البحر المحيط، ج ٦، ص : ٣٦٢
على أنه مراد به : لا يحفظونه، فحذف لا. وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة - كما ذكرنا - بيحفظونه، وهي في موضع نصب. وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر اللّه يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. وروي هذا عن مجاهد، والنخعي، وابن جريج، فيكون من أمر اللّه في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر اللّه تعالى، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه. والثانية : يحفظونه أي : حافظات له. والثالثة : كونها من أمر اللّه، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : يحفظونه، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثانية : قوله : من أمر اللّه أي :
كائنة من أمر اللّه. غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور، وذلك شائع فصيح، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ آكد، فلذلك قدم الوصف بها. وذكر أبو عبد اللّه الرازي في الملائكة الموكلين علينا، وفي الكتبة منهم أقوالا عن المنجمين وأصحاب الطلسمات، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره. ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم، وإن كان الصادر منهم خيرا وشرا، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم، وإهمال أمره بالطاعة، واستبدالها بالمعصية. فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة، وتحذير لوبال المعصية. والظاهر أن لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي. قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس، ومنه قوله تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ «١» الآية. وسؤالهم للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال :«نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة»
فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم، وإما من الناظر لهم، أو ممن هو منهم تسبب، كما غير اللّه تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم، إلى غير هذا في أمثله الشريعة. فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير. وثم أيضا مصائب يزيد اللّه بها أجر

(١) سورة الأنفال : ٨/ ٢٥.


الصفحة التالية
Icon