تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران ١٥٩ ) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد وقال سفيان في قوله جَبَّاراً عَصِيّاً إنه الذي يقبل على الغضب والدليل عليه قوله تعالى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص ١٩ ) وقيل كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق فهو جبار لقوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( الشعراء ١٣٠ ) الصفة الثامنة قوله عَصِيّاً وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم الصفة التاسعة قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً وفيه أقوال أحدها قال محمد بن جرير الطبري وَسَلَامٌ عَلَيْهِ أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ أي وأمان عليه من عذاب القبر وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي ومن عذاب القيامة وثانيها قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة وثالثها قال عبد الله بن نفطوية وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ أي أول ما يرى الدنيا وَيَوْمَ يَمُوتُ أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال حَياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لقوله تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران ١٦٩ ) فروع الأول هذا لاسلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى الثاني ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات ٧٩ ) سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ ( الصافات ١٠٩ ) لأنه قال و يَوْمَ وُلِدَ وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام الثالث روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به الرابع السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر فقد يجوز أن يكون ثواباً كالمدح والتعظيم والله تعالى أعلم القول في فوائد هذه القصة الفائدة الأولى تعليم آداب الدعاء وهي من جهات أحدها قوله نِدَاء خَفِيّاً ( مريم ٣ ) وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف ٥٥ ) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الإنكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه وثانيها أن المحتسب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( مريم ٤ ) ثم يذكر كثرة نعم الله