بهذا أنه لا امتناع في كونه نبياً في ذلك الوقت وقوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام ههنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس وقال قوم المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبياً لأن قوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقاً لذلك الكلام أو متقدماً عليه بأزمان والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبياً وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام الصفة الثالثة قوله وَجَعَلَنِى نَبِيّاً قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولاً لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة الصفة الرابعة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ فلقائل أن يقول كيف جعله مباركاً والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهوداً وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل والجواب ذكروا في ( تفسير المبارك ) وجوهاً أحدها أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتاً على دين الله مستقراً عليه وثانيها أنه إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي ( ﷺ ) قال أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال أي شيء أكتب فقال اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد فعلاه بالدرة ليضربه فقال يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله وثالثها البركة الزيادة والعلو فكأنه قال جعلني في جميع الأحوال غالباً مفلحاً منجحاً لأني ما دمت أبقى في الدنيا أكون على الغير مستعلياً بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء ورابعها مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمة والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً أما قوله أَيْنَ مَا كُنتُ فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف الصفة الخامسة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً صغيراً والقلم مرفوع عنه على ما قاله ( ﷺ ) ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث وجوابه