آيات من القرآن الكريم

وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
ﮌﮍﮎ

يتذكرون من أهل مكة، وغيرهم. ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على حَالَتِكم وجهتكم التي هي عدم الإيمان ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾ على حالنا، وهو الإيمان به، والاتعاظ والتذكير به
١٢٢ - ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا الدوائرَ والنوائبَ على ما يعدكم الشيطان ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أن ينزل بكم ما نَزَلَ بأمثالكم من الكفرة على ما وعد الرحمن. فهذا تهديد لهم؛ لأن الآيةَ منسوخة بآية السيف.
والمعنى (١): ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا ما تتمنونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره، مما تحدِّثون به أنفسَكم، كما حكى الله عنهم في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)﴾.
﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أن ينزلَ بكم مثل ما نزلَ بأمثالكم من عقابه تعالى، بعذاب من عنده، أو بأيدي المؤمنين، وأن يكفل لنا النصرَ والغلبة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. وقد أنجزَ وَعْدَه، ونصَرَ رسوله، وأيَّدَهُ، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
١٢٣ - و (اللام) في قوله (٢): ﴿وَلِلَّهِ﴾ للاختصاص ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الغيب في الأصل مصدر، وإضافة المصدر يفيد العموم، والإضافة فيه بمعنى في؛ أي: وعلم جميع ما غاب عنك يا محمَّد، وعن سائر الخلائق في السموات والأرض مختص بالله سبحانه وتعالى، فكيف يخفَى عليه أعمالكم؛ وهو المالك لجميع ما في السموات والأرض، المتصرف فيه كيف شاء، العالم بكل ما سيقع فيهما، والعالم بوقته الذي يقع فيه.
وخص (٣) ذكرَ الغيب مع كونه يعلم بما هو شاهد فيهما، لكونه من العلم الذي لا يُشَارِكهُ فيه غيره، وخص ذكرَ السموات والأرض مع كونه يعلم ما غاب في غيرهما من العرش والكرسي وغيرهما، لكونهما محسوسين للمخاطبين.

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.

صفحة رقم 277

وقيل: إنَّ غيبَ السموات والأرض نزول العذاب من السماء، وطلوعه من الأرض، والأول أولى، وبه قال أبو علي الفارسي وغيره.
﴿وَإِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده لا إلى غيره ﴿يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ بضم الياء، وفتح الجيم، أي يرد، وبفتح الياء، وكسر الجيم بمعنى يَعُود، ويصير أمور الخلائق كلها يوم القيامة، فيجازى كُلًّا بعمله خيرًا، أو شرًّا، فيرجع أمرك يا محمَّد، وأمُر الكفار إليه، فينتَقِم لَكَ منهم؛ أي: فأمركَ وأمرهم لا مَحَالةَ راجع إليه تعالى، ومَا شَاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن. وقرأ (١) نافع وحفص: ﴿يُرْجَعُ﴾ على البناء للمفعول. وقرأ الباقون على البناء للفاعل. ﴿فَاعْبُدْهُ﴾؛ أي: وإذا (٢) كان أمر كل شيء يرجع إليه، فاعبده سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له وحدَه، وادعُ إلى طاعته، واتباع أمره بالحكمة، والموعظة الحسنة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ تعالى فيما لا يدخلُ في مكنتك، واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه، لكونه لا يدخلُ تحتَ كسبك، ولا تنالُه يدك، والتوكل لا يجدي نفعًا بغير العبادة، والأخذ بالأسباب المستطاعة، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب، والعبادة لا تكمل إلّا بالتوكل، إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى.
روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه، أن النبي - ﷺ - قال: "الكيس مَنْ دان نفسه، وعمل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني".
وخلاصة ذلك: امتَثِلْ ما أمرت به، وداوم على التبليغ والدعوة، وتوكل عليه في سائر أمورك، ولا تبال بالذين لا يؤمنون، ولا يضيق صدرك بهم.
وقيل: معنى قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾؛ أي (٣): أطعه، واستقم على التوحيد أنت وأمتك ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: فوض إليه جميعَ أمورك، فإنه كافيك وعاصمك من

(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.

صفحة رقم 278

شرهم، فعليك تبليغ ما أوحينا إليك، بقلب فسيح غير مبال بعداوتهم، وعتوهم وسفههم، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ بأنه لا ينفَعُ بدونها.
﴿وَمَا رَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بساه (١) عما تعمل أنت أيها النبي - ﷺ - ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته، والتوكل عليه، والصبر على أذى المشركين، فيوفيكم جزاءكم في الدنيا والآخرة، ولا بغافل عما يعمل المشركون من الكيد لَكُمْ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وسيجزيهم على أعمالِهم يوم تجْزَى كل نفس بما كسبَتْ، وقد صدق وعدَه، ونَصَرَ عبده، وأظهر دِينَه على الدين كلِّه، أي: فالله تعالى عالم به غير غافل عنه؛ لأنَّ الغفلةَ والسهوَ لا يجوزان على مَنْ لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض، فيجازي كلًّا منك ومنهم بِمُوجَب الاستحقاق.
والجملة الأولى من هذه الآية (٢): دلت على أن عِلْمَه تعالى محيط بجميع الكائنات، كلِّيّها وجُزّئِيِّها حاضرها وغائبها؛ لأنه إذا أحاط علمه بما غاب، فهو بما حضر محيط؛ إذ علمه تعالى لا يتفاوت.
والجملة الثانية: دلَّت على القدرة النافذة، والمشيئة.
والجملة الثالثة: دلَّت على الأمر بإفراد مَنْ هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلَّى بها العبدُ.
والجملة الرابعة: دلَّتْ على أنَّ الأمر بالتوكل، وهِيَ آخرة الرُّتَبِ؛ لأنه بنور العبادة أبصرَ أنَّ جميعَ الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جَمِيعِها، لا يشركه في شيء منها.
والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المُجَازَاةِ، فلا يضيع طاعةَ مطيع، ولا يهمل حالَ متمرد؛ أي: فإنه تعالى (٣) لا يُضَيِّعُ طاعات المطيعينَ، ولا يهمل

(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.

صفحة رقم 279

أحوالَ المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة، ويحاسبوا على النقير والقطمير، ويعاتبوا في الصغير والكبير ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير.
وعن كعب الأحبار (١): إنَّ فَاتِحَةَ التوراةِ، فاتحةُ سورة الأنعام، وخاتمتها خاتمةُ سورة هود، هذه الآية يعني: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية.
واعلم: أنَّ علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى، وأما إخبار الأنبياءِ والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، عن بعض المغيبات، فبواسطة الوحي، والإلهام، وتعليم الله تعالى، ومن هذا القبيل: إخباره - ﷺ - عن حال العشرة المبشرة، وكذا عن حال بعض الناس.
ثم إن (٢) التوكّل عبارة عن الاعتصام به تعالى في جميع الأمور، ومحله القلبُ، وحركة الظاهِرِ لا تنافي تَوَكُّلَ القلب بعدما تحقق عند العبد أنَّ التقدير من قبل الله تعالى، فإن تَعَسَّرَ شيءٌ، فبتقديره، فالواجب على كافَّةِ العباد أن يعبدوا اللَّهَ تعالى، ويعتمدوا عليه كل الاعتماد، لا عَلى الجاه والعقل، والأموال، والأولاد فإنَّ اللَّهَ تعالى خالق كل مخلوق، ورازق كلُّ مرزوق.
وفي الحديث: "ما من زرع على الأرض، ولا ثمر على الأشجار، إلا وعليه مكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا رزقُ فلان بن فلان". وفي الحديث: "خَلَقَ الله الأرزاقَ قبل الأجسادِ بألف عام، فبسطها بين السماء والأرض، فضربتها الرياحُ، فوقعت في مشارق الأرض ومغاربها، فمنهم من وَقَعَ رزقه في ألف موضع، ومنهم من وقع في مئة، ومنهم من وقع على باب داره، يَغْدُو وَيرُوحُ حتَّى يَأتِيه".
وقرأ الصاحبان (٣) - نافع وابن عامر - وحفص، وقتادة، والأعرجُ، وشيبة

(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.

صفحة رقم 280

وأبو جعفر، والجحدري: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بتاء الخطاب، لأنَّ قَبْلَه ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾. وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة. واختلف عن الحسن، وعيسى بن عمر.
وعن رسول الله - ﷺ - (١): "من قرأ سورةَ هود أعطي من الأجر عَشْرَ حسنات بعدد من صَدَّق بنوح، ومَنْ كذَّب به، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وكان يومَ القيامة من السعداء" إن شاء الله تعالى.
خاتمة في بيان المقاصد الدينية التي اشتملت عليها هذه السورة
قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين، ومبادئِهِ العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا إلا إذا سلك سبيلها، ونهج نهجَها، ومن ذلك:
١ - التوحيد وهو ضربان:
أ - توحيد الأُلوهية، وهو أولُ ما دعا إليه محمدٌ - ﷺ -، ودعا إليه كل رسول قَبْلَه، وهو عبادته تعالى وحده، وعدم عبادة أحد معه، كما قال: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولي أو نبيٍّ أو شيطان أو ملك، إذا توجه العبد إليها توجهًا تعبديًّا ابتغاء النفع أو كشف الضر في غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس، كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام، أو الأوثان، إذ جميع ما عَدَا الله تعالى فهو عَبْدٌ، وملك له لا يتوجه بالعبادة إليه.
ب - توحيد الربوبية؛ أي: اعتقاد أنَّ اللَّهَ وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصرف فيه على مُقْتَضى حكمته، ونظام سنَّته، وتسخيره الأَسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر المشركينَ من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأنَّ الربَّ الخالقَ المدبّر واحِدٌ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرب بها إليه توسلًا، وطلبًا للشفاعة عنده.

(١) البيضاوي.

صفحة رقم 281

٢ - إثبات رسالته - ﷺ - بالقرآن بتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات، ودعوة مَن استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم، وإعانتهم على الإتيان بها، إن كانوا صادقين، وقوله بعد ذلك: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾ وما جاء في قوله: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾.
٣ - جاءت آيات البعث والجزاء في القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان، والاستدلال بها على قدرة الخالق، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب، والموعظة والجزاء، كما جاء في قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)﴾، وقوله: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
٤ - إهلاكُ الأمم بالظلم كما جاء في قوله لخاتم رسله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)﴾، وقوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
٥ - سنته تعالى في ضلال الناس وغوايتهم بأن يكونوا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية، والإصرار عليها إلى أن تتمكنَ من صاحبها، وتحيطَ به خطيئته حتى يفقد الاستعدادَ للهُدَى والرشاد.
٦ - من طباع البشر العجل والاستعجالُ لِمَا يَطْلَبُ من النفع والخير، وما ينذر به من الشرِّ كما قال: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾.
٧ - سنته تعالى في تكوين الخلق، وأنه كَانَ أطوارًا في أزمنة مختلفة، بنظام مُحْكَمٍ، ولم يكن شيء منه فجائيًّا بلا تقدير، ولا ترتيب كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ فكلمة الخلق معناها: التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقاديرَ متناسبة، ثم أريد بها الإيجاد التقديريُّ؛ فالسموات السبع المرئية للناظرين، والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام، وما فيها من البسائط، والمركبات الغازية، والسائلة، والجامدة، كذلك والكون في جملته قائم بسنة عامة في ربط بعضه ببعض، وحفظِ نظامِهِ بأنْ يبنَى بعضه على

صفحة رقم 282

بعض، وهو ما يسمِّيه العلماء: الجاذبِيَّةَ العامةَ، والجاذبية الخاصَّةَ.
٨ - أنَّ الطغيانَ والركونَ إلى الظالمين من أمهات الرذائل، كما قال: ﴿وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
٩ - الاختلاف في طبائع البشر: فيه فوائد، ومنافع علمية وعملية لا تظهر مَزَايَاهُ بدونها، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق، والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدينَ لتكميل فطرتهم، والحكمِ بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مَجَالَ فيه للاختلاف، فاستحق الذين يحكمونه فيما يتنازعون فيه رحمتَه وثوابَه، والذِينَ يختلفون فيه سخْطَهُ وعِقَابَه.
١٠ - إتباع الإتراف، وما فيه من الفساد، والإجرام، ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجِبَ لهلاك الأمم، هو اتباع أكثرها، لِما أترِفُوا فيه من أسباب النعيم، والشهوات، واللذَّات، والمترفون هم مفسدوا الأمم، ومُهلكوها، وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن، من الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، فكانوا مَثَلًا صالحًا في الاعتدال في المعيشة، أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الأتراف والنعمة، ففَتحوا الأمْصَارَ، وأقاموا دَوْلةً عزَّ على التاريخ أن يقيمَ مِثْلَها باتباع هدي القرآن، وبيان السنة له، وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، والعرفان، ثم أضَاعَها من خلف من بعدهم من متبعي الإتراف، وكيف ضلوا بعد أن استفادوا الفنونَ والعلومَ، والملكَ والسلطان، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
١١ - إقامة الصلاة في أوقاتها من الليل والنهار؛ لأنَّ الحسناتِ يذهبن السيئات، وأعظم الحسناتِ الروحيةِ الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.
١٢ - النهي عن الفساد في الأرض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.
١٣ - سننه تعالى في اختبار البشر؛ لإحسان أعمالهم كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ

صفحة رقم 283

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
١٤ - أول اتباع الرسل والمصلحين الفقراءُ كما حكى عن قوم نوح ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾.
١٥ - التنازع بين رجال المال، ورجال الإصلاح في حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.
١٦ - منْ سُنَنِهِ تعالى جعل العاقبة للمتقين، وذلك هو الأساس الأعظم في فوز الجماعات الدينية، والسياسية، والأمم والشعوب في مقاصدها، وغلبها لخصومها ومناوئيها.
١٧ - بيان أنَّ الاختلافَ في الدين ضروري كما قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
١٨ - بيان أنَّ نَهْيَ أولي الأحلام عن الفساد، يَحْفَظُ الأمة مِنَ الهلاك كما قال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾.
الإعراب
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ أنَّ مراتب الناس اثنان إما شقي أو سعيد، وأردتَ بيانَ مآلهما.. فأقول لك. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿شَقُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فَفِي﴾ (الفاء) رابطة لجواب أمَّا واقعة في غير موضعها؛ لأنَّ موضعها موضع (أما). ﴿في النارِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما) لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة أما من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الاستقرار الذي تعلق به الخبرُ. ﴿زَفِيرٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿وَشَهِيقٌ﴾ معطوف عليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير

صفحة رقم 284

المستكن في الجار والمجرور قبله أعني قولَه: ﴿فَفِي النَّارِ﴾ أو حال من ﴿النار﴾ أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كَأن سائلًا سأَلَ حينَ أخبر أنهم في النار ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا وكذا، كذا في "الفتوحات".
﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)﴾.
﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أعني قَولَه: ﴿فَفِي النَّارِ﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿مَا﴾ مصدرية ظرفية. ﴿دَامَتِ السَّمَاوَاتُ﴾ فعل وفاعل؛ لأنَّ دام هنا تامة بمعنى بقِيَتْ. ﴿وَالْأَرْضُ﴾ معطوف عليه، والجملة صلة (ما) المصدرية. ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، تقديره: مدة دوام السموات والأرض، والظرف المقدر متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء بمعنى غير. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما شاءه ربك. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿فَعَّالٌ﴾ خبره، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بفعال، وقيل: (اللام) زائدة في مفعول الصفة تقويةً للعامل. ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره لما يريده.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (أما) حرف شرط ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿سُعِدُوا﴾ فعل ونائب فاعل أو فعل وفاعل على اختلاف القرائتين، والجملة صلة الموصول. ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما)، وجملة (أما) معطوفة على جملة (أمّا) الأولى. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿ما﴾ مصدرية ظرفية. ﴿دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ فعل وفاعل صلة (ما) المصدرية. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء بمعنى غير. ﴿ما﴾

صفحة رقم 285

في محل النصب على الاستثناء. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿عَطَاءً﴾ مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف وجوبًا تقديره، يعطيهم الله عطاءً؛ أي: إعطاءً؛ لأنه اسم مصدر لأعطى، ويصح كونه مفعولًا به إذا كان بمعنى معطَى، ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ صفة لـ ﴿عَطَاءً﴾.
﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)﴾.
﴿فَلَا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ يا محمَّد ما قصصنا لك من قصص المتقدمين، وسوء عاقبتهم، وأردتَ بيانَ ما هو اللازم لك.. فأقول لك: لا تك في مرية ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَكُ﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمِه سكون النون المحذوفة للتخفيفِ لكثرة استعمالِها؛ لأن أصلَه تكون، حذفت حركة النون للجازم، فالتقى ساكنان، ثمَّ حذفت الواو؛ لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون للتخفيف، واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ خبرها، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مِرْيَةٍ﴾؛ أي: فلا تك في مرية ناشئة مما يعبد هؤلاء، أو في ما يعبد هؤلاء فمن بمعنى في. ﴿يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره مما يعبده هؤلاء من الأصنام. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿يَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبلها. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار مجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية، (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور، بالكاف تقديره: كعبادة آبائهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره، ما يعبدون إلا عبادة كائنة كعبادة آبائهم، من قبل في كونها ضلالًا، وتقليدًا لا أصلَ لها. ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمُوَفُّوهُمْ﴾ خبره مرفوع (بالواو) لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنَّ مفردَه ليس بعلم ولا صفة، وإنما جمع للتعظيم والنون حذفت للإضافة، و (اللام) حرف ابتداء، وهو مضاف

صفحة رقم 286

إلى المفعول الأول. ﴿نَصِيبَهُمْ﴾ مفعول ثان له، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾. ﴿غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ حال مبينةٌ للنصيب الموفى، أو مؤكّدةٌ.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَاخْتُلِفَ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿اختلف﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾. ﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لولا﴾ حرف امتناع لوجود. ﴿كَلِمَةٌ﴾ مبتدأٌ سوغَ الابتداء بالنكرة وقوعُهُ بعد ﴿لولا﴾ أو وصفه بما بعده. ﴿سَبَقَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كلمة. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صفة ﴿كَلِمَةٌ﴾، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك موجودة. ﴿لَقُضِيَ﴾ (اللام) رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿قضي﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قضي﴾، وجملةُ ﴿قُضِيَ﴾ جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مع جوابها معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾ على كَوْنِهَا جَوابَ القسم. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿في شك﴾ جار ومجرور خبر (إن). ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿شك﴾. ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة ﴿شَكٍّ﴾ وجملة (إن) معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾.
﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)﴾.
وحاصلُ ما في كلمتي (إن) و (لما) من القراءات السبعة أربع: تخفيفهما، وتشديدهما، وتخفيف (إن) مع تشديد (لمَّا)، وتخفيف (لمَّا) مع تشديد (إنَّ).
فعلى القراءة الأولى: تقول في إعراب الآية (إن) مخففة من الثقيلة. ﴿كُلًّا﴾ اسمها منصوب بها. ﴿لما﴾ (اللام) حرف ابتداء، (ما) اسم موصول بمعنى الذين

صفحة رقم 287

في محل الرفع خبر (إن) المخففة. ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. (يوفين) فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محلٌّ لها من الإعراب. و (الهاء) ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل النصب مفعولٌ أول. ﴿رَبُّكَ﴾ فاعل. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ مفعول ثان، والجملة جوابُ للقسم المحذوف لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه صلة (ما) الموصولة، والعائد ضمير المفعول الأول، والموصول مع صلته خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة، والتقدير: وإن كلًّا من الخلائق للذين والله ليوفينهم ربك أعمالهم. ويجوز أن تكونَ (ما) نكرة موصوفة، والجملة القسمية مع جوابها صفة لـ (ما) الموصوفة، والتقدير: وإن كلا لخلق أو لفريق موصوفون يكون الله تعالى، وافيًا لهم أعمالهم والموصوف، وصفته خبر إن.
وعلى القراءة الثانية: أعني تشديدهما (إن) حرف نصب. ﴿كُلًّا﴾ اسمها. ﴿لما﴾ أصله: لمن ما بدخول لام الابتداءِ على من الجارة، دخَلت على ما الموصولة، أو الموصوفة؛ أي: لمن الذين، والله ليوفينهم، أو لمن خلق، والله ليوفينهم، فَلَمَّا اجتمعت النون ساكنة قبل ميم ما، وجب إدغامها فيه، فقلبت ميمًا، وأدْغمت الميمُ في الميم، فصارَ في اللفظ ثلاثَ ميمات، فخفف اللفظ بحذف إحداها، فقلبت كسرة ميم من الجارة فتحةً لوقوعها بين فتحتين، فصار اللفظ لما: فيقال في إعرابه (اللام) حرف ابتداء. (من) حرف جر. (ما) موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ (من). ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿يوفينهم ربك أعمالهم﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه صلة لـ (ما) إنْ قلنا: موصولةً، أو صفة لها؛ إن قلنا: موصوفةً، والعائد، أو الرابط ضمير المفعول الأول، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن، تقديره: وإن كُلًّا من الخلائق لكائنون من الذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم، أو لكائنون من مخلوق، أو فريق وَافٍ لهم ربك أعمالَهم، وجملة إن مستأنفة.
وعلى القراءة الثالثة: أعني تخفيفَ (إنْ) مع تشديد (لَمَّا)، فإن المخففة

صفحة رقم 288

عاملة، وأصل: لما لمن. (ما) فعل به ما تقدم.
وعلى القراءة الرابعة: أعني تخفيف (لَمَا) مع تشديد (إنَّ). (إنَّ) المشددة عاملة. و (اللام) للابتداء. و (ما) اسم موصول في محل الرفع خبرها. ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ جملةٌ قسميةٌ صلة الموصول فتحصَّل مما ذكر أنَّ (إن) عاملة. (وما) موصولة، أو موصوفة في جميع الأوجه كلها. و (اللام) الثانية موطئة للقسم، والأولى لام الابتداء. فتأمل، وما قررناه زبدة كلام طويل في هذا المقام فليحفظ.
﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بخبير. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ صلة لما أو صفة لها. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)﴾.
﴿فَاسْتَقِمْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرَفْتَ يا محمَّد أحوالَ القرونَ الأولى مع أنبيائهم، وأن إخْوانَك المرسلين تحملوا الأذى من قومهم، فصبروا، واستقاموا على الطريقة المثلى، وأردت بيانَ ما هو اللازم لك؛ فأقول لكَ: ﴿استقم﴾. ﴿استقم﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) موصولة في محل الجر بالكاف. ﴿أُمِرْتَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ (ما) الموصولة، والعائد محذوف تقديره: كالاستقامة التي أمرت بها، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فاستقم استقامة مثلَ الاستقامة التي أمرت بها. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (من) اسم موصول في محل الرفع معطوف عل الضمير المستتر في ﴿استقم﴾ لوجود الفاصل. ﴿تَابَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على (من)، والجملة صلة الموصول. ﴿مَعَكَ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من الضمير المستتر في ﴿تَابَ﴾. ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾ جازم وفعل، وفاعل معطوف على ﴿استقم﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾

صفحة رقم 289

وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿بَصِيرٌ﴾ خبر إن مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر، والنهي السابقين.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)﴾.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ جازم وفعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرْكَنُوا﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ (الفاء) عاطفة سببية. ﴿تمسكم النار﴾ فعل، ومفعول، وفاعل منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، والجملة الفعلية صلة أن، المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك، لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن منكم ركون إلى الذين ظلموا، فمس النار إياكم. ﴿وَمَا﴾ الواو حالية أو استئنافية. (ما) نافية. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِن دُونِ اَللهِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ مبتدأ مؤخر، و (من) زائدة، والتقدير: وما أولياء كائنون لكم حالَةَ كونهم من دون الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب حال من (كاف) المخاطبين في ﴿تمسكم﴾؛ أي: فتمسكم النار حالَ انتفاء ناصركم، أو الجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، أتى بثم تنبيهًا على تباعد الرتبة، اهـ "سمين". ﴿لا﴾ نافية. ﴿تُنْصَرُونَ﴾ فعل، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، عطفَ جملة فعلية على جملة اسمية.
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)﴾.
﴿وَأَقِمِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿أقم الصلاة﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ﴾. ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ ظرف، ومضاف إليه منصوب بالياء متعلق بـ ﴿أقم﴾. ﴿وَزُلَفًا﴾ منصوب على الظرفية معطوف على ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾. ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ صفة له. ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ﴾ ناصب

صفحة رقم 290

واسمه. ﴿يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿ذَلِكَ ذِكْرَى﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾ متعلق بـ ﴿ذِكْرَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَاصْبِرْ﴾ فعل أمر معطوف على ﴿أقم﴾ وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿فَإِنَّ﴾ (الفاء) تعليلية. ﴿إن اللَّه﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ لأنها مسوقة لتعليل المذكور قبلها.
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾ (الفاء) استئنافية. ﴿لولا﴾ حرف تحضيض مضمن معنى النفي، لأنه لا يمكن تحضيضهم وتخويفهم بعد انقراضهم. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض تام بمعنى وجد. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ متعلق بـ ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور صفة للقرون، لأنه اسم جنس محلى بأل، فهو بمنزلة النكرة. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ فاعل، ومضاف إليه. ﴿يَنْهَوْنَ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَنِ الْفَسَادِ﴾ متعلق به. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بالفساد؛ لأنَّ المصدرَ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة، فيكون في الظرف أولى، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الفساد ذكره في "الفتوحات". والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لفاعل ﴿كَانَ﴾. ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ مستثنىً من الفاعل بملاحظة صفته. والمعنى (١): فما كان من القرون الماضية المهلَكة بالعذاب، جماعة أصحاب دين ينهون عن الفساد إلا قليلًا، وهم من أنجيناهم من العذاب، نَهَوْا عن الفساد، فالمستثنى منه القرونُ المهلكة بالعذاب، كما هو مقتضَى السياق، والمستثنى مَنْ أنجاه الله من العذاب، فاختلفَ الجِنسَ باعتبار الوصف المذكور. ﴿مِمَّنْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿أَنْجَيْنَا﴾ فعل وفاعل،

(١) الفتوحات.

صفحة رقم 291

والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ممن أنجيناه. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المحذوف. ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على مقدر تقديره: فلم يَنْهَوْا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿اتبع﴾. ﴿أُتْرِفُوا﴾ فعل ونائب فاعل صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير. ﴿فِيهِ﴾ وهو متعلق بـ ﴿أُتْرِفُوا﴾. ﴿وَكَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه. ﴿مُجْرِمِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاتَّبَعَ﴾.
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (ما) نافية. ﴿كَانَ رَبُّكَ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿لِيُهْلِكَ﴾ (اللام) حرف جر وجحود لسبقها بـ (كان) المنفية بـ (ما). ﴿يهلك القرى﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِظُلْمٍ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يهلك﴾ أي حالَةَ كونه متلبسًا بظلم، أو متعلق بـ ﴿يهلك﴾؛ أي: ما كان يهلك أهلَ القرى بظلم منهم؛ أي: بشرك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإهلاك القرى الجار والمجرور، متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا لـ ﴿كان﴾ تقديره: وما كان ربك مريدًا لإهلاك القرى. ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ﴿من القرى﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (لو) حرف شرط. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لو). ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً﴾ فعل ومفعولان، و (اللام) رابطة لجواب (لو). ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة لـ (أمة) وفاعل (جعل) ضمير يعود على الله، وجملة جعل جواب (لو)، وجملة (لو) مستأنفة. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ فعل مضارع ناقص واسمه. ﴿مُخْتَلِفِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة (لو). ﴿إِلَّا﴾ أداة

صفحة رقم 292

استثناء. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من (واو) ﴿يَزَالُونَ﴾. ﴿رَحِمَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: منْ رحمه ربك.
﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾.
﴿وَلِذَلِكَ﴾ جار ومجرور، متعلق بما بعده. ﴿خَلَقَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة (خلق). ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿أملأن﴾ فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب، والجازم مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿جَهَنَّمَ﴾ مفعول به. ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ متعلق بـ (أملأن). ﴿وَالنَّاسِ﴾ معطوف على الجنة. ﴿أَجْمَعِينَ﴾ توكيدٌ لِمَا قبله، والجملة الفعلية جوابٌ لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع بدل من ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾.
﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)﴾.
﴿وَكُلًّا﴾ مفعول مقدم لـ ﴿نَقُصُّ﴾. ﴿نَقُصُّ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿نقص﴾. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿كلا﴾. ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب بدل من ﴿كُلًّا﴾. ﴿نُثَبِّتُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿نُثَبِّتُ﴾. ﴿فُؤَادَكَ﴾ مفعول به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿وَجَاءَكَ﴾ فعل ومفعول. ﴿فِي هَذِهِ﴾ متعلق به. ﴿الْحَقُّ﴾ فاعل. ﴿وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى﴾ معطوفان على ﴿الْحَقُّ﴾. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ تنازع فيه كل من ﴿موعظة﴾ ﴿وَذِكْرَى﴾، وجملة ﴿جاءك﴾ معطوفة على جملة ﴿نَقُصُّ﴾.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)﴾.

صفحة رقم 293

﴿وَقُلْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿قل﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قل﴾. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿اعْمَلُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتَ: ﴿اعْمَلُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ متعلق بمحذوف حال من (واو) ﴿اعْمَلُوا﴾؛ أي: حالةَ كونكم قارينَ وثابتين على حالتكم، وكفركم، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إنا﴾ ناصب واسمه. ﴿عَامِلُونَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ فعل، وفاعل معطوف على ﴿اعْمَلُوا﴾. ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ ناصب، واسمه وخبره معطوف على ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾.
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُرْجَعُ﴾ الآتي. ﴿يُرْجَعُ الْأَمْرُ﴾ فعل، ونائب فاعل. ﴿كُلُّهُ﴾ توكيد للأمر، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية. ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿اعبده﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرْجَعُ﴾. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ فعل أمر معطوف على قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ حجازية أو تميمية. ﴿رَبُّكَ﴾ اسمها، أو مبتدأ. ﴿بِغَافِلٍ﴾ خبر المبتدأ، أو خبر (ما) و (الباء) زائدة. ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق ﴿بِغَافِلٍ﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاعْبُدْهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ وفي "السمين": الزفير: أول صوت الحمار والشهيق آخره. وقال ابن فارس: الزفير: ضد الشهيق؛ لأن الشهيقَ رد النَّفَسِ، والزفير إخراج النفس من شدة الحزن، مأخوذ من الزَّفر، وهو الحمل على الظهر

صفحة رقم 294

لشدته. وقيل: الشهيق: النَّفَسُ الممتد مأخوذ من قولهم: جبل شاهِق؛ أي: عَالٍ. وقال الليث: الزفيرُ أن يملأَ الرجل صَدْرَهُ حَالَ كونِهِ في الغم الشديد من النفس ويُخْرِجُه، والشهيق: أن يَخْرِجَ ذلِكَ النَّفَسَ، وهو قريب من قولهم: تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءِ. وقال أبو العالية، والربيعَ بن أنس: في الحلق، والشهيق في الصدر. وقيل: الزفير للحمار، والشهيق للبغل، اهـ.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ عبارة "السمين": قَرأَ الأَخَوانِ وحفص: ﴿سُعِدوا﴾ بضم السين والباقونَ بفتحها، فالأُولَى من قولهم: سَعِدَهُ الله؛ أي: أَسْعَدَه. حكى الفراء عن هذيل، أنها تقول: سعده الله بمعنى أسعده. قال الأزهري: سَعِدَ فهو سعيد، كسَلِم فهو سليم، وسَعِد فهو مسعود. قال أبو عمرو بن العلاء: يقال: سَعُدَ الرجل كما يقال: حَسُنَ. وقيل: سعده لغة مهجورة، وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخوين، اهـ.
وفي "المصباح": سَعِدَ فلانٌ يسعد من باب تعب، في دين أو دنيا سَعْدًا، وبالمصدرِ سُمِّيَ، والفاعل سعيد، والجمع سعداء، ويُعَدَّى بالحركة في لغة، فيقال: سَعِدَه الله يَسْعَده بفتحتين فهو مسعود، وقرِىء في السبعة بهذه اللغة في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ بالبناء للمفعول، والأكثر أن يتعدَّى بالهمزة، فيقال: أسعده الله، وسَعُدَ بالضم خلافُ شَقِيَ، اهـ.
﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، ﴿عَطَاءً﴾ اسم مصدر بمعنى إعطاء، والفعل أعطوا؛ أي: أَعطاهم الله سبحانه وتعالى إعطاء. وفي "السمين": عَطاءَ نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قَبْلَهُ؛ لأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ﴾ يقتضي إعطاءً وإنعامًا، فَكَأنَّه قيل: يُعْطِيهم عَطَاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة: الإعطاء على وزن الإفعال، أو يكون مصدرًا على حذف الزوائد، كقوله: أنبُتَكُم من الأرض نباتًا، أو منصوب بمقدار موافق له؛ أي: فنبتم نباتًا، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتَ بمعنى نَاوَلْتَ، اهـ. ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ في "المختار": جذه كَسَرَهُ وقطَعَهُ، وبابه رَدَّ، والجذاذ بضم الجيم وكسرها ما تكسَّر منه، والضم أفْصَحُ، و ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؛ أي: غير مقطوع، والجذاذات القراضات. {فَلَا

صفحة رقم 295

تَكُ} وحذفت النون من ﴿تَكُ﴾ لكثرة الاستعمال، ولأنَّ النونَ إذا وقعت طرفَ الكلام، لم يَبْقَ عند التلفظِ بها إلا مجردَ الغنَّةِ، فلا جَرَمَ أسْقَطُوها، اهـ "كرخي". ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾، ﴿مُرِيبٍ﴾ اسم فاعل من أراب إذا حَصَل الريب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا ريب، وقد تقدَّم نظيره.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ من ركن يركن من باب علم يعلم. وفي"المصباح": ركنت إلى زيدٍ اعتمدتُ عليه، وفيه لغات:
إحداها: من باب تَعِبَ، وعليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
والثانية: ورَكَنَ رَكُونًا من باب قَعَدَ. قال الأزهري: وليست بالفصيحة.
الثالثة: رَكَنَ يَرْكَنُ بفتحتين، وليست بالأصل بل من تداخل اللغتين؛ لأنَّ باب فعل يفعل بفتحتين شَرْطُه أن يكونَ حلقيّ العين أو اللام، اهـ. وفي "السمين": وقَالَ الراغب: والصحيح أنه يقال: ركن يركن بالفتح فيهما، ورَكِنَ يَرْكن بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي، والضم في المضارع، اهـ. والركون إلى الشيءِ الاعتماد عليه ورُكْنُ الشيء جانِبُه الأَقْوى، وما تَتَقوَّى به من مُلْك وجُنْدٍ وغيره، ومنه قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾.
﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ طرف الشيء الطائفة منه والنهايةُ، فَطَرَفَا النهار الغدوُّ والعشي. والزلَف واحدها زُلْفَة، وهي الطائفة من أول الليل لقربها من النهار. وقرأ العامة: زُلَفًا بضم الزاي، وفتح اللام، وهي جَمْعُ زلفة بسكون اللام نحو غرف في جمع غرفة، وظلم في جمع ظُلْمَةٍ. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضم اللام للإتباع كما قالوا: بُسُر في بسْر بضم السين إتباعًا لضَمَّة الباء. وفي "القاموس": الزلفة الطائفة من الليل، والجمع زُلُف وزلفات كغرف وغرفات. والزلَفُ: ساعاتُ الليل الآخذةُ من النهار، وساعات النهار الآخذة من الليل، اهـ.
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ﴾، ﴿لَوْلَا﴾ كلمةٌ تفيد التحضيضَ والحثَّ على الفعل. و ﴿الْقُرُونِ﴾ واحدهم قرن، وهو الجيل من الناس، قيل: هو ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وشاع تقديره بمئة سنة كما مر. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ وقرأ العامة (بقِيَّة) بفتح

صفحة رقم 296

الباء، وتشديد الياء، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها صفة على فعيلة للمبالغة بمعنى فاعلة، ولذلك دخلت التاء فيها، والمراد بها حينئذ: جيد الشيء وخياره، وإنما قيل لجيده وخياره بَقِيةٌ من قولهم: فلان بقيةُ الناس، وبقية الكرام، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجودَه وأفضله.
والثاني: أنها مصدر بمعنى القويّ. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون البَقِيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقية بمعنى التقوى؛ أي: فَهَلَّا كَانَ منهم ذوو بقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سَخَطِ الله وعقابه. وقرأت فرقة (بقية) بتخفيف الياء، وهي اسم فاعل من بَقِيَ كشجية من شجِيَ، والتقدير: أولو طائفة بقية، أي باقية. وقيل: البقية ما يبقَى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرًا في الأنفع والأصلح؛ لأنَّ العادَةَ قد جَرَتْ بأنَّ الناسَ ينفقون أرْدَأ ما عندهم، ويستبقون الأجودَ.
﴿مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ يقال: أترفَتْهُ النَّعْمَة؛ أي: أبْطَرْتُهُ وأفسدَتُه. وفي "القاموس": الترفة بالضم: النعمة، والطعامُ الطَّيِّب، والشيء الظريفُ تَخُصُّ به صاحبَكَ، وَتَرِفَ كَفَرِحَ تنعَّم وأترفته النعمة أطغَتْه، أو نعمته كترفته تَتْرِيفًا وأترف فلانٌ أصَرَّ على المكر، والمُتْرَفُ كمُكْرَمِ المتروك يَصْنَعُ ما يشاء، ولا يمنَع، والمتنعمُ لا يَمْنَعُ من تنعمه، اهـ.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ والجنة والجن بمعنى واحد. وقال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة؛ وإن كَانَ الجِنُّ يقع على الواحد، فالجِنَّة جَمْعُه، انتهى. فيكون مما يكونُ فيه الواحد بغير هاءٍ، وجَمْعُهُ بالهاء لقول بعض العرب كمء للواحد وكمأة للجمع. ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ القص تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)﴾. والأنباء جمع نبأ كأسباب جمع سبب. والنَّبَأُ: الخَبَرُ الهَامُّ. ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ﴾؛ أي: نُقَوّي به، ونجعل. ﴿فُؤَادَكَ﴾ رَاسِخًا كالجبل. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على تَمكنِكم، واستطاعتكم.

صفحة رقم 297

البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: اللف والنشرُ المرتَّب في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ شبَّه صراخَ أهل النار، وأنينَهم بأصوات الحمير بجامع الارتفاع، والشناعة، وعدم الفائدة في كلٍّ، فاستعار له اسمَ المشبه به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية، كما في "روح البيان".
ومنها: المبالغةُ في صيغةِ فعَّال في قوله: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.
ومنها: الإظهارُ في مقام الإضمار في قوله: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً﴾ فحقُّ العبارة أن يقال: ما دامتا إلا ما شاء.
ومنها: حكايةُ الحال الماضية في قوله: ﴿إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾.
ومنها: التأكيد لدفع توهم المجاز في قوله: ﴿نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ أتى بغير منقوص لدفع توهم إرادة بعض النصيب.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ لأنها كناية عن القضاء والقدر.
ومنها: الإسناد المجازيُّ في قوله: ﴿مُرِيبٍ﴾ كما مرَّ.
ومنها: جناسُ الاشتقاق في قوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، وفي قوله: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.

صفحة رقم 298

ومنها: التهديدُ والوعيدُ في قوله: و ﴿اعْمَلُوا﴾ ﴿وَانْتَظِرُوا﴾.
ومنها: القَصْرُ في قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفي قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *

(١) إلى هنا تَمَّ ما يَسَّره الله سبحانه وتعالى لنا من تفسير سورة هود في أوائل ليلة الإثنين المباركة السابعة من شهر صفر المبارك من شهور سنة ألف وأربع مئة وإحدى عشرة، سنة ٧/ ٢/ ١٤١١ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله سبحانه وتعالى. وأشكره سبحانه وتعالى شكرًا بلا انصرام على ما وَفَّقني بابتداءِ هذا التفسير، وأسأله تعالى الإعانةَ لي على كماله وتمامه، والحمدُ لله أولًا وآخرًا. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. آمين.

صفحة رقم 299

فاتحة في سورة يوسف عليه السلام وتَقْدِمَة لتفسيرها
رَأَينا أَنْ نقدِّم لك أيها القارئُ صورةً موجزةً تبيِّنُ لكَ حَالَ هذا النبي الكريم، والعِبرة من ذكْرِ قصته في القرآن العظيم لتكون ذِكرى للذاكرين، وسلْوةً للقارئين والسامعين.
يوسف الصدِّيق مثلٌ كاملٌ في عِفَّتِهِ
يوسف عليه السلام آيةٌ خالدةٌ على وَجْه الدهر تُتْلى في صحائفِ الكون بكرةً، وعشيًّا، تفسر طيبَ نِجَاره، وطَهَارَة إزاره، وعفَّتِه في شبابه، وقوته في دِينه، وإيثارَه لآخرته على دنياه، وأفْضَلُ هداية تمثِّلُ للنساء والرجال المثل العليا، والعفةَ والصيانةَ التي لا تتِم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله، ومراقبته له في السر والعَلَنِ، وسورته منقبة عظمى له، وآيةٌ بينة في إثبات عصمته، وأفضل مَثَلٍ عَمَليٍّ يقتدي به النساء، والرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسِيسَة على النفس من سلطان، ويسمع بأذنه تغلبَ الفضيلة في المؤمن على كلِّ رذيلة، بقوة الإرادة، ووازع الشرف، والعصمة، ففيها أحسنُ الأُسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شابٍّ كان من أجمل الناس صورةً وأكملهم بنيةً يخلُو بامرأةٍ ذات منصب وسلطان، وهي سَيّدةٌ له، وهو عَبْدُها يحملها الافتتان بجماله على أن تذل نَفْسَهَا له، وتَخُونَ بَعْلَها، فتراوده عن نفسه، وقد جرت العادة أن تَكُونَ النِّسَاء مطلوبات لا طالبات، فيسمعها من حكمته، ويُريها من كماله وعفَّتِه ما هو أفضل درس في الإيمان بالله، والاعتصام بحبله المتين، وفي حفظه أَمَانَةَ سيِّده الذي أحسنَ مثواه فيقول: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، فتشعر حينئذ بالذلِّ والمهانة، والتفريط في الشرف، والصيانة وتحقير مقام السيادة والكرامة.

صفحة رقم 300

إلا أنَّ فيها أعظمَ دليل على صبره وحِلمِهِ وأمانته، وعَدْلِهِ وحكمته، وعلمه، وعفوه، وإحسانه فَكَفَى شَاهِدًا على صبره أنَّ إخْوَتَهُ حَسَدُوه فَأَلْقَوه في غيابة الجبِّ، وأخرجَتْه السيارة، وباعوه بَيْع العبيد، وكادَتْ له امرأة العزيز، فزج في السجن، فصَبَرَ على أذى الأخوة، وكيد امرأة العزيز، ومكر النسوة إذْ عَلِمَ ما في الفاحشة من مفاسدَ، وما في العدل والإحسان من منافع، ومصالَحَ، فآثر الأعلى على الأَدْنَى، فاختار الدنيا في السجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أنْ نَجَّاه اللَّهُ ورفع قَدَرَهُ وأذل العزيزَ، وامرأتَه، وأقرَّتِ المرأة والنسوة ببراءته، ومكن له في الأرض، وكانت عاقبتُه النصر، والملك والحكم، والعاقبةُ للمتقين قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)﴾.
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته: فقد ظهرت جليًّا حين تولَّى الحكم في مصر أيامَ السبع السنين العِجافِ التي أكلت الحَرْثَ والنسلَ، وكادَتْ توقع البلادَ في المجاعات، ثمَّ الهلاك المحقق لولا حكمته، وعدله بين الناس، والسَّيْرُ بينهم بالسويَّةِ، وعلى الصراط المستقيم بلا جَنَفٍ، ولا مَيْلٍ مع الهَوى.
ما في قصص يوسف من عبرة
إن في هذه القصة لعبرةً أيما عبرة لعلية القوم، وساداتهم رجالهم، ونسائهم، مجانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإنَّ امرأةَ العزيز لَمْ تكن من قبل غويَّةً، ولا كانَتْ في سِيرَتها غَيْرَ عادية، لكنها ابتُلِيَتْ بحب هذا الشاب الفاتن، الذي وضعه عزيز مصر في قصره، وخلى بَيْنَه وبَيْنَ أهلِه، فأذلَّت نَفْسَها له بمراودته عن نفسه، فاستعصم، وأبَى، وآثر مرضاةَ ربِّه، فَشَاعَ في مصر ودورها، وقصورها، ذلها له وإباؤه عليها كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾.
وقد ذكرنها بالوصف "امرأة العزيز" دُونَ الاسم الصريحِ استعظامًا لهذا الأمر منها، ولا سيما، وزوجها عزيزُ مصر، أو رئيس حُكُومَتِها، وقد طَلَبت الفَاحِشَة من مَمْلُوكِها، وفتاها الذي هو في بَيْتها، وتحت كنفها، وذلك أقبح

صفحة رقم 301

لوقوعها منها، وهيَ السَّيّدة، وهو المملوك، وهو التابع، وهي المَتْبُوعَةُ، وقد جَرَتِ العادة بأنَّ نفوس النِّسْوَةِ تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها هذه الذلة التي تشعر بالمُساواة لا بالسيادة، وبالضَّعةِ لا بالعظمة، ولله في خلقه شؤُونٌ.
أما الأول: فقولهنَّ فيها: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾؛ أي: قد وَصَلَ حبه إلى شِغَافِ قلبها "الغشاء المحيط به" وغَاضَ في سويدائه كما قال شاعرهم:

اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ حُبَّكِ مِنِّيْ فِيْ سَوَادِ الْفُؤَادِ وَسْطَ الشِّغَافْ
وأما الثاني: فقولهن: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ فلمَّا سمعت بهذا المكر القوليّ قابلَتْهُنَّ عليه بمكر فعلي، فقد جمعتهن، وأخرجته عليهن فلم يشعرن إلا وأحسن خلق الله قد طلع عليهن بغتة، فَراعَهن ذلك الحسن الفتان، وفي أيديهن مدى يقطعنَ بها مما يأكلنَه، فقطعن أَيْدِيَهُن، وهُنَّ لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء في قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)﴾.
فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هُتِكَ سِتْرُهَا، وكاشفت النسوة في أمرها، وتواطأن معها على كيدها، آثر عليه السلام الاعتقالَ في السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخَنَا ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)﴾.
وإنه ليستبين من هذا القَصص أنَّ امرأةَ العزيز كَانَتْ مالكة لقيادة زوجها الوزير الكبير، تصرفه كيفَ شَاءَت وشاء لها الهوى، إذ كان فاقدًا للغَيْرة كأمثاله من كبراء الدنيا، صغار الأنفُس عبيد الشهوات. قال في "الكشاف" عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفَتْلها منه في الذروة والغارب وكان مِطْواعةً لها، وَجَملًا ذَلُولًا زمامه في يدها،

صفحة رقم 302

حتى أنساه ذلك ما عايَنَ من الآياتِ، وعَمِلَ برأيها في سجنه، لإلحاق الصغار به، كما أوعدته، وذلك لما أيِسَتْ من طاعته، وطَمِعَتْ في أن يذللَهُ السِّجْنُ ويسخره لها، اهـ.
وإنا لنستخلصُ من هذه القصة الأمورَ التَّالِيةَ (١):
١ - أن النِّقَم قد تكون ذَرِيعةً لكثير من النعم، ففي بدء القصة أحداث كلها أتراح أعقبتها نتائج كلها أفراحٌ.
٢ - أنَّ الأخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن، وأحقادٌ ربما تصل إلى تمنِّي الموت، أو الهلاك، أو الجوائح التي تكون مصدر النَّكَبات، والمصَائِبِ.
٣ - أنَّ العفةَ والأمانةَ والاستقامةَ تكون مَصْدرَ الخير والبركة لمن تحلى بها، والشواهد فيها واضحة، والعبرة منها ماثلة لمن اعتبرَ وتدبَّرَ، ونظَرَ بعين الناقد البصير.
٤ - أن أُسها، ودعامَتَها هو خلوة الرجل بالمرأة فهي التي أثَارت طبيعتها، وأفضتْ بِها إلى إشباع أنوثتها، والرجوع إلى هواها، وغريزتها، ومن أجل هذا حرم الدِّينُ خلْوةَ الرجلِ بالمرأة وسفَرَها بغير محرم. وفي الحديث: "ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما".
وإنا لنَرَى في العصر الحاضِرِ أَنَّ الدَاءِ الدَّوِيَّ والفسادَ الخُلقِيَّ الذي وصل إلى الغاية، وكلنا نلمس آثارَهُ ونشاهد بَلْواه، ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء في المَراقصِ، والملاهِي، والاشتراك معهم في المفاسد، والمعاصي كمعاقرة الخمور، ولعبِ القمارِ في أنديةِ الخزيِ والعارِ، وسباحة النساء مع الرجال في الحمامات المشتركة.
وبَعْدُ، فهل لهذه البلوى مَنْ يُفَرِّج كُرْبَتَها، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامَه، وهل لهذه الجراح مِن آس، وهل لهذه الفوضى من علاج، وهل لهذه الطامة من يقوم بِحَمْلِ عَبْئِهَا عن الأمة، ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت

(١) المراغي.

صفحة رقم 303

عاليًا بالنزوع عن تلك الغواية، ويَرُدُّ أَمْرَ المجتمع، والحرص على آدابه إلى ما قرَّرهُ الدينُ، وسار عليه سَلَفُ المسلمين المتقين، فيصلح أَمْرَهُ، وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة، تقوم على حِرَاسَةِ الدين في بلاد المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سورة يوسف عليه السلام مَكّية كلها، قيل (١): إلَّا ثَلاثَ آيات من أولها، وقيل: نزلت ما بين مكة والمدينة، وقْتَ الهجرة.
وهي مئة وإحدى عشرة آيةً وألف وتسع مئة وست وتسعون كلمةً، وسبعة آلاف، ومئة وستة وسبعون حرفًا.
المناسبة: والمناسبة بينها وبين سورة هود (٢): أنها متممة لِما فيها مِنْ قصص الرسل عليهم السلام، والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيًا من عند الله تعالى، دالًّا على رسالة محمَّد - ﷺ -، خاتم النبيين، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلَها: أنَّ السَّابِقَ كَانَ قصص الرسل مع أقوامهم في تبليغ الدعوةَ والمحاجة فيها، وعاقبة مَن آمن مِنهُم، ومن كَذَّبوهم لإنذار مشركي مكة، ومَنْ تبعهم من العرب.
وأمَّا هذه السورة فهي قصة نبيٍّ رُبِّيَ في غير قومه قبل النبوة، وهو صغير السنِّ حتى بلغ أشده، واكْتَهَل فنبىء، وأُرسل ودعا إلى دينه، ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم، فأحسنَ الإدارَةَ والسِّياسَةَ فيه، وكان خير قدوةٍ للناس في رسالته، وفي جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، وتصريف أمورها على أحسن ما يَصِلُ إليه العقل البشري، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة، وكانَ مِنْ حكمة الله أن يَجْمَعها في سورة واحدة، ومن ثَمَّ كَانَتْ أطْوَلَ قِصَّةٍ في القرآن الكريم.
والله أعلم
* * *

(١) البيضاوي.
(٢) المراغي.

صفحة رقم 304

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه السورة لسورة هود من حيث البدايةُ أنه جاءت فاتحةُ هذه السورة كفاتحة سورة هود، أعني كلمة: ﴿الر﴾ إلخ خلا أنَّ القرآن وُصف هنا بالمبين، وفي هود بإحكام آياته، وتفصيلها: ذاك أنّ موضع هذه السورة قصص

صفحة رقم 305

نبي، تقلَّبَتْ عليه صروف الزمان، بَيْنَ نحوس وسُعود، كان في جميعها خير أسوة، وموضوعُ سورة هود أصول الدين، وإثباتُ الوحي والرسالة والبعث والجزاء، وقَصَص الأنبياء المختلفة، فناسبها الوصف بالحِكْمةِ. ومن حيث النهاية أنَّ سُورةَ هود خُتِمَت بقوله ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ وهذه بُدِئَتْ بقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾.
وعبارة الشهاب هنا: لَما خُتِمت (١) سورة هود بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ إلخ.. ذُكِرت هذه السورة بعدها؛ لأنها من أنباءِ الرسل، وقد ذَكَر أوَّلًا ما لقي الأنبياء من قومهم، وذكر في هذه ما لقي يوسف من إخوته، لِيَعْلَمَ ما قاسوه من أذى الأجانب، والأقارب، فبينهما أتم المناسبة، والمقصود تسلية النبي - ﷺ - بما لاقاه من أذى الأقارب والأباعد، اهـ.
وعبارة أبي حيان: ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها به أنَّ في آخر السورة التي قبلَها (٢): ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقَى الأنبياء من قومهم، فأتبعَ ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصلَ للرسول - ﷺ - التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب، وجاءَتْ هذه مطولة مستوفاةً فلذلك لم يتكرَّرْ في القرآن إلا ما أخبر بِه مُؤْمِنُ آل فرعون في سورة غافر.
وحكمة قَصِّ القصص عليه - ﷺ - ليتأسَّى (٣) بهم، ويتخلَّق بأخلاقهم، فيكون جامعًا لكمالات الأنبياء.
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين أنَّ أخوة يُوسُفَ أجمعوا أَمرَهم على إلقائه في غيابة الجُبِّ، ونَفَّذُوا ذلك.. ذَكَر هنا طريقَ خَلاصِه من تلك المِحْنَةِ بمجيء قافلةٍ من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر، وباعوه في مصر بثمنٍ بَخْسٍ.

(١) الشهاب.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الصاوي.

صفحة رقم 306

أسباب النزول
وسبب نزول هذه السورة (١): أنَّ كفار مَكَّةَ أمرَتْهم اليهودُ أن يسألوا رسولَ الله - ﷺ - عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر، فنَزَلَت هذه السورة. وقيل: سببه تسليةُ الرسول - ﷺ - عما كَانَ يفعلُ به قومُهُ بما فعل أخوة يوسف به، وقيل: سألت اليهودُ رسولَ الله - ﷺ - أنْ يحدِّثَهم أمْرَ يعقوب، وولده وشَأْنَ يوسف.
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في سبب نزول هذه السورة قولان:
أحدهما: ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمَّا أنزل الله القرآن على رسول الله - ﷺ - تلاه عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدَّثتنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾، فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ إلى قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾.
القول الثاني: ما رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهودُ النبيَّ - ﷺ - فقالوا: حَدّثْنَا عن أمر يعقوب وولده، وشأنِ يوسف، فأنزل الله عز وجل: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ الآيات الكريمة.
الناسخ والمنسوخ: قال ابن حزم رحمه الله: أمَّا سورةُ يوسف، فليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ومن فضائلها: ما رُوي (٢) عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "عَلِّمُوا أَرِقَّائِكم سورة يوسف، فإنه أيُّما مسلم أَمْلاها، وعَلَّمها أَهْله، وما مَلَكَتْ يمينه هون اللَّهُ عليه سكرات الموت، وأعطاه القُوَّة، وأن لا يَحْسُدَ مُسْلِمًا". كذا في "تفسير البيان"، وذلك أنَّ يوسُفَ عليه السلام ابتُلِي بحسد الإخوة، وشدائد البئر، والسجن، فأرسل اللَّهُ تعالى جبريل فسلاه، وهون عليه تلك الشدائِدَ بإيصاله إلى مقام الأُنس، والحضورِ، ثم أعطاه القوةَ، والعزةَ،

(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.

صفحة رقم 307
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأرمي العلوي الهرري الشافعي
راجعه
هاشم محمد علي مهدي
عدد الأجزاء
1