٤_ واعلم أنه لا شك في أن خصوصياتِ الكلام البليغ، ودقائقَهُ مرادةٌ لله _تعالى_ في كون القرآن معجزاً، وملحوظة للمتحدَّيْن به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبين، وإن إشاراتٍ كثيرةً في القرآن تلفت الأذهان لذلك، ويحضرني الآن من ذلك أمور: أحدها: ما رواه مسلم، والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله": قال الله _تعالى_: =قسمت الصلاة _أي سورة الفاتحة_ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله _تعالى_: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله _تعالى_ أثنى علي عبدي، وإذ قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل+.
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم؛ إذ قسَّم الفاتحة ثلاثةَ أقسامٍ، وحسنُ التقسيم من المحسنات البديعية مع ما تضمنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله: فإذا قال: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] قال: هذا بيني وبين عبدي؛ إذ كان ذلك مزيجاً من القسمين الذي قبله والذي بعده.
وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية، والتجنيس من المحسنات، ومنه قوله _تعالى_: [وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ]. ١/١٠٨
٥_ نرى من أفانين الكلام الالتفات: وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم، أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها.
وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية؛ لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع، فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة.
وكان معدوداً عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.


الصفحة التالية
Icon