
بعض حملهن، واللَّه تعالى جعل أجلهن أن يضعن حملهن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقًا مفردًا، تناول الأوامر والنواهي، فكأنه قال: ومن يتق اللَّه في أوامره أن يضيعها أو في نواهيه أن يرتكبها، يجعل له من أمره يسرًا.
ثم قوله: (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
له وجهان:
أحدهما: له من أمره يسرًا في نفس التقوى أن نيسره عليه، كما قال في قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، وفي قوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، يعني: ييسر عليه فعل التقوى والطاعة، فكذلك الأول.
ويحتمل أن يكون في جميع الأمور في المكاسب والتجارات وغيرها: أن من اتقى الله من الحرام ييسر اللَّه عليه الحلال، ومن اتقى اللَّه من الشبه يسر عليه في المباح، ومن يتق اللَّه في تجارته، رزقه ما يرجو من الربح ويأمله، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥) يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون معنى قوله: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ) أي: ذلك التقوى أمر اللَّه أنزله إليكم.
ويحتمل أن يكون أراد بقوله: (ذَلِكَ) ما تقدم من الآيات في المراجعة والإشهاد والطلاق والعدة وغير ذلك: أنها وإن خرجت في الظاهر مخرج الخبر، فإنها كلها أمر الله تعالى، أنزله إليكم؛ فاتبعوها وخذوا بأمره فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).
هذا يدل على ما وصفنا: أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأمر والنهي جميعًا، ألا ترى إلى قوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وقال هاهنا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ). فجعل التقوى تكفر السيئات، فلولا أن في التقوى أعظم الحسنات، لم يكن لقوله: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) معنى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - -: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦) وفي قراءة عبد اللَّه بن

مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم) ويجوز أن تكون قراءة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضًا؛ ألا ترى أنه قال: " لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة؛ لا ندري أصدقت أم كذبت "، فالكتاب هذا، والسنة يجوز أن يكون سمعها من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك.
أو يجوز أن يكون عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذا تلاوة قد رفع عينها وبقي حكمها؛ لذلك قال: " لا ندع كتاب ربنا " ألا ترى إلى ما قاله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمر الزنى: " سيأتي على الناس زمان يقولون: لا نجد الرجم في كتاب اللَّه، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتَّة؛ نكالا من اللَّه، واللَّه العزيز حكيم " فقد رفعت التلاوة، وبقي حكمها؛ فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة وحكمها باقٍ، واللَّه أعلم، وقوله: " لا ندع كتاب ربنا " في الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما احتج في امتناعه عن ترك كتاب اللَّه، بقول امرأة لم ندر أصدقت أم كذبت؟ ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة، وإلا لم يكن احتجاجه بقوله: " لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة " معنى، بل كان يقول: " لا ندع كتاب ربنا بالسنة "، فلما قال: " لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة؛ لا ندري أصدقت أم كذبت "؟ دل أن السنة قد تنسخ الكتاب، واللَّه أعلم.
وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديثها تركت روايتها إلى زمن مروان، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها، فأخبر بذلك مروان، فدعاها فروت هذا الحديث، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالت له: أين كتاب ربنا؟ فتلا عليها قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)، فقالت: كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا، واللَّه يقول في هذه (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)؛ ومعنى الإمساك في المطلقة ثلاثًا معدوم؛ فأفحم مروان، ولو فهم مروان ما فهمه عمر لم يفحم؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، ولا فرق هناك بين المطلقة الواحدة والثلاث، وإذا كان المذكور في هذه

العدة مكان تلك، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكور في تلك، وليس في تلك الآية ذكر الفرق بين الثلاث والواحدة؛ فلذلك قلنا: في كتاب اللَّه تعالى دلالة إيجاب النفقة للمبتوتة والمطلقة ثلاثًا، واللَّه أعلم؛ فيكون حجة على الشافعي؛ ومما يدل عليه هو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله: (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان، فلأن يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ولا يكون الإسكان، إلا بالإنفاق؛ لاتصاله به - أحرى، فصار قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ) دليلًا على وجوب الإنفاق، وإنَّمَا قلنا: إن الإنفاق متصل بالإسكان؛ لأنه إذا نهي عن إخراجها عن بيته وأمر بإسكانها فلا يحتمل أن يؤمر بالإنفاق؛ لأن في ذلك تضييقًا عليها وتعسرًا؛ ألا ترى: أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج، فإذا نهى الزوج عن إخراجها، ونهيت هي عن الخروج، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزوج ضرورة، واللَّه أعلم.
ولأجل أنا نظرنا: أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل، لم تجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته، لم يلزم نفقته عليه، وقد وجدنا هذا الحكم، نحو: حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها فولدت ولدا: أن نفقة الولد على السيد، وكان يجب عليه ما دام في بطن أمه، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا، وإن كان الحبل بحيث لو وضعته لم يلزمه نفقته - ثبت أن النفقة في الحامل؛ لمكان العدة لا للحبل، والعدة في الحائل والحامل واحدة؛ فكذلك كان حكمهما واحدًا، واللَّه أعلم.
ثم الأصل عندنا ما وصفنا: أن النفقة إنما وجبت؛ لاستمتاعه المتقدم، فما دامت محبوسة؛ لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه، وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة، واللَّه أعلم.
ولأن في قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)، إضمار النفقة، كأنه يقول: أسكنوهن من حيث سكنتم، وأنفقوا عليهن من وجدكم؛ لأنه لولا هذا الإضمار، لم يكن

لقوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) على الظاهر معنى؛ لأنه لما قال: (أَسْكِنُوهُنَّ)، علم أنه جعل الإسكان عليهم، ومن كان عليه الإسكان، فإنما يكون من وجده، فلم يكن في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) إلا إعلام ما قد علمناه، وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) إضمارًا يستقيم عليه المعنى في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ)، وليس بين القراءتين اختلاف، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال، والثانية على التفسير على ما قرئ في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، و: (أَيْمَانَهُمَا)، ولم يحمل ذلك على الاختلاف، بل حملت إحداهما على الإجمال والثانية على التفسير، فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
مع أنه لم يثبت اللفظ في قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأقله أن يكون من خبر الآحاد، ومعلوم أن خبر ابن مسعود وإن كان من خبر الآحاد فما يسنده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مقبول، ولما وجب قبول خبر أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع ما قيل فيه من الضعف، فلأن يقبل خبر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع فضله وورعه وكثرة صحبته مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتبحره في الفقه أولى، ومن هجر قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خيف عليه الزلة، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه سأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما تعدون آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: كلا، كان يعرض القرآن على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كل عام مرة، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مرتين، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا كان ابن مسعود قراءته آخر القراءات، وهو الذي شهد قراءة القرآن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آخر مرة لم ينبغ أن نعرض عن قراءته، ونهجره، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه، لا في الموضع الذي يسكنه هو؛ لأن حرف (من) للتجزئة والتبعيض.
وقوله: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ).
يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أي: لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فتضيقوا عليهن النفقة، فيخرجن، أو لا

تضاروهن في المسكن، فتدخلوا عليهن من غير استئذان؛ فيضيق عليهن المسكن؛ فيخرجن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج، كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق.
ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى: أنها في الحقيقة، لم تدخل في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ)؛ لأنا قد وصفنا أنها نهيت عن الخروج لتحصين ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين؛ فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة، وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم.
ويحتمل أن يكون الفائدة في تخصيص الحوامل بالإنفاق عندنا - واللَّه أعلم - أنه لولا هذه الآية، لكانت الحوامل يخرجن عن قوله - تعالى -: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، ومن قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ)؛ لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن بأن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليس لحق الأزواج، ولكن لحق ما في بطنها من الولد؛ ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح وإن كان الولد من غيره، وقد قلنا: إن النفقة إنما وجبت في غير الحوامل؛ لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج، فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج، جاز أن يكون هذا حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم، وإذا كان كذلك، حث اللَّه لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن؛ لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم؛ ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
هذا يتضمن أوجهًا من أدلة الفقه:
أحدها: أنه قال: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ثبت أن الإرضاع كان بإجارة، وأنه إذا استأجرها ليرضع ولده منها بعد المفارقة، جازت الإجارة وحل لها أخذ الأجر، وأنه إذا استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز، ولم يكن لها أخذ الأجر؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ: (الرزق) بقوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ