ﰡ
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
اللغة:
(شِيَعاً) في القاموس والتاج وغيرهما من كتب اللغة: «شيعة الرجل أتباعه وأنصاره والجمع شيع وأشياع، والشيعة: الفرقة وتقع على الواحد والاثنين والجمع مذكرا ومؤنثا وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته حتى صار لهم اسما خاصا
وبلدة يرهب الجواب دلجتها | حتى تراه عليها يبتغي الشيعا |
كلفت مجهولها نفسي وشايعني | همّي عليها إذا ما آلها لمعا |
بذات لوث عفرناة إذا عثرت | فالتعس أولى لها من أن يقال لعا |
(وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : يبقيهن أحياء لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك.
(هامانَ) : وزير فرعون المذكور هنا وهامان عدو اليهود وزير احشويروش الفارسي ذكر في سفر استير من كتب العهد القديم.
الإعراب:
(طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم القول فيها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب المبين خبرها. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نتلو فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنتلو ومن نبأ صفة لمفعول به محذوف أي شيئا من قصة موسى وفرعون وفيه حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه وبالحق حال من فاعل نتلو أي حال كوننا ملتبسين بالحق والصدق أو من المفعول أي حال كونه ملتبسا بالحق والصدق ولقوم متعلقان بنتلو فهو بمثابة التعليل له أي لأجل قوم وجملة يؤمنون صفة لقوم. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) كلام مستأنف مسوق لبيان قصة فرعون أو جملة تفسيرية لنبأ موسى وكلتاهما لا محل لهما من الاعراب وإن واسمها وجملة علا خبرها وفاعل علا ضمير مستتر جوازا تقديره هو أي فرعون وفي الأرض متعلقان بعلا وجعل أهلها فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وشيعا مفعول به ثان. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) جملة يستضعف
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة أو حالية فإن جعلتها عاطفة عطفت الكلام على قوله إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وإن جعلتها حالية فالجملة حال من يستضعف أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم. وأن وما في حيزها مفعول نريد وعلى الذين متعلقان بنمن وجملة استضعفوا صلة وفي الأرض متعلقان باستضعفوا أو بمحذوف حال أي حالة كونهم على الأرض ولعله أولى. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ونجعلهم عطف على نمنّ والهاء مفعول به أول وأئمة مفعول به ثان ونجعلهم الوارثين عطف على نجعلهم أئمة. (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ونمكن عطف على نجعل وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وفي الأرض حال ونري عطف أيضا وفرعون مفعول به وهامان عطف على فرعون
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ١٣]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
(وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) : الخوف هو غم يلحق الإنسان لأمر مكروه متوقع والحزن غم يلحقه لأمر مكروه واقع وسيأتي تقرير ذلك في باب البلاغة وما ورد من الاعتراض على هذا العطف.
(قُصِّيهِ) : اتبعي أثره وتتبعي خبره وبابه نصر. وسيأتي المزيد من شرح هذه المادة.
(جُنُبٍ) بضمتين: مكان بعيد، يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة بمعنى عن بعد.
الإعراب:
(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) الواو عاطفة وجملة أوحينا عطف على قوله ان فرعون علا في الأرض وكلتا الجملتين داخلة في حكم تفسير النبأ وأوحينا فعل وفاعل والى أم موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه ويجوز أن تكون مصدرية على بابها وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأوحينا وأرضعيه فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) الفاء عاطفة وخفت فعل وفاعل وعليه متعلقان بخفت، فألقيه الفاء رابطة وألقيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول به وفي اليم جار ومجرور متعلقان بألقيه وأراد باليم النيل. (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخافي فعل
(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) كلام لا محل له من الإعراب لأنه تعليل لما سبق من أمور وقيل هو كلام معترض بين معطوف عليه وهو فالتقطه آل فرعون ومعطوف وهو وقالت امرأة فرعون. وان واسمها وهامان وجنودهما عطف على فرعون وجملة كانوا خبر إن وكان واسمها وخاطئين خبرها. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) الواو عاطفة وقالت عطف على فالتقطه آل فرعون وامرأة فرعون فاعل قالت وهي آسية بنت مزاحم وسيأتي ذكرها في قصة موسى وفرعون، وقرة عين خبر لمبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولي ولك صفتان للقرة وقد خبط بعض المعربين خبطا عجيبا في إعراب هذه الآية سنلمع إليه في باب الفوائد. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا ناهية وتقتلوه فعل مضارع
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة وقالت فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هي أي أم موسى ولأخته متعلقان بقالت وقصيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول به، فبصرت الفاء عاطفة على محذوف أي فذهبت ترتاده
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان سبب رده الى أمه، وحرمنا فعل وفاعل وعليه متعلقان بحرمنا والمراضع مفعول به ومن قبل حال- والمراضع جمع مرضع وهي التي تمارس الإرضاع ولم تباشره أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد اسم مكان الرضاع يعني الثدي- فقالت الفاء الفصيحة أي لما رأت أخته ذلك قالت وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى أهل بيت متعلقان بأدلكم وجملة يكفلونه صفة لأهل بيت ولكم متعلقان بيكفلونه والواو حالية وهم مبتدأ وله متعلقان بناصحون وناصحون خبر.
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة ورددناه فعل وفاعل ومفعول به والى أمه متعلقان برددناه وكي حرف تعليل ونصب وتقر فعل مضارع منصوب بكي ولا تحزن عطف على تقر، ودمع الفرح بارد وعين المهموم حرى سخينة. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تعلم وان واسمها وحق خبرها والواو حالية ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.
١- معنى الخوف والحزن:
لقائل أن يقول: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله «ولا تخافي ولا تحزني» ؟ ثم أليس من التناقض أن يثبت الخوف في قوله «فإذا خفت عليه» ثم ينفيه بقوله «ولا تخافي» والجواب على التناقض المزعوم أن الخوف الأول المثبت هو غرقه في النيل والثاني هو خوف الذبح فاندفع ما يتوهم من تناقض، وأما الاعتراض الاول فهو مندفع بأن هذا من باب الاطناب بل هو قسم نادر من أجمل أقسامه، وهو أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعان متداخلة إلا أن كل معنى مختص بخصيصة ليست للآخر، فقد قلنا في باب اللغة أن الخوف هو غم يصيب الإنسان الأمر يتوقع نزوله في المستقبل أما الحزن فهو غم يصيبه لأمر وقع فعلا ومضى فنهيت عنهما جميعا ومنه قول أبي تمام وقد كان بارعا فيه:
قطعت إليّ الزابيين هباته | والتاث مأمول السحاب المسبل |
من منة مشهورة وصنيعة | بكر وإحسان أغر محجل |
وقد اشتملت هذه الآية «وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين» على أمرين وهما «أرضعيه، فألقيه» ونهيين وهما «لا تخافي، ولا تحزني» وخبرين وهما: «إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين» وبشارتين في ضمن الخبرين وهما رده إليها وجعله من المرسلين.
٢- الكناية:
وذلك في قوله «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا» فإن ذلك كناية عن فقدان العقل وطيش اللب والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها وطار عقلها لما انتابها من فرط الجزع والدهش ومثله قوله تعالى «وأفئدتهم هواء» أي جوف لا عقول فيها ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني | فأنت مجوّف نخب هواء |
بأن سيوفنا تركت عبيدا | وعبد الدار سادتها الإماء |
هجوت محمدا فأجبت عنه | وعند الله في ذاك الجزاء |
أتهجوه ولست له بكفء | فشرّ كما لخير كما الفداء |
فأقسم أن لو التقينا وأنتم | لكان لكم يوم من الشر مظلم |
وأراد فعل ماض وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أراد وبالذي متعلقان بيبطش وهو مبتدأ وعدو خبر ولهما صفة والجملة صلة الذي. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الاسرائيلي المستغيث قال ذلك وقد ظن أن موسى يريد أن يبطش به، وقيل يعود على القبطي وليس ببعيد ورجحه زاده في حاشيته على البيضاوي، وكأنه توهم من زجر موسى الاسرائيلي انه هو الذي قتل الرجل بالأمس، أتريد
(قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) إن الملأ إن واسمها وجملة يأتمرون خبر وبك متعلقان بيأتمرون أي يتشاورون والائتمار التشاور يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران بمعنى واحد لأن كل واحد فيهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر وقيل معناه يأمر بعضهم بعضا بقتلك ولعل هذا أوضح وقد أورد صاحب التاج المعنيين قال: «ائتمروا وتآمروا: تشاوروا وائتمروا بفلان هموا به وأمر بعضهم بعضا بقتله» وبك متعلقان بيأتمرون وليقتلوك اللام تعليلية والمضارع منصوب بأن مضمرة بعدها،
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
(تِلْقاءَ) : تقدم ذكر المصادر التي وردت على هذا الوزن والمعنى هنا الجهة.
(مَدْيَنَ) : بلدة في مصر تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك فيها البئر التي استقى منها موسى ومدين اسم قبيلة ذكرها ياقوت، قال الجلال: «وهي قرية شعيب مسيرة ثمانية أيام من مصر سميت بمدين ابن ابراهيم ولم يكن يعرف طريقها».
(سَواءَ السَّبِيلِ) : وسطه ومعظم نهجه من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق الوسط.
(تَذُودانِ) : تدفعان أغنامهما عن الماء. ومنه قول الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما | أذود بها سربا من الوحش نزّعا |
ومرّة الوعظ تسمى خطبة | ثم التماس للنكاح الخطبة |
وما به يخطب فهو الخطبة | وحمرة أي في سواد الشعر |
فحمرة في كدرة تدعى خطب | وخطبة النكاح جمعها خطب |
وجمع خطبة بمنبر خطب | والخطب سهل أي سبيل الأمر |
فالأمر مع صرف الزمان خطب | والخطبة الخاطب كل خطب |
جمع لأخطب وخطبا خطب | في كل ذي اختلاف لون يجري |
وفي الوعظ قل وفي النكاح خطبا | نعم وفي كدرة لون خطبا |
وإن ترد صار خطيبا خطبا | أتى بسجع في الكلام النثر |
١- اسم أو صفة ليست عينهما ياء على وزن فعل أو فعلة، فالاسم ككعب وكعاب وثوب وثياب ونار ونيار وقصعة وقصاع وجنة وجنان، والصفة كصعب وصعبة وصعاب وضخم وضخمة وضخام، وندر مجيئه من معتل العين: كضيعة وضياع وضيف وضياف.
٢- اسم صحيح اللام غير مضاعف على وزن فعل أو فعلة كجمل وجمال وجبل وجبال ورقبة ورقاب وثمرة وثمار.
٣- اسم على وزن فعل كذئب وذئاب وظل وظلال وبئر وبئار.
٤- اسم على وزن فعل ليست عينه واوا ولا لامه ياء كرمح ورماح وريح ورياح ودهن ودهان، وأما الدهان في قوله تعالى:
«فكانت وردة كالدهان» فسيأتي انه اسم مفرد ومعناه الجلد الأحمر.
٥- صفة صحيحة اللام على وزن فعيل أو فعيلة ككريم وكريمة وكرام ومريض ومريضة ومراض وطويل وطويلة وطوال.
٦- صفة على وزن فعلان أو فعلى أو فعلانة أو فعلانة كعطشان وعطشى وعطاش وريان وريا ورواء وندمان وندمى وندام وخمصان وخمصانة وخماص.
هذا ولا ندري كيف ند هذا عن الزمخشري فقال في كشافه:
«وأما الرعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام».
(اسْتِحْياءٍ) : الاستحياء والحياء الحشمة والانقباض والانزواء قال في المصباح: «يقال استحيت بياء واحدة وبياء واحدة وبياءين ويتعدى بنفسه وبالحرف فيقال استحيته واستحيت منه».
(الْقَصَصَ) بفتحتين: مصدر بمعنى المقصوص وقد سمي به فيما بعد المقصوص يقال قص عليه الخبر حدثه به ومصدره قصص بفتحتين أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة.
الإعراب:
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) الواو استئنافية ولما حينية أو رابطة وتوجه فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وتلقاء مدين ظرف مكان متعلق بتوجه وتلقاء يستعمل مصدرا واسما للقاء ومكانا له وقد ذكرنا فيما مضى أن لدينا عشرة مصادر أتت مخالفة فجاءت بكسر أولها، وجعله شارح القاموس اسما للمصدر فقال تعليقا على القاموس «قوله والاسم التلقاء أي اسم
(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من سياق الكلام أي فرجعتا الى أبيهما في زمن أقل مما كانتا تستنز فانه في السقي فسألهما عن سبب ذلك فأخبرتاه بقصة من سقى لهما فقال لإحداهما أدعية لي فجاءته، وإحداهما فاعل وجملة تمشي حال من الفاعل وعلى استحياء حال من الفاعل المضمر في تمشي أي مستحيية خفرة وقيل واضعة كم درعها على وجهها حياء منه.
(قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) إن واسمها وجملة يدعوك خبر وليجزيك اللام للتعليل ويجزيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعوك والكاف مفعول به أول وأجر مفعول به ثان وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لأجر أي أجر سقايتك ولنا متعلقان بسقيت.
(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فأجابها لا ليأخذ الأجر ولكن لأجل التبرك بأبيها لما سمع منهما انه شيخ كبير، فمشت أمامه فجعلت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقيها أو ألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق ففعلت الى أن دخل عليه فلما جاءه وقص عليه، قص فعل ماض وعليه متعلقان بقص والقصص مفعول به وجملة قال لا محل لها ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم
البلاغة:
١- الإيجاز:
كثر الإيجاز في هذه الآيات فقد حذف المفعول به في أربعة أماكن أحدها مفعول يسقون أي مواشيهم والثاني مفعول تذودان أي مواشيهما والثالث لا نسقي أي مواشينا والرابع فسقى لهما أي مواشيهما وعلة الحذف أن الغرض هو أن يعلم انه كان من الناس سقي ومن البنتين ذود وأنهما قالتا لا نسقي أي لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وانه كان من موسى سقي فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فذلك أمر خارج عن نطاق الغرض.
٢- الكناية:
في قوله «وأبونا شيخ كبير» فقد أرادتا أن تقولا له: إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ومالنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ طاعن في السن قد أضعفه الكبر وأعياه فلا مندوحة لنا عن ترك السقيا وأرجائها الى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء وبذلك طابق جوابهما سؤاله لأنه سألهما عن علة الذود فقالتا ما قالتاه وإنما ساغ لنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه بامتهان سقيا الماشية على ما فيها من تبذل واطراح حشمة لأن الضرورات تبيح المحظورات مع أن الأمر في حد ذاته ليس بمحظور فالدين لا يأباه
٣- الإشارة:
وذلك في قوله «على استحياء» فقد أشار بلمح خاطف يشبه لمح الطرف وبلغة هي لغة النظر إلى وصف جمالها الرائع الفتان باستحياء لأن الخفر من صفات الحسان ولأن التهادي في المشي من أبرز سماتهن، قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها | مر السحابة لا ريث ولا عجل |
جرت تدافع من وشي لها حسن | تدافع الماء في وشي من الجب |
سموت إليها بعد ما نام أهلها | سمو حباب الماء حالا على حال |
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت | مصابيح شبت بالعشي وأنور |
وغاب قمير كنت أرجو غيابه | وروّح رعيان وهوّم سمر |
وخفض عني الصوت أقبلت مشية | الحباب وركني خيفة القوم ازور |
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
الإعراب:
(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) قالت إحداهما فعل وفاعل وهي الكبرى التي تزوجها موسى فيما بعد، ويا أبت تقدم إعرابه كثيرا واستأجره فعل أمر وفاعل ومفعول به (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للأمر قبلها وسيأتي معنى هذا الكلام الجامع المانع في باب البلاغة، وإن واسمها ومضاف إليه وجملة استأجرت لا محل لها لأنها صلة الموصول والقوي خبر أول
(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأتممت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وعشرا مفعول به والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية ومن عندك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فالتمام من عندك وليس في الأمر إلزام وتحتيم.
(وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأريد فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا وأن وما في حيزها مفعول أريد وعليك متعلقان بأشق، ستجدني فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به
قلت: حقيقته ان الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه» وسيأتي مزيد من ذلك في باب البلاغة.
(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا لا نحيد عنه كلانا، وأيما الأجلين:
أي اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم لقضيت وما زائدة للإبهام وسيأتي بحث مستفيض عن أي في باب الفوائد وقيل ان «ما» نكرة بمعنى شيء والأجلين بدل منها وقضيت فعل وفاعل والفاء رابطة للجواب ولا نافية للجنس وعدوان اسمها المبني على الفتح وعلي خبر لا والله مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله.
البلاغة:
١- الكلام الجامع المانع:
في قوله تعالى: «إن خير من استأجرت القوي الأمين» في هذه الآية فنون عديدة ولذلك أطلق عليها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشئونك وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ بالك وتم أمرك وسهل مرادك، ولأنه ذهب مذهب المثل المضروب ليذهب في مرّ العصور وقادمات الدهور، وفيه التعميم
وهذا الإيهام من ابنة شعيب قد سلكته زليخا مع يوسف ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والحياء المستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل حيث قالت: «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» وهي تعني ما جزاء يوسف مما أرادني من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر وأن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا إيذانا منها بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، ففي هذه الآية كما رأيت الإيجاز والمثل والتعميم والإيهام وفيها أيضا التقديم فقد قدم ما هو أولى بالتقديم وجعل اسما ل «إن» وهو خير وورد بلفظ الفعل الماضي للدلالة على أن الأمر ليس بدعا وانه معروف مبتوت فيه قد جرب وتعورف. ومن التقديم البديع قول أبي الشغب العبسي يتحزّن على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو.
ألا إن خير الناس حيا وهالكا | أسير ثقيف عندهم في السلاسل |
لعمري لئن عمرتم السجن خالدا | وأوطأتموه وطأة المتثاقل |
لقد كان نهّاضا بكل ملمة | ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل |
٢- الإيجاز:
وفي قوله «وما أريد أن أشق عليك» إيجاز بليغ فقد ذكرنا معنى شق عليه الأمر وانه مترجح بين اليأس والرجاء، وفيه إيماء الى أولئك المعاسرين الذين يكلفون عمالهم أعمالا تربو على طوقهم وتتجاوز حدود قدرتهم المعهودة، وعلى هذا درجت الشرائع في حسن المعاملة والأخذ بالأسهل والأيسر ومنه الحديث «كان رسول الله ﷺ شريكي فكان لا يداري ولا يشاري ولا يماري».
«أيّ» المشددة:
تأتي «أيّ» المشددة على خمسة أوجه:
١- أن تكون شرطا نحو «أيما الأجلين قضيت» وقد تزاد ما بعدها للتوكيد.
٢- أن تكون استفهامية: «أيكم زادته هذه إيمانا».
٣- موصولة: «ثم لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا».
٤- أن تكون دالة على معنى الكمال فتقع صفة للنكرة نحو زيد رجل أي رجل أي كامل في صفات الرجال وحالا من المعرفة كمررت بعبد الله أي رجل، قال أبو العتاهية وقد وردت صفة:
إن الشباب والفراغ والجده | مفسدة للمرء أي مفسده |
هذا وقد أورد صاحب المغني بيتا لأبي الطيب فيه «أي» وهو:
أي يوم سررتني بوصال | لم ترعني ثلاثة بصدود |
أرأيت أي سوالف وخدود | برزت لنا بين اللوى فزرود |
أي يوم أكرمتني؟ والمعنى ما سررتني يوما بوصالك إلا روعتني ثلاثة بصدودك، والجملة الأولى مستأنفة قدم ظرفها لأن له الصدر والثانية اما في موضع جر صفة لوصال على حذف العائد أي لم ترغني بعده كما حذف في قوله تعالى: «واتقوا يوما لا تجزي نفس» الآية، أو نصب حالا من فاعل سررتني أو مفعوله والمعنى أي يوم سررتني غير رائع لي أو غير مروع منك وهي حال مقدرة مثلها في «طبتم فادخلوها خالدين» أو لا محل لها على أن تكون معطوفة على الأولى بفاء محذوفة كما قيل في «وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله» وكذا في بقية الآية وفيه بعد، والمحققون في الآية على أن الجمل مستأنفة بتقدير: فما قالوا له؟ فما قال لهم؟ ومن روى ثلاثة بالرفع لم يجز عنده كون الحال من فاعل سررتني لخلو ترعني من ضمير ذي الحال.
وقال أبو البقاء العكبري في شرحه لديوان المتنبي: «أي نصب وهو استفهام خرج مخرج النفي كما تقول لمن يدعي أنه أكرمك: أي يوم أكرمتني قط كما قال الهذلي:
اذهب فأي فتى في الناس أحرزه | من حتفه ظلم دعج ولا جبل |
كم قتيل كما قتلت شهيد | ببياض الطّلى وورد الخدود |
وعيون المها ولا كعيون | فتكت بالمتيم المعمود |
عمرك الله هل رأيت بدورا | طلعت في براقع وعقود |
يترشّفن في فمي رشفات | هن فيه أحلى من التوحيد |
كل شيء من الدماء حرام | شربه ما خلا دم العنقود |
فاسقنيها فدى لعينيك نفسي | من غزال وطارفي وتليدي |
شيب رأسي وذلتي ونحو لي | ودموعي على هواك شهودي |
وكم في الناس من حسن ولكن | عليك لشقوتي وقع اختياري |
أيها المنكح الثّريا سهيلا | عمرك الله كيف يلتقيان |
(أحلى من التوحيد) قال الواحدي: «كنّ يمصصن ريقي لحبهنّ إياي فكانت الرشفات في فمي أحلى من كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله وهذا إفراط وتجاوز حد».
قال ابن القطاع: ذهب كثير من الناس الى أن لفظة أفعل من كذا توجب تفضيل الأول على الثاني في جميع المواضع وذلك غلط والصحيح أن أفعل يجيء في كلام العرب على خمسة أوجه:
والثاني: أن يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه ومحتملا للحاق به وقد سبق للثاني حكم أوجب له الزيادة بالدليل الواضح فهذا يكون على المقاربة في التشبيه لا التفضيل نحو قولك الأمير أكرم من حاتم وأشجع من عمرو، وبيت المتنبي من هذا القبيل أي يترشفن من فمي رشفات هنّ قريب من التوحيد.
والثالث: أن يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه والثاني دون الاول فهذا يكون على الإخبار المحض نحو قولك: الشمس أضوأ من القمر والأسد أجرأ من النمر.
والرابع: أن يكون الأول من غير جنس الثاني وقد سبق للثاني حكم أوجد له الزيادة واشتهر الأول من جنسه بالفضيلة فيكون هذا على سبيل التشبيه المحض والغرض أن يحصل للأول بعض ما يحصل للثاني نحو قولك: زيد أشجع من الأسد وأمض من السيف.
والخامس: أن يكون الأول من غير جنس الثاني والأول دون الثاني في الصفة جدا فيكون هذا على المبالغة المحضة نحو قامته أتمّ من الرمح ووجهه أضوأ من الشمس وجاء في الحديث: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر» ذهب من لا يعرف معاني الكلام أن أبا ذر أصدق العالم أجمع وليس الأمر كذلك وإنما
(كل خمصانة) : يجوز فيه الرفع على البدل من الضمير في يترشفن وعلى هذا يرفع أرق حملا على كل، ويجوز نصب كل حملا على النعت لقوله بدورا أو على البدلية منها والخمصانة الضامرة والذكر خمصان.
(أهل ما بي من الضنى بطل) أهل مبتدأ خبره بطل أو خبر لمبتدأ محذوف والمعنى أنا أهل ما بي وحقيق به وأنا بطل صيد.
(ما خلا دم العنقود) : إذا قلت جاء القوم ما خلا زيدا فليس إلا النصب لأن خلا يتحتم كونها فعلا لدخول ما المصدرية عليها، وإذا قلت جاء القوم خلا زيد كان الجر لا غير.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من السياق والتقدير فتم العقد بينهما على الإجارة والنكاح ومارس المهمة التي أنيطت به على أحسن وجه وأكمله فلما. ولما حينية أو رابطة وجملة قضى موسى الأجل لا محل لها وسار عطف على قضى وبأهله جار ومجرور متعلقان بسار وجملة آنس لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن جانب الطور متعلقان بآنس ونارا مفعول به ولك أن تجعل من جانب الطور حالا لأنه كان صفة لنارا وتقدم عليها. (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) لأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني تعليل للأمر بالمكث وإن واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به.
(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) جملة الرجاء حال أي راجيا ولعل واسمها وجملة آتيكم خبرها والكاف مفعول به ومنها حال لأنه كان صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم وأو حرف عطف وجذوة عطف على خبر وهي مثلثة الجيم: الشعلة من النار والقطعة من الحطب وجمعها جذا، قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها | جزل الجذا غير خوار ولا ذعر |
وردئي كل أبيض مشرفي | شحيذ الحدّ عضب ذي فلول |
يقال ردأته وأردأته.
(العضد) : بفتح العين وضم الضاد وبالضم وبالكسر: غليظ الذراع وهو من المرفق الى الكتف جمعه أعضاد وأعضد وهو قوام اليد وبشدته تشتد. قال طرفة، وقيل لأوس ابن حجر:
أبني لبيني لستمو بيد | إلا يدا ليست لها عضد |
ولكنا نعض السيف منها | بأسوق عافيات الشحم كوم |
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم | وقيس عيلان من عاداتها الضجر |
اشتد وبه داء عضال، وقد أعيا الأطباء وأعضلهم، وتزوج ذو الإصبع فأتى حيه يسألهم مهرها فمنعوه فقال:
واحدة أعضلكم أمرها... فكيف لو درت على أربع
وفلان عضلة من العضل: داهية من الدواهي وعضلت على فلان: ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد، ومنه «ولا تعضلوهن» ورماه بالعضيهة أي الافك، وقال عليه السلام:
«لا تعضية على أهل الميراث» أي لا يدخل عليهم الضرر بقسمة نحو السيف والخاتم.
الإعراب:
(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة كما تقدم وان واسمها وجملة قتلت خبرها ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدمت ونفسا مفعول به، فأخاف الفاء عاطفة وأخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وان وما في حيزها مفعول أخاف ويقتلون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والنون للوقاء وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) الواو عاطفة وأخي مبتدأ وهارون بدل أو عطف بيان وهو مبتدأ وأفصح خبر هو والجملة خبر أخي ومني متعلقان بأفصح ولسانا تمييز، فأرسله الفاء الفصيحة وأرسله فعل أمر للدعاء وفاعله أنت والهاء مفعول به ومعي ظرف متعلق بأرسله وردءا حال
(فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويصلون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإليكما متعلقان بيصلون وبآياتنا يجوز فيه أن يتعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات أي اذهبا بآياتنا أو بنجعل أو بيصلون أو بسلطانا أي نسلطكما بآياتنا أو بمحذوف حال أو من لغو القسم ولا أرى موجبا للترجيح في هذه الأوجه فاختر منها ما ترى ترجيحه، وأنتما مبتدأ ومن اسم موصول معطوف على أنتما وجملة اتبعكما صلة من والغالبون خبر أنتما.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم موسى فعل ومفعول وفاعل وبآياتنا متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال وبينات حال أي واضحات الدلالة وجملة قالوا جواب لما وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر ومفترى صفة.
(وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا وفي آبائنا حال من هذا فهو متعلق
البلاغة:
١- الاسناد المجازي:
في قوله «فأرسله معي ردءا يصدقني» إسناد مجازي، فقد أسند اليه التصديق لأنه السبب فيه، ومعنى الإسناد المجازي أن التصديق حقيقة في المصدق فاسناده حقيقة وليس في السبب تصديق لكن استعير له الاسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة والدليل على ذلك قوله «إني أخاف أن يكذبون» فليس الغرض من قوله يصدقني أن يقول صدقت أو يقول للناس صدق أخي وانما طريق تصديقه أن يلخص الحق بلسانه، ويجادل الكفار ببيانه وأن يقرر الحجة ويورد البرهان مدعوما بالأرقام كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، ألا ترى الى قوله: «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا» وفي هذا دليل على سمو البيان وشرفه وإنافته على الكلام العادي الذي لا يصيب المحز ولا يتغلغل الى أغوار النفوس.
وفي قوله «سنشد عضدك بأخيك» مجاز مرسل على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب بمرتبتين تتبع إحداهما ثانيتهما فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية واختار الشهاب في حاشيته على البيضاوي أن يكون كناية تلويحية قال: «الشد التقوية فهو اما كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشد بشد العضد والجملة تشد بشد اليد أو استعارة تمثيلية شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بالعضد» وليس ببعيد.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
(أَطَّلِعُ) : الطلوع والاطلاع: الصعود، يقال طلع الجبل واطلع بمعنى وإن نفسك لطلعة إلى هذا الأمر وانها لتطّلع إليه أي تنازع.
(الْمَقْبُوحِينَ) : المقبوح: المطرود وقبحه الله: طرده، وفي المصباح: «قبح الشيء قبحا فهو قبيح من باب قرب وهو خلاف حسن وقبحه الله يقبحه بفتحتين: نحاه الله عن الخير وفي التنزيل:
«وهم من المقبوحين» أي المبعدين عن الفوز والتثقيل مبالغة وقبح عليه فعله تقبيحا».
وقال أبو زيد: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أبعده من كل خير، وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبّحت بالتشديد ومثله قول الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلها | وقبح يربوعا وقبح دارما |
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) الواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي وقال فرعون بعد ما جمع السحرة لمعارضته وكان بينهم وبين موسى ما كان، ويا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة بني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والملأ بدل وما نافية وعلمت فعل وفاعل ولكم حال ومن حرف جر زائد وإله
(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) الفاء الفصيحة وأوقد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ويا حرف نداء وهامان منادى مفرد علم وعلى الطين متعلقان بأوقد، فاجعل عطف على أوقد ولي في محل نصب مفعول ثان لا جعل وصرحا مفعول أول. (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) لعل واسمها وجملة أطلع خبرها والى إله موسى متعلقان بأطلع وإني الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة أظنه خبر والهاء مفعول به أول ومن الكاذبين في موضع المفعول الثاني. (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) عطف على وقال فرعون وهو فاعل استكبر أو توكيد للفاعل لأن استتار الفاعل في الغائب جائز وجنوده عطف على هو وفي الأرض متعلقان باستكبر وبغير الحق حال من فاعل استكبر أي ملتبسين بغير الحق.
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) وظنوا عطف على استكبر وأن وما يليها سدت مسد مفعولي ظنوا وإلينا متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة لا يرجعون خبر أن. (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فأخذناه عطف على ما تقدم وأخذناه فعل وفاعل ومفعول به وجنوده عطف على الهاء في أخذناه أو مفعول معه فنبذناهم عطف على فأخذناه وفي اليم متعلقان بنبذناهم، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وكيف خبر مقدم لكان وعاقبة الظالمين اسمها المؤخر. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وأئمة مفعول به ثان وجملة يدعون صفة لأئمة والى النار متعلقان بيدعون ويوم القيامة الواو عاطفة ويوم القيامة ظرف متعلق بينصرون ولا نافية وينصرون
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) وأتبعناهم عطف على ما تقدم وفي هذه الدنيا حال والدنيا بدل من هذه ولعنة مفعول به ثان.
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) الظرف متعلق بمحذوف دل عليه قوله المقبوحين كأنه قيل وقبحوا يوم القيامة وإنما قدرنا محذوفا لأن تعليقه بالمقبوحين وهو الظاهر يمنع منه وجود أل الموصولية، على أنهم قد اتسعوا في ذلك فعلقوه بمدخولها ولا مانع من ذلك ولك أن تعطفه على موضع في هذه الدنيا أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة وهم مبتدأ ومن المقبوحين خبره.
البلاغة:
في قوله «فأوقد لي يا هامان على الطين» إطناب بديع وذلك أنه لم يقل اطبخ لي الآجر وذلك ليتفادى ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها- على سهولة لفظه- ليس فصيحا وذلك أمر يقرره الذوق وحده، ألا ترى إلى هذه الكلمة وقد وقعت في بيت للنابغة الذبياني من قصيدته الدالية التي أولها:
من آل مية رائح أو مغتدي | عجلان ذا زاد وغير مزود |
أو دمية من مرمر مرفوعة | بنيت بآجر يشاد بقرمد |
١- نادى وزيره بحرف النداء.
٢- توسيط ندائه خلال الأمر وبناء الصرح.
٣- رجاؤه الاطلاع الى الله.
٤- الغباء الذي يلازم الجبابرة العتاة إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون فقد صرح قبل هنيهة بقوله «ما علمت لكم من إله غيري» فعبر عن نفي المعلوم بنفي العلم وأعلن تصميمه على الجحود ثم ما عتم أن أعلن رجاءه الاطلاع فهل كان مصمما على الجحود أم لم يكن.
فصل في اختيار الألفاظ:
هذا وقد عني علماء البيان باللفظة وسر اختيارها وخلاصة ما يقال فيه: أن حسن الألفاظ وقبحها أمر يعود الى الذوق وحده فما استحسنه كان حسنا وما استقبحه كان قبيحا، فالاستعمال ليس بدليل الحسن، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه ومن لم يعرف صناعة النظم والنثر وما يجده صاحبها من الكلفة في صوغ الألفاظ واختيارها فإنه معذور في أن يقول ما قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده | ولا الصبابة إلا من يعانيها |
قال الثعالبي: «واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته».
وقد عمل الصاحب رسالة فيما أخذه على المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فإنا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شيء منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه إلا بما هو عيب ولم يستطع
١- أخذ الصاحب على المتنبي التفاصح بالألفاظ الشاذة فمن ذلك قوله:
أيفطمه التوراب قبل فطامه | ويأكله قبل البلوغ الى الأكل |
ومعنى البيت: أيفطمه التوراب قبل أن تفطمه أمه ويأكله التراب قبل أن يبلغ سن الآكل.
٢- وأخذ عليه لفظة ترنج بقوله:
شديد البعد من شرب الشمول | ترنج الهند أو طلع النخيل |
٣- وانتقد الصاحب جمع الآخاء في شعره إذ قال.
كل آخائه كرام بني الدنيا ولكنه كريم الكرام قال: «ولو وقع الآخاء» في رائية الشمّاخ لاستثقل فكيف مع أبيات منها:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام | وأنلناك بدرة في المنام |
وعلى هذا النحو يمضي في كشف مساوئ المتنبي وكلها أمور ترجع الى اللفظة وحدها وسيرد معنا الكثير منها فلنكتف بما ذكرناه الآن منها.
وعاب النقاد القوافي الملتاثة، فعابوا على أبي تمام قافيته الثائية في قصيدته التي مطلعها:
قف بالطلول الدارسات علاثا | أصخت حبال قطينهن رثاثا |
مبيتي من دمشق على فراش | حشاه لي بحرّ حشاي حاش |
سرى وجناح الليل أقتم أفتخ | حبيب ضجيع بالعبير مضمّخ |
وحسبنا ما تقدم فقد كدنا نخرج بالكتاب عن موضوعه.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
(بَصائِرَ) : البصيرة: العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة يقال: جوارحه بصيرة عليه أي شهود وفراسة ذات بصيرة أي صادقة والجمع بصائر وقوله «بصائر للناس» أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بها بين الحق والباطل بعد أن كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فالبصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب.
(ثاوِياً) : مقيما، يقال ثوى يثوي من باب ضرب ثواء وثويا المكان وفيه وبه أقام وثوى الرجل مات قال عبيد بن الأبرص في مطلع معلقته:
آذنتنا ببنيها أسماء | رب ثاو يملّ منه الثواء |
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن بعد متعلقان بآتينا وما مصدرية وأهلكنا فعل وفاعل والقرون مفعول به والأولى صفة. (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بصائر حال من الكتاب أو مفعول لأجله، وعلى الحالية لا بد من تقدير مضاف أي ذا بصائر، أو على المبالغة، وللناس نعت لبصائر وهدى ورحمة عطف على بصائر ولعلهم يتذكرون لعل واسمها وجملة
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أنشأنا خبرها ونا فاعل وقرونا مفعول به فتطاول عطف على أنشأنا وعليهم متعلقان بتطاول والعمر فاعل. (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وثاويا خبرها وفي أهل مدين متعلقان بثاويا وجملة تتلو في موضع نصب خبر ثان لكنت أو حال من الضمير في ثاويا، ولكنا الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وجملة مرسلين خبرها.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبر كنت والطور مضاف اليه والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو بجانب والخطاب في الآيتين لمحمد ﷺ أي وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه الى موسى عليه السلام ولا كنت من الشاهدين الوحي ولا كنت بجانب الطور حين ناديناه ليأخذ التوراة، وجملة
البلاغة:
١- جناس التحريف:
في قوله: «ولكنا كنا مرسلين» جناس التحريف الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما وقد مرت له نظائر وستمر نظائر كثيرة ومثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري:
والحسن يظهر في شيئين رونقه | بيت من الشعر أو بيت من الشعر |
لغيري زكاة من جمال فإن تكن | زكاة جمال فاذكري ابن سبيل |
جعلنا السيف بين الخدّ منه | وبين سواد لمته عذارا |
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته | ولا ورع عند اللقاء هيوب |
تجافيت عني حين لا لي حيلة | وخلفت ما خلفت بين الجوانح |
ومن أنواع الاشارة الرمز كقول أحدهم يصف امرأة قتل زوجها وسبيت:
عقلت لها من زوجها عدد الحصى | مع الصبح أو مع جنح كل أصيل |
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا | أعد الحصى ما تنقضي عبراتي |
قرارتها كسرى وفي جنباتها | مها تدّريها بالقسيّ الفوارس |
فللخمر ما زرّت عليه جيوبها | وللماء ما دارت عليه القلانس |
كان نشوء الرمزية رد فعلّ ضد الواقعية التي أسرفت في التأثر بالعلم والبعد عن الخيال الشعري وكما استطاعت الواقعية أن تزحزح الرومانتيكية عن مكانتها كان نشوء الرمزية إيذانا بتراجع الواقعية لتحل محلها تلك الحركة الجديدة التي احتلت الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
والشعر عند أصحاب هذا المذهب- كما يقول بعضهم- «نشوة وحلم يحملان الإنسان الى حيز اللاوعي حيث يلمح هناك من الحقائق ما لا يستطيع رؤياها عن طريق العقل والمنطق في العالم الواعي وهو لا يجد في العالم الباطني صورا تامة الوضوح يستطيع التعبير عنها تعبيرا صريحا ولكنه يعبر عنها بالرمز حتى يستطيع أن يوحي للقارىء بنفس الاحساس وينقله الى نفس الحالة».
ومن هنا جاء الغموض في الرمزية، ثم أمعنوا في الإبهام وغلفوا الشعر بغلاف من الضباب، فأسقطوا حروف التشبيه واعتمدوا على الكلمة في ايحائهم يقدمونها ويؤخرونها عن موضعها عن قصد حتى تزيد من اشعاعاتها الموحية، وكذلك طابقوا بين الحروف والألوان وبين الألوان والمعاني فاللون الأحمر يرمز للحياة الصاخبة والدم وشهوة الحبّ والأعاصير. والأخضر يمثل الكون والطبيعة والبحر، والأزرق يمثل الانطلاق الى ما وراء المادة الكونية حيث عالم الملائكة والموسيقى التي تبلغ الأعماق. واللون البنفسجي لون الرؤى الصوفية، والأصفر للحزن والتحفز نحو عالم أفضل، والأبيض يشف عن الهدوء والسكينة والطهر. ويعبر بودلير الشاعر الفرنسي الرمزي عن العلاقة بين الألوان والعطور والأصوات في قصيدته التي يتناول فيها وحدة الطبيعة فيقول:
وتتمازج الأصداء الطويلة البعيدة الغموض في وحدة مظلمة عميقة رحبة كالليل وكالضياء وتتجاوب العطور والألوان والأصوات وحسبنا ما أوردناه، ومن أراد المزيد فليرجع الى ما كتب في هذا الصدد وهو كثير.
٣- الاحتراس:
وفي هذه الآية نفسها فن الاحتراس وقد تقدم ذكره كثيرا، ولعل الاحتراس الذي وقع في هذه الآية أعجب احتراس وقع في القرآن فالخطاب كما قلنا موجه الى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما نفى تبارك وتعالى عن رسوله الكريم كونه بالمكان الذي قضى لكليمه موسى الأمر عرّف المكان بالجانب الغربي ولم يصفه باليمين كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: «وناديناه من جانب الطور الأيمن» أدبا منه سبحانه مع نبيه أن ينفي عنه كونه في الجانب الأيمن ووصف سبحانه الجانب هاهنا باليمين إذ أخبر أنه نادى منه كليمه موسى تشريفا له.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
الإعراب:
(وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف
هذا وقد شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين قال الزمخشري:
«فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويئول معناه الى قولك ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهم أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما الجئوا به الى العلم اليقين لم يقولوا: «لولا أرسلت إلينا رسولا» وانما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الايمان بخالقهم، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى».
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجاءهم الحق فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن عندنا متعلقان بجاءهم وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب لما ولولا حرف تحضيض أي هلا وأوتي
(قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) فجملة قالوا مفسرة وسحران خبر لمبتدأ محذوف أي هما ساحران وجملة تظاهرا نعت لسحران أي تعاونا بتصديق أحدهما الآخر وقالوا عطف على قالوا وإنا ان واسمها وبكل متعلقان بكافرون وكافرون خبر انا والجملة مقول القول. (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر وبكتاب متعلقان بفأتوا ومن عند الله متعلقان بمحذوف صفة وهو مبتدأ وأهدى خبر ومنهما متعلقان بأهدى والجملة صفة ثانية لكتاب وأتبعه فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فأتوا والأمر هنا للتعجيز المشوب بالتوبيخ والتقريع. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولك متعلقان بيستجيبوا والفاء رابطة لجواب الشرط واعلم فعل أمر وأنما كافة
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي والإنكار في محل رفع مبتدأ وأضل خبره وممن متعلقان بأضل وجملة اتبع هواه صلة من وبغير هدى حال ومن الله صفة لهدى وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبرها.
الفوائد:
نظرا لانغلاق التراكيب الواردة في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى «ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين». وسمو إعجازه نورد بالإضافة الى ما قدمناه في الاعراب ما قاله الشهاب الخفاجي في حاشيته الممتعة على البيضاوي ففيه إيضاح لما أوضحناه، قال ما ملخصه: ان الآية تقتضي وجود إصابتهم ووجود قولهم المذكور، والواقع انهم لم يصابوا ولم يقولوا القول المذكور فحينئذ يشكل هذا الترتيب من حيث أن لولا حرف امتناع لوجود فيصير المعنى أرسلناك إليهم لنزول المصيبة بهم ووجود قولهم المذكور وهذا غير صحيح، وتكلف بعضهم الجواب بأن في الكلام حذف المضاف والتقدير ولولا كراهة أن تصيبهم إلخ، فالمحقق في الموجود انما هو كراهة مصيبتهم المترتب عليها قولهم المذكور فيكون المعنى أرسلناك إليهم لأجل كراهة أن يصابوا فيقولوا ما ذكر وقيل إن التحقيق أن
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
الإعراب:
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية ولك أن تجعلها عاطفة ليتساوق الكلام واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووصّلنا فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل ولهم متعلقان بوصلنا والقول مفعول به أي اتبعنا بعضه بعضا في الانزال ليتصل التذكير، ولعل واسمها وجملة
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أولئك مبتدأ وجملة يؤتون خبر ويؤتون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان ومرتين نصب على المصدرية أو الظرفية وبما صبروا متعلقان بيؤتون والباء حرف جر للسببية وما مصدرية اي بسبب صبرهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
الفوائد:
قال الزجاج: أجمع المسلمون على أن هذه الآية: «انك لا تهدي إلخ» نزلت في أبي طالب لما احتضرته الوفاة جاءه رسول الله ﷺ وقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله، فقال: يا ابن أخي قد علمت انك لصادق ولكن أكره
لولا الملامة أو حذار مسبة | لوجدتني سمحا بذاك مبينا |
ولقد علمت بأن دين محمد | من خير أديان البرية دينا |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
(وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على ما تقدم فهي بمثابة تفريع على قصة أبي طالب، قالوا: إن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي ﷺ فقال له: إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا. وإن شرطية ونتبع فعل الشرط مجزوم وفاعله مستتر تقديره نحن والهدى مفعول به ومعك ظرف متعلق بمحذوف حال ونتخطف جواب الشرط وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن ومن أرضنا متعلقان بنتخطف. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وبه يرد عليهم دعواهم التي لا أساس لها من الصحة بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. ولم حرف نفي وقلب وجزم ونمكن فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وحرما مفعول به وآمنا صفة وجملة يجبى صفة ثانية لحرما ومعنى يجبى اليه يساق ويحمل اليه ويجمع لازدهاره وإليه متعلقان بيجبى وثمرات كل شيء نائب فاعل ورزقا مفعول مطلق لقوله يجبى لأن معنى الجباية والرزق واحد والمراد تساق اليه الميرة وأعربه آخرون مفعولا لأجله وأجازه الزمخشري وفي النفس منه شيء ويجوز أن يكون رزقا مصدرا بمعنى المفعول فينتصب على الحال من الثمرات لتخصصها بالإضافة ومن لدنا صفة لرزقا والواو حالية أو عاطفة ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.
«واختار موسى قومه سبعين رجلا» أي في معيشتها وهذا أقرب ما قيل فيه وأقله تكلفا وقال الزجاج هو نصب على الظرفية الزمانية أي أيام معيشتها ويجوز تضمين بطرت معنى خسرت فتكون معيشتها مفعولا به واقتصر عليه أبو البقاء. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) فتلك الفاء عاطفة وتلك مبتدأ ومساكنهم خبر وجملة لم تسكن يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون حالا والعامل فيها معنى الاشارة وإلا أداة حصر وقليلا ظرف أي إلا وقتا قليلا فالاستثناء من الظرف أو مفعول مطلق أي إلا سكنى قليلا فالاستثناء من المصدر ولا مرجح لأحد الوجهين، والواو عاطفة أو حالية وكنا كان واسمها ونحن ضمير فصل أو عماد والوارثين خبر كنا وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة.
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) كلام مستأنف مسوق لبيان عادة الله تعالى في عباده، وما نافية وكان ربك كان واسمها ومهلك القرى خبرها وحتى حرف
البلاغة:
الإسناد المجازي:
في قوله «حرما آمنا» إسناد مجازي لأن المراد أهل الحرم وقد تقدم بحثه كثيرا ومثله «وكم أهلكنا من قرية» المراد أهلها بدليل
تتخلف الآثار عن أصحابها | حينا ويدركها الفناء فتتبع |
الحزن يقلق والتجمل يردع | والدمع بينهما عصيّ طيّع |
يتنازعان دموع عيد مسهّد | هذا يجيء بها وهذا يرجع |
النوم بعد أبي شجاع نافر | والليل معي والكواكب ظلّع |
ومضى أبو الطيب يقول:
إني لأجبن عن فراق أحبتي | وتحس نفسي بالحمام فأشجع |
ويزيدني غضب الأعادي قسوة | ويلم بي عتب الصديق فأجزع |
تصفو الحياة لجاهل أو غافل | عما مضى منها وما يتوقّع |
ولمن يغالط في الحقائق نفسه | ويسومها طلب المحال فتطمع |
أين الذي الهرمان من بنيانه | ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤)الإعراب:
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة لترتيب إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين الجانبين ومن اسم موصول مبتدأ وجملة وعدناه صلة وكمن خبرها ووعدناه فعل وفاعل ومفعول به ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة والفاء عاطفة وهو مبتدأ ولاقيه خبر والكاف اسم بمعنى مثل خبر أو جار ومجرور في موضع الخبر وجملة متعناه صلة من ومتاع الحياة الدنيا مفعول مطلق وثم حرف عطف وهو مبتدأ ويوم القيامة ظرف متعلق بالمحضرين ومن المحضرين خبر هو وللزمخشري كلام مفيد في تحليل هذه الآية من الناحية الاعرابية نورده فيما يلي:
قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ثم عقبه بقوله: أفمن وعدناه على معنى أبعد، هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها وأما الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود مسبّب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير وأما ثم فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع لا لتراخي وقته عن وقته».
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر والكلام مستأنف وجملة يناديهم مجرورة بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله والهاء مفعول به، والقصد من هذا النداء التوبيخ والتقريع، فيقول عطف على يناديهم وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة الذين وكان واسمها وجملة تزعمون خبرها ومفعولا تزعمون محذوفان تقديرهما تزعمونهم شركائي، وسيأتي في باب الفوائد ذكر حذف مفعولي ظننت وأخواتها، وجملة أين شركائي مقول القول.
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا صدر عنهم حينئذ. وقال الذين فعل وفاعل وجملة حق عليهم صلة والقول فاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الجملة مفسرة مقررة لما قبلها وتبرأنا فعل ماض وفاعل وإليك متعلقان بتبرأنا وما نافية وكان واسمها وإيانا مفعول مقدم ليعبدون وجملة يعبدون خبر كانوا، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية والمصدر منصوب بنزع الخافض أي مما كانوا يعبدون أي من عبادتهم إيانا ولا أرى داعيا لهذا التكلف لأن المعنى ما كانوا يعبدوننا وانما كانوا يعبدون أهواءهم ويسترسلون مع شهواتهم. (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هذا القول تهكما بهم وتبكيتا لهم وادعوا فعل أمر وفاعله وشركاءكم مفعول به فدعوهم الفاء عاطفة ودعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به، والفاء عاطفة ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولهم متعلقان بيستجيبوا.
(وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) الواو عاطفة ورأوا العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به ولو شرطية وان وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت كونهم مهتدين في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وجملة يهتدون خبرها.
يجوز بإجماع النحاة حذف مفعولي ظننت وأخواتها من أفعال القلوب اختصارا لدليل يدل عليهما نحو «أين شركائي الذين كنتم تزعمون» وقول الكميت يمدح آل البيت:
بأي كتاب أم بأية سنة | ترى حبهم عارا عليّ وتحسب |
ولقد نزلت فلا تظني غيره | مني بمنزلة المحب المكرم |
وفي الباب الخامس من المغني بيان انه قد يظن الشيء من باب الحذف وليس منه: جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصارا واقتصارا ويريدون بالاختصار الحذف لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه ينحو «كلوا واشربوا» أي أوقعوا هذين الفعلين، وقول العرب فيما يتعدى الى اثنين: من يسمع يخل، أي تكن منه
حميت حمى تهامة بعد نجد | وما شيء حميت بمستباح |
ومقرطق يغني النديم بوجهه | عن كأسه الملأى وعن إبريقه |
فعل المدام ولونها ومذاقها | في مقلتيه ووجنتيه وريقه |
كأن سبيئة من بيت رأس | يكون مزاجها عسل وماء |
على أنيابها أو طعم غضّ | من التفاح هصره اجتناء |
هذا وقد قيل أنه لا قلب في الآية وان الباء للتعدية كالهمزة والأصل لتنوء المفاتح العصبة الأقوياء أي تثقلهم، وهو رأي صاحب العمدة أيضا.
٢- المبالغة:
وذلك في وصف كنوز قارون حيث ذكرها جمعا وجمع المفاتح أيضا وذكر النوء والعصبة وأولي القوة قيل كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه، استمع الى عمرو بن الأيهم التغلبي كيف أراد أن يصف قومه بالكرم فلم يزل يتقصى ما يمكن أن يقدر عليه من صفات فقال:
ونكرم جارنا ما دام فينا | ونتبعه الكرامة حبث كانا |
وفي قوله «إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين» حسن تعليل جميل بجمله «إن الله لا يحب الفرحين» لأن الفرح المحض في الدنيا من حيث أنها دنيا مذموم على الإطلاق، وأي فرح بشيء زائل وظل حائل. وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله البديع:
كأن الحزن مشغوف بقلبي | فساعة هجرها يجد الوصالا |
كذا الدنيا على من كان قبلي | صروف لم يد من عليه حالا |
أشد الغم عندي في سرور | تيقّن عنه صاحبه انتقالا |
ثم كيف يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة لعلمه أنه زائل عما حين، والسرور الذي يعرف صاحبه أنه منحسر عنه قريبا هو أشد الغم، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه وأدله على عبقرية شاعر الخلود.
ومن جميل ما قيل في هذا المعنى قول هدبة بن خشرم لما قاده معاوية الى الحرة ليقتصّ منه في زياد بن زيد العذري فلقيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فاستنشده فأنشده:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني | ولا جازع من صرفه المتقلب |
ولا أبتغي شرا إذا الشر تاركي | ولكن متى أحمل على الشر أركب |
وفي قوله «ولا تنس نصيبك من الدنيا» تتميم لا بد منه لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له نصيب في الآخرة ففي الحديث:
«اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» وقد عاد أبو الطيب فرمق سماء هذه البلاغة مرة ثانية فقال من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة وقد توفيت بميّافارقين وجاءه الخبر بموتها الى حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وأنشد أبو الطيب قصيدته في جمادى الآخرة من السنة ونورد نخبة مختارة منها:
نعد المشرفية والعوالي | وتقتلنا المنون بلا قتال |
وترتبط السوابق مقربات | وما ينجين من خبب الليالي |
ومن لم يعشق الدنيا قديما | ولكن لا سبيل الى الوصال |
نصيبك في حياتك من حبيب | نصيبك في منامك من خيال |
رماني الدهر بالأرزاء حتى | فؤادي في غشاء من نبال |
فصرت إذا أصابتني سهام | تكسرت النصال على النصال |
١- قصة قارون:
نسج المؤرخون والقصاصون روايات شتى وأساطير عجيبة حول هذه القصة الفريدة التي تصلح نواة لمسرحية عالمية تمثّل الزهو الذي يصيب المتمولين، وقد اختلف في نسبه، قيل كان ابن عم موسى بن عمران وقيل كان ابن خالته، وهو أول من ضرب به المثل في كثرة المال، وفي قوله تعالى «وكان من قوم موسى» دليل على إيمانه وقرابته وكان من أحسن الناس وجها وقراءة للتوراة ويسمّى المنور لحسنة وقيل إنه كان من السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، قيل انه خرج راكبا بغلة شهباء ومعه سبعمائة وصيفة على بغال شهب عليهن الحلي والحلل والزينة فكاد يفتن بني إسرائيل ثم بغى وتكبر وركب رأسه حتى أهلكه الله. وقد أخطأ صاحب المنجد فزعم أنه وزير فرعون كأنه ظنه هامان وهذا من نتائج التسرع وعدم التحقيق. وكان سبب هلاكه أنه حسد هرون على الحبورة، وذلك أن موسى لما قطع البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة، والحبورة بضم الحاء: الإمامة، مأخوذة من الحبر بمعنى الرئيس في الدين، فوجد قارون من ذلك في نفسه وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر على هذا، فقال موسى: والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله له، فقال والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقى موسى بها في قبّة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى أن يريهم الله بيان ذلك، فباتوا
وقيل: انه لما نزلت آية الزكاة على موسى جاء موسى اليه وصالحه على كل ألف دينار دينار وألف شاة وعلى هذا الأسلوب فحسب ذلك فوجده مالا عظيما فجمع قومه من بني إسرائيل وقال إن موسى يأمركم بكل شيء فتطيعونه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال عليّ بفلانة البغي فأعطاها مائة دينار وأمرها أن تقذف موسى بنفسها وجاء الى موسى وقال:
إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتناههم فخرج فقام فيهم خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى جلدناه، فإن كانت له امرأة رجمناه فصاح به قارون وقال له وان كنت أنت؟ فقال نعم. قال:
فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي، فقال: عليّ بها، فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت ما يقول هذا؟ فقالت:
لا والله يا نبي الله وانما جعل لي جعلا حتى أقذفك بنفسي، فسجد موسى يبكي ويتضرع، فأوحى الله إليه: مر الأرض بما تشتهيه، فقال: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيبت بعضه ثم لم يزل يقول خذيه وهو يغيب حتى لم يبقى من جسده إلا القليل وهو يتضرع الىّ موسى ويسأله وهو يقول خذيه الى أن غاب. الى آخر هذه القصة التي ينفسح فيها الخيال ويمتد الى أبعد مداه.
٢- وي كأنه:
وعدناك بالمزيد من بحث «وي كأنه» فنقول: ذهب الخليل
وي كأن من يكن له نشب يجب | ومن يفتقر يعش عيش حر |
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها | قيل الفوارس ويك عنتر أقدم |
وهذا ونص عبارة سيبويه: «وسألت الخليل عن قوله:
«ويكأنه لا يفلح» وعن قوله «ويكأن الله» فزعم أنها مفصولة من «كأن» والمعنى على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا.
وقال الأعلم: «الشاهد في قوله «ويكأن» وهي عند الخليل وسيبويه مركبة من «وي» ومعناها التنبيه مع «كأن» التي للتشبيه ومعناه: ألم تر، وعلى ذلك تأولها المفسرون.
وزعم بعض النحويين أن قولهم «ويكأن» بمعنى ويلك اعلم ان، فحذفت اللام من «ويلك» كما قال عنترة «ويك عنتر أقدم» وحذف اعلم لعلم المخاطب مع كثرة الاستعمال وهذا القول مردود لما يقع فيه من كثرة التغيير.
وقال أبو سعيد السيرافي: في «ويكأن» ثلاثة أقوال: أحدها قول الخليل تكون «وي» كلمة يقولها المنتدم ويقولها المندّم غيره ومعنى «كأن» التحقيق، والثاني قول الفراء تكون «ويك» موصولة بالكاف و «أن» منفصلة ومعناه عنده تقرير كقولك: أما ترى، والقول الثالث يذهب الى أن «ويك» بمعنى «ويلك» وجعل «أن» مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال: ويلك اعلم أن الله.
وقال الفراء: «ويكأن» في كلام العرب تقرير كقول الرجل:
أما ترى الى صنع الله، وقال الشاعر:
وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، معناه: أما ترينه وراء البيت؟ وقد يذهب بعض النحويين الى أنهما كلمتان يريد:
«ويك، انه» أراد ويلك فحذف اللام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم انه وراء البيت فاضمر اعلم، ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في أن وذلك انه يبطل إذا كان بين الكلمتين أو في آخر الكلمة، فلما أضمره جرى مجرى الترك، ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول يا هذا إنك قائم ولا يا هذان فمت تريد علمت أو أعلم أو ظننت أو أظن، وأما حذف اللام من «ويلك» حتى تصير «ويك» فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام قال عنترة: ولقد شفى نفسي (البيت) وقد قال آخرون ان معنى «وي كأن» أن «وي» منفصلة كقولك لرجل «وي» تريد أما ترى ما بين يديك فقال: وي ثم استأنف كأن يعني أن الله يبسط الرزق لمن يشاء وهي تعجب وكأن في مذهب الظن والعلم فهذا وجه مستقيم ولم تكتبها العرب منفصلة ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليست منه وقال أبو الفتح ابن جني: في «ويكأنه» ثلاثة أقوال:
- فمنهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على «وي».
- ومنهم من يقف على «وي».
- ويعقوب يقف على «ويك» وهو مذهب أبي الحسن.
والوجه عندنا قول الخليل وسيبويه وهو أن «وي» اسم سمي به
كأنني حين أمسي لا تكلمني | متيم أشتهي ما ليس موجودا |
وقال البغدادي في خزانة الأدب: «وأما قول أبي الفتح أن «وي» عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب فمردود وكذا قوله: ان «كأن» عندهما عارية عن التشبيه، وأما تنظيره لخلو التشبيه بقوله:
كأنني حين أمسي (البيت) فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر «كأن» مشتقا لا تكون للتشبيه لئلا يتحد المشبه والمشبه به. وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف أي كأنني رجل متيم فهي على الأصل للتشبيه».
وقال التبريزي في شرح المعلقات «وقوله «ويك» قال بعض النحويين معناه ويحك وقال بعضهم معناه ويلك وكلا القولين خطأ لأنه كان يجب أن يقرأ «ويك انه» كما يقال ويلك انه وويحك انه».
وقال الزمخشري في كشافه: «وي مفصولة عن كأن وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم ومعناه أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في
وي كأن من يكن له نشب (البيت).
وحكى الفراء أن اعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وي كأنه وراء البيت، وعند الكوفيين أن «ويك» بمعنى «ويلك» وان المعنى ألم تعلم انه لا يفلح الكافرون ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة الى «وي» كقوله «ويك عنتر أقدم» وانه بمعنى لأنه واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو لأنه لا يفلح الكافرون كأن ذلك وهو الخسف بقارون ومن الناس من يقف على وي ويبتدىء كأنه، ومنهم من يقف على ويك».
رأي الشهاب الحلبي:
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين وهو مطلع جدا: «وي كأنه، فيه مذاهب:
أحدها: أن وي كلمة برأسها وهي اسم فعل معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل وأن وما في حيزها مجرورة بها أي أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ وقياس هذا أن يوقف على وي وحدها وقد فعل هذا الكسائي:
الثاني: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه وصارت للخبر واليقين وهذا أيضا يناسبه الوقف على وي.
الرابع: أن أصلها ويلك فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف أيضا كما فعل أبو عمرو.
الخامس: أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك عن ابن عباس ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى أما ترى الى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى رحمة لك في لغة حمير ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين فعامة القراء اتبعوا الرسم والكسائي وقف على وي وأبو عمرو على ويك».
وقال ابن هشام في أوضح المسالك وشرحه للشيخ خالد الأزهري: «ووا ووي وواها الثلاثة كلها بمعنى أعجب كقوله تعالى «وي كأنه لا يفلح الكافرون» فوي اسم فعل مضارع بمعنى أعجب والكاف حرف تعليل وأن مصدرية مؤكدة أي أعجب لعدم فلاح الكافرين» وهذا ما اخترناه في الاعراب ورأيناه أبعد من الارتياب وأدنى الى الصواب.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٨]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الآخرة أعدت للذين لا يريدون علوا في الأرض. وتلك مبتدأ والدار بدل من اسم الاشارة والآخرة صفة للدار وجملة نجعلها خبر تلك وللذين متعلقان بنجعلها على أنه مفعوله الثاني وجملة لا يريدون صلة للذين وعلوا مفعول يريدون وفي الأرض صفة لعلوا ولا فسادا عطف على علوا والعاقبة مبتدأ وللمتقين خبر. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) كلام مستأنف مسوق لوعد المحسنين ووعيد المسيئين بعد ذكر أن العاقبة للمتقين. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وجاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبالحسنة متعلقان بجاء والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وله خبر مقدم وخير منها مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب معا خبر من.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وهو بمعنى عالم ولذلك نصب من جملة جاء صلة وبالهدى متعلقان بجاء ومن عطف على من الأولى وهو مبتدأ وفي ضلال خبره ومبين صفته. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وجملة ترجو خبرها وأن وما في حيزها مفعول ترجو وإليك متعلقان بيلقى والكتاب نائب فاعل وإلا أداة حصر بمعنى لكن للاستدراك ورحمة مفعول لأجله ومن ربك صفة لرحمة، ويجوز أن يكون الاستثناء على حاله أي متصلا ولكنه محمول على المعنى. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتكونن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو اسمها والكاف مفعول به والنون المذكورة نون التوكيد الثقيلة وظهيرا خبر تكونن وللكافرين متعلقان بظهيرا. (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيره، ونعيده
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت يعود على محمد ﷺ والخطاب له والمراد غيره على حد قوله «لئن أشركت ليحبطن عملك» ومع الله ظرف مكان متعلق بتدع وإلها مفعول به وآخر نعت لإلها ولا إله إلا هو تقدم إعرابها والجملة في محل نصب حال. (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وهالك خبر المبتدأ وإلا أداة استثناء ووجهه مستثنى وسيأتي معنى الاستثناء في باب البلاغة، له خبر مقدم والحكم مبتدأ مؤخر واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب الفاعل.
١- سر التنكير في قوله «الى معاد» للتفخيم كأن هذا المعاد قد أعد لك دون غيرك من البشر، قيل المراد به مكة وهو يوم الفتح فمعاد الرجل بلده لأنه ينصرف منه فيعود اليه فالمعاد على هذا اسم مكان، روي أنه ﷺ لما خرج من الغار ليلا سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع الى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق الى مكة تنزى الحنين في صدره وهاجه الشوق الى موطنه وحنّ الى مولده ومولد آبائه فنزلت عليه تطمينا لقلبه، وفيها يتجلى مقدار الحنين الى الأوطان، وقد رمق الشعراء جميعا سماء هذا المعنى فقال ابن الرومي:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا | ولبست ثوب العيش وهو جديد |
فإذا تمثل في الضمير رأيته | وعليه أغصان الشباب تميد |
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى | ما الحب إلا للحبيب الأول |
كم منزل في الأرض يألفه الفتى | وحنينه أبدا لأول منزل |
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة | إلى قرقرى قبل الممات سبيل |
فأشرب من ماء الحجيلاء شربه | يداوى بها قبل الممات عليل |
فيا أثلات القاع قلبي موكل | بكن وجدوى خيركنّ قليل |
ويا أثلات القاع قد مل صحبتي | مسيري فهل في ظلكنّ مقيل |
أريد انحدارا نحوها فيردّني | ويمنعني دين عليّ ثقيل |
أحدث نفسي عنك إذ لست راجعا | إليك فحزني في الفؤاد دخيل |
تمتع من شميم عرار نجد | فما بعد العشية من عرار |
ألا يا حبذا نفحات نجد | وريا روضة بعد القطار |
وعيشك إذ يحل الحي نجدا | وأنت على زمانك غير زار |
شهور ينقضين وما شعرنا | بأنصاف لهن ولا سرار |
فأما ليلهن فخير ليل | وأقصر ما يكون من النهار |
٢- المجاز المرسل:
في قوله تعالى «كل شيء هالك إلا وجهه» أي إلا إياه، من ذكر البعض وإرادة الكل، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة.
سورة القصص
سورة (القَصَص) من السُّوَر المكية التي جاءت ببيانِ إعجاز هذا الكتاب، وبيانِ صِدْقِ نبوة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ من خلال قَصِّ القِصَص التي علَّمها اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وذكَرتِ السورةُ قصةَ موسى عليه السلام مع فِرْعون، وخروجَه من (مِصْرَ) إلى (مَدْيَنَ)، والتقاءَه بابنتَيْ شُعَيبٍ عليه السلام، وما تَبِع ذلك من التفاصيل التي كان مقصودُها بيانَ صراعِ الحقِّ والباطل، وأن النُّصرةَ لهذا الدِّين، وكذلك بيَّنت السورةُ تواضع الأنبياء مع الله عز وجل، ورَدَّ الأمرِ والفضل كلِّه لله عز وجل.
ترتيبها المصحفي
28نوعها
مكيةألفاظها
1438ترتيب نزولها
49العد المدني الأول
88العد المدني الأخير
88العد البصري
88العد الكوفي
88العد الشامي
88* قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اْللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُۚ} [القصص: 56]:
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعَمِّه: «قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، أشهَدُ لك بها يومَ القيامةِ»، قال: لولا أن تُعيِّرَني قُرَيشٌ، يقولون: إنَّما حمَلَه على ذلك الجَزَعُ؛ لأقرَرْتُ بها عينَك؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اْللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُۚ} [القصص: 56]». أخرجه مسلم (٢٥).
* سورة (القَصَص):
سُمِّيت سورةُ (القَصَص) بذلك؛ لوقوع لفظ (القَصَص) فيها في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيْهِ اْلْقَصَصَ} [القصص: 25].
اشتملت سورةُ (القَصَص) على الموضوعات الآتية:
1. طغيان فرعون، ووعد الله تعالى بإنقاذ المضطهدين، وعقوبة المفسدين (١-٦).
2. ميلاد موسى ونجاته من القتل (٧-١٣).
3. قتل القِبْطي خطأً، والخروج إلى (مَدْيَنَ) (١٤-٢١).
4. اللجوء إلى (مَدْيَنَ)، وزواج موسى عليه السلام (٢٢-٢٨).
5. بعثة موسى وهارون عليهما السلام، وتأييدهما (٢٩-٣٥).
6. بَدْء الدعوة، وتكذيب فرعون وجنوده، ونزول العقاب بهما (٣٦-٤٢).
7. إيتاء التوراة لموسى والقرآن لمُحمَّد عليهما السلام (٤٣-٥٠).
8. الإشارة إلى مؤمني أهلِ الكتاب، وتحذير كفار قريش من الرُّكون إلى الدنيا (٥١-٦١).
9. موقف المشركين يوم القيامة ودعوتهم للتوبة /توحيد الله تعالى (٦٢-٧٥).
10. قصة قارون وعاقبة البَغْي والتكبُّر (٧٦-٨٤).
11. بشارة النبيِّ بالعودة إلى مكَّةَ سالمًا (٨٥-٨٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /516).
مقصدُ سورة (القَصَص): هو بيانُ صراع الحقِّ والباطل، ونُصْرة الله لهذا الدِّين، وبيانُ تواضع الأنبياء لله عزَّ وجلَّ، ونتج عن هذا التواضعِ ردُّ الأمر كلِّه لله؛ كما تَجلَّى ذلك في قصة موسى عليه السلام مع المرأتين، ومردُّ ذلك إلى الإيمان بالآخرة، والإيمانِ بنبوَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، الثابتةِ بإعجاز القرآن، الذي أخبر بالغيب الذي لم يطَّلِعْ عليه أحد، وإنما هو من عند الله عزَّ وجلَّ، بما علَّمه اللهُ من القِصص الصادقة.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /338).