البحر المحيط، ج ٩، ص : ٤٧٢
وقرأ الجمهور : إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام. وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب اللّه؟ ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول. وقال كعب، ومحمد بن كعب، وأبو العالية، والكلبي : إن توليتم، أي أمور الناس من الولاية ويشهد لها قراءة وليتم مبنيا للمفعول. وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم :«إن توليتم» بضم التاء والواو وكسر اللام، وبها قرأ علي
وأويس، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل. وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم. وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم اللّه إليهم والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر اللّه في القتال.
وأَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم. ويدل على ذلك أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوبا إليه تعالى، لأنه عالم بما كان وما يكون، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم.
هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا؟ وقرأ الجمهور : تُقَطِّعُوا، بالتشديد على التكثير، وأبو عمرو، في رواية، وسلام، ويعقوب، وأبان، وعصمة :
بالتخفيف، مضارع قطع والحسن : وتقطعوا، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر، أي أرحامكم، لأن تقطع لازم. أُولئِكَ إشارة إلى المرضى القلوب، فَأَصَمَّهُمْ عن سماع الموعظة، وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عن طريق الهدى. وقال الزمخشري : لعنهم اللّه لإفسادهم وقطعهم الأرحام، فمنعهم إلطافه، وخذلهم حتى عموا. انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وجاء التركيب : فأصمهم، ولم يأت فأصم آذانهم وجاء : وأعمى أبصارهم، ولم يأت وأعماهم. قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الأبصار، فالعين لها مدخل في الرؤية، والأذن لها مدخل في السمع. انتهى. ولهذا جاء : وَعَلى سَمْعِهِمْ «١»، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ «٢»، ولم يأت : وعلى آذانهم، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان. وحين ذكر الأذن، نسبت إليه الوقر، وهو دون الصمم، كما قال : وَفِي آذانِنا وَقْرٌ «٣».
(٢) سورة النحل : ١٦/ ٧٨.
(٣) سورة فصلت : ٤١/ ٥.