّ المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء «٢»، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده «٣». وهذا كقولهم: أقل من لا شيء وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الواو للحال، والكتاب
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «هذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وتفسيره الشيء مخالف لفريقى أهل السنة والبدعة، فانه عند أهل السنة قاصر على الموجود وعند المعتزلة يطلق على الموجود وعلى المعدوم الذي يصح وجوده، فليس متناولا للمحال بحال عندهما، وقد تقدم له مثله.
(٣). قوله «إلى ما ليس بعده» لعل المعنى: إلى حد ليس بعده حد. (ع)
وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضربا وأبلغ إليه في العقوبة. وقيل: نادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «ألا لا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عريان «١» » وقرأ عبد اللَّه: إلا خيفا، وهو مثل صيم «٢». وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد: فجوّزه أبو حنيفة رحمه اللَّه، ولم يجوّزه مالك، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقيل: معناه النهى عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه، كقوله: (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ). خِزْيٌ قتلٌ وسبىٌ، أو ذلة بضرب الجزية. وقيل: فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها للَّه هو مالكها ومتوليها فَأَيْنَما تُوَلُّوا ففي أى مكان فعلتم التولية، يعنى تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى:
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أى جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أى بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص إسكانها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم عَلِيمٌ بمصالحهم. وعن ابن عمر نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وعن عطاء: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل: معناه فأينما تولوا للدعاء والذكر ولم يرد الصلاة. وقرأ الحسن: فأينما تولوا، بفتح التاء من التولي يريد: فأينما توجهوا القبلة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦)
وَقالُوا وقرئ بغير واو، يريد الذين قالوا المسيح ابن اللَّه وعزير ابن اللَّه والملائكة بنات اللَّه. سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك وتبعيد بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون، لا يمتنع شيء منه على
(٢). قوله «وهو مثل صيم» في الصحاح: قوم صوم وصيم. (ع)
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٧]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
يقال بدع الشيء فهو بديع، كقولك: بزع الرجل «١» فهو بزيع. وبَدِيعُ السَّماواتِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أى بديع سماواته وأرضه. وقيل البديع بمعنى المبدع، كما أنّ السميع في قول عمرو:
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِى السَّمِيعُ «٢»
بمعنى المسمع وفيه نظر كُنْ فَيَكُونُ من كان التامّة، أى أحدث فيحدث. وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم، كما لا قول في قوله:
إذْ قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ «٣»
وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء.
(٢). مر شرح هذا الشاهد صفحة ٦٠ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣).
إذا قالت الأنساع للبطن الحق | قدوما فآضت كالفنيق المحنق |
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وقال الجهلة من المشركين، وقيل من أهل الكتاب، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؟ استكباراً منهم وعتوا أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات اللَّه آيات، واستهانة بها تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أى قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى، كقوله: (أَتَواصَوْا بِهِ). قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتسرية عنه، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر. ولا نسألك عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم، كقوله: (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وقرئ: (وَلا تُسْئَلُ) على النهى. روى أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواى، فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء اللَّه. وقيل: معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول: كيف فلان؟ سائلا عن الواقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجرى على لسانه ما هو فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل.
وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد اللَّه: ولن تسئل، وقراءة أبىّ: وما تسئل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٠]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا، إقناطا منهم لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام، فحكى اللَّه عزّ وجلّ كلامهم، ولذلك قال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم مؤمنون أهل الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بكتابهم دون المحرفين وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ من المحرفين فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الضلالة بالهدى
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ اختبره بأوامر ونواه. واختبار اللَّه عبده مجاز عن تمكينه عن اختيار «١» أحد الأمرين: ما يريد اللَّه، وما يشتهيه العبد، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. وقرأ أبو حنيفة رضى اللَّه عنه وهي قراءة ابن عباس رضى اللَّه عنه: (إبراهيمُ ربَّه) رفع إبراهيم ونصب ربه. والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت: الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر. قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربه إبراهيم. فأما ابتلى إبراهيم ربه، أو ابتلى ربه إبراهيم، فليس واحداً منهما بإضمار قبل الذكر. أما الأوّل فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكرا ظاهرا. وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدّم في المعنى، وليس كذلك: ابتلى ربه إبراهيم. فإن الضمير فيه قد تقدم لفظا ومعنى فلا سبيل إلى
سأكرمك، فتقول: وزيدا لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وقرئ: الظالمون، أى من كان ظالما من ذرّيتك. لا يناله استخلافى وعهدى إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم.
وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه اللَّه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علىّ رضوان اللَّه عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، كالدوانيقى وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد اللَّه بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونى على عدّ آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للامامة، والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم. والْبَيْتَ
وقرئ: مثابات، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) وَاتَّخِذُوا على إرادة القول، أى وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه. وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «أنه أخذ بيد عمر فقال: هذا مقام ابراهيم، فقال عمر أفلا نتخذه مصلى- يريد أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه تبركا به وتيمنا بموطئ قدم إبراهيم- فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت» «١». وعن جابر بن عبد اللَّه «أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) «٢» وقيل:
مصلى مدعى. ومقام إبراهيم: الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه سأل المطلب بن أبى وداعة: هل تدرى أين كان موضعه الأوّل؟ قال: نعم، فأراه موضعه اليوم. وعن عطاء (مَقامِ إِبْراهِيمَ) عرفة والمزدلفة والجمار، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها. وعن النخعي:
الحرم كله مقام إبراهيم. وقرئ (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفا على: (جَعَلْنَا) أى واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذرّيته عنده قبلة يصلون إليها عَهِدْنا أمرناهما أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهرا، أو أى طهرا. والمعنى طهراه من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم وَالْعاكِفِينَ المجاورين الذين عكفوا عنده، أى أقاموا لا يبرحون، أو المعتكفين. ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعنى القائمين في الصلاة، كما قال: (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، والمعنى: للطائفين والمصلين، لأنّ القيام والركوع والسجود هيآت المصلى.
(٢). هكذا ذكره. والذي في صحيح مسلم في الحديث الطويل في صفة الحج «أنه قرأ الآية لما فرغ من الطواف ثم صلى»
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)أى اجعل هذا البلد أو هذا المكان بَلَداً آمِناً ذا أمن، كقوله: (عِيشَةٍ راضِيَةٍ). أو آمنا من فيه، كقوله: ليل نائم. ومَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من أهله، يعنى وارزق المؤمنين من أهله خاصة. وَمَنْ كَفَرَ عطف على من آمن كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في جاعلك فإن قلت: لم خص إبراهيم صلوات اللَّه عليه المؤمنين حتى ردّ عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة فعرّف الفرق بينهما، لأنّ الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعى، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له. والمعنى:
وأرزق من كفر فأمتعه. ويجوز أن يكون (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ متضمنا معنى الشرط. وقوله (فَأُمَتِّعُهُ) جوابا للشرط، أى ومن كفر فأنا أمتعه. وقرئ فأمتعه فأضطره «١» فألزه إلى عذاب النار لزّ المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، وقرأ أبىّ: فنمتعه قليلا ثم نضطره.
وقرأ يحيى بن وثاب: فاضطره، بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس فأمتعه قليلا ثم اضطره، على لفظ الأمر. والمراد الدعاء من إبراهيم دعا ربه بذلك. فإن قلت: فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟ قلت: في: (قال) ضمير إبراهيم، أى قال إبراهيم بعد مسألته اختصاص المؤمنين بالرزق: ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره. وقرأ ابن محيصن: فاطره، بإدغام الضاد في الطاء كما قالوا: اطجع، وهي لغة مرذولة، لأنّ الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف «ضم شفر».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
البناء «١» عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء «٢» لأنّ كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه. ومعنى رفع القواعد: رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافا فوق ساف فقد رفع السافات. ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت- أى استوطأ- يعنى جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء، وروى أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم فبنى على الأساس. وروى أن اللَّه تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد: شرقى وغربي، وقال لآدم عليه السلام:
أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا، وتلقته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام «٣» وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه اللَّه أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور ثم إن اللَّه تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرّفه جبريل مكانه. وقيل بعث اللَّه سحابة أظلته: ونودي: أن ابن على ظلها لا نزد ولا تنقص. وقيل: بناه من خمسة أجبل طور سينا، وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وأسسه من حراء. وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء. وقيل: تمخض أبو قبيس فانشق عنه، وقد خبئ فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من الجنة، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسودّ. وقيل كان إبراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة رَبَّنا أى يقولان ربنا. وهذا الفعل في محل النصب على الحال، وقد أظهره عبد اللَّه في قراءته،
(٢). قوله «المراد بها سافات البناء» قوله «سافات» عبارة أبى السعود. والفخر «ساقات» بالقاف بدل الفاء.
والصواب أنه بالفاء كما في الصحاح في باب الفاء: الساف: كل عرق من الحائط. (ع)
(٣). أخرجه الفاكهي في كتاب مكة من رواية الضحاك هو ابن مزاحم. قال: قال حذيفة: وسلمان الفارسي «سمعنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول إن اللَّه أنزل البيت من ياقوتة حمراء نزلت به الملائكة مع آدم، فنزلت به في الحرم ونزل آدم في الهند في جبل يقال له واشب بأرض الهند ونزل إبليس بالحرم فحول اللَّه إبليس إلى أرض الهند وحول آدم إلى الحرم. الحديث. وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه أيضا من طريق ابن إدريس عن أبيه عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه سأل كعبا قال: أخبرنى عن بناء هذا البيت ما كان أمره؟ فقال: إن هذا البيت، أنزله اللَّه من السماء ياقوتة حمراء مجوفة مع آدم» وفي رواية النهاس بن قهم: سمعت عطاء يقول «قال آدم يا رب أين توجهني؟ قال تبنى لي بتهامة بيتا مما يلي البحر يطاف حوله، كما تطوف الملائكة حول عرشي. ويصلى عنده كما تصلى الملائكة عند عرشي. فأقبل نحو البيت. مما يلي الصفا. فطاف بالبيت وصلى عنده. قال النهاس: وحدثني عقيل على بن سفيان. حدثنا عطاء عن عبد اللَّه بن عمرو بمثله وقال الفاكهي في كتاب مكة أيضا: حدثنا ابن عمرو.
حدثنا سفيان عن ابن أبى لبيد قال «حج آدم فتلقته الملائكة فقالوا: أبر نسكك. فقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» وهكذا هو في جامع سفيان بن عيينة.
لم خصا ذرّيتهما بالدعاء؟ قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)، ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير. ألا ترى أن المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد، كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل: أراد بالأمة أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم وَأَرِنا منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرّف. ولذلك لم يتجاوز مفعولين، أى وبصرنا متعبداتنا في الحج، أو وعرفناها. وقيل: مذابحنا. وقرئ: وأرنا، بسكون الراء قياس على فخذ في فخذ. وقد استرذلت، لأنّ الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها، فإسقاطها إجحاف. وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة. وقرأ عبد اللَّه: وأرهم مناسكهم. وَتُبْ عَلَيْنا ما فرط منا «١» من الصغائر أو استتابا لذرّيتهما وَابْعَثْ فِيهِمْ في الأمة المسلمة رَسُولًا مِنْهُمْ من أنفسهم. وروى أنه قيل له: قد استجيب لك وهو في آخر الزمان، فبعث اللَّه فيهم محمداً صلى اللَّه عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام «أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى أخى عيسى ورؤيا أمى «٢»
(٢). أخرجه أحمد والبزار وابن حبان. والطبراني والحاكم من حديث العرباض بن سارية: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول «إنى عبد اللَّه وخاتم النبيين، وأبى آدم منجدل في طينته وأخبركم عن ذلك. دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى التي رأت- الحديث» ولأحمد من حديث أبى أمامة رضى اللَّه عنه «قلت:
يا رسول اللَّه. ما كان بدؤ أمرك قال: دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمى أنه خرج منها نور أضاءت به قصور الشام» ورواه البيهقي في الشعب. ثم قال «أما دعوة إبراهيم فهي قوله: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) وأما بشارة عيسى فهي قوله تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). قال: وأما رؤيا أمه فذكر ابن إسحاق في السيرة قال «كانت آمنة بنت وهب أم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تحدث أنها أتيت» ولأبى يعلى عن شداد بن أوس رفعه «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخى عيسى ابن مريم، وأن أمى رأت في المنام نوراً قالت: فجعلت أتبع بصرى النور فجعل النور يسبق بصرى حتى أضاء لي مشارق الأرض ومغاربها» وللحاكم في المستدرك من طريق ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان عن أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «قالوا: يا رسول اللَّه أخبرنا عن نفسك قال: دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمى أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣١]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)
وَمَنْ يَرْغَبُ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم. ومَنْ سَفِهَ في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب، وصح البدل لأنّ من يرغب غير موجب، كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد (سَفِهَ نَفْسَهُ) امتهنها واستخف بها.
وأصل السفه: الخفة. ومنه زمام سفيه. وقيل انتصاب النفس على التمييز، نحو: غبن رأيه وألم رأسه. ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله:
وَلَا بِفَزَارَةَ الشُّعُرِ الرِّقَابَا «١»
أجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ «٢»
فما قومي بثعلبة بن سعد | ولا بفزارة الشعر الرقابا |
وقومي- إن سألت- بنو لؤي | بمكة علموا مضر الصوابا |
تمييز معرفة على رأى الكوفيين. وأشعر الرقبة يطلق على الأسد، وعلى أغم القفا- وهو المراد. يقول: ليس قومي هؤلاء الأخسة، وإنما أنا من بنى لؤي. وإن سألت: اعتراض بين المبتدأ وخبره. ومضر، والصواب:
مفعولان لعلموا.
(٢).
فان يهلك أبو قابوس يهلك | ربيع الناس والشهر الحرام |
ونأخذ بعده بذئاب عيش | أجب الظهر ليس له سنام |
أى مكة. شبهه بها في الأمان أيضا. ويجوز أن المعنى إن يهلك هو يهلك تبعا له عطاؤه وجاهه الشبيهان بالربيع وبالشهر الحرام في النفع والأمان، وكل ذلك على سبيل الاستعارة التصريحية. ويجوز أنه كان يحفظ لهم ربيعهم عن رعى غيرهم وحرمة شهرهم عن هتكها، بأن يغار عليهم فيه، فلا استعارة إلا في هلاك الشهر. وروى نأخذ: بالحركات الثلاث، وكذلك كل مضارع معطوف على جواب الشرط، فالجزم على العطف، والرفع على الاستئناف. والنصب بإضمار إن لشبه الشرط بالنفي، لكنه قليل. والذناب- بالكسر-: ذنب البعير والفرس، وعقب كل شيء. وشبه العيش الضنك الضيق الناقص ببعير مهزول على طريق المكنية. والذناب، والظهر، والسنام- بالفتح- تخييل، وأجب الظهر: منقطعه، أى ونتمسك بعده بطرف عيش وبقية منه ضيقة قليلة، كالبعير المقطوع الظهر، وبين ذلك بقوله: ليس له سنام. وأجب: صفة مشبهة ممنوع من الصرف، فيجر بالفتحة على الصفة لعيش. وقيل نصب على الحال. وروى بالرفع على الخبرية لمحذوف، ويروى الظهر بالرفع، فاعلا للصفة، أو بدلا من الضمير فيها وفتحه النحاة، وبالنصب تشبيها بالمفعول أو تمييزاً على مذهب من ميز بالمعرفة وضعفوه وبالجر باضافة أجب إليه فيجر أجب بالكسرة، وحسنوا هذا.
وأخرجه الطبراني من رواية ابن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال «قلت يا رسول اللَّه أمن الكبر أن ألبس الثوب الحسن؟ قال: لا. قلت: فما الكبر؟ فذكره» ورواه البخاري في الأدب المفرد. من طريق الصعب بن زهير عن زيد بن أسلم قال لا نعلمه إلا عن عطاء بن يسار عن عبد اللَّه بن عمرو قال «جاء رجل فقال يا رسول اللَّه: الكبر أن يكون لأحدنا حلة يلبسها؟ قال: لا... الحديث» وأخرجه أيضا من رواية عبد العزير ابن محمد. وأخرجه البزار. من رواية أبى بكر بن أبى سبرة. وأخرجه أحمد في الزهد من رواية هشام بن سعد كلهم عن زيد به. وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبد اللَّه بن موسى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر فذكر حديثا وفيه: فقال معاذ «يا رسول اللَّه أمن الكبر أن يكون لأحدنا الدابة فيركبها، أو النعلان، أو الثياب يلبسها، أو الطعام يجمع عليه أصحابه؟ قال: لا. ولكن الكبر أن يسفه الحق ويغمص المؤمنين» وموسى ضعيف.
وفي الطبراني من رواية عبد الحميد بن سليمان، عن عمارة بن غزية عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. أن عبد اللَّه ابن عمرو قال «يا رسول اللَّه، أمن الكبر أن ألبس الحلة الحسنة؟ الحديث» وأخرجه الطبراني في الأوسط، ومسند الشاميين عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر نحوه، وفي الباب عن أبى هريرة: أخرجه ابن حبان وأخاكم من طريق ابن سيرين عنه، وعن ابن مسعود، أخرجه إسحاق وأبو يعلى والحاكم: أن مالك بن مرارة الرهاوي.
قال «يا رسول اللَّه إن لي من الجمال ما ترى، وإنى لا أحب أحداً ان يفضلني بشركين فما فوقهما. أفهذا من البغي؟
قال: لا. الحديث» وعن أبى ريحانة. أخرجه أحمد والطبراني. وعن ثابت بن قيس، أخرجه الدارمي والطبراني.
وعن سوداء بن عمرو والحسين بن على أخرجهما الطبراني. وعن ابن عباس. أخرجه عبد بن حميد وعن عقبة بن عامر أخرجه أبو مسلم في الجامع من السنن له. [.....]
(٢). قوله «وتغمص الناس» أى تستصغرهم وتعيبهم. أفاده الصحاح (ع)
(٣). قوله «في إذالة نفسه» أى إهانتها. أفاده الصحاح (ع)
اخترناه في ذلك الوقت. أو انتصب بإضمار «اذكر» استشهاداً على ما ذكر من حاله. كأنه قيل:
اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله. ومعنى قال له: أسلم، أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام قالَ أَسْلَمْتُ أى فنظر وعرف.
وقيل أسلمْ: أى أذعنْ وأطعْ. وروى أنّ عبد اللَّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أنّ اللَّه تعالى قال في التوراة: إنى باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون. فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فنزلت.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٢]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
قرئ: وأوصى، وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام. والضمير في بِها لقوله أسلمت لرب العالمين على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) إلى قوله: (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وقوله: كلمة باقية، دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة وَيَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، داخل في حكمه. والمعنى: ووصى بها يعقوب بنيه أيضا.
وقرئ: ويعقوب، بالنصب عطفا على بنيه. ومعناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين. وعند الكوفيين يتعلق بوصي، لأنه في معنى القول.
ونحوه قول القائل:
رَجْلَانِ مِنْ ضَبَّةَ أخْبَرَانَا | إنّا رَأيْنَا رَجُلًا عُرْيَانَا «١» |
ووفقكم للأخذ به فَلا تَمُوتُنَّ معناه فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، كقولك: لا تصلّ إلا وأنت
لا تصلِّ إلا في المسجد: وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم. وتقول في الأمر أيضا: مت وأنت شهيد. وليس مرادك الأمر بالموت. ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته، وإظهاراً لفضلها على غيرها، وأنها حقيقة بأن يحث عليها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ هي أم المنقطعة «٢». ومعنى الهمزة فيها الإنكار. والشهداء جمع شهيد، بمعنى الحاضر: أى ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت، أى حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك «٣» وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحى. وقيل
والدارقطني وابن عدى. والعقيلي من حديث جابر. وفيه محمد بن مسكين. وهو ضعيف. وأخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة عمر بن راشد عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة، وقال كان عمر بن راشد يضع الحديث. وقد صح موقوفا عن على رضى اللَّه عنه. أخرجه ابن أبى شيبة
(٢). قوله «هي أم المنقطعة» هي تفسير ببل والهمزة. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «الخطاب فيه للمؤمنين بمعنى ما شاهدتم... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وإنما اختار على هذا التفسير أن تكون متصلة، لأنه لو جعلها منقطعة كالأول، لكان مضمون الكلام نفى شهود المخاطبين وهم اليهود على هذا التفسير الثاني، لوفاة يعقوب والوصية بالإسلام، وحينئذ يكون ذلك كاقامة حجتهم على جحد الإسلام وإنكار أن يكون الأنبياء مسلمين والغرض ضد ذلك. وإنما كان الكلام يقتضى النفي حينئذ، لأن الاستفهام من اللَّه تعالى لا يحمل على ظاهره، فتعين صرفه إلى الإنكار، لأن السياق يقتضيه. ولهذا كان نفيا لشهود المسلمين وفاة يعقوب ووصيته على التفسير الأول، لا سيما والمعتاد خطاب اليهود المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام بما يخاطب به أوائلهم، تنزيلا لعلمهم ورضاهم منزلة حضورهم وتعاطيهم، كقوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً)، (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) إلى أشباه ذلك، فإذا كانت أم متصلة والخطاب لليهود فقد جرى الأمر في خطابهم على المعتاد، وإذا كانت منقطعة انعكس الأمر.
وَفَدَّيْنَنَا بالْأَبِينَا «٤»
إِلهاً واحِداً بدل من إله آبائك، كقوله تعالى: (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) أو على
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا ابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد. قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «احفظوني في العباس فانه بقية آبائي. وإن عم الرجل صنو أبيه» ورواه الطبراني في الأوسط من رواية موسى بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن عن أبيه عن جده عن الحسن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال «احفظوني- فذكر مثله» ورواه في الكبير من حديث ابن عباس من وجهين.
(٣). قال ابن أبى شيبة في المغازي في مصنفه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة. قال: «لما وادع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أهل مكة الحديث» إلى أن قال «فانطلق العباس فركب بغلة النبي صلى اللَّه عليه وسلم الشهباء وانطلق إلى قريش ليدعوهم إلى اللَّه فأبطأ عليه. يقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ردوا على أبى فان عم الرجل صنو أبيه. إنى أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود:
دعاهم إلى اللَّه فقتلوه. أما واللَّه لئن ركبوها منه لأضر منها عليهم ناراً.
(٤).
فلما تبين أصواتنا... بكين وفديننا بالأبينا
يقول لما تبين النساء أصواتنا في الحرب وعرفتها، بكين شفقة علينا ورحمة لنا، وفديننا: أى كل واحدة تقول:
فداكم أبى، أو تقول لصاحبتها: فداك أبى. والأبينا: جمع أب معرب إعراب جمع التصحيح.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٤]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
تِلْكَ إشارة إلى الأمّة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون. والمعنى:
أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم. ونحوه قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «يا بنى هاشم، لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم «١» » وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ولا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تنفعكم حسناتهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بل تكون ملة إبراهيم أى أهل ملته كقول عدىّ بن حاتم. إنى من دين «٢» » يريد من أهل دين. وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ: (ملة إبراهيم) بالرفع، أى ملته ملتنا، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته. وحَنِيفاً حال من المضاف إليه، كقولك:
رأيت وجه هند قائمة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. والحنف: الميل في القدمين. وتحنف إذا مال. وأنشد:
وَلكِنّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا | حَنِيفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِينِ «٣» |
(٢). أخرجه ابن سعد من رواية ابن سيرين عن أبى عبيدة بن حذيفة. قال: قال عدى بن حاتم. فذكر قصة إسلامه. وفيه فقال لي النبي صلى اللَّه عليه وسلم «يا عدى، أسلم تسلم. قال: إنى من دين. قال أنا أعلم بدينك منك»
(٣). الحنف والتحنف: الميل. والحنيف: المائل عن الباطل إلى الحق. يقول: خلقنا حال كوننا مائلا ديننا عن الأديان الباطلة كلها إلى دين أبينا إبراهيم، لأن العرب اتفقت على أنه حق، وذلك من وقت ابتداء خلقنا، فإذا:
ظرف للخلق الأول بعد تقييده بالحال بعده.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٧]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
والسبط: الحافد. وكان الحسن والحسين سبطي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَالْأَسْباطِ حفدة يعقوب ذرارىّ أبنائه الاثني عشر لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى. و (أَحَدٍ) في معنى الجماعة «١». ولذلك صح دخول (بين) عليه بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين، فقيل: فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير، أى: فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا. وفيه أنّ دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه. هذا هو الرأى الصواب، فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك. ولكنك تريد تبكيت صاحبك، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأى وراءه.
ويجوز أن لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم أى فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: بما آمنتم به، وقرأ أبى: بالذي آمنتم به. وَإِنْ تَوَلَّوْا عما تقولون لهم ولم ينصفوا فما هم إلا
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
صِبْغَةَ اللَّهِ مصدر مؤكد منتصب على قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ) كما انتصب (وعد اللَّه) عما تقدمه، وهي «فعلة» من صبغ، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى: تطهير اللَّه، لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا باللَّه، وصبغنا اللَّه بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا. أو يقول المسلمون. صبغنا اللَّه بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة، كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرم وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً يعنى أنه يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أو ضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته. وقوله وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ عطف على آمنا باللَّه. وهذا العطف يردّ قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللَّهِ) بدل من (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة اللَّه، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه، «٢» وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٩ الى ١٤١]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
وأصله الهمز. (ع)
(٢). قوله «واتساقه» في الصحاح: الاتساق الانتظام. وفيه أيضا: التنسيق التنظيم. (ع)
بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضا، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ يعنى أن اللَّه شهد لهم بملة الإسلام في قوله: (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً). وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أى كتم شهادة اللَّه التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ويحتمل معنيين: أحدهما أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة اللَّه لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته. (ومن) في قوله: (شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) مثلها في قولك: هذه شهادة منى لفلان إذا شهدت له، ومثله (بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
ونحوه قوله عليه السلام: «وأنطوا «٢» الثبجة «٣» » يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفا بالثبج وهو وسط الظهر، إلا أنه الحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف. وقيل: للخيار: وسط «٤» لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأعوار والأوساط محمية محوّطة. ومنه قول الطائي:
كَانَتْ هِىَ الْوَسَطَ المَحْمِىَّ فَاكْتَنَفَتْ | بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا «٥» |
ولهذه النكتة أجرى من حذو النظار في إدراج مناظرتهم العمل بمقتضى الذي هو كذا، السالم عن معارضة كذا، فسيقول: درء للمعارض قبل ذكر الخصم له، وهي نكتة بديعة أحسن ما يستدل على صحتها بهذه الآية. فتفطن لها فإنها من الملح.
(٢). قوله «وأنطوا الثبجة» لغة في أعطوا. (ع)
(٣). يأتى في الكوثر
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «وقيل للخيار وسط... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا مما اقتضى المجاز فيه التعميم
(٥).
وغيضة الموت أعنى البذ قدت لها | عرمرما لخروق الأرض معتسفا |
كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت | بها الحوادث حتى أصبحت طرفا |
والمعتسف: الحائد عن الطريق لكثرته. شبه ذلك الموضع بالغيضة على سبيل التهكم بأصحابه، لأنها تضاف للماء، فأضافها للموت. وشبه الجيش في الانقياد بالإبل على طريق المكنية وقودهم تخييل، وكنى بالوسط عن التي لا يصل إليها الخلل لأنها محمية بالأطراف فاكتنفت وأحاطت بها الحوادث، يعنى جيوش المعتصم، حتى أصبحت تلك الغيضة طرفا فلحقها الخلل ومكاره الجيش.
أو عدولا، لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ روى «أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب اللَّه الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار اللَّه في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعد التهم «١» » وذلك قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً). فإن قلت: فهلا قيل لكم شهيدا وشهادته لهم لا عليهم «٢» ؟
قلت: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له، جيء بكلمة الاستعلاء. ومنه قوله تعالى:
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم. فإن قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدّمت آخرا «٣» ؟ قلت: لأن الغرض في
وفي البخاري من حديث أبى سعيد الخدري. قال «يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول:
هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول:
محمدا وأمته. فيشهدون أنه بلغ ثم قرأ (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) - الآية ورواه البيهقي في البعث والنشور من رواية أبى معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يجيء النبي يوم القيامة ومعه الثلاثة والأربعة والرجلان، حتى يجيء النبي وليس معه أحد، فتدعى أمة محمد فيشهدون أنهم بلغوا.
فيقال لهم: وما علمكم أنهم بلغوا فيقولون: جاءنا رسولنا بكتاب أخبرنا فيه أنهم قد بلغوا فصدقنا. قال فيقال:
صدقتم. وذلك قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فهلا قيل لكم شهيداً وشهادته لهم لا عليهم... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وجه الاستدلال بالآية أنه وصف اللَّه تعالى في أولها بالرقيب وفي آخرها بالشهيد على وجه التخصيص أولا ثم التعميم ثانيا: وإنما ينتظم التعميم والتخصيص مع اتحاد مؤدى الرقيب والشهيد، إذ الآية في مثل قول القائل لمن شكره: كنت محسنا إلى وأنت بكل أحد محسن. وكأنه لما قال: (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)
وكان ذلك مخصصا لرقيبته تعالى على بنى إسرائيل، أراد أن يصفه بما هو أهله حتى ينفى وهم الخصوصية فقال في التقدير: وأنت على كل شيء كذلك، فوضع «شهيداً» موضع «كذلك» المشار به إلى رقيبيته، فلا يتم الاستدلال بها إلا على هذا الوجه.
وفيه غموض على كثير من الأفهام واللَّه الموفق.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخراً... الخ؟» قال أحمد رحمه اللَّه:
لأن المنة عليهم في الطرفين، ففي الأول بثبوت كونهم شهداء وفي الثاني بثبوت كونهم مشهوداً لهم بالتزكية خصوصاً من هذا الرسول المعظم ولو قدم شهيداً لانتقل الغرض إلى الامتنان على النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شهيد. وسياق الخطاب لهم والامتنان عليهم يأباه. وإنما أخذ الزمخشري الاختصاص من التقديم لأن فيه إشعار بالأهمية والعناية، وكثيراً ما يجرى أى ذلك في أثناء كلامه، وفيه نظر.
كيف قال: (لِنَعْلَمَ) ولم يزل عالما بذلك؟ قلت: معناه: لنعلمه علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلا ونحوه: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). وقيل: ليعلم رسول اللَّه والمؤمنون.
وإنما أسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده. وقيل: معناه لتميز التابع من الناكص، كما قال: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فوضع العلم موضع التمييز لأنّ العلم به يقع التمييز به وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً هي إن المخففة التي تلزمها اللام الفارقة. والضمير في: (كانت) لما دل عليه قوله: (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الردّة، أو التحويلة، أو الجعلة. ويجوز أن يكون للقبلة (لَكَبِيرَةً) لثقيلة شاقة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول الذين لطف اللَّه بهم وكانوا أهلا للطفه وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى ثباتكم على الايمان وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم. ويجوز أن يراد: وما كان اللَّه ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم. وقيل: من كان صلى إلى بيت المقدس قبل
وَجِيرَانٍ لَنَا كانُوا كِرَامِ «٣»
والأصل: وإن هي لكبيرة، كقولك: إن زيد لمنطلق ثم، وإن كانت لكبيرة وقرئ: ليضيع بالتشديد
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
قَدْ نَرى ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية «٤». كقوله:
(٢). هو في الذي بعده.
(٣).
فكيف إذا مررت بدار قوم | وجيران لنا كانوا كرام |
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «معناه كثرة الرؤية... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا من المواضع التي تبالغ العرب فيها بالتعبير عن المعنى بضد عبارته. ومنه: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) والمراد كثرة مودتهم للإسلام في القيامة وعند معاينة جزائه وثوابه، وكذلك: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) ومراده إظهار عنادهم بأن علمهم برسالته يقينى مؤكد، ومع ذلك يكفرون به.
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل عليه السلام والوحى بالتحويل فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا. إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس تَرْضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة اللَّه وحكمته شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه. قال:
وَأظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ
وقرأ أبىّ: تلقاء المسجد الحرام. وعن البراء بن عازب قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة «٢» وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمى المسجد مسجد القبلتين «٣». و (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) نصب على الظرف، أى اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أى في جهته وسمته «٤» لأن
قد أترك القرن مصفرا أنامله | كأن أثوابه مجت بفرصاد |
أو جرته ونواصي الخيل معلمة | سمر أعاملها من خلفها نادى |
والفرصاد: ماء التوت، وهو أحمر. والايجار: السقي كرها. ونواصي الخيل: شعور رءوسها. والمعلمة: المشهورة بعلامات. والسمراء: القناة. وعاملها في الأصل: هو ما يلي السنان منها، فاستعاره لما يأتى مبالغة. ويقال:
نأدته الداهية نأداً، إذا فدحته وبلغت منه، وخفف الناد هنا بابدال الهمزة ألفا، أى كثيراً ما أترك قرينى في الشجاعة قتيلا ملطخة أثوابه بدمه أسقيته رمحا عاملها من خلفها شدة ضربي. ويروى: ثادى، بالمثلثة. والثاد- بالهمز وقد يخفف-: الندى والمطر. وأما الثادى- اسم فاعل- فهو السحاب الكثير المطر، أى سقيته، والحال أن نواصي الخيل مسومة رمحاً عاملها من خلفها شدة ضربي الشبيهة بالندى أو بالسحاب، وذلك مناسب للإيجاز.
ويروى: سمر، كحمر، فهو خبر ثان. وأعاملها: مضارع. وناد: مفعول أو جرته وفيه نوع التهكم. وروى
لزهير تكميل البيت الأول بقوله | يميد في الرمح ميد المائح الأسن |
(٢). متفق عليه من طريق أبى إسحاق عنه. وفيه «وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت- الحديث» وفي رواية لابن حبان «وكان يحب أن يحول نحو البيت».
(٣). أخرجه الواقدي في المغازي ونقله عن ابن سعد ثم أبو الفتح اليعمري
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «الشطر النحو والسمت... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وقد نقل أصحابنا المالكية خلافا عن المذهب في الواجب فقيل: الجهة. وقيل: العين، هذا مع البعد. وأما حيث تشاهد الكعبة في المسجد الحرام فمن خرج عن السمت ثم لم تصح صلاته قولا واحداً، ثم لهم على كل واحد من القولين إشكال. أما على قول العين فيلزم أن لا تصح صلاة الصف المستقيم المستطيل زيادة على مسامتة الكعبة شرفها اللَّه تعالى، لأنا نعلم بالضرورة- وإن لم نشاهد- أن بعضهم يصلى إلى غير عينها، إذ لا يفي سمتها بذلك على هذا التقدير. لكن الجواز في مثل هذا مع البعد متفق عليه. وأما على قول الجهة فيلزم تجويز صلاة الكائن في الشمال مثلا إلى الجهات الثلاث، لأنها كلها جهات الكعبة، والسمت غير مراعي على هذا المذهب، وإنما جاء هذا الخبط من عدم التمييز بين مراعاة الجهة والسمت، ولقد ميزهما أبو حامد بمثال هندسي في كتاب الأحياء فلا تطول بذكره. والتحقيق عند الفتوى: أن المعتبر مع البعد الجهة لا السمت.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٨]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
(يَعْرِفُونَهُ) يعرفون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه سأل عبد اللَّه بن سلام عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أنا أعلم به منى بابني. قال:
ولم؟ قال: لأنى لست أشك في محمد أنه نبى. فأما ولدى، فلعل والدته خانت، فقبل عمر رأسه.
وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع. ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوما بغير إعلام. وقيل الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة. وقوله: (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد اللَّه بن سلام. فإن قلت: لم اختص الأبناء «١» ؟ قلت: لأنّ الذكور أشهر وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. وقال فَرِيقٌ مِنْهُمْ استثناء لمن آمن منهم، أو لجهالهم الذين قالوا: يقال فيهم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ). الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدإ محذوف. أى هو الحق. أو مبتدأ خبره (مِنْ رَبِّكَ) وفيه وجهان: أن تكون اللام للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو إلى الحق الذي في قوله ليكتمون الحق. أى: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من اللَّه لا من غيره. يعنى أن الحق ما ثبت أنه من اللَّه كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من اللَّه كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل. فإن قلت: إذا جعلت الحق خبر مبتدإ فما محل من ربك؟
قلت: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون حالا. وقرأ علىّ رضى اللَّه عنه: الحق من ربك.
من أهل الأديان المختلفةجْهَةٌ
قبلة. وفي قراءة أبىّ: ولكل قبلةوَ مُوَلِّيها
وجهه، فحذف أحد المفعولين. وقيل هو للَّه تعالى، أى اللَّه موليها إياه. وقرئ: َ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ)
على الإضافة. والمعنى وكل وجهة اللَّه موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، أى هو مولى تلك الجهة وقد وليها. والمعنى: لكل أمّة قبلة تتوجه إليها، منكم ومن غيركم اسْتَبِقُوا
أنتمْ خَيْراتِ
واستبقوا إليها «١» غيركم من أمر القبلة وغيره.
ومعنى آخر: وهو أن يراد: ولكل منكم يا أمة محمد وجهة أى جهة يصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية فاستبقوا الخيرات يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
للجزاء من موافق ومخالف لا تعجزونه. ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت، أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم اللَّه جميعا يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٤]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أى ومن أى بلد خرجت للسفر فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
وعن الحسن: أنّ الشهداء أحياء عند اللَّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد:
يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا: يجوز أن يجمع اللَّه من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرّة. وقيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر اللَّه وحكمه أم لا؟ بِشَيْءٍ بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ المسترجعين عند البلاء لأنّ الاسترجاع تسليم وإذعان. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من استرجع عند المصيبة جبر اللَّه مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحاً يرضاه» «١». وروى أنه طفئ سراج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال «إنا للَّه وإنا إليه راجعون» فقيل: أمصيبة هي؟ قال «نعم كل شيء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة» «٢» وإنما قلل في قوله: (بِشَيْءٍ) ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم وإنما وعدهم ذلك قبل كونه ليوطنوا عليه نفوسهم. (وَنَقْصٍ) عطف على: (بِشَيْءٍ) أو على الخوف، بمعنى: وشيء من نقص الأموال.
والخطاب في: (وَبَشِّرِ) لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. وعن الشافعي رحمه اللَّه في الخوف: خوف اللَّه. والجوع: صيام شهر رمضان والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد «٣». وعن النبي صلى اللَّه
فذكره.
(٢). أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عمران القصير قال طفئ مصباح النبي صلى اللَّه عليه وسلم فاسترجع فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: إنما هذا مصباح. فقال: كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «وعن الشافعي رضى اللَّه عنه: الخوف خوف اللَّه، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكوات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد» قال أحمد: وفي تفسيره هذا نظر، لأن هذا الابتلاء موعود به في المستقبل، مذكور قبل وقوعه توطنا عليه عند الوقوع، ولعله ما من بلية ذكرها إلا وقد تقدمت لهم قبل نزول الآية، إذ الخوف من اللَّه تعالى لم يزل مشحونا في قلوب المؤمنين، ويبعد أن يعبر عن الصدقة بالنقص وقد عبر عنها الشرع بالزكاة التي هي النمو ضد النقص وورد. ما نقص مال من صدقة» ويمكن أن يقال هي نقص حساً وإنما سميت زكاة باعتبار ما يؤول إليه حال القيام بها من النمو فالعوض المرجو من كرم اللَّه خلف فلما ذكرها اللَّه تعالى في سياق الابتلاء الموعود بها عبر عنها بالزكاة تسهيلا لاخراجها على المكلف لأنه إذا استشعر العوض من اللَّه تعالى ونمو ماله بذلك، هان عليه بذلها وسمحت نفسه لذلك.
حمدك واسترجع، فيقول اللَّه تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد «١». والصلاة:
الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة. كقوله تعالى: (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة. ورحمة أىّ رحمة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر اللَّه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
والصفا والمروة: علمان للجبلين، كالصمان والمقطم، والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، أى من أعلام مناسكه ومتعبداته: والحج: القصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان. وأصل يَطَّوَّفَ يتطوّف فأدغم. وقرئ (أن يطوف) من طاف. فإن قلت: كيف قيل إنهما من شعائر اللَّه ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت: كان على الصفا أساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدّة عُبدا من دون اللَّه، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن لا يكون عليهم جناح في ذلك، فرفع عنهم الجناح. واختلف في السعى، فمن قائل: هو تطوّع بدليل رفع الجناح وما فيه من التخيير بين الفعل والترك، كقوله: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) وغير ذلك، ولقوله وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً كقوله: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير، وتنصره قراءة ابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما. وعن أبى حنيفة رحمه اللَّه أنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم. وعند الأوّلين لا شيء عليه. وعند مالك والشافعي: هو ركن، لقوله عليه السلام «اسعوا فإن اللَّه كتب عليكم السعى» «٢» وقرئ: ومن يطوّع بمعنى: ومن يتطوّع، فأدغم.
(٢). أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما: سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عام حج عن الرمل فذكره. رواه الشافعي وأحمد وإسحاق والطبراني والدارقطني والحاكم من رواية عبد اللَّه بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن ابن مخيس عن عطاء بن أبى رباح عن حبيبة بنت أبى تجراة قالت: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم يسعى حتى إنى لأرى ركبتيه من شدة السعى، وهو يقول «اسعوا فان للَّه كتب عليكم السعى» وعبيد اللَّه ضعيف. وأخرجه الحاكم من طريق آخر عن عبد اللَّه بن شيبه عن جدته صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبى تجراة. قالت: اطلعت بكرة بين الصفا والمروة فأشرفت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإذا هو يسعى، ويقول لأصحابه «اسعوا فان اللَّه كتب عليكم السعى» وأخرجه الطبراني والبيهقي من رواية ابن عيينة عن المثنى بن الصباح عن المغيرة بن حكيم، عن صفية عن تملك العبدرية قالت نظرت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة وهو يقول: «أيها الناس إن اللَّه كتب عليكم السعى فاسعوا» والمثنى ضعيف. وأخرجه الطبراني من رواية حميد بن عبد الرحمن عن المثنى بن الصباح فلم يذكر تملك. [.....]
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ من أحبار اليهود ما أَنْزَلْنا) في التوراة (مِنَ الْبَيِّناتِ من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى اللَّه عليه وسلم وَالْهُدى والهداية بوصفه إلى اتباعه والإيمان به مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ ولخصناه لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ في التوراة، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ الذين يتأتى منهم اللعن عليهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٠]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أحوالهم، وتداركوا ما فرط منهم وَبَيَّنُوا ما بينه اللَّه في كتابهم فكتموه، أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليمحوا سمة الكفر عنهم، ويعرفوا بضدّ ما كانوا يعرفون به، ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا، ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع عطفاً على محل اسم اللَّه، لأنه
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
إِلهٌ واحِدٌ فرد في الإلهية لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غيره إلها. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ المولى لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، فإن كلّ ما سواه إمّا نعمة وإمّا منعم عليه. وقيل كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقاً فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ واعتقابهما لأنّ كلّ واحد منهما يعقب الآخر، كقوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) بِما يَنْفَعُ النَّاسَ بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت: قوله وَبَثَّ فِيها عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأنّ قوله: (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشىء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ فيها من كل دابة.
ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كل دابة لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا «١». وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ في مهابها: قبولا، ودبورا، وجنوبا، وشمالا. وفي
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
أَنْداداً أمثالا من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدلّ بقوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا. ومعنى: يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب كَحُبِّ اللَّهِ كتعظيم اللَّه «١» والخضوع له، أى كما يحب اللَّه تعالى، على أنه مصدر من المبنى للمفعول. وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم اللَّه، أى يسوّون بينه وبينهم في محبتهم، لأنهم كانوا يقرّون باللَّه ويتقرّبون إليه، فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللَّه مخلصين له الدين أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بخلاف المشركين فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى اللَّه عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة الَّذِينَ ظَلَمُوا إشارة إلى متخذي الأنداد أى لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أنّ القدرة كلها للَّه على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ويعلمون شدّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم
(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (لو) في معنى التمني. ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرّة فنتبرأ منهم (كذلك) مثل ذلك الإراءة الفظيع يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أى ندامات وحسرات، ثالث مفاعيل أرى: ومعناه أنّ أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم وَما هُمْ بِخارِجِينَ هم بمنزلته في قوله:
هُمْ يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ «١» في دلالته على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ولذلك قال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) وقال اللَّه تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
لَهُمُ الضمير للناس. وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم، لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون. قيل: هم المشركون. وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا:
بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم. وألفينا: بمعنى وجدنا، بدليل قوله: (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الواو للحال، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب، معناه: أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإنّمَا... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِى الخَلَاءِ ضَلَالا «١»
وأما «نغق الغراب» فبالغين المعجمة صُمٌّ هم صم، وهو رفع على الذمّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ من مستلذاته، لأنّ كل ما رزقه اللَّه لا يكون إلا حلالا «٢» وَاشْكُرُوا لِلَّهِ الذي رزقكموها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن صح أنكم تخصونه بالعبادة.
وتقرّون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «يقول اللَّه تعالى: إنى والجنّ والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيرى وأرزق ويُشكر غيرى «٣».
أى: صوت لغنمك يا جرير، واكتف بذلك عن المفاخر فلست من أهلها، إنما أنت راعى غنم. منتك: حدثتك نفسك ووعدتك وسولت لك في الفضاء الخالي عن الناس ضلالا وكذبا. لا هدى وصدقا كما تزعم، وذمه جرير بقوله:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى... حك استه وتمثل الأمثالا
ورد عليه الأخطل بقوله:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم... قالوا لأمهم بولي على النار
(٢). قوله «كل ما رزقه اللَّه لا يكون إلا حلالا» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فقد يكون حراما، كما بين في موضعه. (ع)
(٣). أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في الشعب من رواية بقية، حدثنا صفوان ابن عمر. حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير. وشريح بن عبيد عن أبى الدرداء عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. قال «قال اللَّه عز وجل «إنى والجن والانس... » فذكره سواء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)قرئ (حَرّم) على البناء للفاعل، وحُرِّم على البناء للمفعول، وحَرُم بوزن كرم أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أى رفع به الصوت للصنم، وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى غَيْرَ باغٍ على مضطرّ آخر بالاستيثار عليه وَلا عادٍ سدّ الجوعة. فإن قلت: في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان» «١». ؟ قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أنّ القائل إذا قال: أكل فلان ميتة، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث- وإن أكل لحما في الحقيقة، قال اللَّه تعالى: (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث- وإن سماه اللَّه تعالى دابة في قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأنّ الشحم داخل في ذكر اللحم، لكونه تابعا له وصفة فيه، بدليل قولهم: لحم سمين، يريدون أنه شحيم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
فِي بُطُونِهِمْ ملء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه إِلَّا النَّارَ لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار. ومنه قولهم: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه. قال:
أَكَلْتُ دَماً إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ «٢»
(٢).
دمشق خذيها واعلمي أن ليلة | تمر بعودى نعشها ليلة القدر |
أكلت دما إن لم أرعك بضرة | بعيدة مهوى القرط طيبة النشر |
من راعه يروعه إذا أخافه. والمراد أنه يغيظها بتزوج ضرة عليها جميلة طويلة العنق. فبعد مهوى القرط: كناية عن ذلك. والقرط: حلى الأذن. ومهواه: مسقطه من المنكب. والنشر: الرائحة الطيبة. ويحتمل أنه دعا على نفسه بالجدب حتى يحتاج لفصد النوق وأكل دمها، وكذلك كانت تفعل الجاهلية في الجدب. ويحتمل أن المراد: شربت دما، فهو تعليق على الممتنع عنده دلالة على تحقيق التزوج، لأنه يرجع إلى أن عدم التزوج ممتنع كما أن شرب الدم ممتنع. ونظيره ما أنشده أبو إياس:
أمالك عمر إنما أنت حية | إذا هي لم تقتل تعش آخر العمر |
ثلاثين حولا لا أرى منك راحة | لهنك في الدنيا لباقية العمر |
دمشق خذيها لا تفتك قليلة | تمر بعودى نعشها ليلة القدر |
فان أنفلت من عمر صعبة سالما | تكن من نساء الناس لي بيضة العقر |
للَّه إنك. وبيضة العقر: زعموا أنها بيضة الديك لا يبيض في عمره غيرها. وقيل: هي مثل لما لا وجود له أصلا.
فالمعنى: أنه يتزوج جميلة لا يتزوج غيرها، أو أنه لا يتزوج أصلا. وصعبة هي امرأته.
يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا «٢»
أراد ثمن الإكاف، فسماه إكافا لتلبسه بكونه ثمنا له وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة اللَّه إياهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل: نفى الكلام عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على صاحبه فصرمه وقطع كلامه. وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله: (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ). فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقيل: فما أصبرهم، فأى شيء صبرهم. يقال: أصبره على كذا وصبره بمعنى.
إن لنا أحمرة عجافا... يأكلن كل ليلة إكافا
الأحمرة: الحمير. والعجاف: المهازيل. والأكاف: البرذعة، فالمراد: يأكلن كل ليلة علفا مشترى بثمن إكاف، بأن يباع الأكاف ثم يشترى بثمنه علفا لها، فأوقع الأكل على الأكاف بواسطتين، ولعل بيع براذعها لضعفها عن العمل. ويمكن أنه مجرد تقديم، وإنما خص الاكاف لاختصاصه بالحمير.
(٢). قوله «كل ليلة إكافا» هو ما يوضع على ظهر الحمار عند ركوبه أو تحميله. أفاده الصحاح. (ع)
اختصم إلىّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على اللَّه، فمعناه: ما أصبرك على عذاب اللَّه ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ أى ذلك العذاب بسبب أنّ اللَّه نزل ما نزل من الكتب بالحق وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في كتب اللَّه فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب لَفِي شِقاقٍ لفي خلاف بَعِيدٍ عن الحق، والكتاب للجنس.
أو كفرهم ذلك بسبب أنّ اللَّه نزّل القرآن بالحق كما يعلمون، وإن الذين اختلفوا فيه من المشركين- فقال بعضهم: سحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: أساطير- لفي شقاق بعيد. يعنى أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
الْبِرَّ اسم للخير ولكل فعل مرضىّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الخطاب لأهل الكتاب «١» لأن اليهود تصلى قِبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قِبل المشرق. وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته، فردّ عليهم. وقيل: ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ، ولكن البرّ ما نبينه. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ «١»
وعن المبرّد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكنّ البرّ، بفتح الباء. وقرئ: ولكن البارّ. وقرأ ابن عامر ونافع: ولكنّ البر بالتخفيف وَالْكِتابِ جنس كتب اللَّه، أو القرآن عَلى حُبِّهِ مع حب المال والشح به، كما قال ابن مسعود «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا «٢» ». وقيل:
فما عجول على بو تطيف به | لها حنينان إصغار وإكبار |
لا تسأم الدهر منه كلما ذكرت | فإنما هي إقبال وإدبار |
يوما بأوجد منى حين فارقنى | صخر وللدهر إحلاء وإمرار |
وإصغار وإكبار: بدل من حنينان. ويروى: إعلان وإسرار. والمعنى واحد، غير أن فيه تقديماً وتأخيراً.
أو الاصغار الحنين على الولد الصغير، والإكبار على الكبير، كذا قيل، لكن خير ما فسرته بالوارد. والدهر:
نصب بتسأم أى: لا تمل طول الدهر مما ذكر من الحنين ورجوعه للبو، تأباه جزالة المعنى. ويمكن عوده على الطيف المعلوم من تطيف. ويروى بدل هذا الشطر
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
وأصله اذتكرت أى تذكرت. ويروى
ترتع ما غفلت حتى إذا ذكرت
أى ترعى مدة غفلتها عنه، فإذا تذكرته فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار، أو مقبلة ومدبرة، أو هي نفس الإقبال والأدبار مبالغة. أى تلتفت تارة أمامها وتارة خلفها وتتلهى عن الرعي. وقيل المراد إقبال النهار وإدبار الليل وعكسه. ويمكن أن وجهه استقلال المدة، أى فإنما مدة الدهر إقبال وإدبار دائرين بين الليل والنهار، بالضمير عائد على معلوم من السياق، لكن لا يظهر على الرواية الثانية. ويوما: نصب بأوجد وجاز تقدمه على أفعل التفضيل، لأنه ظرف، وكذاك تنبيهاً على أن المراد باليوم مطلق الزمن غالباً. وبأوجد:
خبر عجول. ويروى «بأوجع» أى ليست أشد حزنا منى حين فارقني أخي، وحين نصب بأوجد أيضاً. ووجهه أنه في معنى عاملين، أى ليس وجدها يوما أشد من وجدي حين الفراق، فالأول للأول، والثاني للثاني، ثم تسلت بقولها: وللدهر إحلاء وإمرار. ويقال: أحلى الشيء وأمر، صار حلواً وصار مراً. ويجوز أنهما متعديان.
والمراد: أن الدهر ينعم العيش تارة ويبئسه أخرى. فالاحلاء والإمرار استعارتان لذلك.
(٢). موقوف، كذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن مرة عنه. قال في قوله تعالى: (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) قال «أن يؤتيه» فذكره إلى قوله «ويخشى الفقر» ولم يذكر ما بعده. ومن طريقه أخرجه الطبراني والحاكم وذكره أبو نعيم في الحلية. في ترجمة مسعر فأخرجه من طريقه عن زبيد به. وقال هكذا رواه مسعر والناس. عن زبيد موقوفا رواه مخلدين يزيد عن الثوري مرفوعا. وتفرد برفعه ثم ساقه. وأخرجه البيهقي من رواية شعبة عن زبيد موقوفا ومن طريق سلام بن سليم المدائني عن محمد بن طلحة عن زبيد مرفوعا: وسلام ضعيف رواه الطبري من ثلاثة طرق عن زبيد موقوفا. ولم يذكر أحد منهم ولا تمهل وإنما هو في حديث أبى هريرة. اتفق الشيخان عليه بلفظ «قال رجل للنبي صلى اللَّه عليه وسلم يا رسول اللَّه، أى الصدقة أفضل؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان».
الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، كالمسكير: للدائم السكر وَابْنَ السَّبِيلِ المسافر المنقطع. وجُعل ابنا للسبيل لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف، لأنّ السبيل يرعف به «٤» وَالسَّائِلِينَ المستطعمين. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه «٥» وَفِي الرِّقابِ وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل
أخرجها الطبراني. [.....]
(٢). أخرجه عبد الرزاق والحاكم والبيهقي والطبراني من رواية ابن عيينة عن الزهري. عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة. ورواه أبو عبيد في كتاب الأموال من رواية ابراهيم بن يزيد المكي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة. وأخرجه من طريق عقيل عن الزهري مرسلا. لم يذكر أبا هريرة ورواه أحمد من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام ورواه أيضاً هو وإسحاق والطبراني من طريق الحجاج بن أرطاة عنه عن حكيم بن بشير عن أبى أيوب. فهذه الطرق كلها تدور على الزهري، مع اختلاف عليه، وأحفظهم سفيان بن عنبسة، وعقيل أحفظ منه. وروايته أشبه بالصواب.
(٣). قوله «ذى الرحم الكاشح» في الصحاح: تقول طوى فلان عن كشحه، إذا قطعك. والكاشح الذي يضمر لك العداوة. (ع)
(٤). قوله «لأن السبيل يرعف به» أى يتقدم به ويبرزه للمقيمين، كما يرعف الأنف بدم الرعاف.
أفاده الصحاح. (ع)
(٥). أخرجه أبو داود من رواية فاطمة بنت الحسين بن على عن أبيها عن على رضوان اللَّه عليه. ومن رواية الحسين بن على، من غير ذكر أبيه. في إسنادهما يحيى بن أبى يعلى وقيل: يعلى بن أبى يحيى: وهو مجهول. وقد رواه إسحاق بن راهويه من طريقه فجعله من رواية فاطمة بنت الحسين عن فاطمة، ورواه الطبراني من حديث الهرماس بن زياد. وفيه عثمان بن فايد. وهو ضعيف: وقال مالك في الموطأ: أخبرنا زيد بن أسلم أكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره ووصله ابن عدى من طريق عبد اللَّه بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبى صالح عن أبى هريرة. وعبد اللَّه ضعيف. ورواه أيضاً من طريق عمر بن يزيد المدائني عن عطاء عن أبى هريرة. وعمر ضعيف.
وأخرج. الصَّابِرِينَ منصوباً على الاختصاص والمدح، إظهار الفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. وقرئ: والصابرون. وقرئ. والموفين، والصابرين. والْبَأْساءِ الفقر والشدّة وَالضَّرَّاءِ المرض والزمانة صَدَقُوا كانوا صادقين جادّين في الدين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وعطاء، وعكرمة، وهو مذهب مالك والشافعي «٣» رحمة اللَّه عليهم: أنّ الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى، أخذا بهذه الآية. ويقولون:
هي مفسرة لما أبهم في قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها. وعن سعيد ابن المسيب، والشعبي والنخعي، وقتادة، والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه: أنها منسوخة بقوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والقصاص ثابت بين العبد والحرّ، والذكر والأنثى. ويستدلون بقوله صلى اللَّه عليه وسلم
(٢). أخرجه ابن ماجة من رواية أبى حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس بهذا. وترجم عليه- باب ما أدى زكاته فليس بكنز- وقال البيهقي: والذي يرويه أصحابنا في التعاليق «ليس في المال حق سوى الزكاة» لا أحفظ له إسناداً وقد رواه الترمذي وأبو يعلى والطبراني من هذا الوجه، بلفظ «إن في المال حقا سوى الزكاة» قال الترمذي: ليس إسناده بذاك. وقد رواه بيان وإسماعيل عن الشعبي قال. وهو أصح.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «مذهب مالك والشافعي رضى اللَّه عنهما أن الحر لا يقتل بالعبد والذكر لا يقتل بالأنثى... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا من الزمخشري وهم على الإمامين، فإنهما يقتصان من الذكر للأنثى بلا خلاف عنهما. وأما الحر والعبد عندهما فهو الذي وهم الزمخشري عنهما.
(٢). لم أجده.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «معنى الآية: فمن عفى له من جهة أخيه... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: ويقوى هذا التأويل القول بأن موجب العمد أحد الأمرين من القصاص أو الدية، والخيار إلى الولي. وهو أحد القولين في مذهب مالك رضى اللَّه عنه ومشهورهما. إذ لو جعلنا موجب العمد القود على القول الآخر، لكان في ذلك تضييق على الولي. والآية مشعرة بالتخفيف والسعة وتحتمل الآية وجها آخر، وهو عود الضميرين جميعا إلى الولي، وقالوا على هذا الوجه يكون العفو إعطاء البدل، كأنه قال: فمن أعطى شيئا من أخيه أى بدلا من أخيه. ويكون «من» مثلها في قوله تعالى: (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ). ونظيره في استعمال العفو في العطاء عندي قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) إذا حمل الذي بيده العقدة على الزوج. وهو مذهب الشافعي رضى اللَّه عنه. ويقول أصحابه. عفوه على أحد وجهين: إما من استرجاع النصف الواجب إن كان قد سلم جميع المهر، وإما على دفع النصف الآخر الذي سقط عنه إن كان لم يسلمه، فيكون العفو على هذا مستعملا في الإعطاء. ويقوى هذا الوجه في أنه لا قصاص قوله: (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) لأن المخاطب بالاتباع بالمعروف إنما هو الولي، فإذا جعلنا الضميرين له انساق الكلام سياقة واحدة إلى جهة واحدة، وصار المعنى: فمن أعطى من الأولياء بدلا من أخيه، فليتبع بالمعروف في طلب ما أعطى. ولما خالفه الولي عن التقاضي خاطب القاتل بحسن الأداء، فلينتظم الكلام موجها إلى وجهة واحدة. وأما على الوجه الذي قرره الزمخشري، فالضميران جميعاً راجعان إلى القاتل وتقدير الكلام: فمن عفى له من القاتلين عن جنايته شيء من العفو فليتبع الولي هذا القاتل المعفو عنه بالمعروف، فيكون المخاطب أول الآية القاتل، وآخرها الولي، بخلاف الوجه الذي قررته واللَّه أعلم. وكلا الوجهين حسن جيد.
للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعا. يعنى فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا يبخسه ذلِكَ الحكم المذكور من العفو والدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو، توسعة عليهم وتيسيراً فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ التخفيف، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل «٢»، أو القتل بعد أخذ الدية. فقد كان الولي في الجاهلية يؤمّن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية، لقوله عليه السلام «لا أعافى أحداً قتل بعد أخذه الدية» وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كلام فصيح لما فيه من الغرابة «٣»، وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأنّ المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا
(٢). قوله «من قتل غير القاتل» بيان للتجاوز والاعتداء. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «كلام فصيح لما فيه من الغرابة... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: قوله جعل أحد الضدين محلا للآخر: كلام إما وهم فيه أو تسامح، لأن شرط تضاد الحياة والموت اجتماعهما في محل واحد تقديراً، ولا تضاد بين حياة غير المقتص منه وموت المقتص، والبلاغة التي أوضحها في الآية بينة بدون هذا الإطلاق.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إذا دنا منه وظهرت أماراته (خَيْراً) مالا كثيراً. عن عائشة رضى اللَّه عنها أنّ رجلا أراد الوصية وله عيال وأربعمائة دينار، فقالت: ما أرى فيه فضلا «١».
وأراد آخر أن يوصى فسألته: كم مالك؟ فقال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال:
أربعة. قالت: إنما قال اللَّه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّ هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك «٢»، وعن علىّ رضى اللَّه عنه: أنّ مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة فمنعه «٣». وقال: قال اللَّه تعالى
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن محمد بن شريك عن ابن أبى مليكة عن عائشة «أن رجلا قال لها: إنى أريد أن أوصى- فذكره».
(٣). أخرجه عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن هشام عن أبيه قال «دخل على رضى اللَّه عنه على مولى له في الموت فقال: ألا أوصى؟ فقال له على: إنما قال اللَّه تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال. قال: وكان له سبعمائة درهم» ورواه ابن أبى شيبة عن أبى خالد الأحمر عن هشام به.
ومعناها: كتب عليكم ما أوصى به اللَّه من توريث الوالدين والأقربين «٢» من قوله تعالى:
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أو كتب على المحتضر أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به اللَّه لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم بِالْمَعْرُوفِ بالعدل، وهو أن لا يوصى للغنى ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث حَقًّا مصدر مؤكد، أى حق ذلك حقاً فَمَنْ بَدَّلَهُ فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ وتحققه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدّليه دون غيرهم من الموصى والموصى له، لأنهما بريان من الحيف إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد المبدّل فَمَنْ خافَ فمن توقع وعلم، وهذا في كلامهم شائع يقولون: أخاف أن ترسل السماء، يريدون التوقع والظنّ الغالب الجاري مجرى العلم جَنَفاً ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية أَوْ إِثْماً أو تعمداً للحيف فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ حينئذ، لأنّ تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدّل بالباطل ثم من يبدّل بالحق ليعلم أنّ كل تبديل لا يؤثم «٣».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
(٢). قوله «من توريث الوالدين والأقربين من» لعله في. (ع)
(٣). قوله «أن كل تبديل لا يؤثم» لعل المعنى أن ليس كل تبديل يؤثم (ع)
كان وقوعه في البرد الشديد والحرّ الشديد، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فجعلوه بين الشتاء والربيع، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله عن وقته. وقيل: الأيام المعدودات:
عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر. كتب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صيامها حين هاجر. ثم نسخت بشهر رمضان. وقيل: كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا، ثم نسخ ذلك بقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ)... الآية. ومعنى مَعْدُوداتٍ موقتات بعدد معلوم. أو قلائل، كقوله: (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) وأصله أنّ المال القليل يقدّر بالعدد ويتحكر فيه. والكثير يهال هيلا ويحثى حثيا. وانتصاب أياماً بالصيام، كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر فَعِدَّةٌ فعليه عدّة. وقرئ بالنصب بمعنى: فليصم عدّة وهذا على سبيل الرخصة. وقيل: مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدّة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ واختلف في المرض المبيح للإفطار، فمن قائل: كل مرض، لأنّ اللَّه تعالى لم يخص مرضا دون مرض كما لم يخص سفراً دون سفر، فكما أنّ لكل مسافر أن يفطر، فكذلك كل مريض. وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه. وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه، فقال: إنه في سعة من الإفطار. وقائل: هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه، لقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وعن الشافعي: لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل. واختلف أيضاً في القضاء فعامّة العلماء على التخيير. وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى اللَّه عنه: «إنّ اللَّه لم يرخص لكم في
(٢). قوله «قال عليه السلام فعليه بالصوم» صدره: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم الخ. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث ابن مسعود
فكيف قيل (فَعِدَّةٌ) على التنكير ولم يقل: فعدّتها، أى فعدة الأيام المعدودات؟ قلت: لما قيل: فعدّة، والعدّة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ نصف صاع من برّ أو صاع من غيره عند أهل العراق، وعند أهل الحجاز مدّ، وكان ذلك في بدء الإسلام: فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتدّ عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية. وقرأ ابن عباس: يطوّقونه، تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة، أى يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا. وعنه: يتطوّقونه بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه. ويطوقونه بإدغام التاء في الطاء. ويطيقونه ويطيقونه بمعنى يتطوقونه، وأصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم: تدير المكان وما بها ديار. وفيه وجهان: أحدهما نحو معنى يطيقونه. والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية، وهو على هذا الوجه ثابت غير منسوخ.
ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه، أى يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد على مقدار الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فالتطوع أخير له أو الخير. وقرئ فمن يطوّع، بمعنى يتطوّع وَأَنْ تَصُومُوا أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً.
وفي قراءة أبىّ: والصيام خير لكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
الرمضان: مصدر رمض إذا احترق- من الرمضاء- فأضيف إليه الشهر وجعل علماً، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل «ابن داية» للغراب بإضافة الابن إلى داية البعير،
(٢). أخرجه عبد الرزاق عنهما قالا «يقضيه تباعا»
بمَا أعْيَا النِّطَاسِى حِذْيَمَا «٣»
أراد ابن حذيم، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أو على أنه بدل من الصيام في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أو على أنه خبر مبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)، أو على أنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا). ومعنى (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ابتدئ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) كما تقول أنزل في عمر كذا، وفي علىّ كذا. وعن النبي عليه السلام «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين «٤» » هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ نصب على الحال، أى أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدى إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) بعد قوله: (هُدىً لِلنَّاسِ) ؟ قلت:
ذكر أوّلا أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به اللَّه، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فمن كان
(٢). أخرجه الترمذي من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة رفعه «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له- الحديث» قلت: ليس هذا موافقا للفظ المصنف.
والموافق له ما أخرجه ابن حبان.
(٣).
فهل لكم فيما إلى فاننى | بصير بما أعيى النطاسي حذيما |
(٤). أخرجه أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا به. وفي الباب عند أبى داود. وأخرجه الثعلبي في تفسيره. وعن جابر أخرجه أبو يعلى. [.....]
ومعنى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وإرادة أن تشكروا. وقرئ (ولتكملوا) بالتشديد. فإن قلت: هل يصح أن يكون (وَلِتُكْمِلُوا) معطوفا على علة مقدرة، كأنه قيل لتعملوا ما تعلمون، ولتكملوا العدة.
أو على اليسر، كأنه قيل: يريد اللَّه بكم اليسر، ويريد بكم لتكملوا، كقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) ؟ قلت:
لا يبعد ذلك والأوّل أوجه. فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم اللَّه والثناء عليه. وقيل:
هو تكبير يوم الفطر. وقيل: هو التكبير عند الإهلال «٢».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
فَإِنِّي قَرِيبٌ تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه، فإذا دعى أسرعت تلبيته، ونحوه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وقوله عليه الصلاة والسلام: «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم «٣» » وروى أنّ أعرابيا قال لرسول اللَّه
(٢). قوله «عند الإهلال» أى الإحرام بالنسك. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى قال «كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في غزوة. فلما قفلنا أشرفنا على المدينة، فكبر الناس، ورفعوا أصواتهم. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم. إن ربكم ليس بأصم ولا غائب، هو بينكم وبين رءوس رواحلكم» ورواه الترمذي.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب «٢» والجماع إلى أن يصلى العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة، ثم إنّ عمر رضى اللَّه عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقال: يا رسول اللَّه، إنى أعتذر إلى اللَّه وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت جديرا بذلك يا عمر «٣». فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء، فنزلت. وقرئ: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، أى أحل اللَّه. وقرأ عبد اللَّه:
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: ويشهد لصحة هذا الجواب أنه لما استقرت الاباحة فيه قال: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فكنى عنه الكناية المألوفة في الكتاب العزيز. وبشكل بقوله: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) فان هذه العبارة استعملت ولم ينقل في الحج ما نقل في الصوم من سبب نزول الآية وهو مواقعة المكروه. ويمكن أن يجاب عنه لما وقع في آية الحج منهياً عنه أريد للشعبة عندهم كيلا يقعوا فيه، فعبر عنه بما هجنه لكون ذلك منفراً لهم عن التورط.
(٣). رواه الطبري من طريق عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) الآية، قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صاموا يطعمون من الطعام فيما بين الماء والعتمة. فإذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام حتى يمسوا من الليلة القابلة وإن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله فذكره. ليس فيه «فقام رجال فاعترفوا» وروى الطبري من طريق السدى قال «كان عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه وقع على جارية له في ناس من المسلمين لم يملكوا أنفسهم فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم».
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا «١»
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء «٢». وقال اللَّه تعالى: فلا رفث ولا فسوق، فكنى به عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك. فإن قلت: لم كنى عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)، (فَلَمَّا تَغَشَّاها)، (بَاشِرُوهُنَّ)، (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)، (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ)، (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ)، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)، (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) ؟ قلت: استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. فإن قلت: لم عدى الرفث بإلى؟ قلت: لتضمينه معنى الإفضاء. لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه، شبه باللباس المشتمل عليه. قال الجعدي:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَليْهِ لِبَاسَا «٣»
فإن قلت: ما موقع قوله: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) ؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة فَتابَ عَلَيْكُمْ حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ واطلبوا ما قسم اللَّه لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة، أى لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع اللَّه له النكاح من التناسل.
وقال بعضهم: قال حصين بن قيس: أخذ ابن عباس بذنب بعيره يلويه وهو يحدو ويقول: وهن... البيت.
فقلت له: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. وهن، أى النوق «يمشين بنا» أى معنا.
والهميس: نوع من السير لا صوت له، نصب بيمشين. وإن تصدق الطير، أى التي تفاء لنا بها حيث طارت جهة اليمين، وشبه الطير بمخبر على طريق المكنية والصدق تخييل. وروى: إن يصدق الظن، والفعل بعده جواب الشرط ولفظ «النيك» هو الحقيقة في إدخال الذكر في الفرج، وما عداه- كالوطء والجماع والملامسة- مجاز في الأصل أو كناية، ولذلك قبح النطق بها دون غيرها. ولميس: اسم امرأة، ولعل ابن عباس ضربه مثلا للظفر بما كان يقصده
(٢). أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق زياد بن الحسين عن أبى العالية «أترفث وأنت محرم؟ فقال:
إنما الرفث ما روجع به النساء» وأخرجه ابن أبى شيبة والطبري من هذا الوجه. والهميس: بفتح الهاء وآخره مهملة: ضرب من السير، لا يسمع له وقع. ذكره ثابت السرقسطي.
(٣). للنابغة الجعدي. و «ما» زائدة. والضجيع: المضاجع. والعطف- بالكسر-: الجانب. تثنت:
بالغث في مطلوبه من التعانق فكانت مشتملة عليه كاللباس، فهو تشبيه بليغ. ويروى: ثنى جيدها، أى عنقها
وقرأ ابن عباس (واتبعوا) وقرأ الأعمش (وأتوا) وقيل معناه: واطلبوا ليلة القدر وما كتب اللَّه لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها، وهو قريب من بدع التفاسير الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هو أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. والْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ما يمتدّ معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود. قال أبو داود «١» :
فَلَمَّا أضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ | وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أنَارَا «٢» |
قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر (مِنَ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد (مِنَ الْفَجْرِ) فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة.
فإن قلت: فكيف التبس على عدىّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود «٣» فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبرته، فضحك وقال:
«إن كان وسادك لعريضا»، وروى: «إنك لعريض القفا» «٤» إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل» ؟ قلت: غفل عن البيان، ولذلك عرّض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. وأنشدتنى بعض البدويات لبدوى:
(٢). لأبى داود. وأضاء وأنار، يجيئان لازمان كما هنا ومتعديين. والسدفة بياض الفجر يشوبه قليل ظلام. وفي لغة نجد: الظلمة. وأسدفت المرأة القناع: أرسلته. وأسدف الليل: أظلم. وعند غيرهم هي الاضاءة والصبح. وأسدف الصبح. أضاء. وأسدف الباب فتحه. وشبه بياض بعض الصبح بالخيط في امتداده. ويجوز أن «من» بيانية، وجملة أنار صفة خيط، وجواب الشرط فيما بعده.
(٣). متفق عليه من حديث الشعبي عن عدى بن حاتم.
(٤). هذه الرواية في البخاري أيضا من طريق الشعبي عن عدى بن حاتم أيضا.
عَرِيضُ القَفَا مِيزَانُهُ فِى شِمَالِهِ | قَدِ انْحَصَّ مِنْ حَسْبِ القَرَارِيِط شَارِبُهْ «١» |
والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه. والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)، (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) وقيل معناه: ولا تلامسوهنّ بشهوة، والجماع يفسد الاعتكاف، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل. وعن قتادة كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد، فنهاهم اللَّه عن ذلك. وقالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد. وقيل:
لا يجوز إلا في مسجد نبىّ وهو أحد المساجد الثلاثة. وقيل: في مسجد جامع. والعامة على
(٢). متفق عليه من رواية أبى حازم عنه.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «قالوا فيه دليل على جواز النية بالنهار... الخ». قال أحمد: وجه: استدلالهم من الآية على الحكم الأول متعذر، لأن إقران النية بأول الصوم وجوداً غير معتبر باتفاق، وتقديمها من الليل وتستصحب معتبر باتفاق، فإذاً لا تنافى بين الأكل والشرب إلى الفجر وبين نية الصوم المستقبل من الليل. ووجودها من الليل متقدمة على الصوم مستفاد من دليل دل عليه، وإنما لم يتم لهم الاستدلال بالآية على اعتبار النية في النهار- لو كان الأكل والشرب ليلا إلى الفجر- ينافي صحة استصحاب النية، وكان اقتضاء الآية لجواز الأكل والشرب إلى الفجر يمنع من اعتبار النية من الليل إلى الفجر لوجود المنافى لها ولا بد منها، فيتعين أن يوقع بعد الفجر على هذا التقدير. وذلك التقدير كما علمت متفق على بطلانه. وأما الاستدلال بها على الحكمين الآخرين فصحيح مستند واللَّه أعلم. ولتفطن الزمخشري لبطلان الاستدلال بالآية على الحكم المذكور سلك سبيل النقل عنهم فقال: قالوا، لا يقولها إلا في مثل هذا المعنى، ولم يسعه التنبيه على بطلان الاستدلال لأنه على وفق مذهبه.
» فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود اللَّه محارمه ومناهيه خصوصا، لقوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) وهي حدود لا تقرب.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
ولا يأكل بعضكم مال بعض بِالْباطِلِ بالوجه الذي لم يبحه اللَّه ولم يشرعه. ولا تُدْلُوا بِها ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام لِتَأْكُلُوا بالتحاكم فَرِيقاً طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ بشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالصلح، مع العلم بأن المقضى له ظالم.
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال للخصمين. «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلىّ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا، فإن ما أقضى «٣» له قطعة من نار» فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال «اذهبا فتوخيا، ثم استهمل، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» «٤» وقيل (وَتُدْلُوا بِها) وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. وتدلوا: مجزوم داخل في حكم النهى، أو منصوب بإضمار أن، كقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ). وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ.
(٢). متفق عليه. وله ألفاظ.
(٣). قوله «فان ما أقضى» لعله: فإنما. (ع)
(٤). أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، وأحمد، وإسحاق، وابن أبى شيبة، وأبو يعلى، كلهم من رواية أسامة بن زيد عن عبد اللَّه بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة. وأصله في الصحيحين بدون الزيادة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)وروى أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصارى قالا: يا رسول اللَّه، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت «١» مَواقِيتُ معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدد حملهنّ وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا داراً ولا فسطاطا من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم: لَيْسَ الْبِرُّ بتحرّجكم من دخول الباب وَلكِنَّ الْبِرَّ برّ مَنِ اتَّقى ما حرّم اللَّه. فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله «٢» ؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها- وتمامها معلوم-: أنّ كل ما يفعله اللَّه عز وجل لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برّا. ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج، لأنه كان من أفعالهم في الحج. ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت ما وجه إيصال هذا الكلام... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: ومثل هذا من الاستطراد في كتاب اللَّه تعالى قوله: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا... ) إلى آخر الآية فانه تعالى بين عدم الاستواء بينهما إلى قوله: (أُجاجٌ) وبذلك تم القصد في تمثيل عدم استواء الكافر والمسلم، ثم قوله: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) لا يتقرر به عدم الاستواء، بل المفاد به استواؤهما فيما ذكر، فهو من إجراء اللَّه الكلام بطريق الاستطراد المذكور. وإنما مثلت هذا النوع الذي نبه عليه الزمخشري لأنه مفرد عن الاستطراد الذي بوب عليه أهل صناعة البديع والمطابق لما بوبوا عليه سواء قوله تعالى:
(لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ). فانه ذم اليهود واستطرد بذلك ذم المشركين المنكرين للبعث على نوع من التشبيه لطيف المنزع وفي البديع التمثيل بقوله:
إذا ما اتقى اللَّه الفتى وأطاعه | فليس به بأس وإن كان من جرم |
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٣]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
المقاتلة في سبيل اللَّه: هو الجهاد لإعلاء كلمة اللَّه وإعزاز الدين الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين. وعلى هذا يكون منسوخا بقوله: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً). وعن الربيع بن أنس رضى اللَّه عنه: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف.
أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان الرهبان والنساء. أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادّون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكم المقاتلة، قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل: لما صدّ المشركون رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء، خاف المسلمون أن لا يفي لهم قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك نزلت وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك وَلا تَعْتَدُوا بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان والذين «١» بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
فَإمَّا تَثْقَفُونِى فَاقْتُلُونِى | فَمَنْ أثْقَفْ فَلَيْسَ إلَى خُلُودِ «١» |
لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعاً | عَلى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بحَدِّ فِرَاقِ «٢» |
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أى شرك وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ خالصا ليس للشيطان فيه نصيب فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ فلا تعدوا على المنتهين لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع على المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين، سمى جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة، كقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
القبض والضبط. ومنه «الثقاف» وهو الآلة التي تعض الرماح وتقبضها لتقويمها. يقول: إن تدركونى في أى وقت وتغلبوني فاقتلوني، فان من أدركنى منكم ليس مجابا أو منتهيا إلى خلود، بل لا بد من قتله. وهذا من الاشاحة والجد في القتال، وقطع أطماع الصلح من البال.
(٢). يقول: تاللَّه إن القتل بالسيف أهون على النفس وقوعا من القتل بالفراق. وشبهه بالسيف على طريق المكنية، وإضافة الحد إليه تخييل، وحسن الاستعارة مشاكلته لما قبله.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
الباء في بِأَيْدِيكُمْ مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد. والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أى لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل (بأيديكم) بأنفسكم: وقيل تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب لهلاكها. والمعنى: النهى عن ترك الإنفاق في سبيل اللَّه لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله. أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ. وروى أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصارى: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما أنزلت فينا، صحبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد «١». وحكى أبو على في الحلبيات عن أبى عبيدة، التهلكة والهلاك والهلك واحد. قال: فدلّ هذا من قول أبى عبيدة على أن
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه اللَّه من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. قال:
تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا | عَلى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ «١» |
فإن قلت: هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلا أمر بإتمامهما، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعا، إلا أن تقول:
الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما، بدليل قراءة من قرأ: وأقيموا الحج والعمرة. والأمر للوجوب في أصله، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب، كما دلّ في قوله: (فَاصْطادُوا)، (فَانْتَشِرُوا)
قيل وحقيقة مراده أنه ينبغي كما قطعنا البراري ووصلنا إلى حرمه، أن نقطع أهواء النفس حتى نشاهد آثار كرمه، فيكون استعماله البيت من باب التمثيل.
وَمَا هجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ | عَليْكَ وَلَا أَنْ أحْصَرَتْكَ شَغُولُ «٥» |
(٢). أخرجه ابن ماجة من رواية إسحاق بن طلحة بن عبيد اللَّه عن أبيه بهذا. ورواه الطبراني من حديث ابن عباس بنحوه وفيه محمد بن الفضل بن عطية. وهو ضعيف. ورواه ابن أبى داود في المصاحف من رواية عمر بن قيس عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن عمه عن مسعود. قال الدارقطني في العلل: هذا خطأ. ولعله أراد إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه عبس بن طلحة. وإنما يعرف هذا الحديث من رواية معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة. ورواه الحفاظ من أصحاب شعبة عن معاوية بن إسحاق عن أبى صالح عن ماهان مرسلا. وكذلك رواه ابن أبى شيبة عن جرير عن معاوية بن إسحاق. وقال البيهقي: روى عن شعبة هذا الاسناد موصولا. لكن الطريق فيه إلى شعبة ضعيف.
(٣). أخرجه البخاري تعليقا. والشافعي موصولا. من رواية عمرو بن دينار عن طاوس عنه.
(٤). أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان، من رواية أبى وائل عن الضبي بن مغبديه.
(٥). لتوبة بن حمير، يقول لنفسه: ليس هجر ليلى الأخيلية محبوبتك لتباعدها عنك ولا لأشغال منعتك عنها، بل لخوف الرقباء والوشاة هجرتها. ويجوز أن المعنى: ليس هجرها لك بسبب، وإنما هو لايذائك واحتراق قلبك.
وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل» «١» فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فما تيسر منه. يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب.
والهدى جمع هدية، كما يقال في جدية السرج «٢» جدي. وقرئ (من الهدىّ) بالتشديد جمع هدية كمطية ومطىّ. يعنى فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة، فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة، فإن قلت: أين ومتى ينحر هدى المحصر؟
قلت: إن كان حاجا فبالحرم متى شاء عند أبى حنيفة يبعث به، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار «٣» وعندهما في أيام النحر وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً. و «ما استيسر» رفع بالابتداء، أى فعليه ما استيسر. أو نصب على: فاهدوا ما استيسر وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ الخطاب للمحصرين: أى لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدى الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مَحِلَّهُ أى مكانه الذي يجب نحره فيه. ومحل الدين وقت وجوب قضائه، وهو ظاهر على مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه. فإن قلت: إنّ النبىّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم نحر هديه حيث أحصر «٤» ؟ قلت:
كان محصره طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة وهو من الحرم، وعن الزهري أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال
(٢). قوله «في جدية السرج» في الصحاح «الجدية» بتسكين الدال: شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج والرحل. ثم قال: وكذلك الجدية على فعيلة. (ع)
(٣). قوله «على يده يوم أمار» عبارة البيضاوي: يوم أمارة، فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تخلل. وفي الصحاح: قال الأصمعي: الآمار ولأمارة. الوقت والعلامة. (ع)
(٤). أما نحر الهدى حين حصر ففي البخاري من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما «أنه صلى اللَّه عليه وسلم خرج معتمراً. فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية» وأما كونه أسفل مكة فرواه [بياض في الأصل.]
وأما حديث الزهري فلم أجده لكن روى الطبري من حديث ناجية بن جندب الأسلمى» قال: أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم حين صد عن البيت. فقلت: يا رسول اللَّه ابعث معى بالهدى فينحر بالحرم. قال: كيف تصنع به؟ قال: أنحدر به في أودية فلا يقدرون عليه. فانطلقت به حتى نحرته في الحرم.
فىّ نزلت هذه الآية، وروى أنه مرّ به وقد قرح رأسه «٢» فقال: «كفى بهذا أذى» «٣» وأمره أن يحلق ويطعم، أو يصوم. والنسك مصدر، وقيل جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك، بالتخفيف فَإِذا أَمِنْتُمْ الإحصار، يعنى فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة فَمَنْ تَمَتَّعَ أى استمتع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج: انتفاعه بالتقرّب بها إلى اللَّه تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج. وقيل: إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم من الحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ هو، هدى المتعة، وهو نسك عند أبى حنيفة ويأكل منه. وعند الشافعي يجرى مجرى الجنايات ولا يأكل منه.
ويذبحه يوم النحر عندنا. وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى فعليه فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أى في وقته وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه. والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم. وعند الشافعي: لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكا بظاهر قوله: فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: هو الرجوع إلى أهاليهم. وقرأ ابن أبى عبلة (وسبعة) بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام، وكأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله: (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) فإن قلت فما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا أو واحداً منهما كان ممتثلا ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة.
وأيضا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به، ومن جهتين، فيتأكد العلم. وفي أمثال العرب: علمان خير من علم، وكذلك كامِلَةٌ تأكيد آخر. وفيه
(٢). قوله «وقد قرح رأسه» في الصحاح: قرح جلده- بالكسر- خرجت به القروح. (ع)
(٣). أخرجه إسحاق في مسنده والطبراني والدارقطني من رواية الزبير بن عدى عن أبى وائل عن كعب بن عجرة قال «لقيني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فمسح رأسى فتناثر القمل. فقال: كفى بهذا أذى، انطلق فاحلق وتصدق على ستة مساكين» وفي رواية إسحاق، قال: «إن هذا لأذى» وأمره أن يحلق وأن ينسك أو يصوم أو يطعم».
وفي قراءة أبىّ: فصيام ثلاثة أيام متتابعات ذلِكَ إشارة إلى التمتع، عند أبى حنيفة وأصحابه.
لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه. وعند الشافعي: إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدى أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئا «١». وحاضرو المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وَاتَّقُوا اللَّهَ في المحافظة على حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف ليكون علمكم بشدّة عقابه لطفاً لكم في التقوى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
أى وقت الحج أَشْهُرٌ كقولك: البرد شهران. والأشهر المعلومات: شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة «٢» عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: تسع ذى الحجة وليلة يوم النحر. وعند مالك: ذى الحجة كله. فإن قلت: ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت: فائدته أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضا عند الشافعي في غيرها. وعند أبى حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه. فإن قلت: فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهر؟ قلت: اسم الجمع
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «هي شوال وذو القعدة... الخ». قال أحمد: الذي نقله عن مالك أحد قوليه وليس بالشهور عنه. وأما استدلاله لهذا القول بكراهية عمر الاعتمار إلى أن يهل المحرم فلا ينهض دليلا لمالك، لأنه يقول: لا تنعقد العمرة في أيام منى خاصة لمن حج، ما لم يتم الرمي ويحل بالافاضة فتنعقد. وجميع السنة ما عدا ما ذكر ميقات للعمرة، ولا تطهر فائدة هذا القول عند مالك إلا في إسقاط الدم عن مؤخر طواف الافاضة إلى آخر ذى الحجة لا غير، وهي الفائدة التي نقلها الزمخشري عن عروة، ولعمري إن هذا القول حسن دليلا، فلا يحتاج إلى مزيد. ولكن ظاهر الآية ومقتضاها: أن جملة الأشهر هي زمان الحج. ألا ترى أن من قال: وعشر من ذى الحجة يحتاج في تنزيل الآية على مذهبه إلى تقرير أن بعض الشهر يتنزل منزلة جميعه، ويستشهد على ذلك بقوله:
ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال
وإنما أحوجه إلى الاستشهاد، خروج مقالته عن ظاهر الآية فالمتمسك بها على ظاهرها في كمال الأشهر الثلاثة واقف مع اقتضائها غير مضطر إلى مزيد عليه.
فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك
(٢). قوله «حتى إذا أهللت المحرم» في الصحاح: أهل الهلال واستهل، على ما لم يسم فاعله. (ع)
(٣). قوله «والمكارين» في الصحاح: الكراء ممدود، لأنه مصدر كاريت. والدليل على ذلك أنك تقول: رجل مكار. ومفاعل: إنما هو من فاعلت اه فالمكارين في عبارة المفسر. جمع للمكارى، على زنة المفاعلين جمعا للمفاعل. (ع)
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «إنما أمر باجتناب ذلك في الحج واجتنابه واجب... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه:
وفيه نكتة تتعلق بعلم البيان، وهي أن تخصيص الحج بالنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يشعر بأنها في غبر الحج وإن كانت منهيا عنها وقبيحة، إلا أن ذلك القبح الثابت لها في غير الحج كلا قبح بالنسبة إلى وقوعها في الحج فاشتمل هذا التخصيص على هذا النوع من المبالغة البليغة واللَّه أعلم. على أن الرفث إن كان التحدث في أمر الجماع خاصة، فالنهي عنه خاص بالحج وهو جائز في غيره على الوجه الشرعي. وقد نبه مالك رضى اللَّه عنه على أنه لا بأس للحاج بالسعي في أمور النساء، إلا أن ذلك قد يوقع في الوهم أنه يؤدى إلى ترك المحظور، وهذا يدل على تشديد مالك في حظر الرفث للحاج وما يتعلق به واللَّه أعلم. وسمعت الشافعية يلهجون بالاعتراض على إسحاق في قوله من التنبيه: وتحريم الغيبة على الصائم. فيقولون: وعلى المفطر، فلا فائدة في تخصيص الصائم، ويعدون ذلك وهما منه وهم بمعزل عن هذه الآية وأمثالها، فقد أوسعته عذراً في عبارته تلك إذ الكتاب العزيز به تمتحن الفصاحة وصحة العبارات.
نحن متوكلون، ونحن نحج بيت اللَّه أفلا يطعمنا فيكونون كلًّا على الناس، فنزلت فيهم.
ومعناه: وتزوّدوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس «٣» والتثقيل عليهم، فإن خير الزاد التقوى وَاتَّقُونِ وخافوا عقابي يا أُولِي الْأَلْبابِ يعنى أن قضية اللب تقوى اللَّه، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٢]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
(٢). متفق عليه من حديث أبى هريرة.
(٣). قوله «وإبرام الناس» في الصحاح: أبرمه، أى أمله وأضجره. (ع)
(٢). أخرجه أبو داود وأحمد وابن أبى شيبة والحاكم من طريق العلاء بن المسيب: حدثنا أبو أمامة التيمي قال «كنت أكرى في هذا الوجه وكان قوم يقولون: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر، فقال: ألست بمحرم، ولكن- الحديث»
(٣). أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن مهاجر عن أبى صالح مولى عمر. قال «قلت: يا أمير المؤمنين- فذكره» وفي إسناده مندل بن على. وهو ضعيف.
(٤). قوله «أن تبتغوا» كان الأوجه تقديم هذا على تفسير قوله تعالى: (فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ). (ع)
(٥). لم أجده. والذي في الغرائب لأبى عبيد الجرمي. وفي مسند الشافعي وطبقات ابن سعد كلهم من حديث ابن عيينة عن ابن المنكدر، وعن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن جبير بن الحويرث قال «رأيت أبا بكر على قزع. وهو يخرش بعيره بمحجنه» : زاد الجرمي عن أبى بكر بن أبى شيبة عن ابن عيينة «كأنى أنظر إلى فخذه وقد انكشفت»
(٦). قوله «دقران» في بعض النسخ: ذفران، بالذال المعجمة والفاء. ولعل الأول بالدال المهملة والفاء، من الدفر بمعنى النتن خاصة. والذفر- بالمعجمة والفاء محركة- ذكاء الرائحة طيبة أو خبيثة، كما في الصحاح. أما الدقر بالمهملة والقاف فبمعنى الشدة والكذب والفحش والنميمة. أفاده الصحاح. وفيه. الخرش مثل الخدش. (ع)
(٧). قوله «وهضبوا فيه» في الصحاح: الهضبة المطرة. وهضب القوم في الحديث واهتضبوا أى أفاضوا فيه. (ع)
(٨). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت هلا منعت عرفات الصرف... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: يلزمه إذا سمى امرأة بمسلمات أن لا يصرفه فيقول: هذا مسلمات بغير تنوين، وهو قول ردىء بل الأفصح الصحيح في مسلمات إذا سمى به أن ينون. وإنما بنى الزمخشري كلامه هذا على أن تنوين عرفات للتمكين لا للمقابلة، ولذلك أسقط تنوين المقابلة من أنواع التنوين التي عدها في مفصله، على أنه راجع إلى تنوين التمكين. [.....]
ووصف بالحرم لحرمته. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون. وقيل: سميت المزدلفة وجمعا لأنّ آدم صلوات اللَّه عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها، أى دنا منها. وعن قتادة: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين. ويجوز أن يقال: وصفت بفعل أهلها، لأنهم يزدلفون إلى اللَّه أى يتقرّبون بالوقوف فيها كَما هَداكُمْ
(٢). قوله «من مأزمى عرفة» في الصحاح: المأزم المضيق، وموضع الحرب أيضا. (ع)
(٣). أخرجه مسلم في صفة الحج في الحديث الطويل.
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً في موضع جرّ عطف على ما أضيف إليه الذكر «٢» في قوله: (كَذِكْرِكُمْ) كما
وقد اشتملت الآية على نكتتين:
إحداهما: عطف الافاضتين إحداهما على الأخرى ومرجعهما واحد وهو الافاضة المأمور بها، فربما يتوهم متوهم أنه من باب عطف الشيء على نفسه، فيزال هذا الوهم بأن بينهما من التغاير ما بين العام والخاص، والمخبر عنه أولا الافاضة من حيث هي غير مقيدة، والمأمور به ثانيا الافاضة مخصوصة بمساواة الناس.
والثانية: بعد وضوح استقامة العطف كونه وقع بحرف المهملة وذلك يستدعى التراخي مضافا إلى التغاير، وليس بين الاضافة المطلقة والمقيدة تراخ. فالجواب على ذلك: أن التراخي كما يكون باعتبار الزمان قد يكون باعتبار علو المرتبة وبعدها في العلو بالنسبة إلى غيرها، وهو الذي أجاب به بعد مزيد نشيط وإيضاح
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «أشد معطوف على ما أضيف إليه الذكر... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: فعلى الأول يكون (أَشَدَّ) واقعاً على المذكور المفعول. ومثاله على الأول: أن يضرب اثنان زيداً مثلا، فيقول أيهما أشد ضرباً لزيد؟ فيوقعه على الضارب. ومثال الثاني أن يضرب زيد اثنين مثلا فتقول: أيهما أشد ضرباً؟ فتوقعه على المضروب. وعلى الوجه الأول يكون التفضيل على الفاعل وهو القياس. وعلى الثاني يكون التفضيل على المفعول وهو خلاف القياس. وقد ذكر الزمخشري في مفصله أنه شاذ بقولهم: أتسبل مرآة التحسين وأنا أسر منك، هذا في أمثلة عددها، فليت شعري كيف حمل الآية عليه وقد وجد غير ذلك سبيلا، وفي الوجهين جميعاً يفر من عطف أشد على الذكر الأول، لئلا يكون واقعاً على الذكر وقد انتصب الذكر تمييزاً عنه، فيكون الذكر ذاكراً وهو محال، لكن أبا الفتح صحح هذا الوجه وألحقه بباب قولهم: شعر شاعر، وجن جنونه، ونحوه مما بالغت العرب فيه حتى جعلت للصفة صفة مثلها تمكينا لثبوتها. ووضح ذلك أن انتصاب الذكر تمييزاً يوجب أن لا يقع أشد عليه، ويعين خروجه منه إما بأن يقع على الجثة الذاكرة بتأويل جعله ذاكراً، على ما صار إليه أبو الفتح أنك لو قلت: زيد أكرم أبا، لكان زيد من الأبناء: ولو قلت: زيد أكرم أب، لكان من الآباء. ويحتمل عطفه على الذكر أعنى وجها آخر سوى ما ذهب إليه أبو الفتح، وهو أن يكون من باب ما ذكره سيبويه قال: ويقولون هو أشح الناس رجلا، وهما خير الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين، فالمجرور هنا بمنزلة التنوين، وانتصب الرجل والاثنين، كما انتصب الوجه في قولك: هو أحسن منه وجها، ولا يكون إلا نكرة، كما لا تكون الحال إلا نكرة، والرجل هو الاسم المبتدأ فإنما أراد بذلك أن هذا ليس بمثابة: هو أشجع الناس غلاماً فان هذا يجوز أن يكون غلاماً هو الاسم المبتدأ كما في المثال الأول، ويجوز أن يكون غيره فالآية على هذا الوجه الذي أوضحته منزلة على المثال الأول، فيكون ذكر المنصوب واقعاً على أشد كما كان الرجل المنصوب واقعا على أشح فكأنه قال: أو أشد الأذكار ذكراً، فهذه وجوه أربعة كلها مطروقة، إلا هذا الوجه الذي زدته، فان خاطري أبو عذرته (كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) ولم أقف على كلام الزمخشري فيها بعد.
والحسنتان ما هو طلبة الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير، وطلبتهم في الآخرة من الثواب. وعن على رضى اللَّه عنه: الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار: امرأة السوء: أُولئِكَ الداعون بالحسنتين لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا أى نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا، كقوله: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا). أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة. وسمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب: بما كسبت أيديكم. ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) للفريقين جميعاً، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٣]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
الأيام المعدودات. أيام التشريق، وذكر اللَّه فيها: التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار.
وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله، حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف فَمَنْ تَعَجَّلَ فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل، واستعجل:
يجيئان مطاوعين بمعنى عجل. يقال: تعجل في الأمر واستعجل: ومتعديين، يقال: تعجل الذهاب واستعجله. والمطاوعة أوفق لقوله: (وَمَنْ تَأَخَّرَ) كما هي كذلك في قوله:
قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتِهِ | وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ «١» |
والناس من يلق خيراً قائلون له | ما يشتهى ولأم المخطئ الهبل |
قد يدرك المتأنى بعض حاجته | وقد يكون مع المستعجل الزلل |
وربما فات قوم جل أمرهم | من التأنى وكان الرأى لو عجلوا |
قد يدرك المنهل بعض قصده | وقد يكون مع المتعجل الخطأ |
ويجوز أن «لو عجلوا» هو اسم كان والرأى بالنصب خبرها. وروى بدله الحزم، والمعنى متقارب. وفي الكلام نوع بديعى يسمى العكس والتبديل، وهو الإتيان بنقيض المعنى المشهور كما هنا، فان مدح التأنى هو المشهور، ومدح العجلة يناقضه. أفاده السيوطي في شرح عقود الجمان.
(٢). قوله «يوم النحر يوم القر» في الصحاح: لأن الناس يقرون في منازلهم. (ع)
قلت: بلى، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل «١» وقيل: إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين: منهم من جعل المتعجل آثما، ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفي المأثم عنهما جميعاً لِمَنِ اتَّقى أى ذلك التخيير.
ونفى الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقى: لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأنّ ذا التقوى حذر متحرّز من كل ما يريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند اللَّه. ثم قال وَاتَّقُوا اللَّهَ ليعبأ بكم. ويجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى، لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ).
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ أى يروقك ويعظم في قلبك. ومنه: الشيء العجيب الذي يعظم في النفس.
وهو الأخنس بن شريق كان رجلا حلو المنطق، إذا لقى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال: يعلم اللَّه أنى صادق. وقيل: هو عامّ في المنافقين، كانت تحلولي ألسنتهم، وقلوبهم أمرّ من الصبر، فإن قلت: بم يتعلق قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؟ قلت:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
يَشْرِي نَفْسَهُ يبيعها أى يبذلها في الجهاد. وقيل: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل، وقيل: نزلت في صهيب بن سنان: أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفرا كانوا معه، فقال لهم: أنا شيخ كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالى. فقبلوا منه ماله وأتى المدينة وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢٠٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
ويجوز أن يكون كافة حالا من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب. قال:
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ | وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ «١» |
أبا خراشة أما أنت ذا نفر | فان قومي لم تأكلهم الضبع |
إن تك جلمود بصر لا أؤبسه | أوقد عليه فأحميه فينصدع |
السلم تأخذ منها ما رضيت به | والحرب يكفيك من أنفاسها جرع |
والبصر: حجارة تضرب إلى بياض، واحدة بصرة. وقيل هي بمعناه، وأبسه تأبيساً: ذلله وكسره. يقول يا أبا خراشة، لأن كنت صاحب جيش افتخرت على، لا تفعل ذلك فان قومي موجودون كثيرون. وكنى عن ذلك بعدم أكل الضبع إياهم. ويحتمل أن فيه تعريضا أيضا، ثم قال: إن تكن كصخر من الحجارة لا أقدر على تأبيسه وتكسيره لصلابته، أو قد عليه نار الحرب بمعاونة الفرسان لي فأحرقه فينشق وينكسر فالايقاد استعارة مصرحة، والاحماء ترشيح. أو إن لم أغلبك على العادة تحيلت حتى أغلبك، كما يتحيل بكسر الحجر بالنار. وأتى بضمير الغيبة نظراً للخبر، ورفع أحميه وينصدع بعد الشرط المضارع قليل ضعيف، سيما مع عطفهما على المجزوم، ولعله توهم جزمه. والسلم بالفتح وبالكسر: الصلح تأخذ منها ما يكفيك من طول المدة، أو تأخذ منا بسببها. وأما الحرب فيكفيك منها القليل، فتنكير جرع للتقليل. وشبه الحرب بنار منحبسة في ظرف ذى منافذ تخرج منها أنفاس، وشبه الأنفاس بماء على طريق المكنية والأنفاس تخييل للأولى والجرع تخييل للثانية، وفيها نوع تهكم حيث شبه الحار بالبارد، كأنه يسقيه من أنفاسها. ويروى «في السلم تأخذ منا ما رضيت به» أى تأخذ منا شيئا كثيراً في زمن الصلح، ولا تطيق من حربنا إلا قليلا لكن هذه الرواية إنما تدل على تأنيث السلم، بطريق المقابلة للحرب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
إتيان اللَّه إتيان أمره وبأسه كقوله: َوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
، (جاءَهُمْ بَأْسُنا) ويجوز أن يكون المأتى به محذوفا، بمعنى أن يأتيهم اللَّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ). فِي ظُلَلٍ جمع ظلة وهي ما أظلك. وقرئ: ظلال وهي جمع ظلة، كقلة وقلال أو جمع ظل. وقرئ وَالْمَلائِكَةُ بالرفع كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وبالجر عطف على ظلل أو على الغمام. فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث. ومن ثمة اشتد على المتفكرين في
وطائفة من يهود، استأذنوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلا. فأمرهم اللَّه باقامة شعائر الإسلام والرغبة عما عداها. قال فذكر الآية. فهذا أولى. وابن جريج لم يسمع من عكرمة.
(٢). قوله «في صلاته من الليل» لعل بعده سقطا تقديره: فنزلت. (ع)
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
سَلْ أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد. وهذا السؤال سؤال تقريع كما تسئل الكفرة يوم القيامة كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ على أيدى أنبيائهم وهي معجزاتهم، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام، ونِعْمَةَ اللَّهِ آياته، وهي أجل نعمة من اللَّه، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: أن اللَّه أظهرها لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم. كقوله: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أو حرفوا آيات الكتب «١» الدالة على دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟ قلت: تحتمل الأمرين.
ومعنى الاستفهام فيها للتقرير. فإن قلت: ما معنى مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ. قلت: معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها، كقوله: ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه: وقرئ: وَمَنْ يُبَدِّلْ بالتخفيف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
المزين هو الشيطان «٢» زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها.
ويجوز أن يكون اللَّه قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين له تزيينا، ويدل عليه قراءة من قرأ (زين الذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء للفاعل وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
(٢). قال محمود رحمه اللَّه «المزين هو الشيطان... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وردت إضافة التزيين إلى اللَّه تعالى وإضافته إلى غيره في مواضع من الكتاب العزيز وهذه الآية تحتمل الوجهين، لكن الاضافة إلى قدرة اللَّه تعالى حقيقة، والاضافة إلى غيره مجاز. على قواعد السنة. والزمخشري يعمل على عكس هذا، فان أضاف للَّه فعلا من أفعاله إلى قدرته جعله مجازا وإن أضافه إلى بعض مخلوقاته جعله حقيقة. وسبب هذا هو التعكيس باتباع الهوى في القواعد الفاسدة. [.....]
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على دين الإسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ يريد: فاختلفوا فبعث اللَّه. وإنما حذف لدلالة قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) عليه. وفي قراءة عبد اللَّه: كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث اللَّه. والدليل عليه قوله عز وعلا (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)
وقيل: هم نوح ومن كان معه في السفينة وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ يريد الجنس، أو مع كل واحد منهم كتابه لِيَحْكُمَ اللَّه، أو الكتاب، أو النبىّ المنزل عليه فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، أى ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب، وجعلوا نزول الكتاب سببا في شدّة الاختلاف واستحكامه بَغْياً بَيْنَهُمْ حسداً بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم. ومِنَ الْحَقِّ بيان لما اختلفوا فيه، أى فهدى اللَّه الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة «١» فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات- تشجيعاً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له- قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ: أم حسبتم وَلَمَّا فيها معنى التوقع، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات. والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا حالهم التي هي مثل في الشدّة. ومَسَّتْهُمُ بيان للمثل وهو استئناف، كأن قائلا قال:
كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء وَزُلْزِلُوا وأزعجوا إزعاجا شديداً شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها مَتى نَصْرُ اللَّهِ أى بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب الصبر وتمنيه، واستطالة زمان الشهدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهى الأمر في الشدة وتماديه في العظم، لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
فإن قلت: كيف طابق الجواب السؤال في قوله: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت: قد تضمن قوله ما أنفقتم مِنْ خَيْرٍ بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر:
إنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً | حَتَّى يُصَابَ بهَا طَرِيقُ الْمصنَعِ «١» |
ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت. وعن السدى: هي منسوخة بفرض الزكاة. وعن الحسن: هي في التطوّع.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ من الكراهة بدليل قوله وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقولها:
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ «٣»
إن الصنيعة لا تكون صنيعة | حتى يصاب بها طريق المصنع |
فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها | للَّه أو لذوي القرابة أو دع |
(٢). قوله «وهو شيخ هم وله مال» في الصحاح الهم- بالكسر-: الشيخ الفاني. (ع)
(٣). مر شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٢١٨ فراجعه إن شئت اه مصححه
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٧ الى ٢١٨]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه بن جحش على سرية في جمادى الآخرة»
قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيراً لقريش فيها عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويبذعرّ «٣» فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم العير، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا، وردّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم العير والأسارى، وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: لما نزلت أخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الغنيمة. والمعنى: يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام. وقِتالٍ فِيهِ بدل الاشتمال من الشهر. وفي
الخ فان النفوس تكرهه وهو خير لهم، وتحب خلافه وهو شر لهم. (ع)
(٢). أخرجه ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير بطوله، ومن طريقه رواه البيهقي في الدلائل، وكذا ذكره ابن لهيعة عن أبى الأسود عن عروة. ومن طريقه الواحدي. وأخرجه الطبراني من حديث جندب بن عبد اللَّه البجلي موصولا.
(٣). قوله «ويبذعر فيه الناس» أى يتفرقون فيه. أفاده الصحاح. (ع)
فحلف باللَّه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه، وما نسخت.
وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مبتدأ وأكبر خبره، يعنى وكبائر قريش من صدّهم عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام، وكفرهم باللَّه وإخراج أهل المسجد الحرام وهم رسول اللَّه والمؤمنون أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن وَالْفِتْنَةُ الإخراج أو الشرك. والمسجد الحرام: عطف على سبيل اللَّه، ولا يجوز أن يعطف على الهاء في: (بِهِ). وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم، وحتى معناها التعليل كقولك: فلان يعبد اللَّه حتى يدخل الجنة، أى يقاتلونكم كى يردّوكم. وإِنِ اسْتَطاعُوا استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بى فلا تبق علىَّ. وهو واثق بأنه لا يظفر به وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه فَيَمُتْ على الردّة فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة. وبها احتج الشافعي على أن الردّة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها. وعند أبى حنيفة أنها تحبطها وإن رجع مسلماً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا روى أن عبد اللَّه بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فنزلت أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وعن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمّة، ثم جعلهم اللَّه أهل رجاء كما تسمعون. وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٩ الى ٢٢٠]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة «١» :(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً)
(٢). لم أجده عنه.
لأنه سلب يساره. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال:
أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى «٢»
أى يفعلون بى ما يفعل الياسرون بالميسور. فإن قلت: كيف صفة الميسر؟ قلت: كانت لهم عشرة أقداح، وهي: الأزلام والأقلام، والفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى والمنيح والسفيح، والوغد. لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها عشرة أجزاء. وقيل: ثمانية وعشرين إلا لثلاثة، وهي المنيح والسفيح والوغد. ولبعضهم:
لِىَ فِى الدُّنْيَا سِهَامٌ | لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ |
وَأسَامِيهِنَّ وَغْدٌ | وَسَفِيحٌ وَمنِيحُ «٣» |
(٢).
أقول لهم بالشعب إذ ييسروننى | ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم |
وروى: إذ يأسروننى، أى يأخذوننى أسيراً عندهم. ويجوز أن المعنى: ألم تيأسوا وتقطعوا أطماعكم عما تريدون بى لأنى ابن ذلك الفارس المشهور، فالاستفهام للتوبيخ والحث على اليأس من ذلك.
(٣). الأسماء الثلاثة لأقلام الميسر التي لا نصيب لها من الجزور كل اسم لعلم، والوغد في الأصل: الحادم، والدنىء، وثمر الباذنجان بخلاف السبعة الباقية فلها أنصباء. والكلام من باب التمثيل، شبه حاله في الدنيا بحال من خرجت له تلك السهام في الميسر لعدم الظفر بالمرام. ويبعد كونه كناية عن الكرم، حيث يعطى ولا يأخذ.
ويروى بدل «وأساميهن» «إنما سهمي» أى سهامي، بدليل: سهام قبله. [.....]
والمعنى: يسألونك عما في تعاطيهما، بدليل قوله تعالى قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَإِثْمُهُما وعقاب الإثم في تعاطيهما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم، وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام «٣». وقرئ: إثم كثير- بالثاء- وفي قراءة أبىّ: وإثمهما أقرب. ومعنى الكثرة: أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة الْعَفْوَ نقيض الجهد وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال:
خُذِى الْعَفْوَ مِنِّى تَسْتَدِيمِى مَوَدَّتِى «٤»
ويقال للأرض السهلة: العفو. وقرئ بالرفع والنصب. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، أنّ رجلا أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال: خذها منى صدقة، فأعرض عنه رسول اللَّه صلى
(٢). أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقي والثعلبي من طريق حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه «أن عليا قال في النرد والشطرنج: هما من الميسر» وهو منقطع.
(٣). قوله «والافتخار على الأبرام» جمع للبرم بالتحريك، وهو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. كذا في الصحاح. (ع)
(٤).
خذي العفو منى تستديمى مودتي | ولا تنطقى في سورتي حين أغضب |
فانى رأيت الحب في الصدر والأذى | إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب |
ولا تضربينى مرة بعد مرة | فإنك لا تدرين كيف المغيب |
شدة الغضب. واجتمعا: شارفا الاجتماع. ويذهب: استئناف وقع جواب سؤال مقدر، والضرب مجاز عن الإيذاء، والمغيب عاقبة الأمر، أى خذي السهل من أخلاقى لئلا يذهب حبى إياك ويذهب فيه رائحة الاضراب، أى بل يذهب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
(٢). قوله «أكبر من نفعهما لتتفكروا» لعله فيكون المعنى: لتتفكروا. (ع)
(٣). قوله «وكذلك فلا إثم عليه» لعله: كذلك في طرح الهمزة، لا في نقل الحركة، وتطرح ألف المد لالتقاء الساكنين. فليحرر. (ع)
وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث مرثد بن أبى مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق، فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال:
ويحك! إن الإسلام قد حال بيننا. فقالت: فهل لك أن تتزوّج بى؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستأمره، فاستأمره «١» فنزلت وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة، وكذلك (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) لأنّ الناس كلهم عبيد اللَّه وإماؤه وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها، فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك أُولئِكَ إشارة إلى المشركات والمشركين، أى يدعون إلى الكفر فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ يعنى وأولياء اللَّه وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة وَالْمَغْفِرَةِ وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم بِإِذْنِهِ بتيسير اللَّه وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن: والمغفرة بإذنه- بالرفع- أى والمغفرة حاصلة بتيسيره.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك «٤». وقرئ (يطهرن) بالتشديد، أى يتطهرن، بدليل قوله فَإِذا تَطَهَّرْنَ وقرأ عبد اللَّه:
حتى يتطهرن. ويطهرن بالتخفيف. والتطهر: الاغتسال. والطهر: انقطاع دم الحيض. وكلتا
(٢). هو في الموطأ من رواية محمد بن الحسن: عن. لك عن نافع «أن عبد اللَّه بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها- فذكره» وكذا أخرجه رواة الموطأ عن مالك والشافعي وغيره. وأخرجه عبد الرازق عن ابن جريج عن سلمان ابن موسى عن نافع نحوه
(٣). رواه مالك في الموطأ عنه بهذا مرسلا. ووصله الطبراني من رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم وصفوان ابن مسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. وفي الباب عن حزام بن حكيم عن عمه عبد اللَّه بن سعد «أنه سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ما يحل لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار» أخرجه أبو داود. وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بنحوه- وزاد: والتعفف عن ذلك أفضل وإسناده ضعيف
(٤). أخرجه الدرامى من رواية أيوب عن رجل عن عائشة أنها قالت لإنسان «اجتنب شعار الدم ولك ما سواه».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٥]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
العرضة: فعلة بمعنى مفعول، كالقبضة والغرفة، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. والعرضة أيضاً: المعرض للأمر. قال:
فَلَا تَجْعَلُونِى عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ «١»
ومعنى الآية على الأولى: أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات، من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد، أو عبادة، ثم يقول: أخاف اللَّه أن أحنث في يمينى، فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه، فقيل لهم: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أى حاجزاً لما حلفتم عليه.
وسمى المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين، كما قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» «٢» أى على شيء مما يحلف عليه. وقوله: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا عطف بيان لأيمانكم، أى للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإن قلت: بم تعلقت اللام في لأيمانكم؟ قلت:
بالفعل، أى ولا تجعلوا اللَّه لأيمانكم برزخاً وحجازاً. ويجوز أن يتعلق ب: (عُرْضَةً) لما فيها
دعوني أنح وجدا كنوح الحمائم | ولا تجعلوني عرضة للوائم |
(٢). أخرجه الأئمة الخمسة من رواية الحسن البصري عن عبد الرحمن بن سمرة.
الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره. ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل «لغو» واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتدّ به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه. والدليل عليه (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ)، (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) واختلف الفقهاء فيه، فعند أبى حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه. وعند الشافعي: هو قول العرب: لا واللَّه، وبلى واللَّه، بما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. ولو قيل لواحد منهم:
سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك، ولعله قال: لا واللَّه ألف مرة. وفيه معنيان:
أحدهما (لا يُؤاخِذُكُمُ) أى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أى اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس. والثاني (لا يُؤاخِذُكُمُ) أى لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أى بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان، ولم يكن كسب اللسان وحده وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٨]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
قرأ عبد اللَّه: آلوا من نسائهم. وقرأ ابن عباس: يقسمون من نسائهم: فإن قلت: كيف عدى بمن، وهو معدى بعلى؟ قلت: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون
لي منك كذا. والإيلاء من المرأة أن يقول: واللَّه لا أقربك أربعة أشهر فصاعداً على التقليد بالأشهر. أو لا أقربك على الإطلاق. ولا يكون في مادون أربعة أشهر، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي. وحكم ذلك: أنه إذا فاء إليها في المدة «١» بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز: صح الفيء، وحنث القادر، ولزمته كفارة اليمين، ولا كفارة على العاجز. وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ثم يوقف المولى، فإما أن يفيء وإما أن يطلق وإن أبى طلق عليه الحاكم. ومعنى قوله فَإِنْ فاؤُ فإن فاءوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد اللَّه: فإن فاءوا فيهن فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من الغيل «٢»، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فتربصوا إلى مُضىِّ المدة فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعلى قول الشافعي رحمه اللَّه معناه: فإن فاءوا، وإن عزموا «٣» بعد مضى المدة. فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ «٤» قلت: موقع صحيح لأن قوله: (فَإِنْ فاؤُ)، (وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ)
والتفصيل
(٢). قوله «على الولد من الغيل» في الصحاح: اخترت الغيلة- بالكسر- بولد فلان، إذا أتيت أمه وهي ترضعه، أو حملت وهي ترضعه. والغيل- بالفتح- اسم ذلك الابن. (ع)
(٣). قوله «فان فاءوا وإن عزموا» يعنى أن كلا من الشرطين عند الشافعي بعد مضى المدة. (ع)
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انقضاء مدة التربص الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: هذا جواب عن سؤال موجه على أبى حنيفة رضى اللَّه عنه لأنه إذا رأى الفيئة في الأشهر الأربعة خاصة لا فيما بعدها واللَّه تعالى عطف الفيئة على تربص أربعة أشهر بالفاء ومقتضاها كما علمت وقوع ما عطفه بعد ما عطفه عليه فيلزم وقوع الفيئة المعتبرة بعد انقضاء الأشهر الأربعة، وأبو حنيفة يأباه فلذلك أجاب عنه الزمخشري بجوابه المتقدم والسؤال عندي يندفع بطريق آخر وهو أن المعطوف عليه التربص وهو حاصل من أول المدة لوقوع الفيئة في المدة بعد التربص فلا يحتاج إلى الجواب بالمثال المذكور وإنما أوقع الزمخشري في التزام السؤال تسليمه لتقدم الفيئة في الأربعة الأشهر على تربصها بناء منه على أنه لا يصدق قول القائل قد تربصت بفلان أربعة أشهر إلا إذا انقضت المدة وليس الأمر كذلك فانه يصدق من الحاكم أن يقول عند ضرب أجل المولى قد تربصت لك أربعة أشهر كما قال اللَّه تعالى لينظر أيفيء أم لا، ويصدق رب الدين في أن يقول لمديانه حالة القرض قد أجلك بهذا الدين سنة وإن كان المقتضى منها حينئذ دقيقة واحدة فلذلك التربص المعطوف عليه في الآية واقع عند ضرب الأجل المذكور فالفيئة الواقعة في الأجل إنما يقع بعده، فالفاء على بابها المعروف.
ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل
(٢). قوله «لا يخلو من مقاولة ودمدمة» في الصحاح: دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض، لكنه غير مناسب هنا، فلعله زمزمة بالزاي. وفي الصحاح: الزمزمة صوت الرعد. والزمزمة: كلام المجوس عند أكلهم. أو رمرمة بالراء، وفي الصحاح: ترمرم، إذا حرك فاه للكلام اه. وهذا أنسب. (ع)
وامرأة مقرئ. وقال أبو عمرو بن العلاء: دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها، أى تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء. فإن قلت: فما تقول: في قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ والطلاق الشرعي، إنما هو في الطهر؟ قلت: معناه: مستقبلات لعدتهن، كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا لثلاث، وعدتهنّ الحيض الثلاث. فإن قلت: فما تقول في قول الأعشى:
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا؟ «٣»
قلت: أراد: لما ضاع فيها من عدّة نسائك، لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن، أى من مدّة طويلة كالمدة التي تعتد فيها النساء، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في الحروب والغارات. وأنه تمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها، أو أراد من أوقات نسائك،
(٢). أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم من رواية مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة بهذا.
ومظاهر ضعيف. ورواه ابن ماجة والدارقطني من رواية عطية عن ابن عمر نحوه: وفيه عمر بن شبيب وهو ضعيف.
(٣).
أفى كل عام أنت جاشم غزوة | تشد لأقصاها عزيم عزائكا |
مؤثلة مالا وفي الحي رفعة | لما ضاع فيها من قروء نسائكا |
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٩ الى ٢٣٠]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
وقيل: بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث. وروى أنّ سائلا سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أو تسريح بإحسان» «١» وعند أبى حنيفة وأصحابه: الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه، لما روى في حديث ابن عمر أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة «٢» » وعند الشافعي. لا بأس بإرسال الثلاث، لحديث العجلاني الذي
(٢). أخرجه الدارقطني والطبراني من رواية شعيب بن رزين أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد العزيز بن عمير «أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرءين فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقال: يا ابن عمير، ما هكذا أمرك اللَّه. قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء: فأمرنى بمراجعتها. فقال: إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك- الحديث».
يجوز الأمران جميعاً: أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ مما أعطيتموهنّ من الصدقات إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود اللَّه فيما يلزمهما من مواجب الزوجية، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما
(٢). أخرجه الطبري في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيل عن أبى جرير أنه سأل عكرمة «هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد اللَّه بن أبى بن سلول، أتت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكره «ولم يسمها» وقد سماها البخاري من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة «أن جميلة- فذكره» ولابن ماجة من رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس «أن جميلة بنت سلول» وكذا أخرجه عبد الرزاق من وجه آخر «أن امرأة أتت النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وهي جميلة بنت عبد اللَّه بن أبى» وعند الدارقطني من طريق ابن جريج أخبرنا أبو الزبير «أن ثابت بن قيس كانت عنده زينب بنت عبد اللَّه بن أبى. وكان أصدقها حديقة، فكرهته- إلى آخره» فان كان محفوظاً فيحتمل أن يكون لها اسمان.
وقد رويت القصة لغيرها. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرو عن حبيبة بنت سهل «أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجدها عند بابه في الغلس. فقال من هذه؟
قالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس» ومن طريقه أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، ولابن ماجة من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت ابن قيس بن شماس، وكان رجلا دميما. فقالت: يا رسول اللَّه لولا مخافة اللَّه لبزقت في وجهه: فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردت عليه حديقته. وفرق بينهما» ولأحمد من حديث سهل بن أبى حثمة قال «كانت بنت سهل- الحديث». [.....]
ويقال: فلانة ناكح في بنى فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب. والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة، لما روى عروة عن عائشة رضى اللَّه عنها أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجنى، وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك «٢». وروى أنها لبثت ما شاء اللَّه، ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسنى، فقال لها:
كذبت في قولك الأوّل، فلن أصدّقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «٣» فأتت أبا بكر رضى اللَّه عنه فقالت: أأرجع إلى زوجي الأوّل، فقال: قد عهدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعى إليه، فلما قبض أبو بكر رضى اللَّه عنه قالت مثله لعمر رضى اللَّه عنه فقال: إن أتيتينى بعد مرّتك هذه لأرجمنك، فمنعها. فإن قلت:
(٢). متفق عليه من هذا الوجه.
(٣). قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة- فذكر الحديث. وفيه «فقعدت ما شاء اللَّه. ثم جاءته فأخبرته أنه قد مسها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول، وقال: اللهم إن كان إثما بها أن يحلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحة مرة أخرى. ثم أتت أبا بكر وعمر في خلافتهما فمنعاها».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣١ الى ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
(٢). أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة، من رواية المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر فذكره.
(٣). لم أجده عن عثمان بل وجدته عن ابن عمر. أخرجه الحاكم من رواية عمر بن نافع عن أبيه أنه قال «جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا إلا نكاح رغبة. كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» وقد روى مرفوعا أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنها «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سئل عن المحلل. فقال:
لا، إلا نكاح رغبة غير دلسة، ولا مستهزئ بكتاب اللَّه تعالى لم يذق العسيلة» وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى حبيبة وهو ضعيف.
كُلُّ حَىٍ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْرِ | وَمُودٍ إذَا انْتَهَى أمَدُهْ «١» |
لتلجئوهن إلى الافتداء فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعقاب اللَّه وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أى جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً.
ويقال لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت لاعب وهازئ. ويقال: كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة.
وقيل: كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول: كنت لاعباً. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم:
«ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: الطلاق «٢» والنكاح والرجعة «٣» وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام وبنبوّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها يَعِظُكُمْ بِهِ بما أنزل عليكم فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج. والمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ، وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ.
روى أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل. وقيل: في جابر
يقول: كل حى لا بد أنه يستكمل مدة عمره ويهلك إذا انتهت مدته وتسكين العمر لغة فيه.
(٢). قوله «وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة» في أبى السعود: النكاح والطلاق والعتاق. (ع)
(٣). أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والدارقطني والبيهقي، من حديث أبى هريرة. وفي إسناده ضعف.
عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم نخرج. وأنشد لابن هرمة:
وَإنَّ قَصَائِدِى لَكَ فَاصْطَنِعْنِى | عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاحِ «١» |
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
يُرْضِعْنَ مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد كامِلَيْنِ توكيد كقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، ولم تستكملهما. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أن يكمل الرضاعة: وقرئ الرِّضاعة. بكسر الراء. والرضعة. وأن تتم الرضاعة وأن يتم الرضاعة، برفع الفعل تشبيهاً ل «أن» ب «ما» لتأخيهما في التأويل. فإن قلت: كيف
حال من القصائد أو العقائل. وقوله «فاصطنعنى» اعتراض، أى فاتخذني مادحا وكافئنى على مدحي إياك بما لا أمدح به غيرك من القصائد. ولما شبه القصائد بالنساء رشح ذلك بالعضل، وهو المنع من النكاح الخاص بالنساء.
ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: اللام متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أى يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبى حنيفة رحمه اللَّه ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق. فان قلت:
فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت: إما أن يكون أمراً على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. وقيل: أراد الوالدات المطلقات، وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وعلى الذي يولد له وهو الوالد. و (لَهُ) في محل الرفع على الفاعلية، نحو (عَلَيْهِمْ) في: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فإن قلت لم قيل (الْمَوْلُودِ) له دون الوالد. قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد:
فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ | مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ «١» |
لا تزرين بفتى من أن يكون له | أم من الروم أو سوداء عجماء |
فإنما أمهات الناس أوعية | مستودعات وللآباء أبناء |
فأجابه بذلك. وأزرى به: إذا أوقع به العيب ورماه به. والنون في الفعل للتوكيد. ويروى: لا تزدرين فتى، على خطاب المؤنثة، وكأنه أراد به إسماع أخيه. وزرى عليه: إذا عاب عليه. والازدراء: افتعال منه، أى لا تعيبى، والنون ثابتة بعد النهى شذوذا. والعجماء: التي لا تفصح في كلامها. وشبه النساء بالأوعية التي تودع فيها الأشياء تشبيها بليغا، أو على طريق التصريحية على رأى السعد في كل تشبيه بليغ. وروى: وللأبناء آباء. والمعنى أن الرفعة والضعة من جهة الآباء لا من جهة الأمهات، لأنها كالأوعية للأبناء. لكن هذا التشبيه مبنى على الظاهر. ثم كتب المأمون أيضا في جواب أخيه: القلم بمده، والسيف بحده، والمرء بسعده، لا بأبيه ولا يجده.
وقرأ أبو جعفر: لا تضارّ، بالسكون مع التشديد على نية الوقف. وعن الأعرج (لا تضارْ) بالسكون والتخفيف، وهو من ضاره يصيره. ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. وعن كاتب عمر بن الخطاب: لا تضرر. والمعنى: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبى: اطلب له ظئراً، وما أشبه ذلك ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع. وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهى عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد: ويجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أى لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد. فان قلت: كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبىّ منها، فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد وَعَلَى الْوارِثِ عطف على قوله وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أى إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار. وقيل: هو وارث الصبى الذي لو مات الصبى ورثه. واختلفوا، فعند ابن أبى ليلى كل من ورثه، وعند أبى حنيفة من كان ذا رحم محرم منه. وعند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد. وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ. وقيل: المراد وارث الأب وهو الصبى نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه.
وقيل (عَلَى الْوارِثِ) على الباقي من الأبوين من قوله: «واجعله الوارث منا» «١» فَإِنْ أَرادا فِصالًا صادراً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد. وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما
أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقرئ: ما أتيتم، من أتى إليه إحساناً إذا فعله. ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أى مفعولا. وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم، أى ما آتاكم اللَّه وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى. ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبى واحتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد، كأنه قيل: إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشرى الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٤ الى ٢٣٥]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. وقيل: معناه يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. وقرئ: يَتوفون بفتح الياء «١»
تقول: صمت عشراً «١»، ولو ذكرت خرجت من كلامهم. ومن البين فيه قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فإذا انقضت عدّتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأئمة وجماعة المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التعرّض للخطاب بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ.
وإن فرّطوا كان عليهم الجناح فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ هو أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوّج، وعسى اللَّه أن ييسر لي امرأة صالحة، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح، فلا يقول: إنى أريد أن أنكحك، أو أتزوجك، أو أخطبك. وروى ابن المبارك عن عبد اللَّه بن سليمان عن خالته قالت:
دخل علىَّ أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي فقال: قد علمت قرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وحق جدّى علىّ وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر اللَّه لك! أتخطبنى في عدّتى وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وموضعى، قد دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفى عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من اللَّه وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة «٢». فإن قلت: أى فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت:
الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كقولك: طويل النجاد والحمائل لطول القامة «٣»
(٢). هكذا هو في كتاب النكاح لابن المبارك ورواه الدارقطني من رواية محمد بن الصلت عن عبد الرحمن بن سليمان- وهو ابن الغسيل- نحوه بتمامه.
(٣). قوله «لطول القامة» لعله: لطويل. (ع)
وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّى تَقَاضِيَا
وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ ولا تصبرون عنه، وفيه طرف من التوبيخ كقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ). فإن قلت: أين المستدرك بقوله «١» وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ؟ قلت: هو محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه، تقديره: علم اللَّه أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ، ولكن لا تواعدوهنّ سراً. والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء، لأنه مما يسرّ. قال الأعشى:
وَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا | عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا «٢» |
(٢).
ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة | ولا تحسبن المال للمرء مخلدا |
ولا تقربن من جارة إن سرها | عليك حرام فانكحن أو تأبدا |
ولا تعزموا عَقد عُقدة النكاح. وقيل: معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح: وحقيقة العزم: القطع، بدليل قوله عليه السلام «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروى «لمن لم يبيت الصيام «١» » حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يعنى ما كتب وما فرض من العدّة يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه. غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٦ الى ٢٣٧]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة عليكم من إيجاب مهر إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ما لم تجامعوهنّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة: تسمية المهر. وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمى لها مهر فلها نصف المسمى، وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة. والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله:
«متعها بقلنسوتك «١» ». وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها، وتستحب لسائر المطلقات ولا تجب. مَتاعاً تأكيد لمتعوهن، بمعنى تمتيعاً بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة حَقًّا صفة لمتاعا، أى متاعا واجبا عليهم. أو حق ذلك حقاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال صلى اللَّه عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه «٢» » إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يريد المطلقات. فإن قلت:
أى فرق بين قولك: الرجال يعفون. والنساء يعفون؟ قلت: الواو في الأوّل ضميرهم، والنون علم الرفع. والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهنّ، والفعل مبنى لا أثر في لفظه للعامل وهو في محل النصب «ويعفو: عطف على محله. والَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ الولىّ «٣»
(٢). تقدم في صفحة ٣٥ من هذا الجزء.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «والذي بيده عقدة النكاح الولي... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: هذا النقل وهم فيه الزمخشري عن الشافعي رضى اللَّه عنه، فان مذهبه موافق لمذهب أبى حنيفة رضى اللَّه عنه في أن المراد به الزوج.
وإنما ذهب إلى أن المراد الولي الامام مالك رضى اللَّه عنه، وصدق الزمخشري أنه قول ظاهر الصحة، عليه رونق الحق وطلاوة الصواب لوجوه:
الأول: أن الذي بيده عقدة النكاح ثابتة مستقرة هو الولي. وأما الزوج فله ذلك حالة العقد المتقدم خاصة، ثم هو بعد الطلاق، والكلام حينئذ ليس من عقدة النكاح في شيء البتة، فان قيل: أطلق عليه ذلك بعد الطلاق بتأويل «كان» مقدرة، فلا يخفى على المنصف ما في ذلك من البعد والخروج من حد إطلاق الكلام وأصله.
الثاني: أن الخطاب الأول للزوجات اتفاقا بقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) وفيهن من لا عفو لها البتة كالأمة والبكر، فلولا استتمام التقسيم بصرف الثاني إلى الولي على ابنته البكر أو أمته، وإلا لزم الخروج عن ظاهر عموم الأول، وحيث حمل الكلام على الولي صار الكلام بمعنى: إلا أن يعفون كن أهلا للعفو، أو يعفو لهن إن لم يكن أهلا، ولهذا كان الولي الذي يعفو ويعتبر عفوه عند مالك: هو الأب في ابنته البكر. والسيد في أمته خاصة.
الثالث: أن الكتاب العزيز جدير بتناسب الأقسام وانتظام أطراف الكلام، والأمر فيه على هذا المحمل بهذه المثابة، فان الآية حينئذ مشتملة على خطاب الزوجات ثم الأولياء ثم الأزواج بقوله: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فتكون على هذا الوجه ملية بالفوائد جامعة للمقاصد.
الرابع: أن المضاف إلى صاحب عقدة النكاح العفو كما هو مضاف إلى الزوجات، والعفو: الاسقاط لغة وهو المراد في الأول اتفاقا، إذ المضاف إلى الزوجات هو الاسقاط بلا ريب، ولو كان المراد بصاحب العقدة الزوج لتعين حمل العفو على تكميل المهر وإعطائه ما لا يستحق عليه، وهذا إنما يطابقه من الأسماء التفضل. ومن ثم قال في خطاب الأزواج (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) لأن المبذول من جهته غير مستحق عليه فهو فضل لا عفو.
ولا يقال: لعل الزوج تعجل المهر كاملا قبل الطلاق وطلق فيجب استرجاع النصف فيسقطه ويعفو عنه وحينئذ يبقى العفو من جانب الزوج على ظاهره وحقيقته، لأنا نقول: حسبنا في رد هذا الوجه ما فيه من الكلفة وتقدير ما الأصل خلافه.
الخامس: أن صدر الآية خطاب للأزواج في قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) إلى قوله: (فَرَضْتُمْ) فلو جاء قوله (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) مراداً به الزوج لكان عدولا والتفاتا من الخطاب إلى الغيبة، وليس هذا من مواضعه، ولأجل هذا جاء قوله: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) على صيغة الخطاب، لأن المراد به الأزواج لخطابهم أولا السادس: أن قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) وما عطف عليه استثناء من قوله: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وأصل الكلام:
فنصف ما فرضتم واجب عليكم إلا أن يعفو عنه الزوجات فليس بواجب عليكم إذاً، فإذا حمل الكلام على الولي استقام، إذ هم لو كملوا المهر لهن فالنصف واجب عليهم ولا يتغير ولا يخالف الحالة المستثناة مما وقع منه الاستثناء، فلا يجرى الاستثناء على حقيقته في المخالفة بين الأول والثاني، إلا أن يقال: مقتضى قوله: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) واجب عليكم: أن النصف الآخر غير مؤدى إليهن لأنه ساقط عن الزوج، فإذا عفا بمعنى كمل المهر فقد صار النصف الآخر مؤدى إليهن، ففي هذا التأويل من الكلفة ما يسقط مؤنة رده.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٨ الى ٢٣٩]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)الصَّلاةِ الْوُسْطى أى الوسطى بين الصلوات، أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط.
وإنما أفردت وعطفت على الصلاة «١» لانفرادها بالفضل وهي صلاة العصر. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللَّه بيوتهم ناراً «٢» » وقال عليه السلام «إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب» «٣» وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقرؤها، فأملت عليه: والصلاة الوسطى صلاة العصر «٤» وروى عن عائشة وابن عباس رضى اللَّه عنهم: والصلاة الوسطى وصلاة العصر «٥» بالواو.
(٢). أخرجه مسلم من رواية شتير بن شكل عن على به. والحديث في الكتب الستة، إلا أن قوله «صلاة العصر» عند مسلم وحده. وأخرجه البخاري في المغازي والجهاد والتفسير وفي الباب عن ابن مسعود رفعه «الصلاة الوسطى صلاة العصر» أخرجه الترمذي. وعنده عن سمرة نحوه.
(٣). أخرجه ابن عدى في الكامل عن على مرفوعا. قال «صلاة الوسطى صلاة العصر التي غفل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب» وفي إسناده مقاتل بن سليمان. وهو ساقط، ورواه ابن أبى شيبة من رواية أبى إسحاق عن الحرث ابن على مرفوعا، وهو أشبه بالصواب. وفي الباب عن ابن عباس موقوفا عند الطبري.
(٤). أخرجه الطبري من طريق أبى بشر عن سالم عن حفصة أنها أمرت رجلا فكتب لها مصحفاً. فقالت: إذا بلغت هذا المكان فأعلمنى. فلما بلغ ((حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قالت: اكتب: صلاة العصر. وفي رواية له: فقالت له «اكتب فانى سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى هي صلاة العصر» هكذا عند الطبري. والمشهور عن حفصة أنها أملت على الكاتب: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. كذلك رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة فذكره. ورواه ابن حبان من رواية ابن إسحاق: حدثني أبو جعفر محمد بن على ونافع بن عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما أنه كان يكتب المصاحف في عهد ازواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: فاستكتبتنى حفصة مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية من هذه السورة- البقرة- فلا تكتبها حتى تأتينى بها فأمليها عليك كما حفظتها من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها: فقالت لي: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر. ومن هذا الوجه أخرجه أبو يعلى والطحاوي. ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن حفصة نحوه وكذا رواه الطبري من طريق عبد اللَّه بن عمر عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها: وأخرجه ابن أبى داود في كتاب المصاحف من نحو عشرين طريقاً فيها كلها وصلاة العصر بالواو.
(٥). أما عائشة فروى مسلم من طريق أبى يونس مولى عائشة قال: أمرتنى عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذنى. فلما بلغتها آذنتها فأملت على: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، وقالت سمعتها من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وكذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ومالك والشافعي وأحمد من هذا الوجه. وأما ابن عباس فرواه الطبري وابن أبى داود في المصاحف من رواية أبى إسحاق عمر بن مريم عن ابن عباس «أنه كان يقرؤها كذلك». [.....]
بضم الراء، ورجالا. بالتشديد، ورجلا. وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه: لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف: وعند الشافعي رحمه اللَّه: يصلون في كل حال، والراكب يومئ ويسقط عنه التوجه إلى القبلة فَإِذا أَمِنْتُمْ فإذا زال خوفكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من صلاة الأمن، أو فإذا أمنتم فاشكروا اللَّه على الأمن، واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
(٢). أخرجه الطبري من رواية إسحاق بن أبى فردة عن رحل عن قبيصة بن ذؤيب قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب. ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر؟ وإسحاق متروك، وشيخه مجهول.
هذا القول غير ما تقول. أو بدل من متاعاً. أو حال من الأزواج، أى غير مخرجات. والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أى ينفق عليهنّ من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخت المدة بقوله: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وقيل: نسخ ما زاد منه على هذا المقدار، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن. واختلف في السكنى، فعند أبى حنيفة وأصحابه: لا سكنى لهن فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للخطاب مِنْ مَعْرُوفٍ مما ليس بمنكر شرعاً. فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) مع قوله: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ).
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤١ الى ٢٤٢]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المطلقة غير المدخول بها، وقال حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كما قال ثمة: حقاً على المحسنين. وعن سعيد بن جبير وأبى العاليه والزهري: أنها واجبة لكل مطلقة. وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعاً. وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)أَلَمْ تَرَ تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين، وتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب. روى أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم اللَّه ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم اللَّه وقضائه. وقيل: مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجبا مما رأى، فأوحى إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن اللَّه، فنادى، فنظر إليهم قياما يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل: هم قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت، فأماتهم اللَّه ثمانية أيام ثم أحياهم وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة. واختلف في ذلك، فقيل عشرة، وقيل ثلاثون، وقيل سبعون. ومن بدع التفاسير (أُلُوفٌ) متألفون، جمع آلف كقاعد وقعود. فإن قلت: ما معنى قوله فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا؟ قلت:
معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر اللَّه ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل اللَّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصر أولئك، وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد: ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل اللَّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون عَلِيمٌ بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
إقراض اللَّه: مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه. والقرض الحسن: إما المجاهدة في نفسها،
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع أو شمعون أو اشمويل ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره.
وروى أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم نُقاتِلْ قرئ بالنون والجزم على الجواب. وبالنون والرفع على أنه حال، أى ابعثه لنا مقدّرين القتال. أو استئناف كأنه قال لهم: ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: يقاتل بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لملكا. وخبر عسيتم أَلَّا تُقاتِلُوا والشرط فاصل بينهما. والمعنى: هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعنى هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبيت أنّ المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه «١»، كقوله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) معناه التقرير. وقرئ (عسيتم) بكسر السين وهي ضعيفة وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ وأىّ داع لنا إلى ترك القتال، وأى غرض لنا فيه وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قيل كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)طالُوتَ اسم أعجمى كجالوت وداود. وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم. ووزنه إن كان من الطول «فعلوت» منه، أصله طولوت، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا، كما وافق حنطا حنطة، وبشمالا لها رخمانا رخيما بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فهو من الطول كما لو كان عربيا، وكان أحد سببيه العجمة لكونه عبرانيا أَنَّى كيف ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له. فإن قلت: ما الفرق بين الواوين في: (وَنَحْنُ أَحَقُّ)، (وَلَمْ يُؤْتَ) ؟ «١» قلت: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، قد انتظمتهما معا في حكم واو الحال. والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بدّ للملك من مال يعتضد به. وإنما قالوا ذلك لأنّ النبوّة كانت في سبط لاوى بن يعقوب والملك في سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أحد السبطين، ولأنه كان رجلا سقاء أو دباغا فقيراً. وروى أنّ نبيهم دعا اللَّه تعالى حين طلبوا منه ملكا، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلا طالوت قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ يريد أنّ اللَّه هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكم اللَّه. ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة.
والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحى إليه ونبئ، وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به، وأن يكون جسيما يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب.
والبسطة: السعة والامتداد. وروى أن الرجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ أى الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء: من يستصلحه للملك وَاللَّهُ واسِعٌ
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
التَّابُوتُ صندوق التوراة. وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه فكانت تسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرّون. والسكينة: السكون والطمأنينة، وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وعن علىّ رضى اللَّه عنه: كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة وَبَقِيَّةٌ هي رضاض الألواح وعصى موسى وثيابه وشيء من التوراة، وكان رفعه اللَّه تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، فكان ذلك آية لاصطفاء اللَّه طالوت. وقيل: كان مع موسى ومع أنبياء بنى إسرائيل بعده يستفتحون به، فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت، فلما أراد اللَّه أن يملك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن، فقالوا: هذا بسبب التابوت بين أظهرنا، فوضعوه على ثورين، فساقهما الملائكة إلى طالوت. وقيل كان من خشب الشمشار مموّها بالذهب. نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبىّ وزيد بن ثابت: التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار. فإن قلت:
ما وزن التابوت؟ قلت: لا يخلو من أن يكون فعلوتا «١» أو فاعولا، فلا يكون «فاعولا» لقلته، نحو: سلس وقلق، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، فهو إذاً «فعلوت» من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده، إلا فيمن جعل هاءه بدلا من التاء، لاجتماعهما في الهمس وأنهما من حروف الزيادة. ولذلك أبدلت من تاء التأنيث. وقرأ أبو السمال: سكينة، بفتح السين والتشديد وهو غريب. وقرئ:
يحمله، بالياء. فإن قلت: مَن آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ؟ قلت: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٩]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
فَصَلَ عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله: فصل نفسه، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون:
فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصدّ ونحوهما. والمعنى: انفصل عن بلده بِالْجُنُودِ روى أنه قال لقومه: لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها، ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة، فسألوا أن يجرى اللَّه لهم نهراً، ف قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بما اقترحتموه من النهر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه فَلَيْسَ مِنِّي فليس بمتصل بى ومتحد معى، من قولهم: فلان منى، كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما. ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعى وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ومن لم يذقه، من طعم الشيء، إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء، لمذاقه. قال:
وَإنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نَقَاخًا «١» وَلَا بَرْدَا «٢»
ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم. ويقال: ما ذقت غماضا. ونحوه من الابتلاء:
(٢).
فان شئت حرمت النساء سواكم | وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا |
ولم أطعم: أى لم أتناول. والنقاخ- بالقاف والخاء المعجمة-: الماء العذب البارد. والبرد: النوم، وعن بعض العرب: منع البرد البرد، وهو من باب الجناس التام، والعرجى: هو عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان، نسبة لعرج الطائف.
فلما كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.
ونحوه قول الفرزدق:
............... لمْ يَدَعْ... مِنَ الْمَالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ «٢»
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر
ورد على من منع ذلك محتجا بامتناع الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بأجنبى من الاستثناء. ولذلك حقق عوده إلى الأخيرة، وتوقف في انعطافه على ما تقدمها، فيجوز عنده أن يعود على الجميع مع الأخيرة. وأما عوده على ما قبل الأخيرة دونها فمتعذر عند هذا القائل فلم يصف في العود إلى الأخيرة لهذه الشبهة. وقد بين القاضي أبو بكر صلاحية عوده إلى ما قبل الأخيرة دونها ردا على هذا القائل، واستشهد بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) ووجه استشهاده: أن المعنى يأبى انعطاف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ويعين عوده إلى ما قبلها وسيأتى بيان ذلك عند الكلام على الآية.
(٢).
إليك أمير المؤمنين رمت بنا | شعوب النوى والهوجل المتعسف |
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع | من المال إلا مسحت أو مجلف |
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٠ الى ٢٥١]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
وبِجالُوتَ جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد، وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوّة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب. كان أيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى إلى اشمويل أنّ داود بن أيشى هو الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله، وزوّجه طالوت بنته. وروى أنه حسده وأراد قتله ثم تاب وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في مشارق الأرض المقدّسة ومغاربها، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود وَالْحِكْمَةَ والنبوّة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من صنعة الدروع، وكلام الطير والدواب وغير ذلك وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ولولا أن اللَّه يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن اللَّه ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعنى القصص التي اقتصها، من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم،
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٣ الى ٢٥٤]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ منهم من فضله اللَّه بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام.
وقرئ (كلم اللَّه) بالنصب. وقرأ اليماني: كالم اللَّه، من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم اللَّه، بمعنى مكالمه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أى ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. والظاهر أنه أراد محمداً صلى اللَّه عليه وسلم «١» لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منفياً على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول:
(٢). قوله «مشيئة إلجاء وقسر» يعنى أنه أراد عدم الاقتتال، لكن لا إرادة قسر، ولذلك تخلف المراد عنها، وهذا مذهب المعتزلة. وأما عند أهل السنة فليس هناك إرادة يتخلف عنها المراد، بل كل ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن، كما بين في محله. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «كرر ولو شاء اللَّه للتأكيد» قال أحمد رحمه اللَّه: ووراء التأكيد سر أخص منه، وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول، قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها. وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك، وطريق معتد. وكان جدي لأمى أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير يعد في كتاب اللَّه تعالى مواضع في هذا المعنى: منها قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ومنها قوله تعالى: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إلى قوله: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) وهذه الآية من هذا النمط، لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة. ثم طال الكلام، أو أريد بيان أن مشيئة اللَّه تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي ناقذة في كل فعل واقع، وهو المعنى المعبر عنه في قوله: (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام وتعرف كل بشكله. فهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح السر، واللَّه الموفق. وأى قدم يثبت للاعتزال قبالة هذا؟ لأنه الدائرة القاطعة لدابره، الكافلة بالرد على منتحله وناصره ولذلك جوزها الزمخشري لاغتناصها على تأويله، واعتصامها بالنصوصية من حيله ونحيله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
الْحَيُّ الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء، «٣» وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم
أما القدرية، فقد وطنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة وهم جدير أن يحرموها. وأدلة أهل السنة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى. وما أنكرها القدرية إلا لايجابهم مجازاة اللَّه تعالى للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية إيجابا عقليا على زعمهم. فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة. وقد تقدم جواب عن التمسك بإطلاق مثل هذه الآية في نفى الشفاعة، ونعبده فنقول: أيام القيامة متعددة والشفاعة في بعضها ثابتة، فكل ما ورد مفهما لتفيها حمل على الأيام الخالية منها جمعا بين الأدلة، كما ورد قوله تعالى: (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وورد (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) وورد (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وورد (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ولا تخلص في أمثال هذه الآي باتفاق إلا الحمل على تعدد أوقات القيامة واختلاف أحوالها وأيامها، وكذلك أمر الشفاعة سواء. رزقنا اللَّه الشفاعة وحشرنا في زمرة السنة والجماعة. [.....]
(٢). قوله «لأن الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير» هذا مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة قد تكون في تخفيف العذاب أيضا. (ع)
(٣). قوله «الحي الباقي الذي لا سبيل عليه... الخ» المعتزلة يفرون من أن يثبتوا للَّه صفة وجودية كالحياة التي تنافى الموت فلذا فسر الحي بما قال. (ع)
وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ | فِى عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ «١» |
ومنه حديث موسى: أنه سأل الملائكة وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية: أينام ربنا؟ فأوحى اللَّه إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام، ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين. فأخذهما، وألقى اللَّه عليه النعاس فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لهؤلاء إنى أمسك السموات والأرض بقدرتي، فلو أخذنى نوم أو نعاس لزالتا «٢» مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ بيان
لولا الحياء وإن رأسى قد عثى | فيه المشيب لزرت أم القاسم |
وكأنها بين النساء أعارها | عينيه أحور من جآذر جاسم |
وسنان أقصده النعاس فرنقت | في عينه سنة وليس بنائم |
(٢). قلت قوله «وذلك من قومه كطلب الرؤية» من كلام الزمخشري، أدرجه في الخبر. فقد رواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أن موسى سأل الملائكة: هل ينام اللَّه عز وجل؟ فذكره» وقد رواه أبو يعلى والطبري والدارقطني في الأفراد وابن مردويه والبيهقي في الصفات، كلهم من طريق إسحاق بن أبى إسرائيل عن هشام بن يوسف عن أمية بن سبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبى هريرة: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحكى عن موسى عليه السلام قال وقع في نفس موسى: هل ينام ربنا؟ فأرسل إليه ملكا فأرقه، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يختفظ بهما.
قال: فجعل ينام ويكاد يداه يلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة. فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان. قال: ضرب اللَّه له مثلا: إن اللَّه لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض» ورواه البيهقي موقوفا وقال:
هذا هو الأشبه. وقال الدارقطني تفرد به الحاكم عن عكرمة وأمه عن الحكم وهشام عن أمية. وقال الخطيب:
رواه معمر عن الحكم عن عكرمة من قوله. ولم يذكر أبا هريرة. ولا النبي صلى اللَّه عليه وسلم. قلت: ورواية عبد الرزاق ترد عليه. لكنها موقوفة. وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية وقال: يشبه أن يكون عكرمة تلقاه عن كتب اهل الكتاب. قال: وقد روى عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة له عن سعيد بن جبير «أن بنى إسرائيل قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: هل ينام ربنا، قال: وهذا هو الصحيح.
(٢). عاد كلامه قال: «فان قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي وما بالها لم تعطف بالواو؟ قلت: لأنها كلها في حكم البيان والبيان متحد بالمبين فدخول الواو بينهما- كما تقول العرب- دخول بين العصا ولحائها، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكا لتدبيره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لاحاطته بأحوال الخلق، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها. وقد وردت آثار في تفضيلها. منها قوله عليه السلام «ما قرئت هذه الآية في دار إلا اجتنبتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا على علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها» وعن على رضى اللَّه عنه سمعت نبيكم على أعواد المنبر يقول «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد. ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه اللَّه على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله» وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال على أين أنتم من آية الكرسي، ثم قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «يا على، سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال طور سيناء، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي». وإنما فضلت لما فضلت له سورة الإخلاص، من اشتمالها على توحيد اللَّه وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى» قال أحمد: وكان جدي رحمة اللَّه عليه يقول: اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل عليه آية من أسماء اللَّه عز وجل وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم اللَّه تعالى، ظاهرا في بعضها ومستكنا في بعض، ويظهر لكثير من العادين منها ستة عشر إلا على بصير حاد البصيرة لدقة استخراجه. الأول اللَّه، الثاني هو، الثالث الحي، الرابع القيوم، الخامس ضمير لا تأخذه، السادس ضمير له، السابع ضمير عنده، الثامن ضمير إلا باذنه، التاسع ضمير يعلم، العاشر ضمير علمه، الحادي عشر ضمير شاء، الثاني عشر ضمير كرسيه، الثالث عشر ضمير ولا يؤده، الرابع عشر وهو، الخامس عشر العلى، السادس عشر العظيم. فهذه عدة الأسماء البينة. وأما الخفي فالضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله: (حِفْظُهُما) فانه مصدر مضاف إلى المفعول، وهو الضمير البارز، ولا بد له من فاعل وهو اللَّه، ويظهر عند فك المصدر فيقول: ولا يؤده أن يحفظهما هو. وكان الشيخ أبو عبد اللَّه محمد بن أبى الفضل المرسى قد رام الزيادة على هذا العدد لما أخبرته به عن الجد رحمه اللَّه فقال: يمكن أن يعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحد منها بآيتين. لأن كل واحد يتحمل ضميراً ضرورة كونه مشتقا، وذلك الضمير إنما يعود إلى اللَّه تعالى، وهي باعتبار ظهورها اسم وقد اشتملت على آخر مضمر، فيكون جملة العدد على هذا النظر أحداً وعشرين اسما، وكنت قد أجريت معه في تعدد الزيادة المذكورة وجها لطيفاً، وهو أن الاسم المشتق لا يتحمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح، وهذه الصفات كلها أسماء اللَّه تعالى، ثم ولو فرضناها متحملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزيل، فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله ضميره. ألا تراك إذا قلت:
زيد كريم، وجدت «كريماً» إنما يقع على زيد، لأن فيه ضميره، حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد، بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس، ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره، فليس المشتق إذاً مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه، فلا يمكن أن يجعل له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين ألبتة، فرضي الشيخ المذكور عن هذا البحث وصوبه واللَّه الموفق للصواب.
ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا علىّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها «٢» وعن علىّ رضى اللَّه عنه:
سمعت نبيكم صلى اللَّه عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا
(٢). لم أجده.
ف إنَّ الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً | وَلَا تَرَى لِلِئَامِ النَّاسِ حُسَّادَا «٤» |
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أى لم يجر اللَّه أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار. ونحوه قوله تعالى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أى لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
فذكره دون قوله «ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد» : وذكر ما بعده. وفي إسناده نهشل بن سعيد وهو متروك. وكذلك حبة العرفي، وأخرجه أيضا من حديث أنس بلفظ «من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي حفظ إلى الصلاة، ولا يحافظ عليها إلا نبى أو صديق أو شهيد» وإسناده ضعيف وصدر الحديث أخرجه النسائي وابن حبان، من حديث أبى أمامة، وإسناده صحيح، وله شاهد عن المغيرة بن شعبة عند أبى نعيم في الحلية من رواية محمد بن كعب القرظي عنه، وغفل ابن الجوزي فأخرجه في الموضوعات.
(٢). لم أجده. وقد ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ابنه.
(٣). قوله «علم أهل العدل والتوحيد» المعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وعلم التوحيد أشرف العلوم في نفسه لا بقيد إضافته إلى فرقة من أهله، اللهم إلا عند المتعصب. (ع)
(٤). للمغيرة شاعر آل المهلب. وقيل للمهلبية: ما أكثر حسادكم فأنشدوه. والعرانين: الخيار الأشراف و «لن» لتوكيد النفي. ويروى: ولا ترى. ويروى: ما ترى. واللئيم: الخسيس، واللئام جمعه. وحساد- بضم الحاء- جمع حاسد. أى ليس للئيم الناس حاسداً، فهو من مقابلة الجمع بالجمع. وفتحها على أنه مفرد أبلغ من حيث المعنى، حيث نفى الواحد عن الجمع نفياً شمولياً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أى أرادوا أن يؤمنوا يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أى صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك. أو اللَّه ولىّ المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين- إن وقعت لهم- بما يهديهم ويوفقهم له من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الشياطين يُخْرِجُونَهُمْ من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٨ الى ٢٥٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
أحدهما حاجّ لأن آتاه اللَّه الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوّ فحاجّ لذلك، أو على أنه «٢» وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه اللَّه الملك، فكأن المحاجة كانت لذلك، كما تقول: عاداني فلان لأنى أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
والثاني: حاجّ وقت أن آتاه اللَّه الملك. فان قلت: كيف جاز أن يؤتى اللَّه الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا. وقيل:
ملكه امتحانا لعباده «٣». وإِذْ قالَ نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت
وقد وقعت المصادر ظروفا في مثل: خفوق النجم، ومقدم الحاج، وأمثال ذلك. وإنما وقعت محاجته بهذا الظرف لاشتماله على إيتاء الملك الحامل له على البطر، أو على وضع كفر النعمة فيه مكان شكرها. وهذان المعنيان هما المذكوران في الوجه الأول بعينهما فلهذا نبهت على أن الفرق بين الوجهين صناعى لا معنوي. واللَّه الموفق لمعانى كلامه. [.....]
(٢). قوله «أو على أنه» لعله: أو على معنى أنه. (ع)
(٣). قال محمود: «فان قلت كيف جاز أن يؤتى اللَّه الملك الكافر؟ قلت: ذلك على وجهين: أحدهما آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، فأما التغليب والتسليط فلا. الثاني أن يكون ملكه امتحانا لعباده» قال أحمد: السؤال مبنى وروده على قاعدة فاسدة، وهي اعتقاد وجوب مراعاة ما يتوهمه القدرية صلاحا أو أصلح على اللَّه تعالى في أفعاله، وكل ذلك من أصول القدرية التي اجتثها البرهان القاطع فما لها من قرار. وأما إيراد السؤال على صيغة: لم آتاه اللَّه الملك وهو كافر؟ أولم أفعل كذا وكذا؟ فجواب رده على الإطلاق في قوله تعالى: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لو سمع الصم البكم. واللَّه ولى التوفاق. (عاد كلامه) قال ومعنى قوله أنا أحيى وأميت:
أعفو عن القتل وأقتل، وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم عليه السلام لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ولكنه انتقل إلى ما لا يقدر فيه على مثل ذلك ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة». قال أحمد: وقد التزم غير واحد من العلماء أن هذا الذي صدر من الخليل عليه الصلاة والسلام ليس بانتقال من الحجة، ولكن من المثال. وأما الحجة فهي استدلاله على ألوهية اللَّه تعالى بتعلق قدرته بما لا يجوز تعلق قدرة الحادث به، ثم هذا له أمثلة منها الأحياء والاماتة، ومنها: الإتيان بالشمس من المشرق. والعدول بعد قيام الحجة وتمهيد القاعدة من مثال إلى مثال ليس ببدع عند أهل الجدل واللَّه أعلم.
وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وقرئ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أى فغلب إبراهيم الكافر. وقرأ أبو حيوة: فبهت، بوزن قرب. وقيل: كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربى الذي يحيى ويميت. أَوْ كَالَّذِي معناه: أو أرأيت مثل الذي مرَّ «٢» فحذف لدلالة أَلَمْ تَرَ عليه لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. والمارّ كان كافراً «٣» بالبعث، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك
(٢). قال محمود: «معناه أو أرأيت مثل الذي مر... الخ» قال أحمد: ومثل هذا النظم يحذف منه فعل الرؤية كثيراً، كقوله:
قال لها كلا أسرعى... كاليوم مطلوباً ولا طالبا
يريد لم أر كاليوم فحذف الفعل وحرف النفي. والظاهر حمل الآية على الوجه الأول لوجود نظيره، واللَّه أعلم.
(٣). (عاد كلامه) قال والمار كان كافراً بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد. وقيل:
كان مؤمنا وهو عزير أو الخضر، وأراد أن يعاين الأحياء كما طلبه إبراهيم. وقوله يوما، بناه على الظن. روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال- قيل النظر إلى الشمس- يوما، ثم التفت فرأى بقية منها فقال: أو بعض يوم، انتهى كلامه. قال أحمد: أما استدلال الزمخشري على أن المار كان كافراً بانتظامه مع نمروذ في سلك واحد، فمعارض بأنه نظمت قصته مع قصة إبراهيم عليه السلام في نسق واحد، فليس الاستدلال على كفره باقتران قصته مع قصة نمروذ، أولى من الاستدلال على إيمانه بانتظامها أيضاً مع قصة إبراهيم، إلا أن يقول إن قصة هذا المار معطوفة على قصة نمروذ عطف تشريك في الفعل، منطوقا به في الأولى ومحذوفا من الثانية، مدلولا عليه بذكره أولا، ولا كذلك عطف قصة إبراهيم فإنها مصدرة بالواو التي لا تدخل في كثير من أحوالها للتشريك، ولكن لتحسين النظم حتى تتوسط بين الجمل التي يعلم تعاطفها لذلك الغرض، ولا كذلك عطفها في قصة نمروذ، فانه بأو التي لا تستعمل إلا مشركة، إذ عطف التحسين اللفظي خاص بالواو فنقول: إذا انتهى الترجيح إلى هذا التدقيق فهو معارض بما بين قصة المار وقصة إبراهيم من التناسب المعنوي، لأن طلبتهما واحدة، إذ المار سأل معاينة الأحياء، وكذلك طلبة إبراهيم ثم التناسب المعنوي أرجح من التعلق بأمور لفظية ترد إلى أنحاء مختلفة ويؤيد القول بأن المار كان مؤمنا تحريه في قوله تعالى: (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فان ظاهره الاحتراز من التحريف في القول حتى لا يعبر عن جل اليوم باليوم حذراً من إبهام طلبته لجملة اليوم. ومثل هذا التحري لا يصدر عن معطل، واللَّه أعلم.
ولا يقال إنما صدر منه هذا التحري بعد أن حيي وآمن، لأنا نقول إنما آمن على القول بكفره بعد ظهور الآيات، يدل عليه قوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأما التحري المذكور فكان أول القصة قبل الايمان وما قدرت هذا السؤال إلا لنكتة يذكرها الزمخشري الآن تشعر بايراده على الترجيح المذكور. ثم هذه الجرأة التي نقلها الزمخشري في خلال كلامه من أنه إنما قال: أو بعض يوم لما رأى بقية من الشمس لم يكن رآها أول كلامه فاستدرك الأمر، فيها نظر دقيق لم أقف عليه لأحد ممن أورد الحكاية في تفسيره. وذلك أن الأمر إذا كان على ما تضمنته، وكلام المار المذكور بنى أولا على الجزم بأنه لبث يوما ثم جزم آخراً أن لبثه إنما كان بعض يوم لرؤية بقية من الشمس، وكان مقتضى التعبير عن حاله أن يقول: بل بعض يوم، مضرباً عن جزمه الأول إلى جزمه الثاني، لأن «أو» إنما تدخل في الخبر إذا انبنى أوله على الجزم ثم عرض في آخره شك، ولا جزم بالنقيض، فالحكاية المذكورة توجب أن يكون الموضع ل «بل» لا ل «أو» إذ موضع «بل» جزم بنقيض الأول، فإذا استقر ذلك فالظاهر من حال المار أنه كان أولا جازما ثم شك لا غير اتباعا لمقتضى الآية، وعدولا عن الحكاية التي لا تثبت إلا بإسناد قاطع، فيضطر إلى تأويل، فتأمل هذا النظر فانه من لطيف النكت، واللَّه الموفق.
روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يوماً، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. وروى أن طعامه كان تينا وعنبا. وشرابه عصيراً أو لبنا، فوجد التين والعنب كما جنيا، والشراب على حاله لَمْ يَتَسَنَّهْ لم يتغير، والهاء أصلية أو هاء سكت. واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأن لامها هاء أو واو، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان. وقيل: أصله يتسنن، من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة، كتقضى البازي. ويجوز أن يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه، يعنى هو بحاله كما كان كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد اللَّه: فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن. وقرأ أبىّ: لم يسنه، بإدغام التاء في السين وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرّقت عظامه ونخرت، وكان له حمار قد ربطه. ويجوز أن يراد: وانظر إليه سالما في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقيل: أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير، فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة فأخذ يهذها هذًّا «١» عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفا، فقالوا: هو ابن اللَّه. ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير، فذلك كونه آية. وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخا وهو شاب، فإذا حدّثهم بحديث قالوا: حديث مائة سنة وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم كَيْفَ نُنْشِزُها كيف نحييها. وقرأ الحسن: ننشرها، من نشر
وفاعل تَبَيَّنَ مضمر تقديره: فلما تبين له أن اللَّه على كل شيء قدير قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً. ويجوز: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعنى أمر إحياء الموتى. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما: فلما تبين له على البناء للمفعول. وقرئ: قال اعلم، على لفظ الأمر: وقرأ عبد اللَّه: قيل اعلم. فإن قلت: فإن كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه اللَّه؟ «١» قلت: كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
أَرِنِي بصرني، فإن قلت: كيف قال له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا «٢» ؟
أليس أن إبليس رأس الكفر ومعدنه ومع هذا قال اللَّه تعالى: (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ... ) إلى آخر الآية ويقول تعالى للكفار وهم بين أطباقها يعذبون (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ولأن هذا الأمر متيقن وقوعه فضلا عن جوازه أول العلماء قوله تعالى: (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) بمعنى ولا يكلمهم بما يسرهم وينفعهم. هذا وجه تعجبي من السؤال. وأما الجواب فقد أسلفت آنفا رده بأن إيمان هذا المار على القول بأنه كان كافراً إنما حصل في آخر القصة بعد أن تبينت له الآيات. وأما كلام اللَّه تعالى فمن أول القصة. قلت: الزمخشري كفانا مؤنة هذا الفضل سؤالا وجواباً واللَّه المستعان.
(٢). قال محمود: «إن قلت كيف قال له (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) وقد علم... الخ» ؟ قال أحمد: الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها من الممتحنة بالفكر المحرر، والنكت المفصحة بالرأى المخمر فما وافق من كلام المصنف ما يذكره فالحمد للَّه، وما خالفه فالحق فيما ذكرناه واللَّه الموفق. فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فليس عن شك والعياذ باللَّه في قدرة اللَّه عن الأحياء، ولكنه سؤال عن كيفية الأحياء، ولا يشترط في الايمان الاحاطة بصورتها، فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الايمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟
فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته، ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فيطرق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية. وقد قطع النبي عليه الصلاة والسلام دابر هذا الوهم بقوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أى ونحن لم نشك، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى. فان قلت: إذا كان السؤال مصروفا إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالايمان ولا تخل به، فما موقع قوله تعالى: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ؟ قلت:
قد وقعت لبعض الحذاق فيه على لطيفة وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما مر، وقد تستعمل في الاستعجاز. مثاله: أن يدعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له:
أرنى كيف محمل هذا، فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم اللَّه تعالى بأن ابراهيم مبرأ منه، أراد بقوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أن ينطق إبراهيم بقوله: بلى آمنت، ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى: ليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه شك. فان قلت: قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين، فما موقع قول إبراهيم (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وذلك يشعر ظاهراً بأنه كان عند السؤال فاقداً للطمأنينة؟ قلت: معناه ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة، لأنى إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد وجاءت الآية مطابقة لسؤاله، لأنه شاهد صورة حياة الموتى، تقديره: الذي يحيى ويميت، فهذا أحسن ما يجرى لي في تفسير هذه الآية وربك الفتاح العليم. وأما قول الزمخشري: «إن علم الاستدلال يتطرق إليه التشكيك بخلاف العلم الضروري» فكلام لم يصدر عن رأى منور ولا فكر محرر، وذلك أن العلم الموقوف عن سبب لا يتصور فيه تشكيك، ما دام سببه مذكوراً في نفس العالم، وإنما الذي يقبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحاً وسببه باق في الذكر، وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن ذروة العلم، ولكن للقدماء من القدرية خبط طويل في تميز العلم عن الاعتقاد، حتى غالى أبو هاشم فقال العلم بالشيء والجهل به مثلان. وهذا على الحقيقة جهل حتى لحقيقة الجهل، والزمخشري في قواعد العقائد يقفو آثار هذا القائل أية سلك فلعله من ثم طرق إلى العلم النظري الشك حسب تطرقه إلى الاعتقاد الذي يكون مرة جهلا ومرة مطابقا، واللَّه الموفق.
وَلَكِنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا «١»
وقال:
وَفَرْعٍ يَصيرُ الْجِيدَ وَحْفٍ كَأنَّهُ | عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ «٢» |
وما صيد الأعناق فيهم جبلة | ولكن أطراف الرماح تصورها |
(٢). صاره يصيره ويصوره، إذا أماله أو قطعه: وروى: يزين الجيد. والجيد: العنق: والوحف: الكثيف الأسود. والليت: صفحة العنق. والدوالح: المثقلات بالحمل، يصف شعر محبوبته بأنه يميل عنقها لثقله عليه، وشبه غدائره على جانب جيدها بعناقيد الكروم المثقلات بالحمل.
على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل: كانت أربعة أجبل. وعن السدّى:
سبعة ثُمَّ ادْعُهُنَّ وقل لهن: تعالين بإذن اللَّه يَأْتِينَكَ سَعْياً ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن: فان قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها «١» ؟ قلت:
ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها «٢» لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك قال: يأتينك سعياً. وروى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رءوسها، ثم أمر أن يجعل بأجزائها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن اللَّه، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رءوسهن، كل جثة إلى رأسها. وقرئ (جزأ) بضمتين.
وجزّا، بالتشديد. ووجهه أنه خفف بطرح همزته، ثم شدد كما يشدد في الوقف، إجراء للوصل مجرى الوقف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦١]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ لا بد من حذف مضاف، أى مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو اللَّه، ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها ماثلة بين عينى الناظر: فإن قلت: كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضى القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحا على سبيل الفرض والتقدير: فإن قلت: هلا قيل: سبع سنبلات، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال: (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) ؟ قلت: هذا لما قدمت عند قوله: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أى يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق،
(٢). قوله «وهيآتها وحلاها» جمع حلية بالكسر أى صفاتها. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
المنّ أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له: وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم:
وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَىَّ صَنِيعَةً... وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ «١»
وفي نوابغ الكلم: صنوان «٢» من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ. وفيها: طعم الآلاء «٣» أحلى من المنّ وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ. والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه: ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وأنّ تركهما خير من نفس
(٢). قال محمود: «في نوابغ الكلم صنوان... الخ» قال أحمد: «ثم» في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك كهذه الآية: وحاصله: أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها: وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن الاشعار ببعد الزمن. ولكن معناها الأصلى تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخى زمن بقائه وعليه حمل قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أى داموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات. وكذلك قوله: (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) أى يدومون على تناسى الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الاذاية وتقليد المنن بسببه، ثم يتوبون، واللَّه أعلم. وقريب من هذا أو مثله أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه، ثم ورد قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ). وقد حكى اللَّه تعالى في مثل هذه الآية (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) فليس إلى حمل السين على تراخى زمان وقوع الهداية له من سبيل، فيتعين المصير إلى حملها على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخى بقائها وتمادى أمدها. ولعل الزمخشري وأشار إلى هذا المعنى في آية إبراهيم عليه السلام، فأمل هذا الوجه فهو أوجه مما حمل الزمخشري عليه آية البقرة. وهذه الآية أبقى على الحقيقة وأقرب إلى الوضع على أحسن طريقة واللَّه الموفق. [.....]
(٣). قوله «وفيها طعم الآلاء» في الصحاح: الآلاء النعم، واحدها «ألا» بالفتح. وفيه أيضا: الألاء- بالفتح- شجر حسن المنظر مر الطعم اه. واسم النعم على زنة أسباب. والظاهر أن اسم الشجر على زنة سحاب، فليحرر ما في النوابغ. (ع)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٣ الى ٢٦٤]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ردّ جميل وَمَغْفِرَةٌ وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول أو نيل مغفرة من اللَّه بسبب الرد الجميل، أو عفو من جهة السائل لأنه إذا ردّه ردّا جميلا عذره خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وصح الإخبار عن المبتدإ النكرة لاختصاصه بالصفة وَاللَّهُ غَنِيٌّ لا حاجة به إلى منفق يمنّ ويؤذى حَلِيمٌ عن معاجلته بالعقوبة، وهذا سخط منه ووعيد له، ثم بالغ في ذلك بما أتبعه كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ أى لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كابطال المنافق الذي ينفق ماله رِئاءَ النَّاسِ لا يريد بإنفاقه رضاء اللَّه ولا ثواب الآخرة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان بحجر أملس عليه تراب. وقرأ سعيد بن المسيب: صفوان بوزن كروان فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه. ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا كقوله: (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال: أى لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق. فإن قلت: كيف قال: (لا يَقْدِرُونَ) بعد قوله: (كَالَّذِي يُنْفِقُ) ؟ قلت: أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان، فكأنه قيل: كمن ينفق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
الهمزة في أَيَوَدُّ للإنكار. وقرئ: له جنات، وذرية ضعاف. والإعصار: الريح التي تستدير في الأرض، ثم تسطع نحو السماء كالعمود. وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغى بها وجه اللَّه. فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغ الكبر، وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم ومنتعشهم، فهلكت
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من جياد مكسوباتكم وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ من الحب والثمر والمعادن وغيرها. فإن قلت: فهلا قيل: وما أخرجنا لكم، عطفا على: (ما كَسَبْتُمْ) حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت: معناه: ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ولا تقصدوا المال الرديء مِنْهُ تُنْفِقُونَ تخصونه بالإنفاق، وهو في محل الحال. وقرأ عبد اللَّه: ولا تأمموا. وقرأ ابن عباس: ولا تيمموا، بضم التاء. ويممه
(٢). قوله «أغرق أعماله كلها» في بعض نسخ الجلال: أحرق، بالحاء، وكذلك عبارة النسفي. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت: لم ذكر النخيل والأعناب أولا... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا من باب تثنية ذكر ما يقع الاهتمام به مرتين عموما وخصوصا ومثله (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) إلا أنه في تلك الآية بدأ بالتعميم وفي هذه الآية بدأ بالتخصيص والمقصود هو ما نبهنا عليه، واللَّه أعلم.
لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ «١» قَوْمٌ وَلِلضَّيْمِ رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالإِغْمَاضِ «٢»
وقرأ الزهرىّ: تغمضوا. وأغمض وغمض بمعنى. وعنه: تغمضوا، بضم الميم وكسرها. من غمض يغمض ويغمض. وقرأ قتادة: تغمضوا، على البناء للمفعول، بمعنى إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه. وقيل: إلا أن توجدوا مغمضين. وعن الحسن رضى اللَّه عنه: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
أى يعدكم في الإنفاق الْفَقْرَ ويقول لكم إنّ عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا. وقرئ:
الفقر، بالضم. والفقر- بفتحتين- والوعد يستعمل في الخير والشر. قال اللَّه تعالى: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا). وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور.
والفاحش عند العرب: البخيل «٣» وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق مَغْفِرَةً لذنوبكم وكفارة لها وَفَضْلًا وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو وثوابا عليه في الآخرة
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
(٢). الباء للملابسة أو بمعنى مع. والوتر- بالكسر- الظلم ونقص بعض الحق، ومثله الترة. والفعل وتر كوعد. والضيم: الظلم، والإغماض: ترك بعض الحق والاعراض عنه، كأنه لا يراه. يقول: لم يسبقنا قوم بالوتر ويظفروا منا به. وقوله: وللضيم رجال: استئناف، يعنى إنا لا نعرض عن حقنا كغيرنا لشجاعتنا دونهم، أو حال، أى والحال أن للظلم ناس يرضون بترك حقوقهم لعجزهم، ويؤول إلى الأول.
(٣). قوله «والفاحش عند العرب البخيل» قال:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى | عقيلة مال الفاحش المتشدد (ع) |
وإنى زعيم إن رجعت مملكا | بسير ترى منه الفرانق أزورا |
على لا حب لا يهتدى بماره | إذا سافه العود النباطي جرجرا |
يقول: إن ملكوني عليهم كما كنت فانى متكفل بسفر صعب. واللحب واللاحب: الطريق الواسع، من لحبه إذا وطنه ومر فيه، فأصله ملحوب. والمنار أعلام الطريق. وسافه يسوفه سوفا إذا شمه شما. ومنه المسافة. والعود:
الجمل المسن. ويطلق على الطريق القديم. والسؤدد: القديم. والنباطي: نسبة للنبط، وهم قوم يحلون البطاح بين العرافين يستنبطون منها الماء، كيمانى نسبة لليمن. ويروى: العود الديافي. وداف يدوف إذا خلط، ودياف:
موضع بالجزائر فيه نبط الشام. والديافي نسبة إليه. والجرجرة، صوت يردده البعير في حنجرته، يعنى أنه طريق واسع لا منار فيه يهتدى به، وفيه نوع من البديع يسمونه نفى الشيء بإيجابه، ويفسرونه بأن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه، بأن ينفى ما هو من سببه وهو المنفي في الباطن. وفي البيت نفى الاهتداء بالمنار، والمقصود نفى المنار كما ذكره السيوطي في شرح عقود الجمان، إذا شمه الجمل المسن عرف أنه طريق وعر لتجربته الطرق، وجرجر خوفا منه لصعوبته عليه مع تمرنه على السفر، سيما إذا كان من إبل النبط لكثرة رحيلهم. هذا ويحتمل أن السير مجاز عن السياسة كما يشعر به طلب الملك فيكون ما بعده ترشيح للمجاز.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال. وقيل: نزلت في أبى بكر الصدّيق رضى اللَّه عنه حين تصدّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السرّ، وعشرة في العلانية. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: نزلت في علىّ رضى اللَّه عنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلا، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية.
وقيل نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل اللَّه. وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٧٦]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
الربوا كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها
والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون. والمس: الجنون.
ورجل ممسوس، وهذا أيضاً من زعماتهم، وأن الجنىَّ يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل:
معناه ضربته الجنّ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. فإن قلت: بم يتعلق قوله مِنَ الْمَسِّ؟ قلت: بلا يقومون، أى لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. ويجوز أن يتعلق بيقوم، أى كما يقوم المصروع من جنونه. والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف. وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون، إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين، لأنهم أكلوا الربا فأرباه اللَّه في بطونهم حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإيفاض ذلِكَ العقاب بسبب قولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا. فإن قلت: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأنّ الكلام في الربا لا في البيع «٢»، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه، وكانت شبهتهم
(٢). قال محمود: «إن قلت لم لم يقولوا: إنما الربا مثل البيع... الخ» قال أحمد: وعندي وجه في الجواب عن السؤال الذي أورده غير ما ذكر، وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوى بينهما طرداً، فيقول مثلا: الربا مثل البيع، وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال فالربا حلال. وله أن يسوى بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حراما كان البيع حراما ضرورة المماثلة. ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالا اتفاقا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله، والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة قياس العكس، ومآلهما إلى مقصد واحد، فلا حاجة على هذا التقرير إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره، وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح وإن كان قياسا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم اللَّه أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحاً فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم، وهو الإسكار، والخمر حرام فالنبيذ حرام. وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا، وليست حلالا اتفاقا فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه، واللَّه أعلم.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «في هذه الآية دليل على تخليد الفساق... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وهو يبنى على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة، ولا يساعده على ذلك الظاهر الذي استدل به، فان الذي وقع العود إليه مسكوت عنه في الآية. ألا تراه قال: (وَمَنْ عادَ) فلم يذكر المعود إليه، فيحمل على ما تقدم كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذي سلف ذكره فعل الربا واعتقاد جوازه، والاحتجاج عليه بقياسه على البيع. ولا شك عندنا- أهل السنة والجماعة- أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابراً في تحريمها مسنداً إحلالها إلى معارضة آيات اللَّه البينات بما يتوهمه من الخيالات فقد كفر ثم ازداد كفراً، وإذا ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل للزمخشري إداً على اعتزاله في هذه الآية، واللَّه الموفق. وإنما هو موكل بتحميل الآيات من المعتقدات الباطلة ما لا تحتمله، وأنى له ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(٣). من رواية العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بلفظ «ما نقصت صدقة من مال | الحديث» ورواه البزار من هذا الوجه، فزاد فيه «قط». |
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِى لَكُمُو | مَاضِى الْعَزِيمَةِ مَا فِى حُكْمِهِ جَنَفُ «١» |
(٢). قوله «المديونين بطلب الزيادة» القياس المدينين، فلعل هذا مسموع شذوذاً، وسيعبر به فيما بعد أيضا. (ع)
وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا «١»
وقوله تعالى: (وَأَقامَ الصَّلاةَ). وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها، كقوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وقيل:
أريد بالتصدق الإنظار لقوله صلى اللَّه عليه وسلم «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» «٢» إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم فتعملوا به، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه. وقرئ (تصدّقوا) بتخفيف الصاد على حذف التاء تُرْجَعُونَ قرئ على البناء للفاعل والمفعول: وقرئ: يرجعون بالياء على طريقة الالتفات. وقرأ عبد اللَّه: تردّون: وقرأ أبىّ:
تصيرون. وعن ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة. وعاش رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما. وقيل أحدا وثمانين. وقيل سبعة أيام. وقيل ثلاث ساعات.
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا | وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا |
يقال للواحد والمتعدد. وأجدوا البين: اجتهدوا في الفراق. وانجردوا. مضوا. وعدا الأمر: أصله عدة الأمر، وأصلها وعد، فعوضت التاء عن الواو، ثم حذفت التاء للاضافة كالتنوين على لغة، واختلف فقيل إنها سماعية.
وقيل إنها قياسية. واشتراطهم للحذف عدم اللبس- فيمتنع في شجرة زيد للبس بشجر زيد- يؤيد كونها قياسية.
وفي المراح: أن حذف تاء التعويض جائز هنا اتفاقا. أما عند سيبويه فلأن التعويض عنده من الأمور الجائزة.
وأما عند الفراء فلأنه لا يوجب التاء إلا عند عدم الاضافة، وهي هنا متحققة فتقوم مقام العوض، وعائد الموصول محذوف، أى الأمر الذي وعدوه إياك.
(٢). رواه ابن ماجة من رواية الأعمش عن أبى داود نفيع عن بريدة رفعه «من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة. ومن أنظره بعد حله كان له مثله في كل يوم صدقة» وأبو داود ضعيف وقد اختلف عليه فيه، فرواه عبد اللَّه ابن نمير عن الأعمش هكذا، وخالفه أبو بكر بن عياش فرواه عن الأعمش عن أبى داود عن عمران بن حصين، أخرجه أحمد والطبراني وقد أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي في آخر الشعب كلهم من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة عن ابن بريدة عن أبيه نحوه وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٢ الى ٢٨٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)إِذا تَدايَنْتُمْ إذا داين بعضكم بعضا. يقال: داينت الرجل عاملته بِدَيْنٍ معطيا أو آخذا كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك. قال رؤبة:
دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى | فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا «١» |
ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو الدياس، أو رجوع الحاج، لم يجز لعدم التسمية. وإنما أمر بكتبة الدين، لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم وقال لما حرم اللَّه الرّبا أباح السلف. وعنه: أشهد أن اللَّه أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية «٢». بِالْعَدْلِ متعلق بكاتب صفة له، أى كاتب مأمون على ما يكتب، يكتب بالسوية والاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. وفيه: أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع. وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا وَلا يَأْبَ كاتِبٌ ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ مثل ما علمه اللَّه كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أى ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللَّه بتعليمها. وعن الشعبي: هي فرض كفاية، وكما علمه اللَّه: يجوز أن يتعلق بأن يكتب، وبقوله فليكتب. فإن قلت: أى فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له فَلْيَكْتُبْ يعنى فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد، وإن علقته بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ولا يكن المملى إلا من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به. والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ). وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ من الحق شَيْئاً والبخس: النقص. وقرئ شيا، بطرح الهمزة: وشيا، بالتشديد سَفِيهاً محجورا عليه لتبذيره
(٢). أخرجه الحاكم من رواية أبى حيان الأعرج عن الأعمش عن ابن عباس، قال «أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى أن اللَّه أجله في الكتاب وأذن فيه» وقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).
ونظيره قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه.
وقرئ (فَتُذَكِّرَ بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. وفتذاكر. وقرأ حمزة: إن تضل إحداهما، على الشرط. فتذكر: بالرفع والتشديد، كقوله: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) وقرئ أن تضل إحداهما على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع التفاسير: فتذكر، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر إِذا ما دُعُوا ليقيموا الشهادة. وقيل: ليستشهدوا. وقيل لهم شهداء قبل التحمل، تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة: كان الرجل يطوف الحواء «١» العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت. كنى بالسأم عن الكسل، لأنّ الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث: لا يقول المؤمن كسلت» «٢» ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكسب لكل دين صغير أو كبير كتابا، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في تَكْتُبُوهُ للدين أو الحق صَغِيراً أَوْ كَبِيراً على أى حال كان الحق من صغر أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن يكتبوه مختصراً أو مشبعاً لا يخلوا بكتابته إِلى أَجَلِهِ إلى وقته الذي اتفق
(٢). يأتى في براءة
ما معنى تِجارَةً حاضِرَةً وسواء أكانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت. أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد.
والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ: تجارة حاضرة بالرفع على كان التامّة. وقيل: هي الناقصة على أنّ الاسم «تجارة حاضرة» والخبر «تديرونها» وبالنصب على: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب:
بَنِى أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلَاءَنَا | إذَا كانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا «١» |
وقرأ الحسن: ولا يضار، بالكسر وَإِنْ تَفْعَلُوا وإن تضارّوا فَإِنَّهُ فإنّ الضرار فُسُوقٌ بِكُمْ
(٢). قوله «على باقة بقل» حزمة منه. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «مؤنة مجيئه من بلد» لعله من بلد بعيد. (ع)
رهنتكه بمائة، وقال المرتهن: بل الرهن بمائتين، لكان الرهن شاهداً بقيمته. خلافا للشافعي رضى اللَّه عنه فانه يرى القول قول الراهن مطلقاً، لأنه غارم، ووجه الدليل لمالك رضى اللَّه عنه من الآية: أن اللَّه تعالى جعل الرهن في التوثق عوضاً من الاشهاد والكتابة، وخصه بالسفر لإعوازهما حينئذ، ولو كان القول قول الراهن شرعا لم يكن قائما مقام الاشهاد ولا مفيداً فائدته بوجه، إذ لو لم يكن الرهن لكان القول قول المديان في قدر الدين فلم يزد وجود الرهن فائدة على عدمه باعتبار نيابته عن الاشهاد، ولا يقال: إن فائدته الامتياز به على الغرماء، لأن تلك فائدة الاشهاد حتى يكون نائباً عنه عند تعذره، ولا فائدة إذ ذاك إلا جعل القول قول المرتهن في قدر الدين عند التخالف وهو مذهب مالك المقدم ذكره. ومن ثم لم يجعله شاهداً إلا في قيمته لا فيما زاد عليها، معتضداً بالعادة في أن رب الدين لا يقبل في دينه إلا الموفى بقيمته. فدعوه أن الدين أكثر من القيمة مردودة بالعادة، والمديان أيضاً لا يسمح بتسليم ما قيمته أكثر فيما هو أقل، فدعواه أن الدين أقل من القيمة مردودة بالعادة، ولا يبقى إلا النظر في أمر واحد، وهو أن المعتبر عند مالك في القيمة يوم الحكم، حتى لو تصادقا على أن القيمة كانت يوم الرهن أكثر أو أقل لم يلتفت إلى ذلك زادت أو نقصت، وإنما يعتبر يوم القضاء. ولقائل أن يقول: إذا جعلتم الرهن مقام الشاهد عند عدمه لأن العادة تقتضي أن الناس إنما يرهنون في الديون المساوى قيمته لها، فينبغي أن تعتبروا القيمة يوم الرهن غير معرجين على زيادتها ونقصانها يوم القضاء، وعند ذلك يتجاذب أطراف الكلام في أن المقتضى لاقامته مقام الشاهد هو المعنى المتقدم أو غيره. وليس غرضنا إلا أن الآية ترشد إلى إقامته مقام الشهادة في الجملة. وأما تفاصيل المسألة فذلك من حظ الفقه.
(٢). منفق عليه من رواية الأسود بن يزيد عن عائشة «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم اشترى من يهودى طعاما إلى أجل ورهنه درعا من حديد» وللبخاري من رواية قتادة عن أنس. قال «ولقد رهن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم درعا له بالمدينة عند يهودى، وأخذ منه شعيراً لأهله» اه.
(٣). قال محمود: «وأما القبض فلا بد من اعتباره... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: ليس بين مالك والشافعي خلاف في صحة الارتهان بالإيجاب والقبول دون القبض، ولكنه عند مالك رضى اللَّه عنه يصح بذلك، ويلزم الراهن بالعقد تسليمه للمرتهن. وعند الشافعي لا يلزم بالعقد ولكن للقبض عند مالك اعتبار في الابتداء والدوام، ولا يشترط الشافعي كثيراً من أحكامه عند مالك، وذلك أنهما لو تقاررا على القبض ثم قام الغرماء انتفع بالرهن عند الشافعي وامتاز به، ولم ينتفع به عند مالك وكان أسوة الغرماء فيه، حتى ينضاف إلى الشهادة عليهما بالقبض معاينة البينة لذلك، لأنه يتهمهما بالتواطؤ على إسقاط حق الغرماء فلا يعتبر إقرارهما إلا بانضمام المعاينة، فالقبض من هذا الوجه أدخل في الاعتبار على رأى مالك منه على رأى الشافعي، هذا في الابتداء. وأما في الدوام فمالك رضى اللَّه عنه يشترط بقاءه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أجره منه أو أعاره إياه إعارة مطلقة فقد خرج من الرهن، ولو قام الغرماء وهو بيد الراهن بوجه من الوجوه المذكورة كان أسوة الغرماء فيه، والشافعي رضى اللَّه عنه لا يشترط دوام القبض على هذا الوجه، بل للراهن عند الشافعي أن ينتفع بالرهن ولو كره المرتهن إذا لم يكن الانتفاع مضراً بالرهن، كسكنى الدار، واستخدام العبد. وله أن يستوفى منافعه بنفسه على الصحيح عنده المنصوص عليه في الأم ولا يؤثر ذلك في الرهن بطلانا ولا خللا، فقد علمت أن القبض أدخل في الاعتبار على مذهب مالك ابتداء ودواماً، والآية تعضده فان الرهن في اللغة هو الدوام. أنشد أبو على:
فالخبز واللحم لهم راهن... وقهوة راووقها ساكب
ولعل القائل باشتراط دوام الرهن في يد المرتهن تمسك بما في لفظ الرهن من اقتضاء الدوام، وله في ذلك متمسك.
وما طولت في حكاية مذهب مالك في القبض، إلا لأن المفهوم من كلام الزمخشري إطراح القبض عند مالك لأنه فهم من قول أصحابه أن القبض لا يشترط في صحة الرهن، ولا في لزومه أنه غير معتبر عنده بالكلية، واللَّه أعلم،
وسمى الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء، فتقول: الذي اؤتمن، أو الذي تمن. وعن عاصم أنه قرأ: الذي اتمن، بإدغام الياء في التاء، قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح، لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عامىٌّ، وكذلك ريا في رؤيا آثِمٌ خبر إن. وقَلْبُهُ رفع بآثم على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدّم، والجملة خبر إن. فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فَإِنَّهُ آثِمٌ) ؟ وما فائدة ذكر القلب- والجملة هي الآثمة لا القلب وحده-؟ قلت: كتمان الشهادة: هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذنى، ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء
(٢). قوله «أى آمنه الناس» الظاهر أنه من الافعال بالكسر، لا من المفاعلة، أى جعل الناس البعض وهو الدائن بحيث يأمن البعض الآخر وهو المدين، وذلك بأن وصفوا له المدين بالأمانة الخ، فصار الدائن بحيث يأمن المدين. (ع)
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يعنى من السوء يحاسبكم به اللَّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أنه تلاها فقال: لئن آخذنا اللَّه بهذا لنهلكنّ «٢»، ثم بكى حتى سمع نشيجه «٣» فذكر لابن عباس فقال:
يغفر اللَّه لأبى عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ) وقرئ: فيغفر ويعذب، مجزومين عطفاً على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت:
كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله:
(٢). أخرجه الطبري من طريق الزهري عن سعيد بن مرجانة عن ابن عمر به. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن عمر
(٣). قوله «حتى سمع نشيجه» في الصحاح: نشج الباكي نشجا ونشيجاً، إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. (ع)
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِى دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَباً جَزْلًا وَنَاراً تَأجَّجَا «١» |
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
وَالْمُؤْمِنُونَ إن عطف على الرسول كان الضمير- الذي التنوين نائب عنه في كل- راجعاً إلى الرسول والمؤمنين، أى كلهم آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين «٢». ووقف عليه. وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين. ووحد ضمير كل في آمن على معنى: كل واحد منهم آمن، وكان يجوز أن يجمع، كقوله: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقرأ ابن عباس: وكتابه، يريد القرآن أو الجنس «٣» وعنه: الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت:
كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس- والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها- لم يخرج منه شيء. فأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع لا نُفَرِّقُ يقولون لا نفرق. وعن أبى عمرو: يفرق بالياء، على أن الفعل لكل. وقرأ عبد اللَّه:
لا يفرقون. وأَحَدٍ في معنى الجمع، كقوله تعالى: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ولذلك دخل عليه بين. سَمِعْنا أجبنا غُفْرانَكَ منصوب بإضمار فعله. يقال: غفرانك لا كفرانك، أى نستغفرك ولا نكفرك. وقرئ (وكتبه ورسله) بالسكون.
وتأججا: مسند لضمير الحطب والنار، أى اشتعلا، واستدل بهما. وإسناده للنار حقيقى، وللحطب من باب الاسناد للسبب، فهو مجاز عقلى وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز في الاسناد.
(٢). قوله «ورسله من المذكورين» لعل قبله سقطا تقديره: أى كل من المذكورين. (ع) [.....]
(٣). قال محمود: «نقل عن ابن عباس أنه قرأ وكتابه... الخ» قال أحمد: وقد قال مالك: إن التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور، فان التمر استرسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع وفي صيغة الجمع مضطرب. وهذا الكلام من الامام لو ظفر له بقول ابن عباس هذا لأشهر الفرضية في الاستشهاد به على صحة مقالته هذه فلا نعيده.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبى عبلة وسعها بالفتح لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أى لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا. فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ «١» قلت: ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال. ألا ترى إلى قوله: (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان، ولأنهم كانوا متقين اللَّه حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما
قلت: هذه للمبالغة في حمل عليه، وتلك لنقل حمله من مفعول واحد إلى مفعولين وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من العقوبات النازلة بمن قبلنا، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وقيل: المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف. وهذا تكرير لقوله: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. مَوْلانا سيدنا ونحن عبيدك. أو ناصرنا. أو متولى أمورنا فَانْصُرْنا فمن حق المولى أن ينصر عبيده.
أو فإنّ ذلك عادتك. أو فإنّ ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس «أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات، قيل له عند كل كلمة: قد فعلت» «١» وعنه عليه السلام «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «٢» وعنه عليه السلام «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهنّ نبىٌّ قبلي» «٣» وعنه عليه السلام «أنزل اللَّه آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» «٤»
في مواضع، وغفل الحاكم فاستدركه.
(٢). متفق عليه من حديث ابن مسعود. واختلف في معناه. فقيل: كفناه، أجزأتاه عن قيام الليل كما في الذي قبله، وقيل: كفتاه أجراً وفضلا، وقيل: كفتاه من كل شيطان أو من كل آفة.
(٣). هذا طرف من حديث، أوله عن حذيفة قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث:
جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي، ولا يعطي منه أحد بعدي: أخرجه النسائي وأحمد والبزار وابن أبى شيبة وابن خزيمة وابن حبان من رواية أبى مالك الأشجعى عن ربعي بن خراش عن حذيفة، وقد أخرجه مسلم، لكن قال في الثالثة وذكر خصلة أخرى: فأبهمها، وذكرها أصحاب المستخرجات وغيرهم من طريق شيخه بإسناده فيه، وغفل الحاكم فذكر في فضائل القرآن في المستدرك: ان مسلما أخرج هذه الجملة، ولعل مسلما إنما أبهمها للاختلاف على ربعي فيها، فقد رواه أحمد وإسحاق من رواية جرير عن منصور عن ربعي عن خراش عن زيد بن ظبيان عن أبى ذر قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لكن تابع أبا مالك نعيم بن أبى هند، أخرجه الطبراني في الأوسط في المحمدين منه من طريقه.
(٤). أخرجه ابن عدى من حديث ابن مسعود، وفي إسناده الوليد بن عباد وهو مجهول عن أبان بن أبى عياش. وهو متروك.
وقد جاء في حديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من آخر سورة البقرة» و «خواتيم سورة البقرة» و «خواتيم البقرة «١».
وعن علىّ رضى اللَّه عنه «خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش».
وعن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال «من هاهنا- والذي لا إله غيره- رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» «٢».
ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف وسورة الممتحنة وسورة المجادلة. وإذا قيل:
قرأت البقرة، لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). وعن بعضهم أنه كره ذلك وقال: يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة.
عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة. قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة» «٣»
(٢). متفق عليه من رواية الأعمش: سمعت الحجاج بن يوسف على المنبر يقول: السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران. والسورة التي يذكر فيها النساء. قال: فذكرته لإبراهيم فقال: حدثني عبد الرحمن ابن يزيد أنه كان مع ابن مسعود حين رمى جمرة العقبة... الحديث.
(٣). ذكر أبو شجاع الديلمي في الفردوس. من حديث أبى سعيد الخدري: والمسألة في صحيح مسلم من حديث أبى أمامة مرفوعا: اقرأوا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة. قال معاوية أحد رواته:
المعنى أن البطلة السحرة. وفي الباب عن بريدة عند الثعلبي والبغوي.
(تنبيه) المصنف ذكر حديث أبى سعيد مستدلا به ان قال: السورة التي يذكر فيها كذا. ولما قبله على الجواز.
فانه من المرفوع ما رواه الطبراني في الأوسط في المحمدين وابن مردويه في تفسيره من حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه رفعه: «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران» وكذا القرآن كله، وفي إسناد عيسى بن ميمون أبو سلمة الخواص، وهو ساقط.
سورة البقرة
سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.
ترتيبها المصحفي
2نوعها
مدنيةألفاظها
6140ترتيب نزولها
87العد المدني الأول
285العد المدني الأخير
285العد البصري
287العد الكوفي
286العد الشامي
285
* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).
* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:
عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).
* قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.
قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].
قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».
قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.
فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).
* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:
جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).
* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ اْلْمَشْرِقُ وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].
وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.
واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).
* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]، فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).
* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].
ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).
* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].
جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).
* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).
* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).
«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).
وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:
كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).
* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:
فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).
* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:
فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).
* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).
* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:
فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).
* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).
* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:
فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).
* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).
حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:
هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).
هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).
أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).
بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).
ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).
وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).
دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).
انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).
مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).
الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).
تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).
نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).
تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).
قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).
الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).
حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).
دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).
جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).