
وقال الضحاك: هي سدرة المنتهى (١).
١٩ - قال أبو إسحاق: لما قص الله هذه الأقاصيص قال للمشركين: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ كأن المعنى والله أعلم: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء (٢).
ومعنى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ على ما ذكر السؤال والاستفتاء كقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾ وقد مر (٣).
وتنتظم الآية بما قبلها على المعنى الذي ذكره.
قال صاحب النظم: معنى الآية أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونهن أأوحَين شيئًا إليكم كما أوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (٤)؟ والتقديران اللذان ذكراهما
قلت: وبهذا تجتمع الأقوال في أن المراد بالآيات "الكبرى" هو جبريل -عليه السلام-، حين رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض. وانظر: "سنن الترمذي" ٥/ ٣٧٠، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٨، و"فتح القدير" ٥/ ١٠٧.
قلت: لعل ما ذكر عن السلف في تفسير هذه الآية هو من باب ذكر بعض ما رآه -صلى الله عليه وسلم-. قال القرطبي: وقيل: هو ما رأى تلك اليلة في مسراه في عوده وبدئه، وهو أحسن، دليله ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ "الجامع" ١٧/ ٩٨.
ونحوه ذكر ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٥٢ وحمل الآية على عموم ما رآه أولى.
قال ابن جرير: لقد رأى محمد هنالك من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى."جامع البيان" ٢٧/ ٣٤.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧٢.
(٣) من آية (٥٠) من سورة يونس.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٩.

يستدل عليهما بفحوى الكلام، وقد قال أبو إسحاق أيضًا: أفرأيتم هذه الإناث أَلله هي وأنتم تختارون الذكران وذلك قوله: ألكم الذكر وله الأنثى (١)، وهذا الوجه أجود الثلاثة وسنزيده وضوحًا عند قوله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ﴾ إن شاء الله.
قال أبو علي الفارسي: أرأيتم هنا بمنزلة أخبروني لتعدي أرأيت إلى المفعول ووقوع الاستفهام في موضع المفعول الثاني، والمعنى: أرأيتم جعلكم اللات والعزى بنات الله، ألكم الذكر؟ وجاز الحذف لأن هذا قد تكرر في القرآن كقوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ [النحل: ٥٧] ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: ١٩] فكان الحذف بمنزلة الإثبات، ألا ترى أن سيبويه جعل كُلاًّ في قوله:
ونارٍ توقَّدُ بالليلِ نَارا (٢)
بمنزلة المذكور في اللفظ للعلم به وإن كان محذوفًا وقد دل قوله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى﴾ على المحذوف، وادعوا هذا في هذه الآلهة كما ادعوه في الملائكة (٣).
فأما اللات فروى عطاء عن ابن عباس قال: هي صنم (٤).
قال قتادة: هي بالطائف (٥)، قال الكلبي: هي صخرة كانت بالطائف
(٢) البيت لأبي دواد الإيادي، وهو جارية بن الحجاج.
انظر: "ديوانه" ٣٥٣، و"الكتاب" ١/ ٦٦، و"الكامل" ١/ ٢٨٧، و"الإنصاف" ٧٤٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢١، و"الأصمعيات" ١٩١. وصدره:
أكل امرئ تحسبين أمرأً
(٣) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٧٨ - ٧٩، و"الكتاب" ١/ ٦٦.
(٤) لم أقف على هذه الرواية، والجمبع على أن اللات اسم لصنم.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٣، "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ.

لثقيف (١) يعبدونها (٢).
وقال ابن زيد: اللات بيت بنخلة (٣) كانت قريش تعبده (٤).
وقال أبو عبيدة: هي صنم في جوف الكعبة لقريش (٥).
واختلفوا في اشتقاق اللات، فأكثر المفسرين (٦) ذكروا أنه بتشديد التاء من اللَّت، وهو خلط السويق بالسمن ودلكه به.
روى أبو الجوزاء، عن ابن عباس قال: اللات رجل كان يلت السويق للمشركين فمات فعكفوا على قبره فعبدوه (٧)، ونحو ذلك روى
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٠.
(٣) نخلة: موضع بين مكة والطائف. قال البكري: على ليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة.
انظر: "معجم البلدان" ١/ ٤٤٩، و"فتح الباري" ٨/ ٦٧٤.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٥.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٦، ولفظه (أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها). قال ابن حجر: (وكانت اللات بالطائف، وقيل بنخلة، وقيل بعكاظ، والأول أصح).
"فتح الباري " ٨/ ٦١٢.
(٦) ومنهم ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، وأبو صالح، والكلبي. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ١٠٠.
(٧) "صحيح البخاري"، كتاب التفسير، باب ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ ٦/ ١٧٦ ولفظه: (كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج).
قال ابن حجر: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء =

السدي، وذكر أنه كان بالطائف (١).
وزاد الكلبي بيانًا فقال: كان رجل من ثقيف يقال له صِرمة بن غنم كان يسلأ (٢) السمن فيضعه على صخرة ثم تأتيه العرب فيلت به أسوقتهم فلما مات الرجل حولت ثقيف تلك الصخرة إلى منازلها فعبدتها (٣).
ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس، ومجاهد، وأبي صالح: (الَّلاتَّ) بتشديد التاء (٤).
ووجه قراءة العامة على هذا الاشتقاق ما ذكره الفراء قال: القراءة بالتخفيف، والأصل بالتشديد؛ لأن الصنم إنما سمي باسم اللاَّتِ الذي كان يلت السويق عنده، وجعل اسمًا للصنم، وعلى هذا الوقف على اللات يكون بالتاء (٥) وهو اختيار أبي إسحاق، قال: لاتباع المصحف فإنها كتبت
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٤، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ.
(٢) قال الأصمعي: سَلأتُ السَّمْنَ أسْلأُه سَلأً. قال: والسِّلاء الاسم وهو السَّمن. "تهذيب اللغة" ١٣/ ٧٠ (سلأ).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٠.
(٤) قرأ رويس (الَّلاتَّ) بتشديد التاء وبمدٍ للساكنين، وهي قراءة ابن عباس، ومجاهد، ومنصور ابن المعتمر، وطلحة، وأبي الجوزاء. والقراءة المتواترة (اللَّاتَ) بالتخفيف. انظر: "النشر" ٢/ ٣٧٩، و"الإتحاف" ٤٠٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٠، و"البحر المحيط" ٨/ ١٦٠.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٧، و"تهذيب اللغة" ١٤/ ٢٥٣ (لت)، و"اللسان" ٣/ ٣٤٠ (لتت).

بالتاء (١).
وقال جماعة من المفسرين: اللات من الله، وكان المشركون يسمون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العزَّى (٢)، وهو اختيار الأزهري قال: كأن المشركين الذين عبدوها عارضوا باسمها اسم الله تعالى علوًا كبيرًا عن إفكهم ومعارضتهم والحادهم في اسمه العظيم، ويدل على صحة هذا التأويل أن الكسائي كان يختار الوقف عليها بالهاء، وهذا يدل على أنه لم يجعلها من اللَّت (٣).
قال أبو علي الفارسي: اشتقاق اللات من لويت على الشيء، أي: أقمت عليه، ولذلك أنهم كانوا يلوون على آلهتهم وبعكفون عليها عبادة لها وتقرئا إليها، ولذلك تواصوا فيما بينهم فيما أخبر الله به عنهم في قوله: ﴿وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ [ص: ٦] فاشتق اسمها من هذا المعنى الذي كانوا يعتقدون فيها ويتدينون به لها، فهو على هذا مثل شاه وذات، والتاء للتأنيث في قول من خفف، ومعنى التأنيث فيها تأنيث اللفظ، إذ التأنيث الحقيقي لا يصح فيهاة لأنها جماد، والدليل على صحة هذا أن سيبويه قال في النسبة إليها لاي (٤)، فحذف التاء، فدل على أنها للتأنيث، وذلك أن تاء التأنيث تحذف في النسبة، ولما حذف التاء شبه بقلة التصرف الحروف فزاد على الحرف حرفًا مثله كما فعل ذلك بـ (ذا) إذا سُمي به رجل فقال: ذآء، فلما
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٤، و"الوسيط" ٤/ ١٩٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ٢٥٣ (لت).
(٤) انظر: "الكتاب" ١/ ٣٧١.

زيدت همزة على (ذا) لما سمي به كذلك زيدت هاهنا همزة، وكذلك يفعلون بـ (ما) و (لا) عند التسمية بهما، والوقف على هذا بالهاء كما اختاره الكسائي.
وقول أبي إسحاق الأجود الوقف بالتاء لاتباع المصحف. فيجوز أن تكون كتبت فيه بالتاء على الوصل دون الوقف كما كتب ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ [الشورى: ٢٤] ونحوه بغير الواو، فلما كتب هذا ونحوه على الوصل كذلك يجوز أن يكون كتب في المصحف على الوصل، انتهى كلامه (١).
وأما الألف واللام في اللَّات والعزّى فذهب أبو الحسن (٢) إلى أن اللام فيهما زائدة.
والذي يدل على صحة مذهبه أن اللّات والعزَّى (٣) علمان بمنزلة يغوث (٤) ويعوق (٥) ونسر (٦) ومناة (٧) وغير ذلك من أسماء الأصنام. فهذه كلها أعلام وغير محتاجة في تعريفها (٨) إلى اللام، وليست من باب الحارث والعباس من الأوصاف التي نقلت فصارت أعلامًا وأقرت فيها لام
(٢) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٥٨.
(٣) (والعزى) ساقطة من (ب).
(٤) يغوث: صنم كان لمذحج. وهو اسم صنم كانن لقوم نوح كما هو في سورة نوح.
(٥) يعوق: اسم صنم لكنانة. وقيل: كان لقوم نوح.
(٦) نسر: صنم كان لذي الكلاع بأرض حمير. وهذه الأصنام ذكرها الله تعالى في سورة نوح فهي بلا شك لقومه. وأخذ المشركون منها أسماء آلهتهم.
(٧) مناة: صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة.
(٨) في (ك): (تعرفها).

التعريف على ضرب من توهم روائح الصفة فيها فيحمل على ذلك، فوجب أن تكون اللام فيها زائدة كما ذكرنا في الذي وبابه، وهذا الذي ذكرنا كلام أبي الفتح الموصلي (١).
وأما العُزّى قال عطاء: هي صنم (٢)، وقال مجاهد، والكلبي: هي سمرة من الشجر كانت بنخلة لغطفان (٣) يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد فقطعها ويقول:
يا عز كفرانك لا سبحانكِ | إني رأيت الله قد أهانكِ |
(٢) انظر: "فتح القدير" ٥/ ١٠٨، و"روح المعاني" ٢٧/ ٥٥، ولم ينسباه لقائل.
وقيل العزى: شجرة قديمة قدسها العرب في بلدة نخلة الثامية إلى الشمال من مكة، وكانت قريش وبعض قبائل الحجاز مثل غني، وباهلة تعظمها. انظر: "أطلس تاريخ الإسلام".
وقال ابن كثير: كانت بيتًا بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، و"البداية والنهاية" ٤/ ٣١٦.
(٣) غطفان: بطن عظيم متسع، كثير الشعوب والأفخاذ، من قيس عيلان من العدنانية، كانت لهم منازل بنجد مما يلي وادي القرى، وجبل طىء.
انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٨٨٨.
(٤) اقتصر البيهقي في "دلائل النبوة" ٥/ ٧٧ على قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تلك العزى". وفي "الطبقات" ٢/ ١٤٦ بلفظ: "نعم تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدًا"، وكذا الواقدي في "المغازي" ٣/ ٨٧٤.