﴿ى دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (ص : ٢٦) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق، ثم كأنه تعالى قال : وأنا لا آمرك بالحق فقط، بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق، ولا أفضي بالباطل، فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم الله يجب أن يكون بالحق لا بالباطل، لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر، لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحاً على المسلم في إيصال الخيرات إليه، وذلك ضد الحكمة وعين الباطل، فبهذا الطريق اللطيف أورد الله تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيراداً لا يمكنهم الخلاص عنه، فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحماً ملزماً بهذا/ الطريق، ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل، فقال :﴿كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِه وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرارل العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، حيث يراه في ظاهر الحال مقروناً بسوء الترتيب، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب، فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات، وبالله التوفيق.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٦
٣٩٩
واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله :﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ فيه مباحث :
الأول : نقول المخصوص بالمدح في ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ محذوف، فقيل هو سليمان، وقيل داود، والأول أولى لأنه أقرب المذكورين، ولأنه قال بعده ﴿إِنَّه ا أَوَّابٌ﴾ ولا يجوز أن يكون المراد هو داود، لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال :﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ﴾ (ص : ١٧) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضاً صفة داود لزم التكرار، ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيهاً لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة، فكان هذا أولى.
الثاني : أنه قال أولاً ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ ثم قال بعده ﴿إِنَّه ا أَوَّابٌ﴾ وهذه الكلمة للتعليل، فهذا يدل على أنه إنما كان ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ لأنه كان أواباً، فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفاً بأنه ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ورأس المعارف ورئيسها معرفة الله تعالى، ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة الله تعالى، ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى الله تعالى فكان أواباً، فثبت أن كل من كان أواباً وجب أن يكون ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٩
أما قوله :﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ﴾ ففيه وجوه الأول : التقدير ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا الثاني : أنه ابتداء كلام. والتقدير اذكر يا محمد إذ عرض عليه كذا وكذا، والعشي/ هو من حين العصر إلى آخر النهار عرض الخيل عليه لينظر إليها ويقف على كيفية أحوالها، والصافنات الجياد الخيل وصفت بوصفين أولهما : الصافنات، قال صاحب "الصحاح" : الصافن الذي يصفن قدميه، وفي الحديث "كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا صفونا" أي قمنا صافنين أقدامنا، وأقول على كلا التقديرين فالصفون صفة دالة على فضيلة الفرس والصفة الثانية : للخيل في هذه الآية الجياد، قال المبرد : والجياد جمع جواد وهو الشديد الجري، كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل، فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها. أما حال وقوفها فوصفها بالصفون، وأما حال حركتها فوصفها بالجودة، يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال، فإذا جرت كانت سراعاً في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق، ثم قال تعالى :﴿فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى﴾ وفي تفسير هذه اللفظة وجوه الأول : أن يضمن أحببت معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل أنبت حب الخير عن ذكر ربي والثاني : أن أحببت بمعنى ألزمت، والمعنى أني ألزمت حب الخيل عن ذكر ربي، أي عن كتاب ربي وهو التوراة، لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح والثالث : أن الإنسان قد يحب شيئاً لكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يزيد في مرضه، والأب الذي يحب ولده الرديء، وأما من أحب شيئاً، وأحب أن يحبه كان ذلك غاية المحبة فقوله أحببت حب الخير بمعنى أحببت حبي لهذه الخيل.
ثم قال :﴿عَن ذِكْرِ رَبِّى﴾ بمعنى أن هذه المحبة الشديدة إنما حصلت عن ذكر الله وأمره لا عن الشهوة والهوى/ وهذا الوجه أظهر الوجوه.


الصفحة التالية
Icon